الكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الناشر: لجنة التراث العربي عدد الأجزاء: 5 أجزاء في مجلدين   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا ابن تيمية الكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الناشر: لجنة التراث العربي عدد الأجزاء: 5 أجزاء في مجلدين   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[مجموعة الرسائل والمسائل]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الناشر: لجنة التراث العربي عدد الأجزاء: 5 أجزاء في مجلدين [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مجموعة الرسائل والمسائل تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره الجزء الأول رسائل وفتاوى في: التفسير والحديث والأصول والعقائد والآداب والأحكام والصوفية خرج أحاديثه وعلق عليه: السيد محمد رشيد رضا لجنة التراث العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الجزء الأول الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل أقسام الناس في التقوى والصبر بسم الله الرحمن الرحيم سئل الشيخ الإمام، العالم العامل، الحبر الكامل، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، تقي الدين بن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم، عن الصبر الجميل والصفح الجميل، والهجر الجميل، وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله، أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا عتاب، والصبر الجميل صبر بلا شكوى، قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " مع قوله: " فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون " فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل. ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ أإلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك الغنى حتى ترضى ". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف. بخلاف الشكوى إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طليوساً كره أنين المرض وقال: إنه شكوى. فما أنّ حتى مات. وذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ". وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ". ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبلاً " إلى قوله: " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط "، وقال تعالى: " بلى إن تصبروا وتتقوا يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين "، وقال تعالى: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ". وقد قال يوسف: " أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ". ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين - المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور، وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين، فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية، دون الدينية، فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه، ولا يميز بين توحيد الإلوهية، وبين توحيد الربوبية، فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيها - مشهد الجمع الذي (1) يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق والمتنبي الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين، فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية، وهو إن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره، ولا يشهد الفرق الذي فرق الله بين أوليائه وأعدائه، وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار،   (1) لعل الأصل:فمشهد الجمع يشترك فيه الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان. فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى، فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية إذا هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) وقال تعالى (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولن لله قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون: الله (1) قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله قل فأنى تسحرون؟) ولهذا قال سبحانه (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال بعض السلف تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره. من أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى (2) فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما قال تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. أولئك هم الكافرون حقاً)   (1) هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب في الآية وما بعدها وقرأ الباقون (لله) وهي المشهورة عندنا (2) الإصطلاح الشرعي أن الكفر إذا أطلق انصرف إلى ما يقابل الإسلام ويضاده فالمراد هنا أن من المسلمين جنسية أو ادعاء من يكفر بمسائل أكثر مما يكفر به أهل الكتاب. وإذا أطلق الكفر في عرف هذا العصر فالمراد به الإلحاد والتعطيل المطلق ولا يدخل فيه أهل الكتاب كما هو ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية. وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله، وبين من عصى الله ورسوله ومن الكفار والفجار، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى. لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين إتباعاً لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه. ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوسوا هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضاً فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأن عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي. وفي الحديث الصحيح الإلهي " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم، من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله وإتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه. والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل القدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام: أحدها: أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة. والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه. والثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يجعل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس. وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرياسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظراً أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر. وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى: " أن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً " فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم قلبا، من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤل، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم (1) وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق " فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته " خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه،   (1) المنار: قد ظهرت هذه الحقيقة في حرب البلقان والحرب الكبرى فكانت القسوة فيها فظيعة لبعد أهلها عن الإيمان وهداية المسيح عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان على الكمال أبعد وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان اتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعاً في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر العبد على عدوه (1) من الكفار، المحاربين المعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " وقال الله تعالى: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ". وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ولا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودواماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط " وقال أخوة يوسف له: " إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموماً   (1) المعنى الذي يقتضيه المقام - أنه ينصر العبد الصابر على عدوه الخ وقوله يعده المحاربين المعاهدين غير ظاهر فإن المعاهد غير المحارب ولعله المعاندين - أو- "والمعاهدين "بالعطف بمعنى أنه ينصر الصابرين على المحاربين بالحرب وعلى المعاهدين بالحجة والبرهان. ولا شك في كون الصبر من أسباب النصر فإذا تساوت جميع قوى الخصمين أو تقاربت وكان أحدهما صبوراً والآخر جزوعا فإن الفوز يكون للصبور قطعاً بل كثيراً ما يغلب الصبور غيره ممن لديه من القوى الأخرى ما يفوقه به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وخصوصاً فقال تعالى: " واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " وفي إتباع ما أحوي إليه التقوى كلها تصديقاً لخبر الله وطاعة لأمره، وقال تعالى: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ". وقال تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق، واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار ". وقال تعالى: " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل ". وقال تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ". وقال تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ". فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: " وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة " وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضاً رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، فبصبره يقوى وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " وقال: " من لم يَرحم لا يُرحم " وقال: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " والله أعلم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص بسم الله الرحمن الرحيم وسئل أيضاً رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان أن يتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله - أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع أيضاً لعموم الخلق. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، ومنهم من أنكر الشفاعة مطلقاً. وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا - فيسقون. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فالإستسقاء هو من جنس الاستشفاع به وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه وقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ودعا الناس حتى سقوا، ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح وإذا كانوا بهذه المثابة وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن. وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: أنا أستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه فقال: " ويحك أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك " فأنكر عليه قوله: إنا نستشفع بالله عليك، ولم ينكر عليه قوله: نستشفع بك على الله - لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله: شفيعي إليك الله لا رب غيره ... وليس إلى رد الشفيع سبيل فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله ورسوله وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذي " يسأله من في السموات والأرض " والرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته ويشفع في بعض من يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ولا نزاع بين جماهير الأمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر لأن الكبائر عندهم لا تغفر ولا يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها. ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر ولا يخلد أحد في النار من أهل الإيمان بل يخرج من النار من في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه وليس معناه الإقسام به على الله والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته فالإقسام به على الله والسؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 بذاته لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين (1) بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حياً كالعباس وكيزيد بن الأسود رضي الله عنهما، ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره فلم يقسموا بالمخلوق على الله عز وجل ولا سألوه بمخلوق نبي ولا غيره بل عدلوا إلى خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه. وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا (2) في دعائهم في الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك. ولا نقل عنهم (3) أنهم تشفعوا عند قبره ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً، واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره. وفي سنن أبي داود أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً " وقال: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا: وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) عبارته في كتابه التوسل والوسيلة الذي اختصرت منه هذه الفتوى هكذا (فأما التوسل بذاته في حضوره أو في مغيبه أو بعد موته مثل الاقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم فليس هذا مشهوراً عند الصحابة والتابعين. (2) كذا في النسخة التي طبعنا عنها ولعل الأصل: أو يقولوا الخ - أو - وأن يقولوا فتأمل (3) هكذا ذكر النفي هنا (بلا) معطوفا وهو يقتضي المقابل ولعل الأصل: ولكن لم ينقل عنهم أنهم توسلوا بذاته ولا نقل عنهم الخ وهذا الواقع الذي صرح به في عدة مواضع من كتبه ورسائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أنه علم رجلاً أن يدعو فيقول: " اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في ". روى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجة عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك " قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في ". قال الترمذي حديث حسن صحيح (1) ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: " فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه في " قال: فدعا وقد كشف الله عن بصره. فهذا الحديث فيه التوسل إلى الله به في الدعاء. ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقاً حياً وميتاً، ومنهم من يقول: هذه قضية عين وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته لا التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ثم إنهم بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه فلو كان التوسل به حياً وميتاً مشروعاً لم يميلوا عنه وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، إلى غيره ليس ممن مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون وهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وما ينفع، وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا   (1) هو حديث غريب كما صرح الترمذي انفرد به أبو جعفر قال هو غير الخطمى، وظاهر صنيع تهذيب التهذيب تبعا لأصله أنه مجهول فإنه وضع له عدداً خاصاً ولم يزد على ما قاله فيه الترمذي أنه غير الخطمى وإلا فهو عيسى بن الرازي التيمي ولكن هذا ضعيف حتى قال ابن حبان ينفرد عن المشاهير بالمناكير أو محمد بن إبراهيم المؤذن وليس بالقوي الذي يعد حديثه صحيحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه. وذلك أن التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين (1) ، وإن كان قد روي في ذلك حكايات مكذوبة عن بعض المتأخرين بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب لما استأذنه في العمرة: " لا تنسنا يا أخي من دعائك " حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة وأن يصلوا عليه. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من رجل يدعو لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكل به: آمين ولك مثل ذلك " (2) فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه فهذا بمنزلة أن يسأل الناس قضاء حوائجه، والثاني أنه يطلب منه الدعاء لينتفع الداعي بدعائه له وينتفع هو فينفع الله هذا وهذا بذلك الدعاء كمن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فطلب الدعاء جائز كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه فإما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله، لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، لا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك. ولهذا روى الطبراني في معجمه   (1) يزعم بعض الناس في زماننا أنه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه "ص" بين حالي الحياة والممات لأنه حي في قبره. وكأنهم يدعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر السلف بذلك فالصحابة رضي الله عنهم فرقوا بين الحالين وإن شئت قلت بين الحياتين، والأمور التعبدية لا تشرع بالعقل ولا بالقياس (2) الحديث في صحيح مسلم بمعنى ما ذكر من حديث أبي الدرداء بثلاثة الفاظ ليس هنا منها فهو مذكور بالمعنى ورواه أبو داود أيضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فجاؤوا إليه فقال: " إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله " وهذا في الاستعانة مثل ذلك. فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب ولهذا قال تعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ". وفي دعاء موسى عليه الصلاة والسلام: وبك المستغاث. وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقد قال تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ". وقال تعالى: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة " (1) الآية. فبين أن من اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أرباباً فهو كافر. وقال تعالى: " قل دعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض - إلى قوله - ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ". وقال تعالى: " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ". وقال تعالى: " ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ". وقال تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية. وقال تعالى عن صاحب ياسين: " وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة أن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون " الآية. وقال تعالى: " ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له ". وقال تعالى: " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ". وقال تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ". فالشفاعة نوعان: أحدهما التي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم وهي شرك. والثانية أن يشفع الشفيع بأن المشفع الله التي أثبتها الله (2) لعباده الصالحين.   (1) بل هما آيتان والشاهد في الثانية أظهر وهي قوله تعالى (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (2) لعل الأصل العبارة: والثانية أن يشفع الشفيع بإذن المشفع (بكسر الفاء) وهو الله تعالى، وهي الشفاعة التي أثبتها الله الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد تحت العرش قال: " فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال: أي محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ". فإذا أذن الله في الشفاعة شفع لمن أراد الله أن يشفع فيه. قال أصحاب هذا القول: فلا يجوز أن يشرع ذلك في مغيبه بعد موته، وهو معنى الإقسام به على الله والسؤال بذاته، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين، فإن في حياته صلى الله عليه وسلم ليس في ذلك محذور ولا مفسدة، فإن أحداً من الأنبياء لم يعبد في حياته بحضوره فإنه ينهى أن يشرك به ولو كان شركاً أصغر، كما أن من سجد له نهاه عن السجود له، وكما قال: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد " وأمثال ذلك. وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزيز وغيرهما ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهياً عنها والصلاة خلفه في المسجد مشروعة إن لم يكن المصلي ملاقاته والصلاة إلى قبره منهياً عنها (1) . فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما أنه لا يعبد إلا الله، والثاني أن لا يعبد إلا بما شرع لا بعبادة مبتدعة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما   (1) هذه العبارة كلها قد حرفها الناسخ ولم نجد لها أصلا في كتاب التوسل والوسيلة نصححها عليه والذي يعلم من القرائن بمعونة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في القبور وإليها والنهي عن اتخاذ قبره وثنا يعبد واتخاذه عيدا - أن الصلاة خلفه (ص) أو بالقرب منه في حياته لم يكن يخشى أن يقصد بها تعظيمه بها فيكون اشراكا لأنها غير خالصة لله تعالى، وأما الصلاة إلى قبره وتعظيمه بعد وفاته فيخشى منه ذلك ولذلك نهى عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه " ولا تقف ما ليس لك به علم " ولا تقل على الله ما لا تعلمه. وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله ولو حلف بالكعبة أو الملائكة أو بالأنبياء عليه الصلاة والسلام لم تنعقد يمينه ولا يشرع له ذلك بل ينهى عنه إما نهي تحريم وإما نهي تنزيه فإن للعلماء في ذلك قولين والصحيح أنه نهي تحريم ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ". وفي الترمذي عنه أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " ولم يقل أحد من العلماء أنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتين لكن الذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد وهذا هو الصحيح، ولا يستعاذ أيضاً بالمخلوقات بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته ولهذا احتج على أن كلام الله غير مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " فقد استعاذ بها والمخلوق لا يستعاذ به. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا بأس بالرقي ما لم يكن شركاً " كالتي فيها استعانة بالجن كما قال تعالى: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً " وهذا مثل العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن وقد نهي عن كل قسم وعزيمة لا يعرف معناهما بحيث أن يكون فيهما ما لا يجوز فيهما ما لا يجوز من سؤال غيره. فسائل الله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه وإما أن يكون طالباً بذلك السبب كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، فإن كان إقساماً على الله بغيره فهذا لا يجوز وإن كان طالباً من الله بذلك السبب كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة فهذا يصح لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين تبقى عنده، وإما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الصالحة (1) ولا ريب أن لهم عند الله من المنازل أمراً يعود نفعه عليهم ونحن ننتفع من ذلك بإتباعنا لهم، ومحبتنا لهم، وبدعائهم لنا، فإذا توسلنا إلى الله بأيماننا بنبيه ومحبته وموالاته وإتباع سنته ونحو ذلك فهذا من أعظم الوسائل، وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به، وعدم طاعته وعدم دعائه لنا، فلا يجوز فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منه ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل؟ (2) والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فأما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك الغير مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان، وأما أن يسأل. كما يقال بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك، وقد علم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز أن يقسم بمخلوق على الله أصلاً. وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له كما طلب الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه صلى الله عليه وسلم وقوله: " أتوجه إليك بنبيك محمد " أي بدعائه وشفاعته لي. ولهذا في تمام الحديث: فشفعه في. فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " فعلى قراءة الجمهور (3) إنما يتساءلون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله متضمن إقسام بعضهم على بعض بالله وتعاهدهم بالله. وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف: هو قولك أسألك بالله وبالرحم. فمعنى قولك أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم فإن   (1) سقط من هذا الموضع جواب أما من نسختنا مع شيء من شرطها والمعنى ظاهر ومثله في كتبه الأخرى ولعل الأصل: وأما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة التي نفعلها اقتداء بهم بل توسلنا إليه وسألناه بذواتهم أو جاههم عنده - كنا متوسلين إليه بأمر أجنبي ليس سببا لإجابة سؤالنا الخ (2) أي إذا لم يتوسل بما هو من المتوسل به كدعائه له - ولا بما هو منه هو كعمله الصالح وإيمانه - ولا بما هو من الله تعالى كسؤاله بفضله ورحمته وما أوجبه على نفسه - فبأي شيء يتوسل؟ والوسيلة - وهي القربة إلى الله - محصورة في هذه الثلاث التي هي أسباب إجابة السؤال والعطاء دون ذوات الأنبياء والصالحين وصفاتهم وجاههم إذ هي ليست من أعمالنا ولا من أعمالهم لنا (3) هي نصب الأرحام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 القسم بها لا يشرع لكن بسبب الرحم أي إن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال " أصحاب الغار " الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم الصالحة ومن هذا - الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءاً ولا سمعةً ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة " فهذا الحديث عن عطية العوفي وفيه ضعف (1) فإن كان هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين أحدهما أن فيه السؤال لله بحق السائلين عليه، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه وتفضل به، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئاً. ومنه قوله تعالى: " كتب ربكم على نفسه الرحمة " " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " " وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ". وفي الصحيح من حديث معاذ: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم " فحق السائلين والعابدين له هو الإثابة والإجابة فذلك سؤال له في أفعاله (2) كالاستعاذة وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فالاستعاذة بالمعافاة التي هي فعله كالسؤال بإثباته التي هي فعله. وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقول يا عبدي إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك منك الدعاء وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك " وتقسيمه في الحديث إلى قوله واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة بحيث يقول الله   (1) بل قال في مجمع الزوائد أن إسناده مسلسل بالضعفاء - لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق بن مرزوق فهو صحيح عنده (2) الظاهر: بأفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين لكن هو سبحانه يحب أن يعبد وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقاً إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد. الوجه الثاني الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته، وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون إقساماً به أو تسبباً به، فإن قوله: بحق الصالحين إن كان إقساماً عليه فلا يقسم على الله إلا بصفاته. وإن كان تسبباً فهو تسبب لما جعله سبحانه سبباً وهو دعاؤه وعبادته، فهذا كله يشبه بعضه بعضاً وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا عمل صالح منا، فإذا قال القائل أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين فإن كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب حصول مقصوده لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة أو منهم كدعائهم لنا - لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله. وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك يا إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه: " يا داود أي حق لآبائك علي؟ " وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء. وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه وبه لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله وأما لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال: أقسمت عليك يا رب بملائكتك ونحو ذلك بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته. فيقال: " أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت يا الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك " الحديث كما جاءت به السنة وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وقوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة - مع أن في جواز الدعاء به قولين للعلماء فجوزه أبو يوسف ومنع منه أبو حنيفة وأمثال ذلك - فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وهو أجمع وأنفع، وأسلم وأقرب إلى الإجابة. وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت لكم إلى الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم " فهذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث والمشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا ذكر الدعاء في الاستسقاء. وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه، ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق فدعاء غير الله كفر بخلاف قول القائل إني أسألك بجاه فلان الصالح فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف أنه كان يدعو به. ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء. ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به. وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً " وفي الصحيح عنه أنه قال: " من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً ". وفي المسند أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث صلواتي قال: " يكفيك الله ثلث أمرك " فقال: " أجعل عليك نصف صلاتي " قال: " إذاً يكفيك الله ثلثي أمرك " فقال أجعل صلاتي كلها عليك فقال: " إذا يكفيك الله ما أهمك من أمور دنياك وآخرتك ". وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي إتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاثة: أحدها: أن الدعاء لغير الله سواء كان المدعو حياً أو ميتاً وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان أغثني! وأنا مستجير بك ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها، وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيراً في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة لاستغاثة بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك. الثاني: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي وادع لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ربك ونحو ذلك فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً ومخاطبتهم جائزة كما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور وأن يقول قائلهم: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ". وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ". وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من رجل مسلم سلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ". لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئاً. وفي الإمام مالك (1) : أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي " ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نقل عنهم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلوا القبر الشريف. وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة من لا اعتبار بهم فإنه لم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر، وقال مالك والشافعي بل يستقبل القبر وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه وهو الصحيح إذ لا محذور في ذلك. الثالث: أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك، فهو الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء فكيف بغيرهم، وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور " أو قال: " فاستغيثوا بأهل القبور "   (1) كذا بالأصل ولعلها وفي (موطأ الإمام مالك الخ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فهذا الحديث كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة. وقد قال تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده " الآية. وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيراً من الفتنة باليهود فإن ذلك هو أصل عبادة الأصنام أيضاً فإن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء (1) فمن فهم معنى قوله: " إياك نعبد وإياك نستعين " عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده. وقد يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله والتوكل لا يكون إلا على الله، وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا سبحانه، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله تعالى والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبته وسلم تسليماً كثيراً. انتهى.   (1) الأثر في صحيح البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أهل الصفة وأباطيل بعض الصوفية المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره: بسم الله الرحمن الرحيم: مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في أهل الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة أو كان منهم من يقعد بالصفة ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل؟ وما قول العلماء وفُّقهم الله تعالى فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن الستة الباقين من العشرة وأفضل من جميع الصحابة؟ وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حاد ينشد لهم أشعاراً ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون؟ وما قول العلماء في قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " هل هي عامة أم مخصوصة بأهل الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي " وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي ولياً؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعداً في جماعة ويغيب جسده. وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟. وأيضاً فما قول العلماء في هؤلاء القلندرية الذين يحلقون ذقونهم ما هم؟ ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنباً وكلمه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يدور في الأسواق والقرى ويقول من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول أن الست نفيسة هي باب الحوائج إلى الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول أن بعض المشايخ إذا قام لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر معهم؟ وماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما قول من يقول أنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه وسلم. وهل هذه المشاهد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟ والمسؤول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوي والأحوال كشفاً شافياً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين أثابكم الله. أجاب: رضي الله عنه وأرضاه آمين. الحمد لله رب العالمين: أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومنعة جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة وكان المؤمنون السابقون بها صنفين المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم وكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم قال الله تعالى: " إن الذين آمنوا وهاجوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا. وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ألا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم " فهذا في السابقين. ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم " وقال تعالى: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه " الآية. وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها. وقال تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله غفوراً رحيماً ". فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهراً وباطناً وتارة ظاهراً فقط ويكثر المهاجرون، إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب. فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون، فتارة يكونون عشرة أو أقل وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين. وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد كانوا نحو أربعمائة من الصحابة وقد قيل كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يعرف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة، وكان معتنياً بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا. والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة (1) ، وجمع أيضاً في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب.   (1) هذا التاريخ لأبي عبد الرحمن محمد السلمي المذكور المتوفى سنة 412 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير ويروي أحياناً آثاراً ضعيفة بل موضوعة يعلم أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه وكان البيهقي إذا روي عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعالى تعمد الكذب (1) ، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البنان والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما. وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحياناً من الخطأ أشياء وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ وبعضه باطل قطعاً مصدره مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعاً من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات الباطلة ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة، وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر   (1) المنار: ذكر الحافظ في لسان الميزان السلمي هذا ووصفه بأنه شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم وأنه عني بالحديث ورجاله وقال: تكلموا فيه وليس بعمدة بل قال ابن القطان: كان يضع الأحاديث للصوفية وأن الحاكم قال كان كثير السمع والحديث متقنا فيه من بيت الحديث والزهد والتصوف. (قال) وقال السراج: مثله إن شاء الله لا يتعمد الكذب ونسبه إلى الوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، ويوجد أحياناً عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون بها وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن إتباع الظن وما تهوى النفس. فصل: وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء، فقال: " إن تبدوا الصدقات فنعماً هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لك ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير " إلى قوله: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً " وقال في أهل الفيء: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله. وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق. وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حرمها على المستغني عنها وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقاً حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فلا يقول لأحد ناولني إياه، وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل وكلام للعلماء لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبع نفسك (1) ". ومثل قوله: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ما أعطي أحد عطاء خيراً أوسع من الصبر (2) ". ومثل قوله: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً أو كدوشاً في وجهه (3) ". وقوله: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (4) ". إلى غير ذلك من الأحاديث. وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها، ومثل قوله: " لا تحل المسألة إلا لذي ألم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع "، ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي: " يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لثلاثة، رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سداداً من عيش وقواماً من عيش ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك   (1) المنار: الحديث في الصحيحين وغيرهما ولفظ البخاري في كتاب الأحكام: عن عبد الله بن عمر قال سمعت عمر يقول كان رسول الله (ص) يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة فقلت أعطه من هو أفقر إليه مني فقال " خذه فتموله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك "وله في كتاب الزكاة: إذا جاءك بدل فما جاءك ولفظ مسلم " خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك " الخ وزاد في آخره قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً شيئا ولا يرد شيئا أعطيه (2) هو في الصحيحين أيضا على اختلاف في ألفاظه وأوله " ما يكون عندي من مال فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله الخ (3) رواه أحمد وأصحاب السنن وفيه زيادة تحدد الغني بخمسين درهما وفي سنده حكيم بن جبير ضعيف وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، ومعنى الخموش والخدوش والكدوش واحد (4) روياه أيضا واللفظ للبخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سحت أكله صاحبه سحتاً (1) ". ولم يكن في الصحابة لا أهل الصفة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس والإلحاف بالمسألة بالكدية والمشاحذة - لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضاً أهل فضول من الأموال يزكون لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثني عليهم. فصل: من توهم أن أحداً من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك فهذا ضال غاو بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك فإن تاب وإلا قتل " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ". بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقراء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قتلهم هم من أعظم الصحابة إيماناً وجهاداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصراً لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون لله ورسوله أولئك الصادقون ". وقال: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " وقال: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف   (1) لفظ الحديث في صحيح مسلم " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ". وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة وكان القتال منهم في تسع مغاز مثل بدر وأحد وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا ثم عادوا يوم حنين ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنين من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلوا مع الكفار قط. وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان: قسم منافقون وإن أظهروا الإسلام وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقاً غير الإيمان بالرسول ومتابعته وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول كاستغناء الخضر عن إتباع موسى وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقاً أو في بعض صفات الكمال وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع النقلين إنسهم وجنهم، زهادهم وملوكهم وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر إتباعه بل قال له: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى علمكه الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". وقال الله تعالى: " يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض " وقال تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ". والقسم الثاني: من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا ويظن أن دين الله الموفقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بهم وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان وأهل الجنة كأهل النار وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقة، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقربه المشركون وأنه الحقيقة الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتال الله وحتى يجعلوا أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " ويقولون: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين أو يقولون إنه هو أو إنه حل فيه، وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن التوحيد الواجب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً فلا نجعل له نداً في ألوهيته ولا شريكاً ولا شنيعاً، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون "، قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره. وقال تعالى: " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله فأنى تسحرون " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فالكفار المشركون مقرون بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكاً مساوياً له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة ولا من عباد الأنبياء والصالحين ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم فإن جميع هؤلاء وإن كانوا كفاراً مشركين متنوعين في الشرك فهم يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء - أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب وخالق ذلك الخالق. وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ". وقال تعالى: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ". وقال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ". وقال تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً أني بما تعملون عليم، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ". وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: " أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعتهم والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام فمن لم يؤمن بأن هذا (1) رسول الله إلى جميع العالمين وأنه يجب على جميع الخلق متابعته وأن الحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم من يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته إما عموماً وإما خصوصاً ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قالوه وأنهم قالوا نحن مع الله من كان   (1) المناسب أن يقول: بأن محمداً (ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مع الله كنا معه يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل وإن كان لأصحابه زهد وعبادة فهم في العباد، مثل أوليائهم في الأجناد فإن للمرء على دين خليله والمرء مع من أحب هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد جعل الله والمؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرون بعضهم أولياء بعض، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فإن في قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج وأن الله أمره أن لا يعلم به أحداً فلما أصبح وجدهم يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له أنا أمرتك أن لا تعلم به أحداً لكن أنا الله أعلمتهم - إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر وهي كذب واضح فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة والمعراج إنما كان من مكة كما قال سبحانه وتعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " ومما يشبه هذا من بعض الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المختلق، ثم إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك مثلاً ما يدعي النصيرية والإسماعيلية والقرمطية والباطنية الثنوية والحاكمية وغيرهم - من الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عقب وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة وكل هذا باطل، فإنه لما كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته ومتابعته وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة والمتابعة وهذا كثير في أهل الضلال. فصل: وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفاً ومرفوعاً وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم بالجنة وقد قال الله تعالى في كتابه: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى " ففضل السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأنفسهم وأموالهم على التابعين بعدهم وقال الله تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعوك تحت الشجرة " وقال تعالى: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ". وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم وهؤلاء الذين فضلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الله ورسوله فمنهم من هو من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص فقد قيل إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد ابن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد بن بشر وأبي أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ونحوهم لم يكونوا من أهل الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين، والأنصار كانوا في ديارهم ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم. فصل: وأما سماع المكاء والتصدية وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية سواء كان بكف أو بقضيب أو بدف أو كان مع ذلك شبابة فهذا لم يفعله أحد من الصحابة لا من أهل الصفة ولا من غيرهم ولا من التابعين بل القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب وإنما كان السماع الذين يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ والباقي يستمعون وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائداً أنشدهم: قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي إلا الطبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: " إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم " أنشدوا شعراً وتواجدوا عليه فكل هذا وأمثاله كذب مفترى وكذب مختلق باتفاق أهل الآفاق من أهل العلم وأهل الإيمان لا ينازع في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إلا جاهل ضال وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان. فصل: وأما قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي وجهه سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم، أمر الله نبيه بالصبر مع عباد الله الصالحين الذين يريدون وجهه وأن لا تعدو عيناه عنهم " تريد زينة الحياة الدنيا " وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية وكذلك الآية التي هي في سورة الأنعام " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ". وقد روي أن هاتين الآيتين نزلتا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المستكبرون أن يبعدهم النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه الله تعالى عن طرد من يريد وجهه وإن كان مستضعفاً ثم أمره بالصبر معهم وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم. والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذي هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء فلا يتقدم أحد عند الله تعالى بسلطانه وماله، ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله سبحانه وتعالى أن يطاع (1) أهل الرئاسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفاً أو فقيراً وأمره أن لا يطرد من كان منهم يريد وجهه وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر الله فيها بالاجتماع بهم كصلاة الفجر والعصر ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.   (1) لعل الأصل: فنهى الله سبحانه وتعالى نبيه أن يطيع الخ بدليل ما عطف عليه من قوله: وأمره الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فصل: وأما الحديث المروي " ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله " (1) فمن الأكاذيب ليس في دواوين الإسلام وكيف والجماعة قد تكون كفاراً وفساقاً يموتون على ذلك. فصل: وأولياء الله تعالى هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله ذلك في كتابه وهم قسمان المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون ". وقال الله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - إلى قوله - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اله هم الغالبون ". وقال: " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ". وقال: " ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون ". وقال: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ". وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى ". والولي: من الولي (2) وهو القرب، كما أن العدو من العدو، وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدون أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله تعالى بالواجبات والسابقون المقربون وهم المتقربون   (1) زاد بعضهم فيه: لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه. وقال علي القاري في موضوعاته وهو كلام باطل (2) الولي بوزن فلس القرب قاله في المصباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بالنوافل بعد الواجبات. وذكرهم الله في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه يمزج لأصحاب اليمين. والولي المطلق هو من مات على ذلك فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله تعالى أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه ولياً لله أو يقال لم يكن ولياً لله قط لعلم بعاقبة هدايته؟ قولان للعلماء. وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله؟ أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته أيضاً؟ فيه قولان للفقهاء المتكلمين والصوفية والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم، لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي شرط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع هل ولي الله يصير عدو الله؟ وبالعكس؟ ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه الله وسخط عليه في وقت ما؟ وبالعكس؟ ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما على القولين والتحقيق وهو الجمع بين القولين فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير، فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلقت به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلاً وأبداً. وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعدوانه وسخطه أزلاً وأبداً ولكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته، وقد يقال أنه يبغض ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال أنه يوليه حينئذ على ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والدليل على ذلك اتفاق الأمة على أن من كان مؤمناً ثم ارتد فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسداً بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال وإنما يقال كما قال الله تعالى: " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " وقال: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقال: " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " ولو كان فاسداً في نفسه لوجب أن يحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلاً، ولو صلى مدة يقوم ثم ارتد كان لهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك، وكذلك أيضاً الكافر إذا تاب من كفره ولو كان محبوباً لله ولياً له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم إحكام ذلك الكافر وهذه كلها خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الآجال والأرزاق ونحو ذلك وهي أيضاً على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة وعلى هذا يخرج جواب السائل. فمن قال إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره، ومن قال قد يكون ولي الله من كان مؤمناً تقياً وأن يعلم عاقبته فالعلم بذلك أسهل ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره ولكنه قليل ولا يجوز التهجم بالقطع على ذلك، فمن ثبتت ولايته لله بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص، وأما من شاع له لسان صدق من الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك، هذا في الأمر العام. وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم، لكن ليس هذا مما يجب التصديق العام به فإن كثيراً مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظاناً في ذلك ظناً لا يغني من الحق شيئاً، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كاهل النظر والاستدلال في موارد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله لا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدث نفسه عن ربه ولهذا أوجب على جميع الخلق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنياً عن الرسول في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى ومن قال هذا فهو كافر، وقد قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " فقد ضمن الله وللرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمحدث ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره: وما أرسلنا من قبلك رسولاً ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. ويحتمل والله أعلم أن يكون هذا الحرف متلواً حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان فأما نسخ ما ألقى الشيطان فليس إلا للأنبياء والمرسلين إذ هم معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا يجب عصمته من ذلك وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفوراً لهم بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة وقد قال الله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا (1) ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون " فقد وصفهم الله تعالى بأنهم هم المتقون   (1) كذا في الأصل وهو محرف والمعنى الذي يدل عليه السياق أنهم مع يسيئون ولكن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا أي لغلبة إحسانهم على سيئاتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 والمتقون هم أولياء الله ومع هذا بأجزائه ويكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان، وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشايخ ومن يعتقدون أنه من الأولياء، فالرافضة تزعم أن الاثني عشر معصومون من الخطأ والذنب، ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشايخ قد يقولون إن الولي محفوظ والنبي معصوم، وكثير منهم لم يقل ذلك بلسانه فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب، وقد يبلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي أو أفضل منه، وإن زادوا الأمر جعلوا له نوعاً من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية فإن من النصارى من الغلو في المسيح والرهبان والأحبار ما ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم ولهذا قال سيد ولد آدم: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". فصل: وأما الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فهم صنفان مستحقو الصدقات ومستحقو الفيء، أما المستحقون للصدقات فقد ذكرهم الله في قوله: " إن تبددوا الصدقات فنعماً هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " وفي قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " وإذ ذكر في القرآن اسم المسكين وحده أو الفقير وحده كقوله: " أو إطعام عشرة مساكين " فهما شيء واحد وإذا ذكرا جمعاً فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من صدقات المسلمين المفروضة والموقوفة والمنذورة والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع هذه المسائل معروفة عند أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وضد هؤلاء الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة ثم هم نوعان: نوع يجب عليه الزكاة: وإن كانت الزكاة تجب على كل من قد تباح له عند جمهور العلماء. ونوع لا تجب عليه: وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة وهم الذين قال الله فيهم: " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " وقد لا يكون له الفضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف فهم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها، وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها فمن لم يكن له فضل كان هؤلاء وإن لم يكن من أهل الزكاة. ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم كما يقدم أغنياء الأنبياء والصديقين عن السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم، ومن هنا قال الفقراء: ذهب أهل الدثور وبالأجور، وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا عنهم بالعبادات المالية ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا هو الفقير في عرف الكتاب والسنة. وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين ويكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق. وأما المستأخرون فالفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو الصوفي في عرفهم أيضاً، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي لأنه عنده الذي قطع العلائق كلها ولم يتقيد في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية، والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى الصديق أو الولي والصالح ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة فمن حيث دخل في الأسماء النبوية يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة. وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلاً وليس بفضل أو مما يوالي عليه صاحبه غيره ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات من الأمور المستحبات، (1) وأما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله من أنواع البدع والفجور فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة. فصل: وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله ولا هي أيضاً مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجل " ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشايخ وقد قالها إما أثراً لها عن غيره أو ذكراً. وهذا الجنس ونحوه من العلم الذي قد التبس على أكثر المتأخرين حقه بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله ومن الباطل ما يوجب رده، وصار كثير من الناس فيه على طرفي نقيض قوم كذبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل، وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ركوب هذه الأمة سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل   (1) كذا في نسختنا ولا يظهر له معنى جلي بغير تكلف ولعل أصله إذا جعلت المباحات مما ذكر من المستحبات بالنية الصالحة كالسياحة الأصل فيها الإباحة وقد تكون مستحبة إذا نوي بها أمر مستحب شرعا كتحصيل العلوم والفنون النافعة غير الواجبة شرعا كما تكون واجبة وفنون الصناعات التي تتوقف عليها المصالح المعاشية والحربية من فروض الكفايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يعتبر (1) الدين بالتبديل تارة وبالنسخ أخرى. وهذا الدين لا ينسخ أبداً لكن يكون فيه من يدخل فيه من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفاً عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (2) ، ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون فبالكتب المنزلة من السماء والآثار من العلوم المأثورة عن الأنبياء يميز الله الحق من الباطل ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقاً في كل زمان بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقل فيهم السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى وينتقلون في الأمكنة، ليس من شرط أولياء أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وقد بعث الله ورسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن يكون منهم من كان في الكفار، ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة، ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعثمان وعمر وعلي وإن كان علي قد خرج منها بعد أن بويع له فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم. ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين من لا يحصي عدده إلا رب العالمين لا يحصون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون   (1) المنار: لعل الأصل: يتغير - بدل: يعتبر (2) هذا حديث أوله " يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له يبغون عنه الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الثلاثة الفاضلة كان أيضاً في القرون الخالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين من جعل لهم عدداً محصوراً لازماً فهو من المتظلمين عمداً أو خطأ. وأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله تعالى فهو غياث المستغيثين لا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره لا بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم، ونزول الرحمة بهم، إلى الثلاثمائة والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعين إلى الأربعين والأربعين إلى السبعة والسبعة إلى الأربعة والأربعة إلى الغوث فهو كاذب ضال مشرك فقد كان المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " وقال: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه " فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعدة وسائط من الحجاب وهو القائل تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " وقال الخليل عليه السلام داعياً لأهل مكة: " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إليك إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق أن ربي لسميع الدعاء ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما رفعوا أصواتهم بالتلبية: " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً قريباً إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحته ". وهذا باب واسع وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم ولا ظاهراً ولا باطناً بهذه الوسائط والحجاب فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علواً كبيراً. وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به ثم مع هذا يقولون أنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 صبياً دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك له حس ولا خبر. وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجوه بل هذا الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان، وأما الأوتاد فقد يوجد في كلام بعضهم أنه يقول فلان من الأوتاد ومعنى ذلك أن الله يثبت به من الدين والإيمان في قلوب من يهديهم الله به كما يثبت الأرض بأوتادها وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان دونه كان بحسبه وليس ذلك محصوراً في أربعة ولا أقل ولا أكثر بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض. فصل: وأما القطب فيوجد في كلامهم أيضاً: فلان من الأقطاب وفلان قطب، فكل من دار عليه أمر من أمور الدين والدنيا باطناً أو ظاهراً فهو قطب ذلك الأمر ومداره سواء كان الدائر عليه أمر داره أو قرية أو مدينة أمر دينها أو دنياها باطناً أو ظاهراً، ولا اختصاص لهذا معنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر لكن الممدوح من ذلك من كان مداراً لصلاح الدين دون مجرد صلاح الدنيا وهذا هو القطب في عرفهم، وقد يتفق في عصر آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقاً. وكذلك لفظ البدل جاء في كلام كثير منهم فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ومعلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل عمار وسهل بن حنيف ونحوهما كانوا أفضل من الذين مع معاوية وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعاً، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدراً. والكلام يجب أن يكون بالعلم وبالقسط فمن تكلم في الدين بغير علم دخل في قوله: " ولا تقف ما ليس لك به علم " وفي قوله: " وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون " ومن لم يتكلم بقسط وعدل خرج من قوله: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله " ومن قوله: " وإذا قلتم فاعدلوا " ومن قوله: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ". والذين تكلموا باسم البدل أفردوه بمعان منها أنهم أبدال (1) ، ومنها أنهم كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بالحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا أكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحريز يظهر المعنى باسم النجباء، فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف مثل تفسير بعضهم بأن الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض من رزقهم ونصرهم، فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب وهو معدوم العين والأثر، وتشبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة، وكذلك من فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل بل النصر والرزق يحصل بأسباب من أوكدها دعاء المسلمين المؤمنين وصلاتهم وأخلاصهم ولا يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا أكثر كما في الحديث المعروف أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لضعفتهم؟ فقال: " يا سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم " وقد يكون للنصر والرزق أسباب أخر فإن الكفار أيضاً والفجار ينصرون ويرزقون، وقد   (1) كذا وقد سقط منه المضاف إليه وأتذكر أنهم قالوا ابدال الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يجدب الله الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم، لينيبوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب، وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل السماء عليهم مدراراً ويمدهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إما ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر وإما ليضعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس كل إنعام كرامة ولا كل امتحان عقوبة قال الله تعالى: " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا ". فصل: وليس في أولياء الله المتقين بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من كان غائب الجسد دائماً عن أبصار الناس بل هذا من جنس قول القائل بأن علياً في السحاب وأن محمداً بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في سرداب سامراء، وإن الحاكم في جبل مصر، وأن الأبدال رجال الغيب في جبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان نعم قد تخرق العادة في حق الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو وإما لغير ذلك. وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل، نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيباً عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيباً عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع، وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا يعلمون. فصل: وقد بينا عن بطلان اسم الغوث مطلقاً واندرج في ذلك غوث العرب والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما وكل منهم يدعي إنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه إلى غير ذلك من الكفر والبهتان وكل طمعاً في رياسة خاتم الأنبياء. وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للإدلالة الدالة على ذلك، وليس كذلك للأولياء فإن أفضل هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم، وخاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما. فصل: وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى فمن أهل الضلالة والجهالة وأكثرهم كافرون بالله ورسوله لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر، ومن قال إن قلندر كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب وافترى بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم كانوا قوماً من نساك الفرس يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات، هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه، ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون بحسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة، فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته، ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في الملاميات، ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والذم والعقاب من الله في الدنيا والآخرة وتجب عقوبتهم جميعاً ومنعهم من هذا الشعار الملعون كما يجب ذلك في كل معين ببدعة أو فجور وليس ذلك مختصاً بهم بل كل من كان من المنكسة والمتفقهة والمتعبدة والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة خارجاً عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطناً وظاهراً مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقاً أو مقيداً في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة الرسول، فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 هؤلاء الكفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا، وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله " فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار تنجيهم من النار تنجيهم من النار. وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق كما دل على ذلك لدليل الشرعي فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى موانعه، مثل من قال إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً (1) أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. فصل: وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور سواء كانت قبور الأنبياء أو الصالحين فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان   (1) لعله سقط من هنا وصف لهذا بأنه " من كلام الله أو رسوله (ص) " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سواء كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زوار القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " (1) وقال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا (2) ، وقال: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " (3) ، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد من بعدي " (4) . وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور، ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين إذا لم يكن لها مستحق معين، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائناً من كان الميت فإن ذلك من أكبر أسباب عبادة الأوثان كما قال تعالى: " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ". وقال طائفة من السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم، ومن نذر لها نذراً لم يجز له الوفاء لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " وعليه كفارة يمين (5) ولما روي عنه أنه قال: " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " (6) . ومن العلماء من لا يوجب عليه الاستغفار والتوبة، ومن الحسن أن يصرف ما نذره في نظير من المشروع مثل أن يصرف الدهن إلى تنوير المساجد والنفقة   (1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ زائرات وسنده صحيح، و" لعن الله زوارات القبور" حديث صحيح أيضا (2) رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة وفي بعض الروايات تعليل آخر لهذا اللعن غير تحذير المسلمين عن اتخاذ القبور مساجد وهو قولها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً (3) هذه الجملة من حديث آخر لها في الموضوع عند مسلم وهنالك ألفاظ أخرى بمعنى واحد وصرحت بأنه (ص) قال ذلك في مرضه الأخير قبل وفاته بخمسة أيام (4) رواه مالك في الموطأ (5) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة (6) رواه أحمد وأصحاب السنن عنها أيضا وهو صحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 إلى صالحة فقراء المؤمنين وإن كانوا من أقارب الشيخ ونحو ذلك، وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق والمشاهد المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم. ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعاً أو أجراً ما فهو ضال جاهل، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: " أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " (1) وفي رواية: " إنما يلقي ابن آدم إلى القدر " فإذا كان هذا في نذر الطاعة فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائناً من كان: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً، قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. . .، الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون، وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون، وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً، أفغير الله تتقون، وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ". والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله   (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر إلا الترمذي ومن حديث أبي هريرة إلا أبا داود - وفي رواية " أنه لا يرد شيئاً" بدل لا يأتي بخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلها آخر، والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكراماً وخوفاً ورجاءً كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: " يا حصين كم تعبد " قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: " فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك " قال: الذي في السماء، قال: " يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن " فلما أسلم قال: " قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي ". فصل: وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية (1) ، محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي تنزل عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتاً، قال: بيتك الحمام، قال: اجعل لي قرآناً، قال: قرآنك الشعر، قال: اجعل لي مؤذناً، قال: مؤذنك المزمار " وقد قال تعالى في كتابه مخاطباً للشيطان: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " وقد فسر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ذات المكاء والتصدية ". وكيف يذر الشيطان (2) عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين. ورأى بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به فلما صرخ قال: هرب شيطانه وسقط ذلك الرجل. وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد   (1) المكاء بالضم هو صفير الطائر والتصدية الصوت الذي يجري مجرى الصدى وما يرجع عن غيره بالانعكاس وفسر بالتصفيق قال تعالى في الجاهلية (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (2) كذا في الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن السبل المبتدعة، فقد حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل الهادي كان ضالاً عن الطريق، فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق، والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيراً نذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وهادياً إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ملك السموات والأرض وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرعاد والصرخات المنكرة ونحو ذلك ما يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت، إما وجد في الهوى مذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المخزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها فإن السكر بالأصوات المطربة قد تصير من جنس الإسكار بالأشربة المطربة فتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه وإتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء حتى بقتل بعضهم بعضاً بأحواله الفاسدة الشيطانية كما يقتل العائن من أصابه بعينه، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القود أو الدية إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة لأنهم ظالمون وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من موادهم المحرمة كما يغتبط الظلمة المسلطون ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموها فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة " وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة كما يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لهم ملكة ظاهرة فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر ولا يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب وباب القدرة والتمكن باطناً والتمكن وظاهراً ليس مستلزماً لولاية الله تعالى بل قد يكون ولي الله متمكناً ذا سلطان وقد يكون مستضعفاً إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفاً وقد يكون سلطاناً إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر هؤلاء في العباد، بمنزلة هؤلاء في الأجناد. وأما الغلبة فإن الله قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " وإذا كان في المسلمين ضعف وكان العدو مستظهراً عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما بعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً، وقال الله تعالى: " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " وقال تعالى: " أو لما أصابتكم قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم " وقد قال تعالى: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ". فصل: وأما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعاً مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب والمشهد الذي في ظاهرها المضاف إلى أويس القرني والمشهد الذي في سفح لبنان المضاف إلى نوح عليه السلام والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول شرحها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار حتى قال طائفة من العلماء منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح فيها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثبت غيره قبر الخليل عليه السلام أيضاً، وأما مشهد علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره بل قد قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك أنه إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ظهر بعد نحو ثلثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه، وذكروا أن أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتى إلى ذلك المكان وجعل يعتذر إلى من فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي، وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضاً لا علم له بذلك ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره، وجمهور أهل المعرفة يقولون أن علياً إنما دفن في قصر الإمارة أو قريباً منه وهذا هو السنة، فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر غير مشروع فلا يظن بآل علي رضي الله عنهم أنهم فعلوا به ذلك، ولا يظن أيضاً أن ذلك خفي على أهل بيته والمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء، وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق قد قيل إنه ليس قبر معاوية وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال إنه قبر هود وأصل ذلك أن عامة هذه القبور مضطرب مختلف لا يكاد يوقف منه على علم إلا في قليل منها بعد بحث شديد وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث قال: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " وقال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة واعتكاف أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة لأجل النهي عنها، وإنما السنة إذا زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما جمع الله بين هذين حيث يقول في المنافقين: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره " فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول: " سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ". وفي الصحيح أنه كان يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنك والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا ترحمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم ". وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له وهي المساجد التي تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء والذكر والدعاء لله قال تعالى: " وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً " وقال تعالى: " قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين " وقال تعالى: " يا بني خذوا زينتكم عند كل مسجد " وقال تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " وقال تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب " فهذا دين المسلمين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين. وأما اتخاذ القبور أوثاناً فهو من دين المشركين الذي نهى عنه سيد المرسلين، والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً كما هو أهله. تمت الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم: سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله تعالى عنه عن كراس وجد بخط بعض الثقات قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه. قال بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقاً، وكثفها فسماها خلقاً، قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب بها مجازاً، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل المجاز والفرق شهدها ستوراً وحجباً. قال: وقال في قصيدة له: لقد حق لي رفض الوجود وأهله ... وقد علقت كفاي جمعاً بموجدي ثم بعد مدة غير البيت بقوله، لقد حق لي عشق الوجود وأهله، فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجباً فيرفضها، ثم يراها مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم: أقبل أرضاً سار فيها جمالها ... فكيف بدار دار فيها جمالها قال: وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبى نواس: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا فتشابه الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر لبس صورة العالم فظاهره خلقه، وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين لا ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال الشيخ قطب الدين ابن سبعين: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وهم: للشيخ محي الدين ابن عربي: يا صورة انس سرها معنائي ... ما خلقت للأمر ترى لولائي شئناك فأنشأناك خلقاً بشراً ... تشهدنا في أكمل الأشياء وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج (1) فقال له الشيخ: طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين. وقال: قيل عن رابعة إنها حجت فقالت هذا الصنم المعبود في الأرض وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سناء لاهوته الثاقب ثم بدا مستتراً ظاهراً ... في صورة الأكل والشارب قال: وله عقد الخلائق في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وله أيضاً: بيني وبينك إني تزاحمني ... فارفع بحقك إنيي من البين قال: وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية (2) التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه، وكذلك قال   (1) كذا والعبارة غير ظاهرة فلعلها محرفة (2) لعلها الأنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السلف: الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، قالوا لمحيي الدين بن العربي: والله ما هي إلا حيرة ظهرت ... وبي حلفت وإن المقسم الله وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة. قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك: وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة قال: وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة لا تقرب الشجرة فقرب وأكل، فقال: صدقت وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا علي الحريري: آدم صفي الله تعالى كان توحيده ظاهراً وباطناً فقال فكان قوله تعالى: " لا تأكل " ظاهراً، وكان أمره " كل " باطناً، فأكل فكذلك قوله تعالى: " وإبليس كان توحيده ظاهراً، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد فغير الله عليه وقال: اخرج منها " الآية. قال: وقال شخص لسيدي حسن يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه: " ليس لك من الأمر شيء " أيش نكون نحن؟ فقال: سيدي ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الأمر كما تظن، قوله: " ليس لك من الأمر شيء " أيش غير الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، إن الذين بايعوك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ". وفيه لأوحد الدين الكرماني: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين غيره: لا تحسب بالصلاة والصوم تنال ... قرباً ودنواً من جمال وجلال فارق ظلم الطبع تكن متحداً ... بالله وإلا كل دعواك محال غيره للحلاج: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر يشاهد حقاً حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر للشيخ نجم الدين بن إسرئيل: الكون يناديك أما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقني أنظر أتراني منظراً معتبراً ... ما فيّ سوى وجود من أوجدني وله: ذرات وجود هي للحق شهود ... أن ليس لموجود سوى الخلق وجود والكون وإن تكثرت عدته ... منه إلى علاه يبده ويعود وله: برئت إليك من قولي وفعلي ... ومن ذاتي براءة مستقيل وما أنا في طراز الكون شيء ... لأني مثل ظل مستحيل للعفيف التلمساني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أحن إليه وهو قلبي وهل يرى ... سواي أخو وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له ولا لسنة كلها لسانه. وفيه لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيراً فلا توحيد له. وفيه: سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي الحريري إلى جامع نوى قال الشيخ محمد: فوجئت فقبلت الأرض بين يديه وجلست فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود لأن المحبة لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك لأن التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبداً ولا معبوداً. وفيه: سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسر إلي أنه سمع من شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه قال: يا نجم رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات وحنكي تحت الأرض، ونطق لساني بلفظة لو سمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة، فلما كان بعد ذلك بمدة قال شخص في حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالهما، فقلت أنا هذه المقالة ما يقولها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت. وذلك أنه سمعت من جدك يقول رأيت كذا وكذا. فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ. وفيه: قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 حاجب ولا محجوب. والمطلوب من السادة العلماء: أن يبينوا لنا هذه الأقوال وهل هي حق أو باطل؟ وما يعرف به معناها وما يبين أنه حق أو باطل وهل الواجب إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من اعتقد معناها. إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها والمتكلمون أرادوا لها معنى صحيحاً يوافق العقل والنقل ويمكن تأويل ما يشكل منها وحملها على ذلك المعني؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟. فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتهما للمعقول والمنقول: أحدهما الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك كالقول بوحدة الوجود كالذين يقولون إن الوجود واحد فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب القصيدة التائية نظم السلوك وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والتلمساني الذي شرح مواقف النغري (1) ، وله شرح الأسماء الحسنى على طريقة هؤلاء وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض والششتري صاحب الأرحال الذي هو تلميذ ابن سبعين وعبد الله البلباني وابن أبي منصور المصري صاحب: فك الأزرار عن أعناق الأسرار، وأمثالهم ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ويزعم أن الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء وقول من يقول وجود المخلوق هو وجود الخالق، ويقول فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه فيقولون أن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقاً إلا في الأذهان فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معيناً، وإن قيل إن المطلق جزء من المعنى لزم أن يكون وجود الخالق جزءاً من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجوداً. ومن قال إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما يقوله   (1) هو الشيخ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النغري الصوفي المتوفي سنة 354 والتلمساني شارحه عفيف الدين سليمان بن علي الصوفي الشاعر صاحب الديوان المشهور توفي سنة 690 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ابن سينا وأتباعه فقوله أشد فساداً فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول. وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة يقولها (1) المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله، وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، ولا تخرج عن وحدة الوجود أو الحلول أو الاتحاد وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعنى كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بالإلهية علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القيني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛ فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم، ولهذا يقولون النصارى إنما كان خطأهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن المشركين عباد الأصنام إنما كان خطأهم لأنهم اقتصروا على عبادة بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقاً على وجه الإطلاق والعموم، ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين وكان طوائف من الجهمية يقولونه. وكلام ابن عربي في فصوص الحكم، وغيره (2) وكلام ابن سبعين وصاحبه الششتري وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك، وقصيدة عامر البصري وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي وكثير   (1) لعل أصله التي يقولها الخ (2) قوله وكلام ابن عربي مبتدأ خبره مع ما عطف عليه قوله بعد: وهو مبني على هذا المذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 من شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر ابن الفارض وغيره فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيراً من الرجال. وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يعرفوا مباينة الله سبحانه للمخلوقات وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها، ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال، فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه (1) كما دل على ذلك الكتاب والسنة   (1) هذه الكلمة المأثورة بالروايات الصحيحة المسندة إلى أئمة السلف قد جمعت في صفات الله تعالى بين قبول نصوص الكتاب والسنة وبين التنزيه المطلق الذي أراده الجهمية والمعتزلة وبعض نظار الأشعرية بتأويل النصوص بالتحكم والتكلف المؤدي إلى تعطيلها وجعلها كاللغو حتى لا يذكرونها في عقائدهم ويسمون من يذكرها على إطلاقها مشبها - فمباينة الله تعالى لخلقه ابلغ ما يقال في تنزيهه عن مشابهتهم في شأن ما من شؤون الربوبية والإلوهية أو مشابهته لهم في شأن ما من شؤون المخلوقين، فعلوه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه فوق جميع سماواته لا يقتضي مع ما ذكر من المباينة أن يكون محصوراً أو محدوداً أو متحيزاً، إنما علوه سبحانه علو مباينة لها لا كعلو بعضها على بعض، فإن هذا أمر إضفي لا حقيقة له في نفسه، يعترف بهذا جميع الفلاسفة وعلماء المعقول في كل زمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وإجماع سلف الأمة، وكما علم العلو والمباينة بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه في إقرارهم به وقصدهم إياه سبحانه وتعالى. والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم وهم الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم. والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون أنه بذاته في كل مكان كما تقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن القصد والطلب والإرادة والمحبة وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يتطلب موجوداً فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعلوم المذكور بخلاف القصد والإرادة والعبادة فإنه ينافي عدم المعبود، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه يميل إلى النفي وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول وإذا قيل هذا ينافي ذلك، قال ذاك مقتضى عقلي ونظري، وهذا مقتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجدان لم يكن موافقاً للعقل والنظر وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما. والقول الرابع: قول من يقول إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه مثل أبي الحكم بن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا. وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من مستأخري الصوفية. ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد المحدث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وقد أنكر ذلك ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين العبد والرب، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من يكون ليس بقديم ولا محدث، وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك والتمييز بين هذا وذاك لا يقتضي أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذاك الإنسان الآخر مع أنه أحدهما فكيف لا يعلم أنه غير ربه وإن كان هو أحدهما؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأصل الثاني الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور (1) وفعل المحظور فإن القدر يجب الإيمان به ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده وعيده والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: قوم آمنوا بالأمر والنهي والوعد والوعيد وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله كالمعتزلة ونحوهم. وقوم آمنوا بالقضاء والقدر ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن عارضوا بهذا الأمر والنهي وسموا هذا حقيقة وجعلوا ذلك معارضاً للشريعة، وفيهم من يقول إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوي عنده هذا وهذا، وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم ولا يسوون بين العالم والجاهل والقادر والعاجز ولا بين الطبيب والخبيث ولا بين العادل والظالم يفرقون بينهما ويفرقون أيضاً بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر بل كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق مذهبك (2) ، تمذهبت به فلا يوجد أحد بالفلك في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في مخالفة هواه بل يعادي من آذاه وإن كان محقاً ويجب من وافقه على غرضه وإن كان عدواً لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته   (1) لعله: أي ترك المأمور (2) لعله هواك أو غرضك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وبغضه وولايته وعداوته، إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه، وللشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد ولا اقتص من باغ ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارض فيه، وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد. فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل ليدحض به الحق لا من باب الاعتماد عليه (1) لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير، وإن قال أنا أعذر بالقدر من شهده وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا من غاب عن المشهود، أو كان من أهل الجحود، قيل فيقال لك وشهود هذا وجحود هذا من القدر فالقدر متناول لشهود وجحود هذا. فإن كان موجباً للفرق مع شمول القدر لهما فقد جعلت بعض الناس محموداً وبعضهم مذموماً مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى   (1) الظاهر أن يقال: ولزمه - كقوله وكان احتجاجه عطفا على قوله اتبع ضده - الذي هو جواب فمن لم يتبع شرع الله ودينه. ولو قال: واتبع ضده، عطفا على قوله: لم يتبع - لكان قوله: لزمه الخ وهو جواب الشرط ولم يصح عطفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الفرق، واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من معك فيه، ثم مع فساد هذا الأصل، وتناقضه فهو قول باطل وبدعة مضلة، فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذراً في ترك الواجبات وفعل المحظورات (1) بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله وكذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ناظراً إلى أن ذلك مقدر عليه لم يكن ذلك غافراً لتكذيبه، ولا مانعاً من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به سواء كان المشرك مقراً بالقدر وناظراً إليه، أو مكذباً أو غافلاً عنه، بل قد قال إبليس " فيما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين " فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسبباً لمزيد عذابه، وأما آدم عليه السلام فإنه قال " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر وترحمنا لنكونن من الخاسرين " قال تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " فمن استغفر وتاب كان آدمياً سعيداً. ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسياً شقياً. وقد قال تعالى لإبليس: " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ". وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق فإنه يسلكون أنواعاً من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها ويحتجون بالقدر فيما خالفوا   (1) سقط من هنا جواب: فمن جعل - والمعنى من جعل الإيمان بالقدر عذرا لمن عصى الله وأشرك به - لزمه كون هذا الإيمان منكرا من المنكرات وضلالة من الضلالات؛ وليس الأمر كذلك - بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات الخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فيه الأمر فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون ديناً لم يشرعه الله ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله. والصنف الثالث: من الضالين في القدر من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر والأمر والنهي كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه، وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى: " من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور. وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وإن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به، وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغباً ورهباً، ويجتبون محارمه، ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده، علماً منهم بأن التوبة فرض على العبد دائماً وإقتداءً بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح: " أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة " وآخر سورة نزلت عليه: " إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ". وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبني جواب ما في هذا السؤال من الكلمات؛ ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة فقول القائل: " إن الله لطّف ذاته فسماها حقاً، وكثفها فسماها خلقاً " هو من أقوال الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكشيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقاً فلا يتصور أن ذات الحق يكون خلقاً بوجه من الوجود كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه. وكذلك قول الآخر ظهر فيها حقيقة واحتجب عنها مجازاً فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر فلا يتصور ظهور واحتجاب. ثم قوله: " فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستوراً وحجباً ". كلام ينقض بعضه بعضاً فإنه إن كان الوجود واحداً لم يكن أحد الشاهدين عين الآخر ولم يكن الشاهد عين المشهود ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء: من قال إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له آخر فمن الذي يكذب؟ فأفحمه. وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان هو الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب. وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب الفصوص وغيره أنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم، قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الثبوتية والسلبية سواء كانت محمودة عقلاً وعرفاً وشرعاً أو مذمومة عقلاً وعرفاً وشرعاً، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق. وقول القائل: لقد حق لي عشق الوجود وأهله، يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع إنه باطل شرعاً وعقلاً فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذٍ وآلمه ألماً شديداً لا يغضب محرم شرعاً (1) . وما ذكر عن بعضهم من قوله: " عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى " هو من كلام ابن سبعين وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة. وقول ابن عربي: ظاهره خلقه، وباطنه حقه، هو قول أهل الحلول وهو متناقض في ذلك فإنه يقول بالوحدة فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين، تفريق لا حقيقة له بل هو من أقوال أهل الكذب والمين. وقول ابن سبعين: رب هالك، وعبد مالك وأنتم ذلك الله فقط والكثرة وهم، موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق   (1) كذا - وقد سقط منه جواب لو آذاه الخ والمعنى امتنع أن يعشقه طبعا. ولا بد من سقوط كلام آخر يفهم منه أن فعل من لا يغضب إذا عصي الله محرم شرعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولهذا قال: وأنتم ذلك، فإنه جعل العبد هالكاً أي لا وجود له فلم يبق إلا وجود الرب، فقال: وأنتم ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله، ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله، وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض فإن قوله وهم يقتضي متوهماً فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود. وكذلك: إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا مع إنه كفر فإنه يناقض قوله الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت غير الله وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيراً لزمت الكثرة فلا تكون الكثرة وهما بل تكون حقاً. والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن قوله: يا صورة إنس سرها معنائي، خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان يا صورة إنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعني غير الصورة وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة كما يصرح به فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا تناقض وقوله: ما خلقك للأمر ترى لولائي، كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح أي لولا الخالق لما وجد الكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة والحلول والاتحاد، ولهذا قال: شئناك فأنشأناك خلقاً بشراً ... كي تشهدنا في أكمل الأشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية وهذا يشير إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق لكنه متناقض في كلامه فإنه لا يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات وثبوتها حل في وجوده وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر فإنه لا فرق بين هذا وهذا لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه. وأما الرجل الذي طلب من والده الحج فأمره أن يطوف بنفس الأب: فقال طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين، فحرام بإجماع المسلمين. ومن اعتقد ذلك ديناً فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره، وقوله ما فارقه الله طرفة عين قط إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه المتناقض فإنه حينئذ لا فرق بين الطوائف والمطوف به، فلم يكن طواف هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب والخنازير والكفار والنجاسات والأقذار وكل خبيث وكل ملعون لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله، وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا أيضاً من ذات الله، فقال: وثم خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص فاجتاز بكلب فركضه الآخر برجله فقال: لا تركضه فإنه منه. وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد وإذا قيل مظاهر ومجالي - قيل إن كان لها وجود غير وجود الظاهر المتجلي فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر والمظهر والمتجلي فيه (1) فرق، وإن أراد بقوله ما فارقه الله طرفة عين، الحلول الخاص، كما تقول النصارى في المسيح لزم أن يكون هذا الحلول ثابتاً له من حين خلق كما تقوله النصارى في المسيح فلا يكون ذلك حاصلاً له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين فلماذا يكون الحلول ثابتاً له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب والشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والتوحيد وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن فإذا كان هذا هو سبب الحلول وجب أن يكون الحلول فيهم حادثاً لا مقارناً لخلقهم وحينئذ فقولهم أن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط كلام باطل كيف ما قدر. وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت أنه الصنم المعبود في الأرض - فهو كذب على رابعة ولو قال هذا من قاله لكان كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو كذب فإن البيت لا يعبده المسلمون ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه. كلام باطل عليها، وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعنى فلأي مزية يطاف به ويصلى   (1) لعل أصله: والمجلى والمتجلي فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إليه ويحج دون غيره من البيوت؟ وقول القائل: ما ولج الله فيه - كلام صحيح، وأما قوله ما خلا منه فإن أراد ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى فهو باطل وهو مناقض لقوله ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب أن لا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذاً الموجودات كلها عندهم كذلك. وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً ... في صورة الآكل والشارب فهذه قد تعين بها الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح وكان أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه فلما أنشد هذين البيتين قال: لعن الله من قال هذا، وقوله: عقد الخلائق في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه فهذا البيت يعرف لابن عربي فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به فإضافته إلى الحلاج صحيحة وهو كلام متناقض فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد، والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام أعظم من الأولياء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 العقول عن معرفتهم ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وإن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح، ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام يتخيلون في نفوسهم أموراً يتخيلونها ويتوهمونها فيظنونها ثابتة في الخارج وإنما هي من خيالاتهم والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له ولهذا يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال كما يقول ذلك ابن عربي وغيره ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض وكان من شيوخهم وأما قوله: بيني وبينك إنيّ تزاحمني ... فارفع بحقك إنيي من البين فإن هذا الكلام يفسر بمعان ثلاثة يقوله الزنديق، ويقوله الصديق فالأول مراده به رفع ثبوت إنيته حتى يقال إن وجوده هو وجود الحق وإنيته هي إنية الحق فلا يقال إنه غير الله ولا سوى. ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة إن الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، فقيل وهذا القول مع ما فيه من الكفر، والإلحاد فهو متناقض ينقض بعضه بعضاً فإن قوله: بيني وبينك إني تزاحمني، خطاب لغير مواثبات إنية بينه وبين ربه وهذه إثبات أمور ثلاثة وكذلك يقول: فارفع بحقك إنيي من البين، طلب من غيره أن يرفع إنيته وهذا إثبات لأمور ثلاثة وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد وهو الفناء عن وجود السوى فإن هذا فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء، والفناء ثلاثة أقسام فناء عن وجود السوى وفناء عن شهود السوى وفناء عن عبادة السوى فالأول وهو فناء أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الوحدة الملاحدة كما فسروا به كلام الحلاج وهو أن يجعل الوجود وجوداً واحداً وأما الثاني وهو الفناء عن شهود السوى فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين كما يحكي عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمشهوده عن شهادته وبمذكوره عن ذكره، فيظن من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلاً يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في الماء فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك إني. فهذا حال من عجز عن شيء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين ومن الناس من يجعل هذا من السلوك ومنهم من يجعله غاية السلوك حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه، وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وإحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار لم يكن محموداً على هذا ولكن قد يكون معذوراً. وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم ويدخل في هذا أن يفنى عن إتباع هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله رسله وانزل به كتبه. ومن قال: فارفع بحقك إنيي من البين، بمعنى أن يرفع هوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 نفسه فلا يتبع هواه ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته بل يكون عمله لله لا لهواه وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته كما قال تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " فهذا حق محمود، وهذا كما يحكي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: خدايي (1) كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال - أي اترك إتباع هواك والاعتماد على نفسك فيكون عملك لله واستعانتك بالله كما قال: " فاعبدوه وتوكل عليه ". والقول المحكي عن ابن عربي: وبي حلفت وإن المقسم الله، هو أيضاً من إلحادهم إفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلي ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان بي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة إلى أن قال: وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنت وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت وأما المنقول عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه فهو كذب عليه وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا   (1) خدا- بضم الخاء اسم الجلالة بالفارسية وأضافه إلى ياء المتكلم أي إلهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى قوله إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض وذلك أن الله سبحانه يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد مخلوق لله قال لأصحابه: " إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي " فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلقه وهو أبلغ من رؤية نفسه فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه؟ وأيضاً فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديماً كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل وإن كان محدثاً فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال الشوق أيضاً صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى وقد روي: " طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق ". وهو حديث ضعيف. وقوله: خلق من نوره آدم وجعله كالمرآة وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة - يقتضي أن يكون آدم مخلوقاً من المسيح والمسيح خلق من مريم ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته؟ وإن قيل المسيح هو نور الله فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى فإن النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون أن آدم خلق من المسيح إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 جميعاً وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضاً فهم لا يقولون إن آدم خلق من لاهوت المسيح. وأيضاً فقول القائل إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح إن أراد به نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئاً موجوداً منفصلاً قبل خلق آدم فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقاً من نور الله الذي هو المسيح، وأيضاً فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو ذاته لا أن آدم هو ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته وحينئذ فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى فيرى مثال ذاته العلمي في آدم فالرب تعالى يعرف نفسه فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة. وأيضاً فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح. وأما قول ابن الفارض: وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة فهذا تمثيل فاسد وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وكذا المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة فقولهم بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا مطابقاً له وأيضاً فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص كالنصارى والغالية من الشيعة وجهال النساك ونحوهم، وأيضاً فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى فليس هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي. وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق فإن قالوا المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء في شيء ولا ظهر شيء لشيء وكان قوله: وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى. . . كلاماً متناقضاً لأن هنا مخاطِباً ومخاطَباً ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم. فصل: وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران أمر بواسطة وأمر بغير واسطة إلى آخره - فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كلم محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة المعراج وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية وأما الأمر الكوني فقول القائل: أنه لا بواسطة خطأ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض وأمر التكوين ليس هو خطاباً يسمعه المكون المخلوق فإن هذا ممتنع ولهذا قيل إن كان هذا خطاباً له بعد وجوده لم يكن قد كون به بل كان قد كون قبل الخطاب وإن كان خطاباً له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع، وقد قيل في جواب هذا أنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدوماً في العين وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب، وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهراً وباطناً فكان قوله " لا تقرب " ظاهراً وكان أمره " بكل " باطناً فيقال: إن أريد بكونه قال كل باطناً أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع أو دين فهذا كذب وكفر، وإن كان أراد أبه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر، وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم، وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن كل مثل قوله أنه قال للكافر: اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعاً بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني - فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما لو قال للجماد كن فيكون فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف ما أمره به في الظاهر بل أمره بالطاعة باطناً وظاهراً، ونهاه عن المعصية باطناً وظاهراً، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطناً وظاهراً، وخلق العبد وجميع أعماله باطناً وظاهراً، وكون ذلك بقوله: " كن باطناً وظاهراً " وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به، ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذراً لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحداً أن يفعله فهو ممتنع طبعاً محرم شرعاً. ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً معاقباً ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزاً ولا إقامة الحدود جائزاً لا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزماً مع الآخر نوعاً من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده لكن الشرائع تتنوع فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم. وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل. أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند إتباع هواه فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه وذوقه، ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء " قال الله تعالى: " كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون، قل ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن، والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضاً من المقدور؟ فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحاً ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون. وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً؟ فحج آدم موسى - لم يكن آدم عليه السلام محتجاً على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى: " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " وقال: " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " وهذا باب واسع وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر، فإن الأب لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطبع المأمور، وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك " وقال تعالى: " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال طائفة من السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور، فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموجودين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين، وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلماً وعدواناً، وأذل الناس إذا قهر، وأعظم جزعاً ووهناً، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقابلة من أصناف الناس، والمؤمن إن قدر عدل وأحسن، وإن قهر وغلب صبر واحتسب، كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم التي أولها: بانت سعاد الخ..، في صفة المؤمنين: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... يوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وقد قال تعالى: " قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " وقال تعالى: " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً " وقال تعالى: " إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " وقال تعالى: " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " فذكر الصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 والتقوى في هذه المواضع الأربعة فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور؛ والتقوى يدخل فيها فعل المأمور، فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته منبعاً لهواه ويحتج بالقدر، ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، يقول أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقاً لطاعتك فتنسى نعمة الله عليك كي (1) أنه جعلك مطيعاً له وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي وربي أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه: أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها، فإن قال أي ربي أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه: أنت عملها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي أنت قدرت علي هذه السيئة قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها فإن قال: أي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك، وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع. وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال، ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله   (1) كذا في الأصل ولعل صوابه "في" وحذفه أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكل باطناً فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد فغير الله عليه وقال: " اخرج منها " الآية. فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك ولم يقل أن الله ظلمني ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل، قال تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم " وقال تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال: " ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين " وأما قوله: رآه غيراً فلم يسجد - فهذا شر من الاحتجاج بالقدر فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ولم تؤمر الملائكة بالسجود ولكون آدم ليس غيراً بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة والله تعالى: " علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وكانت لملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له ولهذا قالوا: دعوه دعا العبد ربه فآدم يقول: " ربنا ظلمنا أنفسنا " والملائكة تقول: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " وتقول: " ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " الآية، وقد قال تعالى: " أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " وقال تعالى: " أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعِم ولا يطعَم " وقال: " أفغير الله أبتغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً " فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غير يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً، وإنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: " ولا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين " وقال: " لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً " وأمثال ذلك. وأما قول القائل أن قوله: " ليس لك من الأمر شيء " عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى إن الذين يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله: " ليس لك من الأمر شيء " أي فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه: أحدها: إن قوله: " ليس لك من الأمر شيء " نزل في سياق قوله: " ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " وقد ثبت في الصحيح إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت فلما أنزل الله هذه الآية ترك فعلم أن معناها أفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر بل إن شاء الله تعالى قطع طرفاً من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، وهذا كما قال في الآية الأخرى: " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " ونحو ذلك قوله تعالى: " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل إن الأمر كله لله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الوجه الثاني: إن قوله: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " لم يرد به إن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحاً لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم. ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر. ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين، ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب وقال شاهت الوجوه ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهماً فأوصلها بقدرته. الوجه الثالث: إنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: " ربنا واجعلنا مسلمين لك " فالله هو الذي جعل المسلم مسلماً. وقال تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً " فالله هو الذي خلقه هلوعاً لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخالق حال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد. الوجه الرابع: إن قوله تعالى: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " لم يرد به إنك أنت الله وإنما إنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني " ومعلوم أن أميره ليس هو إياه ومن ظن في قوله: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو ومع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره، وذلك أنه لو كان المراد أن خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضاً فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله، وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو ويقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم ضلالهم غير مرة وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء بل هو قول النصارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ومن وافقهم من الغالية (1) وهو باطل أيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال له: " ليس لك من الأمر شيء " وقال: " وإنه لما قام عبد الله يدعوه " وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً " وقال: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا " وقال: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً ". فقوله: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " يبين قوله: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " ولهذا قال: " يد الله فوق أيديهم " ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم، ألا ترى أن كل من وكل شخصاً بعقد مع الوكيل كان ذلك عقداً مع الموكل ومن وكل نائباً له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه كانوا معاهدين لمستنيبه ومن وكل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " الآية ولهذا قال في تمام الآية: " ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ". فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وإن الله إذا كان قد قال لنبيه: " ليس لك من الأمر شيء " فأيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه   (1) هم فرق الباطنية وآخرهم البهائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وأما قول القائل: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض فإن مقتضاه أنه يرى الله بعينه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه بعينه بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه وقوله: " أتاني البارحة ربي في أحسن صورة " الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسراً وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وقد ثبت بنص قرآني أن موسى قيل له: " لن تراني " وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء فمن قال أن أحداً من الناس يراه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء. المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عياناً وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع. والقول الثاني: قول نفاة الجهمية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. والثالث: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة. وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم. ثم من أثبت الذات قال: يرى متجلياً فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيداً بصورة وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله وإثبات المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالاً في المخلوق وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الخارج مطلقاً يقتضي أن يكون الرب معدوماً وهذا هو جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتاً في الخارج جعلوه جزءاً من الموجودات فيكون الخالق جزءاً من المخلوق أو عرضاً قائماً بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وأما تناقضه فقوله: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين يقتضي المغايرة وأن المخاطَب غير المخاطِب وأن المخاطب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود. وقوله: ما بينكم وبيننا من بين، فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا مظاهر ومجالي قيل فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما تناقض، وقول القائل: فارق ظلم الطبع وكن متحداً ... بالله وإلا كل دعواك محال إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله: " وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله: " كل دعواك محال " وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى. وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لا بد أن يستحيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك، لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجود أو الرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفاً بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول، ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم، ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الرب رب والعبد عبد " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً، وكلهم آتية يوم القيامة فرداً " وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضي الله، ويغضب لما يغضب الله، ويأمر بما يأمر الله، وينهى عما ينهى الله، ويوالي من يواليه الله، ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله، ويبغض لله، ويعطي لله، ويمنع لله، بحيث يكون موافقاً لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله وفي الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفسي عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ". وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة منها أنه قال: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: " وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب لي بالنوافل حتى أحبه " فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان العبد يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث فالحديث مخصوص بحال مقيد وهم يقولون بالإطلاق والتعميم فأين هذا من هذا؟ وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا. فيجعلون هذا حجة لقولهم أنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة وهذا الحديث حجة عليهم - في هذا - أيضاً فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة فالمنكرون (1) الذين قالوا نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا هؤلاء الملاحدة يقولون أن العارف يعرفه في كل صورة فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم، وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: " وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون " ثم يقال لهؤلاء الملاحدة إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال ما أبصر   (1) ههنا تحريف ظاهر فإن قوله:وهو عندهم في الآخرة المنكرون- لا معنى له فقد سقط من الناسخ كلام لا سبيل إلى معرفته والمعروف عن ابن عربي في فتوحاته يدل عليه ومنه أن الرب تعالى يتجلى لكل أحد بحسب معرفته فالقاصر المقيد برأي أو مذهب معين لا يعرفه إلا إذا تجلى له في صورة اعتقاده وأما العارف المطلق من حجر القيود فإنه يعرفه في كل شيء ويراه في التجلي بكل صورة، لأنه في اعتقاده كل شيء (تعالى الله عما يقولون) - قاله محمد رشيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 غيره أبول عليه، فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرجت عني. ل صورة فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم، وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: " وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون " ثم يقال لهؤلاء الملاحدة إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال ما أبصر غيره أبول عليه، فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرجت عني. ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضاً من ذاته؟ فقال التلمساني: هل ثم شيء خارج عنها؟ وكان التلمساني قد أضل شيخاً زاهداً عابداً ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول: الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله. ويقول نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحاً يتلوه كما يتلو التسبيح. وأما قول الشاعر: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر فشاهد حقاً حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر وبالمعروف عن المعرفة وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. وأما النوع الثالث: من الفناء وهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق - فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة، والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 جاهل قال: هذا لا يحمد أصلاً بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحداً ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر وأما قول القائل: الكون يناديك ما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقني أنظر لتراني منظراً معتبراً ... ما فيّ سوى وجود من أوجدني فهو من قول هؤلاء الملاحدة وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو المخاطب المنادى وهو الأشتات المؤلفة المفرقة وهو المخاطب الذي قيل له: انظر، وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها، فهذا جمع بين النقيضين فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديماً محدثاً ولولا أن قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن أن يراد بذلك: ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك لكن قد علم أنه لم يرد هذا ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته وهكذا قول القائل: وله ذات وجود ال ... كون الحق شهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أنه ليس لموجو ... د سوى الحق وجود مراده أن وجود الكون هو نفس وجود الحق وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء موجود من نفسه وإنما وجوده من ربه والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة - لكان قد أراد معنى صحيحاً وهو الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين، وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض ولهذا يقولون الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة فمن هو البادئ والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد، وقوله: وما أنا في طراز الكون شيء ... لأني مثل ظل مستحيل يناقض الوحدة لأن الظل مغاير لصاحب الظل فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع فإن شعاع الشمس ليس هو نفسه قرص الشمس وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا. وقلت لمن حضرني منهم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا؟ وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المسجد جماعة، حتى فهمه جيداً وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 له وإن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل وذكرت له أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة " ثم أحياهم الله بعد موتهم، وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء، والنصارى يصدقون بذلك، وأما جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيواناً تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القُدر وأقدر (1) فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حياة. وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك فإن الحلو أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما، وذكرت له نحواً من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وإن سائر ما يذكر فيه أما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من المخلوقات وإما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما خلقه من امرأة   (1) كذا في الأصل وفيه تحريف ظاهر من جهل النساخ والمعنى ظاهر وهو أن آية العصا لموسى أعظم من إحياء الميت لعيسى عليهما السلام وأدل على قدرة الله تعالى بما ذكر من الفرق بين البشر والخشب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك فإنه خلق من بطن امرأة وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم. فعلم قطعاً أن تخصيص المسيح باطل وأن ما يدعى له أن كان ممكناً فلا اختصاص له به وإن كان ممتنعاً فلا وجود له فيه ولا في غيره ولهذا قال هؤلاء الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضاً باطل فإن الاتحاد عموم وخصوص والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر: أحن إليه وهو قلبي وهل يرى ... سواي أخو وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه؟ وقوله: وما بعده إلا لإفراط قربه، متناقض فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة فإنها تقتضي أن يقرب أحدهما من الآخر والواحد لا يقرب من ذاته ويبعد من ذاته. وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضاً من قول أهل الوحدة وهو مع كفره قول متناقض فإنه يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد وأن أقوال المشركين الذين قالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً " والذين قالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " والذين قالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 " وما نحن بتاركي آلهتنا وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء " والذين قالوا: " حرقوه وانصروا آلهتكم " ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد. وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجودان كان أحداً كان إثبات التعدد تناقضاً فإذا قال القائل: الوجود واحد، وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان هذان قولين متناقضين فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر وإذا قال الألسنة كلها لسانه فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها، وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة، وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد. فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا منها عين وجود هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسمها المنطقيون إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود فإذا كان وجود الفلك مبايناً مخالفاً لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر. وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال لا يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 التوحيد إلا الواحد ولا تصح العبارة عن التوحيد وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ومن أثبت غيراً فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره متناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد، يقتضي أن هناك واحداً يعرفه وأن غيره لا يعرفه، هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا من أثبت غيراً فلا توحيد له، يناقض هذا، وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده ورسوله عبر عن توحيده والقرآن مملوء من ذكر التوحيد بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد وقد قال تعالى: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " ولو لم يكن عنه عبارة لما نطق به أحد وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله "، وقال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يتصور تحققه في الخارج فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان وهذا الجسم ليس هو ذاك وهذا الإنسان ليس هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك. وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً - التعبير عن التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد لئلا يقول المبتدع إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذي كفرهم السلف والأئمة تكفيراً مطلقاً، وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها (1) . وأيضاً فيقال لهؤلاء الملاحدة إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفراً وضلالاً فمن قال إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلاماً لله   (1) يعني أن السلف كفروا الجهمية ببدعتهم في الإلحاد بصفات الله وانكار كونها معاني وجودية قائمة بذاته وزعمهم أن كلامه أصواتا خلقها في سمع موسى وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وأما هذا اللحيد (1) فزاد على هؤلاء فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده لم يجعل ذلك كلاماً له بل يقال أن يكون (2) هنا كلام لئلا يثبت غير آله وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى وإن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " وقال تعالى: " قل أغير الله أتخذ ولياً " وقال تعالى: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " وقال تعالى: " أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ". وكذلك قول القائل: وجدت المحبة غير المقصود لأنها لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبداً ولا معبوداً - هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يخفى فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: " والذين آمنوا أشد حباً لله " وقوله: " يحبهم ويحبونه " وقوله: " أحب إليكم من الله ورسوله " وقوله: " إن الله يحب المتقين، يحب المحسنين، يحب التوابين ويحب المتطهرين ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن   (1) كذا في الأصل فإن لم يكن محرفا فهو تصغير لاحد: اسم فاعل من لحد الثلاثي وهو بمعنى ألحد؟ (2) كذا في الأصل فهجر لفظها ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يلقى في النار "، وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام، وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط قال: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيراً لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة - قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم - فإن الغير موجود والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض (1) . وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ولو أنصف الناس ما رأوا عابداً ولا معبوداً - كلا المقدمتين باطل فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو "، والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه فقد وحد نفسه بنفسه كقوله: " وإلهكم إله واحد " وقوله: " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد، فاعلم أنه لا إله إلا الله " وأمثال ذلك، وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابداً ولا معبوداً - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد   (1) لم يذكر عن ابن الفارض هنا شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 كلام متناقض فإنه إذا لم يكن عابد ولا معبود بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه: الفقير إذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله، وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم لأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وينكح وينكح وأنه موصوف بكل نقص وعيب لأن ذلك هو الكمال عندهم كما قال في الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وقال: لا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد كما أن صفات العبد من أولها إلى صفات لله تعالى. هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابداً ولا معبوداً يعاملك بموجب مذهبك فيضرب ويوجع ويهان ويصفع ويظلم فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى وقيل له ما ثم غير ولا عابد ولا معبود فلم يفعل بك هذا غيرك بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه قيل له: فقل أيضاً عبد نفسه، فإذا أثبت ظالماً أو مظلوماً وهماً واحد فأثبت عابداً ومعبوداً وهما واحد. ثم يقال له هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح وهذا الذي شبع وروى هو نفس هذا الذي جاع وعطش فإن اعترف بأنه غيره أثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المغايرة وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا فبين العابد والمعبود أولى وأحرى وإن قال هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية فإن هذا القول من أقبح السفسطة فيقال إذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه، والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: " ربنا ظلمنا أنفسنا " لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء لكن جهة أمرها ليس جهة فعلها بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظلم ذاك ليس هو إياه وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه، وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وأظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى يفضلهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال: ولكن يعلم بذلك أن الضلال حد له، وإنه إذا كررت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق في نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب، بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد الملحدين الذين يفسدون الدنيا والدين والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة من قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عباده ويعفو عن السيئات ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " وهذه الآية عامة مطلقة لأنها للتائبين وأما قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فإنها مقيدة خاصة لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى. والحكاية المذكورة عن الذي قال إنه التقم العالم كله وأراد أن يقول أنا الحق وأختها التي قيل فيها إن الإلهية لا يدعها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق الله - هو من هذا الباب، والفقير الذي قال ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إلى مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ويدعون أنهم (1) من موسى وأمثاله حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ودعاه إلى هذا القول وزينه له فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم وإن قولهم من جنس قول فرعون فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال: نعم ونحن على قول   (1) سقط من هنا كلمة أعرف أو أعلم أو أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولم؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون، فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً صادقاً، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود. فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل والواجب إنكارها فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون لا سيما وأقوال هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: " جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم " والنفاق إذا عظم كان صاحبه شراً من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار. وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحاً فإن ما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها (1) وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضاً وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه   (1) المنار: في الكلام تحريف وسقط والمعنى المفهوم من القرينة أنها - إنما يصح أن تحمل على معنى صحيح تحتمله اللغة إذا لم يعرف مقصود صاحبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سراق وخونة، فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سبباً لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمناً ولياً لله فيصير منافقاً عدواً لله. ولقد ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى قبرص، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى وهؤلاء يجعلوننا شراً من النصارى، والأمر كما قاله هذا القائل. وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم فمنهم من دخل في اتحادهم وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين، وأهل الكتاب، ظاناً أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب والله أعلم. انتهت الرسالة. (المنار) أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه أخونا في الله الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى، وهي منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة كثيرة الغلط والتحريف والسقط أنه أجتهد في تصحيحها ما استطاع. ونقول أننا أجتهدنا بعده فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض ما تيسر في الحواشي وعلى بعض آخر بعلامة الإستفهام (؟) بجانبه. ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومها، فنسأله تعالى أن يثيب الجميع – المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر بفضله وكرمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية وهي من أعظم ما تصدى له وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله روحه من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء السنة، ومحاربة البدعة، بعد أن أهمل ذلك الحكام فالعلماء ففشت البدع وصار كثير منها يعد من شعائر الدين، أو خصائص الصالحين، فكان رحمه الله من أعظم المجددين، قال: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً دائماً إلى يوم الدين. أما بعد، فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الإطلاع عليه، فإن من كان غائباً عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق الشيخ أحمد بن الرفاعي وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم، وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والأعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس وإظهار المخارق (1) الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي   (1) أطلقوا اسم المخارق والمخاريق على الخوارق المفتعلة بالحيل والتلبيس والشعوذة وهي في أصل اللغة ضرب من لعب الصبيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك. وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق وكان له صنم يعبده قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه، فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت: نعم، فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر، فاستعظم التتري ذلك وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك، فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك، ذلك التتري كافر مشرك ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك (1) وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض، فأعجب هذا المثل من كان حاضراً. وقلت لهم في مجلس آخر لما قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن عملتوها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم   (1) لعل ذلك الشيطان من شياطين الإنس كان يأكل من الطعام في غفلة من ذلك الأمير الخرافي ويوهمه أن الضم أكله لمصلحة له في التلبيس عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ذلك فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش من الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك، فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا (1) ، فقلت: همتي ليست معكم بل أنا معارض لكم مانع لكم لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا، فانقلبوا صاغرين. فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم (2) وهو وأتباعه معروفون بأمور وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة وديناً يوهمون به الناس إن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم، أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت: هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم (3) ، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله تعالى لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي صلى الله تعالى   (1) أراد بهذا رشوة شيخ الإسلام بمشاركته في هذا الجاه الباطل على حد (ودوا لو تدهن فيدهنون) (2) رأيت مثل هؤلاء في الهند من متصوفة الشرك (3) أي يقتدي بسيرتهم لموافقتها للكتاب والسنة كالجنيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 عليه وسلم رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: " ما لي أرى عليك حلية أهل النار " (1) وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره " أحب القيد وأكره الغل القيد ثبات في الدين " فإذا كان مكروهاً في المنام فكيف في اليقظة (2) . فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من كلام أو نحواً منه مع زيادة وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقاً إلى الله وسبباً لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيراً عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعاراً للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به وهو أن المباحثات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها   (1) رواه النسائي وله تتمة (2) أصل الحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم وبعده: فلا أدري هو هو في الحديث أم قاله ابن سيرين أهـ أي رواية عن أبي هريرة وفي رواية له اسناده إلى أبي هريرة وليس في رواية البخاري له شيء من الشك المذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه (1) فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة (2) ، ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين وعهود أهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتعلة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإتباع الكتاب والسنة إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل أنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا   (1) بل جعله من الشرك أو الكفر المتعدي الذي هو أضر من الشرك كما بيناه في تفسير (وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وغيره راجع ص 398 - 404 من جزء التفسير الثامن وكذا ص 143 و 147 و164 و 181 منه (2) لعله سقط من هنا: طاعة وعبادة منصوبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال أنه قربة وطاعة فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل، وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه بل يقال إنه جائز (1) لا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما وبالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي سيئات. فصل: فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر ذلك الشيخ المسجد الجامع وكان قد كتب إلي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب   (1) سقط جواب إذا من الناسخ ومعناه أنهم يرون جواز جعله قربة وعبادة. وهذا مثار كثير من البدع المحدثة. وذكر لي بعض علماء الأزهر في هذه الأيام أن بعض كبار علمائه كانوا يتكلمون فيما ينكره الوهابية من بدع القبور وغيرها ويستحسنون ذلك فقال بعضهم منكرا ولكنهم منعوا أن يستشفع بأصحابها الصالحين فقال له شيخ الأزهر (الأستاذ أبو الفضل الجيزاوي) هذا هو الشرع. فقال المنكر ما دليله؟ فقال الشيخ إنما يطلب الدليل على الإذن به لا على المنع، فدل هذا على أن الشيخ أيد الله به السنة أعلمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وآثار وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب، فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغيرها هدى من الله " ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون وفيهم شبه قوي من النصارى الذي قال الله تعالى فيهم " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل " ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب، فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونتفق على إتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلباً للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج، والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وإظهار التوله الذي يخيلوا (1) به على الردى وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال. فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل لهم هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضراً أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا (2) ، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم، وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسألك معهم ألا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت   (1) كذا ولعل أصله تحيلوا أي اتخذوا الحيل وسيلة للجاه فساقتهم إلى الردى ذلك بأن أفعالهم التي كرها ولباسهم وأغلالهم لها تأثير عظيم في قلوب العوام وأصحاب الأوهام (2) هذه كلمة باطلة قالها بعض الفقهاء المغرورين بالدجل فاتخذها الدجاجلة أصلا شرعيا وحكما إلهيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من إتباع الشريعة والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة، وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله، وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق. ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع (1) وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وأنه تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء. وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة ثم إلى الإشراك ثم إلى جحود الحق تعالى، ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.   (1) لعل أصله الأمير المطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحداً للإسعاد، لكن ذهب أيضاً بعض من كان حاضراً من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والإفتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقاً لا يعرفها أحد من العلماء، وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم ما هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقاً وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل. قال المخبر فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعاً من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول لي مرة ثانية فبلغه أنا في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وإتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم مجهزين لمن يعينهم في حضورهم فلما حضرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للإطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق ناراً ويلبسوها فقلت هذا من البهتان. وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحداً بأن يدخل ناراً ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما وقد لبسوا أيضاً على الملك العادل كتفاً في ملكه وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جمع تلبيسهم على الأيدمري وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له أمرهم. قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته وقالوا أنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماه يخبره بصورة ما جرى. وذكرت للأمير انهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الغلال ونحوها وأنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه فذكرت حديث العرباض بن سارية وحديث جابر بن عبد الله وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره. قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك ويقولون لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع فليس لهم أن يعترضوا علينا بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوباً، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون أجسامهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار وقال: أتقبل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداءً فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيد الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى السحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال اليوم ترى حرباً عظيماً ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل. وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق؛ وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظناً حسناً والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: " واقصد في مشيك واغضض من صوتك " فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم وحضر شيخهم الأول المشتكي وشيخ آخر يسمى نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين وهم يسمونه عبد الله الكذاب ولم أكن أعرف ذلك وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني فبقي في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك كان اجتمع بي قديماً فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه، فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمون طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة فقلت: أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى: " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى: " نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم " فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق وذكر أن وهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ابن منبه أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعله في عنقه طوقاً في حكاية من حكايات بين إسرائيل لا تثبت، فقلت: لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: " أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ". وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئاً من كتب أهل الكتاب فقال: " كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم " وأنزل الله تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " فنحن لا يجوز لنا إتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: " وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا نتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعاً ومنهاجاً " فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها وما علينا من عباد بني إسرائيل " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية، فقلت: له هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك. وقلت: ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر فإني تكلمت بكلام بعد عهدي به فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمراً لا يقف (1) عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا، فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه. فقال ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل   (1) وفي نسخة لا يقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع وقشر النارنج وحجر الطلق، فضج الناس بذلك فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت، فقلت: فقم، وأخذت أحرز (1) عليه في القيام إلى ذلك فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو يقال حزمة حطب، فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أن وجهه اصفر. ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع ولا على إبطال الشرع فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم (2) ، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون   (1) كذا في الأصل ولعله أصر عليه في القيام (2) كذا في الأصل وفي رواية مسلم في حديث الدجال قال فيقول أتؤمن بي قال فيقول أنت المسيح الكذاب قال فيؤمر به فيؤشر بالمنشار من فرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوى قائما قال ثم يقول له أتؤمن بي فيقول ما أزددت فيك إلا بصيرة قال ثم يقول يا أيها الناس إنه لا يفعل بعد بأي حد من الناس الحديث أهـ من حاشية الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب. وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي. وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا - يعني الليث بن سعد - قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان ويتكلمون بأشياء لا أضبطها. فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " وذكروا أيضاً أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهماً. فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب إنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم، فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم وتبين للأمراء الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال وعرفوا حقيقة المحال وقمنا إلى داخل ودخلنا وقد طلبوا التوبة عما مضى وسألني الأمير عما يطلب منهم فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن يعتقد (1) أنه لا يجب عليه إتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك أو أنه يجوز إتباع طريقة تخالف بعض حكمها ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه. فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق، نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئاً معيناً وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى تعالى الله عليه وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عاماً ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس فإن هذا مشهد عام مشهور وقد توفرت الهمم عليه فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.   (1) الأمثلة الثلاثة التي ذكرها هي لعدم متابعة الكتاب والسنة لا لمتابعتها المطلوبة فلعله قد سقط من هذا الموضوع جملة مضمونها: والرجوع عما يخالفها مثل كذا وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها (إياك نعبد وإياك نستعين) وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب ولم يأمره بإعادة الصلاة وكذلك يصيحون في الصلاة صياحاً عظيماً وهذا منكر يبطل الصلاة. (فقال) هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس (فقلت) العطاس من الله والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى مثل قول أحدهم أنا على بطن امرأة الإمام وقول الآخر كذا وكذا من الإمام ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالتوبة وأنا أعلم أنهم متولين (1) شياطين ليسوا مغلوبين على ذلك كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها. فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت) له أهذا موافق للكتاب   (1) كذا في الأصل ومقتضى الإعراب متولون إلا أن يكون حذف من الكلام شيء فيه ناصب لقوله متولين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والسنة؟ (فقال) هذا من الله حال يرد عليهم (فقلت) هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به تعالى ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحبه الله ولا رسوله (فقال) ما في السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته (فقلت) له هذا من باب القضاء والقدر وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته وليس ذلك بحجة لأحد في فعله بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن. (فقال) فبأي شيء تبطل هذه الأحوال (فقلت) بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك وقال أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكت سيف الأمير وقلت هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله وأعاد الأمير هذا الكلام وأخذ بعضهم يقول فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ (فقلت) اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم والمبتدع لا يقر على بدعته فافحموا لذلك وحقيقة الأمر أن من أظهر منكراً في دار الإسلام لم يقر على ذلك فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر ولا يقر من أظهر الفجور وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلماً أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلماً ولا ذميا فهو إما مرتد وإما مشرك وإما زنديق ظاهر الزندقة وذكرت ذم المبتدعة فقلت روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته "إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها (1) وكل بدعة ضلالة" وفي السنن عن العرباض بن سارية قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كان هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال "أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم نسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" وفي رواية (2) " وكل ضلالة في النار" (فقال) لي البدعة مثل الزنا وروى حديثا في ذم الزنا (فقلت) هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والزنا معصية والبدعة شر من المعصية كما قال سفيان الثوري البدعة أحب إلى إبليس من المعصية فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. وكان قد (قال) بعضهم نحن نتوب الناس (فقلت) مماذا تتوبنهم؟ قال من قطع الطريق والسرقة ونحوذلك (فقلت) حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم فإنهم كانوا فساقا يعتقدون تحريم ماهم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين. مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه الشريعة التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي   (1) المنار: لفظ مسلم فإن خير الحديث كتاب الله الخ (2) هذه الزيادة ليست في السنن فذكر شيخ الإسلام وحافظ السنة لها غريب، وكأنه أراد بها زيادة الترهيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قلت مخاطباً للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر ابن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حماراً وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان كلما أتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنته. وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود وقال ما قال، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وفي رواية: " لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل " وفي رواية " شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه " قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى من هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام وإنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر. أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكراً بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب العزيز وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة (1) تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم ويقول أصحابهم: إن لهم سراً مع الله فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم " فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون ". ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام   (1) كذا في الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين أحمد الشهير بابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه ورضي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة ومسائل أخرى فشت فيهم بسم الله الرحمن الرحيم مسألة: سئلها الشيخ الإمام العالم العلامة، إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان، مفتي الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين: في جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظاً لا تليق بالعقل والدين فمنها أنهم يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبس علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لباس الفتوة ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون إن اللباس أنزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صندوق ويستدلون عليه بقوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم " الآية - فهل كما زعموا أم كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين، فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي يسمون بها بعضهم بعضاً من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا؟ وإذا قيل لا يجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟ وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا؟ مع إمكانه من الإنكار (1) وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟ وهل خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس لولاك ما خلق الله عرشاً ولا كرسياً ولا أرضاً ولا سماءً ولا شمساً ولا قمراً ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟ وهل الأخوة التي يؤاخيها المشايخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطاً شافياً مأجورين أثابكم الله تعالى. لباس خرقة الفتوة مبتدع: الجواب: الحمد لله أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة والسراويل أو غيره وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له ولم يفعل هذا رسول الله   (1) الوجه أن يقال تمكنه بدل امكانه فلعله محرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه لا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين لهم بإحسان، والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمراً من الأمور التي لا تعرف عنه فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه، فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وإنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضاً كذب باتفاق أهل المعرفة فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك ولا قسمه على أصحابه وكل ما يروى من ذلك مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فصل: شروط لباس خرقة الفتوة: والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد أو كانت مستحبة كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية إن كلاً منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله (1) وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " رواه البخاري. وفي السنن عنه أنه قال: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان   (1) سقط من الأصل أول الحديث من هنا إلى قوله كتاب الله فنقلناه من صحيح البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: " واوفوا بعهدي اوف بعهدكم " وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان كعقد البيع والإجارة والهبة وغيرهما أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئاً مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلاً. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقوداً أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه. فصل: الفتى والفتوة والزعيم والحزب والدسكرة وما قالوه فيها: وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: " إنهم فتية آمنوا بربهم ". وقوله تعالى: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ". ومنه قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه " لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق كقول بعضهم: طريقنا نتفتى وليس بتقوى، وقول بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظماً، ومودة لا مضارة، قول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء كلفظ الإحسان والرحمة والعفو والصفح والحلم وكظم الغيظ والبر والصدقة والزكاة والخير ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة ونحو ذلك. وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: " ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك. وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمراً بالجماعة والائتلاف، ونهياً عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمه وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ". وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: " تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ". وفي الصحيح عنه أنه قال: " خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشتمه إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه ويشيعه إذا مات ". وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخواناً ". وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وإن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وإن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " صلاح ذات البين، هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها. وأما لفظة الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث هرقل أنه جمع الروم في دسكرة، ويقال للمجتمعين على شرب الخمر أنهم في دسكرة، فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع (1) على الفواحش والخمر والغناء. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم لكنه من فروض الكفايات فإن قام من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم والأوجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه. فصل: مم خلق النبي صلى الله عليه وسلم وبم تتفاضل المخلوقات: والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر ولم يخلق أحد من البشر من نور بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض   (1) لعله يريد محل الإجتماع المذكور ويمكن أن يكونوا توسعوا فيه فأطلقوه على الإجتماع نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 باعتبار ما خلقت منه فقط بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين فلما سواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء، وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك، فهو وصالحوا ذريته أفضل من الملائكة وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء من نور، وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع فإن فضل بني آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " والآدمي خلق من نطفة ثم من مضغة ثم من علقة ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذي تشابه أول أمره وآخره، ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال. وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحي الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات، فخلق بدنه من الأرض وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال هو العالم الصغير وهو نسخة العالم الكبير ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال إن الله من أجله العالم، أو إنه لولا هو لما خلق عرشاً ولا كرسياً ولا سماءً ولا أرضاً ولا شمساً ولا قمراً، لكن ليس هذا حديثاً عن النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تعالى عليه وسلم لا صحيحاً ولا ضعيفاً ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يدرى قائله، ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: " سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة " وقوله (1) : " الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا الله لا تحصوها " وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبني آدم ومعلوم أن لله فيها حكماً عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك، لكن يبين لبني آدم ما فيها من المنفع وما أسبغ عليهم من النعمة، فإذا قيل فعل كذا لكذا لم يقتض أن لا يكون فيه حكمة أخرى وكذلك قول القائل لولا كذا ما خلق كذا، لا يقتضي أن لا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضي إذا كان أفضل صالحي بني آدم وأفضلهم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة من غيره، وصار تمام الخلق، ونهاية الكمال به حصل لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم (2) والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة. وسيد ولد آدم هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم آدم فمن دونه تحت لوائه قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم   (1) كان قد سقط من الأصل آخر الآية السابقة وأول الآية اللاحقة (2) كذا في الأصل ولا يخلو من سقط وتحريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لمنجدل في طينته " أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها هو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقاً، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال أنه لأجله حلقت جميعها، وإنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك. وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية كان ذلك مردوداً غير مقبول فقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " وقد قال تعالى: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد " والله قد جعل له حقاً لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، إن كل من في السموات والأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إلا آتي الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ". وقال تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله: " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " فالإيتاء لله والرسول، وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده. فصل: وأما المؤاخاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فصاروا يتوارثون بالقرابة وفي ذلك أنزل الله تعالى: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " وهذا هو المحالفة واختلف العلماء عل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلى شدة ". والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه. وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال أنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى علياً ونحو ذلك فهذا كله باطل وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 بمكة وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة وذلك نقل ضعيف إما منقطع وإما بإسناد ضعيف والذي في الصحيح هو ما تقدم ومن تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب. وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: " إنما المؤمنين أخوة " وقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه " وقوله: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه " وقوله: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه " ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال: إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع. ومن قال إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع. وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه ونحو ذلك، فهذه كلها شروط باطلة فإن الأمر يومئذ لله، هو " يوم لا تملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 نفس لنفس شيئاً " وكما قال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ". وكذلك يشترطون شروطاً من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها وما أعلم أحداً ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المال وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك - وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية الحراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى العارف بالله الشيخ نصر المنبجي قال الراوي: كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره، وفريد عصره، علامة زمانه ناصر السنة مؤيد الشريعة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني فسح الله تعالى في مدته وأعاد علينا من بركته إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة. بسم الله الرحمن الرحيم: من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر، فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته. أما بعد فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً منزلة عليه، ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والعبادة وقد بعث الله محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله هي أصل الأعمال، المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله " وقال تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال افترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ". ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقاً بمحبة الله ورسوله الفاضلة وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد الإيمان. وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً " فجعل ذوق طعم الإيمان معلقاً بالرضى بهذه الأصول كما جعل الوجد معلقاً بالمحبة ليفرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين الذوق والوجد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئاً فله ذوق بحسب محبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ". قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله فطالبهم بهذه الآية فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده، وقد ذكرت نعت المحبين في قوله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت لله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال المفرق في الملتين، قلنا وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم: مشرد عن الوطن، مبعد عن السكن، يبكي الطلول والدمن، يهوى ولا يدري لمن. فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة، عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضاً في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد وواجبة في كل صلاة أن يقول: " إياك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 نعبد وإياك نستعين " وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: " الرحمن الرحمين " قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال: مجدني عبدي، أو قال فوض إلي عبدي، وإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ". ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن ومعاني القرآن في المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب في هاتين الكلمتين " إياك نعبد وإياك نستعين " وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله: " فاعبده وتوكل عليه " وفي مثل قوله: " عليه توكلت وإليه أنيب " وقوله: " عليه توكلت وإليه متاب ". وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في نسكه: " اللهم هذا منك وإليك " فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر. ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب فيقول المصلي والذاكر الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، وكلمات الآذان: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك. وفي السؤال: " ربنا ظلمنا أنفسنا - رب اغفر لي ولوالدي - رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين - رب ظلمت نفسي فاغفر لي "، " ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " ونحو ذلك، وكثير من المتوجهين السالكين يشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 في سلوكه الربوبية والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق من الأعيان والصفات، وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستعيذ بها فيقول: " أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن " فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوبه وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " ومن أخذ بالثاني دون الأول فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع الكائنات كما تقول المعتزلة والرافضة ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة، والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدو وغيرهم فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود (1) .   (1) الظاهر أن البدود جمع بد بالضم وذكروا أن جمعه بددة وابداد وبوت بالفارسية الضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً له. وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية (1) ، أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع الله بقدر الله كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض " وفي الترمذي قيل: يا رسول الله؟ أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: " هن من قدر الله " (2) وإلى هذين المعنيين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " يقول الله يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي. فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت الناس بما تحب أن يؤتوه إليك ". ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه ثلاث مقامات: أحدها مقاما الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات. والثاني مقام الجمع والفناء بحيث يغيب بمشهوده   (1) كذا ولعل أصله الشريعة المحمدية (2) ومنه أثر عمر في الطاعون: نفر من قدر الله إلى قدر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين. وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته، ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ونافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضاً فعل المأمورات مع كثرتها وترك الشبهات (1) مع كثرتها لله وحده لا شريك له. وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية وإليه الإشارة بقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " وبقوله: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ " وبقوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ولهذا ترجم البخاري عليه: " باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد ". وقد قال تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فجمع في الملل الأربع: " من آمن بالله واليوم   (1) لعلها المشبهات فإنها أعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الآخر وعمل صالحاً " وذلك قبل النسخ والتبديل وخص في أول الآية المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً " والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية، هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين. فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم " خير أمة أخرجت للناس " وبها أنزلت السور المدنية إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع وسنت السنن ونزلت الأحكام والفرائض والحدود فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز فقد يقول في تلك الحال سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكر أن تطوى ولا تروى ولا تؤدى إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه. فأما إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات، وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي. فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي " ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: " لوجدت ذلك عندي " ولم يقل لوجدتني قد أكلته ولقوله: " لوجدتني عنده " ولم يقل لوجدتني إياه وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر ويأمر بما يأمر به ويبغض ما يبغضه ويكره ما يكرهه وينهى عما ينهى عنه. وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولهذا قال تعالى فيه: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " وقال: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " وقال: " من يطع الرسول فقد أطاع الله ". وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها كقوله: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي. ونحو ذلك وبها ضلت النصارى حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وناظروه في المسيح. وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه. وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل وإن قرب الفرائض أن يكون هو إياه فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل، فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية أتباع الأنبياء والمرسلين. وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء ولم يكن القصد به والله واحداً بعينه وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم وقد كتبت في ذلك كتاباً ربما يرسل إلى الشيخ وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليماً لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق وتهتك أستارها ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن المقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: " إنا أرسلنا شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً " وقال سبحانه: " قل هذه سبلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ". وقال تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور " وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيداً وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق، وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات والكنة والمحكم المربوط والدرة الفاخرة ومطالع النجوم ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان، وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وطلب أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم والشيخ أيده الله تعالى بنور قلبه وذكاء نفسه وحق قصده من نصحه للإسلام وأهله ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة. هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 دولة التتار وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين وذلك أن القسمة رباعية فإن كل واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق، أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية. وأما الحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرون بذلك. وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وإن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره ولا أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاثة طرق وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم: الأول أن يقولوا إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات فوجودها وجود الحق وذواتها ليست ذوات الحق، ويفرقون بين الوجود والثبوت فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، ويقولون إن الله سبحانه لم يعط أحداً شيئاً ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أغنى أحداً ولا أسعده ولا أشقاه وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، ويقولون إن هذا هو سر القدر وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجاً عن نفسه المقدسة، ويقولون إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وإنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وإنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل، ويقولون إنهم لم يعبدوا غير الله ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وإن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه، وإن قوله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " معنى حكم لا معنى أمر فما عبد غير الله في كل معبود فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع، ويقولون إن الدعوة إلى الله تعالى المكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وإن قوم نوح قالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً " لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم، لأن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه وينكره من أنكره وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وإن العارف منهم يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد، فإن الجاهل يقول هذا حجر وشجر، والعارف يقول هذا محل إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وإن عباد الأصنام ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء، والله يعبد أيضاً كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وهو خليل كل شيء بهذا المعنى ويجعلون أسماء الله الحسنى وهي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أموراً عدمية، ويقولون: من أسمائه الحسنى العلي عن ماذا وما ثم إلا هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو، وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع. وإن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه، وإن موسى كان أوسع في العلم فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وإن أعلى ما عبد الهوى، وإن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله، وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله أنا ربكم الأعلى، وفي قوله: ما علمت لكم من إله غيري، وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون (1) ، وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي   (1) كذا في الأصل ويراجع في رسالة ابطال وحدة الوجود (ص 117) من مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار (1) أن جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين بل جميع عوام أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين يبرؤون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله، ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور - الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور - ربهم ورب آبائهم الأولين - رب المشرق والمغرب. ولا يقول أحد منهم أنه عين المخلوقات، ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى أنهم يقولون لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين: أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر: كفر من يقول بهذا وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وإنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن ظلم الله تعالى فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة   (1) كذا في الأصل وفيه ما ترى والمعنى أن ما في كتاب الفصوص من أمثال ما ذكر يفهم كل مسلم أنه مخالف لدين الله على ألسنة جميع رسله وأنه مما يتبرأ منه عوام جميع الملل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " فذكر المراتب الأربع وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي، وبين أن الله تعالى علمه، ولهذا ذكر أن التعليم بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة وهذا القول - أعني قول من يقول: إن المعدوم شيء ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته واضحة لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن العربي وافق أصحابه به وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص. والأصل الثاني: أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام وأحسن كلاماً في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله. وأما صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفاً فهو أبعد عن الشريعة والإسلام، ولهذا كان الفاجر التلمساني الملقب بالعفيف يقول: كان شيخي القديم متروحناً متفلسفاً والآخر يقول متفلسفاً متروحناً - يعني الصدر الرومي - فإنه كان قد أخذ عنه ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والوجود (1) وغيره يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقاً لا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة. فحقيقة قوله أنه ليس لله سبحانه وجود أصلاً ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات، ولهذا يقول هو وشيخه أن الله تعالى لا يرى أصلاً، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده - تعالى الله عما يقولون. وأما الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وإن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوباً فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر، ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول البنت والأم والأجنبية شيء واحد ليس في ذلك حرام علينا وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم، وكان يقول القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له، وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء وشعره في صناعة الشعر جيد ولكنه   (1) قوله: في كتاب الخ القطع غير متجه وكتاب مفتاح غيب الجمع والوجود لصدر الدين الرومي القونوي هذا مراد شيخ الإسلام نقل مشاهد من كفاية هذا على ضلالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني، وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه. وأما ابن سبعين فإنه في البدو والإحاطة يقول أيضاً بوحدة الوجود وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك لكن لم يصرح هل يقول بمثل قول التلمساني أو قول الرومي أو قول ابن العربي وهو إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل التلمساني وآخر يقال له البلباني من مشايخ شيراز ومن شعره: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه وأيضاً: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائقه وأيضاً: وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم وأيضاً: ما بال عيسك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا يني متنقلا فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وأيضاً: ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذم وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع في الحكم وأيضاً: يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي ... عن العيان إلى أوهام أخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته تره المنهي يا جاري وأيضاً: وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري والفضيل ابن عياض ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل وبشر الحافي وعبد الله ابن المبارك وشقيق البلخي ومن لا يحصى كثرة - إلى مثل المتأخرين مثل الجنيد بن محمد القواريري وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي ومن بعدهم - إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين والشيخ عقيل والشيخ أبي الوفاء والشيخ رسلان والشيخ عبد الرحيم والشيخ عبد الله اليونيني والشيخ القرشي وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين. كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم وإن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزءاً من خلقه ولا صفة لخلقه بل هو سبحانه وتعالى مميز بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة الإلهية من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وعليه فطر الله تعالى عباده وعلى ذلك دلت العقول. وكثيراً ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 واندراس شريعة الإسلام وإن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب الذي يزعم أنه هو الله فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم، وأما على رأي صاحب الفصوص فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم، وأما على رأي الرومي فإن بعض المتعينات يكون أكبر، فإن بعض جزئيات الكلي أكبر من بعض، وأما على البقية فالكل أجزاء منه، وبعض الجزء أكبر من بعض، فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين وأكبر الرسل بعد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فموسى قاتل فرعون الذي يدعي الربوبية، ويسلط الله تعالى مسيح الهدى الذي قيل فيه إنه الله تعالى وهو برئ من ذلك على مسيح الضلالة الذي قال إنه الله. ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " إنه أعور (1) " وكونه قال: " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال هذا لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية ظهر سبب دلالة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأمته بهذه العلامة فإنه بعث رحمة لعالمين فإذا كان كثير من الخلق يجوز ظهور   (1) تتمة الحديث " وأن الله ليس بأعور" رواه الشيخان من حديث ابن عمر وهذا لفظ البخاري وهذه الجملة هي محل التعجب الذي حمل ابن الخطيب وهو البحر الرازي على إنكار الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الرب في البشر أو يقول إنه هو البشر كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلاً على انتفاء الإلهية عنه. وقد خاطبني قديماً شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه وجاء إلينا شخص كان يقول إنه خاتم الأولياء فزعم أن الحلاج لما قال أنا الحق كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا الباب. فبينت له فساد هذا وإنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق، وهذا يقوله قوم من الاتحادية لكن أكثرهم لا يفرقون بين الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية، وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله ابن المبارك والبخاري وغيرهما وإنما كانوا يلوحون تلويحاً وقل إن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان. وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية ولكن السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه فإن كثيراً من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه، وهذا كما قال بعض الناس: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً ومتعبدة الجهمية كل شيء، وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 تأله ولا تعبد فهو يصف ربه بصفات العدم والموات. وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد والقلب لا يقصد إلا موجوداً لا معدوماً فيحتاج أن يعبد المخلوقات إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر كالشمس والقمر والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون، ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند وقال إن أرض الإسلام لا تسعه، لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان. وهذا حقيقة قول الاتحادية وأعرف ناساً لهم اشتغال بالفلسفة والكلام وقد تألهوا على طريق هؤلاء الاتحادية فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا: ليس بكذا ليس بكذا ووصفوه بأنه ليس هو رب المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام وإذا صار لأحدهم ذوق ووجد تأله وسلك طريق الاتحادية وقال إنه هو الموجودات كلها فإذا قيل له أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال: ذلك جدي، وهذا ذوقي فيقال لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق لاعتقاد فأحدهما أو كلاهما باطل وإنما الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات فإن علم القلب حاله متلازمان فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال، ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق السابقين الأولين، لسلكوا طريق الهدى ووجدوا برد اليقين وقرة العين فإن الأمر كما قال بعض الناس إن الرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 جاؤوا بإثبات مفصل، ونفي مجمل، والصابئة المعطلة جاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات: " إن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وإنه سميع بصير، وسع كل شيء رحمة وعلماً " وفي النفي " ليس كمثله شيء - ولم يكن له كفواً أحد - هل تعلم له سمياً سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين ". وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيده الله تعالى بالإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه وحسن مقاصده ونور قلبه فإن ما فيه نكت مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ أحسن الله تعالى إليه ما اقتضى الحال أن أذكره - وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم، وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير الذين قال الله سبحانه فيهم: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ". انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بسم الله الرحمن الرحيم السؤال: ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين، في رجلين تباحثا في مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو، فقال أحدهما يجب على أحد معرفة هذا، ولا البحث عنه، ويعتقد أن الله واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه، ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي، فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئاً فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟ أفتونا وابسطوا القول في هذا مأجورين إن شاء الله تعالى. الجواب: الحمد لله رب العالمين يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاء به القرآن أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة، وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 به عن الله، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة، إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال الله تعالى: " ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين ". وفي الجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى تقريره هنا وهو الإقرار بما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما جاء به من القرآن والسنة كما قال تعالى: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ". وقال تعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة " وقال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ". وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ". وقال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ". وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ". ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين، وعن من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كما قال: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ". وما جاء به الرسول إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ومما جاء به الرسول أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى: " وما على الرسول إلا البلاغ المبين ". وقال تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ". وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ". ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئاً، فإن كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة، ومن المعلوم في دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصوم من الكذب فيها، والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله، وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم: " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وقال: " ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به ". وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً. فإذا تبين هذا فقد صح ووجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله تعالى من أسماء وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن والسنة وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السلمي لقد حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان وغيره أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 جميعاً، وقد قام عبد الله بن عمر وهو من أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثماني سنين وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة وهذا معلوم من وجوه: أحدها: أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم لفظاً ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك فإنه لا بد أن يكون راغباً في فهمه وتصور معانيه، فكيف من قرأ كتاب الله تعالى المنزل إليهم الذي به هداهم الله وبه عرفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال والرشاد والغي؟ فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثاً فإنه يرغب في فهمه فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه، بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعرفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعرفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذا اللفظ إنما يراد للمعنى. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله وإتباعه في غير موضع كما قال تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ". وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ". وقال تعالى: " أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ". وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين على تدبره (1) وعلم أن معانيه مما يمكن فهمها ومعرفتها   (1) كذا ولعل أصله مما يمكنهم تدبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فكيف لا يكون ذلك للمؤمنين، وهذا يتبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم. الوجه الثالث: أنه قال تعالى: " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ". وقال تعالى: " إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " فبين أنه أنزله عربياً لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه. الوجه الرابع: أنه ذم من لا يفقهه فقال تعالى: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ". وقال تعالى: " فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً " فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به. الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى وإتباعه فقال تعالى: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ". وقال تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " وقال تعالى: " ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً؟ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " وأمثال ذلك. وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا وقالوا: ماذا قالوا آنفاً؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه. قال تعالى: " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الوجه السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم قرؤوا للتابعين القرآن كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقف عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال سفيان الثوري وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكان ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه (1) من التفسير ما لا يحصيه إلا الله، والتقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها. أسباب الاختلاف في التفسير المأثور: فإن قال قائل قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافاً كثيراً ولو كان ذلك معلوماً عندهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يختلفوا فيقال الاختلاف الثابت عن الصحابة بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه: أحدها: أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه فالمسمى واحد وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الأخر مع أن كلاهما حق بمنزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائه وتسمية القرآن العزيز بأسمائه فقال تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " فإذا قيل الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كل اسم يدل على نعت لله لا يدل عليه الاسم الآخر ومثال هذا من التفسير كلام العلماء في تفسير الصراط المستقيم، فهذا يقول هو الإسلام   (1) ينظر مرجع الضمير في قوله " عنه" فهذان الصحابيان قد أخذا عن النبي (ص) ولا ذكر له قبلة ولعل فيه حذنا يدل عليه كالتصلية بعد عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وهذا يقول هو القرآن أي إتباع القرآن، وهذا يقول السنة والجماعة وهذا يقول طريق العبودية، وهذا يقول طاعة الله ورسوله، ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت. الوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب لا على الحصر والإحاطة كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ الخبز فأري رغيفاً وقيل هذا هو فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه لا إلى ذلك الرغيف خاصة، ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " فالقول الجامع أن الظالم لنفسه: المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، والمقتصد: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، والسابق بالخيرات بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق، ثم إن كلاً منهم يذكر نوعاً من هذا فإن قال قائل الظالم المؤخر للصلاة عن وقتها، والمقتصد المصلي لها في وقتها، والسابق المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل، وقال آخر الظالم لنفسه هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا تمام (1) زكاته، والمقتصد القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة، والسابق الفاعل المستحب بعد الواجب كما فعل الصديق الأكبر حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئاً وقال آخر الظالم لنفسه الذي يصوم عن الطعام لا عن   (1) كذا الأصل ولعله ولا يؤدي تمام زكاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الآثام، والمقتصد الذي يصوم عن الطعام والآثام، والسابق الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى وأمثال ذلك، لم تكن الأقوال (1) متنافية بل كل ذكر نوعاً مما تناولته الآية. الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سبباً ويذكر الآخر سبباً آخر لا ينافي الأول، ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعاً أو نزولها مرتين مرة لهذا ومرة لهذا، وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق ونحو ذلك لا يمنع أن يكون أن يكون أصل هذه السنن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجملها منقولة عنه بالتواتر. وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتكهن من آيات الله والحكمة، وقد قال غير واحد من السلف أن الحكمة هي السنة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " فما ثبت عنه من السنة فعلينا إتباعه سواء قيل إنه من القرآن ولم نفهمه نحن، أو قيل ليس في القرآن، كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان فعلينا أن نتبعهم فيه سواء قيل إنه كان منصوصاً في السنة ولم يبلغنا ذلك أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة. انتهت المقدمة.   (1) جواب فإن قال قائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فصل: فإذا تبين ذلك فوجوب إثبات العلو لله تعالى ونحوه يتبين من وجوه: أحدها أن يقال إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وكلام السابقين والتابعين بل وسائر القرون الثلاثة بما فيه إثبات العلو لله على عرشه بأنواع من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات، تارة يخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع، وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه كقوله تعالى: " بل رفعه الله إليه، إني متوفيك ورافعك إلي، تعرج الملائكة والروح إليه " وقوله: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وتارة يخبر بنزولها منه أو من عنده كقوله تعالى: " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، قل نزله روح القدس من ربك بالحق - حم، تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم - حم، تنزيل من الله العزيز الحكيم " وتارة يخبر بأنه الأعلى والعلي كقوله تعالى: " سبح اسم ربك الأعلى " وقوله " وهو العلي العظيم ". وتارة يخبر بأنه في السماء كقوله تعالى: " أأمنتم من السماء أن يخسف بكم الأرض؟ أأمنتم من في السماء يرسل عليكم حاصباً " فذكر السماء دون الأرض ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها كما ذكر في قوله تعالى: " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ". وقال تعالى: " وهو الله في السموات وفي الأرض ". وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 تأمنونني وأنا أمين من في السماء؟ " وقال للجارية: " أين الله؟ قالت: في السماء، قال: " اعتقها فإنها مؤمنة ". وتارة يجعل بعض الخلق عنده دون بعض ويخبر عمن عنده بالطاعة كقوله: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " فلو كان موجب العناية معنى عاماً كدخولهم تحت قدرته ومشيئته وأمثال ذلك لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبراً عن عبادته، بل مسبحاً له ساجداً وقد قال تعالى: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون داخرين " وهو سبحانه وصف الملائكة بذلك رداً على الكفار والمستكبرين عن عبادته، وأمثال هذا في القرآن لا يحصى إلا بكلفة وأما الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين فلا يحصيها إلا الله تعالى فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه وعلى خلقه هو الحق أو الحق نقيضه إذ الحق لا يخرج عن النقيضين وإما أن يكون نفسه فوق الخلق أو لا يكون فوق الخلق كما تقول الجهمية، ثم تارة يقولون لا فرقهم ولا فيهم، ولا داخل ولا خارج ولا مباين ولا محايث، وتارة يقولون هو بذاته في كل مكان وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه. فإما أن يكون الحق إثبات ذلك أو نفيه، فإن كان نفي ذلك هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط لا نصاً ولا ظاهراً، ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم ولا يمكن أحداً أن ينقل عن واحد من هؤلاء إنه نفي ذلك أو أخبر به، وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء فأكثر من أن يحصى أو يحصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فإن كان الحق النفي دون الإثبات - والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلاً - لزم أن يكون للرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل إما نصاً وإما ظاهراً على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب. ومعلوم أن من اعتقد هذا في الرسول والمؤمنين فله أوفر حظ من قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ". فإن القائل إذا قال هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها، أو خلاف ما دلت عليه، أو إنه لم يرد إثبات علو الله نفسه على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة، ونحو ذلك كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، فيقال له فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق به باطناً وظاهراً بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه، فإن غاية ما يقدر إنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة، والباطن المخالف للظاهر، ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد لا سيما إذا كان باطلاً لا يجوز اعتقاده في الله، فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفاً عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل، فإذا لم يكن في الكتاب ولا السنة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلاً، بل هم دائماً لا يتكلمون إلا بالإثبات، امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات، وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه، وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه، وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه لكن للجهمية المتكلمة هنا كلام وللجهمية المتفلسفة كلام. مذاهب متفلسفة القرامطة في الصفات: أما المتفلسفة القرامطة فيقولون: إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون، وربما يقولون أنهم كذبوا لأجل مصلحة العامة فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات، وإن كان في نفس الأمر باطلاً، وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة والكفر الواضح قول متناقض في نفسه، فإنه يقال لو كان الأمر كما تقولون والرسل من جنس رؤسائكم، لكان خواص الرسل يطلعون على ذلك، ولكانوا يطلعون خواصهم على هذا الأمر، فكان يكون النفي مذهب خاصة الأمة وأكملها عقلاً وعلماً ومعرفة، والأمر بالعكس، فإن من تأمل كلام السلف والأئمة وجد أعلم الأمة عند الأمة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي بن كعب وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأمثالهم هم أعظم الخلق إثباتاً، وكذلك أفضل التابعين مثل سعيد بن المسيب وأمثاله والحسن البصري وأمثاله وعلي بن الحسين وأمثاله وأصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس وهم من أجل التابعين، بل النقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عن هؤلاء في الإثبات يجبن عن إظهاره كثير من الناس، وعلى ذلك تأول يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أو إسماعيل الأنصاري ما يروى أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات، لأن ذلك ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين والتابعين لهم بإحسان، بخلاف النفي فإنه لا يؤخذ عنهم، ولا يمكن حمله عليه. وقد جمع علماء الحديث من النقول عن السلف في الإثبات ما لا يحصي عدده إلا رب السموات ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد إلا أن يكون من الأحاديث المختلفة التي ينقلها من هو أبعد الناس عن معرفة كلامهم. ومن هؤلاء من يتمسك بمجملات سمعها، بعضها كذب وبعضها صدق، مثل ما ينقلونه عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما، فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر، وبتقدير صدقه فهو مجمل، فإذا قال أهل الإثبات كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل عنهما كان أولى من قول النفاة أنهما يتكلمان بالنفي، وكذلك حديث جراب أبي هريرة لما قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم - فإذن هذا حديث صحيح لكنه مجمل قد جاء مفسراً أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن، ولو قدر أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي بل الثابت المحفوظ من أحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أبي هريرة كحديث إتيانه يوم القيامة وحديث النزول والضحك وأمثال ذلك كلها على الإثبات، ولم ينقل عن أبي هريرة حرف واحد في النفي من جنس قول النفاة. مذهب الجهمية في الصفات: وأما الجهمية المتكلمة فيقولون أن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب هو العقل، فاكتفى بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة: فيقال لهم أولاً: فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم، كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال، ولم ينصب لهم أسباب الهدى، وأحالهم في الهدى على نفوسهم، فيلزم على قولهم إن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم بل ضرتهم. ويقال لهم ثانياً: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة، مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو ذلك من الأمور التي تعلم بالعقل أعظم مما يعلم نفي الجهمية، وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات، فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق، وكلامه لم يدل عليه بل دل على نقيضه وضده ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول. والمراتب ثلاث، إما أن يتكلم بالهدى أو بالضلال أو يسكت عنهما، ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل، وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم يسكت عنه بل بينه، وكان ما جاء به السمع موافقاً للعقل، فكان الواجب فيما ينفيه العقل، أن يتكلم فيه بالنفي كما فعل فيما يثبته العقل، وإذا لم يفعل ذلك كان السكون عنه أسلم للأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات، وأراد منهم أن لا يعتقدوا إلا النفي، لكون مجرد عقولهم تعرفهم به فإضافة هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أبواب الزندقة والنفاق. ويقال لهم ثالثاً: من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول، وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلاً، وقد بسطنا هذا في مواضع بينا فيها أم ما يذكرون من المعقول المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما جهل وضلال تقلده متأخروهم عن متقدميهم، وسموا ذلك عقليات، إنما هي جهليات، ومن طلب من تحقيق ما قاله أئمة الضلال بالمعقول لم يرجع إلا إلى مجرد تقليدهم، فهم يكفرون بالشرع ويخالفون العقل تقليداً لمن توهموا إنه عالم بالعقليات، وهم مع أئمتهم الضلال كقوم فرعون معه، حيث قال: " فاستخف قومه فأطاعوه " قال تعالى عنه: " فاستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين " وفرعون هو إمام النفاة ولهذا صرح محققوا النفاة بأنهم على قوله، كما يصرح به الاتحادية من الجهمية من النفاة، إذ هو الذي أنكر العلو وكذب موسى فيه وأنكر تكليم الله لموسى قال تعالى: " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات والأرض فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً " والله تعالى قد أخبر عن فرعون أنه أنكر الصانع وقال " وما رب العالمين " وطلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 موسى أخبره أن إلهه فوق لم يقصد ذلك، فإنه هو لم يكن مقراً به، فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه الصلاة والسلام، فلا يقصد الإطلاع ولا يحصل به ما قصده من التلبيس على قومه، بأنه صعد إلى إله موسى، ولكان صعوده إليه كنزوله إلى الآبار والأنهار، وكان ذلك أهون عليه، فلا يحتاج إلى تكليف الصرح. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه عرج به ليلة الإسراء ووجد في السماء الأولى آدم عليه السلام وفي الثانية يحيى وعيسى ثم في الثالثة يوسف ثم في الرابعة إدريس ثم في الخامسة هارون ثم وجد موسى (1) ثم عرج إلى ربه وفرض عليه خمسين صلاة ثم رجع إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأل التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: " فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف لأمتي " وذكر أنه رجع إلى موسى ثم رجع إلى ربه مراراً فصدق موسى في أن ربه فوق السموات وفرعون كذب موسى في ذلك والجهمية النفاة موافقون لآل فرعون أئمة الضلال، وأهل السنة والإثبات موافقون لآل إبراهيم أئمة الهدى وقال تعالى: " ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا خاشعين " وموسى ومحمد من آل إبراهيم بل هم سادات آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين.   (1) الظاهر أنه سقط من هذا الموضع أنه وجد موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الوجه الثاني: في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، وعلو الله على السموات أن يقال: من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين وأتم النعمة وأن الله أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء وأن معرفة ما يستحقه الله وما تنزه عنه هو من أجل أمور الدين وأعظم أصوله وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء فكيف يجوز أن يكون هذا الباب لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون في هذا الباب؟ وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على البيضاء ولا يدرون بماذا يعرفون ربهم أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟. الثالث: أن يقال كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق منه، وهم ليلاً ونهاراً يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعاً وخيفة ورغباً ورهباً، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم، فهذا ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضاً، وقد سألوه عما هو دون هذا سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم، وسأله أبو رزين: أيضحك ربنا؟ فقال: " نعم "، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. ثم إنهم لما سألوه عن الرؤية قال: " إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر " فشبه الرؤية بالرؤية، والنفاة لا يقولون: يرى كما ترى الشمس والقمر بل قولهم الحقيقي أنه لا يرى بحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم فسر الرؤية بمزيد علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر. والمقصود هنا أنهم لا بد أن يسألوا عن ربهم الذي يعبدونه - إن كان ما تقوله الجهمية حقاً - وإذا سألوه فلا بد أن يجيبهم، ومن المعلوم بالاضطرار أن تقوله الجهمية النفاة لم ينقله عنه أحد من أهل التبليغ عنه وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول أهل الإثبات. الوجه الرابع: أن يقال إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحداً منهما، فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول النفاة وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وإنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إلى الله وإنما عرج به إلى السموات فقط لا إلى الله، فإن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته، وإن الله لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، وأمثال ذلك وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها أجمال وإبهام وإيهام كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص، ومقصدهم هم أنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله يعبد، ولا عرج بالرسول إلى الله، وإنما المقصود أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي فالصحابة والتابعون أفضل منا فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا وهو إما واجب علينا أو مستحب لنا فلا بد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا، ويدنينا إلى ما هو مستحب لنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ولا بد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات لمحبوب الله ومرضاته وما يقرب إليه لا سيما مع قوله عز وجل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " لا سيما والجهمية تجعل هذا أصل الدين وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي فكيف لا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون التوحيد معروفاً عند الصحابة والتابعين؟ والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب النفاة التوحيد وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد، وإذا كان كذلك كان من المعلوم أنه لا بد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة، فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب بل علم أنه ليس من التوحيد الذي شرعه الله تعالى لعباده. وإن كان يحب منا مذهب الإثبات وهو الذي أمرنا به فلا بد أيضاً أن يبين ذلك لنا ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم وخبيث المطاعم ونحو ذلك من الشرائع، فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملاً، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغاً مبيناً والتوحيد عند السلف مشهوراً معروفاً، والكتاب والسنة يصدق بعضه بعضاً والسلف خير هذه الأمة، وطريقهم أفضل الطرق، والقرآن كله حق ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر بل هو الشفاء والهدى والنور، وهذه كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود وإن كان الذي يحبه الله ألا نثبت ولا ننفي بل نبقى في الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 البسيط وفي ظلمات بعضها فوق بعض لا نفرق الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا الصدق من الكذب بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين الحيارى " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " لا مصدقين ولا مكذبين - لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك، ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال وإنما يحب الدين والعلم واليقين، وقد ذم الحيرة بقوله تعالى " قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون " وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: " اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ". وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " فهو يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال الله له: " وقل رب زدني علماً " وما يذكره بعض الناس عنه أنه قال: " زدني فيك تحيراً " كذب باتفاق أهل العلم بحديثه، بل هذا سؤال من هو حائر وقد سأل المزيد من الحيرة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا كان حائراً بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلال، وإنما ينقل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدى بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه فهذا يلزم عليه أمور: أحدها: أن من قال هذا فعليه أن ينكر على النفاة فإنهم ابتدعوا ألفاظاً ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة، وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص فليس له الإنكار عليهم - وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة. الثاني: أن يقال عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحب الله ورسوله فهذا القول باطل. الثالث: أن يقال الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على العالم الجازم المستبصر المتبع للرسول العالم بالمنقول والمنقول. الرابع: أن يقال السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان وكلام الأئمة المشاهير مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد موجود كثير لا يحصيه أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وجواب مالك في ذلك في الإثبات فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم أو معقول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فقد أخبر رضي الله عنه بأن نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة وهذا بعينه قول أهل الإثبات، وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أن الاستواء مجهول غير معلوم وإن كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يقال الكيف مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منفياً فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال هي مجهولة أو معلومة وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء وإنه معلوم وإن له كيفية لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن، ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا ونحن لا نعلم كيفية استوائه وليس كل ما كان معلوماً وله كيفية تلك الكيفية معلومة لنا يبين ذلك أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان حتى ذكر مكي في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمر والطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات، والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن عبد الرحمن شيخه كما رواه عنه سفيان بن عيينة وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشوني، كلاماً طويلاً يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم وكلام أئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور لأن علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه، وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أهل أئمة السنة ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد، ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد وأمثاله إنما خالفه مخالف للعقل (1) ، وقالوا إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن الكلام الذي يعرف فيه ما يجوز على الله وما لا يجوز، والذين أنكروا على ابن أبي زيد وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية كأبي المعالي وأتباعه وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شركوا فيها المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فالجهمية من المعتزلة وغيرهم هم أصل هذا الإنكار. وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادون على الواقفة والنفاة، مثل ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. وقال أبو مطيع البلخي في كتاب الفقه الأكبر: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: كفر، لأن الله يقول " الرحمن على العرش استوى " وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت: إنه يقول على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إنه إذا أنكر أنه في السماء كفر، لأنه تعالى في أعلى عليين، وإنه يدعى من أعلى لا من   (1) كذا في الأصل وفي هامشه الظاهر: إنما خالفه لمخالفته العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أسفل. قال عبد الله بن نافع: كان مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه كل مكان. وقال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى: " وهو معكم أيضاً " قال علمه. وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه ابن أبي حاتم والبخاري وعبد الله بن أحمد وغيرهم: إنما يدور كلام الجهمية على أن يقولوا ليس في السماء شيء. وقال علي بن الحسن بن شقيق: قلت لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. قلت بحد؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه من غير وجه، وهو نظر صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة. وقال رجل لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله من كثرة ما أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجهمية أوله شهد وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله. رواه ابن أبي حاتم ورواه هو وغيره بأسانيد ثابتة عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى بن عمران، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن هارون: من زعم أن الله على العرش استوى بخلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء. وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا، وهذا كثير من كلامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس مقالة أهل السنة وأهل الحديث، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، فذكر فيه أقوال الخوارج والرافضة والمعتزلة والمرجئة وغيرهم، ثم قال: ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث وجملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً - إلى أن قال - وأن الله على عرشه كما قال " الرحمن على العرش استوى " وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: " لما خلقت بيدي " وأقروا أن لله علماً كما قال: " أنزله بعلمه وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " وأثبتوا السمع والبصر؛ ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " إلى أن قال: ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له " كما جاء في الحديث. ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: " وجاء ربك والملك صفاً صفا " وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. قال الأشعري أيضاً في مسألة الاستواء: قال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه كما قال " الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 على العرش استوى " ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف، وأنه له يدين بلا كيف كما قال تعالى " لما خلقت بيدي " وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث. قال: وقالت المعتزلة استوى على عرشه بمعنى استولى. وقال الأشعري أيضاً في كتاب الإبانة في أصول الديانة في باب الاستواء إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول له إن الله مستوٍ على عرشه كما قال " الرحمن على العرش استوى " وقال: إليه يصعد الكلم الطيب، وقال بل رفعه الله إليه، وقال حكاية عن فرعون " يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً " كذب فرعون موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال الله تعالى: " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور " فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء وليس إذا قال " أأمنتم من في السماء " يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أنه ذكر السموات فقال وجعل القمر فيهن نوراً ولم يردانه يملأ السموات جميعاً ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى استوى استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش والأخلية فلو كان مستوياً على العرش بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستوٍ على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية فبطل أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، وقد نقل هذا عن الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ بن عساكر في كتابه الذي جمعه في تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذكر اعتقاده الذي ذكره في الإبانة وقوله فيه فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحلولية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون، ولما خالف فيه مجانبون لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين ورحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم على جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما تقدم وغيره جمل كبيرة أوردت في غير هذا الموضع، وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة الذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل شيء قد أحاط بكل شيء قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع إليه أفعال العباد، فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم " الآية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قيل له علمه، والله على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسره أهل العلم والآية يدل أولها على آخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين. والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد ومراده أن الله هو المجيد بذاته وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال الرحمن بذاته والرحيم بذاته والعزيز بذاته. وقد صرح ابن أبي زيد في المختصر بأن الله في سمائه دون أرضه هذا لفظه والذي قاله ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة في جميع الطوائف وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه الوصول إلى معرفة الأصول: أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه وكذلك ذكره عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري ونحوه ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده. . . وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب الإبانة له قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته وأن علمه بكل مكان وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وغير ذلك من الصفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه: طريقنا طريق السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال: وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول لم يزل عالماً بعلم بصير أيبصر سميعاً يسمع متكلماً بكلام أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله وسائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءاً ومتلواً ومحفوظاً ومسموعاً وملفوظاً كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وإن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر - وذكر أشياء إلى أن قال: وإن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه من دون أرضه وذكر سائر اعتقادات السلف وإجماعهم على ذلك وقال يحيى بن عثمان في رسالته: لا نقول كما قالت الجهمية إنه مداخل الأمكنة وممازج كل شيء ولا نعلم أين هو بل نقول هو بذاته على عرشه وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله: " وهو معكم أينما كنتم ". وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد شيخ الصوفية في هذا العصر أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وجل بصير سميع عليم خبير يتكلم، ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل ومن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال. وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب الرسالة في السنة: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق به كتاب وعلماء الأمة وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته قال: وأما إمامنا أبو عبد الله الشافعي احتج في كتابه المبسوط في مسألة اعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتاقه إياها فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا! فقال لها: " أين ربك؟ " فأشارت إلى السماء، فقال: " اعتقها فإنها مؤمنة " فحكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي باب القول في الاستواء. قال الله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " ثم استوى على العرش، وهو القاهر فوق عباده يخافون ربهم من فوقهم، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " أأمنتم من في السماء " وأراد من فوق السماء كما قال " ولأصلبنكم في جذوع النخل " بمعنى على جذوع النخل وقال " فسيحوا في الأرض " أي على الأرض، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السموات فمعنى الآية: أأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات قال: وفيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان وقوله: " وهو معكم أينما كنتم " إنما أراد بعلمه لا بذاته. وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: وهذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته وفيه دليل أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة قال هذا أشهر عند الخالصة والعامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم. وقال أبو عمر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم قالوا في تأويل قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وقال شيخ الإسلام المسؤول أيده الله: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف إذا لم ينقل عنهم غير ذلك إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات الفرقانية والأحاديث النبوية فنسأل الله العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين والحمد لله وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فتاوى لابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم وقال رحمه الله ورضي عنه في رجل تزوج بنتاً بكراً بالغاً ودخل بها فوجدها بكراً ثم إنها ولدت ولداً بعض مضي ستة أشهر بعد دخوله بها فهل يلحق به الولد أم لا وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه فهل يقع به الطلاق أم لا والولد ابناً سوياً كامل الخلقة وعمر سنين؟ أفتونا مأجورين. أجاب رضي الله عنه: الحمد لله، إذ ولدته لأكثر من ستة أشهر من حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستدل الصحابة على إمكان كون الولد يولد لستة أشهر بقوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " مع قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه فكيف إذا استلحقه وأقر به بل لو استلحق مجهول النسب وقال إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين إذا كان ذلك ممكناً ولم يذع به أنه ابنه كان باراً في يمينه ولا حنث عليه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بسم الله الرحمن الرحيم: مسألة في الفقر والتصوف: صورتها. ما تقول الفقهاء رضي الله عنهم في رجل يقول: إن الفقر لم يتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى وأنه غير سبيل موصل إلى رضى الله تعالى وإلى رضى رسوله وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن أصل كل شيء العلم والتعبد والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم وهذا هو الفقر، فإذاً الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا، وما ثم طريق أوصل من العلم، والعمل بالعلم على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاح المعتادة غير مرضي لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك؟ أفتونا مأجورين. نسخة جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه: الحمد لله، أصل هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل، والإحسان والصبر، والشكر والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن، فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه، هذا هو طريق الله وسبيله ودينه والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الصراط المستقيم يشتمل على علم وعمل، علم شرعي وعمل شرعي فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجراً ومن عمل بغير العلم كان ضالاً وقد أمرنا سبحانه أن نقول " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ". قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به والنصارى عبدوا الله بغير علم، ولهذا كان السلف يقولون احذر فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وكانوا يقولون: من فسد من العلماء شبه باليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلاً وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع فيتبع أموراً تخالف الكتاب والسنة يظنها علوماً وهي جهالات، وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر، يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة، وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافق الشريعة فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يوافق الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً، ضالاً عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم. وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع بغير هدى من الله، ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك، بل الفقر عندهم ضد الغنى، والفقراء الذين ذكرهم الله في قوله: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " وفي قوله: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " وفي قوله: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي يجب عليه الزكاة، أو ما يشبه هذا، لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعاً أو كرهاً، إذ من العصمة أن لا تقدر، وثار المتأخرون كثيراً ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر، ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير. والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي، لأن لبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال أن الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفاء أو الصف الأول أو صوفة بن مر بن إد بن طابخة أو صوفة القفا، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى. لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين إتباعاً لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه. ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوسوا هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضاً فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك كما قال تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأن عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما قال بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي. وفي الحديث الصحيح الإلهي " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم، من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله وإتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه. والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل القدور من توكل واستعانة ونحو ذلك وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام: أحدها: أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة. والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه. والثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يجعل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس. وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يعبدون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرياسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظراً أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر. وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى: " أن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً " فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وحبوك استرحموك ودخلوا فيما يدفعون به من أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلباً وأقلهم رحمة وإحساناً وعفواً كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهراً بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهاً لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة: " خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وإذ كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبراً على ما قدره وقضاه، كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك. وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعاً في غير موضع من كتابه وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاهدين والمنافقين وعلى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة لله تعالى: " بلى إن تصبروا وتتقوا يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " وقال الله تعالى: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور "، وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسوؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط ". وقال أخوة يوسف له: " إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموماً وخصوصاً فقال تعالى: " واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " وفي إتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقاً لخير الله وطاعة لأمره، وقال تعالى: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ". وقال تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار ". وقال تعالى: " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وقبل غروبها ومن آناء الليل ". وقال تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ". وقال تعالى: " استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: " وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ". وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها فإن القسمة أيضاً رباعية إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كاهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر كاهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كاهل القسوة والهلع. والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، فبصبره يقوى وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " وقال: " من لا يَرحم لا يُرحم " وقال: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " والله أعلم. انتهى. بسم الله الرحمن الرحيم: فصل: في شروط عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة المسلمين لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة. منها ما رواه سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال: كتب عمر حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدنهم ولا ما حولها ديراً ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية لراهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوساً ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركاً ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجاً ولا يتقلدوا سيفاً ولا يتخذوا شيئاً من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً ولا يرفعوا أصواتهم بقراءتهم في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 خالفوا شيئاً مما اشترطوا عليهم فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. وأما ما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من آذى ذمياً فقد آذاني " فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم وكيف ذلك وأذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى: " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " فكيف يحرم أذى الكفار مطلقاً وأي ذنب أعظم من الكفر، ولكن في سنن أبي داود عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لم يأذن لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذين عليهم ". وكان عمر بن الخطاب يقول: أذلوهم ولا تظلموهم. وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إلا من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ". وفي سنن أبي داود عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على مسلم جزية، ولا تصلح قبلتان بأرض " وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتنوعة وغيرها في كتبهم واعتمدوها فقد ذكروا أن على الإمام أن يلزم أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في لباسهم، وشعورهم وكتبهم وركوبهم، بأن يلبسوا ثوباً يخالف ثياب المسلمين كالعسلي، والأزرق والأصفر والأدكن، ويشدوا الخرق في قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم، وقد أطلق طائفة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 العلماء أنهم يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعاً، ومنهم من قال: هذا يجب إذا شرط عليهم، وقد تقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عليهم جميعاً حيث قال: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا غيرها من عمامة ولا نعلين إلى أن قال: ويلزمهم بذلك حيثما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم. وهذه الشروط يجددها عليهم من يوفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته وبالغ في إتباع سنة عمر بن الخطاب حيث كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها عن غيره من الأئمة، وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها ففي وجوب هدمها قولان ولا نزاع في جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد في تلك البقعة بحيث بنيت فيها المساجد فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمع قبلتان بأرض " ولهذا شرط عليهم عمر والمسلمون أن لا يظهروا شعائر دينهم وأيضاً فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على الديارات والصوامع ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم يحكم بصحة الوقف فكيف نحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب وكان من سبب إحداث هذه الكنائس وهذه الأحباس عليها شيئان: أحدهما أن بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عبيد الله القداح الذين كان ظاهرهم الرفض، وباطنهم النفاق يستوزرون تارة يهودياً وتارة نصرانياً واجتلب ذلك النصراني خلقاً كثيراً وبنى كنائس كثيرة. والثاني استيلاء الكتاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على المسلمين ما يشاؤون، والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية. بسم الله الرحمن الرحيم: مسألة فيمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس، والميلاد وخميس العدس، وسبت النور، ومن يبيعهم شيئاً يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئاً من ذلك أم لا؟ الجواب: الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام، ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصه، وأما إذ أصابه المسلمون قصداً فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الكفر. وقال طائفة منهم من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من تأسى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ " قال: لا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم " قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجباً حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار، وقال: " لا وفاء لنذر في معصية الله " فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية فكيف بمشاركتهم في نفس العيد، بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونه سراً في مساكنهم فكيف إذا أظهرها المسلمون حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم، وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها نهي عن ذلك لأن السخط ينزل عليهم فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: " والذين لا يشهدون الزور " قالوا أعياد الكفار فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: " من تشبه بقوم فهو منهم " وفي لفظ " ليس منا من تشبه بغيرنا " وهو حديث جيد فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان في العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك وقد كره جمهور الأئمة إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالاً له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب، وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحة عيدهم لا لحماً، ولا دماً ولا ثوباً ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين على ذلك لأن الله تعالى يقول: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك فكيف على ما هو من شعائر الكفر؟ وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك، والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الجزء الثاني قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك خرج أحاديثه وعلق حواشيه: السيد محمد رشيد رضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد، فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين نوعاً يختص بالسفر الطويل وهو القصر والفطر، ونوعاً يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من هذا القسم، وأما المسح على الخفين والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك نزاع. والكلام في مقامين أحدهما الفرق بين السفر الطويل والقصير فيقال: المقام الأول: الفرق بين السفر الطويل والقصير هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الأحكام التي علقها الله بالسفر به مطلقاً كقوله تعالى في آية الطهارة: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 وقاله تعالى في آية الصوم: " فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ". وقوله تعالى: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " (1) . وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ". وقول صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم (2) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم (3) ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله " (4) .   (1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة بسند صحيح وحديث عائشة بعده متفق عليه وحديث عمر بعدهما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة بسند صحيح (2) رواه الشافعي وأحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه وغيرهم وحكي الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن وأورده المجد ابن تيمية جد المؤلف في المنتقى بلفظ أمرنا - يعني النبي (ص) - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا. ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. رواه أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي صحيح الإسناد وحديث عائشة وعمر الموقوفان لهما حكم المرفوع وهما في الصحيح (3) رواه أحمد والبخاري (4) رواه أحمد والشيخان وابن ماجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقاً لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ وهذا الذي ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر منها أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله: " فلم تجدوا ماءاً فتيمموا صعيداً طيباً " ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهراً وطهوراً. ومنها أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد ولم يشترط أيضاً أن يثبت بنفسه. ومن ذلك أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي. ومن ذلك أنه أثبت الطلق الثالثة بعد طلقتين وافتداءً والافتداء الفرقة بعوض وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث. وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق فيه بين لفظ ولفظ. ومن ذلك أنه علق الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وقوله: " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " ولم يفرق بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك. ومن ذلك أنه علق التحريم بمسمى الخمر ولبين أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " (1) ولم يفرق بين مسكر ومسكر. ومن ذلك أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر ولم يفرق بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعاً تجب   (1) رواه الجماعة إلا البخاري فقد روي الجملة الثانية معهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به، ونوعاً تنعقد به، لا أصل له. بل الواجب أن هذه الأحكام لما علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيراً، ولكن ثم أمور ليست من خصائصه السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير فلا يجعل هذا معلقاً بالسفر. وأما الجمع بين صلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يجوز كمذهب الشافعي قياساً على القصر. والثاني: يجوز كقول مالك لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة. إنما علته الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقاً بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر. وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في الحضر ففي القصر أولى وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل. المقام الثاني: حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر وهذا مما اضطرب الناس فيه: ثلاثة أيام، وقيل: يومين قاصدين (1) ، وقيل: أقل من ذلك حتى قيل: ميل. والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من   (1) كذا في الأصل ولعل صوابه مسيرة يومين الخ والسفر القاصد هو السهل القريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قال: ثمانية وأربعون ميلاً، وقيل: ستة وأربعون، وقيل: خمسة وأربعون، وقيل أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهاً. وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتاً بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير ويجعلون ذلك حداً للسفر الطويل ومنهم من لا يسمي سفراً إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفراً فالذين قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله: " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: " لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: " مسيرة يومين " وثبت في الصحيح: " مسيرة يوم " وفي السنن: " بريداً " فدل على أن ذلك كله سفر وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يوماً وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن عمر وابن عباس وما روي " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد وإنما أقام بعد الهجرة زمناً يسيراً وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حداً كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين. وأيضاً فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليداً وليس هو مما يقطع به والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حداً لم يجربه له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوماً علماً عاماً، وذرع الأرض مما لا يمكن بل هو إما متعذر وإما متعسر، لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خطٍ مستوٍ أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطاً ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يكون في المسافة صعود وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض. والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض " طوله شهر وعرضه شهر " وقوله: " بين السماء والأرض خمسمائة سنة " (1) وفي حديث آخر: " إحدى أو اثنتان   (1) هذا الحديث لا يصح قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الأحياء رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة وقال غريب (قال) ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد. قالوا لم يسمع الحسن من أبي هريرة ورواه أبو الشيخ في العظمة من رواية أبي نصر عن أبي ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبي نصر سماع من أبي ذر انتهى. وأقول الحسن هو البصري الزاهد الفقيه التابعي المشهور قالوا كان يرسل كثيراً ويدلس فيروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه. وهذا الحديث من مراسيله التي قالوا أنها كالريح. وأبو نصر راوي الحديث الثاني قال البزار مخرجه أحسبه حميد بن هلال ولم يسمع من أبي ذر كما قال البزار مخرج الحديث عنه وينبغي أن لا يعتد بمراسيله من يحتج بالمراسيل لأن ابن سيرين قال: كان أربعة يصدقون كل من حدثهم ولا يبالون ممن يسمعون الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال وداود بن أبي هند. ذكر هذا الدارقطني في سننه وسقط من بعض نسخها اسم الأخير كما في تهذيب التهذيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أو ثلاث وسبعون سنة " فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن هذا لا دليل عليه. وإذا كان كذلك فنقول كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة (1) ، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه وأما ما دون هذه المسافة إن (2) مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل يقصر في ميل، وروي عن ابن عمر أنه قال لو سافرت ميلاً لقصرت، قال ابن حزم لم نجد أحداً يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمرو وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حداً فقلنا بذلك إتباعاً للسنة مطلقة ولم نجد أحداً يقصر بما دون الميل، ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعاً فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في أمثاله وأيضاً فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك وأيضاً فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال والكلام في مقامين:   (1) ههنا بياض كتب تجاهه بهامش الأصل: لعله مسافة الغدو ورواحه. والأظهر أن يقال: مسافة القصر (2) لعل أصله أن قيل أن الخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 المقام الأول أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر وأما إذا قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفراً قصر وإلا فلا. وقد يركب الرجل فرسخاً يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافراً وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة بأن يسير على الإبل والأقدام سيراً لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه: أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى وكذلك أبو بكر وعمر بعده وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصراً وجمعاً، ثم العصر ركعتين: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم " ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر ولا نقل أحد أن أحداً من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى الله عليه وسلم خلاف ما صلى بجمهور ما صلى بجمهور المسلمين أو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر قال بهذا اليوم: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فقد غلط، وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح وقد ثبت أن عمر بن الخطاب (1) لأهل مكة لما صلى في جوف مكة ومن   (1) لعل صواب العبارة هكذا: أن عمر بن الخطاب قال مثل ذلك لأهل مكة الخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعاً وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصراً لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعاً دون سائر المسلمين؟ وأيضاً إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه أظهر، وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة هل يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال: فقيل لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير. والثاني انهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك. والثالث أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحق بن راهويه وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة وأما القصر فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه والمعلوم إن الإجماع لم ينعقد على خلافه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها فإن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علماً يقيناً أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصراً وجمعاً ولم يفعلوا خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا منى: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر " وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى دليل على الفرق وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وليس له إسناد. وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال أنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع، وقال في جمع المسافر أنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل الجمع لأجل النسك ففيه قولان أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفراً وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال لأن ذلك سفر قصي وهو يجوز الجمع في السفر القصير كما قال هذا وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 السفر كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعاً كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون ولكن أبو حنيفة يقول هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها. وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره الذين مسحوا ذلك وذكره الأزرقي في أخبار مكة فهذا قصر في سفر قدره بريد وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم بريداً وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر فعلم أنهم كانوا مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة في مكة " أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر " وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء ولكن في مذهب مالك نزاع. الدليل الثاني: أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 زوج تارة يقدر وتارة يطلق وأقل ما روي في التقدير بريد فدل ذلك على أن البريد يكون سفراً كما أن الثلاثة الأيام تكون سفراً واليومين تكون سفراً واليوم يكون سفراً هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهي عن هذا وهذا وهذا. الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشرع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه فما كان عندهم سفراً فهو سفر والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي والعدو على الخصم والحضانة وغير ذلك مما هو معروف في موضعه، وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان أحدها بالبريد أجود لكن الصواب أن السفر ليس محدداً بمسافة بل يختلف فيكون مسافراً في مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافراً. الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان وأقل الفطر يوم ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال وإذا كان غدوه يوماً ورواحه يوماً فإنه يحتاج إلى القصر والفطر وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافراً. الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ممن حدها بيومين ولا اليومان بأولى من يوم فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفراً يشرع، وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريداً وأدنى ما يسمى سفراً في كلام الشارع البريد، وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكباً وماشياً ولا ريب أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم. وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى: " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " وقال: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ". وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت أم لا فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً ولا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم. والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر لا تفعل إلا فيما يسمى سفراً ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 في خروجه إلى مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكباً وماشياً ولا كان المسلمون الداخلون من العوالي يفعلون ذلك وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر واسم المدينة يتناول المساكن كلها فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا فرق بينهما. والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعاً وقصر ألم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع تقديم وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشي وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: " لم أنس ولم تقصر " قال: بلى قد نسيت، قال: " أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم، فأتم الصلاة ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك والإمام أحمد لم ينقل عنه فيما أعلم أنه اشترط النية في جمع ولا قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه كالخرقي والقاضي. وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا إنما يوافق مطلق نصوصه، وقالوا: لا يشترط للجمع ولا للقصر نية وهو قول الجمهور من العلماء كمالك وأبي حنيفة وغيرهما بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 أبو طالب والمروزي وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير فعلم أنه لا يشترط في الجمع النية ولا تشترط أيضاً المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز إن زاد به الشفق الأبيض لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده وحينئذ يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصلياً لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص، وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض قال لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر غاب ولم يغب فإذا غاب الأبيض تيقن مغيب الحمرة فالشفق عنده في الموضعين الحمرة لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر عن نصوصه الكثيرة. وقد حكى بعضهم رواية أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين أن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر وأحمد قد علل الفرق فلو حكي عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه. وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض وما أظن هذا إلا غلطاً عليه وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه حينئذ لا يجوز التعليل بجواز الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الثاني (1) أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصلْ إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك، وقد نص أيضاً على نظير هذا فقال إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب الفصل وهو خلاف النص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في القصر مبني على فرض المسافر فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة: أحدها: أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر. والثاني: أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين وهو ظاهر مذهب الشافعي فإن كان الجمع في وقت الأولى اشترط الجمع وإن كان في وقت الآخرة فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته   (1) في هامش الأصل: كذا في الأصل ولم يسبق بالعطف عليه اهـ والظاهر أن الأول الذي جعل هذا ثانيا له هو ما ذكر من عدم اشتراط المقارنة بين الصلاتين في الجمع فتأمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير وعلى هذا تشترط الموالاة في وقت الأولى دون الثانية. والثالث: تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه في مذهب الشافعي وأحمد ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم وإن كان وقعت صحيحة لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معها فإذا لم يفعل ذلك كان بمنزلة من أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها معه الإثم. حكم الموالاة بين صلاتي الجمع: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحداً ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علماً وعملاً وهو يشغل قلب المصلي غير مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعاً للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقّت يعرف ذلك بالآلات الحسابية، والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بالشفق، فيحتاج إلى أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت. ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك قالوا لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل وكلا القولين ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معاً في آخر وقت الأولى وقد يقعان معاً في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم وصاحب هذا القول ظن أن التأخير في الجمع أفضل مطلقاً لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر أعادها، وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وما علمت أحداً من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب هل له أن يصليها في طريقه على قولين، وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها. وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمداً فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزاً عن معرفة الوقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت فهذا في أجزائه قولان للعلماء وكذلك في صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطاً فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقاً فقد أخطأ على مذهبه. الأحاديث في الجمع تقديماً وتأخيراً: وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مأثورة من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس ومعاذ وأبي هريرة وجابر، وقد تأول هذه الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كان يكون في وقت الثانية وفي وقت الأولى وجاء الجمع مطلقاً، والمفسر يبين المطلق ففي الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. وروى مسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 من حديث يحيى بن سعيد: حدثنا عبيد الله أخبرنا عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. حديث ابن عمر في جمع التأخير: قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين ولم يذكر كيف كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر المثبتون ما رواه محمد ابن يحيى الذهلي حدثنا حماد بن مسعدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع: أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء فسألت نافعاً فقال: بعد ما غاب الشفق بساعة وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جد به السير، ورواه سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة فأقبل فسار حتى غربت وبدت النجوم فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار ابن عمر فقال له سالم: الصلاة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين. فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثاً. وروى البيهقي هذين بإسناد صحيح مشهور، قال: ورواه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي من الليل ثم نزل فصلى المغرب والعشاء قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جد به السير أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 حزبه أمر قال: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريباً من ربع الليل ثم نزل فصلى ورواه من طريق الدارقطني حدثنا ابن صاعد والنيسابوري حدثنا العباس ابن الوليد بن يزيد أخبرني عمر بن محمد بن يزيد حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير فلما غابت الشمس قال له إنسان من أصحابه: الصلاة، فسكت ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي قال له: الصلاة، إنه ليعلم من هذا علماً لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر فأقام فصلى المغرب والعشاء جميعاً جمع بينهما ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة (1) في السفر ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك. قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر وأيوب السختياني وعمر بن محمد بن زيد على أن جمع عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع، وذكر أن ابن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل علينا فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن   (1) المراد بالسبحة النافلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب عن ابن عمر نحو روايتهم، أما حديث سالم فرواه عاصم ابن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما حديث ابن أبي مريم: أن محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم وأسند أيضاً من كتاب يعقوب بن سفيان أن أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار وكان من صالحي المسلمين صدقاً وديناً قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله بن عمر فسرنا فلما رأيناه قد أمسى قلنا له الصلاة، فسكت حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم فنزل فصلى الصلاتين جميعاً ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل. وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن فأسند من طريق الشافعي وأبي نعيم عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذئيب قال: صحبت ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا فقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 حديث أنس في جمع التقديم: وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا عجل به السير (1) يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. ورواه مسلم من حديث شبابة: حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما، ورواه من حديث الإسماعيلي (2) : أنا الفرياني أنا إسحق بن راهويه أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. قلت: هكذا في هذه الرواية وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس. وأما حديث معاذ فمن إفراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع بين   (1) في نسخ مسلم عجل عليه السفر (2) ظاهر هذا أن مسلما روى حديث أنس هذا باللفظ الآتي عن الإسماعيلي وليس كذلك والصواب أن الإسماعيلي رواه عن جعفر الفريابي عن إسحاق الخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء. قلت: الجمع على ثلاث درجات: إما إذا كان سائراً في وقت الأولى فإنما ينزل في وقت الثانية فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر وهو نظير جمع مزدلفة. وأما إذا كان وقت الثانية سائراً أو راكباً فجمع في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روي ذلك في السنن كما سنذكره إن شاء الله. وأما إذا كان نازلاً في وقتهما جميعاً نزولاً مستمراً فهذا ما علمت روي ما يستدل به عليه الأحاديث معاذ هذا فإن ظاهره أنه كان نازلاً في خيمة في السفر وأنه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل وأما السائر فلا يقال دخل وخرج، بل نزل وركب، وتبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها وهذا دليل على أنه كان يجمع أحياناً في السفر وأحياناً لا يجمع وهو الأغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو في الحضر فإنه قد جمع أيضاً في الحضر لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت العصر ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع. وأما النازل أياماً في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر فهذا وإن كان يقصر لأنه مسافر فلا يجمع كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم ولا يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر. والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فمأثور في السنن مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما. قال الترمذي حديث معاذ حديث حسن غريب. قلت وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن البخاري، قال قلت لقتيبة مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل فقال: كتبته مع خالد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 المدائني، قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ. قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة، قلت: وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد عن أبي الزبير، والذي ذكره مالك يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره فمن روى عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء عام تبوك وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها وقد يتصل سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلاً إلى الغروب صلى العصر مع الظهر إذ كان الجمع بحسب الحاجة. وبهذا تتفق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى ولا بمكة عام الفتح ولا في حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل أحد إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره وقد روي الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس أيضاً موافقة لحديث معاذ ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الفضل، قلت: هذا الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد عليه وحده فقد تكلم فيه علي بن المديني والنسائي ورواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 جريج عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو في منزله جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى أتت العتمة نزل فجمع بين المغرب والعشاء، قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني حسين عن كريب وكان حسين سمعه منهما جميعاً واستشهد على ذلك برواية عبد الرزاق عن ابن جريج وهي معروفة وقد رواها الدارقطني وغيره وهي من كتب عبد الرزاق قال عبد الرزاق: عن ابن جريج حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن ابن عباس أن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ قلنا بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينهما وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن هشام ابن عروة عن حسين عن كريب فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه ولا من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد عنه ثم لقي ابن جريج حسيناً فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن جريج، قال البيهقي: وروي عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي أويس المدني عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، وهو بما تقدم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 شواهده يقوى، وذكر ما ذكره البخاري تعليقاً: حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بن الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر مسيره، وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه فقال: وقال إبراهيم بن طهمان فذكره. قلت: قوله على ظهر سيره قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى وهذا مما لا ريب ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية كما جاء صريحاً عن ابن عباس، قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس لا نعلمه إلا مرفوعاً بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ولا أعلمه إلا مرفوعاً وإلا فهو عن ابن عباس أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، قال إسماعيل: حدثنا عارم حدثنا حماد فذكره، قال عارم هكذا حدث به حماد قال: كان إذا سافر فنزل منزلاً فأعجبه المنزل فأقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب من قول ابن عباس قال إسماعيل ثنا الحجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فنبا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا تجمعون بينهما، وإن كنتم نزولاً فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا. قلت فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح كما سيأتي إن شاء الله. وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ابن محمد عن مالك عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف. قال البيهقي: ورواه من حديث الحماني عن عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام ابن سعيد قال بينهما عشرة أميال يعني بين مكة وسرف، قلت عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق، ومن عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب الشفق فكيف بسرف، وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس وابن عباس أنه إذا كان سائراً أخر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعاً. قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وذكر ما رواه البخاري من حديث سعيد عن الزهري أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم صلاة المغرب فيصليها ثلاثاً ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق، قال البيهقي رواه عن الثوري عن يحيى بن سعيد وزاد فيه: ثمانية أميال. ورواه ابن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال: قلت أي ساعة تلك؟ قال: قد ذهب ثلث الليل أو ربعه، قال ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع قال: فسار أميالاً ثم نزل فصلى، قال يحيى: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة أخرى فقال: سار قريباً من ربع الليل ثم نزل فصلى. وروى من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول هي سنة. ومن حديث علي بن عاصم أخبرني الجريري وسلمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: كان سعيد بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. وروينا في ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وأنس بن مالك، وروي عن عمر وعثمان، وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم لا بأس بذلك ألا ترى صلاة الناس بعرفة، وذكر في كتاب يعقوب بن سفيان ثنا عبد الملك بن أبي سلمة ثنا الداروردي عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد في أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذ زالت الشمس. قلت فهذا استدلال من السلف بجمع عرفة على نظيره وأن الحكم ليس مختصاً وهو جمع تقديم للحاجة في السفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر أو غيره فقد روى مسلم وغيره من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر. وممن رواه عن أبي الزبير مالك في موطأه وقال: أظن ذلك كان في مطر. قال البيهقي: وكذلك رواه زهير بن معاوية وحماد بن سلمة عن أبي الزبير: في غير خوف ولا سفر، إلا إنهما لم يذكرا المغرب والعشاء وقالا: بالمدينة، ورواه أيضاً ابن عيينة وهشام بن سعد عن أبي الزبير بمعنى رواية مالك وساق البيهقي طرقها وحديث زهير رواه مسلم في صحيحه ثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته. قال وقد خالفهم قرة في الحديث فقال: في سفرة سافرها إلى تبوك. وقد رواه مسلم من حديث قرة عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال أراد أن لا يحرج أمته. قال البيهقي: وكان قرة أراد حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ فهذا لفظ حديثه، وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعاً فسمع قرة أحدهما ومن تقدم ذكره الآخر، قال: وهذا أشبه فقد روى قرة حديث أبي الطفيل أيضاً، قلت: وكذا رواه مسلم فروي هذا المتن من حديث معاذ ومن حديث ابن عباس فإن قرة ثقة حافظ وقد روى الطحاوي حديث قرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 عن أبي الزبير فجعله مثل حديث مالك عن أبي الزبير، حديث أبي الطفيل وحديثه هذا عن سعيد، فدل ذلك على أن أبا الزبير حدث بهذا وبهذا، قال البيهقي: ورواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير فخالف أبا الزبير في متنه، وذكره من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل له: فما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. وفي رواية وكيع قال سعيد: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كيلا يحرج أمته. ورواه مسلم في صحيحه. قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كون حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه - والله أعلم - لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير قال: ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة، فقد رواه عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير، قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب ابن أبي ثابت لا وجه له، فإن حبيب بن أبي ثابت من رجال الصحيحين، فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من إفراد مسلم، وأيضاً فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن، تارة يجعل ذلك في السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد، فهذا أبو الزبير قد روي عنه ثلاثة أحاديث: حديث أبي الطفيل عن معاذ في جمع السفر، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس الذي فيه جمع المدينة، ثم قد جعلوا هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 كله صحيحاً لأن أبا الزبير حافظ فلم لا يكون حديث حبيب بن أبي ثابت أيضاً ثابتاً عن سعيد بن جبير وحبيب أوثق من أبي الزبير؟ وسائر أحاديث ابن عباس الصحيحة تدل على ما رواه حبيب، فإن الجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن لأجل المطر، وأيضاً فقوله بالمدينة يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله: جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، أولى بأن يقال من غير خوف ولا سفر، ومن قال أظنه في المطر، فظن ظنه ليس هو في الحديث، بل مع حفظ الرواة، فالجمع صحيح، قال من غير خوف ولا مطر، وقال ولا سفر، والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا، وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها. ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر - وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز - بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة، قال فجاء رجل من بني تيم لا يفتر: الصلاة - الصلاة - فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 ورواه مسلم أيضاً من حديث عمران بن حدير عن ابن شقيق قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت ثم قال: الصلاة، فسكت ثم قال: لا أم لك أتعلمنا بالصلاة وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مبهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه فأتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له كما قال: أراد أن لا يحرج أمته، ومعلوم أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضاً، فإنه لو جمعه للسفر، لجمع في الطريق ولجمع بمكة، كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعه أيضاً كان للنسك، فإنه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم فإنه من حينئذ صار محرماً فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا. قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أو على ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل فيقال يا سبحان الله! ابن عباس كان يخطب بهم بالبصرة، فلم يكن مسافراً ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعاً يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر كان ابن عباس أجل قدراً من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر، وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال لم ينف السفر؟ وحبيب ابن أبي ثابت من أوثق الناس وقد روى عن سعيد أنه قال: من غير خوف ولا مطر، وأما قوله أن البخاري لم يخرجه، فيقال هذا من أضعف الحجج فهو لم يخرج أحاديث أبي الزبير وليس كل من كان من شرطه يخرجه. وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد فقال لأيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى، فيقال هذا الظن من أيوب وعمرو، فالظن ليس من مالك وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد، ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق، لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد، فمن قال إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه، ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 موافقة لأيوب، وتارة يقول هو وأبو الشعثاء أنه كان جمعاً في الوقتين كما في الصحيحين عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: سمعت جابر ابن زيد يقول سمعت ابن عباس يقول صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قال: قلت يا أبا الشعثاء أراه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظن ذلك، فيقال ليس الأمر كذلك. لأن ابن عباس كان أفقه وأعلم من أن يحتاج إذا كان قد صلى كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة والخاصة جوازه أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلاً على ذلك، وأن يقول: أراد بذلك أن لا يخرج أمته. وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحدايث المواقيت، وابن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت، وإمامة جبريل له عند البيت، وقد صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع على هذا الوجه فأي غرابة في هذا المعنى؟ ومعلوم أنه كان قد صلى في اليوم الثاني كلا الصلاتين في آخر الوقت وقال: " الوقت ما بين هذين " فصلاته للأولى وحدها في آخر الوقت أولى بالجواز، وكيف يليق بابن عباس أن يقول فعل ذلك كيلا يحرج أمته، والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه، وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى في الوقت المختص بهذا الفعل وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا؟ وإنما قصد ابن عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره. وبذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 يرتفع الحرج عن الأمة، ثم ابن عباس قد ثبت عنه في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر. وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره. وقد تقدم ذلك مفصلاً، فعلم أن لفظ الجمع في عرفة وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما. وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها ما ليس كذلك؟ وأيضاً فابن شقيق يقول: حاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علماً حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأله عنه؟ إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه، وإنما وقعت شبهة لبعضهم في المغرب خاصة، وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها، فالحديث حجة عليهم كيفما كان، وجواز تأخيرها ليس معلقاً بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقاً إلى آخر الوقت حين يؤخر العشاء أيضاً، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بين أحاديث المواقيت، وهكذا في الحديث الصحيح " وقت المغرب ما لم يغب نور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل " كما قال: " وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله ووقت العصر ما لم تصفر الشمس " فهذا الوقت المختص الذي بينه بقوله وفعله وقال: " الوقت ما بين هذين " ليس له اختصاص بالجمع ولا تعلق به. ولو قال قائل: قوله جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر، المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الكوفيين، لم يكن بينه وبينهم فرق. فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه؟ ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟ وأيضاً فقد ثبت هذا من غير حديث ابن عباس ورواه الطحاوي حدثنا ابن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود وعمران بن موسى قال أنا الربيع بن يحيى الأشناني حدثنا سفيان الثوري عن محمد ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير خوف ولا علة، لكن ينظر حال هذا الإشناني. وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر، قال البيهقي: ورواه العمري عن نافع فقال: قبل الشفق وروى الشافعي في القديم، أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب أن ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق، وذكرنا ما رواه أبو شيخ الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكر ذلك، وبإسناده عن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر ابن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك، فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة والتابعين أنكر ذلك فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضاً للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب بل إثبات منه لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً. ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر. فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور (1) . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وروى الثوري في جامعه عن سعيد عن قتادة عن أبي العالية عن عمر ورواه يحيى بن سعد عن يحيى بن صبح حدثني حميد بن   (1) المنار - ذكر النووي في شرح مسلم خلاصة ما قاله المتأولون لروايات الجمع بالمدينة من غير مطر ولا خوف وردها كلها بما دل قطعا على أن هذا الجمع في الإقامة رخصة للأمة وقال في آخر البحث. وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك. وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروذي واختاره ابن المندر ويؤيده ظاهر قول ابن عباس اراد أن لا يخرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم اهـ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 هلال عن أبي قتادة يعني العدوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف والنهب. قال البيهقي: أبو قتادة أدرك عمر فإن كان شهده كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قوياً. وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذراً من عذر. قال البيهقي: وقد روي فيه حديث موصول عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده من لا يحتج به وهو من رواية سلمان التيمي عن حنش الصنعائي عن عكرمة عن ابن عباس. فصل: في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمنى وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس، والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد، روى عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري قال إنما صلى عثمان بمنى أربعاً لأنه قد عزم على المقام بعد الحج، ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعاً لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوي فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربع. فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيماً فرضه أربع فصلى بهم أربعاً فالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري (1) ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال: والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها   (1) الذي خبر المبتدأ. والمعنى فالسبب الصحيح هو الذي حكاه معمر الخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجهل منهم بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهداً إذ كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لتلك العلة، ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي وقد قال آخرون: إنما إتمام الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد ابن سلمة عن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل. وروى بإسناده المعروف عن سعيد بن أبي عروبة وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد الله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله: ألا لا يصلين الركعتين جاب ولا تأن ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد. وروي أيضاً من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال: كتب عثمان أنه قال بلغني أن قوماً يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدو. قال ابن حزم: وهذان الإسنادان في غاية الصحة. قال الطحاوي قالوا وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصاً فأما من كان في مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة قالوا: ولهذا أتم عثمان بمنى لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصراً يستغني من حل به عن حمل الزاد والمزاد. قال الطحاوي: وهذا المذهب عندنا فاسد، لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد، تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال: فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة، غير المذهب الأول، الذي حكاه معمر عن الزهري، فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها، وفي الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه، وعلى ما كشفنا من معناه. قلت: الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقاً لأصله، وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لهم، إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثاً، ولهذا لما توفي ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص، وقد كان مرض في حجة الوداع، خاف سعد أن يموت بمكة فقال: يا رسول الله أخلف عن هجرتي، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يموت بها. وقال: " إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون "، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته، فيعتمر ثم يركب عليها راجعاً فكيف يقال إنه نوى المقام بمكة؟ ثم هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 من الكذب الظاهر، فإن عثمان ما أقام بمكة قط، بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة. وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد، كالقاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم، فقالوا: لما كان المسافر مخيراً بين الإتمام والقصر، كان كل منهما جائزاً، وفعل عثمان هذا، لأن القصر جائز والإتمام جائز، وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها، وذكر البيهقي قول من قال أتمها لأجل الأعراب، ورواه من سنن أبي داود، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن أيوب عن الزهري، أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعاً، ليعلمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال: أيها الناس إن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه، ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا، قال البيهقي وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزاً كما رأته عائشة، قلت: وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه، وعلى المسلمين ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته، أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر الأثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه بعده، ومع رغبة عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 في الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخليفته بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزاً، إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله، وهب أن له أن يصلي أربعاً فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه، فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزاً، وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم، وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك، كما روى مالك عن الزهري أن رجلاً أخبره عن عبد الرحمن بن المسور مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعاً في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد: نحن أعلم، وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن أربعاً فنسأله عن ذلك فيقول سعد: نحن أعلم. وروى مالك عن ابن شهاب عن صوان بن عبد الله بن صفوان قال: جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا، قلت: عبد الله بن صفوان كان مقيماً بمكة فلهذا أتموا خلف ابن عمر. وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعاً وإذا صلى لنفسه ركعتين، قال البيهقي والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزاً كما رأته عائشة قال: وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أقبل سلمان في إثني عشر راكباً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فقالوا تقدم يا أبا عبد الله فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم، قال فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعاً، قال: فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال: فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة. قلت: هذه القضية كانت في خلافة (1) . وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج؛ يبين أنها رخصة وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي مأمور بها وفطر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه: " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة والذي صلى سلمان أربعاً يحتمل أنه لا يرى القصر لمثله إما لأن سفره كان قصراً عنده وإما لأن سفره لم يكن عنده مما يقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئاً متأولاً اتبع عليه كما إذا قنت متأولاً أو كبر خمساً أو سبعاً متأولاً والنبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً واتبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زيد فيها فلما سلم ذكروا ذلك فقال: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون   (1) بياض بالأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فإن نسيت ذكروني " وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام إلى خامسة هل يتابعه المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعاً فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعاً لأجل متابعة إمامه فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين وفي حال أربعاً بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم لأن كلاهما اتبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعاً فقال: لا يعجبني ولكن السفر ركعتان، وقد نقل عنه المروذي أنه قال: إن شاء صلى أربعاً وإن شاء صلى ركعتين. ولا يختلف قول أحمد أن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعاً أنه توقف في الأجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعاً؟ على قولين. ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه، قولان: أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالأجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه، وذلك أن غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهواً لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين، وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الأدلة دالة على كون ذلك مخالفاً للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع الالتفات ونحو ذلك من المكروهات وسنتكلم إن شاء الله على تمام ذلك. مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة: وأما إتمام عثمان فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول لا على ما لم يثبت فقوله أنه بلغني أن قوماً يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدو، وقوله بين فيه مذهبه وهو أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية أو مصر إلا إذا كان خائفاً بحضرة عدو وإنما يقصر من كان شاخصاً أي مسافراً وهو الحامل للزاد والمزاد أي للطعام والشراب، والمزاد وعاء الماء، يقول إذا كان نازلاً مكاناً فيه الطعام والشراب كان مترفهاً بمنزلة المقيم فلا يقصر لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان وهذا لا تلحقه مشقة فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد وللخائف، ولما عمرت منى وصار بها زاد ومزاد لم ير القصر بها لا لنفسه ولا لمن معه من الحجاج، وقوله في تلك الرواية: ولكن حدث العام لم يذكر فيها ما حدث فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه الزاد والمزاد أربعاً وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة فيكون هذا أيضاً موافقاً فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد وهو لا يرى القصر لمن كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا فجميع ما ثبت في هذا الباب من عذره يصدق بعضه بعضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أعمر من منى في زمن عثمان فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ثم في غزوة الفتح ثم في عمرة الجعرانة كان خائفاً من العدو وعثمان يجوز القصر لمن كان خائفاً وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد والمزاد فإنه يجوزه للمسافر ولمن كان بحضرة العدو، وإما حجة الوداع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمناً لكنه لم يكن نازلاً بمكة وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ولا بمكان فيه الزاد والمزاد. وقد قال أسامة: أين ننزل غداً؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: " وهل ترك لنا عقيل من دار ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وهذا المنزل بالأبطح بين المقابر ومنى. وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها أنها إنما تتم لأن القصر لأجل المشقة وأن الإتمام لا يشق عليها، والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في جنسه وفي قدره فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها، وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر مع أن عثمان قد خالفه علي وابن مسعود وعرمان بن الحصين وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وغيرهم من علماء الصحابة فروى سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: اعتل عثمان وهو بمنى فأتى علي فقيل له: صل بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، قاولوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين يعنون أربعاً، فأبى. وفي الصحيحين عن ابن مسعود (1) .   (1) المنار: ههنا بياض بالأصل والمروي فيهما عنه بهذه المسألة أنه قيل له في منى إن عثمان صلى بالناس أربعاً فاسترجع وقال: صليت مع رسول الله (ص) بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر الصديق (رض) بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الخلاف في جواز إتمام الرباعية في السفر وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: أحدها: أن ذلك بمنزلة صلاة الصبح أربعاً وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد مقدار التشهد بطلت صلاته، ومذهب ابن حزم وغيره أن صلاته باطلة كما لو صلى عندهم الفجر أربعاً. وقد روى سعيد في سننه عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين. قال ابن حزم وروينا عن عمر بن عبد العزيز وقد ذكر الإتمام في السفر لمن شاء فقال: لا، الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما، وحجة هؤلاء أنه قد ثبت أن الله إنما فرض في السفر ركعتين والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ولا سنة، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعاً أو أقر من صلى أربعاً فإنه كذب. وأما فعل عثمان وعائشة فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض الأسفار دون بعض كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد ثم قد خالفهما أئمة الصحابة وأنكروا ذلك. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فأمر بقبولها والأمر يقتضي الوجوب، ومن قال يجوز الأمران فعمدتهم قوله تعالى: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم " وقوله: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها وبما روي من أنه فعل ذلك واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة فأتموا خلفه وهذه كلها حجج ضعيفة. أما الآية فنقول قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في السفر ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر بعده وهذا يدل على أن الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله وهو أفضل من غيره لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه، ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحباً هو عذر لغيرهم عن كونه مأموراً به أمر إيجاب، وقد قال تعالى في السعي: " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " والطواف بين الصفا والمروة هو السعي المشروع باتفاق المسلمين وذلك إما ركن وإما واجب وإما سنة، وأيضاً فالقصر وإن كان رخصة استباحة المحظور فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر والتيمم لمن عدم الماء ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في الآية ثلاثة أقوال: قيل المراد به قصر العدد فقط وعلى هذا فيكون التخصيص بالخوف غير مفيد، والثاني أن المراد به قصر الأعمال فإن صلاة الخوف تقصر عن صلاة الأمن والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف جائزة حضراً وسفراً والآية أفادت القصر في السفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 والقول الثالث وهو الأصح أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعاً ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف أبيح القصر الجامع لهذا ولهذا، وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف فإنما يفيد قصر العمل. ومن قال إن الفرض في الخوف والسفر ركعة كأحد القولين في مذهب أحمد وهو مذهب ابن حزم فمراده إذا كان خوف وسفر فيكون السفر والخوف قد أفادا القصر إلى ركعة كما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي هو عبد الرحمن هو عبد الرحمن بن عبد الله عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما، قال جابر: لا، فإن الركعتين في السفر ليستا بقصر إنما القصر ركعة عند القتال. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن حزم: ورويناه أيضاً من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة. قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة وإن شاء ركعتين لأنه جاء في القرآن بلفظ " لا جناح " لا بلفظ الأمر والإيجاب وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ومرة ركعتين فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر. وأما صلاة عثمان فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ومع هذا فكانوا يصلون خلفه، بل كان ابن مسعود يصلي أربعاً وإن انفرد ويقول: الخلاف شر، وكان ابن عمر إذا انفر صلى ركعتين. وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعاً مكروهة عندهم ومخالفة للسنة ومع ذلك فلا إعادة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 من فعلها وإذا فعلها الإمام اتبع فيها، وهذا لأن صلاة المسافر ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع فقال: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى. رواه أحمد والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي (1) عن عبد الرحمن فهذه الأربعة ليست من جنس الفجر. ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلى ركعتين تارة ويصلي أربعاً أخرى، ومن فاتته الجمعة إنما يصلي أربعاً لا يصلي ركعتين وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة وجمهور العلماء كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها " وإذا حصلت شروط الجمعة خطب خطبتين وصلى ركعتين فلو قدر أنه خطب وصلى الظهر أربعاً لكان تاركاً للسنة ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعاً ولهذا يجوز للمريض والمسافر والمرأة وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعاً أن يأتم به في الجمعة فيصلي ركعتين فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين وله أن يأتم بمقيم فيصلي خلفه أربعاً فإن قيل الجمعة يشترط لها الجماعة فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف حكم المؤتم.   (1) كذا والصواب اليامي، قال في تقريب التهذيب: زبيد بموحدة مصغر ابن الحارث أبو عبد الله الكريم بن عمرو بن كعب اليامي بالتحتانية، أبو عبد الرحمن الكوفي ثفة ثبت عابد من السادسة مات سنة ثنتين وعشرين أو بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قيل لهم اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره والأقوى أنه شرط مع القدرة وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة فلزمه إتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل فللمسافرين أن يصلوا جماعة قيل ولهم أن يصلوا يوم الجمعة جماعة ويصلوا أربعاً، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعاً ركعتين للسنة وركعتين لكونهم لم يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة وصلاة العيدين تفعل تارة ثنتين وتارة أربعاً كصلاة المسافر بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعاً ويصلون خلفه كما في حديث سلمان وحديث ابن مسعود وغيره مع عثمان ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي الفجر أربعاً لما استجازوا أن يصلوا أربعاً كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر أربعاً. ومن قال إنهم لما قعدوا قدر التشهد أدوا الفرض والباقي تطوع قيل له: من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضاً فإن ذلك ليس بمشروع فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين بل قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة وقال الصبح أربعاً. وقد صلى الإمام فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام أو قيام. وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة وغيرها بصلاة تطوع فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر إن كان لا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 إلا ركعتان بصلاة تطوع، وأيضاً فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلي أربعاً كما ثبت ذلك عن الصحابة وقد وافق عليه أبو حنيفة وأيضاً فيجوز أن يصلي المقيم أربعاً خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون ذلك ويقولون أتموا صلاتكم فإنه قوم سفر. وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم فإنه قد سلم جماهير العلماء أن يصلي هذا خلف هذا كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة وليس هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر. وأما من قال أن المسافر فرضه أربع وله أن يسقط ركعتين بالقصر فقوله مخالف للنصوص وإجماع السلف والأصول وهو قول متناقض فإن هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ولا إلى نظيره وهذا يناقض الوجوب فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجباً على العبد ومع هذا لا يلزمه فعله ولا فعل بدله ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، الذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء الصحابة فإنه لم يشترط في القصر نية وقال: لا يعجبني الأربع وتوقف في إجزاء الأربع. ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال لا يقصر إلا بنية وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره بل والأثرم وأبي داود وإبراهيم الحربي وغيرهم فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أو لم ينوه وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف وما علمت أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قصر ولا في جمع ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعاً كان ذلك مكروهاً كما لو ينوه. ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية القصر ولا نية جمع ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا يحجون معه وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر إما لحدوث عهده بالإسلام وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها. فصل: الخلاف في السفر الشرعي وحكمه: السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره، أما جنسه فاختلفوا في نوعين: أحدهما حكمه فمنهم من قال لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم وهو قول جماعة من السلف كما روينا من طريق ابن أبي عدي حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن ابن مسعود قال: لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد. وعن طاوس أنه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول إذا خرجنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 حجاجاً أو عماراً صلينا ركعتين. وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد، وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد، وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه وعمره وغزواته فثبت جواز هذا والأصل في الصلاة الإتمام فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة. ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة فلا يقصر في مباح كسفر التجارة وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر وهو الصواب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " رواه عنه أنس بن مالك الكعبي وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب " ليس عليكم جناح أن تقصورا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " فقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها. وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها وإن شئنا لم نقبلها، فإن قبول الصدقة لا يجب، ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين وهذا غلط فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا والأمر للإيجاب وكل إحسانه إلينا صدقة علينا فإن لم نقبل ذلك هلكنا وأيضاً فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى، كما قال: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين كما سن الجمعة والعيدين ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد، وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي أربعاً وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعاً فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله. فإن قيل قوله وضع يقتضي أنه كان واجباً قبل هذا كما قال أنه وضع عنه الصوم ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمي وضعاً ولأنه كان واجباً في المقام فلما سافر وضع بالسفر كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية مع أنها لا تجب على مسلم بحال، وأيضاً فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر: حدثني عن صلاة السفر، قال: أتخشى أن يكذب علي؟ قلت: لا، قال: ركعتان من خالف السنة كفر، وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجل عنه وهو مشهور في كتب الآثار، وفي لفظ صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبين أن صلاة السفر ركعتان وأن ذلك من السنة التي خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال إنه لا يقصر إلا في سفر واجب فقوله ضعيف ومنهم من قال لا يقصر في السفر المكروه ولا المحرم ويقصر في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 المباح وهذا أيضاً رواية عن أحمد وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد راويتان: وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لا يقصر فيه، وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا: يقصر في جنس الأسفار وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرماً كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم. والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعاً في جنس السفر ولم يخص سفراً من سفر وهذا القول هو الصحيح فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، قال تعالى: " فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر " كما قال في آية التيمم: " وإن كنتم مرضى أو على سفر " الآية، وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفراً من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراماً ومباحاً ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئاً، وقد علق الله ورسوله أحكاماً بالسفر كقوله تعالى في التيمم: " وإن كنتم مرضى أو على سفر " وقوله في الصوم: " فمن كان مريضاً أو على سفر " وقوله: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وقوله: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم " وقوله: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الصلاة " ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقاً بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلى بائن ورجعي، وتقسيم الإيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة، وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين نوعاً يتعلق به ذلك الحكم ونوعاً لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة ولا نصاً ولا استنباطاً. والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله والعادي هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول، لأن الله أنزل هذا في السور المكية الأنعام والنحل وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الأكل والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصاً يقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافراً والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقاً للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضاً فقوله: " غير باغ " حال من " اضطر " فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: " فلا إثم عليه " ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعداون في قوله: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم بغياً بينهم " وقال تعالى: " فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه " فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 في الجنف خطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: " ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا " والإسراف مجاوزة الحد في المباح، وأما الذنوب فما كان جنسه شر إثم وأما قولهم إن هذا إعانة على المعصية فغلط لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم وإذا عدم الماء في السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلي وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأموراً بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهياً عنه فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين وإن كان عاصياً بسفره وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعاً؟ وكذلك صومه في السفر ليس براً ولا مأموراً به فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: " ليس من البر الصيام في السفر " وصومه إذا كان مقيماً أحب إلى الله من صيامه في سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عرياناً؟ فإن قيل هذا لا يمكنه إلا هذا قيل والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين والمشروع في حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون من صلى أربعاً أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك كما لو فعل ذلك في السفر المباح عندهم. وطائفة يقولون لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أكل الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر وسواء كانت ضرورية بسبب مباح أو محرم فلو ألقي ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفراً محرماً فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى قاعداً، ولو قاتل قتالاً محرماً حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعداً، فإن قيل فلو قاتل قتالاً محرماً هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل يجب عليه أن يصلي ولا يقاتل فإن كان لا يدع القتال المحرم فلا نبيح له ترك الصلاة بل إذا صلى صلاة خائف كان خيراً من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه لأنه مأمور بها، وأما إن خرج ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع. النوع الثاني: من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافراً إلا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلاً لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر والتاني والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك ولم يقدر عثمان للسفر قدراً بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر وكذلك قيل إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة وذكر ابن أبي شبيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد ومأخذ هذا القول والله أعلم أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام والرجل إذا كان مقيماً في مكان يجد فيه الطعام والشراب لم يكن مسافراً بل مقيماً بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس. روى ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن عبد الله ابن مسعود قال: لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم فإنه من مصركم، فقوله من مصركم يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعاً، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي وشرط علي أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه وبينهما نيف وستون ميلاً. وعن حذيفة أن لا يقصر إلى السواد وبين الكوفة. والسواد تسعون ميلاً. وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر: لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال أو بطون الأودية وتزعمون أنكم سفر لا ولا كرامة إنما التقصير في السفر من الباءت (1) من الأفق إلى الأفق. قلت: هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان ولا بالمكان لكان جعلوا هذا الجنس من السير ليس سفراً كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد فهو كالمقيم فقد وافقوا عثمان لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق فهذا هو الظاهر ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: فإنه من مصركم، وهذا كما أن   (1) كذا بالأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له فهم يجعلون ذلك كذلك وإن طال ولا يجدون فيه مسافة وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير، وفي حديث معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا شعبة سمعت قيس بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا قيس بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهدوا عمير مولى ابن مسعود، فهذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة ولكن اعتبر أمراً آخر كالأعمال وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان لكن بعموم الولايات وخصوصها مثل من كان بدمشق فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها كان مسافراً. وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر، وكذلك الخارج إلى ما حول المصر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قبا كل سبت راكباً وماشياً، ولم يكن يقصر وكذلك المسلمون كانوا يتناوبون الجمعة من العوالي، ولم يكونوا يقصرون فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم. وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة ومضافة إليها وهي أكثر تبعاً لها من السواد للكوفة وأقرب إليها منها فإن بين باب شيبة وموقف الإمام بعرفة عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة وهذا السير وهم مسافرون وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قيل المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام قيل بل كان هناك قرية نمرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها وكان بها أسواق وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة لأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام فيه وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سافروا إلى مكة وهي بلد يمكن الإقامة فيه وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف مكة عام الفتح وقال: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وكذلك عمر بعده فعل ذلك رواه مالك بإسناد صحيح ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر بمنى (1) ، ومن نقل ذلك عنهم فقد غلط وهذا بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبا كل سبت راكباً وماشياً وخروجه إلى الصلاة على الشهداء فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم وبخلاف ذهابه إلى البقيع وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة ليجمّعوا (2) بها فإن هذا كله ليس بسفر فإن اسم المدينة متناول لهذا كله وإنما الناس قسمان الأعراب وأهل المدينة ولأن الواحد منهم يذهب ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر فلا يحمل زاداً ولا مزاداً لا في طريقه ولا في المنزل الذي يصل إليه ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافراً ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ ولو كان ذلك سفراً لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفراً فإن الجمعة لا تجب فكيف يجب أن يسافر لها وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافراً لقطعه مسافة محدودة ولا   (1) أي لم يأمروا أهل مكة بالإتمام لأنهم يعدون في منى مسافرين (2) أي ليصلوا الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 لقطعه أياماً محدودة بل كان مسافراً لجنس العمل الذي هو سفر وقد يكون مسافراً من مسافة قريبة ولا يكون مسافراً من أبعد منها مثل أن يركب فرساً سابقاً ويسير بريد ثم يرجع من ساعة إلى بلده فهذا ليس مسافراً وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد فكان مسافراً كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة ولو ركب رجل فرساً سابقاً إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافراً يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن - والمقيم يوماً وليلة " فلو قطع بريداً في ثلاثة أيام كان مسافراً ثلاثة أيام ولياليهن فيجب أن يمسح مسح سفر ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافراً فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثاً أو بطيئاً سواء كانت الأيام طوالاً أو قصاراً ومن قدره ثلاثة أيام أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والإقدام وجعلوا المسافة الواحدة حداً يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم جعلوه مسافراً ولو قطع ما دونها في عشرة أيام لم يجعلوه مسافراً وهذا مخالف النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قبا والعوالي واحد ومجيء أصحابه من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية والحوائط التي هي النخيل وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر، والمسافر لا بد أن يخرج إلى الصحراء فإن لفظ السفر يدل على ذلك يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها بين المساكن لا يكون مسافراً قال تعالى: " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 على النفاق " وقال تعالى: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " فجعل الناس قسمين: أهل المدينة والأعراب، والأعراب هم أهل العمود، وأهل المدينة هم أهل المدر، فجميع من كان ساكناً في مدر كان من أهل المدينة ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من خارجها بل كانت محال محال وتسمى المحلة داراً، والمحلة القرية الصغيرة فيها المساكن وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير " وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار وهناك بنى مسجده وكان حائطاً لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور فأمر بالنخل فقطعت وبالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبنى مسجده هناك وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك قال ابن حزم ولم يكن هناك مصر قال: وهذا أمر لا يجهله أحد بل هو نقل الكوافي عن الكوافي وذلك كله مدينة واحدة كما جعل الله الناس نوعين أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجاً وسوراً وربضاً كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة بريداً في بريد والمدينة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 لابتين، واللابة الأرض التي ترابها حجارة سود وقال: " ما بين لابتيها حرم " فما بين لابتيها كله من المدينة وهو حرم فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافراً، وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافراً فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة ليست كالعوالي من المدينة وهذا أيضاً مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافراً والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافراً فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد فهو مسافر وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده. وكان عثمان جعل حكم المكان الذي يقصده حكم طريقه فلا بد أن يعدم فيه الزاد والمزاد وخالفه أكثر علماء الصحابة وقولهم أرجح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافراً من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها، ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفاً لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له، وعثمان يجوز القصر لمن كان بحضرة عدو كما يحكى عن عثمان أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالمتعة لأنهم كانوا خائفين وخالفه علي وعمران بن حصين وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة؛ وقولهم هو الراجح فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمناً لا يخاف إلا الله وقد أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة والقصر وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر أبيح قصر العدد وقصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الركعات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفراً فلهذا الحكم تعلق بالسفر ولم يعلقه بالخوف. فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال وكلام الصحابة أو أكثرهم من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترط فيه جميع الناس بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل فمن رأوه أثبتوا له حكم السفر وإلا فلا. ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان فروى وكيع عن الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا سافرت يوماً إلى العشاء فإن زدت فقصر، ورواه الحجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك. وروى وكيع عن شعبة عن شبيل عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب وتجيء في يوم؟ قلت: نعم، قال: لا، إلا يوم متاح. فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله في يوم هذه مسيرة بريد وأذن في يوم وفي الأول نهاه أن يقصر إلا في أكثر من يوم وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال: إذا خرجت من عند أهلك فاقصر فإذا أتيت أهلك فأتمم. وعن الأوزاعي: لا قصر إلا في يوم تام. وروى وكيع عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي عن عطاء بن أبي رباح قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف وعسفان فذلك ثمانية وأربعون ميلاً. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قلت لابن عباس: أقصر إلى منى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أو عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة، وهذا الأثر قد اعتمده أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان وثلاثون ميلاً؛ قال: وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلاً، قلت: نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى وابن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة ومزدلفة كطاوس وغيره وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج وكان أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم: أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه حجة قاطعة فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقاً كثيراً وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه وإنما صلى بمنى أيام منى قصراً والناس كلهم يصلون خلفه أهل مكة وسائر المسلمين لم يأمر أحداً منهم أن يتم صلاته ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ثم أبو بكر وعمر بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة وغيرهم كذلك ولا يأمران أحداً بإتمام مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، وهذا أيضاً مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة عام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الفتح لا في حجة الوداع فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة بل كان يصلي بمنزله وقد رواه أبو داود وغيره وفي إسناده مقال. والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة وغيرهم وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام علم قطعاً أنهم كانوا يقصرون خلفه وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس ولا غيره ولهذا لم يعلم أحداً من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا لم يعلم واحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى أو عرفة سفراً لا ينزل فيه بمنى وعرفة بل يرجع من يومه فهذا لا يقصر عنده لأنه قد بين أن من ذهب ورجع من يومه لا يقصر وإنما يقصر من سافر يوماً ولم يقل مسيرة يوم بل اعتبر أن يكون السفر يوماً وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلاً وغيره يقول أربعة برد ثمانية وأربعون ميلاً، والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً عمدتهم قول ابن عباس وابن عمر وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ ببعض أقوالهما دون بعض بل إما أن يجمع بينهما وإما أن يطلب دليل آخر فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخاً من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحداً قال بأقل من القصر فيما دون هذا فيكون هذا إجماعاً وهذه طريقة الشافعي وهذا أيضاً منقول عن الليث ابن سعد فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 والطريقة الثانية: أن يقولوا هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فصار إجماعاً، وهذا باطل فإنه نقل عنهما هذا وغيره وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك. وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو من كلام ابن عباس، أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة ودون سائر المسلمين؟ وكيف يقول هذا وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدهما بزمان، ومالك قد نقل عنه أربعة برد كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه، قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة للثقل قال: وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي، وقد ذكر عنه لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلاً فصاعداً. وروي عنه: لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلاً فصاعداً، وروي عنه: لا قصر إلا في أربعين ميلاً فصاعداً، وروى عنه إسماعيل ابن أبي أويس: لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً قصداً. ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى فما فوقها وهي أربعة أميال. وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فتأول فأفطر في رمضان: لا شيء عليه إلا القضاء فقط، وروي عن الشافعي أنه لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي. والآثار عن ابن عمر أنواع فروى محمد بن المثنى: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري سمعت جبلة بن سحيم يقول سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن محارب بن زياد سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر - يعني الصلاة -. محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة ومسعر أحد الأئمة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال. قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي ولاه محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب قال: وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلاً فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ وأنه كان يسافر بريداً وهو أربعة فراسخ فلا يقصر. وكذلك روى عنه ما ذكره غندر: حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلاً فلما أتاها قصر الصلاة، وروى معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد. وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا وفي ما هو أقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 منه. وروى وكيع عن سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة قال: حاج أو معتمر أو غاز؟ فقلت: لا ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال: تعرف السويداء؟ فقلت: سمعت بها ولم أرها، قال: فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع إذا خرجنا إليها قصرنا، قال ابن حزم من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة وعشرون فرسخاً. قلت: فهذا مع ما تقدم يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديداً لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد فأجابه ابن عمر بجواز القصر. وأما ما روي (1) من طريق ابن جريج أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه، وكذلك ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب بن حميد كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر وهي بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز وهي مائة ميل غير أربعة أميال قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر ثم على نافع أيضاً عن ابن عمر. قلت: هذا النفي وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعاً ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال أنه اختلف اجتهاده بل نفي لقصره فيما دون ذلك وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع وغيره أنه قصر فيما دون ذلك فهذا قد يكون غلطاً فمن روى عن أيوب إن قدر أن نافعاً روى   (1) ينظر أين جواب أم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 هذا فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك. وروى حماد بن زيد حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه وهي على رأس خمسة فراسخ فصلى بنا العصر في سفينة وهي تجري بنا في دجلة قاعداً على بساط ركعتين ثم سلم ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم. وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال كانت من طريقه فقصر في خمسة فراسخ وهي بريد وربع وفي صحيح مسلم حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك - صلى ركعتين ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا لأن السائل سأله عن قصر الصلاة وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك ولم يقل لك أحد فدل على أن أنساً أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر يقول أنه لا يقصر إلا في السفر فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وهذا يوافق قول من يقول لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفراً لا يكتفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه، وابن حزم يحد مسافة القصر بميل لكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو، وابن حزم يقول إنه يقصر في كل سفر، وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة وأصحابه يقولون إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر ولم يجدوا أحداً قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول السفر هو البروز عن محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا فخرج هذا عن أن يكون سفراً ولم يحدوا أقل من ميل يسمى سفراً؛ فإن ابن عمر قال لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفراً ولم نجد أعلى منها يسمى سفراً جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه فيمن حينئذ يقصر ويفطر وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه. قلت: جعل هؤلاء السفر محدوداً في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفراً هو الميل وأولئك جعلوه محدوداً بالشرع وكلا القولين ضعيف، أما الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفراً وما لا يسمى سفراً هو مسافة محدودة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدوداً بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشتمله اسم مدينة ميلاً قيل له فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر حد المدينة، ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون كخروجهم إلى قباء والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن. وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يوماً وهذا يوماً كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يوماً وهذا يوماً، وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة هو كقوله أني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهاراً لم يقصر إلى الليل. وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر من سافر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 قصر، ولو كان قصده هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافراً لا يكون متنقلاً بين المساكن فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضاً مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في الشرع ولا لغة، ولا عرف ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقاً بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافراً وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون في ذلك مسافراً فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفراً لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافراً وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد ولم يسم سفراً، وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذي يسمى سفراً، ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل سموه سفراً فهو سفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فصل: وأما الإقامة فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكم مقيم وإما حكم مسافر، وقد قال تعالى: " يوم ظعنكم ويوم إقامتكم " فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة، والله تعالى أوجب الصوم وقال: " فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر " فمن ليس مريضاً ولا على سفر فهو صحيح المقيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم. وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه فدل على أنهم كانوا مسافرين، وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر غداً أسافر، بل فتح مكة، وأهلها وما حولها كفار محاربون له وهي أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب، وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة وكذلك في تبوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وأيضاً فمن جعل للمقام حداً من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة، وإما عشرة وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر، فإن قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع وهي تقديرات متقابلة، فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر، والثالث مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام، وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا لا تنعقد به الجمعة، وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن. وهذا التقسيم وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنه تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه انعقدت به، وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيماً يجب عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن، لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال إنه لا دليل عليه؛ بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع وحاله بتبوك، بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة ليقضوا مناسكهم ثم يرجعوا، وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذي الحجة وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام، وقد يقدم بعد ذلك، وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة ولا إتمام، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم رابعة من ذي الحجة وكان يصلي ركعتين لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ولو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 هذا حداً فاصلاً بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين كما قال تعالى: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمراً معلوماً لا بشرع ولا لغة ولا عرف وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً والقصر في هذا جائز عند الجماعة وقد سماه إقامة ورخص للمهاجر أن يقيمها فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم بل المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك أن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس قال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج " وقال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " وجعل ما تحرم المرأة بعده من الطلاق ثلاثاً فإذا طلقها ثلاث مرات حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره لأن الطلاق في الأصل مكروه فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه الحاجة وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة، ثم المهاجر لو قدم مكة قبل الموسم بشهر أقام إلى الموسم فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفراً كانت إقامته إلى الموسم سفراً فتقصر فيه الصلاة وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاثاً كان لهم ذلك ولو أقاموا أكثر من ثلاث لم يجز لهم ذلك وجاز لغيرهم أن يقيم أكثر من ذلك، وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر ولا كانوا ممنوعين لأنهم كانوا مقيمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 لأجل تمام الجهاد وخرجوا منها إلى غزوة حنين وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث. فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر والذين حدوا ذلك بأربعة منهم من احتج بإقامة المهاجر وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم لمصر أن يكون مقيماً يتم الصلاة لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته فإنه أقامها وقصر، وقالوا في غزوة الفتح وتبوك أنه لم يكن عزم على إقامة مدة لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين وهذا الدليل مبني على أنه من قدم لمصر فقد خرج عن حد السفر وهو ممنوع بل هو مخالف للنص والإجماع والعرف، فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة أو يبيعها ويذهب هو مسافر عند الناس وقد يشتري السلعة ويبيعها في عدة أيام ولا يحد الناس في ذلك حداً. والذين قالوا يقصر إلى خمسة عشر قالوا: هذا غاية ما قيل وما زاد على ذلك فهو مقيم بالإجماع، وليس الأمر كما قالوه وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد على الأربعة احتياطاً واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم أو يقصر لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع فإن كان صلى الفجر بمبيته وهو ذو طوى فإنما صلى بمكة عشرين صلاة وإن كان صلى الصبح بمكة فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة والصحيح أنه إنما صلى الصبح يومئذ بذي طوى ودخل مكة ضحى وكذلك جاء مصرحاً به في أحاديث، قال أحمد في رواية الأثرم إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك إثم واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 قال فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر فلماذا جمع على أكثر من ذلك إثم قال الأثرم قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم. قال قيل لأبي عبد الله يقول أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر؟ فقال: هذا شيء آخر هذا لم يعزم. فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضي الوجوب وأيضاً فإنه معارض يقول من يوجب القصر ويجعله عزيمة في الزيادة، وقد روى الأثرم: حدثنا الفضل ابن دكين حدثنا مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمّان أو بعمان شهرين فكان يصلي ركعتين ونصلي أربعاً فذكرنا ذلك له فقال: نحن أعلم. قال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول قال بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام فقد أجمع إقامة أكثر من أربعة. قال الأثرم: حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا يحيى عن حفص بن عبيد الله أن أنس ابن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة. قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام حدثنا ابن شهاب عن سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة، وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى إنه كان أحياناً يحرم بالحج من هلال ذي الحجة، وهو كان من المهاجرين فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ولهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 أوصى لما مات أن يدفن بسرف لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها. وقال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: ما كان ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام ولهذا أقام مرة ثنتي عشر يصلي ركعتين وهو يريد الخروج وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم وكان ابن عمر كثير الحج وكان كثيراً ما يأتي مكة قبل الموسم بمدة طويلة. قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع حدثنا القاسم بن موسى الفقير عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري وأبا صرمة الأنصاري وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم فصاموا رمضان وقاموه وأتموا الصلاة. قال الأثرم: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل قال خرج مسروق إلى السلسلة فقصر الصلاة فأقام سنين يقصر حتى رجع وهو يقصر قيل يا أبا عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: إتباع السنة. فصل: والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعاً ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده، فأقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين، وأربعاً بمنزلة الصوم والفطر في رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر، وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحاً وبذلك استدل الشافعي وبعض أصحاب أحمد قال الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر أن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم في السفر وقصر، قلت: وهذا الحديث رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم، قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح، قال البيهقي: ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف، وروي حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندي عن عطاء عن عائشة قالت: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى مكة أربعاً حتى نرجع. وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم وقصر وصام وأفطر. قال البيهقي وقد قال عمر بن ذر كوفي ثقة: أنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعاً وروى ذلك بإسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وإن كان في رواية دلهم زيادة سند. قلت: أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعاً فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما أسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وثقوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهداً للمسند قال ابن حزم في هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ضعيف كل حديث أسنده منكر. قلت: فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضاً وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه كان يقصر في السفر وتتم ويفطر وتصوم بمعنى أنها هي التي كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضاً. قال البيهقي: وله شاهد قوي بإسناد صحيح وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال: " أحسنت يا عائشة " ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر إياه. قال الدارقطني: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ثنا عباس الدوري ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي. قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 في هذا الحديث فقد أخطأ. قلت: أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقه أهل الحديث والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي ولفظه عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها. والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء ابن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعاً فإنه قال فيه إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافراً في رمضان وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعاً والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 اتفق عليها أهل العلم به إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عمر منها ثلاث في ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالاحصار ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة، ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية، وكانت ذي القعدة أيضاً، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضاً، والرابعة مع حجته، ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج، ثم اعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا كله تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين، وعمرة مع حجته. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري اعتمر أربعاً عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته. وفي الصحيحين عن البرآء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري. وأراد بذلك العمرة التي أتمها وهي عمرة القضية والجعرانة، وأما الحديبية فلم يمكن إتمامها بل كان منحصراً لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 باتفاق أهل العلم وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط ما اعتمر إلا وهو معه. وفي رواية عن عائشة قالت: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وكذلك عن ابن عباس رواهما ابن ماجة. وقد روى أبو داود عنها قالت: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال، وهذا إن كان ثابتاً عنها فلعله ابتداء سفره كان في شوال ولم تقل قط أنه اعتمر في رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض. وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة وثبت أيضاً أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلاً قاطعاً على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان وقالت: أتممت وصمت فقال: أحسنت، خطأ محض. فعلم قطعاً أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب. فإن قيل فيكون قوله في رمضان خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان لأنها قالت: قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: أحسنت يا عائشة، وهذا إنما يقال في الصوم الواجب. وأما السفر في غير رمضان فلا يذكر فيه مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز، وأيضاً فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ففرضت ثلاثاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى وإذا قام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح لأنها تطول فيها القراءة فقد أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين، فلو كان تارة يصلي أربعاً لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة. وأيضاً فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أقل من عشرين سنة لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشراً فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة كان عمرها قريباً من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل، وأيضاً فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة. وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة وعن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبي عن عائشة، وهذا مما اتفق أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه وهي تراه والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين، وأيضاً فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة ابن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد كما رواه النيسابوري والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أخي إنه لا يشق علي. وأيضاً فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت في الحضر أربعاً. قال صالح: فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال: إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر قال: فوجدت عروة يوماً عنده فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة فحدث مما حدثني به. فقال عمر: أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعاً في السفر قال: بلى. وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. قال الزهري: قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال: أنها تأولت كما تأول عثمان، فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي، وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان، فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عثمان، ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد. ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو أبطل منه وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر، وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق عليها أصحابه نقلاً عنه وتبليغاً إلى أمته، لم ينقل عنه قط أحمد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعاً بل تواترت الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه. والحديث الذي يرويه زيد العمي عن أنس بن مالك قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر. هو كذب بلا ريب وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك والثابت عن أنس إنما هو في الصوم، ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 بتأويلات يبين فسادها ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي. والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد قيل أنه مصحف وإنما لفظه كان يقصر وتتم هي بالتاء ويفطر وتصوم هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة. وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعاً وإنما الثابت عن عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً كما رواه غيره، ولو كان عند عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة لكانت تحتج بها، ولو كان ذلك معروفاً من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائماً في السفر فإن هذا السفر مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه، بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه، فإنما كان يسافر بها أحياناً وكانت تكون مخدرة في خدرها وقد ثبت عنها في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هاني عن المسح على الخفين قالت: سل علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في السفر فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها في الحضر ولا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 السفر إلا إماماً بأصحابه، إلا أن يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب في السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح، ولما حضر النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك وصوبه، وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعاً وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإن ذلك مخالف لعادته في عامة أسفاره فلو فعله أحياناً لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله، وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين أحياناً، وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص، مع أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وقد روي أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعاً لو فعل ذلك في السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع، بل كان ينقله المسلمون ومن جوز عليه أن يصلي في السفر أربعاً - ولا ينقله أحد من الصحابة، ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة، والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر مرة أربعاً لصدق ذلك، ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد، مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ويعلم أنه لو كان حقاً لكان ينقل ويستفيض، وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى: " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف، مع العلم بأن ذلك لو كان حقاً لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، وذلك مما روى أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة، قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط، إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ثم حججت مع أبي بكر واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان أتم، فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين. تمرت فصلى ركعتين وقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان أتم، فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين. وأما ما ذكره من قوله: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فهذا مما قاله بمكة عام الفتح، لم يقله في حجته، وإنما هذا غلط وقع في هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الرواية. وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده، رواه البيهقي من طرقه ولفظه: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلا صلى ركعتين، حتى يرجع ويقول: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وغزا الطائف وحنين، فصلى ركعتين وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع أبي بكر واعتمرت، فكان يصلي ركعتين، وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين، فلم يذكر قوله إلا عام الفتح، قبل غزوة حنين والطائف، ولم يذكر ذلك عن أبي بكر وعمر، وقد رواه أبو داود في سننه صريحاً من حديث ابن علية: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول: " يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر " وهذا إنما كان في غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى، وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة في الحج ركعتين، ثم قال عمر بعد ما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر. هذا ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة، لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي على نقله، مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون أن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى، أفيكون كان معروفاً عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك؟ أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم؟. وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين. حارثة هذا خزاعي وخزاعة منزلها حول مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل أنه كان لأنه تأهل بمكة، فصار مقيماً، وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذآب، أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات، فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تأهل في بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة " فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك، فإن عثمان كان من المهاجرين، وكان المقام بمكة حراماً عليهم. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً، وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته، فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة، لئلا يقيم بمكة فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطناً بمكة إلا أن يقال أنه جعل التأهل إقامة لا إستيطاناً، فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك، لكن قد يكون نفس التأهل مانعاً من القصر، وهذا أيضاً بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بمنى، وأيضاً فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون إقتداءً به، ولو كان عذره مختصاً به لم يفعلوا ذلك، وقيل إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضاً ضعيف، فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أجهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 منهم في زمن عثمان، ولم يتمم الصلاة وأيضاً فهم يرون صلاة المسلمين في المقام أربع ركعات، وأيضاً فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم، فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك، وعروة قد قال أن عائشة تأولت كما تأول عثمان، وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها (1) ، أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر، ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعاً، كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ، أن ذلك كان لأجل حاجتهم، إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت. تمت. جاء في آخر النسخة التي طبعنا عنها هذه الرسالة ما نصه: هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة، للشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان المنقول عنها يقول كاتبها أنه نقلها من نسخة بخط ابن المقيم رحمهم الله وقد وقع الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية، وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي والحمد لله رب العالمين.   (1) سبق مثل هذا الكلام أيضا في الصفحة 42 من هذا الكتاب فانظره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الجزء الثالث كتاب مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره وما حققه في مواضع من كتبه ومؤلفاته علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم قال الإمام أبو الحسن بن عروة رحمه الله تعالى في الكواكب (1) : نقل من سؤال قدم من بلاد كيلان في مسألة القرآن إلى دمشق في سنة أربع وسبعمائة من جهة سلطان تلك البلاد على يد قاضيها، لأجل معرفة الحق من الباطل عندما كثر عندهم الاختلاف والاضطراب، ورغب كل من الفريقين في قبول كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية في هذا الباب، فأملاه شيخ الإسلام في المجلس، وكتبه أحمد بن محمد بن مري الشافعي بخط جيد قوي، ثم إن كاتب هذه الأوراق اطلع على هذه الفتوى يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فاخترت لنفسي منها مواضع نقلتها في هذه الأوراق إذا الجواب طويل جداً. صورة السؤال: ما تقول السادة أئمة الدين رضي الله عنهم في قوم يقولون: إن كلام الناس وغيرهم قديم، سواء كان الكلام (2) صدقاً أو كذباً، فحشاً أو غير فحش، نظماً أو نثراً ولا فرق بين كلام الله عز وجل وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب. وقال قوم منهم بل أكثرهم: أصوات الحمير والكلاب كذلك (3) لما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد رداً على قولهم تأولوا ذلك القول وقالوا إن أحمد إنما قال ذلك خوفاً من الناس، فهل هم مصيبون أو مخطئون؟ فإذا كانوا مخطئين فهل على ولي الأمر   (1) نقل من الجزء العشرين من الكواكب المودع في خزانة المكتبة العمومية بدمشق في المدرسة الظاهرية (2) وجد في الأصل ههنا لفظة كلام وهي زائدة كما أشار في حاشية نسختنا (3) لعل الأصل ولما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 وفقه الله ردعهم وزجرهم عن ذلك أم لا؟ وإذا وجب زجرهم فهل يكفرون إن أصروا أم لا؟ وهل الذي نقل عن الإمام أحمد حق، أو هو كما يزعمون؟ أفتونا مأجورين. أجاب الإمام العلامة شيخ الإسلام قامع البدع ومظهر الحق للخلق أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأً محرماً فاحشاً بإجماع المسلمين، وقد قالوا منكراً من القول وزوراً، بل كفراً وضلالاً ومحالاً، ويجب نهيهم عن هذا القول الفاحش، ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاءً بما كسب نكالاً من الله، فإن هذا القول مخالف للعقل والنقل والدين، مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، وهي بدعة شنيعة لم يقلها قط أحد من علماء المسلمين، لا من علماء السنة ولا من علماء البدعة، ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول، ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداهة العقل أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة، إلا من جهة أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة، وإن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين، ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف، وليعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم، بل قول الأئمة مناقض لقولهم، فإن الأئمة كلهم نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق، بل نص أحمد على أن فعال العباد مخلوقة عموماً وعلى كلام الآدميين خصوصاً، لم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لمثل هؤلاء المبتدعة. ثم ساق الشيخ كلاماً طويلاً إلى أن قال: ومن المشهورفي كتاب صريح السنة لمحمد بن جرير الطبري - وهو متواتر عنه - لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال: وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عمن في قوله الشفا والغنى، وفي إتباعه الرشد والهوى، ومن قام مقام الأئمة الأول: أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 حدثني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: اللفظية جهمية. قال ابن جرير: سمعت من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير: القول في ذلك عندنا لا يجوز أن يقول أحد غير قوله، إذ لم يكن إمام قائم به سواه، وفيه كفاية لكل متبع، وقناعة لكل مقتنع، وهو الإمام المتبع. وقال صالح بن الإمام أحمد: بلغ أبي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء فقال له أبي: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب أبي وجعل يرتعد، فقال له: قرأت عليك: " قل هو الله أحد " فقلت لي: هذا ليس بمخلوق، فقال له: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم، فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم أني لم أقل هذا، وغضب وقال له: تحكي عني ما ألم أقل؟ فجعل فوزان يعتذر إليه (1) . وانصرف من عنده وهو مرعوب، فعاد أبو طالب فذكر أنه حكى ذلك من كتابه وكتب إلى أولئك القوم يخبرانه وهم علي أبي عبد الله في الحكاية عنه، قال أبو عبد الله: القرآن حيث تصرف غير مخلوق. وقال عبد الوهاب الوراق: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فإنه يهجر ولا يكلم ويحذر منه، وذكر الخلال في كتاب القراءة عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وكنت سألته عن قوله (2) : من لم يتغن بالقرآن، قال: هو الرجل يرفع صوته به فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به، وعن منصور وصالح أنه قال لأبيه يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال: نعم إن شاء رفع، ثم ذكر   (1) كذا بالأصل وليحرر (2) يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سنن أبي داود بلفظ " ليس منا من لم يتغن بالقرآن" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 حديث أم هانئ: كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريشي من الليل. وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال: كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت رجل لا يتكلفه. قال: وأما قول القائل أن أحمد قال ذلك خوفاً من الناس فبطلان هذا القول يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا هو إلى العقوبة البليغة أحوج منه إلى جوابه لافترائه على الأئمة، فإن الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة، والصبر على الحق، فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد لقوله تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " فإنه أعطي من الصبر واليقين، وينال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل، وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك مما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، ولهذا قال بعض علماء الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل، فكيف يظن به أنه كان يخاف هذه الكلمة التي لا قدر لها، وأيضاً فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولاً مبتدعاً، فكيف بكلمة ما قالها أحد قبله. قال: فالمنتسبون إلى السنة والحديث وإن كانوا أصلح من غيرهم وفيهم من الخير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ما لا يوجد في غيرهم، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فكما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم من الخير فهو في المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبون إلى السنة قد يوجد فيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم، وإن كان في غيرهم خير فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر. قال: ويجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقاً ولا يحتاج إلى تفصيل بأن يقال نظمه أو تأليفه أو غير ذلك، وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه، وعامة ما يوجد في كتاب الله وسنة رسوله وكلام السلف وسائر الأمم عربهم وعجمهم فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً لشموله لهما فيقال عن كلام الله وهو القرآن هذا كلام الله وهذا كلام فلان. قال: وأما الأمة الوسط الباقون على الفطرة فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه: هذا كلام ذاك لا كلامك وإنما بلغته بقولك، كما قال أبو بكر الصديق لما خرج على قريش فقرأ " ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض " الآية. فقالوا هذا كلامك أو كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله. وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل " فبين أن ما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته، والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة أو كلاماً أو قرآناً، أو مسألة قالوا هذا كلام فلان وقوله فإنه هو الذي اتصف به وألفه وأنشأه. قال: وكذلك من تبع آباءه الذين سلفوا من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه في مثل قوله: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " وفي قوله: " يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " الآية. وكذلك من اتبع الظنون والأهواء معتقداً أنها عقليات وذوقيات فهو ممن قال الله فيه: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالمعجزات كما قال تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " وقال: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " وقال: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه " الآية. وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " الآية. فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكاً بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد من جميع الأمم إن من تلبس بهذه الخصال من سائر الأمم وهي جماع الصلاح وهي الإيمان بالله والبعث والمعاد والإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وهو أداء المأمورات وترك المحظورات فإن له أجره عند ربه ولا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه، وإسلام الوجه هو إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قول: " إياك نعبد وإياك نستعين " وهو محسن، فالأول وهو إسلام الوجه وهو النية وهذا الثاني وهو الإحسان هو العمل الصالح. وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه على جميع عباده من الأولين والآخرين، وهو دين الله العام الذي بعث به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب. فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب فإنهم يكفرون الفاسق الملي، فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة - ومنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 من قال والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبداً بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام، قالوا: والإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات فيكون العاصي كافراً لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر، وقالت المعتزلة: ننزله منزلة بين المنزلتين: نخرجه من الإيمان ولا ندخله في الكفر، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية فإن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين. وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول قول القلب واللسان، وفي العمل عمل القلب والأركان، وقال المنتصرون لمذهبهم (1) أن للإيمان أصولاً وفروعاً وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرها من العبادات، فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل أو ترك مثل الإحرام ومثل ترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف بالبيت وبين الجبلين المكتنفين له وهما الصفا والمروة. ثم الحج مع هذا اشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه وهي الوطء، ومشتمل على واجبات من فعل وترك يأثم بتركها عمداً، ويجب مع تركها لعذر أو غيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها ولا يأثم بتركها ولا توجب دماً، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر أو نهي أو ذكر: من فعل الواجب   (1) لفظ (وقال) ليست من الأصل الذي طبعنا عنه ولكنها ضرورية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وترك المحظور فقد تم حجه وعمرته لله وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل، لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم حجاً وعملاً وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فهو حج ناقص يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما ترك، ومن أخل بركن أو فعل مفسداً فحجه فاسد لا يسقط به فرضه بل عليه إعادته، مع أنه قد تنازعوا في إثباته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض، والأشبه أنه يثاب عليه، فصار الحج ثلاثة أقسام كاملاً بالمستحبات، وتاماً بالواجبات فقط، وناقصاً عن الواجب، والفقهاء يقسمون الوضوء إلى كامل فقط ومجزئ، ويريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه بالمجزئ ما اقتصر على واجبه، فهذا في الأعمال المشروعة وكذلك في الأعيان المشهودة فإن الشجرة مثلاً اسم لمجموع الجذع والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة كاملة وبعد ذهاب الأغصان شجرة ناقصة، فليكن مثل ذلك في مسمى الإيمان. والذين قالوا (1) الإيمان ثلاث درجات: إيمان السابقين المقربين، وهو ما أتي فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك، وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين وهو ما ترك صاحبه فيه بعض الواجبات، أو فعل فيه بعض المحظورات، ولهذا قال علماء السنة: لا يكفر أحد بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، وإيمان الظالمين لأنفسهم وهو من أقر بأصل الإيمان وهو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله وهو شهادة أن لا إله إلا الله ولم يفعل المأمورات ويجتنب المحظورات، فإن أصل الإيمان التصديق والانقياد فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن وقد تواتر في الأحاديث: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان - مثقال حبة من خير - مثقال ذرة من خير " و " الإيمان بضع وستون أو بضع   (1) قوله والذين قالوا - ليس بعده ما يصلح أن يكون خبراً له فالظاهر أن أصله: وقالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وسبعون (1) شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة، وإن قليله يخرج به صاحبه من النار إن دخلها، وليس كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة أنه لا يقبل التبعيض والتجزئة بل هو شيء واحد إما أن يحصل كله وإما أن لا يحصل منه شيء. واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم، وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدراً ووصفاً، فإن ما جاء به محمد من صفات الله وأسمائه وذكر اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء ومنه ما تختلف الشرائع والمناهج كالقبلة والنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك، فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة، بل مسماه في الآخر أكمل من مسماه في أول البعثة وأوسطها، كما قال تعالى في آخر الأمر: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقال بعدها: " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ولهذا قال الإمام أحمد: كان الإيمان في أول الإسلام ناقصاً فجعل يتم، وهكذا مسمى الإيمان والدين قد يتنوع بحسب الأشخاص، وبحسب أمر الله كلاً منهم، وبحسب ما يفعله مما أمر به، وبحسب إقباله وحضوره وإخلاصه، فإن المؤمنين من الأولين والآخرين مشتركون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولكن بينهم تفاوت ما في القلوب إذا ذكر الله وما في اليوم الآخر ما تفاوت به الإيمان، فعند ذكر الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك يزداد الإيمان الواجب لقوله: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " الآية. وقوله: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " الآيات.   (1) هذه رواية مسلم بالشك واعتمد البخاري رواية العدد الأول وأصحاب السنن العدد الثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وقوله: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع " الآية. وقوله في الجنة: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث نفى الإيمان الواجب عنه الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه هذا معنى قولهم نفي كمال الإيمان، وحقيقة ذلك أن الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء: الغسل كامل ومجزئ، ومنه قوله عليه السلام: " من غشنا فليس منا " ليس المراد به أنه كافر كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا كما تأولته المرجئة، ولكن المضمر يطابق المظهر، والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب، السالمون من العذاب، والغاش ليس منا (1) لأنه متعرض لعذاب الله وسخطه. إذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب في الجملة لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأموراً بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بمنزلة صلاة المريض والخائف وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أفضل، وأكمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " رواه مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث حسن السياق: " إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس " ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علماً واعتقاداً وإن لم يعمل به. قال فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن بالسيئات، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وإن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر،   (1) الأظهر أن يكون؛ ليس منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وأنه يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر ما دون الشرك، وأن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل، ونحو ذلك، فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما قد جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة، وبهذا يتبين أنا نشهد بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه، لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه. وفائدة هذا الوعيد أن هذا الذنب سبب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه. يبين هذا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها، وثبت عنه في الصحيح أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن الخمر لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن أولاً شاربها على العموم. قال فمسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل فنبدأ بمذاهب الأئمة في ذلك قبل التنبيه على الحجة فنقول: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله، بل وجميع الرسل، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال غير واحد من الأئمة: أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفروا من يقول أن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ونحو ذلك من صفاته، وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه يكفرهم فإن بدعهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون علياً على أبي بكر لا يختلف قوله أنه لا يكفرهم، وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون. قال: وعنه في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان أصحهما ما لا يكفر، والجهمية عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. قال: فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها (1) وإثابة قائلها، وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها. قال: وفي الإدلالة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطأه وإن عذب المخطيء من غير هذه الأمة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له " وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب الصحيح والمساند من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عامر وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيد العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم، فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من يصل إلى الحالة التي أمر أهله أن يفعلوها به، وإن من أحرق وذري لا يقدر الله أن يعيده ويحشره إذا فعل به ذلك، وأنه ظن ذلك ظناً ولم يجزم به.   (1) هذه الجملة تعليل لمن كفروا دعاة البدعة دون سائر أهلها وكان ينبغي لابن عروة أن لا يحذف ذكرهم من تلخيصه لكلام شيخ الإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وهذا أصلان عظيمان: أحدهما متعلق بالله وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ولو صار إلى ما يقدر صيرورته إليه مهما كان فلا بد أن الله يحييه ويجزيه بأعماله، فهذا الرجل مع هذا لما كان مؤمناً بالله في الجملة ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح وهو خوفه من الله أن يعاقبه على تفريط غفر له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه، كما أن الذي وجد راحلته بعد إياسه منها أخطأ من شدة فرحه. وقد وقع الخطأ كثيراً لخلق من هذه الأمة واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام، وكذلك لبعضهم في قتال بعض وتكفير بعض أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ " بل عجبتُ " ويقول أن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ " بل عجبت " فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة لله دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحاً إمام من الأئمة، وكذلك بعض العلماء أنكر حروفاً من القرآن كما أنكر بعضهم: " أولم ييأس الذين آمنوا " فقال: إنما هي " أولم يتبين الذين آمنوا " وآخر أنكر " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " فقال: إنما هي " ووصى ربك " وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورتي القنوت، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع، وكذلك الخطأ في الفروع العلمية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثماً، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذا القولان شاذان ولم يقل أحد بتكفير المخطئ فيها، فقد أخطأ بعض السلف فيها مثل خطأ بعضهم في بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أنواع الربا واستحلال آخرين القتال في الفتنة، وقد قال تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث - إلى قوله - ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " وفي الصحيح: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ". والسنة والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما وجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضاً من أصول الإيمان، فإن الإيمان الذي يوجب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون (1) وأولئك في الدرك الأسفل من النار. بل أصل هذه البدع من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته مأخوذاً عن الصابئين والمشركين وأصل هؤلاء هو الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في غير ذلك ممن كان هذا أصله، فهو يعد الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة   (1) كذا في الأصول وهو محرف فاما أن يكون أول الجملة فأكثر ما يوجد إلخ وأما أن يكون آخرها. من الزنادقة المنافقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك كإنكار تكليم الله لموسى واتخاذ الله إبراهيم خليلاً. قال: فإن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها ما شرع من العقوبات دفعاً للظلم والعداون وكسراً للنفوس العاتية الباغية ودفعاً لشر الجبار الطاغي، وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير ملتزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس ولهذا أكثر السلف على قتل الداعي إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين سواء قالوا هو كافر أو ليس بكافر. وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول، وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان والعمل الصالح ما ليس في بعض، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فصل: في مسألة القرآن العزيز وذكر دلالة الكتاب والسنة على ما اتفق عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين: الأئمة الأربعة وغيرهم والتنبيه على الأقوال التي حدثت بعد السلف الصالح كقول السلف أن القرآن كلام الله. قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وهو منزل من الله، كما قال تعالى: " أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقاً. وقال تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - حم تنزيل من الرحمن الرحيم ". وقال تعالى: " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ". وقال تعالى: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى " ونحو ذلك. وقال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء وأنه منزل من الله إلا كلامه بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك، لذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فإن من قال إنه مخلوق يقول أنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها؛ والمخلوق أنزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله تعالى أنه مخلوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور، لو كان مخلوقاً في غيره لم يكن الرب تعالى متصفاً به، بل كان يكون صفة لذلك المحل، فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفاً بصفة موجودة قائمة بغيره لأنه فطر ذلك (1) ، ما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به، وهذا مبسوط في مواضع أخر. ومن قول السلف أن الناس من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين، قال الله تعالى: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ". وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ علي القرآن " قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت إلى هذه الآية: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " قال: " حسبك " فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء. والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى: " قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ". وقال تعالى: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ". وقال تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس - وهو الروح الأمين وهو جبريل - من الله بالحق، ولم يقل أحد من السلف أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله وإنما قال ذلك بعض المتأخرين، وقوله تعالى: " إن   (1) قوله لأنه فطر ذلك ليس له معنى فلابد أن يكون محرفا وما قبله وما بعده سيأتي بيانه في مواضيع أخرى من هذه المباحث كما أشار إليه في قوله وهذا مبسوط في مواضع أخرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه " هو كقوله تعالى: " نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق " وقوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته، فإن لفظ نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه، فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه، فهو سبحانه أحق باسم نحن، وفعلنا ونحو ذلك من كل ما يستعمل. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " فإذا قرأه رسولنا، وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أي نقرؤه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحياً، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولاً فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء، وقال تعالى: " الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس " فإذا أرسل الله تعالى رسولاً كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم " وإنما نبأهم بوساطة الرسول، والرسول مبلغ به، كما قال تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ". وقال تعالى: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ". وقال تعالى: " وما على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الرسول إلا البلاغ المبين " والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ". وقال صلى الله عليه وسلم لما خطب المسلمين: " ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ". وقال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه إلى غير فقه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". وفي السنن عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكما لم يقل أحد من السلف أنه مخلوق فلم يقل أحد منهم أنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله، ولما ظهر من قال أنه مخلوق قالوا رداً لكلامه أنه غير مخلوق، ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحداً من المسلمين لم يقل أنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا أنه مخلوق خلقة الله في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود. وأول من عرف أنه قال مخلوق الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول فمنهم من قال الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه وهو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره. وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى آية الكرسي ليس معنى آية الدين، ولا معنى قل هو الله أحد معنى تبت يدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 أبي لهب، فكيف بمعاني كلام الله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه، ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يا أيها المزمل، أيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف أن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم أن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلاً عن أن يقول أن صوتي به قديم أو غير مخلوق بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ". وقال تعالى: " بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق والصوت الذي يقرأ به صوت العبد والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام البارئ، والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله، ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً، فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقاً للكتاب والسنة، وقد قال تعالى: " واقصد في مشيك واغضض من صوتك ". وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ". وقال تعالى: " إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ". وقال تعالى: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " ففرق سبحانه بين المداد الذي تكتب به كلماته وبين كلماته، فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق، وكلمات الله غير مخلوقة. وقال تعالى: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " فالأبحر إذا قدرت مداداً تنفد وكلمات الله لا تنفد. ولهذا قال أئمة السنة: لم يزل الله متكلماً كيف شاء وبما شاء كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما. هذا وقد أخبر الله سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع، فقال تعالى: " فلما ذاقا الشجرة بدت سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكم إن الشيطان لكما عدو مبين ". وقال تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون " " ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة طه ومريم والطس الثلاث وفي سورة والنازعات، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ". وقال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ". وقال تعالى: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا " واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت، نادى موسى وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال أن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم أن الصوت الذي سمعه قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم أن هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم وبين أصوات العباد. وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل، وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت، وقد ذكر من صنف في السنة من ذلك قطعة كما (1) من ذلك قطعة وعلى ذلك ترجم عليه البخاري في صحيحه قوله تعالى: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال مما يبين به الفرق بين الصوتين آثاراً متعددة، وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره بعد موت أحمد بسنين ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه. وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول، قال: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الاسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين. وقد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة فتنازعوا في اللفظ بالقرآن هل يقال إنه مخلوق، ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد   (1) بياض بالأصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 بن حنبل وغيره أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال أنه غير مخلوق فهو مبتدع، وأما صوت العبد فلم يتنازعوا أنه مخلوق، فإن المبلغ لكلام غيره بلفظ صاحب الكلام إنما بلغ غيره، كما يقال روى الحديث بلفظه وإنما يبلغه بصوت نفسه لا بصوت صاحب الكلام. واللفظ في الأصل مصدر لفظ يلفظ لفظاً وكذلك التلاوة والقراءة مصدران لكن شاع استعمال ذلك في نفس الكلام الملفوظ المقروء المتلو (1) ، وهو المراد باللفظ في إطلاقهم فإذا قيل لفظي أو اللفظ بالقرآن مخلوق أشعر أن هذا القرآن الذي يقرؤه ويلفظ به مخلوق، وإذا قيل لفظي غير مخلوق، أشعر أن شيئاً مما يضاف إليه غير مخلوق، وصوته وحركته مخلوقان، لكن كلام الله الذي يقرؤه غير مخلوق، والتلاوة قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعها، فإذا أريد بها الكلام نفسه الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره. ولم يكن أحد من السلف يريد بالتلاوة ومجرد قراءة العباد وبالمتلو مجرد معنى واحد يقوم بذات الباري تعالى، بل الذي كانوا عليه أن القرآن كلام الله تكلم الله به بحروفه ومعانيه ليس شيء منه كلاماً لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما، بل قد كفر الله من جعله قول البشر، مع أنه سبحانه أضافه تارة إلى رسول من البشر وتارة إلى رسول من الملائكة، فقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد   (1) يعبر عن الأول بالمعنى المصدري وعن الثاني بالحاصل بالمصدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين " فالرسول هنا جبريل وأضافه سبحانه إلى كل منهما باسم رسول لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئاً منه، إذ لو كان قد أحدث منه شيئاً لم يكن رسولاً فيما أحدثه بل كان منشئاً له من تلقاء نفسه، وهو سبحانه يضيف إلى رسول من الملائكة تارة ومن البشر تارة، فلو كانت الإضافة لكونه أنشأ حروفه لتناقض الخبران، فإن أنشأ أحدهما له يناقض إنشاء الآخر له، وقد كفر الله تعالى من قال إنه قول البشر، فمن قال أن القرآن أو شيئاً منه قول بشر أو ملك فقد كذب، ومن قال أنه قول رسول من البشر ومن الملائكة بلغه عن مرسله ليس قول ... (1) ولم يقل أحد من السلف إن جبريل أحدث ألفاظه ومحمداً صلى الله عليه وسلم ولا أن الله تعالى خلقها في الهواء أو غيره من المخلوقات، ولا أن جبريل أخذها من اللوح المحفوظ بل هذه الأقوال هي من أقوال بعض المتأخرين، وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على تنازع المبتدعين الذين اختلفوا في الكتاب وبين فساد أقوالهم، وأن القول السديد هو قول السلف وهو الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح وإن كان عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف بل ولا سمعوه ولا وجوده في كتاب من الكتب التي يتداولونها لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها، ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالاً مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره لأنه لا يعرفه ولهذا نجد الفاضل من هؤلاء حائراً مقراً بالحيرة على نفسه وعلى من سبقه من هؤلاء   (1) بياض بالأصل والمعنى يقتضي أن يكون المحذوف: ليس قولا أنشأه من عنده فقد صدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 المختلفين لأنه لم يجد فيما قالوه قولاً صحيحاً. وكان أول من ابتدع الأقوال الجهمية المحضة النفاة الذين لا يثبتون الأسماء والصفات فكانوا يقولون أولاً إن الله تعالى لا يتكلم بل خلق كلاماً في غيره وجعل غيره يعبر عنه وإن قوله تعالى: " وإذا نادى ربك موسى " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " معناه أن ملكاً يقول ذلك عنه، كما يقال: نادى السلطان، أي أمر منادياً نادى عنه، فإذا تلي عليهم ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أنه يقول ويتكلم. قالوا: هذا مجاز. كقول العربي امتلأ الحوض، وقال قطني، وقالت (1) اتساع بطنه ونحو ذلك. فلما عرف السلف حقيقته وأنه مضاه لقول المتفلسفة المعطلة الذين يقولون أن الله تعالى لم يتكلم وإنما أضافت الرسل إليه الكلام بلسان الحال كفروهم وبينوا ضلالهم، ومما قالوا لهم أن المنادي عن غيره كمنادي السلطان يقول: أمر السلطان بكذا خرج مرسومه بكذا، لا يقول إني آمركم بكذا وأنهاكم عن كذا، والله تعالى يقول في تكليمه لموسى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " ويقول تعالى إذا نزل الليل الغابر: " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفر لي فاغفر له " وإذا كان القائل ملكاً قال - كما في الحديث الذي في الصحيحين: " إذا أحب الله العبد نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل وينادي في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض " فقال جبريل في ندائه عن الله تعالى: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، وفي نداء الرب يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " كان قيل: فقد روي أنه يأمر منادياً   (1) كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فينادي، قيل هذا ليس في الصحيح، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر منادياً ينادي. أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " فلا يجوز. وكذلك جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً ولا حياً ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز، قال لأنه إذا سمي باسم تسمى به المخلوق كان تشبيهاً، وكان جهم مجبراً يقول: إن العبد لا يفعل شيئاً، فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادراً لأن العبد عنده ليس بقادر. ثم إن المعتزلة الذين اتبعوا عمرو بن عبيد على قوله في القدر والوعيد دخلوا في مذهب جهم، فأثبتوا أسماء الله تعالى ولم يثبتوا صفاته، وقالوا نقول أن الله متكلم حقيقة، وقد يذكرون إجماع المسلمين على أن الله متكلم حقيقة، لئلا يضاف إليهم أنهم يقولون أنه غير متكلم، لكن معنى كونه سبحانه متكلماً عندهم أنه خلق الكلام في غيره، فمذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون هو متكلم حقيقة وأولئك ينفون أن يكون متكلماً حقيقة. وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام، ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولا محب ولا راض ولا مبغض ولا رحيم إلا من قام به الإرادة والمحبة والرضى والبغض والرحمة، وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة، وغيرهم من أئمة المسلمين ليس فيهم من يقول بقول المعتزلة لا في نفي الصفات ولا في القدر ولا المنزلة بين المنزلتين ولا إنفاذ الوعيد. ثم تنازع المعتزلة والكلابية في حقيقة المتكلم، فقالت المعتزلة: المتكلم من فعل الكلام ولو أنه أحدثه في غيره، ليقولوا أن الله يخلق الكلام في غيره وهو متكلم به، وقالت الكلابية: المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلماً بمشيئته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وقدرته ولا فعل فعلاً أصلاً، بل جعلوا المتكلم بمنزلة الحي الذي قامت به الحياة، وإن لم تكن حياته بمشيئته ولا قدرته الحاصلة بفعل من أفعاله. وأما السلف وأتباعهم وجمهور العقلاء فالمتكلم المعروف عندهم من قام به الكلام وتكلم بمشيئته وقدرته، لا يعقل متكلم لم يقم به الكلام ولا يعقل متكلم بغير مشيئته وقدرته، فكان كل من تينك الطائفتين المبتدعتين أخذت بعض وصف المتكلم: المعتزلة أخذوا أنه فاعل والكلابية أخذوا أنه محل الكلام، ثم زعمت المعتزلة أنه يكون فاعلاً للكلام في غيره وزعموا هم ومن وافقهم من أتباع الكلابية كأبي الحسن وغيره أن الفاعل لا يقوم به الفعل، وكان هذا مما أنكره السلف وجمهور العقلاء، وقالوا لا يكون الفاعل إلا من قام به الفعل، وإنه يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول وذكر البخاري في كتابه خلق أفعال العباد إجماع العلماء على ذلك. والذين قالوا أن الفاعل لا يقوم به الفعل وقالوا مع ذلك أن الله فاعل أفعال العباد كأبي الحسن (1) وغيره أن يكون الرب (2) هو الفاعل لفعل العبد وأن العبد لم يفعل شيئاً وأن جميع ما يخلقه العبد فعل له، وهم يصفونه بالصفات الفعلية المنفصلة عنه، ويقسمون صفاته إلى صفات ذات وصفات أفعال مع أن الأفعال عندهم هي المفعولات المنفصلة عنه فلزمهم أن يوصف بما خلقه من الظلم والقبائح مع قولهم أنه لا يوصف بما خلقه من الكلام وغيره فكان هذا تناقضاً منهم تسلطت به عليهم المعتزلة. ولما قرروا ما هو من أصول أهل السنة وهو أن المعنى إذا قام بمحل اشتق به منه اسم ولم يشتق لغيره منه اسم كاسم المتكلم نقض عليهم المعتزلة ذلك باسم الخالق والعادل فلم يجيبوا عن النقض بجواب سديد.   (1) أبو الحسن الأشعري (2) كذا في الأصل ولعله سقط منه شيء "كأنكروا" فإنهم يقولون أن السيد هو الفاعل لفعله من أكل وشرب ونوم ولو كان الله هو الفاعل لذلك لوجب أن يقال أنه هو الآكل الشارب النائم لأن الفاعل من قام به الفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وأما السلف والأئمة فأصلهم مطرد. ومما احتجوا به على أن القرآن غير مخلوق ما احتج به الإمام أحمد وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بكلمات الله التامات " قالوا والمخلوق لا يستعاذ به، فعورضوا بقوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فطرد السلف والأئمة أصلهم وقالوا معافاته فعله القائم به، وأما العافية الموجودة في الناس فهي مفعوله. وكذلك قالوا أن الله خالق أفعال العباد فأفعال العباد القائمة بهم مفعولة له لا نفس فعله، وهي نفس فعل العبد، وكان حقيقة قول أولئك نفي فعل الرب ونفي فعل العبد. فتسلطت عليهم المعتزلة في مسألة الكلام والقدر تسلطاً بينوا به تناقضهم كما بينوا هم تناقض المعتزلة. وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعياً له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقاً لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وممن له قلب يعقل به وأذن يسمع بها، بخلاف الذين قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ". وقد وافق الكلابية على قولهم كثير من أهل الحديث والتصوف ومن أهل الفقه المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وليس من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين من يقول بقولهم. وحدث مع الكلابية ونحوهم طوائف أخرى من الكرامية وغير الكرامية من أهل الفقه والحديث والكلام فقالوا أنه سبحانه متكلم بمشيئته وقدرته كلاماً قائماً بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته، ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا أنه لم يكن يمكنه في الأول أن يتكلم بل صار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً عليه، من غير حديث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه، وهذا القول مما وافق الكرامية عليه كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل قولهم. وهذا مما شاركوا فيه الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء كلهم يقولون أنه لم يكن الكلام ممكناً له في الأزل ثم صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً عليه من غير حدوث سبب أوجب إمكانه لكن الجهمية والمعتزلة يقولون أنه خلق كلاماً في غيره من غير أن يقوم به كلام لأنه لو قام به كلام بمشيئته وقدرته لقامت به الحوادث قالوا: ولا تقوم به الحوادث، قالت الجهمية والمعتزلة لأن الحوادث هي من جملة الصفات التي يسمونها الأعراض، وعندهم لا يقوم به شيء من الصفات قالوا لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس هو بجسم لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وقالت الكلابية: بل تقوم به الصفات ولا تقوم به الحوادث، ونحن لا نسمي الصفات أعراضاً لأن العرض عندنا لا يبقى زمانين وصفات الله تعالى باقية، وقالوا وأما الحوادث فلو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. فقال الجمهور المنازعون للطائفتين أما قول أولئك لأنه لا تقوم به الصفات لأنها أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس بجسم، فتسمية ما يقوم بغيره عرضاً اصطلاح حادث، وكذلك تسمية ما يشار إليه جسماً اصطلاح حادث أيضاً، والجسم في لغة العرب هو البدن وهو الجسد كما قال غير واحد من أهل اللغة منهم الأصمعي وأبو عمرو، فلفظ الجسم يشبه لفظ الجسد وهو الغليظ الكثيف. والعرب تقول هذا جسيم وهذا أجسم من هذا أي أغلظ منه. قال تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم ". وقال تعالى: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " ثم قد يراد بالجسم نفس الغلظ والكثافة ويراد به الغليظ الكثيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وكذلك النظار يريدون بلفظ الجسم تارة المقدار وقد يسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر وهو الجسمي الطبيعي، والمقدار المجرد عن المقدر كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان. وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن. قالوا وإذا كان هذا معنى الجسم بلغة العرب فهو أخص من المشار إليه، فإن الروح القائمة بنفسها لا يسمونها جسماً، بل يقولون خرجت روحه من جسمه ويقولون إنه جسم وروح ولا يسمون الروح جسماً، ولا النفس الخارج من الإنسان جسماً، لكن أهل الكلام اصطلحوا على أن كل ما يشار إليه يسمى جسماً، كما اصطلحوا على أن كل ما يقوم بنفسه جوهراً، ثم تنازعوا في أن كل ما يشار إليه هل هو مركب من الجواهر الفردة أو من الماردة والصورة أو ليس مركباً لا من هذا ولا من هذا على أقوال ثلاثة قد بسطت في غير هذا الموضع، ولهذا كان كثير منهم يقولون الجسم عندنا هو القائم بنفسه أو هو الموجود لا المركب. قال أهل العلم والسنة: فإذا قالت الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات أن الصفات لا تقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، قيل لهم إن أردتم بالجسم ما هو مركب من جواهر فردة أو ما هو مركب من المادة والصورة لم نسلم لكم المقدمة الأولى وهي قولكم أن الصفات لا تقوم إلا بما هو كذلك، قيل لكم إن الرب تعالى قائم بنفسه والعباد يرفعون أيديهم إليه في الدعاء ويقصدونه بقلوبهم وهو العلي إلا علا سبحانه، ويراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة عياناً كما يرون القمر ليلة البدر، فإن قلتم إن ما هو كذلك فهو جسم وهو محدث، - كان هذا بدعة مخالفة للغة والشرع والعقل، وإن قلتم نحن نسمي ما هو كذلك جسماً ونقول إنه مركب - قيل تسميتكم التي ابتدعتموها هي من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن عمد إلى المعاني بالشرع والعقل وسماها بأسماء منكرة لينفر الناس عنها قيل له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 النزاع في المعاني لا في الألفاظ ولو كانت الألفاظ موافقة للغة، فكيف إذا كانت من ابتداعهم، ومعلوم أن المعاني التي يعلم ثبوتها بالشرع والعقل لا تدفع بمثل هذا النزاع اللفظي الباطل، وأما قولهم إن كل ما كان يقوم به الصفات وترفع الأيدي إليه ويمكن أن يراه الناس بأبصارهم فإنه لا بد أن يكون مركباً من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهذا ممنوع بل هو باطل عند جمهور العقلاء من النظار والفقهاء وغيرهم، كما قد بسط في موضعه. قال الجمهور وإما تفريق الكلابية بين المعاني التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث - ومنهم من يسمي الصفات أعراضاً لأن العرض لا يبقى زمانين - فيقال قول القائل أن العرض الذي هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف، بل من الناس من يقول أنه معلوم الفساد بالاضطرار، كما قد بسط في موضع آخر. وأما تسمية المسمي للصفات أعراضاً فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم، والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيها اختلاف الاصطلاحات، بل يعد هذا من النزاعات اللفظية، والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف، فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين، وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفضيل ليس هذا موضعه. وأما قول الكلابية ما يقبل الحوادث لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، فقد نازعهم جمهور العقلاء في كلا المقدمتين حتى أصحابهم المتأخرون نازعوهم في ذلك، واعترفوا ببطلان الأدلة العقلية التي ذكرها سلفهم على نفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 حلول الحوادث به، واعترف بذلك المتأخرون ومن أئمة الأشعرية والشيعة والمعتزلة وغيرهم كما قد بسط في غير هذا الموضع. وحدثت طائفة أخرى من السالمية وغيرهم ممن هو من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف ومنهم كثير ممن هو ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وكثر هذا في بعض المتأخرين المنتسبين إلى أحمد بن حنبل فقالوا بقول المعتزلة وبقول الكلابية: وافقوا هؤلاء في قولهم أنه قديم، ووافقوا أولئك في قولهم أنه حروف وأصوات، وأحدثوا قولاً مبتدعاً كما أحدث غيرهم فقالوا القرآن قديم وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لنفس الله تعالى أزلاً وأبداً. واحتجوا على أنه قديم بحجج الكلابية، وعلى أنه حروف وأصوات بحجج المعتزلة. فلما قيل لهم الحروف مسبوقة بعضها ببعض فالباء قبل السين والشين قبل الميم، والقديم لا يسبق بغيره، والصوت لا يتصور بقاؤه فضلاً عن قدمه، قالوا الكلام له وجود وماهية، كقول من فرق بين الوجود والماهية من المعتزلة وغيرهم. قالوا: والكلام له ترتيب في وجوده، وترتيب ماهية الباء للسين بالزمان هي في وجوده وهي مقارنة لها في ماهيتها لم تتقدم عليها بالزمان وإن كانت متقدمة بالمرتبة كتقدم بعض الحروف المكتوبة على بعض، فإن الكاتب قد يكتب آخر المصحف قبل أوله ومع هذا فإذا كتبه كان أوله متقدماً بالمرتبة على آخره. فقال لهم جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالاضطرار فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الوجود في الخارج دعوى فاسدة كما قد بسط في موضع آخر. والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 يعني بالقديم أنه بدأ من الله وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح لكن الذين نازعوا هل هو قديم أو قديم لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم إنه قديم وأراد هذا المعنى قد أراد معنى صحيحاً لكنه جاهل بمقاصد الناس مضل لمن خاطبه بهذا الكلام مبتدع في الشرع واللغة. ثم كثير من هؤلاء يقولون أن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف ومنهم من يقول بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول بل يسمع من القارئ شيئان الصوت القديم وهو ما لا بد منه في وجود الكلام والصوت المحدث وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون المداد الذي في المصحف مخلوق لكن الحروف القديمة ليست هي المداد بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد أنه قديم أو مخلوق، وقد يقول لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا من يتكلم بالحق ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض، وخوض الناس وتنازعهم في هذا الباب كثير قد بسطناه في مواضع، وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع يبين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم عليه السلام وسئل شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه عن رجلين تجادلا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنهما قديمة ليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. فقال الآخر ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها، والقديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسألا أيهما أصوب قولاً وأصح اعتقاداً؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذه المسألة هو معرفة كلام الله تعالى ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته، فكلامه قائم بذاته، ليس مخلوقاً بائناً عنه، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، لم يقل أحد من سلف الأمة أن كلام الله مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم أن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلاً وأبداً، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قالوا أن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية، بل قالوا لم يزل الله متكلماً إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وكلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " والله سبحانه تكلم بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية، فالقرآن العربي كلام الله، كما قال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - إلى قوله - لسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 عربي مبين " فقد بين سبحانه أن القرآن الذي يبدل منه آية مكان آية نزله الروح القدس وهو جبريل - وهو الروح الأمين كما ذكر ذلك في موضع آخر - من الله بالحق، وبين بعد ذلك أن من الكفار من قال: " إنما يعلمه بشر " كما قال بعض المشركين يعلمه رجل بمكة أعجمي، فقال تعالى: " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " أي الذي يضيفون إليه هذا التعليم أعجمي " وهذا لسان عربي مبين " ففي هذا ما يدل على أن الآيات التي هي لسان عربي مبين نزلها روح القدس من الله بالحق كما قال في الآية الأخرى: " أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين " والكتاب الذي أنزل مفصلاً هو القرآن العربي باتفاق الناس، وقد أخبر أن الذين أتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، والعلم لا يكون إلا حقاً فقال " يعلمون " ولم يقل يقولون، فإن العلم لا يكون إلا حقاً بخلاف القول، وذكر علمهم ذكر مستشهداً به، وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح - إلى قوله - حجة بعد الرسل " فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر، وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى قوله - روح القدس ". وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً " إلى آخر السورة، فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة، إما حياً وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى، وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: " وناديناه من جانب الطور " الآية. وقال: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن " الآية، والنداء باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتاً مسموعاً، فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم، وأهل الكتاب يقولون إن موسى ناداه ربه نداء سمعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى، والصوت لا يكون إلا كلاماً والكلام لا يكون إلا حروفاً منظومة، وقال قال تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقال: " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وقال: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله، وهذا معنى قول السلف: منه بدا، قال أحمد ابن حنبل رحمه الله: منه أي هو المتكلم به، فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره عبداً فبدا من ذلك المخلوق، فقال السلف: منه بدا، أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاماً لذلك المحل الذي خلقه فيه، فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين، فإذا خلق طعماً أو لوناً في محل كان ذلك المحل هو المتحرك (1) المتكون به، وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علماً أو كليهما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام، ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين، وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات، لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات، فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني، ومن جعل كلامه مخلوقاً لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاماً إلا لرب العالمين، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقاً بل كان ذلك لرب العالمين (2) ، وقد قيل للإمام أحمد   (1) قوله المتحرك غير ظاهر لأن ما قبله ليس فيه معنى الحركة فإما أن يكون قد سقط منه شيء وأما أن يقال المتصف أي بالطعم واللون (2) لعل الأصل صفة أو كلاما لرب العالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 بن حنبل أن فلاناً يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا ألف، فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال أن الحروف مخلوقة، لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقاً لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقاً وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة، مخالف للأدلة العقلية والسمعية، كما قد بسط في غير هذا الموضع. والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً، والطوائف الكبار نحو ست فرق، فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة أن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال، وإما من غيره، وهؤلاء يقولون: إنما كلم الله موسى من سماء عقله أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج، وأصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية، وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء، بل يقولون أن الله لا يعلم الجزئيات، فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة، فقالوا مثل ذلك، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهم كثيروا التناقض، كقولهم أن الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى فيقولون: هو عقل وعاقل ومعقول، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم محب محبوب، ويقولون نفس العلم هو نفس المحبة، وهو نفس القدرة، ونفس العلم هو نفس العالم، ونفس المحبة هي نفس المحبوب، ويقولون أنه علة تامة في الأزل، فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان، ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان، فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة، ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان، ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئاً بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم. وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث، ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه، كما قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخياً عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان. والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك، فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته، فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال كلامه لا يكون إلا حادثاً، لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً، وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم. ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائماً به، وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين، لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، لأن ذلك يلتزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 قالت هذه الطوائف: ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها. ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة، وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء، أما الأول فهو حادث بالضرورة لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث. وأما جنس الحوادث شيئاً بعد شيء تنازع فيه الناس، فقيل أن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما، وقيل بل هو جائز في المستقبل دون الماضي لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، وهو قول كثير من طوائف النظار. وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل، وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وإن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته. وهو أيضاً قول أئمة الفلاسفة، لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ويقولون إنه قديم أزلي، وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء، فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض بل هو خالق كل شيء وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن. وأن القديم الأزلي هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه، بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها. ثم لما تكلم في النبوات من اتبع أرسطو كابن سينا وأمثاله ورأوا ما جاءت به الأنبياء من أخبارهم بأن الله يتكلم وأنه كلم موسى تكليماً وأنه خالق كل شيء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه، فيقولون: الحدوث نوعان، ذاتي وزماني، ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني بمعنى أنه معلول وإن كان أزلياً لم يزل مع الله، وقالوا: إنه مخلوق بهذا الاعتبار، والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون في أيام، وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن كما قال: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً " والعقول الصريحة توافق ذلك وتعلم أن المفعول المخلوق المصنوع لا يكون مقارناً للفاعل في الزمان ولا يكون إلا بعده، وإن الفعل لا يكون إلا بإحداث المفعول، وقالوا لهؤلاء قولكم: " إنه مؤثر تام في الأزل " لفظ مجمل يراد به التأثير العام في كل شيء، ويراد به التأثير المطلق في شيء بعد شيء، ويراد به التأثير في شيء معين دون غيره، فإن أردتم الأول لزم أن لا يحدث في العالم حادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن أردتم الثاني لزم أن يكون كل ما سوى الله مخلوقاً حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وإن كان الرب لم يزل متكلماً بمشيئته فعالاً لما يشاء، وهذا يناقض قولكم ويستلزم أن كل ما سواه مخلوق ويوافق ما أخبرت به الرسل، وعلى هذا يدل العقل الصريح، فتبين أن العقل الصريح يوافق ما أخبرت به الأنبياء، وإن أردتم فسد قولكم لأنه يستلزم أنه يشاء حدوثها بعد أن لم يكن فاعلاً لها من غير تجدد سبب يوجب الأحداث، وهذا يناقض قولكم، فإن صح هذا جاز أن يحدث كل شيء بعد أن لم يكن محدثاً لشيء، وإن لم يصح هذا بطل، فقولكم باطل على التقديرين، وحقيقة قولكم أن المؤثر التام لا يكون إلا مع أثره ولا يكون الأثر إلا مع المؤثر التام في الزمن وحينئذ فيلزمكم أن لا يحدث شيء، ويلزمكم أن كل ما حدث حدث بدون مؤثر، ويلزمكم بطلان الفرق بين أثر وأثر، وليس لكم أن تقولوا بعض الآثار يقارن المؤثر التام وبعضها يتراخى عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وأيضاً فكونه فاعلاً لمفعول معين مقارن له أزلاً وأبداً في صريح العقل، وأيضاً فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب والضروري الممتنع لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً أخرى، وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضرورياً واجباً يمتنع عدمه، وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا، وذكره في كتبه المشهورة كالشفاء وغيره، ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديماً أزلياً ولا يزال، وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، وزعم أنه له ماهية غير وجوده، وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع. والقول الثاني للناس في كلام الله تعالى قول من يقول إن الله لم يقم به صفة من الصفات، لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة ولا رحمة ولا غضب ولا غير ذلك، بل خلق كلاماً في غيره فذلك المخلوق هو كلامه، وهذا قول الجهمية والمعتزلة. وهذا القول أيضاً مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم، وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم، بل لهم شبه عقلية فاسدة قد بينا فسادها في غير هذا الموضع، وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج، وهم لا الإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا. والقول الثالث قول من يقول أنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلاً وأبداً، وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم، لكن قالوا الرب يقوم به الصفات ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية. وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 كلاب، ثم افترق موافقوه، فمنهم من قال ذلك الكلام معنى واحد هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وقالوا معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، وقالوا الأمر والنهي والخبر صفات الكلام لا أنواع له، ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر والخبر يعود إلى العلم. وجمهور العقلاء يقولون قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة، وهؤلاء يقولون تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى، فقيل لهم: أفهم كل الكلام أم بعضه؟ إن كان فهمه كله فقد علم علم الله، وإن كان فهم بعضه فقد تبعض، وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد، وقيل لهم: لقد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره، وعلى أصلكم لا فرق، وقيل لهم: قد كفر الله من جعل القرآن العربي قول البشر، وقد جعله تارة قول رسول من البشر، وتارة قول رسول من الملائكة، فقال في موضع: " إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون " فهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في الآية الأخرى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل، فأضافه تارة إلى الرسول الملكي وتارة إلى الرسول البشري، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وكان بعض هؤلاء ادعى أن القرآن العربي أحدثه جبريل أو محمد فقيل لهم: لو أحدثه أحدهما لم يجز إضافته إلى الآخر، وهو سبحانه إضافة إلى كل منهما باسم الرسول الدال على مرسله لا باسم الملك والنبي، فدل على ذلك على أنه قول رسول بلغه عن مرسله لا قول ملك أو نبي أحدثه من تلقاء نفسه، بل قد كفر من قال أنه قول البشر. والطائفة الأخرى التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 قالت بل الكلام القديم هو حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلاً وأبداً لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئاً بعد شيء، ولا يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام وبين عين الحروف قديمة أزلية، وهذا أيضاً مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة، فإن الحروف المتعاقبة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديماً أزلياً وإن كان جنسها قديماً، لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها وحروف متعاقبة لا نهاية لها، وامتناع كون كل منها قديماً أزلياً، فإن المسبوق بغيره لا يكون أزلياً، وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها فقال: الترتيب في ماهيتها لا في وجودها، وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره، فإن ماهية الكلام هو حروف لا يكون شيئاً بعد شيء، والصوت لا يكون إلا شيئاً بعد شيء، فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزلياً متقدماً عليها به، مع أن الفرق بينهما لو قدر الفرق بينهما، ويلزم من هذين الوجهين أن يكون وجودها أيضاً مترتباً متعاقباً. ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك، وكان أظهر فساداً مما قبله، فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد. وطائفة خامسة قالت: بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أولها، وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل كما فعله أولئك. ثم جعلوا الفعل والكلام ممكناً مقدوراً من غير تجدد شيء، أوجب القدرة والإمكان كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة. وأما السلف فقالوا: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وإن الكلام صفة كمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 يتكلم بمشيئته وقدرته ممن يكون الكلام لازماً لذاته ليس عليه قدرة ولا له فيه مشيئته، والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له، ولا يكون الموصوف متكلماً عالماً قادراً إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة، وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفاً بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفاً بها لو كان حدوثها ممكناً، فكيف إذا كان ممتنعاً؟ فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، ومن أجلها الكلام، فلم يزل متكلماً إذا شاء ولا يزال كذلك، وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن العربي، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة لأن الله تكلم بها. فصل: ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين، وسبب نزاعهم أمران: أحدهما أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه، وبين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ، فإن القرآن كلام الله تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم. فإذا قال القارئ " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم " كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " وكان يقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي بلغه كلام ربه وبين أن القارئ يقرأه بصوت نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال أحمد والشافعي وغيرهما: هو تحسينه بالصوت، قال أحمد بن حنبل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 يحسنه بصوته، فبين أن القارئ يحسن القرآن بصوته نفسه. والسبب الثاني أن السلف قالوا كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم أن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلاً منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء، فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض. فمن قال أن حروف المعجم كلها مخلوقة وأن الله تعالى (1) مخالفاً للمعقول الصريح، والمنقول الصحيح، ومن قال أن نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئاً من ذلك قديم فقد خالف أيضاً أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهراً لكل أحد، وكان مبتدعاً قولاً لم يقله أحد من أئمة المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك، ومن قال أن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل، ومن قال أن جنس الحروف التي كلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقاً والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب. وإذا قال أن الله هدى عباده وعلمهم البيان فأنطقهم بها باللغات المختلفة وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه   (1) كذا بالأصل ويظهر أنه قد سقط من هنا شيء فان قوله (وأن الله تعالى) ليس له خبر يتم به الكلام.وهو تمهيد للجواب عن الأقوال التي تقدم سؤال شيخ الإسلام عنها في صفحة 35 وفيه أن الذين قالوا أنها مخلوقة بشكلها ونقطها إلخ وقوله " مخالفا للمعقول" سقط من قبله العامل فيه ولعله قال فقد قال قولا مخالفاً إلخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وأسمائه فهذا قد أصاب، فالإنسان وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق، والعباد إذا قرؤوا كلامه فإن كلامه الذي يقرؤونه هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقاً وكان ما يقرؤون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقاً، وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوباً في المصاحف وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق، وقد فرق سبحانه وتعالى بين كلامه وبين مداد كلماته بقوله تعالى: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " وكلمات الله غير مخلوقة والمداد الذي يكتب به كلمات الله مخلوق والقرآن المكتوب في المصاحف غير مخلوق، وكذلك المكتوب في اللوح المحفوظ وغيره قال تعالى: " بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " وقال: " كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة ". وقال تعالى: " يتلو صحفنا مطهرة، فيها كتب قيمة " وقال: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون ". فصل: فهذا المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. وقال الآخر: إنها ليست بكلام وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها وإن القديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها، وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقاداً، يقال لهما: يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل فإن كثيراً من نزاع العقلاء لكونهما (1) لا يتصوران مورد النزاع تصوراً   (1) أي لكون المتنازعين منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنياً على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع فأول ما في هذا السؤال قولهما: الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في المعارف وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن منبه وكعب الأحبار، ومالك ابن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولاً عن خاتم المرسلين، وأيضاً فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو أن من خط وخاط إدريس، فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه إن إدريس أول من خاط الثياب وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرؤون كتباً. والذي في حديث أبي ذر المعروف عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن آدم كان نبياً مكلماً كلمه الله قبلاً " وليس فيه أنه أنزل عليه شيئاً مكتوباً، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتاباً ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له ولو كان هذا معروفاً عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ". والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع، ولكم لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض فيعلم أبجد هوز، وليس هذا وحده كلاماً. فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل، ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير اب ت ث، وتفسير أبجد هوز حطي، ويروونه عن المسيح أنه قال لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب كالشريف المزيدي والشيخ أبي الفرج وابنه عبد الوهاب وغيرهم، وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين، وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين عن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره (1) فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل، فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير أبجد هوز حطي، وذكر حديثاً رواه من طريق محمد بن زياد الجزري عن فرات ابن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد " قال: قالوا يا رسول الله وما تفسيرها؟ قال: " أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه، وأما الباء فبهاء الله، وأم الجيم فجلال الله، وأما الدال فدين الله،   (1) في هذا التركيب نظر والمعنى أن هذا إن كان النقاش والمزيدي وأبو الفرج وابنه قد ذكره وسكتوا عليه فابن جرير قد ذكره وصرح ببطلانه وهو أجل منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وأما الهاء فالهاوية، وأما الواو فويل لمن سها، وأما الزاي فالزاوية، وأما الحاء فحطوط الخطايا عن المستغفرين بالأسحار " وذكر تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثاً ثانياً من حديث عبد الرحيم بن واقد حدثني الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: ليس شيء إلا وله سبب وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثاً عجيباً، أما أبو جاد فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي فحطت عنه خطيئته، وأما كلمن فأكله من الشجرة ومن عليه بالتوبة " وساق تمام الحديث من هذا الجنس. وذكر حديثاً ثالثاً من حديث إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر بن كدام عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم الله، فقال له عيسى: وما بسم الله؟ فقال له المعلم: ما أدري. فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم ملكه، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة، أبو جاد ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز هاء الهاوية " وذكر حديثاً من هذا الجنس وذكره عن الربيع بن أنس موقوفاً عليه. وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثاً عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير اب ت ث من هذا الجنس. ثم قال ابن جرير: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الحزري الذي حدث حديث معاوية بن قرة عن فرات عنه غير موثوق بنقله، وأن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مليكة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره. قلت: إسماعيل بن يحيى هذا يقال له التيمي كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين فإنه حافظ لحديث أهل بلده كثير الغلط في حديث أولئك، وهذا متفق عليه بين أهل العلم بالرجال، وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم، وفرات بن السائب ضعيف أيضاً لا يحتج به فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً. وقد تنازع الناس في أبجد هوز حطي، فقال طائفة هي أسماء قوم، قيل أسماء ملوك مدين أو أسماء قوم كانوا ملوكاً جبابرة، وقيل هي أسماء الستة أيام التي خلق الله فيها الدنيا، والأول اختيار الطبري، وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب. والصواب أن هذه ليست أسماء لمسميات وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم، ولفظها: أبجد، هوز، حطي. ليس لفظها أبو جاد هواز. ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحداً، والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون الكاف عشرون. . . وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون كل ألف ب وكل ب ج فكل ألف ج. ومثلوا بهذه لكونها ألفاظاً تدل على صورة الشكل. والقياس لا يختص بمادة دون مادة، كما جعل أهل التصريف لفظ فعل تقابل الحروف الأصلية، والزائدة ينطقون بها ويقولون وزن استخرج استفعل، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 والزائد ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن نكتل فقال نفعل، وضحك منه أهل التصريف ووزنه عندهم نفتل فإن أصله نكتال، وأصل نكتال نكتيل تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في نعتد ونقتد من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده. ونحو ذلك في نقتيل فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها وجعلت ثمانية تكون متحركة وهي الهمزة (1) ، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة، ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء فجعلوا اللام قبلها فقالوا لا، والتي في الأول هي الهمزة المتحركة فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها لام ألف، والصواب أن ينطق بها لا، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها. الثاني أن يقال هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف مثل قوله " الم "، وقوله " المص " قوله " الم طس - حم - كهيعص - حمعسق - ن - ق " فهذا كله كلام الله غير مخلوق. الثالث أن هذه الحروف إذا وجدت في الكلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة   (1) قوله:ونحو ذلك في نقتيل - إلى هنا - محرف فكلمة نقتيل ليست من الناقص فتكون لام الكلمة في وزنها ألفا منقلبة وقوله " صار وزنها " قد سقط خبره ولو ذكر لعرفنا أصل الكلمة: وقوله " جعلت ثمانية " غير مفهوم فيفهم به ما قبله وما بعده إلخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم ونوح ومحمد وإبراهيم وغير ذلك، فيقال هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها لكن لم يتكلم بها مفردة، فإن الاسم وحده ليس بكلام ولكن يتكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله: " محمد رسول الله " وقوله: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً - إلى قوله - رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي " وقوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " ونحو ذلك ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل: ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق. فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى، لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد. فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة والصوت الذي سمعه منه موسى ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده، فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو سبحانه فقد علم العباد من علمه ما شاء كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقاً ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقاً، فلا يقال إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وأصل هذا أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد يوصف الله به على ما يليق (1) به ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك، مثل الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فإن الله له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه. فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب. وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب والعبد، فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب، وإذا قال العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال   (1) يعني أن الاشتراك في اطلاق الوصف لا يقتضي المساواة ولا المشابهة في الصفة فضلا عن مشابهة الموصوف. وقد اختلف العلماء هل هو اشتراك في الجنس أو في الاسم؟ وسببه أنه لا يمكن تعريف الوحي والرسل عباد الله بربهم وصفاته إلا بلغاتهم التي يفهمونها (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) فكان لابد من تسميته صفاته تعالى باسماء صفاتهم التي تدل عليها مع إعلامهم بعدم مماثلتها لها، قال الغزالي في بيان هذا المعنى ما حاصله: أن الله صفة يصدر عنها الإبداع والاختراع وبسند إلخ. الإيجاد والإعدام وهذه الصفة أجل وأرفع من أن تدركها عين واضع اللغة فيخصها باسم يدل على كنهها، فلما أريد أعلام البشر بها استعير لها من ألسنة المتخاطبين باللغات أقرب الكلمات دلالة عليها أو اشارة إلى عظمة شأنها وأثرها في الخلق وهي كلمة القدرة بالمعنى من غير مراجعة الأصل وهو في كتاب الشكر من الاحياء. وما يقال في القدرة في العلم والكلام والصوت به الذي هو مقتضى النداء الثابت بالقرآن والمصرح به في الحديث الصحيح خلافا لمن فرق بين هذه الصفات من المتكلمين بتحكم نظريات المذاهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 عليه كله أنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف؛ فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة، ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الجنب: " الحمد لله رب العالمين " ينوي به القرآن منع من ذلك وكان قرآناً، ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئاً وجاز ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " رواه مسلم في صحيحه. فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال هي من القرآن، فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل: " يا يحيى خذ الكتاب " ومقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب: يا يحيى خذ الكتاب لكان هذا مخلوقاً لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص وبالكتاب ذلك الكتاب، ليس مراداً به ما أراده الله بقوله: " يا يحيى خذ الكتاب " والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه. وقد تنازع الناس في مسمى الكلام في الأصل، فقيل هو اسم اللفظ الدال على المعنى، وقيل المعنى المدلول عليه باللفظ، وقيل لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي، وقيل بل هو اسم عام لهما جميعاً يتناولهما عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة. هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب، وهذا كما تنازع الناس في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعاً، وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق، فمن سمى شخصاً محمداً وإبراهيم، وقال: جاء محمد وجاء إبراهيم لم يكن هذا محمد وإبراهيم المذكورين في القرآن، ولو قال: محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلامه فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به. ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في آداب الخلاء أنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله واحتجوا بالحديث الذي في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وكان خاتمه مكتوباً عليه " محمد رسول الله " محمد سطر، رسول سطر، الله سطر. ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء (1) مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب. ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك، وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة أتاه سعد فقال له: أهذا شيء أمر الله به فسمعاً وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي بل فعله باجتهاده فقال: " لقد كنا في الجاهلية وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بقرى أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلون تمرنا؟ لا يأكلون تمرة واحدة " وبصق سعد في الصحيفة وقطعها فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها. وأيضاً فقد كره السلف محو القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين. وأما قول القائل: إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ فإن له مبدأ ومنتهى، وهو مسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثاً.   (1) يعني بالعلماء الأئمة المجتهدين وقد قال بعض فقهاء الحنفية باحترام المكتوب من كلام الناس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وأيضاً فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاماً إلا بالحروف باتفاق الناس. وأما الحروف فهل تكون كلاماً بدون الصوت؟ فيه نزع. والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق، ومن كلام الله الحروف التي تكلم الله بها فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقاً. وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم. والخط العربي قد قيل أن مبدأه كان من الأنبار ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته: العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها. فإن قيل: فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق؟ فإن قلتم هو من حيث هو مخلوق لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم مخلوق لزم أن يكون مخلوقاً في كلام الله؟ قيل: قول القائل بل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو والعلم من حيث هو هو والقدرة من حيث هي هي، والوجود حيث هو هو، ونحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 والجواب عن ذلك أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص مختص به وإن كان اسم الوجود عاماً يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحرف وليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين، فإذا قيل إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق وحروف كلامه غير مخلوقة. وأيضاً فلفظ الحرف يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله: " الم - وحم - وطسم - وطس - ويس - وق - ون " ونحو ذلك فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقاً. وأيضاً فإذا قرأ الناس كلام الله فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً، أمراً يأمر به أو خبراً يخبره ليس هو كلام المبلغ له عن غيره إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله فيقال هذا كلام الله مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبداً، وإذا قال القائل القاف في قوله: " أقم الصلاة لذكري " كالقاف في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قيل وما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة والمخلوق يماثل المخلوق. وفي هذا جواب للطائفتين لمن قاس ثفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة، فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود، والحلولية الممثلة أشباه النصارى دخلوا في هذا وهذا، أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائض التي تختص بالمخلوق كالفقر والبخل، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، والمسلمون يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال، وينزهونه عن الأكفاء والأمثال، فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات، فإن المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، والله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". ومما ينبغي أن يعرف أن كلام المتكلم في نفسه واحد، وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به فإذا أنشد المنشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه مع أن أصوات المنشدين له تختلف وتلك الأصوات ليست صوت لبيد، وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه كقوله: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه أدى الحديث بلفظه وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول، فالقرآن أولى أن يكون كلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 الله لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وفي بعض الروايات عنه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي، لأن اللفظ يراد به المصدر لفظ يلفظ لفظاً، ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق، ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ وذلك كلام الله لا كلام القارئ، فمن قال إنه مخلوق فقد قال إن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وإن هذا الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله، ومعلوم أن هذا مخالف لما علم الاضطرار من دين الرسول. وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد ولم يقل أحمد قط: من قال إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال لفظي بالقرآن، والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلغ له فرق واضح، فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير، ونفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي الإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق، وقال أحمد: نقول القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف أي حيث تلي وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله فهو كلامه وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرؤون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق، ولهذا لم يهتد إلى هذا الفرق يحار، فإنه معلوم أن القرآن واحد ويقرأه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة القراء وإنما يكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 ما يقرؤون به القرآن فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به وسمعه جبريل من الله وسمعه محمد من جبريل وبلغه محمد إلى الناس وأنذر به الأمم لقوله تعالى: " لأنذركم به ومن بلغ " قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق، وليس هذا من باب ما هو واحد بالنوع متعدد الأعيان، كالإنسانية الموجودة في زيد وعمر، ولا من باب ما يقول الإنسان مثل قول غيره كما قال تعالى: " كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم " فإن القرآن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، كما قال تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ". فالإنس والجن إذا اجتمعوا لم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن مع قدرة كل قارئ على أن يقرأه ويبلغه، فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس مثل ذلك القرآن، وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره فليس هذا هو ذاك بعينه بل هو نظيره، وإذا تكلم الله باسم من الأسماء كآدم ونوح وإبراهيم وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها فإذا قرئت في كلامه فقد بلغ كلامه، فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلاماً لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة، فإن بعض من قال أن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات، وقائل هذا يلزمه أن يكون أيضاً النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله: " يا يحيى خذ الكتاب " وإن أراد بذلك شخصاً اسمه يحيى وكتاباً بحضرته. فإن قيل يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن وإن كان اللفظ نظير اللفظ، قيل كذلك سائر الأسماء والحروف إنما يوجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله، وقولنا يوجد نظيرها في كلام الله تقريب أي يوجد فيما نقرأه ونتلوه، فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن، وكلا الصوتين مخلوق، وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين، وكلام الله هو كلامه بنظمه ومعانيه، وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فإذا قلنا: " الحمد لله رب العالمين " وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه لا يماثل لفظ المخلوقين ومعناهم، وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداءً من غير أن يقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكراً ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا، وننطق بلفظه بألسنتنا، وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن وإن كان نظيره في القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن فجعل درجتها دون درجة القرآن، وهذا يقتضي أنها ليست من القرآن. ثم قال: " هي من القرآن " وكلا قوليه حق وصواب، ولهذا منع أحمد أن يقال الإيمان مخلوق، وقال لا إله إلا الله من القرآن، وهذا الكلام لا يجوز أن يقال إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن، ولا يقال في التوراة والإنجيل إنهما مخلوقان، ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه أنها مخلوقة كقوله: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " فكلام الله قد يكون قرآناً وقد لا يكون قرآناً والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن، وكلام الله كله غير مخلوق. فإذا فهم هذا في مثل هذا فليفهم في نظائره وإن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال إنه من كلام الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 باعتبار كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار، لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق، وكلام المخلوقين كله مخلوق، فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق وما كان من كلام غيره فهو مخلوق. وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به، شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد، مثل ذلك أن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله قرؤوه بحركاتهم وأصواتهم، فقال الجهمي: أصوات العباد ومدادهم مخلوقة وهذا هو المسمى بكلام الله أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله فيكون كلام الله مخلوقاً. وقال الحلواني الاتحادي الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق الذي نسمعه من القراء هو كلام الله وغنما نسمع أصوات العباد فأصوات العباد بالقرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة، ثم قالوا الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة، وراد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق والأعمال غير مخلوقة. وزاد بعضهم أعمال الخير والشر وقال هي القدر والشرع والمشروع وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال الحركات بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة كما ورد في الحديث الصحيح " إنه تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف " فيقال له وهذا الثواب مخلوق، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق. وبذلك أجابوا من احتج على خلق القرآن بمثل هذا الحديث فقالوا له الذي يجيء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن وثواب القرآن مخلوق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف والبدع تنشأ شيئاً فشيئاً وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع آخر. وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية وطلب منهم تعطيل الصفات وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك، ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة فدفع حجج المعارضين النفاة وأظهر دلالة الكتاب والسنة وأن السلف كانوا على الإثبات فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماماً كما قال تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " ولهذا قيل فيه رحمة الله: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه. وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفاً بالأدلة الشرعية وليس في المعقول ما يخالف المنقول، ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل قال: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه، والفقه فيه معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية أحب إلي من أن تحفظ من غير معرفة وفقه، وهكذا قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 علي بن المديني وغيره من العلماء فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه فإنما أتي من نفسه. وكذلك العقليات الصريحة إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها لم تكن إلا حقاً وتوحيده وصفاته وصدق رسله وبها يعرف إمكان المعاد، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها، قال تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً " وقال: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " وقال: " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ". وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة وحجج الجهمية معطلة الصفات وحجج الدهرية وأمثالها كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنعون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر. وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه السلف ومعرفة المعقول الصريح فإن هذا هو الكتاب وهذا هو الميزان وقد قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز " وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور إذا كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 صفة المخلوق، ثم قال هؤلاء: وصفة المخلوق مخلوقة فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء: صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة، ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله فخرجوا إلى أقواله ظاهرة الفساد، خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن ولا شيء من الكتب الإلهية ولا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديماً أزلياً، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائماً بهم بل يكون ظاهراً فيهم من غير قيام بهم، ولما تكلموا في حروف المعجم صاروا بين قولين: طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا هذا مخالفة للحس والعقل فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا الحرف حرف واحد. وصنف في ذلك القاضي يعقوب البرزيني مصنفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه، وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتاً منه، ولا أكثر اجتهاداً منه، ولا تشاغلاً بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة، والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئاً من نفر من الدنيا. وذكر القاضي يعقوب في مصنفه أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبة قاضي حران يقول هو مذهب العلوي الحراني وجماعة من أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 حران. وذكره أبو عبد الله بن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكاوذري في خلق من أتباعهم يقولون إنها قديمة. قال القاضي أبو يعلى: وكذلك حكي لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا. وذكروه عن الشريف أبي علي بن أبي موسى وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله. وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له أن سرياً السقطي قال لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر. فقال أحمد هذا كفر. وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله: كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله: لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس، ويقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي: ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ قال: بلى، قال: فكلامك منك وهو مخلوق. قلت: الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكر على من قال أن الله خلق الحروف، فإن من قال أن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئاً منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خنيس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما أنه لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الألف منتصبة في الخط ليس هي مضجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر، وأحمد أنكر قول القائل أن الله لما خلق الحروف، وروي عنه أنه قال: من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي، لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال إن ذلك مخلوق فقد قال إن القرآن مخلوق. وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الأسماع لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته. وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف أن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم أن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم أن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدا ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في كتاب السنة وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل وأبي داود السجستاني صاحب السنن، والأثرم والمروذي وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري صاحب الصحيح وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه واختاره كعبد الرحمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 بن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصهباني وأمثال هؤلاء، ومن كان أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر، وقد ذكرنا في المسائل الطبرستانية والكيلانية بسط مذاهب الناس وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل. والمقصود هنا أن كثيراً من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول إنه متبع لهم مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية وذلك لجهله بعلمهم بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعاً فاسدة يلتزمونها كما صرحوا في تكلم الله تعالى بالقرآن العربي وبالتوراة العبرية وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفاً أو مفرداً لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع الجمع والفرق، فقال هؤلاء: هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق وقال هؤلاء: هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق، كما ذكر ابن عقيل في كتاب الإرشاد عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق فهو شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم فقال: أقل ما في القرآن من إمارات الحدث كونه مشبهاً لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك، لأن قول القائل لغلامه يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسده، مع أنه إن جاز دعوى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 قدم الكلام مع كونه مشاهداً للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفاً من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما أن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد إنه قديم محدث. قلت: وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البرزيني ذكره في مصنفه فقال: دليل عاشر، وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم، وكذلك ها هنا، قال: فإن قيل لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل: لا نسلم بل لها حرمة. فإن قيل: لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل: قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها كما يقال في الصبي يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه. فإن قيل: فيجب إذا حلف بها حالف أن ينعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له: كما في حروف القرآن مثله نقول هنا. فإن قيل: أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى مثل قوله: يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله وإن كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة؟ قيل: كل ما كان موافقاً لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله وإن قصد به خطاب آدمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فإن قيل: فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدمياً وهو في الصلاة أن لا تبطل صلاته، قيل له: كذلك نقول قد ورد ذلك عن علي وغيره إذ ناداه رجل من الخوارج " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " قال فأجابه علي وهو في الصلاة " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخلفنك الذين لا يوقنون " وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ". قال: فإن قيل أليس إذا قال: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً؟ وإن نوى به القرآن يكون قديماً، قيل له: في كلا الحالين يكون قديماً لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديماً ولا القديم محدثاً، قال: ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ. وقال أيضاً: كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض ولا يشبهه من جميع أحواله لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها. قلت: هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله مع أنه أجل من تكلم في هذه المسألة ولما كان جوابه مشتملاً على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به. وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا هذا مثل هذا بأن قال: الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالماً هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يبينه الواحد منا، وليس مماثلاً لنا في كوننا عالمين، وكذلك كونه قادراً هو صحة الفعل منه سبحانه وتعالى، وليس قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلاً، والافتراق في القدم والحدوث حاصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 قال: وجواب آخر، لا نقول إن الله يتكلم بكلامه على الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى أنه يقول يا يحيى فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله خذ الكتاب بقوة وترتب في الوجود كذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل: يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه شابه الكلام القائم بذاته فلا. قال ابن عقيل: قالوا فهذا لا يجيء على مذهبكم، فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قيل: ليس معنى قولنا هي المتلو أنها هذه الأصوات المقطعة وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لا بد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس وإدارة اللهوات، لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع والابتداء والانتهاء والتكرار والبعدية والقبلية، ومن قال ذلك لم يعرف حد القديم وادعى قدم الأعراض وتقطع القديم، وتقطع القديم عرض لا يقوم بقديم، ومن اعتقد أن كلام الله القائم بذاته على حد تلاوة التالي من القطع والوصل والتقريب والتبعيد والبعدية والقبلية فقد شبه الله بخلقه، ولهذا روي في الخير أن موسى سأله بنو إسرائيل: كيف سمعت كلام ربك؟ قال: كالرعد الذي لا يراجع، يعني ينقطع لعدم قطع الأنفاس وعدم الأنفاس والآلات والشفاه واللهوات ومن قال غير ذلك وتوهم أن الله تكلم على لسان التالي أو الكلام الذي قام بذاته على هذه الصفة من التقطيع والتقريب والتبعيد فقد حكم به محدثاً لأن الدلالة على حدوث العالم هو الاجتماع والافتراق، ولأن هذه من صفات الأدوات. قلت: فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزيني، فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أن من تكلم في الصلاة بكلام الآدميين عامداً لغير مصلحتها عالماً بالتحريم بطلت صلاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 بالإجماع خلاف ما ذكره القاضي يعقوب، ومتى قصد به بالتلاوة لم تبطل بالإجماع وإن قصد به التلاوة والخطاب ففيه نزاع، وظاهر مذهب أحمد لا تبطل كمذهب الشافعي وغيره، وقيل تبطل كقول أبي حنيفة وغيره. وما ذكروه عن الصحابة حجة عليهم، فإن قال علي بن أبي طالب " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " هو كلام الله ولم يقصد علي أن يقول للخارجي ولا يستخفنك الخوارج وإنما قصد أن يسمعه الآية وأنه عامل بها صابر لا يستخفه الذين لا يوقنون، وابن مسعود قال لهم وهو بالكوفة " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " ومعلوم أن مصر بلا تنوين هي مصر المدينة وهذه لم تكن بالكوفة، وابن مسعود إنما كان بالكوفة فعلم أنه قصد تلاوة الآية وقصد مع ذلك تنبيه الحاضرين على الدخول فإنهم سمعوا قوله ادخلوا، فعلموا أنه أذن لهم في الدخول، وإن كان هو تلا الآية فهذا هذا. وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كلاب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما وهو الأصل الذي وافقوه فيه ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته لامتناع قيام الأمور الاختيارية عندهم لأنها حادثة والله لا يقوم به حادث عندهم، ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل، كقوله تعالى: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " فإن هذا يقتضي أنه سيرى الأعمال في المستقبل وكذلك قوله: " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " وقوله " اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله " وكذلك قوله: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " فإن هذا يقتضي أنه يحبهم بعد إتباع الرسول، وكذلك قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " فإن هذا يقتضي أنه قال لهم بعد خلق آدم وكذلك قوله تعالى: " فلما أتاها نودي " يقتضي أنه نودي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 لما أتاها، لم يناد قبل ذلك، وكذلك قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ومثل هذا في القرآن كثير. وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال: احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، مع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل، وقد قيل أن الحارث رجع عن ذلك وأقر بأن الله يتكلم بصوت كما حكى عنه ذلك صاحب: التعرف لمذهب التصوف، أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي. وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وافقوا ابن كلاب على هذا الأصل، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر. واختلف كلام ابن عقيل في هذا الأصل، فتارة يقول بقول ابن كلاب وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث أن الله تقوم به الأمور الاختيارية، ويقول أنه قام به بأبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك، وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولاً أنه سيوجد، كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن كقوله تعالى " لنعلم من يتبع الرسول " وغير ذلك، وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف، تارة هذا وتارة يقول هذا، فإن هذه المواضع مواضع مشكلة كثر فيها غلط الناس لما فيها من الاشتباه والالتباس. والجواب الحق أن كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين، كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين، وقول القائل أن الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث لفظ مجمل، فإنا إذا قلنا: لله علم ولنا علم، أو له قدرة ولنا قدرة، أو له كلام ولنا كلام، أو تكلم بصوت ونحن نتكلم بصوت، وقلنا صفة الخالق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وصفة المخلوق اشتركتا في الحقيقة - فإن أريد بذلك أن حقيقتهما واحدة بالعين فهذا مخالف للحس والعقل والشرع، وإن أريد بذلك أن هذه مماثلة لهذه في الحقيقة وإنما اختلفتا في الصفات العرضية، كما قال ذلك طائفة من أهل الكلام - وقد بين فساد ذلك في الكلام على الأربعين للرازي وغير ذلك - فهذا أيضاً من أبطل الباطل، وذلك يستلزم أن تكون حقيقة ذات الباري عز وجل مماثلة الحقيقة ذوات المخلوقين. وإن أريد بذلك أنهما اشتركا في مسمى العلم والقدرة والكلام فهذا صحيح، كما أنه إذا قيل إنه موجود أو أن له ذاتاً فقد اشتركا في مسمى الوجود والذات، لكن هذا المشترك أمر كلي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان (1) فليس في الخارج شيء اشترك فيه مخلوقان كاشتراك الجزئيات في كلياتها بخلاف اشتراك الأجزاء في الكل فإنه يجب الفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الحيوان إلى ناطق وغير ناطق، وقسمة الإنسان إلى مسلم وكافر، وقسمة الاسم إلى معرب ومبني، وقسمة الكل إلى أجزائه كقسمة العقار بين الشركاء وقسمة الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ففي الأول إنما اشتركت الأقسام في أمر كلي فضلاً عن أن يكون الخالق والمخلوقون مشتركين في شيء موجود في الخارج وليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفة المخلوق، بل كل ما يوصف به الرب تعالى فهو مخالف بالحد والحقيقة لما يوصف به المخلوق أعظم مما يخالف المخلوق المخلوق، وإذا كان المخلوق مخالفاً بذاته وصفاته لبعض المخلوقات في الحد والحقيقة   (1) يظهر من هذا التفصيل أن شيخ الإسلام يرجح أن الاشتراك بين صفات الله وصفات المخلوق اشتراك في التسمية لا في الجنس الذي ينقسم إلى أنواع هي جزئياته. وهذا هو الذي اختاره شيخنا في درسه لرسالة التوحيد وذكرناه في حاشية لها وأشرنا إليه في حاشية سابقة على هذا الكتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 فمخالفة الخالق لكل مخلوق في الحقيقة أعظم من مخالفة أي مخلوق فرض لأي مخلوق فرض، ولكن علمه ثبت له حقيقة العلم ولقدرته حقيقة القدرة ولكلامه حقيقة الكلام كما ثبت لذاته حقيقة الذاتية ولوجوده حقيقة الوجود، وهو أحق بأن تثبت له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه، فهذا هو المراد بقولنا: علمه علم المخلوق في الحقيقة، فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابهاً ولا مماثلاً لما سمعه موسى من صوته إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين، فهذا في نفس تكلمه سبحانه وتعالى بالقرآن، والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئاً من أصوات العباد، ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرأه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب، فالقرآن الذي نقرأه هو كلام الله مبلغاً عنه لا مسموعاً منه، وإنما نقرأه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل، قال الله تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم ". وقال الإمام أحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال: يزينه ويحسنه بصوته كما قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة أنا نقرأ القرآن بأصواتنا والقرآن كلام الله كله لفظه ومعناه، سمعه جبريل من الله وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه محمد منه، وبلغه محمد إلى الخلق، والخلق يبلغه بعضهم إلى بعض ويسمعه بعضهم من بعض، ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه كما قال: " نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه " فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم، وقد علم الفرق بين من يروي الحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 بالمعنى لا باللفظ واللفظ المبلغ لفظ الرسول وهو كلام الرسول، فإن كان صوت المبلغ ليس صوت الرسول وليس ما قام بالرسول من الصفات والأعراض فارقته وما قامت بغيره، بل ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله، وإذا كان هذا معقولاً في صفات المخلوقين فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال وأبعد عن كل صفة نقص، والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق، وامتناع الاتحاد والحلول بالذات للخالق وصفاته في المخلوق عظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق، وهذه جمل قد بسطت في مواضع أخر. هذا مع أن احتجاج الجهمية والمعتزلة بأن كلام المخلوق بقوله " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " مثل كلام الخالق غلط باتفاق الناس حتى عندهم، فإن الذين يقولون هو مخلوق يقولون أنه خلقه في بعض الأجسام أما الهواء أو غيره، كما يقولون أنه خلق الكلام في نفس الشجرة فسمعه موسى، ومعلوم أن تلك الحروف والأصوات التي خلقها الله ليست مماثلة لما يسمع من العبد وتلك هي كلام الله المسموع منه عندهم، كما أن أهل السنة يقولون الذي تكلم هو الله بمشيئته وليس ذلك مماثلاً لصوت العبد، وأما القائلون بعدم الكلام المعين سواء كان معنى أو حروفاً أو أصواتاً فيقولون خلق لموسى إدراكاً أدرك به ذلك القديم، وبكل حال فكلام المتكلم إذا سمع من المبلغ عنه (1) فكيف يكون ذلك في كلام الله تعالى.   (1) قد سقط من الناسخ هنا خبر "فكلام المتكلم" ويعلم مما سبق وهو أن ما قام بنفس المبلغ غير ما قام بنفس المتكلم المنشئ للكلام ولكنه مثله لتماثل كلام بشر، وبه يظهر قوله فكيف يكون ذلك في كلام الله تعالى؟ يعنى وهو لا يماثل كلام البشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 فيجب على الإنسان في مسألة الكلام أن يتحرى أصلين: أحدهما تكلم الله بالقرآن وغيره، هل تكلم به بمشيئته وقدرته أم لا؟ وهل تكلم بكلام قائم بذاته أم خلقه في غيره؟ والثاني بتبليغ ذلك الكلام عن الله وأنه ليس مما يتصف به الثاني وإن كان المقصود بالتبليغ الكلام المبلغ، وبسط هذا له موضع آخر. وأيضاً فهذان المتنازعان إذا قال أحدهما إنها قديمة وليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث، وقال الآخر: إنها ليست بكلام الله وإنها مخلوقة بشكلها ونقطها، قد يفهم من هذا أنهما أرادا بالحروف الحروف المكتوبة دون المنطوقة، والحروف المكتوبة قد تنازع الناس في شكلها ونقطها، فإن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة، فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقياً وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوباً كالتوراة، وأنزله منجماً مفرقاً ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب، كما قال تعالى: " وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الآية، وقال تعالى: " وقرآناً فرقناه " الآية، وقال تعالى: " ولا تعجل بالقرآن " الآية. وقال تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه " الآية وفي الصحيح عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحركهما؛ فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال جمعه في صدرك ثم تقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " قال: فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أي نبينه بلسانك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه، فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 المصاحف ويشكلونها، وأيضاً كانوا عرباً لا يلحنون فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل: يعملون، وتعملون، فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الآخرة، ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعلمون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك شد، ويعملون المدة بقولك مد، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل أنا وعلى شكل ثنا. وتنازع العلماء هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها؟ على قولين معروفين وهما روايتان عن الإمام أحمد، لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط كما يجب احترام الحرف ولا تنازع بينهم أن مداد النقطة والشكل مخلوق كما أن مداد الحرف مخلوق، ولا نزاع بينهم أن الشكل يدل على الإعراب والنقط يدل على الحروف وأن الإعراب من تمام الكلام العربي ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، ولا ريب أن النقطة والشكلة بمجردهما لا حكم لهما ولا حرمة ولا ينبغي أن يجرد الكلام فيهما، ولا ريب أن إعراب القرآن العربي من تمامه ويجب الاعتناء بإعرابه، والشكل يبين إعرابه كما تبين الحروف المكتوبة للحرف المنطوق، كذلك يبين الشكل المكتوب للإعراب المنطوق. فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصوراً تاماً ظهر لهم الصواب، وقلت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له الحق في شيء من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ذلك اتبعه ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بالدعاء لله، ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". وأقول: القائل الآخر كلامه كتب بها يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ". قال الترمذي: حديث صحيح. فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد وإنما أراد الحرف المنطوق، وفي مراده بالحرف قولان: قيل هذا اللفظ المفرد، وقيل أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم كما قال ألف حرف ولام حرف وميم حرف. ولفظ الحرف والكلمة له في لغة العرب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى، فالكلمة في لغتهم هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". وقال " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب له بها رضوان الله إلى يوم القيامة، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة " وقال لأم المؤمنين (1) : " لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله   (1) لعل اسمها سقط من الناسخ وهي صفية (رض) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 عدد خلقه، سبحان الله رضاء نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته ". ومنه قوله تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ". وقوله: " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ". وقوله تعالى: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله " وقوله: " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " وقوله: " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ونظائره كثيرة، ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ كلمة إلا والمراد به الجملة التامة، فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب، والفاضل منهم (1) يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم، ويقولون: العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد، وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة. ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره سواء كان أزلياً أو لم يكن كما قال تعالى: " حتى عاد كالعرجون القديم " وقال: " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب، ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى: " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " وهذا يقتضي أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم، وهذا موافق للغة العرب الذي نزل بها القرآن ونظير هذا   (1) وهو ابن مالك صاحب الألفية المشهورة رحمه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 لفظ القضاء فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة وإن كان ذلك في وقتها كما قال تعالى: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " وقوله " فإذا قضيتم مناسككم " ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ القضاء مختصاً بفعلها في غير وقتها، ولفظ الأداء مختصاً بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول، ثم يقولون قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر، ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم: " فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " وفي لفظ " فأتموا " فيظنون أن بين اللفظين خلافاً وليس الأمر كذلك بل قوله " فاقضوا " كقوله " فأتموا " لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان: وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به، وأن هذا ليس وقتاً في حق غيرهما. ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها، وما ذكر في مسمى الكلام مما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال: واعلم إن قلت في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكي وإنما تحكي بعد القول ما كان كلاماً قولاً وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب، ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء، ولهذا سأل الخليل أصحابه: كيف تنطقون بالزاي من زيد؟ فقالوا: زاي فقال: نطقتم بالاسم، والحرف زه (1) فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء.   (1) الهاء في قوله زه - ساكنة زيدت لأجل الوقف، وإنما مسمى الحرف الأول من زيد "ز" بالفتح والعرب لا تقف على متحرك كما أنها لا تبتدئ النطق بساكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وكثيراً ما يوجد في كلام المتقدمين هذا حرف من الغريب يعبرون بذلك عن الاسم التام، فقوله صلى الله عليه وسلم: " فله بكل حرف مثله " بقوله (1) " ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " وعلى نهج ذلك، وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك وقد قيل إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسراً في بعض الطرق، والنحاة اصطلحوا خاصاً فجعلوا لفظ الكلمة يراد به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني، لأن سيبويه قال في أول كتابه: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، فجعل هذا حرفاً خاصاً، وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب، وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفاً، فقيد كلامه بأن قال: وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلي إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء، كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها، وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه كما يقال الاسم ينقسم إلى معرب ومبني. وجاء الجزولي وغيره فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم فقالوا كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساماً له، وأراد بذلك الاعتراض على قول الزجاج: الكلام اسم وفعل وحرف، والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال، ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات التي لا توجد كليات إلا في الذهن، كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم، وقسمة الاسم إلى المعرب والمبني، فإن المقسم هنا هو معنى عقلي كلي لا يكون كلياً إلا في الذهن.   (1) كذا في الأصل الذي طبعنا عنه. ولفظ الحديث " من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن أقول: ألف حرف،ولام حرف، وميم حرف " أخرجه الترمذي وصححه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 فصل: ولفظ الحرف يراد به حروف المعاني التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، مثل حروف الجر والجزم، وحرفي التنفيس، والحروف المشبهة للأفعال مثل إن وأخواتها، وهذه الحروف لها أقسام معروفة في كتب العربية كما يقسمونها بحسب الإعراب إلى ما يختص بالأسماء وإلى ما يختص بالأفعال، ويقولون ما اختص بأحد النوعين ولم يكن كالجزء منه كان عاملاً كما تعمل حروف الجر وإن وأخواتها في الأسماء، وكما تعمل النواصب والجوازم في الأفعال، بخلاف حرف التعريف وحرفي التنفيس كالسين وسوف فإنهما لا يعملان لأنهما كالجزء من الكلمة، ويقولون كان القياس في " ما " أنها لا تعمل لأنها تدخل على الجمل الاسمية والفعلية، ولكن أهل الحجاز أعملوها لمشابهتها لليس وبلغتهم جاء القرآن في قوله " ما هذا بشراً - ما هن أمهاتهم " ويقسمون الحروف باعتبار معانيها إلى حروف استفهام وحروف نفي وحروف تحضيض وغير ذلك، ويقسمونها باعتبار بنيتها كما تقسم الأفعال والأسماء إلى مفرد وثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي، فاسم الحرف هنا منقول عن اللغة إلى عرف النحاة بالتخصيص، وإلا فلفظ الحرف في اللغة يتناول الأسماء والحروف والأفعال، وحروف الهجاء تسمى حروفاً وهي أسماء كالحروف المذكورة في أوائل السور لأن مسماها هو الحرف الذي هو حرف الكلمة. وتقسيم تقسيماً آخر إلى حروف حلقية وشفهية والمذكورة في أوائل السور في القرآن هي نصف الحروف واشتملت من كل صنف على أشرف نصفيه: على نصف الحلقية والشفهية والمطبقة والمصمتة، وغير ذلك من أجناس الحروف. فإن لفظ الحرف أصله في اللغة هو الحد والطرف كما يقال حروف الرغيف وحروف الجبل، قال الجوهري: حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 حرف الحبل وهو أعلاه المحدد، ومنه قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف - إلى قوله - والآخرة " فإن طرف الشيء إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقراً فلهذا كان من عبد الله على السراء دون الضراء عابداً له على حرف تارة يظهره وتارة ينقلب على وجهه كالواقف على حرف الجبل، فسميت حروف الكلام حروفاً لأنها طرف الكلام وحده ومنتهاه، إذا كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاه حده وحرفه القائم بشفتيه ولسانه، ولهذا قال تعالى: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين " فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا. ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفاً فيراد بالحرف الشكل المخصوص ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه، ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق - إلى قوله - ما لم يعلم " فبين سبحانه في أول ما أنزله أنه سبحانه هو الخالق الهادي الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، كما قال موسى " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " فالخالق يتناول كل ما سواه من المخلوقات ثم خص الإنسان فقال: " خلق الإنسان من علق " ثم ذكر إنه علم فإن الهدى والتعليم هو كمال المخلوقات. والعلم له ثلاث مراتب: علم بالجنان، وعبارة باللسان، وخط بالبنان (1) ، ولهذا قيل إن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي، وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، واللسان والبنان، لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات   (1) المرتبتان الأولييان مما فطر عليه الإنسان، والثالثة وهي الخط صناعة استحدثها من قديم الزمان، وقد استحدث في هذا الزمان صناعات أخرى وهي نقل الكلام بالآلات الكهربائية كالتلغراف السلكي والتلغراف الهوائي وألواح الآلة التي تسمى (فونغراف) ويدخل هذا في عموم قوله تعالى (علم الإنسان مالم يعلم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 في أنفسها والله خالق كل شيء، وأما الذهني الجناني فهو العلم بها الذي في القلوب، والعبارة عن ذلك هو اللساني، وكتابة ذلك هو الرسمي البناني، وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ وذلك يستلزم تعليم العلم فقال: " علم بالقلم " لأن التعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، وأطلق التعليم ثم خص فقال " علم الإنسان ما لم يعلم " وقد تنازع الناس في وجود كل شيء، هل هو عين ماهيته أم لا، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين أن الصواب من ذلك أنه قد يراد بالوجود ما هو ثابت في الأعيان، ليس ما هو ماهيتها المتصورة في الأذهان، لكن الله خلق الموجود الثابت في الأعيان وعلم الماهيات المتصورة في الأذهان، كما أنزل بيان ذلك في أول سورة أنزلها من القرآن، وقد يراد بالوجوه والماهية كليهما ما هو متحقق في الأعيان، وما هو متحقق في الأذهان، فإذا أريد بهذا وهذا ما هو متحقق في الأعيان أو ما هو متصور في الأذهان، فليس هما اثنين (1) بل هذا هو هذا، وكذلك الذهن إذا تصور شيئاً فتلك الصورة هي المثال الذي تصورها وذلك هو وجودها الذهني الذي تتصوره الأذهان، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب ومن تدبر هذه المسائل وأمثالها تبين له أن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء " ومن لم يجعل الله له نوراً فما من نور " وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل وتفاصيلها في مواضع أخرى، فإن الناس كثر نزاعهم فيها حتى قيل: مسألة الكلام، حيرت عقول الأنام، ولكن سؤال هذين لا يحتمل البسط الكثير فإنهما يسألان بحسب ما سمعاه واعتقداه وتصوراه، فإذا عرف السائل أصل مسألته ولوازمها وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة تبين له أن من الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل فلا بد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه.   (1) كانت في الأصل (في الايمان) ولم يكن المعنى بها ظاهراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه (1) فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان، وقد قال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ". وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره. ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو جمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئاً بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث. وكثير من الكتب المصنفة في أصول العلوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالاً متعددة، والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه   (1) كذا في الأصل وقد سقط منه الخبر الذي يتم به الكلام ويعلم من القرينة ومما يعده وهو: لا يكون إلا حقا في اثباته ونفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به، وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، وقد قال تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله " وقال تعالى: " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ". وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه " ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد كتب في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصول كثيرة، ولكن هذا الجواب كتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة، والله تعالى يهدينا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين. فصل: في بيان أن القرآن كلام الله العزيز العليم ليس شيء منه كلاماً لغيره لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، قال الله تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الدين يتولونه والذي هم به مشركون، وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فأمره أن يقول: " نزله روح القدس من ربك بالحق " والضمير في قوله " نزله " عائد على " ما " في قوله " بما ينزل " فالمراد به القرآن كما يدل عليه سياق الكلام، وقوله: " والله أعلم بما ينزل " فيه إخبار بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه منزل منه. ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيداً بالإنزال منه كنزول القرآن، وقد يرد مقيداً بالإنزال من السماء ويراد به العلو، فيتنازل نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند الله وغير ذلك، وقد يرد مطلقاً فلا يختص بنوع من الإنزال بل ربما يتناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " والإنزال من ظهور الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك فقوله " نزله روح القدس من ربك " بيان لنزول جبريل من الله عز وجل، فإن روح القدس هنا هو جبريل بدليل قوله تعالى: " من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وهو الروح الأمين كما في قوله تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به روح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين " وفي قوله الأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص، فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال تعالى في صفته في الآية الأخرى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين ". وفي قوله " منزل من ربك " دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والبخارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة جهمياً، فإن جهماً أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات، وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 والدعوة إليه، وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً " ثم نزل فذبحه، ولكن المعتزلة إن وافقوا جهماً في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك، كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضاً، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول: إن الله لا يتكلم أو يقول أنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون أنه يتكلم حقيقة لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضاً كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء. فالمقصود أن قوله " منزل من ربك " فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات، ولهذا قال السلف: منه بدأ، أي هو الذي تكلم به لم يبتدئ من غيره كما قال الخلقية. ومنها أن قوله " منزل من ربك " فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره (1) كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة وهذا القول أعظم كفراً وضلالاً من الذي قبله. ومنها أن هذه الآية أيضاً تبطل قول من قال أن القرآن العربي ليس منزلاً   (1) هذا يشبه قول بعض فلاسفة أوربة أن وحي الأنبياء يفيض من أنفسهم في أحوال مخصوصة تستولي عليها وتستغرق ادراكها ووجدانها كاستيلاء كراهة الوثنية على نبينا صلى الله عليه وسلم. ويرده أن الوحي إليه لم يكن مقصوداً على إبطال الوثنية وخرافاتها واثبات التوحيد وما يناسبه من العبادات والفضائل، بل فيه من أخبار الغيب الماضية والآتية ومن الحكمة وأصول التشريع مالا يعقل أن يكون نابعا من نفس رجل أمي ولا متعلم. وإنما يعقل أن يكون وحيا من عالم الغيب والشهادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 من الله بل مخلوق إما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابية والأشعرية الذين يقولون: القرآن العربي ليس هو كلام الله وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام: الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمد فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون جبريل أخذه من اللوح المحفوظ أو غيره. فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع هذا القول، فإن هذا القرآن العربي لا بد له من متكلم تكلم به أولاً قبل أن يصل إلينا، وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين: أحدهما أن أولئك يقولون أن المخلوق كلام الله وهم يقولون إنه ليس كلام الله لكن يسمى كلام الله مجازاً هذا قول أئمتهم وجمهورهم، وقال طائفة من متأخريهم: بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراك اللفظي، لكن لفظ هذا الكلام ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به، ومع هذا لا يقولون أن المخلوق كلام الله حقيقة كما يقولوه المعتزلة مع قولهم أنه كلام حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلاماً لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة وهذا حقيقة قول الجهمية، ومن هذا الوجه نقول: المعتزلة أقرب، وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء وإنما ينازعونهم في اللفظ الثاني أن هؤلاء يقولون: لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام، ومن هذا الوجه الكلابية خير من الخلقية في الظاهر، لكن جمهور الناس يقولون إن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا كلاماً له حقيقة غير المخلوق، فإنهم يقولون إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، ومنهم من قال هو خمس معان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وجمهور العقلاء أن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في الأخبار المتواترة، وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمداً، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ومحبته ليصير (1) ذلك القول كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة. وقال جمهور العقلاء: نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن ذلك معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا (2) وكذلك معنى " قل هو الله أحد " ليس هو معنى " تبت يدا أبي لهب "، ولا معنى آية الكرسي معنى آية الدين، وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي. ثم منهم من قال الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد وإما ناف بها، وأما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع، وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ومنهم من اعترف بأنه ليس له عنه جواب كأبي حسن الآمدي وغيره. والمقصود هنا أن هذه الآية تبين بطلان هذا القول كما تثبت بطلان غيره فإن قوله " نزله روح القدس من ربك " يقتضي نزول القرآن من ربه والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، بدليل قوله " فإذا قرأت القرآن " وإنما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المحددة، وأيضاً فضمير المفعول في قوله " نزله "   (1) كذا في الأصل ولعله لنصر ذلك القول (2) بياض بالأصل قليل، يظهر أنه موضع شاهد كالشواهد التي بعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 عائد إلى " ما " في قوله " والله أعلم بما ينزل " فالذي أنزله الله هو الذي نزله روح القدس، فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله، فلا يكون شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة ولا نزله من نفسه. وأيضاً فإنه قال عقب هذه الآية " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي " الآية. وهم كانوا يقولون إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، ولم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط، بدليل قوله " لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه فجعلوه هو الذي يعلم محمداً القرآن لسان أعجمي، والقرآن لسان عربي مبين، فلو كان الكفار قالوا يعلمه معانيه فقط لم يكن هذا رداً لقولهم، فإن الإنسان قد يتعلم من الأعجمي شيئاً بلغة ذلك الأعجمي ويعبر عنه بعباراته، وقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يقولون هو تعلمه من شخص كان بمكة أعجمي، قيل إنه كان مولى لابن الحضرمي. وإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشراً والله أبطل ذلك بأن لسان ذاك أعجمي وهذا لسان عربي مبين، علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين، وأن محمداً لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس، وإذا كان روح القدس نزل به من الله، علم أنه سمعه منه ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله أن القرآن الذي هو اللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله، وكذلك قوله " هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً " الآية. والكتاب اسم للكلام العربي بالضرورة والاتفاق، فإن الكلابية أو بعضهم يفرق بين كلام الله وكتاب الله، فيقول كلام الله هو المعنى القائم بالذات وهو غير مخلوق، وكتابه هو المنظوم المؤلف العربي وهو المخلوق، والقرآن يراد به تارة وهذا وتارة هذا، والله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآناً وكتاباً وكلاماً، فقال تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 " تلك آيات القرآن وكتاب مبين " وقال " طسم، تلك آيات الكتاب المبين " وقال " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن " الآية، فبين أن الذي سمعوه هو القرآن وهو الكتاب وقال " بل هو قرآن " الآية، وقال " إنه لقرآن كريم " الآية وقال " يتلو صحفاً " الآية، وقال " والطور " الآية، وقال " ولو نزلنا عليك كتاباً " الآية، لكن لفظ الكتاب قد يراد به المكتوب فيكون هو الكلام وقد يراد به ما يكتب فيه كقوله " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال " ونخرج له يوم القيامة كتاباً " الآية. والمقصود هنا أن قوله " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً " يتناول نزول القرآن العربي على كل قول، وقد أخبر أن " الذين آتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم. وقال إنهم يعلمون ذلك لم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه، والعلم لا يكون إلا حقاً مطابقاً للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل، فعلم أن القرآن العربي ينزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا محمد ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيراً منه من هذا الوجه. وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله " إنا أنزلناه في ليلة القدر " أنه أنزله إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجماً مفرقاً بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى " بل هو قرآن مجيد " الآية. وقال " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال: " إنها تذكرة " الآية، وقال " وإنه في أم الكتاب " الآية، وكونه مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو غير ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوباً إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة وآثار السلف، ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها، فيقابل من الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنها فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف وهو حق، فإذا كان ما يخلقه ثابتاً عنه قبل كتبه أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به. ومن قال إن جبريل أخذ القرآن عن الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلاً من وجوه: منها أن يقال إن الله تعالى كتب التوراة لموسى بيده فبنوا إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه فيه (1) ، فإن كان محمد أخذه من جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلا من محمد بدرجة، ومن قال إنه ألقي إلى جبريل معاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي، فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاماً، وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين كما قال تعالى: " وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي " وقال " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " وقد أوحى إلى سائر النبيين، فيكون هذا الوحي الذي لا يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلا من أخذ محمد القرآن عن جبريل لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء، ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، قال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد، وادعى أن أخذه عن الله أعلا من أخذ الرسول للقرآن، ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر، وإن هذا القول من جنسه.   (1) الذي عندهم أن الذي كتبه الله في الألواح هو الوصايا العشر لاكل ما يسمونه التوراة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وأيضاً فالله تعالى يقول " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " الآية. ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، وهذا يدل على أمور على أن الله يكلم عبده تكليماً زائداً على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص، فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص، والتكليم العام هو المقسم في قوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً " الآية، والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس قسماً منه، وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاماً فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى " فاستمع لما يوحى " وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى، وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات، فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي هو لآحاد العباد، ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم وراء من حجاب وبين إرسال الرسول يوحى بإذنه ما يشاء، فدل على أن التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى أمر غير الإيحاء. وأيضاً فقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره، وكذلك قوله تعالى " بلغ ما أنزل إليك من ربك " فإنه يدل على أنه مبلغ ما أنزل إليه من ربه وأنه مأمور بتبليغ ذلك. وأيضاً فهم يقولون أنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله، وإن كان سمع البعض فقد استمع بعضه فقد تبعض، وكلاهما ينقض قولهم، فإنهم يقولون أنه معنى واحد ولا يتعدد ولا يتبعض، فإن كان ما سمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وأنزل عليه شيئاً في كلامه عالماً بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وإن كان الواحد من هؤلاء إنما سمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم. وأيضاً فقوله " وكلم الله موسى تكليماً " وقوله " ولما جاء موسى لميقاتنا " وقوله تعالى " وناديناه من جانب الطور الأيمن " وقوله " فلما أتاها نودي " الآيات دليل على تكليم موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر - ودليل أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتاً مسموعاً لا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازاً، وقد قال تعالى " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار - إلى قوله - رب العالمين ". وأيضاً فقوله " فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك " وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك و " لما " فيها من معنى الظرف، كما في قوله " وإنه لما قام عبد الله يدعوه " ومثل هذا قوله " ويوم يناديهم فيقول أين شرائي الذين كنتم تزعمون " " ويم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " فإن النداء وقت بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه. ومثل هذا قوله تعالى " وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وقوله " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته، ومن هؤلاء من قال إنه معنى واحد لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة، ومنهم من قال بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في مقارنة وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 ومنهم من قال بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات، وكل هؤلاء يقولون أن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك في المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم بكلام الله بمشيئته وقدرته، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة ما يجعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عنه، وعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم، لا إنه حينئذ نودي، ولهذا يقولون إنه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس يكلم خلقه، وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم أنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فأنهم يثبتون كلاماً قائماً بنفس الله وهذا قول السلف بخلاف الخليقة الذين يقولون ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره، فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف، وأما كون الخلقية أقرب فلأنهم يقولون أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف، وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه فليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته، وهم يقولون الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل، والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات، ومذهب السلف أنه صفة فعل وصفة ذات معاً، فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه. واختلافهم في أفعاله ومسائل القدر بنسبة اختلافهم في كلامه تعالى فإن المعتزلة أنه يفعل لحكمة مقصودة وإرادة الإحسان إلى العباد، لكن لا يثبتون لفعله حكمة تعود إليه، وأولئك يقولون لا يفعل لحكمة ولا لمقصود أصلاً فأولئك أثبتوا حكمة لكن لا تقوم به، وهؤلاء لا يثبتون له قصداً يتصف به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 ولا حكمة تعود إليه، وكذلك في الكلام أولئك أثبتوا كلاماً هو فعله لا يقوم به، وهؤلاء يقولون ما لا يقوم به لا تعود حكمته إليه، والفريقان يمنعون أن تقوم به حكمة مرادة له، كما يمنع الفريقان أن يقوم به كلام وفعل يريده، وقول أولئك أقرب إلى قول السلف والفقهاء إذ أثبتوا الحكمة والمصلحة في أفعاله وأحكامه، وأثبتوا كلاماً يتكلم به بقدرته ومشيئته، وقول هؤلاء أقرب إلى قول السلف إذ أثبتوا الصفات وقالوا: لا يوصف بمجرد المخلوق المفصل عنه الذي لم يقم به أصلاً، ولا يعود إليه حكم شيء لم يقم به، فلا يكون متكلماً بكلام لم يقم به، ولا قديراً بقدرة لم تقم به، فكل من المعتزلة والأشعرية في مسائل كلام الله وأفعال الله وافقوا السلف والأئمة من وجه وخالفوهم من وجه، وليس قول أحدهم قول السلف دون الآخر، لكن الأشعرية في جنس مسائل الصفات والقدر أقرب إلى قول السلف والأئمة من المعتزلة. فإن قيل: فقد قال تعالى " إنه لقول رسول كريم " وهذا يدل على أن الرسول أحدث الكلام العربي، قيل: هذا باطل، وذلك أن الله ذكر هذا في موضعين والرسول في أحد الموضعين محمد والرسول في الآية الأخرى جبريل، قال تعالى في سورة الحاقة " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون " الآية، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في سورة التكوير " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فالرسول هنا جبريل، فلو كان أضافه إلى الرسول لكونه أحدث حروفه أو أحدث منه شيئاً لكان الخبران متناقضين، فإنه إن كان أحدهما الذي أحدثها امتنع أن يكون الآخر هو الذي أحدثها. وأيضاً فإنه قال " لقول رسول كريم " ولم يقل لقول ملك ولا نبي، ولفظ الرسول يستلزم مرسلاً له، فدل ذلك على أن الرسول مبلغ له عن مرسله لا إنه أنشأ منه شيئاً من جهة نفسه، وهذا يدل على أنه أضافه إلى الرسول لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأ منه شيئاً وابتدأه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وأيضاً فإن الله قد كفر من جعله قول البشر بقوله " إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر " (1) ، ومحمد بشر، فمن قال إنه قول محمد فقد كفر، ولا يفرق بين أن يقول بشر أو جني أو ملك، فمن جعله قولاً لأحد من هؤلاء فقد كفر، ومع هذا فقد قال " إنه لقول رسول كريم، ما هو بقول شاعر " فجعله قول الرسول البشري مع تكفيره من يقول إنه قول البشر، فعلم أن المراد بذلك أن الرسول بلغه عن مرسله، لا أنه قوله من تلقاء نفسه، وهو كلام الله تعالى الذي أرسله، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالذي بلغه الرسول هو كلام الله تعالى لا كلامه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف ويقول " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " رواه أبو داود وغيره، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مبلغاً مؤدياً. وموسى سمع كلام الله بلا واسطة والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى سماع مطلق بلا واسطة، وسماع الناس سماع مقيد بواسطة، كما قال تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً التكليم أو من وراء حجاب " ففرق بين التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى بين التكليم بواسطة الرسول كما كلم الأنبياء بإرسال رسوله إليهم، والناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام تكلم بحروفه ومعانيه بصوته صلى الله عليه وسلم ثم المبلغون عنه يبلغون كلامه بحركاتهم وأصواتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه " فالمستمع منه مبلغ حديثه كما سمعه، لكن بصوت نفسه لا بصوت الرسول، فالكلام هو كلام الرسول تكلم به بصوته، والمبلغ بلغ كلام رسول الله بصوت نفسه.   (1) يعني إلى قوله (إن هذا إلا قول بشر) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وإذا كان هذا معلوماً في تبليغ كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بذلك، ولهذا قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم " فجعل الكلام كلام البارئ، وجعل الصوت الذي يقرؤه به العبد صوت القارئ، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي ينادي الله به ويتكلم به، كما نطقت النصوص بذلك بل ولا مثله، فإن الله تعالى " ليس كمثله شيء " لا في ذاته ولا أفعاله، فليس علمه مثل علم المخلوقين ولا قدرته مثل قدرتهم، ولا كلامه مثل كلامهم، ولا نداؤه مثل ندائهم، ولا صوته مثل أصواتهم، فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله أو هو كلام غير الله فهو ملحد مبتدع ضال، ومن قال إن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع، بل هذا القرآن هو كلام الله وهو مثبت في المصاحف، وكلام الله مبلغ عنه، مسموع من القراء ليس مسموعاً منه، فالإنسان يرى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة ويراها في ماء أو مرآة، فهذه رؤية مقيدة بالواسطة، وتلك مطلقة بطريق المباشرة، ويسمع من المبلغ عنه بواسطة، والمقصود بالسماع هو كلامه في الموضعين كما أن المقصود بالرؤية هو المرئي في الموضعين. فمن عرف ما بين الحالين من الاجتماع والافتراق والاختلاف والاتفاق زالت عنه الشبهة التي تصيب كثيراً من الناس في هذا الباب، فإن طائفة قالت هذا المسموع كلام الله، والمسموع صوت العبد وصوته مخلوق، فكلام الله مخلوق، وهذا جهل فإنه مسموع من المبلغ، ولا يلزم إذا كان صوت المبلغ مخلوقاً أن يكون نفس الكلام مخلوقاً، وطائفة قالت: هذا المسموع صوت العبد وهو مخلوق والقرآن ليس بمخلوق، ولا يكون هذا المسموع كلام الله، وهذا جهل، فإن المخلوق هو الصوت لا نفس الكلام الذي يسمع من المتكلم به ومن المبلغ عنه، وطائفة قالت: هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 كلام الله وكلام الله غير مخلوق، فيكون هذا الصوت غير مخلوق، وهذا جهل، فإنه إذا قيل هذا كلام الله فالمشار إليه هو الكلام من حيث هو، وهو الثابت إذا سمع من الله وإذا سمع من المبلغ عنه، وإذا قيل للمسموع أنه كلام الله فهو كلام الله مسموعاً من المبلغ عنه لا مسموعاً منه، فهو مسموع بواسطة صوت العبد وصوت العبد مخلوق، وأما كلام الله منه فهو غير مخلوق حيث ما تصرف، وهذه نكت قد بسط الكلام فيها في غير هذا الموضع. فصل: فإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفريق والاختلاف؟ قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع. وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على (1) بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في الأدلة في المسألة المتقدمة فتارة يثبتونها بان الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون،   (1) بياض في الأصل والمعروف أنهم استدلوا بما ذكر على قدم الصانع واجب الوجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وهي حادثة، وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام قد تخلو عن بعض أنواع الأعراض، وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون إن الأعراض يمتنع بقاؤها لأن العرض لا يبقى زمانين، وهي الطريقة التي اختارها الأمدي وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى والجويني والباجي وغيرهم. وأما الهشامية والكرامية وغيرهما من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم يقولون أن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث كما في قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل فإنهم قالوا أن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة. والناس متنازعون في السكون هل هو أمر وجودي أو عدمي، فمن قال إنه وجودي قال الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون فإذا انتفت عنه الحركة فالسكون به وجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت أن السكون وجودي، فمن قال إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث كما هو في قول الكرامية. وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بلى ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، ولا يقولون إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء. وكان كثير من أهل الكلام يقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناءً على أن هذه مقدمة ظاهرة بأن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده، وقارن الحوادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحوادث المعينة أو ما لا يسبق الحادث المعين فهو حق بلا ريب ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث حكم ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا ما أريد الحوادث الأمور التي تكون شيئاً بعد شيء لا إلى أول وقيل إنه لا يخلو عنها وما لم يخل فهو حادث لم يكن ذلك ظاهراً ولا بيناً، بل هذا المقام، حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم، ما لا يخطر عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقاً قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع. وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال: فقيل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم. وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقاً، وليس كل ما يقارب حادثاً بعد حادث لا إلى أول يجوز أن يكون حادثاً، بل يجوز أن يكون قديماً سواء كان واجباً بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول والفاعلية ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك كأرسطو وأتباعه ثامبطوس والإسكندر الأفرديوسي وبوملس والفارابي وابن سينا وأمثالهم، وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بهذا وقيل بل إن كان الملتزم للحوادث ممكناً بنفسه وجب أن يكون حادثاً فإن كان واجباً بنفسه لم يجز أن يكن حادثاً، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة وهو قول جماهير أهل الحديث. وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، وما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث، لأنه إن كان مفعولاً ملتزماً للحوادث امتنع أن يكون قديماً، فإن القديم المعلول لا يكون قديماً إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله بحيث يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 معه أزلياً لا يتقدم عنه، وهذا ممتنع فإن من استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجباً بذاته يستلزم معلوله في الأزل فإن الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء لا يكون مجموعها في الأول ولا يكون شيء منها أزلياً بل الأزلي هو ذاتها واحد بعد واحد الموجب بذاته الملتزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئاً بعد شيء سواء كان صادراً عنه بواسطة أو بغير واسطة فإن ما كان واحداً بعد واحد يكون متعاقباً حادثاً شيئاً بعد شيء فيمتنع أن يكون معلولاً مقارباً لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل أن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئاً بعد شيء فإنه على هذا لا يكون في الأزل موجباً بذاته ولا علة سابقة تامة فلا يكون معه في أول شيء من المخلوقات، لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئاً بعد شيء، وكل مفعول يأخذ عنده وجود كمال فاعليته، إذ المؤثر التام الملتزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره إذ لو تخلف لم يكن مؤثراً تاماً، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام، يستلزم وجود الأثر، فليس في الأول مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأول ليس هو حداً محدوداً ولا وقتاً معيناً بل كل بتقدير العقل من الغاية التي ينتهي إليها، فالأول قبل ذلك كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " فلو قيل أنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارناً له دائماً، وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوداث، لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه، وإن كانت ذات المؤثر وموجودة قبل ذلك لكن لا بد من وجود شروط التأثير عند وجود الأثر والألزم الترجيح من غير مرجح وتخلف المعلول عن العلة التامة ووجود الممكن بدون المرجح التام وكل هذا ممتنع وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 فصل: وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس فالذين قالوا ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، تنازعوا في كلام الله تعالى، فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئته المتكلم وقدرته فيكون حادثاً كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة والرب تعالى لا يقوم به الحوادث فيكون الكلام مخلوقاً في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقاً من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل، وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات والروائح والحركة العلم والقدرة والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات علامة، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول كل كلام في الوجود فهو كلامه كما قال بعض الاتحادية (1) : وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم فإن هؤلاء يقولون إنه خالق أفعال العباد وكلامهم مع قولهم أن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا، وأما المعتزلة فلا يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك، وقالت طائفة: بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن لا يكون كلامه إلا مخلوقاً في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته، فيكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن لامتناع حوادث لا أول لها، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقاً بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة إذ لو قلنا أنه بمشيئته وقدرته لزم أن يكون حادثاً وحينئذ يلزم أن يكون مخلوقاً أو قائماً بذاته فيلزمه قيام الحوادث به وذلك مستلزم لتسلسل الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، قالوا وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل.   (1) ابن عربي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً، لأن تلك الحروف لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده، لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً من غير مرجح، وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد، قالوا وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية. وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة، ومنهم من قال بل هو أيضاً أصوات قديمة، ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد، فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى، فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً، لأن ما وجب قدمه، لزم بقاؤه وامتنع عدمه. والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه (1) . وقد يراد بالحروف نفس المداد، وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ونحو ذلك، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية وهي ما يسجل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به وقد تنازع الناس هل يتمكن وجود حروف بدون أصوات قديمة لم تزل   (1) سقط من الأصل خبر المبتدأ فتركنا له بياضاً يضعه فيه من علمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 ولا تزال، ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ هل سمع منه الصوت القديم؟ قيل المسموع هو الصوت القديم، وقيل بل المسموع هو صوتان أحدهما القديم والآخر المحدث، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القرآن وما زاد على ذلك فهو المحدث، وتنازعوا في القرآن هل يقال أنه حال في المصحف والصدور أم لا؟ يقال على قولين: فقيل هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه، وقيل بل القرآن حال في الصدور والمصاحف. فهؤلاء الخلقية والحادثية والاتحادية والإقرائية أصل قولهم إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً، ومن قال بهذا الأصل فإنه يلزم بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثاً أو قديماً، وإذا كان حادثاً إما أن يكون حادثاً في غيره، وإما أن يكون حادثاً في ذاته، وإذا كان قديماً فإما أن يكون القديم المعني فقط أو اللفظ، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم أن لا يكون الكلام المقروء كلام الله ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف. وأما قدم اللفظ فقط فهذا لم يقل به أحد لكن من الناس من يقول أن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخل في مسمى الكلام، فهذا يقول الكلام القديم هو اللفظ فقط: إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول إن معناه قديم. وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً، وإن القديم يجوز أن يعتقب عليه الحوادث مطلقاً وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه، فهؤلاء هم القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم هذه الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته. وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا أن لها علة غاثية تتحرك للتشبه بها فهي تحركها كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعاً بذاته، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة ابن سينا وأتباعه، وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 أما على قول من جعل الأزل علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلاً لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم، فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره لكون القدرة والداعي يستلزمان وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد، فيقال لهم تقولون هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه أنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقول، وهذا القول الذي يقوله ابن سينا وأتباعه باطل أيضاً لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع بذاته، وإذا قالوا بحركة توسطه قيل لهم إنما هو في حدوث الحركة، فإن الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضي لها علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها، فإن ذلك جمع بين النقيضين، إذا القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا يحدث بها. وهؤلاء يقولون كلام الله ما يفيض على النفوس الصافية كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاماً خارجاً عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة، مع أن أكثرهم يقولون أنها أعراض. وقد تبين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية الحوادث (1) التي هي العقول والنفوس والمواد والصور إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان. وأما الصنف الثالث الذين فرقوا بين الواجب والممكن والخالق والمخلوق والغني الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغير، فقالوا: كل ما قارن   (1) لعله للحوادث فليتأمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئاً قديماً فضلاً عن أن يقارن حوادث لا أول لها، ولهذا كانت حركة الفلك دليلاً على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه، وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فاعلاً، لم يكن دوام كونه متكلماً بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به، لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكناً يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطياً له الكمال وهذا ممتنع، بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلماً على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلماً وأن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له (1) . وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة، لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها   (1) هذا المذهب هو الذي قرره شيخنا في رسالة التوحيد بأوضح بيان عند إثبات الصفات ولكنه لم يفصل فروعه الآتية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب وقدمها وحدوثها وحدوث العالم. وإذا قيل أن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكناً بخلاف ما إذا قيل اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن كان هذا مكابرة للحس، والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجودها بنوعها، وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع والتأليف المعين فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله. والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطي وهو نقلها عن بكر بن خنيس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا إثبات أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيراً من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئاً حتى يؤمر بهن فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدة لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس. وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط غير العرب لا يماثل خط العرب، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ثابتة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم والحروف المنطوقة لا يقال فيها بأنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية فقد قال عنهم ما لم يقولوه. وأما الإمام أحمد فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فقد سلك طريقاً إلى البدعة، قال إن ذلك مخلوق، وقد قال أن القرآن مخلوق ولا ريب أنه من جعل نوع الحروف مخلوقاً ثابتاً عن الله كائناً بعد إن لم يكن لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقاً، وامتنع أن يكون الله متكلماً بكلامه الذي أنزله إلى عباده، فلا يكون شيء من ذلك كلامه فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثابت الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول. وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعاً من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوقاً فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين. والكلام في هذا الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفات وإيجادها وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية، فإن عمومها متأولة بالأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب فإن هذه أمور مشكلة ومحارات للعقول ولهذا اضطرب فيها طوائف من الناس ونظارهم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 ذكر ما لخصه الإمام شيخ الإسلام في كتابه منهاج السنة في مسألة الكلام هذه مسألة كلام الله تعالى الناس فيها مضطربون، قد بلغوا فيها إلى سبعة أقوال: أحدها قول من يقول: إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض، إما من العقل الفعال عند بعضهم، وإما من غيره، وهذا قول الصائبة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله، ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم، كأصحاب وحدة الوجود، وفي كلام صاحب الكتب " المضنون بها على غير أهلها " (1) ورسالة " مشكاة الأنوار " وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا، وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا، لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه، وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطابقة الأحاديث النبوية. وثانيها قول من يقول: بأنه معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره. ورابعها (2) قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث، ذكره الأشعري في المقالات (3) عن طائفة. وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم، وهؤلاء   (1) هو أبو حامد الغزالي ولا نعرف له إلا كتابا واحداً بهذا الاسم وما ذكر من الإشارات ليس فيها نص يدل على اعتقاد هذا المذهب واما ابن سينا فيقوله في حكاية مذهب الفلاسفة وهو يثبت الملائكة (2) سقط الثالث من الأصل (3) كتاب طبعه بعض المستشرقين من الألمان حديثا في الآستابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 قال طائفة منهم: إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت المسموع من النار، أو هي بعض الصوت المسموع من النار (1) ، وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا هذا مخالفة لضرورة العقل. وخامسها وسادسها قول من يقول: إنه حروف وأصوات، لكن تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته، بعد أن لم يكن متكلماً ولا فاعلاً، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة. وسابعها قول من يقول: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وبالجملة أهل السنة والجماعة - أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية - يقولون أن الكلام غير مخلوق، وهذا هو المتواتر عن السلف والأئمة من أهل البيت وغير أهل البيت، ولكن تنازعوا بعد ذلك على الأقوال الخمسة المتأخرة. أما القولان الأولان قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم، والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم كالنجارية والضرارية. وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة، وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم (2) وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث، وهذا هو المعروف عند أهل البيت كعلي بن أبي طالب وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وغيرهم، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد   (1) أي في خطاب الله لموسى (2) أي من كتاب منهاج السنة المنقول عنه هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 من كان ينكر الرؤية، ولا يقول بخلق القرآن ولا ينكر القدر ولا يقول بالنص على علي (1) ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر، ولا يسب أبا بكر وعمر، والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة، وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع، وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غيرهم من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يعفر أنه لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سبقهم إليه أحد. وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا - أي ابن المطهر الذي رد عليه ابن تيمية في هذا البحث -: قولك " إن أمره ونهيه وأخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأخباره، أتريد به أنه حادث في ذاته، أم حادث منفصل عنه؟ والأول قول أئمة الشيعة المتقدمة والجهمية والمرجئة والكرامية، مع كثير من أهل الحديث وغيرهم. ثم إذا قيل حادث، أهو حادث النوع، فيكون الرب قد صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، أو حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء؟ والكلام الذي كلم به موسى هو حادث، وإن كان نوع كلامه قديماً لم يزل؟ فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك، وقد علم أنك أردت النوع الأول وهو قول الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال، فقالوا: إنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، فيقال لك: إذا كان الله قد خلقه منفصلاً عنه لم يكن كلامه، فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها وفعلها في غيره، ولهذا إذا خلق الله حركة   (1) أي على إمامته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وعلماً وقدرة في جسم كان ذلك الجسم هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات الله بل مخلوقات له، ولو كان متصفاً بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات - كما قال " يا جبال أوبي معه والطير " وكما قال: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " وكما قال: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " ومثل تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم أو تسبيح الحصى بيده، وتسبيح الطعام وهم يأكلونه، فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره، وإذا تكلمت الأيدي فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون أنه خلق كلاماً في الشجرة كلم الله به موسى بن عمران. وأيضاً فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه، وهذا ما قالته الحلولية (1) ، من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وحينئذ فيكون قول فرعون " أنا ربكم الأعلى " كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " كلام الله. وأيضاً فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه المخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، ولهذا عاب الله من يعبد إلهاً لا يتكلم فقال   (1) لعله سقط من هنا لفظ الاتحادية الذي يطلقه عليهم دائما في كتبه فابن عربي وابن الفارض وأمثالهم يقولون باتحاد الخالق بالخلق وأن هذا عين هذا إلا أنه غيره وحال فيه وأنه ماثم غيره وهذا مفصل في رده عليهم من هذا المجموع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 : " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً " وقال: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً " ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائماً به، وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام، كما لا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة، ولا عالم إلا من يقوم به العلم، ولا متحرك إلا من تقوم به الحركة ولا فاعل إلا من يقوم به الفعل، فمن قال: أن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلاً عنه. قال ما لا يعقل، ولم يفهم الرسل الناس هذا، بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل بل ما هو متصف به. قالوا: المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلماً فيقال لهم: للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال: قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلاً عنه، وهذا إنما قاله هؤلاء. وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته، وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم. وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته فقام به الكلام، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم، فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات، والصنف الثاني يقولون: صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته، والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل، وهو قائم به يتعلق بمشيئته وقدرته. إذا كان كذلك فقولكم أنه صفة فعل ينازعكم فيه طائفة، وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال: هب أنه صفة فعل منفصل عن القائل الفاعل أو قائم به؟ أما الأول فهو قولكم الفاسد، وكيف تكون الصفة غير قائمة بالموصوف، أو القول غير قائم بالقائل؟ فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 الحوادث؟ قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل (1) ونحن نعقل الفرق بين نفس التكوين وبين المخلوق المكون؟ وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قويه وقول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث، وحكاه البخاري في كتاب أفعال العباد عن العلماء مطلقاً، وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية. ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم، ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية، ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنه لم يزل متصفاً به فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف. وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم، فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم. فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل أن الباري يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء، فقد ناقض كتاب الله. ومن قال أنه لم يزل ينادي موسى   (1) لعل الأصل بفاعله فان المردود عليهم يقولون الكلام فعله ولكنه قام بغيره فيجعلون الفعل عين المفعول كما شرحه في مواضع تقدمت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله تعالى يقول: " فلما جاءها نودي " وقال " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال. قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فنحن نقول به، وما يقول به من يقول أن كلام الله قائم بذاته وأنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما، فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة، ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة. ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية؟ فإذا قال الأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائماً بالمتكلم لا منفصلاً منه كافياً في هذا الباب. وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث ما لم يكن فاعلاً لها ولا لضدها؟ فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها؟ ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل، فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، وإن لم يكن جائزاً كان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين. فإن قلت: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم، قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم، وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك، قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه، وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها، أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها، وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل. فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، أو منفصل عنه لا يقوم به، مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً، لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث. فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية؟ قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادراً، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعاً غير ممكن لأنه جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادراً ما يبين أنه لم يزل قادراً على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وهو منقول عن جعفر الصادق بن محمد في الأفعال المتعدية فضلاً عن اللازمة وهو دوام إحسانه. والفلاسفة الدهيرة قالوا بقدم العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن الباري موجب بذاته للعالم ليس فاعلاً بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه، وأنتم وافقتموهم على طائفة باطلهم، حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختار، ويقدر عليه، وجعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم. ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل، من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء، وقلنا أنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً فلا نقول أن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم، ولا نقول أنه شيء واحد أمر ونهي وخبر، وأن معنى التوراة والإنجيل واحد، وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد، فإن هذا مكابرة للعقل، ولا نقول أنه أصوات متقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضاً فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم لما كان أزلياً لم يزل، ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك، ولا نقول أنه صار متكلماً بعد أن لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 يكن متكلماً فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلاً للحوادث التي كل بها بعد نقصه، ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب، والقول في الثاني كالقول في الأول، ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوقاً له حادثاً بعد أن لم يكن، لأنه يكون سبب الحدوث وهو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك، فيعقل سبب حدوث الحوادث، ومع هذا يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديماً لكان مبدعه موجباً بذاته يلزمه موجبه ومقتضاه، فإذا كان الخالق فاعلاً بفعل يقوم بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجباً بذاته لشيء من الأشياء، فامتنع قدم شيء من العالم، وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئاً منفصلاً عنه مقارناً مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى، لأنه على هذا التقدير الأول يكفي في نفس المشيئة والفعل الاختياري والقدرة، ومعلوم أن ما يتوقف على المشيئة والفعل الاختياري القائم به أن يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع. وأكثر الناس لا يعلمون كثيراً من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فصل آخر فيما قال في مسألة اللفظ كما في كتابه: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول (1) ، وهذا نصه: لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً، لا كلام من بلغه عنه مؤدياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وإنما سمعناه عن المبلغ عنه بفعله وصوته، ونفس الصوت الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه، وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المحدث، فمن قال أن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفترياً، وكذلك من قال إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أحدثه في غيره أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتاً أو عاجزاً عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونحو هذا الكلام - فمن قال هذا كان مفترياً ومن قال أن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان مفترياً، فإذا كان هذا معقولاً في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم. فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله   (1) ص 153 ج1 - (هامش منهاج السنة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 " ليس هو كلاماً لغيره لا لفظه ولا معناه، ولكن بلغه عن الله جبريل وبلغه محمد عن جبريل، ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين، لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه لا لفظه ولا معناه، إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الأحداث إلى الآخر فقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فهذا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل عليه السلام وقد توعد تعالى من قال " إن هذا إلا قول البشر ". فمن قال أن هذا القرآن قول البشر فقد كفر، وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر، ومن قال أن شيئاً منه قول البشر فقد قال ببعض قوله، ومن قال إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهذا أيضاً كافر ملعون. وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه، وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وإنا نحن إنما نسمع كلام الله من المبلغين عنه، وإن كان الفرق ثابتاً بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه ومن سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى، لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته، من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته. ولما كان الجهمية يقولون إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاماً في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي، كان من المعلوم أن القائل إذا قال هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه هو ليس بكلامه بل خلقه في غيره، وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعنى وإن كان صحيحاً ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا هذا القرآن كلام الله، لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يريدوا بذلك أن أصوات القائلين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وكذلك إذ قالوا في إنشاد المنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل هذا شعر لبيد وكلام لبيد، لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بلى أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه هو للبيد وهذا منشد له، فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو أن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال إن هذا الكلام ليس هو كلام الله، وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث، وبمنزلة من قال إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد، ومعلوم أن هذا كله باطل. ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءة القرآن مخلوقة، ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق. ويدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا: اللفظية جهمية، وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق، فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة. فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم، ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة: من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة، أنه سمع غير واحد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وصنف أبو محمد بن قتيبة في ذلك كتاباً وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروذي في ذلك، وذكر قصة أبي طالب المشهورة عن أحمد التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروذي وأبي محمد فوزان ومحمد بن إسحاق الصنعاني وغير هؤلاء. وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف، ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة رداً لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بذلك نوع من الفرقة والفتنة. وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما، وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ. وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة. والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيماً للعمل ونوعاً آخر ليس هو منه. ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق هل يدخل فيه الكلام على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملاً فتكلم هل يحنث؟ على قولين: وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل، فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فهو يقول لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لعملت مثل ما يعمل " كما أخرجه الشيخان في الصحيحين، فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملاً كما قال لعملت فيه مثل ما يعمل الثاني كما في قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقوله تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا شهوداً إذ تفيضون فيه " فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المتلو، وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء. والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليست هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح. وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك، يراد به المصدر ويراد به المفعول، فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح، ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 فمن قال اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي، احتراز عما إذا أراد به فعله وصوته. وذكر اللالكائي: إن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له: لا تضربني، فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة، فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي، فقال: هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي، قيل: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحاً فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطاً بين الطرفين. وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق، ومن غير أن يقرن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد، وهم كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال، وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه. ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم، وقوم يقولون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئاً منه، ولا خلق منه شيئاً في غيره، لا حروفه ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما. وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة. وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى " قل هو الله أحد " هو معنى " تبَّت " وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى، بل قصده أن التلاوة أفعال العباد وأصواتهم، وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له، ومنهم من لا يعرف منه هذا ولا هذا، وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ممن يوافق ابن كلاب على قوله موافقاً للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا، فيمنعون أن يقال اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن أنه بلفظ أو لا بلفظ، وقالوا: اللفظ الطرح والرمي، ومثل هذا لا يقال في القرآن، ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله، ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظ والحلولية ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة، كما مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقة، وحكى كل منهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 عن الأئمة ما يدل على كثير من مقصوده لا على جميعه، فما قصده كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثابت عن الأئمة ما يوافقه. وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أموراً عظيمة المنفعة، لكنه نصر فيه قول من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل، ورجح طريقة من هجر البخاري، وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنه رجع إلى ذلك، وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة، وليس الأمر كما ذكره، فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام أحمد، كالمروذي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم، وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد، وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم، ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتاباً فيمن أخذ عن أحمد العلم، فذكر طائفة ذكر منهم أبا بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلى وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا، وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان الماثلين إلى طريقة ابن كلاب، ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحياناً محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وأمثاله من أئمة السنة، وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم. وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة الباقلاني وأدخلها إلى الحرم، ويقال أنه أول من أدخلها إلى الحرم، وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب، فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي، ثم رحل الباجي إلى العراق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني الحنفي قاضي الموصل صاحب الباقلاني. ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع. فصل آخر أو فتوى في مسألة الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟ فأجاب: الحمد الله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله " وكلم الله موسى تكليماً " بل أقر بأن هذا اللفظ حق لكن أنفي معناه وحقيقته (1)   (1) أي هو كافر وإن قال لا أكذب بلفظ القرآن إلخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة. وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحور، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهي نفي صفات الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون القرآن مخلوق. ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعاً أخرى في القدر وغيره، لكن المعتزلة يقولون أن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات. والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون: أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاماً. وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليماً وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن لله علماً وقدرة ونحو ذلك. ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم الوفا، لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصراً بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك. وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكمت رجلين؟ فقال: ما حكمت مخلوقاً ما حكمت إلا القرآن، وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه، القرآن منه. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين. وهذا ثابت عن ابن مسعود. وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال حرب الكرماني ثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 سنة أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود. وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه. وعن جعفر الصادق بن محمد - وهو مشهور عنه - أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. وهكذا روى عن الحسن البصري وأيوب السختياني وسليمان التيمي وخلق من التابعين. وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره، ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق، قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم. ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصاً الفرد، قال الربيع فلقيت حفصاً في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي. وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على نبيه وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفره، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده حيث قال: " سأصليه سقر " فلما أوعد الله سقر لمن قال: " إن هذا إلا قول البشر " علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية، فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يحبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق وإما بالعزل عن الولاية وإما بالحبس أو بالضرب وكفروا من خالفهم، فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإطلاق القول أن من قال أنه مخلوق فقد كفر. وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى فهذه مناقضة لنص القرآن فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق فهو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف. قال البخاري في كتاب خلق الأفعال قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، قال: وقال عبد الله بن المبارك من قال " إني أنا الله لا إله إلا أنا " مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا نقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 كما قالت الجهمية أنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. وقال: من قال " لا إله إلا الله " مخلوق فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال: وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا أن لله ولداً أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم. قال البخاري وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحداً يقول القرآن مخلوق؟ فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد - وذكر له أن قوماً يقولون القرآن مخلوق - فقال: كيف يصنعون ب " قل هو الله أحد " كيف يصنعون بقوله " إني أنا الله لا إله إلا أنا "؟ قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قوماً أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقاً كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال " أنا ربكم الأعلى "؟ وزعموا أن هذا مخلوق والذي قال " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " هذا أيضاً قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق. فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه. ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال أن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه، كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني " ومن قال هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً فقول هؤلاء أيضاً كفر. ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ذلك، فإن فرعون كذب وموسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع على إله موسى وإني لأظنه كاذباً " وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه، ولكن هؤلاء يقولون إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة: أحدها أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقاً معتاداً ونطقاً خارجاً عن المعتاد، قال تعالى " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " وقال تعالى: " حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ". وقال تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ". وقد قال تعالى: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاماً في غيره كان هو المتكلم به كان هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه فلو كان متكلماً بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله (1) يقولون:   (1) يكثر شيخ الإسلام في هذا البحث من هذا الجمع أو التنظير بين الجهمية وابن عربي وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود ولا يذكر فيه الفرق بينهما وهو أن الجهمية ينكرون صفات الخالق هربا من تشبيهه بخلقه فجعلوه كالعدم، والاتحادية زعموا أنه لا موجود غيره فهو الخالق والمخلوق عينا وصفة، ومن ثم كان كل كلام في الوجود كلامه إذ لا وجود كغيره، وشيخ الإسلام قد فصل مذهبهم هذا وبين بطلانه في رسالة أخرى من هذا المجموع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذي يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق فأولئك يجعلون الجميع مخلوقاً وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية بسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام سلط الله أعداء الدين (1) فإن الله يقول: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " وأي معروف وأعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟ الوجه الثاني أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعماً أو لوناً أو ريحاً كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علماً أو قدرة أو إرادة أو كلاماً كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاماً في الشجرة أو في غيرها من الأجسام كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياةً أو علماً، ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعاً أو بصراً كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به، فكما أنه سبحانه لا يجوز أن يكون متصفاً بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من   (1) في الكلام نقص أصله (حتى سلط الله علماء السنة ففضحوا أعداء الدين) أو نحو هذا مما ينتظم به الكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 الأصوات ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلماً بذلك الكلام. الوجه الثالث أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك. ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات، وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر، وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال مثل تكلم وكلم ويتكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء، قيل أن الفعل المشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن الفاعل الفعل هو فاعل المصدر، فإذا قيل كلم أو علم أو تكلم أو تعلم ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلاناً ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى: " وكلم الله موسى تكليماً " وقوله: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات " وقوله: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " يقتضي أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو المتكلم بكلام قائم بغيره يمتنع أن يقال كلم بكلام قائم بغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 فهذه ثلاثة أوجه (1) : أحدها أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلاماً له إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاماً ولو في غيره كان متكلماً به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلول قائماً يدل لكونه خلق صوتاً في محل والدليل يجب طرده فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله تعالى على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام. الثاني أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل ولا يعود حكمه إلى غيره. الثالث أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال أن الله خلق كلاماً في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائداً إلى ذلك المحل لا إلى الله. الرابع أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال " تكليماً "، قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه. والخامس أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً " الآية، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " وقال " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعد - إلى قوله - وكلم الله موسى تكليماً " والوحي هو ما نزله الله على قلوب   (1) قوله فهذه ثلاثة أوجه، يعني ما تقدم وقد لخصها فيما يأتي وزاد عليها وجهين آخرين كان ينبغي أن يصرح بزيادتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الأنبياء بلا واسطة فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين. ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء وأنه يقتضي تعطيل الرسالة (1) فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص. فكان قول هؤلاء مضاهياً لقول المتفلسفة الدهرية الذي يجعلون وجود الرب وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن، وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضاً حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كانت المعتزلة خيراً من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء؟ وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقاً؟ ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح   (1) سقط جواب لما وتقديره ما يناسب المقام نحو (كفرهم، أو أنكروا عليهم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 لم يزل الله عالماً متكلماً له المشيئة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر. وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق، فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول " ولكن حق القول مني " ولا يكون من الله شيء مخلوق، وهذا القول قاله غير واحد من السلف. وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف القرآن كلام الله منه بدا ومنه خرج وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد غيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن. وقد روي عن أبي أمامة مرفوعاً. وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب، لما سمع قرآن مسيلمة: ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاماً لم يخرج من إلٍ " أي من رب. وليس معنى قول السلف والأئمة: أنه منه خرج ومنه بدا، أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً " فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم. وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام البارئ والصوت صوت القارئ قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ". وقال صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم ". ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله " ولكن حق القول مني " فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات. ومن هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عيناً يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه " وقوله في المسيح " وروح منه " وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله " وما بكم من نعمة فمن الله " وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله " ولكن حق القول مني " وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه رداً على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول أنه لم ينزل منه قال تعالى: " قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " وقال تعالى " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وروح القدس هو جبريل، كم قال في الآية الأخرى " نزل به الروح الأمين على قلبك " وقال: " من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وقال هنا " نزله روح القدس من ربك " فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " وقوله " حم، تنزيل من الرحمن الرحيم " وقوله " الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " وقوله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال أنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال " أنزل من السماء ماء " فذكر المطر في غير وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله: " وأنزلنا الحديد " لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد، لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة وأنزلها مكتوبة (1) فيكون بنو إسرائيل قد أقروا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتاباً لا يغسله الماء وإنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك، فقال: " وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً " وقال تعالى: " وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ". ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوباً كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاماً ولم يقدر أن يتكلم به وهذا خلاف دين المسلمين. وإن احتج محتج بقوله " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين " قيل له فقد قال في الآية الأخرى " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون " فالرسول في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض   (1) المراد بالتوراة هنا أصول الشريعة وهي الوصايا التي في الالواح لا كل أحكام الشريعة من عبادات واحتفالات وعقوبات وغيرها فان هذه شرعت بالتدريج وهذا مجمع عليه عند اليهود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 الخبران، فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث ولهذا قال " لقول رسول " ولم يقل ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه كما قال " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على الناس في الموسم ويقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لا بلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " ولما أنزل الله " الم غلبت الروم " خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله. وإن احتج بقوله " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قيل له هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاماً حلالاً ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال " كالعرجون القديم " وقال " تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال " وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقال " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وكذلك قوله " جعلناه قرآناً عربياً " لم يقل جعلناه فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه ولكن قال " جعلناه قرآناً عربياً " أي صيرناه عربياً لأنه قد كان قادراً على أن ينزله عجمياً، فلما أنزله عربياً كان قد جعله عربياً دون عجمي. وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فتوى أخرى لشيخ الإسلام في تكليم الله لموسى عليه السلام وهل هو بحرف وصوت أم لا؟ ومن أنكره: مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، فقال له آخر: بل كلمه تكليماً، فقال: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: أن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فهو كما قال أولاً؟ الجواب: الحمد لله، أما من قال أن الله لم يكلم موسى تكليماً فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد (1) أن يجحد نص القرآن، بل لو قال: إن معنى كلامي أنه خلق صوتاً في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه أيضاً كفراً، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف قالوا: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، لكن من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيراً مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان. والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس فقتلوا لأجل الفساد في الأرض وحفظاً لدين الناس أن يضلوهم.   (1) كذا ولعله (وان كان كلامه من غير أن) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وبالجملة فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقة. ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون أن كلام الله مخلوق وأن الله وإنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه ليس مبايناً لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه. وأما قول الجهمي: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال أن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فيقال لهذا الملحد: أنت تقول إنه كلمه بحرف صوت، لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول أنه لا يجوز أن تقوم به الحروف والأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز، والباري ليس بمتحيز ومن قال أنه متحيز فقد كفر. ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة. وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة أن العقل معه قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي وهو موافق للكتاب والسنة فهذا يقول إن معه السمع والعقل، وذاك إنما يحتاج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعه فساده، ولو قدر أن العقل معه. والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل يكون كافراً، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً في الشريعة. وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به فهو كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها الإخبار عن الله بأنه متحيز أو أنه ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا وهذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة، بل يستفسر هذا القائل إذا قال أن الله متحيز أو ليس بمتحيز فإن قال أعني بقولي أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 متحيز: أنه دخل في المخلوقات وإن المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل، وإن قال أعني أنه محاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا خلق. وكذلك قوله ليس بمتحيز، إن أراد به أن المخلوق لا يجوز الخالق فقد أصاب وإن قال أن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه فقد أخطأ. وإذا عرف ذلك فالناس في الجواب عن حجته الداحضة وهي قوله: لو قلت أنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث، ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين بل استفسروه وبينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليماً. فالصنف الأول أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن اتبعهما قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله تعالى يتضمن الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر عنه، فإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقالوا: إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركاً أو مجازاً في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق. والصنف الثاني سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثاً، وصنف (1) قالوا إن المحدث كالحادث سواء كان قائماً بنفسه أو بغيره وهو يتكلم بكلام لا يكون قديماً وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول القرآن قديم وهو بحرف وصوت كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني.   (1) أي وصنف آخر من هذا الصنف الثاني ولذلك تكرر وإلا صارت الاصناف أربعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقالوا كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمراً ونهياً وخبراً ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلاً وشرعاً وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات وإن جاز أن يقال: إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره. وقالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم أن الكلام هو مجرد المعنى وقد خلق عبارة بيان (1) فإن قلتم أن تلك العبارة كلامه حقيقة بطلت حجتكم على المعتزلة فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم أنه يمتنع أن يكون متكلماً بكلام يخلقه في غيره، كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره، وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره، وأن يريد بإرادة قائمة بغيره، وإن قلتم هي كلام مجازاً لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازاً في اللفظ، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات. والصنف الثالث: الذين لم يمنعوا المقدمتين ولكن استفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم، بل قالوا: إن قلتم أن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب مخلوقاً منه منفصلاً عنه، فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه، وهذا قول ممنوع، وإن قلتم بمعنى أنه لا يكون قديماً فهو مسلم لكن هذه التسمية محدثة. وهؤلاء صنفان: صنف قالوا أن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه فإذا قلنا: الحرف والصوت لا يكون إلا محدثاً كان بمنزلة قولنا لا يكون إلا مخلوقاً وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله بقوله حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق، ثم استدل على ذلك بما يقتضي أنه يتكلم بكلام مخلوق وفيه تلبيس. ونحن لا نقول كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق، بل هو سبحانه   (1) هكذا في الأصل ولعله محرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه سبحانه استوى إلى السماء وهي دخان وأنه سبحانه يأتي في ظلل من الغمام والملائكة، كما قال " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " وقال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " وقال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يبين الله سبحانه أنه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه، وما كان قائماً بنفسه هو كلامه لا كلام غيره، والمخلوق لا يكون قائماً بالخالق، ولا يكون الرب محلاً للمخلوقات، بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله، وليس من ذلك شيء مخلوقاً، إنما المخلوق ما كان بائناً عنه، وكلام الله من الله ليس ببائن منه، ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: منه بدا، أي هو المتكلم به لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة. وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من أهل الكلام من أئمتهم من الهشامية والكرامية وغيرهم وأتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، منهم من يختار جواب الصنف الأول، وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن، وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني، وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون أن القرآن قديم كالساليمة وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الطائفة الثالثة، وهم الذين ينكرون قول الطائفتين المتقدمتين الكلابية والسالمية. ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية، والكرامية ينتسبون إلى أبي حنيفة، ومنهم من لا يختار قول الكرامية أيضاً لما فيه من تناقض آخر، بل يقول بقول أئمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الحديث كالبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن قبلهم من السلف، كأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين، وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة. وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة، وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول، وما هو القول الصواب في صريح المعقول وصحيح المنقول (1) لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول أن كلام الله مخلوق، والأمة متفقة على أن من قال أن كلام الله مخلوق لم يكلم موسى تكليماً يستتاب فإن تاب وإلا يقتل. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً. فتوى أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله في القرآن هل هو بحرف وصوت أم لا؟ وفي نقط المصحف وشكله هل هما منه أم لا؟ سئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟ فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله الذي نزل به   (1) قد تقدم كل هذا في مواضع من هذه المجموعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين والمرسلين وأن جبريل سمعه من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال: " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فقد أصاب في ذلك، فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع. ومن قال: إن القرآن العرب لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبريل أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وبالعبرانية كان توراة وبالسريانية كان إنجيلاً فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين و " قل هو الله أحد " " تبُّت يدا أبي لهب " والتوراة والإنجيل وغيرهما معنى واحداً، وهذا قول فاسد بالعقل والمشاهدة وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه غيره من السلف. وإن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي، أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالقرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله لا كلام غيره كما ذكر الله ذلك، وفي السنن عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ". وقالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 " ألم غلبت الروم " أهذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله تعالى. والناس إذ بلغوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: " إنما الأعمال بالنيات " أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله إذا بلغته الرسل عنه وقرأته الناس بأصواتهم. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم بحرف وصوت ليس منه شيء كلاماً لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ والكلام كلام البارئ. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب بل يجعل هذا هو هذا فينفيهما جميعاً أو يثبتهما، جميعاً، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون منادياً لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله عز وجل، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً لا فرق بين القديم والحادث، وهو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا ثبت جعل صوت الرب هو العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله أن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان فجعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 عين صفة الرب تحل في العبد أو يتحد بصفته فقال بنوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن عدم الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته خطأ وضلال لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شيء من أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديماً، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين مقروء بألسنتهم محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله. والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون، ثم لما أحدث اللحن نقط المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ولم يكره في أظهر قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه بل هو تابع للحروف المرسومة فلهذا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله معانيه وحروفه وإعرابه، والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 باتفاق المسلمين لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف مشكلاً منقوطاً كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين، ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله فلا يقال بعضهم كلام الله وبعضه ليس بكلام الله وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن كما قال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً، ورسلاً قد قصصناهم من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليماً " فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى فمن قال إن موسى لم يسمع صوتاً بل ألهم معناه، لم يفرق بين موسى وغيره وقد قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالاً، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره: لم يزل متكلماً إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتلكم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى " فلما أتاها نودي يا موسى " فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: " فأكلا منها فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما عدو مبين " فهو سبحانه ناداهما حين أكلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 منها ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد أن خلق آدم وصوره ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فأخبر أنه قال له كن فيكون بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " وقال: " نبدأ بما بدأ الله به " فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة. والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً أزلاً وأبداً لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شيء شيئاً، وهذا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذي سمعه موسى، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا أن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم أن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام لا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا هذه حوادث والرب لا تقوم به الحوادث فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون لم يزل قادراً، لكن يقولون أن المقدور كان ممتنعاً وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن صار ممتنعاً عليه من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيئاً من مفعوله لازماً بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف الفاعل بالإرادة. وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط فإن الشرط لا يلزمه أن يتقدم على المشروط بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلاً سواء سمي أو لم يسمى علة فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلاً قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين (1) ولأنه لو كان قديماً فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيء من الحوادث وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل بل لم يزل متكلماً إذا شاء فاعلاً لما يشاء، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال،   (1) لينظر العطف في هذه الجملة الشرطية على أي شيء يقابله، ولينظر جواب شرطها اين هو؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على قدرة الرب تعالى مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود لا نقص فيه منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كف في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقاً، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها. وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً بناءً على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده (1) والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام بل كان ذلك ممتنعاً عليه وكان معطلاً عن ذلك وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأول فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام بل هذا يكون دائماً وإن كان كل من آحاده حادثاً كما يكون دائماً في المستقبل وإن كان كل من آحاده فانياً، بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً فإن هذا هو الباطل في صريح العقل   (1) يعني في الازل تركه للعلم به أو سقط من الناسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وصحيح النقل ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار لم ينازع فيه الأشرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب لوجوده فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء مع مخالفتهم لسلفهم أرسطو وأتباعه فإنه لم يكونوا يقولون ذلك وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين بناءً على إثبات علة غائية لحركة الفلك يتحرك الفلك للتشبه بها لم يثبتوا له فاعلاً ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره وهم وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم فيهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكناً بذاته فلا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم فاحتاجوا أن يقولوا كلامه مخلوق منفصل. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له لكن قالوا تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا أنه في الأزل لم يكن متكلماً بل ولا كان الكلام مقدوراً له ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث بكلام يقوم به وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. وطائفة قال: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازماً لذات الرب فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال هو معنى واحد قديم، فجعل آية الكرسي وآية الدين وسائر آيات القرآن التوراة والإنجيل وكل كلام يتكلم الله به معنى واحداً لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال أنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، ولا يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ونحو ذلك، إنه لا يراها إذا وجدت بل إما أنه لم يزل رائياً لها وإما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 أنه لم يتجدد شيء موجود بل تعلق معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل. والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلماً إذا شاء ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية، والاقترانية. وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون أن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته لا قديم النوع ولا قديم العين ولا حادث ولا مخلوق بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون أنه كلم موسى من سماء عقله، وقد يقولون أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون مع ذلك أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم بعلم نفسه ومفعولاته حقن كما قال تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " لكن قولهم مع ذلك: إنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض فإن نفسه المقدسة معينة والأفلاك معينة وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهم إنما ألجأهم إلى هذا الحد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى، مع أن هؤلاء يقولون أن الحوادث تقويم بالقديم وأن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ لاعتقادهم أنه لا صفة له بل هو وجود مطلق، وقالوا أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 سينا أقرب إلى الصواب لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئاً واحداً، جاز أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذي قاله أهل الوحدة والحلول في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه وقالوا هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا أولاً أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال " إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني - إلى (1) - أنا الله رب العالمين " كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودات في الأزل بعضاً بعضها، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من   (1) كذا في الأصل والآية الأولى من سورة طه والتي بعد إلى من سورة القصص فهي ليست غاية لما قبلها فيظهر أن في الكلام تحريفا أو سقطاً من النساخ والمراد مفهوم على كل حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي، وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه بل منهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاتها، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وإن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد بسطناها في الواجب الكبير والله أعلم بالصواب. فتوى أخرى لشيخ الإسلام في إثبات أن الكلام صفة المتكلم لا عينه ولا غيره سئل أيضاً رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له المعنى، بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد أثابكم الله بمنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، من قال: أن الكلام غير المتكلم والقول غير القائل وأراد أنه مباين له منفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول أن القرآن مخلوق فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم العلم غير العالم والقدرة غير القادر والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق وهذا تلبيس منهم. فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال علم الله غيره، ولا يقال أن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقاً، لأن صفاته ليست هي الذات لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسماً لذات لا فات ها بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها. والصواب في مثل هذا أن يقال الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس منه بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " ولا يجوز أن يقال أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: أنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فقولهم منه بدأ رد على من قال: أنه مخلوق في بعض الأجسام ومن ذلك المخلوق ابتدأ، فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود أي فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله. فمن قال أن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال أن الكلام غير المتكلم، وكذلك من قال أن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 ظاهر، وكذلك من قال أن القرآن الذي يقرأه المسلمون غير المقروء الذي يقرأه المسلمون فقد أخطأ. وإن أراد بالقرآن مصدر قرأ يقرأ قراءةً وقرآناً وقال أردت أن القراءة غير المقروء فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلاً كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيماً للفعل تارةً وقسماً منه أخرى، فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز لا متى ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ومنه قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " ومنه قوله تعالى: " وما تكون في شأن وما نتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل " وأمثال ذلك فيما يفرق بين القول والعمل، وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " وقد فسروه بقول لا إله إلا الله، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله " مع قوله " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ونظائر ذلك متعددة. وقد تتوزع فيمن حلف لا يعمل عملاً إذا قال قولاً كالقراءة ونحوها هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره بناءً على هذا. فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب والله سبحانه وتعالى أعلم. تم الكتاب المجموع ولله الحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يقول محمد رشيد آل رضا: قد جمع هذه المباحث والفتاوى عالم الشام السلفي الاثري، الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي الشهير (رح) من كتاب الكواكب وغيره من كتب شيخ الإسلام وفتاويه، وأرسله إلى صديقنا السلفي الاثري السري، صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف الحجازي. وقد رفعه هذا إلى الإمام الهمام، ومحي مذهب السلف وسنة خير الأنام، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها فبادر إلى اصدار أمره الينا بطبعه مع رسائل أخرى لشيخ الإسلام قدس الله روحه لنشره في مملكته وغيرها كسائر مطبوعاته النافعة (وهي ماحواه هذا المجموع) وكنا نظن أن المرحوم القاسمي عني بقراءته وتصحيحه بنفسه، أن يكون عني بتصحيحه، وقد هون علينا تصحيحه ما فيه من تكرار المسائل فاستفدنا من مقابلة بعضها ببعض. وأما قيمة هذا المجموع الدينية العلمية فهي لا تقدر، والتكرار فيه مفيد فان هذه التحقيقات الواسعة قلما يعيها أحد إلا إذا تكررت على ذهنه مراراً كثيرة ومن الغريب أن هذه المسائل كان يكتبها شيخ الاسلام قدس الله روحه أو يمليها من غير مراجعه كتاب من الكتب، وهي من الآيات البينات، والبراهين الواضحات، على أن هذا الرجل من أكبر آيات الله في خلقه، أيد بها كتابه الذي قال فيه انه (يهدي للتي هي أقوم) وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح من فهمها، والاعتصام بها. ويعلم من كل فتوى منها - بله جملتها ومجموعها - انه رحمه الله تعالى قد جمع من العلوم النقلية والعقلية الشرعية والتاريخية والفلسفية من الإحاطة بمذاهب الملل والنحل وآراء المذاهب ومقالات الفرق حفظا وفهما ما لا نعلم مثله عن أحد من علماء الأرض قبله ولا بعده، وأغرب من ذلك ما آتاه الله من قوة الحكم في إبطال الباطل وإحقاق الحق في كل منها بالبراهين النقلية والعقلية، ونصر مذهب السلف في فهم الكتاب والسنة على كل ما خالفه من مذاهب المتكلمين والفلاسفة وغيرهم (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فهرس عناوين الكتاب (مذهب السلف القويم، في تحقيق مسألة كلام الله الكريم) (1) سؤال من كيلان عن كلام الله عز وجل وكلام البشر وحكم من قال كل منهما قديم وما نقل عن الإمام أحمد في المسألة - وجوابه ص 2 - 16. (2) فصل في مسألة القرآن العزيز ودلالة الكتاب والسنة على ما اتفق عليه السلف الصالح فيها من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم وما حدث فيها من الأقوال بعدهم 17 - 34. (3) مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم (ع. م) وهل هي قديمة أو مخلوقة 35 فصل منه في نزاع المتأخرين في الحروف من كلام البشر وسببه 45 فصل في الحكم بين المتنازعين في ذلك أيهم المصيب 47 فصل في حروف المعاني التي هي قسمة الأسماء والأفعال 84 فصل في بيان أن القرآن كلام الله لا كلام جبريل ولا محمد ومعنى إنزاله 89 فصل في منشأ النزاع والاختلاف وهو علم الكلام الذي ذمه السلف ونظرياته الباطلة. 102 فصل في فروع الاختلاف وفرق الناس فيه 106 مسألة كلام الله تعالى في كتاب منهاج السنة ومذاهب الشيعة فيها 113 فصل في كتاب موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 123 فتوى في مسألة الكلام 131 فتوى ثانية في مسألة الكلام 146 فتوى ثالثة في مسألة الكلام 151 فتوى رابعة في إثبات أن الكلام صفة المتكلم لا عينه ولا غيره 162 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 الجزء الرابع حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية من رسائل: شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم (رسالة شيخ الإسلام إلى من سأله عن حقيقة مذهب الاتحاديين أي القائلين بوحدة الوجود) الحمد الله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً وعلى سائر إخوانه المرسلين. (أما بعد) فقد وصل كتابك تلتمس فيه بيان حقيقة مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وانك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعا، ووجد محلا قابلا، وقد كتبت إليك بما أرجو من الله أن ينفع به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، وكما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفتريين، لتبيين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، اتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسي ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين أو من المقتصدين أصحاب اليمين، وهم من أتباع إبراهيم الخليل وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين. وقد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى (ام حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون؟) وقال (ام نجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟) وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون؟) وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين. وأخبر أن لهم تنزلاً ووحيا ولكن من الشياطين، فقال تعالى (وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) وقال تعالى (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم) وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بدله بمن يقيم دينه المبين، فقال (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) . وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى وشعر مفتعل. واليهما اشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه - لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله تألف الناس. فأخذ بلحيته وقال: يا ابن الخطاب، أجباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام؟ علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى؟ أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الاسدي. وهذان النوعان هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والافك المبين، قال تعالى (فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون إنه لقول رسول كريم) إلى آخر الآية وقال تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين) الآيات إلى قوله تعالى (وما تنزلت به الشياطين) إلى آخر السورة. فذكر في السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهة عن هذين الصنفين كما في سورة الحاقة. وقال تعالى (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين) إلى آخر السورة. فالرسول هنا جبريل. وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا نزه محمداً هناك أن يكون شاعراً أو كاهنا ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 فصل اعلم - هداك الله وأرشدك - أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضاً لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيراً في قولهم، وإنما يتخيلون شيئاً ويقولونه أو يتبعونه، ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون، ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون. وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفساداً، أو جامع بين الوصفين. وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم " فاستخف قومه فأطاعوه " وحال القرامطة مع رؤسائهم، وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا " إلى آخر الآية وقوله " وألعنهم لعناً كبيرا " وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً - إلى قوله - وما هم بخارجين من النار ". فصل اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول إلى باطن أمرهم، لأن من قال أن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لموجودين (أحدهما) وجود الحق الحال (والثاني) وجود المخلوق المحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة. ولا ريب أن هذا القول أقل كفراً من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة - كابن المبارك ويوسف ابن اسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره - خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم. ولا ريب إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها. وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان (أحدهما) لا يرضونه لأن الاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبداً (والطريق الثاني) صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم. وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول أن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت وأما على قول من لا يفرق فيقول أن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية. فصل ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به، وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات، أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره لعدم كمال شهود الحق وتصوره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 المقالة الأولى مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه. فإن مقالته مبنية على أصلين. الأصل الأول لمذهب ابن عربي أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون أن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم، لأنه لولا ثبوتها لما تميز المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده، لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت، لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها وقد كفرهم بها طوائف مت متكلمة السنة - فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون أن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه. وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق الله أو هو الله، يقولون إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون الوجود صفة للموجود. وهذا القول وإن كان فيه شيه بقول القائلين بقدم العالم أو القائلين بقدم مادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فلس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوان والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات والاستحالات القائمة بالعناصر من حركات الكواكب والشمس والقمر والسحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون أن مواد جميع العالم قديمة دون صوره. واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب. فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس. ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم (صم بكم عمي) وأنهم (لا يفقهون، ولا يعقلون) وأنهم (في قول مختلف يؤفك عنه من أفك) وأنهم (في ريبهم يترددون) وأنهم (يعمهون) . وإنما نشأ - والله أعلم - الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه - أو (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك. وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله عن أهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وأنهم (لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) وأنه (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وأنه (لو كان فيهما آلهة كما يقولون إذاً إلا ابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وأنهم (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) وأنه (لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته. فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين - ليس بمجرد تصورنا يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسانا من ذهب وفرساً من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلاً. وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخميس ألف سنة ". وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال، اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال ابن عباس " إن الله خلق الخلق وعلم ما هو عاملون، ثم قال لعلمه " كن كتاباً " فكان كتاباً؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض، إن ذلك في كتاب) ". وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية متى كتبت نبياً؟ - قال " وآدم بين الروح والجسد " هكذا لفظ الحديث الصحيح. وما ما يرويه هؤلاء الجهال (1) كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " " كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين " فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً ويبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والتراب، ولو قيل بين الماء والترب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها، وإنما قال " بين الروح والجسد " وقال " وإن آدم لمنجدل في طينته " لأن آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه كما   (1) أي الجهال بعلم الرواية والأسانيد ونقد الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 قال تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الآية وقال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال) الآيتين. وقال تعالى (الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) الآيتين وقال تعالى (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآية. والأحاديث في خلق آدم ونفه الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً أي كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح - وقال - فوالذي نفسي بيده أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة " فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح، وآدم هو أبو البشر كان أيضاً من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدراً وأرفعهم ذكراً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبياً حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كوناً في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الآية. وقال (ألم يجدك يتيماً فآوى) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الآية. وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية. ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب. حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم " الحديث. وفيه " كذلك أمهات النبيين يرين " وقوله " لمنجدل في طينته " أي ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد. وقد روي أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ. وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له متى كنت نبياً؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " وقد رواه أبو الحسن بن بشر أن من طريق الشيخ أبي الفرج بن الجوزي في (الوفا، بفضائل المصطفى) صلى الله عليه وسلم: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بنا سنان العوفي ثنا إبراهيم بن طهمان عن يزيد بن ميسرة عن عبد الله ابن سفيان عن ميسرة قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال " لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه ". وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة: ومن طريق الشيخ أبي الفرج حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن رشدين ثنا أحمد بن سعيد الفهري ثنا عبد الله ابن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال يا رب بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد؟ ومن محمد؟ فقال: يا رب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك " فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة. (1) وفي الصحيحين عن عائشة قالت " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له: اقرأ. قال لست بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: لست بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) فرجع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره " الحديث بطوله، فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئاً، وهذه السورة أول ما أنزل   (1) يشير بقوله كالتفسير للاحاديث الصحيحة إلى عدم صحتها وكونهما ليسا بمعنى الاحاديث الصحيحة السابقة وانما يوافقانها من وجه واحد وهو كتابة المقادير قبل خلق ما جرت فيه من الخلق وغرضه منها تقوية الشواهد على علم الله بالاشياء وكتابته اياها قبل خلقها، وان ثبوتها في العلم غير ثبوتها في الوجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 الله عليه وبها صار نبياً، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار رسولاً لقوله (ثم فأنذر) ولهذا ذكر سبحانه في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي. وهذا أمر بين يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه. وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها فهذا حق لا ريب فيه. وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار. وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما. وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة (1) فجعل ينكت بمخصرته ثم قال " ما منكم من أحد - أو قال - ما نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة " قال فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال " اعملوا فكل ميسر: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة - ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى) إلى آخر الآيات " وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال " ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار " قالوا يا رسول الله فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال " لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له - ثم قرأ (فأما من أعطى) الآية ". وفي الصحيحين أيضاً عن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله، أعلم أهل   (1) كمكنسة:ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه وما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب والخطيب إذا خطب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الجنة من أهل النار؟ قال " نعم " قال فقيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال " كل ميسر لما خلق له " وفي رواية: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وتثبت الحجة عليهم؟ فقال " لا. بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها) ". وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال " لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير " قال: ففيم العمل؟ قال " اعملوا فكل ميسر ". وفي صحيح مسلك عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ر يقول " كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - قال: وعرشه على الماء ". وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال له " اكتب، قال: رب، ما أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مات على غير هذا فليس مني " ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال: دعاني - يعني أباه - عند الموت فقال: يا بني اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب، قال ما أكتب؟ قال اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد ". وفي الترمذي أيضاً عن أبي حراثة عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قضاء الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 شيئاً؟ قال " هي من قدر الله ". لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول المعدوم شيء، ومع هذا فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون، وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا ولي من الذل ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وهذه المعدومات الممتنعة ليست شيئاً باتفاق العقلاء مع ثبوتها في العلم، فظهر أنه قد ثبت في العلم ما لا يوجد وما يمتنع أن يوجد إذ العلم واسع، فإذا توسع المتوسع وقال المعدوم شيء في العلم أو موجود في العلم أو ثابت في العلم فهذا صحيح، أما أنه في نفسه شيء فهذا باطل، وبهذا تزول الشبهة الحاصلة في هذه المسألة. والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف: أن المعدوم ليس في نفسه شيئاً وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) فأخبر أنه لم يك شيئاً. وقال تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً) وقال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع. ولو كان المعدوم شيئاً لم يتم الإنكار، إذا جاز أن يقال ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم يكون الخالق لهم شيئاً معدوماً. وقال تعالى (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً) ولو كان المعدوم شيئاً لكان التقدير: لا يظلمون موجوداً ولا معدوماً، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم. وأما قوله (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) فهو إخبار عن الزلزلة الواقعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 أنها شيء عظيم ليس إخباراً عن الزلزلة في هذه الحال ولهذا قال (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) ولو أريد به الساعة لكان المراد بها شيء عظيم في العلم والتقدير. وقوله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) قد استدل به من قال المعدوم شيء وهو حجة عليه، لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ولا نفسه. والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون وهذا من فروع هذه المسألة. فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك. وأولئك يقولون الوجود قدر زائد على الماهية ويقولون الماهيات غير مجعولة، ويقولون وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات وماهية كل شيء مختصة به. ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر فإنا قد قدمنا الفرق بين الوجود العلمي والعيني. وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك. فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك (1) وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، والإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه ونفسه وماهيته وما علمت وجوده حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي ولم يعلم ماهيته الحقيقية ولا عينه الحقيقية ولا نفسه الحقيقية الخارجية فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته إلا أن اللفظين قد يعبر به عن الذهني والآخر عن الخارجي فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود.   (1) أي الخارج عن الأمور الثلاثة المذكورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيا، - فالقول فيه كذلك فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما العلم يدرك الوجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يمكن فيها اشتراك وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف بالإطلاق والعموم؟ وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق وذلك لا يوجد في الخارج إلا معيناً، فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له الوجود الذهني والعلمي. وما من شيء إلا له هذان الثبوتان والعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط فيصير لكل شيء أربعة مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في للسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي. ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ذكر فيها النوعين فقال (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموماً ثم خصوصاً، فخص الإنسان بالخلق بعدما عم غيره، ثم قال (اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم، لأن العبارة تطابق المعنى، فصار تعليمه بالقلم مستلزماً للمراتب الثلاث: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعباً للمراتب. فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي وأن الله سبحانه هو معطيهما فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان. فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 فصل الأصل الثاني لمذهب ابن عربي هذا أحد أصلي ابن عربي. وأما الأصل الآخر فقولهم أن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه. وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشتركين، وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع كما سنبينه إن شاء الله. فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي نظمه ونثره (1) وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق، لأن وجود الأعيان معتمد بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر، لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها، فهي التي أحسنت وأساءت، وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه في حال العدم. فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين: إنكار وجود الحق، وإنكار خلقه لمخلوقاته، فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين، فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة ووجود قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق. وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلي والمتجلي، لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق.   (1) هذا بمعنى قول شيخنا أن لكلام ابن عربي مفتاحا من عرفه فهم جميع كلامه فأنا أقرأ الفتوحات كما أقرأ تاريخ ابن الأثير. وقال أيضاً: إنما أبهم هؤلاء الصوفية مذهبهم بالاصطلاحات التي تشبه الالغاز تقية وهربا من تكفير الجمهور لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 فصل وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول أن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ. ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر، فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم وعنده أن الله هو الوجود ولا بد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الحق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها. وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول لأول يمكن أن يجعل للحق وجوداً خارجاً عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقاً أصلاً ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزاً عن الوجود القائم بأعيان الممكنات. وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة. والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين والحقائق لها ثلاث اعتبارات: اعتبار العموم، والخصوص، والإطلاق، فإذا قلنا: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، ووجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين، ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي فيقال: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام، ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضاً كما في الحديث الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال " يا علي عم، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض " وفي الحديث أنه لما نزل قوله (وأنذر عشيرتك الأقربين) عم وخص. رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة، وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض ". وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ. وسائر الصفات: الإرادة والحب والبغض والغضب والرضاء يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام. هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجاز؟ على قولين (أحدهما) مجاز لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر فليس هناك عموم، وقيل بل حقيقة لأن المطر المطلق قد عم. وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره، أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات. وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب فإن العقل يتصور إنساناً مطلقاً ووجوداً مطلقاً. وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق؟ هذا فيه قولان، المطلق له وجود في الخارج فإنه جزء من المعين، وقيل لا وجود له في الخارج، إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد، والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءاً من المعين الذي لا يشركه فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 والتحقيق أن المطلق بلا شرط أصلاً يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف. فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر ونجس، فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة. فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلاق. لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد. وأما ما كان كلامنا فيه أولاً فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين. فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطاً كثيراً جداً، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معيناً لا يقبل الشركة كأنا وهذا وزيد، ويقال له المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق وله ثلاث اعتبارات كما تقدم. وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، وأن الماء يقال على المني وغيره كما قال (من ماء دافق) ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في لفظ الماء عند الإطلاق لكن عند التقييد. فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو العام وهو المطلق بلا شرط، ولكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده. وإنما كان كذلك لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص. فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد. وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه وبين تقييد المعنى وإطلاقه عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضاً مطلقاً، أو مقيداً بقيد العموم، أو مقيداً بقيد الخصوص، والمطلق من المعاني نوعان: مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط، وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقاً بشرط الإطلاق كقولنا الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقاً لا بشرط الإطلاق كقولنا إنسان. فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق. وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان. فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق. وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ فلا يمنع أن يكون معناه معيناً، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى، والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء، وإذا كان له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقاً من كل وجه، فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له، فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال هو مطلق بشرط الإطلاق إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق حتى يقال تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها، وأما المطلق من المعاني لا بشرط فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معيناً متميزاً مخصوصاً، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجوداً في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجوداً في الخارج لأن هذا أخص منه، فإذا قلنا: حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معيناً مخصوصاً، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته. فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلاً ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئاً أصلاً. وتلخيص النكتة أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلاً، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معيناً فلا يكون للحق وجود إلى وجود الأعيان. فيلزم محذوران (أحدهما) أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات (والثاني) التناقض وهو قوله أنه الوجود المطلق دون المعين. فتدبر قول هذا فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلي في جزئياته وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم. وصاحب هذ القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات كما جعله الأول في الأعيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فصل وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى، ولا غير بوجه من الوجه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر، وآخر البيت من البيت، فمن شعرهم: البحر لا شك عندي في توحده ... وإن تعدد بالأمواج والزبد فلا يغرنك ما شاهدت من صور ... فالواحد الرب ساري العين في العدد ومنه: فما البحر إلى الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد ولا ريب أن هذا القول هو أحق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئاً أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئاً وراء المعينات في الذهن قولان ضعيفان باطلان، وقد عرف من حدد النظر أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين (أحدهما) وجودها (والثاني) ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطاً قوياً، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات والممتنعات والمشروطات، وبقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه. فإن الموجودات ذوات متصورة فيه، لكن هذا القول أشد جهلاً وكفراً بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوباً عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وإن الرائي عين المرئي والشاهد عين المشهود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فصل واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: أن الوجود واحد ورد ذلك، وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين. وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص. وذلك أن القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فأما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصاً ببعض الخلق كالمسيح أو يجعله عاماً لجميع الخلق. فهذه أربعة أقسام: الأول: هو الحلول الخاص وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: أن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون. وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون أنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء. والثاني: هو الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولاً وهم السودان والقبط، يقولون أن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام. والثالث: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون أن الله بذاته في كل مكان ويتمسكون بمتشابه القرآن كقوله (وهو الله في السموات وفي الأرض) وقوله (وهو معكم) والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة وعلماء الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 الرابع: الاتحاد العام وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين: من جهة أن أولئك قالوا أن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره (والثاني) من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء جعلوا ذلك سارياً في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم) الآية. فكيف بمن قال أن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟ وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقال لهم (قلم فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق) الآية. فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟ ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع؟ كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها " وإن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم. (1) واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم: أن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم (أن الله هو المسيح بن مريم) فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهراً واحداً ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم، ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به كما للنصارى. هذا ما دام أحدهم   (1) سقط من الأصل هذا الشعر وقد يعرف مما سبق من أشعارهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 في الحجاب، فإذا ارتفع عن قلبه وعرف أنه هو فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر والنهي ويبقى سدى يفعل ما أحب وبين أن يقوم بمرتبة الأمر والنهي لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الحق. ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين. فصل مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونومي والتلمساني مركب من ثلاثة مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية، وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضاً كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر، ومن الزندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل. فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي، ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم. والتلمساني أعظمهم تحقيقاً لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر. وبيان ذلك أنه قال: هو في كل متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها. فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدودة، فعند ذلك عبر " بأنا " وظهرت حقيقة النبوة التي ظهر فيها الحق واضحاً، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن كما أن الأول هو المسمى باسم الله، وسقت الكلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق؟ فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم أنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن، فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر الواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى اللاهوت الناسوت. لكن هذا أكفر من وجوه متعددة. فصل الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية، هل خلقها وبراها وجعلها موجودة بعد عدمها أم لم تزل معدومة؟ فإن كانت لم تزل معدومة فيجب أن لا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابر للحس والعقل والشرع، ولا يقوله عاقل، ولم يقله عاقل. وإن كانت صادرة موجودة بعد عدمها امتنع أن تكون هي إياه، لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد. وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون (1) به موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده. وهذا يبطل قولك! وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان. الثاني أن قولك تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه (2) ، أو قولك: ظهر   (1) كذا في الأصل ولعله:أن يكون ما صار به المعدوم موجوداً إلخ (2) كذا في الأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع مثل قولهم: ظهر الحق، وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهي ومجلى إلهي، ونحو ذلك - أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أن ظهر لخلقه بها وتجلى بها وأنه ما ثم قسم رابع؟ فإن عنيت الأول - وهو قول الاتحادية - فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات والشياطين الكفار هي ذات الله، أو هي ودات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله هو ثالث ثلاثة) وإن الله يلد ويولد. وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك (1) فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء. ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئاً، بل يجدها سماً نافعاً. وإن عنيت أنه صار ظاهراً متجلياً لها، فهذا حقيقة أمر صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده. لكن كلامك في هذا باطل من وجهين: من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلاً. ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم. وأما إن قلت أن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه، فهذا حق، وهو دين المسلمين   (1) بهذا صرح شيخ الاسلام أن غرضه من هذه الالزامات الباطلة بيان خروجهم بها عن دائرة الإسلام الذي يلبسون بادعائهم اياه على المسلمين بانهم من أوليائه العارفين. وليس غرضه أنه ألزمهم ما يلتزمونه ولا يعتقدونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين (أحدهما) أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئاً خلقه، بل جعلت نفسه هو هي المتجلية له. الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إلى قوله. لآيات لقوم يعقلون) وتارة يسميها نفسها آية كما قال تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق. فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف بها، كان المعنى صحيحاً لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور. وفيه إيهام وإجمال. فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين لا سيما لفظ المتجلي وأن استعماله في التجلي للعين هو الغالب. وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه. (1) وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين. بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركاً بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل. فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.   (1) بياض في الأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها " بأنا " واللفظة التي هي " حقيقة النبوة " و " الروح الإضافي " هذه الأشياء داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة أم ليست داخلة في مسمى أسمائه؟ فإن كان الأول فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني فهذه الأشياء معدومة ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا القسم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس. فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت " أنا " وحقيقة نبوة، وروحاً إضافياً، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان: كون جميع المخلوقات جزءاً من الله، وكونه متغيراً هذه التغيرات التي هي من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة من ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال؟ الوجه الرابع: أن عنده حقيقة النبوة وما معها إما أن يكون شيئاً قائماً بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائماً بنفسه فإما أن يكون هو الله أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي، وقد قال بعد هذا: أنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطي ومن المعطى؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعياناً قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أو غيرها من كل ما سوى الله من الأعيان فهو خلق من خلق الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق وصفاً، وأنه المسمى باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقاً، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين (قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن؟) ومن إلحاد الذين قيل فيهم (وهم يكفرون بالرحمن) فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته. وأما أن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة فإما أن تكون صفة لله أو لغيره، فإن كان صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم. وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها (عقدة حقيقة النبوة) وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلاً لتميز صفاته القديمة (1) وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفاً يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة، ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأشنعه. الوجه الخامس: أن قوله لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفاً، وطرف إلى ظهور العالم منه وهو   (1) قوله محلا لتميز صفاته القديمة هو المفعول الثاني لجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 المسمى بالروح الإضافي، فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء، وهو متجلى بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفاً. وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر، فهذا الحق والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفاً، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض. ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى فقد جعلته ظاهراً وجعلته مظهراً، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجوداً في نفسه؟ وإن عنيت الوضوح والتجلي، وليس (1) هناك مخلوق يظهر له ويتجلى إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت ظهر الحق فيه واصفاً، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوماً ولا مشهوراً، فكيف يتصور أن يكون متجلياً لنفسه بعد أن لم يكن متجلياً؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها. وأيضاً فقد قلت: أنه كان متجلياً لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض. الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى وتناقضهم في الأقانيم. فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد. والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.   (1) لعله فليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً إلا أن يكون هو الأب، وإن كانت جواهر وجب أن لا تكون إلهاً واحداً، لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً. وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي، فهي بكونه عالماً ليس هو بكونه قادراً. فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة وأنهم لا يقولون ذلك. (1) وأيضاً فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف. وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) فالنصارى حيارى متناقضون، إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً. ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسماً غير المشركين تارة، لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين. وهكذا حال هؤلاء فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غيره، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجلياً لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلى لا غيره. وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم. وهذا الرجل وابن عربي يشتركان في هذا ولكن يفترقان من وجه آخر. فإن ابن عربي يقول: وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها. فإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق والخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت   (1) سقط جواب إذا أو تركه للعلم به: وتقديره انقطعوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 بالحيرة في ذلك. وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية (1) النصارى في المسيح، حيث قالوا: بأن اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً له اقنومان. وأما التلمساني فإنه لا يثبت بعد ذلك بحال فهو مثل يعاقبة النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا أن اللاهوت به يتدرع الناسوت بعد أن لم يكن متدرعاً به. وهؤلاء قالوا أنه في جميع العالم، وأنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصومه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر وهو العابد والمعبود، وإن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل لضيق هارون وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وأن أعظم مظهر فيه هو الهوى فما عبد أعظم من الهوى. لكن ابن عربي يثبت أعياناً ثابتة في العدم. وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح لكن لا يتم له معه ما صلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد والقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضاً وهذياناً، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر. ومقتضى كلامه هذا أنه جعل وجوده مشروطاً بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائماً بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقراً إلى العالم محتاجاً إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين. وقد قال الله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير   (1) طائفة من النصارى كاليعاقبة والنسطورية وغيرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 ونحن أغنياء) إلى آخر الآية. فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق ويعدم إذا عدم الجفن؟ وقد قال في كتابه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا) الآية. فمن يمسك السموات؟ وقال في كتابه (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) الآية. وقال (رفع السموات بغير عمد ترونها) وقال (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) لا يؤده لا يثقله ولا يكرثه، وقد جاء في الحديث حديث أبي داود " ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة " وقد قال في كتابه " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية. وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود " إن الله يمسك السموات والأرض بيده " فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكها أن تزولا، أيكون محتاجاً إليهما مفتقراً إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟ وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله أو تظله لما في ذلك من احتياجات إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؟ لأن الله غني عن العالمين، حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول أنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض تفرق وانتشر وعدم؟ فإن حاجته في الحمل إلى العرش أبعد من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 ثم يقول هؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم العالم وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشراً متفرقاً معدوماً، ثم لما خلقهما صار موجوداً مجتمعاً؟ هل يقول هذا عاقل؟ فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم: إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك انتقص من نور الحق ويتفرق ويعدم بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك زاد نوره واجتمع ووجد. وأما إن عني أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض لكن لا يظهر فيه شيء، - فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " وقال عبد الله بن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه " فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟ الوجه السابع: قوله فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات، أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه العين فالعين الأخرى أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 شيء هي؟ وبقية الأعضاء أين هي؟ هذا على قولك إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين به، فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضاً من الله وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة والفرعونية الاتحادية الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين. فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئاً ولا هو رب العالمين، لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) يقول أخلقوا من غير خالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ ولهذا قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع. فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيراً له. الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله وهم دائماً يزيدون وينقصون ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال منتوفة كاشرة فاسدة، ويكون المشركون واليهود والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن جعلهم من نفسه. الوجه التاسع: أنه متناقص من حيث جعل الروح بياضها والنفس الكلية سوادها والسموات الجفن الأعلى والأرضون الجفن الأسفل. ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه. الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة. وأما الروح فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل وهو أول الصادرات. وسماه هو روحاً، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ذلك في غير هذا الموضع. لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول والنفوس والأفلاك والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونا إياه. فقولهم إنما ينطبق على المعطلة مثل فرعون وحزبه الذي قال (وما رب العالمين) وقال (ما علمت لكم من إله غيري) وقال (يا هامان ابن لي صرحاً لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات) الآية، فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم ويقول ما فوق رب ولا له خالق غيره. فهؤلاء إذا قالوا أنه عين السموات والأرض، فقد جحد وأما جحده فرعون وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلهاً ولم يقل هو الله. وهؤلاء قالوا هذا هو الله. فهم مقرون بالصانع لكن جعلوه هو الصنعة. فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون، وفرعون بالعكس كان منكراً للصانع في الظاهر وكان في الباطن مقراً به. فهو أكفرهم منهم، وهم أضل منه وأجهل. ولهذا يعظمونه جداً. الوجه الحادي عشر: قول القائل بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله. فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والآخرين؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره الذي هو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشايخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيراً من التتار في هذا الوجه. وأما محققوهم وجمهورهم فيجوز عندهم التهود والتنصر والإسلام والإشراك، لا يحرمون شيئاً من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء، ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق. (1) وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق العالم الرباني الغوث السابع في الشمعة من أنه قال: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام الخ فالكلام عليه من وجوه. أحدها أن تسمية قائل مثل هذا المقال محققاً وعالماً وربانياً عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ولا عباد الأوثان، فإن كان الذي قاله مسلوب العقل كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلاً فجرأة على الله الذي يقول (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئاً أدا، تكاد السموات يتفطرن منه) إلى آخر الآيات وقال (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول) إلى قوله (الظالمين) وقال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم) إلى قوله (وإليه المصير) فإذا كان هذا قوله فيمن يقول إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول إنهم أهداب جفنه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الوجه الثاني: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين مشترك بين الشيء وبين العضو المبصر وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر. ثم قال في آخر كلامه: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. فهذا من العين   (1) بياض في الأصل قدر سطرين لعله ذكر فيه أمثاله للمرتدين ومانعي الزكاة من العرب وكون هؤلاء شر منهم لاباحتهم ترك جميع شرائع الإسلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال نبعت العين وفاضت وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان فوجدتا عشرة مثاقيل وذهبها خالص، وسبب هذا أنه كثيراً ما كان يتصرف في حروف بلا معان. الوجه الثالث: أنه تناقض من وجه آخر فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه: والله هو نور العين، كان الله جزءاً من العين أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءاً من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزء من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءاً فكيف من جعل عباده تارة جزءاً منه تارة جعله هو جزءاً منهم؟ فلعن الله أرباب هذه المقالات وانتصر لنفسه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم. الوجه الرابع: إنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال العين: ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعيناً في جميع العالم، فإذا قال بعدها وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين من الأجفان والأهداب والسواد والبياض لم يتعين فيها، فقد جعله متعيناً فيها غير متعين فيها. الوجه الخامس: أن نور العين مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين وجب أن يكون محتاجاً إلى العالم. واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية الذين يقولون هو في العالم كالماء في الصوفة وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية الذين كفرهم أئمة الإسلام. وحكى عن الجهم أنه كان يقول هو مثل هذا الهواء، أو قال هو هذا الهواء. وقوله أولاً: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية فإن الاتحادية يقولون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة، ولهذا كان صاحب هذه المقالات متخبطاً لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين. فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة وفيهم المتخلي عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. الوجه السادس: قوله من العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً. وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون أن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، واللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين فإن هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية، وأولئك إنما يصل إلى البلاغ الأكبر الذي هو آخر المراتب خواصهم. ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة أنه كان يقول ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، فقلت له: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد. وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل قوله أن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء. فيقال له: إذا ارتفعت العلويات والسفليات فما تعني بانبساطه؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وما الذي ينبسط حينئذ؟ هو نفس الله أم صفة من صفاته؟ وعلى أي شيء ينبسط؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر؟ فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت: وإنما قلنا أن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر بحيث لا يرى شيئاً أصلاً، فكذلك العلويات والسلفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً. وقد قلت: إن الله هو نور العين والروح الأعظم بياضها والنفس الكلية سوادها. ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطاً في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتاً غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية، فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها. وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع، وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلونه وجوداً قائماً بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضاً وجود المخلوقات بمعنى أنه فاض عليها. وهذا أقل كفراً من الأول، وأن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه. وي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول. وكذلك كلام هذا فإنه قد يشير إلى هذا المعنى. ثم مع ذلك هل يجعلون وجوده مشروطاً بوجود العالم فيكون محتاجاً إلى العالم أو لا يجعلون؟ قد يقولون هذا وقد يقولون هذا. السابع إنهم يمدحون الضلال والحيرة والظلم والخطأ والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلباً يعلم فساده بضرورات العقول، مثل قول صاحب الفصوص: لو أن نوحاً ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهاراً، ثم دعاهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 إسراراً - إلى أن قال: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبيوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه ونهى عنه، ويأتون من الأفك والفرية على الله الإلحاد في أسماء الله وآياته بما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، كقول صاحب الفصوص في فص نوح: " مما خطيئاتهم أغرقوا " فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العالم بالله وهو الحيرة (فادخلوا ناراً) في عين الماء في المحمدتين، (فإذا البحار سجرت - سجرت التنور إذا أوقدته (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين) الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلباً للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر (دياراً) أحداً حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة (إنك إن تذرهم) أي تدعهم وتتركهم (يضلوا عبادك) أي يحيروهم ويخرجوهم من العبودية، إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أرباباً، بعدما كانوا عند أنفسهم عبيداً، فهم العبيد الأرباب (ولا يلدوا) أي ما ينتجون ولا يظهرون (إلا فاجراً) أي مظهر ما ستر (كفاراً) أي ساتراً ما ظهر بعد ظهوره، فينظرون ما سترهم ثم يسترون بعد ظهوره. فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره، والشخص وحد (رب اغفر لي) أي استرني واستر مراحلي، فيجعل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك " وما قدروا لله حق قدره " (ولوالدي) أي من كنت تنتجه عنهما وهما العقل والطبيعة (ولمن دخل بيتي) أي قلبي (مؤمناً) مصدقاً بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 حدثت به أنفسها (وللمؤمنين) من العقول (والمؤمنات) من النفوس (ولا تزد الظالمين) من الظلمات أهل العنت المكتنفين داخل الحجب الظلمانية (إلا تبارا) أي هلاكاً، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم. وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وأنهم (يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم وزعموا أنها من عند الله، تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكون فوق النبي بدرجة، وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في عمله بنفسه بمنزله علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه كما حد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء - حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له - يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال كان يتعمد الكذب، وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر. وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب غير واحد من عقلاء الناس وفضلائهم من المشايخ والعلماء. ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله وأنه من أحق الناس بقوله (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد، بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعي أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب وأشركوا به كل شيء وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولياء. وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا. وأما الضلال والحيرة فما مدح لله ذلك قط ولا قول النبي صلى الله عليه وسلم " زدني فيك تحيراً " ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استوته الشياطين في الأرض حيران) الآية. وهكذا يريد هؤلاء الضالون أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضربهم ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا وقال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - إلى قوله - يعمهون) أي يحارون ويترددون وقال تعالى (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فأمر بأن نسأله هداية الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين. وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة، مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 فصل " في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه ". قال في فص يوسف - بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث أحدية كونه ظلاً هو الحق، لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر. ألا تراه في الحس متصلاً بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال، لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك؟ وما نسبتك إلى الحق وبما أنت حق وبما أنت عالم وسوى وغير؟ وماشا كل هذه الألفاظ. وقال في أول الفصوص بعد (فص حكمة إلهية في كلمة آدمية) وهو (فص حكمة نفثية، في كلمة شيئية) وقد قسم العطاء بأمرالله وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال وذكر القسم الذي لإنسان (1) لأن شيئاً هو هبة الله - إلى أن قال: " ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت   (1) كذا في الأصل وهو محرف أو سقط منه شيء والكلام في فص شيت هذا يقتضي أن المراد أول انسان حصل له العلم بالنفث الملكي في الروع وهو شيث وهو علة تسميته.والشيخ أشار إلى مقدمة هذا الفص اشارة مجملة لان غرضه ما بعدها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلا وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين: منهم من يعلم ذلك مجملاً، ومنهم من يعلم ذلك مفصلاً، والذي يعلمه مفصلاً أعلا وأتم من الذي يعلمه مجملاً، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وغن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلا، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك (أي على أحوال عينه) فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها، لأنها نسب ذاتية لا صورة لها، فبهذا القدر نقول: أن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول (الله حتى نعلم) وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلا وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائداً على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود. ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية، فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبداً إلا عن تجلي إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبداً إلا لصورة استعداد العبد المتجلى به، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها، فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الذاتي، ليعلم المتجلى له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبداً البتة، حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئي ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في الفتوحات المكية، وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلا من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال والعجز عن درك الإدراك إدراك (1) ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول وهو أعلا القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا منن مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء، وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلا. وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساري بدر بالحكم فيهم، وفي   (1) هذا القول منسوب إلى الصديق الأكبر أبي بكر (رض) وابن عربي يفضل نفسه عليه في العلم بالله كما ترى بعده ويدعي أنه مساو لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل يفضل نفسه عليه من بعض الجهات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة. وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه. " ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد من أن يري نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك للبنتين، ليكمل الحائط. " والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. " فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلى حين بعث. وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد. " فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية مثل نسبة الأنبياء والرسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 معه، وأنه الولي الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد المراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين بشفاعته حالاً خاصاً ما عمم. وفي هذا لحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية. فإن الرحمن ما شفع عند المتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص. " فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام " فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبنى عليها سائر كلامه فتدبر ما فيه من الكفر الذي (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه،، وما فيه من الإزراء برسله وصديقيه والتقدم عليهم بالدعاوي الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان، وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه. إحداها أنه أثبت له عينا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجوداً من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده. وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم. الثاني أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر. فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 مفتقراً إليه في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك. والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي الذي هو من لوازم نفسه المقدسة لم يستفد علمه بها منها (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) فقد دلت هذه الآية على وجوب علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم. أحدها أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل كونها في الخارج. الثاني أن ذلك مستلزم للإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام. الثالث أنها صادرة عنه وهو سببها التام والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب. فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه. الرابع أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها كما هو غني بنفسه في جميع صفاته. ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها وسمع كلام عباده ونحو ذلك فإنما يدرك ما أبدع وما خلق وما هو مفتقر إليه ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة. فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة الغنية في ثبوتها عنه. وأما جحود قدرته فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم الغنية عنه، فقدرته محدودة بها مقصورة عليها مع غناها وثبوت حقائقها بدونه. وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئاً من صفاته ولا حركاته ولا سكناته، ولا ينقل حجراً عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً، ولا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً. ففي الحملة لا يقدر إلا على ما وجد، لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان. وهذا التجلي والتعجيز الذي ذكره وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين. فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفاداً من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعاً من الممكنات لم يخلقها. فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضاً من الممكن الثابت في العدم. فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل ولا إلى تعجيز من هذا الوجه. وإنما قد يقولون المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته فيجعلون المانع أمراً يعود إلى نفسه المقدسة حتى لا يجعلونه ممنوعاً من غيره، فأين من لا يجعل له مانعاً من غيره ولا راد لقضائه ممن يجعله ممنوعاً مصدوداً؟ وأين من يجعله عالماً بنفسه ممن يجعله مستفيداً للعلم من غيره؟ وممن هو عني عنه؟ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم. الثالث أنه رغم أن من الصنف الذي جعله أعلا أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله، لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد. الرابع أنه جعل الله عالماً بها بعد أن لم يكن عالماً واتبع المتشابه الذي هو قوله: (حتى يعلم) وزعم أنها كلمة محققة المعنى بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه فهو الله علم ما لم يكن علمه وهذا الفكر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول أن الله علم ما لم يكن عالماً، أما أنه يجعل كل ما تجد لمخلوق من العلم فإنما تجدد لله، وأن الله لم يكن عالماً بما علمه كل مخلوق حتى علمه ذلك المخلوق. الخامس أنه زعم أن التجلي الذاتي بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة فجعل الحق هو المرآة والصورة في المرآة هي صورته. وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق بالمتجلى له، والعبد لا يرى الوجود مجرداً عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبداً، وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها. وذلك لأن العبد لا يري نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام يتجلى الحق في الأعيان، والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق التي بها يرى أسماءه وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان حصلت النسبة التي بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الوجود والأعيان وهي الأسماء، وظهرت أحكامها وهي الأعيان، ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم. فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه، وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان. لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود لله ولأسمائه ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء الله وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسماً ولا آية، إذ ليس إلا وجوداً واحداً وذاك ليس هو اسماً ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبتت شيئين فرق بينها الوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم. وهذه حقيقة قوله وسر مذهبه الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق الذي جهل فقال: العجز عن الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين الذين علموا ذلك من مشاكته (1) وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها (منها) الكفر بذات الله إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق (ومنها) الكفر بأسماء الله وأنها ليست عنده إلا أمور عدميه فإذا قلنا الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فليس الرب إلا نسبة إلى. (2) السادس أنه قال واختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم   (1) لانه يدعي أنه هو ختم الولاية، وأن خاتم الولاية أعلى من خاتم النبوة في الباطن، وإن كان يتبعه في الظاهر، إلخ ما تقدم، وغايته أنه بلغ من غروره بما حذقه من الثرثرة بخلط النظريات الفلسفية بالخيالات الصوفية إن حاول اقناع قراء فصوصه بأنه رب العالمين من حيث أنه أكمل مظهر للخلق الذي هو عين الحق، وما الرب عنده إلا نسبة إضافية بين ما يسمى حقا وما يسمى خلقا وهما في نفس الأمر بشيء واحد (2) بياض في الاصل يعلم ما سقط منه مما تقدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال. قال: فمنا من جهل علمه فقال العجز عن درك الإدراك إدراك. وهذا الكلام مشهور عندهم ونسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلاً وإن كان هذا اللفظ لم ينقل عن أبي بكر ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحواً من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى وإنما يرسل إرسالاً من جهة من يكثر الخطأ في مراسليهم، كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما ". وهذا أيضاً كذب باتفاق أهل المعرفة، وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " فقال أن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله " فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال، فجعل الناس يقولون: عجباً لهذا الشيخ يبكي إن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه. وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه. وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلي عليه السلام: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ فقال " لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة (1) وبهذا ونحو من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أن ما ذكر عن علي وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون   (1) هي صحيفة علقها في سيفه كتب عليها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر من الجفر والبطاقة والجدول، وغير ذلك وما أثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره. وكذلك كذب على عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم، كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع. وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره. ثم قد يدعون أنهم عرفوها وتكون حقيقتها زندقة وإلحاداً. وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أحدهما فبثثته فيكم. وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم " وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه، ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به، بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار. ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت (1) وغير ذلك لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم. وكذلك يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كان كانوا في غزوة تبوك. ويقال أنهم كانوا أهموا   (1) بل قال أبو هريرة نفسه لو قلت لكم أنكم ستحرقون بيت ربكم وتقتلون ابن نبيكم لقلتم لا أكذب من أبي هريرة. وقد كان قتل الحسين عليه السلام بعد موت أبي هريرة وإنما كان يخاف قطع حلقومه من بني أمية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم. ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة، لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها. وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة أنه لما ذكر الفتن وأنه أعلم الناس بها بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها ولكن حدث الناس كلهم، قال " وكنا أعلمنا أحفظنا ". ومما بين هذا أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال " أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه " فقال رجل من الأنصار. يا رسول الله، هلا أومأت إلي؟ فقال " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوي ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنكسة ونحوهم. السابع أنه " قال ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم. حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا - إلى قوله - ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى. وما أشبهه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم أن هذا لا عقل ولا قرآن. وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر. ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلاً. وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدةالوجود، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق وهو تعطيل الصانع حقيقة وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلا العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء. فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته. ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبياً ولا رسولاً فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية هي أفضل من النبوة والرسالة، ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي وقال في الفصوص في كلمة عزيرية فإذا سمعت أحداً من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد، وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الولي التابع له أعلا منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه (1) إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له ". وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته وإن نبوته فوق رسالته، لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي أدعوه ". وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع منها أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما أدعوه باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الولاية " وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية، مثل دعوه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما. ثم أنه تناقض في موضع آخر لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفرداً عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك " ومنها " أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية وهذا أيضاً خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظاً على ما   (1) بهامش الأصل ما نصه: قوله فيما هو تابع له فيه، كأنه يريد ما يزعم من أنه تابع للنبي صلى الله عليه وسلم في الشرع الظاهر. وأما الباطن فلا، لانه يزعم أن خاتم الأنبياء وجميع الأنبياء والرسل يأخذون من مشكاته، فهو عند نفسه أعلى منهم في ذلك. قبحه الله. انتهى من خط الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى رحمه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته " ومنها " ما ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح. فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة. وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين " قال الترمذي حديث حسن وفي صحيح البخاري عن علي عليه السلام أنه قال له ابنه يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال " يا بني أبو بكر " قال: ثم من؟ قال " ثم عمر " وروى بضع وثمانون نفساً عنه أنه قال " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ". وهذا باب واسع وقد قال تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) وهذه الأربعة هي مراتب العباد: أفضلهم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس ابن متى مع قوله (ولا تكن كصاحب الحوت) وقوله (وهو مليم) تنبيهاً على أن غيره أولى أن لا يفضل أحد نفسه عليه. ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى " وفي صحيح البخاري أيضاً عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ينبغي لعبد أن يكون خيراً من يونس بن متى " وفي لفظ " أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - يعني رسول الله " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي الصحيحين عن ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 عن النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وهذا فيه نهي عام. وأما ما يرويه بعض الناس " لا تفضلوني على يونس بن متى " ويفسره باستواء حال صاحب المعراج وصاحب الحوت فنقل باطل وتفسير باطل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأبو بكر أفضل الصديقين. ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الآية (1) فكل من كان مؤمناً " تقياً " كان لله ولياً، وهم على درجتين: السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب " اعلم أن لله عليك حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنها لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن   (1) يعني الآية التي بعد هذه المفسرة للأولياء بالمؤمنين المتقين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله. وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح كما بيناه في غير هذا الموضع. وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا فليس الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإن كلما كان الولي أعظم اختصاصاً بالرسول وآخذاً عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون ولياً لله إلا بمتابعة الرسول باطناً وظاهراً. فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله. والأولياء وإن كان فيهم محدث كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر " فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام. ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافاً عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول وترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأياً فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول: ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه. فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا - فهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث، لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة فلا يأخذ إلا شيئاً معصوماً محفوظاً، وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه. وبهذا صار جميع الأولياء مفترقين إلى الكتاب والسنة، لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم ويغفر لهم خطأهم. ومعلوم أن السابقين الأولين أعظم اهتداء واتباعاً للآثار النبوية فهم أعظم إيماناً وتقوى. وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم. والحديث الذي يروى " مثل أمتي كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أو آخره " قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه بما في آخر الأمة من يقارب أولها (1) حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر ولهذا قال " لا يدرى " ومعلوم أن هذا السلب ليس عاماً لها فإنه لا بد أن يكون معلوماً أيهما أفضل. ثم أن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في   (1) فيه معنى آخر، وهو أن هذا الخير في المتأخر نسبي وهو أن القليل منه يعد كثيراً بالنسبة إلى فساد زمنه. ويدل عليه أحاديث: منها أنه عندما يجاهر الناس بالزنا في الطريق يقول قائلهم: ما ضر هذين لو استترا وراء هذا الجدار - وهو يعد كأبي بكر وعمر فيكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج ابنته بعيسى بن مريم، وأنه خاتم الأولياء. ويدعي هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح. ثم صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك، فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثاً قد ألقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة. وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء، وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأوليان فإنهما للأنبياء خاصة، والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول (1) ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة ويكون هذا الأخذ أعلى وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء، وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى. وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فبنوا على أصلهم الفاسد: أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر - وإن كانت   (1) كذا ولعل جواب لو سقط من الناسخ أو حذف للعلم به. وفيه أنهم يعترفون بهذا الاخذ لاحكام التشريع الظاهرة دون الحقائق الباطنة التي يدعونها ويطلقونها على فلسفتهم وخيالاتهم الباطلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 من وساوس الشيطان - يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم من حال موسى ابن عمران، لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق، وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه من الوجود المطلق الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم أو لا وجود له إلى وجود المخلوقات. هذا هو التعطيل للرب تعالى ولكتبه ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم دهليز الزندقة والتعطيل. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه. وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس، فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه صحيح مسلم أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره أنه أثبت رؤيته بفؤاده. وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة، ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية كالاتحادية وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى. ونحو ذلك، لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح. ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، إن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدراً وأعظم إيماناً من أن يفتري هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبراً، ففرعوا على خطئه ما صار كفراً. وأعظم من ذلك زعمه أن الأولياء والرسل من حيث ولا يتهم تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم. وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك أن جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق. فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة. واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر وتابير النخل، فهل يقول مسلم أن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى؟ وأن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك؟ ثم ما قنع بذلك حتى قال: فما يلزم الكامل أن يكون له التقديم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطالبهم. فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وغالية المتصوفة وغالية المتكلمة الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون أن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء. وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم. ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم إلا الغالية منهم كما تقدم، فهؤلاء من شر الناس قولاً واعتقاداً. وقد كان عندهم شيخ من أجهل الناس كان يعظمه طائفة من الأعاجم ويقال أنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تلقاه من صاحب الفصوص وأمثال هذا في هذه الأوقات كثير، وسبب ضلال المتفلسفة وأهل التصوف والكلام الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الأطناب في بيان ضلال هذا وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء. فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك ولكن يرى أن له طريقاً إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر. ولا حجة فيها لوجهين (أحدهما) أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 كان يجب على الخضر اتباع موسى فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل ولهذا جاء في الحديث الصحيح " أن موسى لما سلم على الخضر قال وأنى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه " ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة (1) " وقد قال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وقال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الآية. فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: انسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء. فليس لأحد الخروج عن مبايعته باطناً وظاهراً، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثاً إلى الخضر. الثاني أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفاً لشريعته لم يوافقه بحال. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت. وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل، ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم. وأما إقامة الجدار   (1) لم يذكر الخامسة، وفي بعض الاحاديث هي " ونصرت بالرعب مسيرة شهر" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين. الوجه الثامن أنه قال: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان (أحدهما) علم الشريعة وهو يأخذه عن الله كما يأخذ النبي فإنه قال والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على عليه فلا بد أن يراه هكذا. وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع اتباعهم، فيه من الاتحاد ما لا يخفى على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول أنه أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه فينبغي موافقته لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي. وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحو ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة، وكان يقول مؤذنه أشهد أن محمد ومسيلمة رسولا الله. والنوع الثاني علم الحقيقة وهو فيه فرق الرسول كما قال هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحي به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو أخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلا من الرسول في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 ثم قال: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع. ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى لا ترضى أن تجعل أحداً من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم هو وأمثاله ممن يدعي أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا وإنما يقول مثل هذا غلاتهم وأهل الحق منهم الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين. التاسع قوله: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن نفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم من يأخذ من آخر إلا من كان مأموراً باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل والرسل الذين فيهم الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) الآية. وأما إبراهيم فلم يأخذ من موسى وعيسى، ونوح لم يأخذ عن إبراهيم، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد وأن بشروا به وآمنوا به كما قال تعالى (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) الآية قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنا. العاشر قوله: فإن تحقيقه موجود، وهو قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين. - كذب واضح مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 ولا تكون موجود بحقائقها إلا حين توجد ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته صلى الله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهوراً أعظم من غيره فإنه كان مكتوباً في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لعبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نوراً ضاءت له قصور الشام " وحديث ميسرة الفجر: قلت يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ وفي لفظ متى كتبت نبياً؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " وهذا لفظ الحديث. وأما قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين إذ الطين ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه كتب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " وروي أنه كتب اسمه على ساق العرش ومصاريع الجنة (1) فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة؟ وما يروي في هذا الباب من الأحاديث هو من هذا الجنس مثل كونه كان نوراً يسبح حول العرش أو كوكباً يطلع في السماء ونحو ذلك كما ذكره ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين وابن سبعين وأمثالهم ممن يروي الموضوعات   (1) اشار بقوله " يروي" إلى أن هذا ضعيف غير صحيح كالذي قبله وأما " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فانه باطل رواية ومعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث. فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديماً شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه يسميه أصحابه سلطان الأقطاب وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظماً له ولصاحبه حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب. الحادي عشر قوله: وخاتم الولاية كان ولياً وآدم بين الماء والطين - إلى قوله - فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية كنسبة الأولياء والرسل معه - إلى آخر كلامه - ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله الذي هو أعلا العلم وهو وحدة الوجود أنه مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالاً خاصاً ما عمم - إلى قوله - ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فكذب على رسول اله صلى الله عليه وسلم في قوله: إنه قال: سيد ولد آدم في الشفاعة فقط لا في بقية المراتب " بخلاف الختم المفتري فإنه سيد في العلم بالله وغير ذلك من المقامات. ولقد كنت أقول: لو كان المخاطب لنا ممن يفضل إبراهيم أو موسى أو عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم لكانت مصيبة عظيمة لا يحملها المسلمون فكيف بمن يفضل رجلاً من أمة محمد على محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته؟ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا المفضل من أضل بني آدم وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة والمتصوفة والمتكلمة والمتفقهة والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالاً عند أهل الكلام والإيمان والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر والتنقيص بالرسل والاستخفاف بهم والغض منهم والكفر بهم وبما جاؤوا به ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله. ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر، وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام: هو شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العلم ولا يحرم فرجاً - هو حق عنه ولكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم كما تقوله الفلاسفة الإلهيون الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن الوجود بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية الذين ينكرون وجود الصانع مطلقاً ولا يقرون بوجود واجب غير العالم كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقراً بالله وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم، في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) وقال له موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر. فأما الإيمان بالله فزعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم، وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وبالوعيد الحق عين تعاين وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم يباين وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه: الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أني يكلف؟ وفي موضع آخر فذاك ميت، رأيته بخطه. وهذا مبني على أصله فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً، وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك: إلي رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي علي استدلت ومضمونها هو القول بوحدة الوجود ومذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال: لها صلاتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل عابد ساجد إلى ... حقيقة الجمع في كل سجدة (1) وما كان لي صلى سواي فلم تكن ... صلاتي لغيري في أداكل ركعة إلى قوله: وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت ومثل هذا كثير والله أعلم.   (1) البيت في ديوانه الذي بين الايدي هكذا: كلانا مصل ناظر إلى .... حقيقته بالجمع في كل سجدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي أبو الحسن علي بن قرباص أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني فوجده يصنف كتاباً فقال: ما هذا؟ فقال هذا في الرد على ابن سبعين وابن الفارض وأبي الحسن الجربي والعفيف التلمساني، وحدثني عن جمال الدين بن واصل وشمس الدين الأصبهاني أنهما كانا ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه ويردان عليه وأن الأصبهاني رأى معه كتاباً من كتبه فقال: إن اقتنيت شيئاً من كتبه فلا تجيء إلي، أو ما هذا معناه. وأن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة التي انقلبت عن جوار معلم معها فقال: والله الذي لا إله إلا هو يكذب ولقد بر في يمينه. وحدثني صاحبنا الفاضل أبو بكر بن سالار عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد شيخ وقته عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال: شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً، وكان تقي الدين يقول: هو صاحب خيال واسع. حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء ممن سمع كلام ابن دقيق العيد. وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال: كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله، وحدثني الشيخ العالم العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئاً فرأيته مخالفاً للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت والكل واحدد؟ قال لا فرق بين ذلك عندنا وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراماً فقلنا هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام. وحدثني كمال الدين بن المراغي أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال: وكنت أقرأ عليه في ذلك فإنهم كانوا قد عظموه عندنا ونحن مشتاقون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 إلى معرفة فصوص الحكم فلما صار يشرحه لي قول هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صاف حتى تتلقى هذا التوحيد - أو كما قال - ثم خاف أن أشيع ذلك عنه فجاء إلي باكياً وقال استر عني ما سمعته مني. وحدثني أيضاً كمال الدين أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي تلميذ الشيخ أبي الحسن فقال عن التلمساني: هؤلاء كفار هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع، قال وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده فقلت أنا لا آخذ عنه هذا وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، قال لي: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان على يد صاحب الأتون والزبال فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان كيف يكون حاله عند السلطان؟ وحدثنا أيضاً قال قال لي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد إنما استولت التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة، فقلت له ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد وهو شر من مذهب الفلاسفة؟ فقال قول هؤلاء لا يقوله عاقل بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء - يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء بخلاف مقالة الفلاسفة فإن فيها شيئاً من المعقول وإن كانت فاسدة. وحدثني تاج الدين الأنباري الفقيه المصري الفاضل أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت ابن عربي شيخاً مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله. وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي والخسر وشاهى أن كلاهما زنديق - أو كلاماً هذا معناه - وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولن كيف الطريق؟ أين الطريق؟ وحدثني شهاب الدين المزي عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء - أو قال - فعلمت أن هذا، وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول ابن عربي شيطان، وعنه أنه كان يقول عن الحريري أنه شيطان، وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين الباربلي أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين. فصل في بعض ما يظهر به كفرهم، وفساد قولهم. وذلك من وجوه (أحدها) أن حقيقة قولهم: أن الله لم يخلق شيئاً ولا ابتدعه ولا برأه ولا صوره، لأنه إذا لم يكن وجود إلا وجوده فمن الممتنع أن يكون خالقاً لوجود نفسه، أو بارئاً لذاته، فإن العلم بذلك من أبين العلوم وأبدهها للعقول أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال سبحانه (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟) فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق، ويعلمون أن الشيء لا يخلق نفسه فتعين أن لهم خالقاً، وعند هؤلاء الكفار الملاحدة الفرعونية أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه وبرأه أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون مخلوقة مربوبة مصنوعة مبروءة لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل، وأما على رأي صاحب الفصوص فما ثم إلا وجوده والذوات الثابتة في العدم الغنية عنه، ووجوده لا يكون مخلوقاً والذوات غنية عنه فلم يخلق الله شيئاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 الثاني أن عندهم أن الله ليس رب العالمين ولا مالك الملك أو ليس إلا وجوده وهو لا يكون رب نفسه ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرحوا بهذا الكفر مع تناقضه وقالوا أنه هو ملك الملك، بناء على أن وجوده مفتقر إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده، فالأشياء مالكة لوجوده، فهو ملك الملك. الثالث أن عندهم أن الله لم يرزق أحداً شيئاً، ولا أعطى أحداً شيئاً، ولا رحم أحداً، ولا أحسن إلى أحد، ولا هدى أحداً، ولا أنعم على أحد نعمة، ولا علم أحداً علماً ولا علم أحداً البيان، وعندهم في الجملة لم يصل منه إلى أحد لا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلاً. وإن هذه الأشياء جميعها عين نفسه ومحض وجوده. فليس هناك غير يصل إليه، ولا أحد سواه ينتفع بها، ولا عبد يكون مرزوقاً أو منصوراً أو مهدياً. ثم على رأي صاحب الفصوص أن هذه الذوات ثابتة في العدم، والذوات هي أحسنت وأساءت، ونفعت وضرت، وهذا عنده سر القدر. وعلى رأي الباقين ما ثم ذات ثابتة غيره أصلاً، بل هو ذام نفسه بنفسه، ولاعن نفسه بنفسه، وهو المرزوق المضروب المشتوم، وهو الناكح والمنكوح والآكل والمأكول، وقد صرحوا بذلك تصريحاً بيناً. الرابع أن عندهم أن الله هو الذي يركع ويسجد ويخضع ويعبد ويصوم ويجوع ويقوم وينام. وتصيبه الأمراض والأسقام وتبتليه الأعداء ويصيبه البلاء وتشتد به اللأواء، وقد صرحوا بذلك وصرحوا بأن كل كرب يصيب النفوس فإنه هو الذي يصيبه. وأنه إذا نفس الكرب فإنما يتنفس عنه، ولهذا كره بعض هؤلاء الذين هم من أكفر خلق الله وأعظمهم نفاقاً وإلحاداً وعتواً على الله وعناداً أن يصبر الإنسان على البلاء لأن عندهم هو المصاب المبتلى. وقد صرحوا بأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 موصوف بكل نقص وعيب فإن ما ثم من يتصف بالنقائض والعيوب غيره. فكل عيب ونقص وكفر وفسوق في العالم فإنه هو المتصف به لا متصف به غيره. كلهم متفقون على هذا في الوجود. ثم صاحب الفصوص يقول: أن ذلك ثابت في العدم، وغيره يقول ما ثم سوى وجود الحق الذي هو متصف بهذه المعايب والمثالب. الخامس أن عندهم أن الذين عبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والذين عبدوا وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً. والذين عبدوا الشعرى والنجم والشمس والقمر والذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة وسائر من عبد الأوثان والأصنام: قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وبني إسرائيل وسائر المشركين والعرب ما عبدوا إلا الله. ولا يتصور أن يعبدوا غير الله، وقد صرحوا بذلك في مواضع كثيرة مثل قول صاحب الفصوص الكلمة النوحية: (ومكروا مكراً كباراً) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، لأنه ما عدم من البداية فيدعي إلى الغاية (ادعوا إلى الله) هنا عدة المكر (على بصيرة) ففيه أن الأمر له كله فأجابوه مكراً كما دعاهم - إلى إن قال - فقالوا في مكرهم (لا تذرون آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) فإنه إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن الحق في كل معبود وجهاً خاصاً يعرفه من عرفه ويجهله من جهلة في المحمديين (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية. فما عبد غير الله في كل معبود. فالأدنى من تخيل فيه الألوهية. فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره. ولهذا قال تعالى (قل سموهم) فلو سموهم لسموهم حجراً وشجراً وكوكباً. ولو قيل من عبدتهم لقالوا إلهاً واحداً كما كانوا يقولون الله ولا الإله، والأعلى ما تخيل بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر. فالأدنى صاحب التخيل يقول: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) والأعلى العالم يقول (إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا) حيث ظهر (وبشر المخبتين الذين) خبت نار طبيعتهم فقالوا " إلهاً " ولم يقولوا " طبيعة ". وقال أيضاً في فص الهارونية: ثم قال هارون لموسى (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) فتجعلني سبباً في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، وكان فيهم من عبده اتباعاً للسامري وتقليداً له، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك، فخشى هارون أن ينسب ذلك التفريق إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن، ولذلك لما قال له هارون ما قال رجع إلى السامري فقال (فما خطبك يا سامري) يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص - وساق الكلام - إلى أن قال - فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن تنفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه - حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة فما ذهبت إلا بعدما تلبست عند عابدها بالأولوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، ولا بدل من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العام إلا بعد التلبيس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر الدرجات في عين واحدة فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات له كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهياً عبد فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال (أفرأيت من اتخذ إلهه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 هواه) فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به ولا يعبد هو إلا بذاته. وفيه أقول: وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله كيف تمم في حق من عبد هواء واتخذ إلهاً فقال (وأضله الله على علم) والضلالة الحيرة، وذلك أنه لما رأى هذا العبد ما عبد إلا هواه بانقياد لطاعته فيما يأمر به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادة الله كانت عن هوى أيضاً فإنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره، وكذلك كل من عبد صورة من صور العالم واتخذها إلهاً ما اتخذها إلا بالهوى، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين وكل عابد أمراً ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبيه لا يحار لاتحاد الهوى بل لا حدية الهوى كما ذكر فإنه عين واحدة في كل عابد (فأضله الله) أي حيره على علم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه، ولا استعبده إلا هواه، سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف، والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه. ولذلك سموه كلهم إله مع اسمه الخاص شجر أو حجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك هذا اسم الشخصية فيه والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبد في هذا المحلى المختص بحجر ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مع تسميتهم إياهم آلهة، كما قالوا (اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك فإنهم وقفوا على كثرة الصور ونسبة الألوهية لها، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف، ولا يشهد أيضاً بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) لعلمهم بأن تلك الصور حجارة، ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله (قل سموهم) فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة. كحجر وخشب وكوكب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وأمثالها، وأما العارفون على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين، فهم عباد الوقت، مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم، وجهله المنكر الذي لا علم له بما يتجلى، وستره العارف المكمل من نبي أو رسول أو وارث عنهم، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعاً للرسول طمعاً في محبة الله إياهم بقوله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ولا يشهد ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء، فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها، وصورها الظاهرة، فهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجلى والتجلي في الصور، فلا بد منها ولا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه. إن فهمت هذا. فتدبر حقيقة ما عليه هؤلاء فإنهم أجمعوا على كل شرك في العالم وعدلوا بالله كل مخلوق وجوزوا أن يعبد كل شيء ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون ما عبدنا إلا الله، فاجتمع في قولهم أمران: كل شرك، وكل جحود وتعطيل مع ظنهم أنهم ما عبدوا إلا الله، ومعلوم أن هذا خلاف دين المرسلين كلهم وخلاف دين أهل الكتاب كلهم، والملل كلها، بل وخلاف دين المشركين أيضاً وخلاف ما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم ويجدونه في نفوسهم، وهو في غاية الفساد والتناقض والسفسطة والجحود لرب العالمين. وذلك أنه علم بالاضطرار أن الرسل كانوا يجعلون ما عبده المشركون غير الله، ويجعلون عابده عابداً لغير الله مشركاً بالله عادلاً به جاعلاً له نداً. فإنهم دعوا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا هو دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره، ولا يغفر لمن تركه بعد بلاغ الرسالة كما قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من يشاء) وهو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار والسعداء والأشقياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة " وقال " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة " وقال " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجد لها روحاً وهي رأس الدين " وكما قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وفضائل هذه الكلمة وحقائقها وموقعها من الدين فوق ما يصفه الواصفون ويعرفه العارفون، وهي حقيقة الأمر كله كما قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) فأخبر سبحانه أنه يوحي إلى كل رسول بنفي الألوهية عما سواه وإثباتها له وحده. وزعم هؤلاء الملاحدة المشركون أن كل شيء يستحق الألوهية كاستحقاق الله لها، وقال تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟) وزعم هؤلاء الملاحدة أن كل شيء فإنه إله معبود. فأخبر سبحانه أنه لم يجعل من دون الرحمن آلهة. وقال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فأمر الله سبحانه بعبادته واجتناب الطاغوت. وعند هؤلاء: أن الطواغيت جميعها فيها الله أو هي الله ومن عبدها فما عبد إلا الله. وقال تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) الآيتين وأمر سبحانه بعبادة الرب الخالق لهذه الآيات. وعند هؤلاء الملاحدة الملاعين هو عين هذه االآيات. ونهى سبحانه أن يجعل الناس له أنداداً وعندهم هذا لا يتصور فإن الأنداد هي عينه فكيف يكون نداً لنفسه؟ والذين عبدوا الأنداد فما عبدوا سواه. ثم أن هؤلاء الملاحدة احتجوا بتسمية المشركين لما عبدوه إلهاً كما قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 (أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟) واعتقدوا أنهم لما سموهم آلهة كانت تسمية المشركين دليلاً على أن آلهية الله لهم. وهذه الحجة قد ردها الله على المشركين في غير موضع كقوله سبحانه عن هود في مخاطبته للمشركين من قومه (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) الآية هذا رداً لقولهم (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميتهم إياها آلهة ومعبودين تسمية ابتدعوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من حجة ولا سلطان، والحكم ليس إلا لله وحده، وقد أمر هو سبحانه أن لا يعبد إلا إياه، فكيف يحتج بقول مشركين لا حجة لهم؟ وقد أبطل الله قولهم؟ وأمر الخلق أن لا يعبدوا إلا إياه دون هذه الأوثان التي سماها المشركون آلهة، وعند الملاحدة عابدو الأوثان ما عبدوا إلا الله. ثم أن المشركين أنكروا على الرسول حيث جاءهم ليعبدوا الله وحده ويذروا ما كان يعبد آباءهم، فإذا كانوا هم ما زالوا يعبدون الله وحده كما تزعمه الملاحدة، فلم - يدعو إلى ترك ما يعبده آباؤهم هو وغيره من الأنبياء؟ وكذلك قال سبحانه في سورة يوسف عنه (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان - إلى قوله - ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال سبحانه (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى - إلى قوله - ولقد جاءهم من ربهم اله وهذه الثلاثة المذكورة في هذه السورة هي الأوثان العظام الكبار التي كان المشركون ينتابونها من أمصارهم، فاللات كانت حذو قديد بالساحل لأهل المدينة، والعزى كانت قريبة من عرفات لأهل مكة، ومناة كانت بالطائف لثقيف، وهذه الثلاثة هي أمصار أرض الحجاز. أخبر سبحانه أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدون أسماء لا مسميات لها، لأنه ليس في المسمى من الألوهية ولا العزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطاناً بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظناً لا يغني من الحق شيئاً في أنها آلهة تنفع وتضر ويتبعوا أهواء أنفسهم. وعند الملاحدة أنهم إذا عبدوا أهواءهم فقد عبدوا الله، وقد قال سبحانه عن إمام الأئمة وخليل الرحمن وخير البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيه (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) إلى قوله (فتكون للشيطان ولياً) فنهاه وأنكر عليه أن يعبد الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنه شيئاً. وعلى زعم هؤلاء الملحدين فما عبدوا غير الله في كل معبود فيكون الله هو الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً وهو الذي نهاه عن عبادته وهو الذي أمر بعبادته. وهكذا قال أحذق طواغيتهم الفاجر التلمساني في قصيدة له: يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار فإن أطعك وأعص الوجد عذرني ... عمى عن العيان إلى أوهام أخبار (1) وعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته تره المنهي يا جاري وقد قال أيضاً إبراهيم لأبيه (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) وعندهم أن الشيطان مجلى إلهي ينبغي تعظيمه ومن عبده فما عبد غير الله، وليس الشيطان غير الرحمن حتى تعصيه، وقد قال سبحانه (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) إلى قوله (يعقلون) فنهاهم عن عبادة الشيطان وأمرهم بعبادة الله سبحانه، وعندهم عبادة الشيطان هي عبادته أيضاً، فينبغي أن يعبد الشيطان وجميع الموجودات إنها عينه. وقال تعالى أيضاً عن إمام الخلائق خليل الرحمن أنه لما (رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما   (1) كذا في الأصل وليحرر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إن وجهت وجهي) إلى قوله (وهم مهتدون) وقال أيضاً (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم) إلى قوله (حتى تؤمنوا بالله وحده) وقال تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) الآية. وقال تعالى (أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباءكم الأقدمون) إلى قوله (إذ نسويكم برب العالمين) وقال تعالى (إذ قال لأبيه وقومه ما تبعدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين) إلى قوله (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) . فهذا الخليل الذي جعله الله إمام الأئمة الذين يهتدون بأمره من الأنبياء والمرسلين بعده وسائل المؤمنين قال (إنني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً) وعند الملاحدة الذي أشركوه هو عين الحق ليس غيره، فكيف يتبرأ من الله الذي وجه وجهه إليه؟ وأحد الأمرين لازم على أصلهم إما أن يعبده في كل شيء من المظاهر بدون تقيد ولا اختصاص وهو حال المكمل عندهم فلا يتبرأ من شيء، وإما أن يعبده في بعض المظاهر كفعل الناقصين عندهم. وأما التبرئ منن بعض الموجودات فقد قال: إن قوم نوح لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا من تلك الأوثان، والرسل قد تبرأت من الأوثان فقد تركت الرسل من الحق شيئاً كثيراً وتبرؤوا من الله الذي دعوا الخلق إليه، والمشركون على زعمهم أحسن حالاً من المرسلين، لأن المشركين عبدوه في بعض المظاهر ولم يتبرءوا من سائرها، والرسل يتبرءون منه في عامة المظاهر. ثم قول إبراهيم (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) باطل على أصلهم، فإنه لم يفطرها إذ هي ليست غيره، فما أجدرهم بقوله (ألم تر إلى الذين أوتوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) الآية. ثم قول الخليل (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله) الآية وهذه حجة الله التي أتاها إبراهيم على قومه بقوله: كيف أخاف ما عبدتموه من دون الله؟ وهي المخلوقات المعبودة من دونه، وعندهم ليست معبودة من دونه، ومن لم يقم بحقها فلم يخف الله، والرسل لم يخافوا الله. وقول الخليل (إنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً) لم يصح عندهم فإنهم لم يشركوا بالله شيئاً إذ ليس ثم غيره حتى يشركوا به، بل المعبود الذي عبدوه هو الله وأكثر ما فعلوه أنهم عبدوه في بعض المظاهر وليس في هذا أنهم جعلوا غيره شريكاً له في العبادة. وقوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) " فقد أخبر الله ورسوله أن الشرك ظلم عظيم، وأن الأمن هو لمن آمن بالله ولم يخلط إيمانه بشرك، وعلى زعم هؤلاء الملاحدة فإيمان الذين خلطوا إيمانهم بشرك هو الإيمان الكامل التام، وهو إيمان المحقق العارف عندهم، لأن من آمن بالله في جميع مظاهره وعبده في كل موجود هو أكمل ممن لم يؤمن بالأمر حيث لم يظهر، ولم يعبده إلا من حيث لا يشهد ولا يعرف (1) وعندهم   (1) يعنون بهذا الإيمان بالغيب الذي هو أساس دين الله في القرآن وسائر الكتب الالهية. وهذا عندهم أدنى وأنقص درجات الإيمان بل هو عندهم باطل، إذ لا موجود عندهم غير هذه المظاهر، فاكمل العبادة عبادتهم أو عبادة ما سمي الاله فيها كلها وهو هي، ودون ذلك عبادته في بعضها كعبادة المسيح وغيره من البشر وعبادة العجل والأصنام فكلما كثرت المعبودات كانت العبادة أكمل، ولا يسمى هذا شركا عندهم لان هذه كلها وسائر الموجودات شيء واحد في نفسه متعدد في مظاهره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 لا يتصور أن يوجد إلا في المخلوق، فمن لم يعبده في شيء من المخلوقات أصلاً فما عبده في الحقيقة، وإذا أطلقوا أنه عبده فهو لفظ لا معنى له، أي إذا فسروه فيكون بالتخصيص بمعنى أنه خصص بعض المظاهر بالعبادة، وهذا عندهم نقص لا من جهة ما أشركه وعبده، وإنما من جهة ما تركه، فليس عندهم في الشرك ظلم ولا نقص إلا من جهة قلته، وإلا فإذا كان الشرك عاماً كان أكمل وأفضل. وكذلك أيضاً قول الخليل لقومه (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) تبرأ عندهم من الحق الذي ظهر فيهم وفي آلهتهم، وكذلك كفره به ومعاداته لهم كفر بالحق عندهم ومعاداة له. ثم قوله (حتى تؤمنوا بالله وحده) كلام لا معنى له عندهم، فإنهم كانوا مؤمنين بالله وحده، إذ لا يتصور عندهم غيره، وإنما غايتهم أنهم عبدوه في بعض المظاهر وتركوا بعضها من غير كفر به فيها، وكذلك سائر ما قصه عن إبراهيم من معاداته لما عبده أولئك هو عندهم معاداة لله لأنه ما عبد غير الله كما زعم الملحدون محتجين بقوله (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) قالوا: وما قضى الله شيئاً إلا وقع. وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن " قضى " هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين بل وبإجماع العقلاء حتى يقال ما قدر الله شيئاً إلا وقع، وإنما هي بمعنى أمر، وما أمر الله به فقد يكون وقد لا يكون. فتدبر هذا التحريف، وكذلك قوله ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني وهو الأحكام الشرعية كقوله (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام) الآية، وقوله (ومن أحسن من الله حكماً) وقوله (ذلكم حكم الله يحكم بينكم) ويكون الحكم حكماً بالحق والتكوين والعقل كقوله (لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي) وقوله (قل رب احكم بالحق) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ولهذا كان بعض السلف يقرؤون (ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف، ولهذا قال في سياق الكلام (وبالوالدين إحسانا) الآية وساق أمره ووصاياه إلى أن قال (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلهاً فتلقى في جهنم ملوماً مدحورا) فختم الكلام بمثل ما فتحه به من أمره بالتوحيد ونهيه عن الشرك ليس هو إخباراً أنه ما عبد أحد إلا الله وإن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر) ؟ وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلهاً آخر فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره. ومثل معاداة إبراهيم والمؤمنين لله على زعمهم حيث عادى العابدين والمعبودين وما عبد غير الله، وما عبد الله غير الله، فهو عين كل عابد وعين كل معبود وقوله تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) وعلى زعمهم ما لله عدو أصلاً، وأنه ما ثم غير ولا سوى بحيث يتصور أن يكون عدو نفسه أو عدو الذوات التي لا يظهر إلا بها. السادس أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم كما صرح به حيث قال: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية. وقال أيضاً صاحب الفصوص (وبشر المخبتين) الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلهاً ولم يقولوا طبيعة (وقد أضلوا كثيرا) أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب (ولا تزد الظالمين) لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة فقدمه على المقتصد والسابق (إلا ضلالاً) أي إلا حيرة. وفي المحمدي زدني فيك تحيراً (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) له فالمحير له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا تبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله " من " و " إلى " وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه " من " ولا غاية فتحكم عليه " إلى " فله الوجود إلا ثم وهو المؤتى جوامع الكلم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 وقال بعض شعرائهم: ما بال عينك لا يقر قرارها ... وإلام خطوك لا يني متنقلاً فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه أو يستجيب له، ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون. وكنت أقول لمن أخاطبه أن قولهم هو حقيقة قول فرعون حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم وكشف له حقيقة سرهم قال: فقلت له هذا قول فرعون، قال: نعم، ونحن على قول فرعون، قلت له والحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينه. وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم ويمدحه ويثني على أهله لا على المستدير. ففي أم الكتاب (اهدنا الصراط المستقيم) وقال (وإن هذا صراطي مستقميماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) وقال (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) الآيتين (1) وقال تعالى في موسى وهارون (وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم) وقال تعالى (وهذا صراط ربك مستقيماً، قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) وقال عن إبليس (فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم) الآية وقال تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين) وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، وأنه قعدهم على صراط الله المستقيم فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم. وقال تعالى في حق خاتم الرسل (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله) الآية. وأيضاً فإن الله يقول (وردوا إلى الله مولاهم الحق) وقال تعالى (إن إلينا إيابهم   (1) أي أقرأ الآيتين بعد هذه إذ آخرهما (ولهديناهم صراط مستقيما) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 ثم علينا حسابهم) وقال تعالى (إلى الله مرجعكم جميعاً) الآية وقال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت من الآن مردود إلى الله، وما رأيت مردوداً إليه وليس هو شيء غيرك حتى ترد إليه أو ترجع إليه، أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام وذلك أنه كان يتوهم أنه الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان. وكذلك حدثني بعض أصحابنا عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء عن الفاجر التلمساني أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له: مم تتأوه؟ فقال من خوف الفوت، فقلت سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام؟ فقال ما معناه: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة. الثامن (1) أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبياً كالمسيح، أو غير نبي كعلي، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى، وقد صرح صاحب الفصوص أن هذه الدعوى كدعوى فرعون، وهم كثيراً ما يعظمون فرعون فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا أنه مات مؤمناً وأنه لا يدخل النار، وقالوا   (1) لم يذكر السابع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار. وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفاً بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلاً كما سنذكره أن شاء الله عنهم، ولكي يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان. قال صاحب الفصوص في فص الحكم التي في الكلمة الموسوية لما تكلم على قوله (وما رب العالمين) " وهنا سر كبير فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله (وما رب العالمين) قال الذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض (إن كنتم موقنين) أو يظهر هو بها، فلما قال فرعون لأصحابه أنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنوناً أي لمستور عنه علم ما سألته عنه أو لا يتصور أن يعلم أصلاً، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال (رب المشرق والمغرب) فجاء بما يظهر ويستر وهو الظاهر والباطن (وما بينهما) وهو قوله " وهو لكل شيء عليم " (إن كنتم تعقلون) أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد. " والجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود، فقال له (إن كنتم موقنين) أي أهل الكشف ووجود فقد أعلمتكم ما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم " فإن لم تكونوا من هذا النصف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون لكونه سأل عن ذلك من الماهية فعلم أنه سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال فلذلك أجاب فلو علم منه غير ذلك لخطأ في السؤال، فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون فقال له (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) والسين من حروف الزوائد، أي لأسترنك فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 هذا القول فإن قلت ليس بلسان الإشارة: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرعت فيقول فرعون إنما فرقت المراتب العين ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة - وساق الكلام إلى أن قال: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال (أنا ربكم الأعلى) وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) فالدولة لك فصح قوله (أنا ربكم الأعلى) وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات ". فصل ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية الملاحدة المدعون للتحقيق والعفان ما يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة وهو قوله " وهو الآن على ما عليه كان " كذب مفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها. ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية. فتلقاه هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وهو التعطيل والإلحاد، ولكن أولئك قد يقولون: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، وقد عرف بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي فقال " ما لا بد للمريد منه وكذلك، جاء في السنة " كان الله ولا شيء معه " قال: وزاد العلماء وهو الآن على ما عليه كان، ولم يرجع إليه من خلقه العالم وصف لم يكن عليه ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما يعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه ". وهذا الذي قاله هو قول كثير من أهل القبلة. ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره. لكنه متناقض، ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد، وإنما الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " وهذه الزيادة الإلحادية، وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفى الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا: كان في الأزل ليس مستوياً على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير، ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين. أحدهما أن المتجدد نسبة إضافية بينه وبين العرش بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم. إذا لا يقتضي ذلك تغيراً ولا استحالة. والثاني أن ذلك وإن اقتضى تحولاً من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل مجيئه وإتيانه ونزوله. وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 دلت عليه النصوص. وقال به أكثر أهل السنة في الحديث. وكثير من أهل الكلام وهو لازم لسائر الفرق. وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك في قاعدة الفرق بين الصفات والمخلوقات والصفات الفعلية، وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر لا أزلاً ولا أبداً بل هو عين الموجودات، ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور، وهم دائماً يهذون بهذه الكلمة: " وهو الآن على ما عليه كان " وهي أجل عندهم من " قل هو الله أحد " ومن آية الكرسي لما فيها من الدلالة على الاتحاد الذي هو إلحادهم، وهم يعتقدون أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من كلامه ومن أسرار معرفته، وقد بينا أنها كذب مختلق، ولم يروها أحد من أهل العلم ولا في شيء من دواوين الحديث. بل اتفق العارفون بالحديث على أنها موضوعة، ولا تنقل هذه الزيادة عن إمام مشهور في الأمة بالإمامة، وإنما مخرجها ممن يعرف بنوع من التجهم، وتعطيل بعض الصفات، ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح " كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " وهذا إنما ينفي وجود المخلوقات من السموات والأرض. وما فيهما من الملائكة والإنس والجن. لا ينفي وجود العرش. ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح. مستدلين بهذا الحديث وحملوا قوله " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " على هذا الخلق المذكور في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء) وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي المشهور في كتب المسانيد والسنن أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 " كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء " فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه الغمام، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وفي ذلك آثار معروفة. والدليل على أن هذا الكلام وهو قولهم " وهو الآن على ما عليه الآن " كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وجوه. أحدها أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب عموماً وخصوصاً مثل قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وهو معكم أينما كنتم) وقوله (ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم - إلى قوله - أينما كانوا) وقوله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والله مع الصابرين) في موضعين وقوله (إنني معكما أسمع وأرى، لا تحزن إن الله معنا، وقال الله إني معكم، إن معي ربي سيهديني) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا " فلو كان الخلق عموماً وخصوصاً ليسوا غيره ولا هم معه بل ما معه شيء آخر امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته، فإن المعية توجب شيئين كون أحدهما مع الآخر فكما أخبر الله أنه مع هؤلاء امتنع علم بطلان قولهم " هو الآن على ما عليه كان " لا شيء معه. بل هو عين المخلوقات، وأيضاً فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة، فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه ولا يكون لهم وجود معه ولا حقيقة أصلاً بل هم هو. الوجه الثاني أن الله قال في كتابه (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً) وقال تعالى (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) وقال (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلهاً آخر، ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقاً، أو يقول أن معه عبداً مملوكاً أو مربوباً فقيراً، أو معه شيئاً موجوداً خلقه، كما قال: (لا إله إلا هو) ولم يقل لا موجود إلا هو، ولا هو إلا هو، ولا شيء معه إلا هو، بمعنى أنه نفس الموجودات وعينها. وهذا كما قال (إلهكم إله واحد) فأثبت وحدانيته في الألوهية ولم يقل أن الموجودات واحد فهذا التوحيد الذي في كتاب الله هو توحيد الألوهية وهو أن لا تجعل معه ولا تدعو معه إلهاً غيره، فأين هذا من أن يجعل نفس الوجود هو إياه، وأيضاً فنهيه أن يجعل معه أو يدعو معه إلهاً آخر دليل على أن ذلك ممكن كما فعله المشركون الذين دعوا مع الله آلهة أخرى. فهذه النصوص تدل على أن معه أشياء ليست بآلهة، ولا يجوز أن تجعل آلهة ولا تدعى آلهة، وأيضاً فعند الملحد يجوز أن يعبد كل شيء ويدعى كل شيء إذ لا يتصور أن يعبد غيره فإنه هو الأشياء، فيجوز للإنسان حينئذ أن يدعو كل شيء من الآلهة المعبودة من دون الله، وهو عند الملحد ما دعا معه إلهاً آخر فجعل نفس ما حرمه الله وجعله شركاً جعله توحيداً، والشرك عنده لا يتصور بحال. الوجه الثالث أن الله لما كان ولا شيء معه لم يكن معه سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جن ولا إنس ولا ذوات ولا شجر ولا جنة ولا نار ولا جبال ولا بحار. فإن كان الآن على ما عليه كان، فيجب أن لا يكون معه شيء من هذه الأعيان، وهذا مكابرة للعيان، وكفر بالقرآن والإيمان. الوجه الرابع أن الله كان ولا شيء معه ثم كتب في الذكر كل شيء كما جاء في الحديث الصحيح فإن كان لا شيء معه فيما بعد فما الفرق بين حال الكتابة وقبلها، وهو عين الكتابة واللوح عند الفراعنة الملاحدة؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فصل وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمناً وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) قالوا فإنما أدخل آله دونه وقوله (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه. وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون. فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون، ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع. أحدها قوله تعالى في القصص (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه أنهم كانوا قوماً فاسقين - إلى قوله - وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قوماً فاسقين، وأخبر أنهم (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) وأخبر أن فرعون (قال ما علمت لكم من إله غيري) وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذباً، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في أليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين. لهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور. وهذا إخبار عن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله (وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ. وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون يخرج منهم. وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم والقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه. أحدها أن لفظ آل فلان يدخل فيها ذلك الشخص مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته) ثم قال (فلما جاء آل لوط المرسلون قال) يعني لوكاً (إنكم قوم منكرون) وكذلك قوله (إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر) ثم قال بعد ذلك (ولقد جاء آل فرعون النذر، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) ومعلوم أن لوطاً داخل في آل لوط في هذه المواضع وكذلك فرعون داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم " وكذلك قوله " كما باركت على آل إبراهيم " فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن " إن الصدقة لا تحل لآل محمد ". وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان القوم إذا أتوا رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال " اللهم صل على آل أبي أوفى " وأبو أوفى هو صاحب الصدقة. ونظير هذا الاسم أهل البيت اسماً، فالرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت " وقوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وذلك لأن آل الرجل من يتولى أباه ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله وهو من يأهل أهل بيته. فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون ما سائر آل فرعون في البرزخ وفي القيامة، ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه. قال تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) إلى قوله (قال الذين استكبروا إنا كل فيها أن الله قد حكم بين العباد) فأخبر عقب قوله (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء (إنا كل فيها) ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه. الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس لورد المورود) إلى قوله (بئس الرفد المرفود) أخبر أنه يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار. ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخر النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادماً بل كان سائقاً. يوضح ذلك أنه قال (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعاً معلونون في الدنيا والآخرة. وما أخلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) وأيضاً فقد قال تعالى (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس) يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. وقال تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض - إلى قوله - سنة الله التي قد خلت في عباده) فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده، وهذا مطابق لما ذكر الله في قوله لفرعون (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعاً أو مقبولاً، فمن قال أنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلقت في عباده. يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولاً لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يك كافراً لم يستحق عذاباً. وقوله بعد هذا (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) فوجب أن يعتبر به من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمناً لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال " هذا فرعون هذه الأمة " فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى. فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمناً؟ ومعلوم أن من مات مؤمناً لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة " يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله، ومعنى التوجه في الدعاء إلى جهة العلو وبطلان ما قيل من أن العرش هو الفلك التاسع عند علماء الهيئة اليونانية تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخنا وسيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية أعاد الله تعالى من بركته آمين: ما تقول في العرش، هل هو كري أم لا؟ فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره؟ فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً بطلب العلو لا يلتفت يمينه ولا يساره، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها، وابسطوا لنا الجواب في ذلك. أجاب رضي الله تعالى عنه: الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذا بثلاث مقامات: أحدها أن لقائل أن يقول لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل لا بدليل شرعي ولا دليل عقلي، وإنما ذكر طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة وغيره من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة المشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله وذكر كرسيه وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن: أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أن ليس وراء ذلك التاسع شيء إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق، ثم أن منهم من رأى أن التاسع هو الذي يحرك الأفلاك كلها فجعلوه مبدأ الحوادث وزعموا أن الله تعالى يحدث فيه ما يقدره في الأرض أو يحدثه في النفس التي زعموا أنها متعلقة به، أو في العقل الذي زعموا أنه صدر عنهاااا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 هذا الفلك، وربما سماه بعضهم الروح، وربما جعل بعضهم ذلك النفس هو اللوح المحفوظ كما جعل العقل هو العلم، وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر والنفس المتعلقة به. وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون، إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها وبينا فسادها في غير هذا الموضع. ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة ويكون كاذباً فيما يدعيه، وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليداً لهم أو موافقة لهم على طرقهم الفاسدة، كما فعل أصحاب رسائل أخوان الصفا وأمثالهم. وقد ينتحل المرء في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفاً كما ينتحل النصر أبي التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفاً، وإنما يخيل لما اعتقده (1) وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفوسهم فتتمثل لهم اعتقاداتهم فيظنونها كشفاً، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن ما ذكروه من أن العرش هو الفلك التاسع قد يقال أنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي ولا شرعي، أما العقلي فإن أئمة الفلسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك ما ذكروه. وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه. مثال ذلك أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أفلاك مختلفة، حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك كفلك التدوير وغيره،   (1) لعل أصله: يخيل إليه ما اعتقده، وأن بعض النصارى يرون في المنام وفي حال تغلب الخيال عند أولى المزاج العصبي في اليقظة السيد المسيح أو السيدة مريم عليهما السلام أو غيرهما من الحواريين ومن دونهم ويسمعون منهم ما يوافق عقائدهم كما يقع لكثير من المسلمين فيغترون بهذه الخيالات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقه. وكذلك قول القائل أن حركة التاسع مبدأ الحوادث خطأ وضلال على أصولهم، فإنهم يقولون أن الثامن له حركة تخصه بما فيه من الثوابت، ولتلك الحركة قطبان غير قطبي التاسع، وكذلك السابع والسادس. وإذا كان لكل فلك حركة تخصه والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية، وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية، كانت حركة التاسع جزء السبب كحركته، فالأشكال الحادثة في الفلك كمقارنة الكوكب للكوكب في درجة واحدة ومقابلته له إذا كان بينهما نصف الفلك وهو مائة وثمانون درجة وتثليثه إذا كان بينهما ثلث الفلك مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما ربعه تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما ستون درجة - وأمثال ذلك من الأشكال - إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عن الأخرى، إذ حركة الثامن التي تخصه ليست عن حركة التاسع وإن كان تابعاً له في الحركة الكلية كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها. وكذلك حركة السابع التي تخصه ليست عن التاسع ولا عن الثامن، وكذلك سائر الأفلاك فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك، فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع كما زعمه من ظن أنه العرش؟ كيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء لا اختلاف فيه أصلاً، فكيف يكون سبباً لأمور مختلفة لا باعتبار القوابل وأسباب أخر، ولكن هم قوم ضالون يجعلونه مع هذا ثلثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى لا باختلاف القوابل، كمن يجيء إلى ماء واحد فيجعل لبعض أجزائه من الأثر ما يخالف الآخر لا بحسب القوابل بل يجعل أحد جزئيه مسخناً والآخر مبرداً، والآخر مسعداً، والآخر مشقياً، وهذا مما يعلمون هم وكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 عاقل أنه باطل وضلال، وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة كان يجزم (1) أن ما أخبرت به الرسل من العرش هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم. هذا كله على تقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة، إذ في ذلك من النزاع والاضطراب وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير أيضاً (2) فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس. وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع. وأما العرش فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض، قال الله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسحبون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتعبوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وقال تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسحبون ويستغفرون للمؤمنين، والمعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها في نفس الأمر ملائكة تحملها فحكمه حكم نظيره.   (1) لعل أصله: كان جزمه أو جزمهم بأن ما أخبرت الرسل إلخ (2) يعني الشيخ (رح) انه يبني ابطال قولهم على تقدير ثبوت الافلاك التسعة جدلا وهي غير ثابتة بدليل صحيح، ونقول إنه قد تبين بعده بما ارتقى إليه علم الهيئة الفلكية بالآلات الحديثة المقربة للابعاد بطلان القول بالافلاك التسعة التي تخيلها اليونان وتبعهم فيها علماء العرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 قال الله تعالى (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) فذكر هنا أن الملائكة تحف من حوله، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله، فقال (الذين يحملون العرش ومن حوله) وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض كما قال تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض " وفي رواية له " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء " وفي رواية لغيره صحيحة " كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ". وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " فهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى يتمدح بأنه ذو العرش المجيد كقوله سبحانه (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وقوله تعالى (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار) . وقال سبحانه (وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد) وقد قرئ المجيد بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفة للعرش وقال تعالى (قل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله قل أفلا تتقون) فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم. وقال تعالى (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) فوصفه بأنه كريم أيضاً، وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب " لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فوصفه في الحديث بأنه عظيم وكريم أيضاً. فيقول القائل المنازع: إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، فلو كان العرش من جنس الأفلاك لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء، وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء. وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر كما تمتاز السماء العليا على الدنيا بل نسبة السماء إلى الهواء ونسبة الهواء إلى الماء والأرض كنسبة فلك إلى فلك. ومع هذا فلا يخص واحد من هذه الأجناس عما يليه بالذكر ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة، وقد علم أنه ليس سبباً لذاتها ولا لحركاتها، بل لها حركات تخصها فلا يجوز أن يقال إن حركته هي سبب الحوادث، بل إن كانت حركة الأفلاك سبباً للحوادث فحركات غيره التي تخصه أكثر ولا يلزم من كونه محيطاً بها أن يكون أعظم من مجموعها، إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذا كان متقارباً مجموع الداخل أعظم من المحيط بل قد يكون بقدره أضعافاً، بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر لكن حركته تشملها كلها. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل---- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 عليها وكانت تسبح بالحصى إلى الضحى فقال " لقد قلت كلمة تعدل كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى الله نفسه، سبحان الله مداد كلماته" (1) فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل، بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به. وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك لطم وجهي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ادعوه " فقال " لم لطمت وجهه؟ " فقال يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، فقالت يا خبيث وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته " فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق والأفلاك متشابهة في هذا الباب. وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " اهتز   (1) لهذا الحديث في مسلم وكذا في السنن لفظان عن جويرية (رض) أحدهما أن النبي (ص) خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال"مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت نعم. قال النبي (ص) لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله بحمد، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته " واللفظ الآخر أنه قال " سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته " وليس في الرواية أنها كانت تسبح بالحصى ولعله قد ثبت عنها في رواية أخرى كما ثبت عن صفية (رض) والحديث ذكره أبو داود في باب التسبيح بالحصى ولكنه ذكر التسبيح بالحصى عن غيرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " قال فقال رجل لجابر أن البراء يقول اهتز السرير قال: إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن. سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال - وجنازة سعد موضوعة - " اهتز لها عرش الرحمن " وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على ما قال كما ذكر أبو الحسين الطبري وغيره أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ قال " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ". وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا سعيد، من رضي بالله وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل قال " وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال وما هي يا رسول الله قال " الجهاد في سبيل الله " وفي صحيح البخاري أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر - أصابه سهم غرب (1) ، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال " يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ".   (1) بفتح الراء وسكونها، أي لا يعرف راميه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها. والحديث الثاني يوافقه في وصف الدرج المائة، والثالث يوافقه في أن الفردوس أعلاها. وإذا كان العرش فوقه فلقائل أن يقول: إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لم يعلم بالهيئة، إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة، بل عندهم أن التاسع ملاصق للثامن. فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها. وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال " آية الكرسي " ثم قال يا أبا ذر " ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهما. وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا. فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال " ويحك، أتدري ما تقول؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه. شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وسماواته فوق أرضه، لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة. وفي لفظ " وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة (1) وهذا الحديث إن دل على   (1) لهذا الحديث بقية والفاظ مختلفة قال البيهقي بعد ايراده في الأسماء والصفات عن أبي داود: وهذا حديث ينفرد به محمد بن اسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به انما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن اسحاق في احاديث معدودة اظنهن خمسة قد رواهن غيره.وذكره البخاري في الشواهد ذكراً من غير رواية، وكان مالك بن انس لا يرضاه، ويحيى بن سعيد القطان لا يروي عنه، ويحيى بن معين يقول ليس هو بحجة، وأحمد بن حنبل يقول يكتب عنه هذه الاحاديث - يعني المغازي ونحوها - فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا - يريد أقوى منه - فاذا كان لا يحتج به في الحلال والحرام فأولى أن لا يحتج به في صفات الله سبحانه. وانما نقموا عليه في روايته عن أهل الكتاب ثم عن ضعفاء الناس وتدليسه اساميهم. فإذا روى عن ثقة وبين سماعه منه فجماعة من الأئمة لم يروا به باسا. وهو انما روى هذا الحديث عن يعقوب بن عتبة وبعضهم يقول عن عتبة وعن محمد بن جبير ولم يبين سماعه منهما. واختلف عليه في لفظه كما ترى اه فجملة القول أن هذا الحديث لا يصح ولعل الشيخ اورده استيفاء للروايات النافية لأقوال أهل الهيئة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 التقبب وكذلك قوله عن الفردوس " إنها أوسط الجنة وأعلاها " مع قوله " وإن سقفها عرش الرحمن " أو " إن فوقها عرش الرحمن " والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير، فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل أنه محيط بالأفلاك أو قال أنه فوقها. وليس يحيط بها، كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض مثل القبة. ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلوم لا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل، ولفظ الفلك يستدل به على الاستدارة مطلقاً، فقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وقوله تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) يقتضي أنها في فلك مستديرة مطلقاً كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في فلكة مثل فلكة المغزل. وأما لفظ القبة فإنه لا يعترض هذا المعنى لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 من العلو كالقبة الموضوعة على الأرض، وقد قال بعضهم أن الأفلاك غير السموات لكن رد عليه غيره هذا القول بأن الله تعالى قال (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) فأخبر أنه جعل القمر فيهن، وقد أخبر أنه في الفلك (1) . وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك وتحقيق الأمر فيه وبيان أن ما علم بالحساب علماً صحيحاً لا ينافي ما جاء به السمع وأن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولاً صحيحاً، إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع، فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس حيث يرون ما يقال أنه معلوم بالعقل مخالفاً لما يقال أنه معلوم بالسمع، وأوجب ذلك إن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه. حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك من نصر الشريعة وكان ما جحدوه معلوماً بالأدلة الشرعية أيضاً. وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات ولا يعملون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت (2) به ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير   (1) الذي يفهمه أهل اللغة من الفلك هنا أنه مدار الكواكب وعبارة القاموس مدار النجوم قال: ومن كل شيء مستداره ومعظمه، وهذا غير المراد من الفلك عند الهيئة اليونانية فهو عندهم جسم مستدير صلب شفاف لا يقبل الخرق والالتئام، وكل فلك من الأول إلى السابع فيه كوكب من الدراري السبع يدور فيه والثامن للنجوم الثابتة كلها والتاسع أطلس ليس فيه شيء (2) يعنون بهذا الصوت الرعد، وهو قول باطل لم يجدوا ما يعللون به صوت الرعد غيره.وأما علماء الكون في هذا العصر فقد ثبت عندهم أن البرق والرعد يحدثان من اشتعال الكهربائية بالتقاء الايجابي منها والسلبي، وبهذا الاشتعال يحدث تفريغ في الهواء يكون له صوت بقدره كما يحدث باطلاق المدفع وهو صوت الرعد والصواعق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 في الرحم (جنيناً) لكن ما الموجب للمني المتشابه الأجزاء أن يخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب وكذلك ما الموجب لأن يكون الهواء أو البخار ينعقد سحاباً مقدراً بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان يختص به وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا. وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر أو تمطر مطراً لا يغنيها كأرض مصر أو كان المطر القليل لا يكفيها والكثير يهدم أبنيتها (1) قال تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) . وكذلك السحاب المتحرك وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية، وإنما تكون إذا خرج المطبوع من مركزه فيطلب عوده إليه أو إرادته وهي الأصل، فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى التي هي المدبرات أمراً والمقسمات أمراً، وغير ذلك مما أخبر الله تعالى به عن الملائكة. وفي المعقول ما يصدق ذلك. فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا. والمقصود هنا أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير فيكون الكلام في الجواب مبنياً على حجج علمية لا تقليدية ولا مسلمة، وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير كما سنوضحه لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع وأن كنا نعلم ذلك، لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا، فإن الجواب إذا كان حاصلاً على كل تقدير كان أحسن وأوجز.   (1) أن كون نزول المطر في كل أرض بقدر حاجة أهلها لا يزيد ولا ينقص غير مسلم والمعلوم بالمشاهدة خلافه فكثيراً ما يزيد فيحدث ضررا عظيما. أو ينقص فتهلك الزروع وتقل الغلال وتحدث المجاعات وقد علم البشر من سنن الله في ذلك في عصرنا أكثر مما كان يعلم من قبلهم ولا يزالون يجهلون منها أضعاف ما عملوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 المقام الثاني أن يقال: العرش سواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسماً محيطاً بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيطاً به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما قال تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ " وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ " وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال " يأخذ الله سماوته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار سماواته وأرضه - وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها - ويقول أنا الرحمن، أنا الملك، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً، أنا الذي أعدنها أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني لأقول أساقط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضاً، وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على المنبر (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية، قال " مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة " وفي لفظ " يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بها هكذا كما يقول الصبان بالكرة، أنا الله الواحد " وقال ابن عباس " يقبض عليهما فما يرى طرفاهما بيده " وفي لفظ عنه " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بيد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يهودي، فقال: يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر (1) ثم قال (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) إلى آخر الآية. ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن يكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. (2)   (1) قوله تصديقا لقول الحبر قال بعض شراح الصحيحين أن هذه زيادة من الراوي قالها بحسب فهمه، وهي ليست في كل الروايات وانكروا أن يكون (ص) صدق اليهودي بل قالوا أنه أراد الانكار عليه وتلا الآية الدالة على ذلك. وخالفهم آخرون فراجع الأقوال في شرح الحديث من كتاب التوحيد في فتح الباري (2) دحا الكرة يدحوها دحرجها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الإمام - نظير مالك - في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خلفها (1) قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى البر من نفسه فصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يمثل له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحدوا الله أفضل كرامته التي أكرم الله أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته له إياهم (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون - إلى أن قال - وإنما جحدوا رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحداً. وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تضارن (2) في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا لا، قال " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا له، قال " فإنكم ترون ربكم كذلك " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض ".   (1) أي من جاء بعد الجهمية ممن يقول قولهم (2) يروي بتشديد الراء وتخفيفها. فالتشديد بمعنى لا تتخالفون ولا تتجادلون في صحة النظر إليه لوضوحه وظهوره. وقال الجوهري: أراد بالمضارة الاجتماع والازدحام عند النظر إليه وأما التخفيف فهو من الضير وهو لغة في الضر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وقال لثابت بن قيس " قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " وقال فيما بلغنا عنه " إن الله يضحك من أز لكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم " (1) وقال له رجل من العرب: إن ربنا يضحك؟ قال " نعم " قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. وفي أشباه لهذا مما لم نحصه. وقال تعالى (وهو السميع البصير، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) وقال (ولتصنع على عيني) وقال (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقال (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) فو الله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته الأصغر نظيرها منهم عندهم أن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم. فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ما سواه لا هذا ولا هذا، لا تجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. انتهى. وإذا كان كذلك فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة فهذا قبضه لها ورميه بها. وإنما بين لنا من عظمته وصغر المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا. ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها. ومن المعلوم أن الواحد من - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل حولها تحته فهو في الحالتين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أو قيل   (1) قال في النهاية: هكذا يروي في بعض الطرق. والمعروف " من إلكم" والأول والازل بالفتح الشدة والضيق كأنه أراد من شدة يأسكم وقنوطكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 أنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت. وتمام هذا ببيان (المقام الثالث) وهو أن يقول لا يخلو إما أن يكون العرش كرياً كالأفلاك ويكون محيطاً بها، وأما أن يكون فوقها وليس هو كرياً، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو المحدب، وأن الجهة السفلى هي المركز (1) وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط. وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ستة جوانب يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا. لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض   (1) أي لمركز الوسط من الداخل وهو المقعر الذي تكون جوانب المحيط بالنسبة إليه متساوية إذا كان المحيط متساويا كمحيط الفلك عندهم لانه كرة تامة وأما الأرض فهي كرة غير تامة لان في محيطها تسطيحا وانبطاحا من جانبي قطبيها الشمالي والجنوبي فمركزها أقرب إليهما منه إلى سطح الاقاليم الاستوائية وناهيك بما فيها من الجبال، ولكن المركز هو جهة السفل لها من كل جانب والسطح محيطها وهو من جهة العلو من كل جانب، وأما جهة العلو لمن على سطحها كالانسان فهو ما فوق رأسه من السماء أينما كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية. فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات لا يقال أنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة يمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه على السماء، وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته. (1)   (1) كل ما قاله شيخ الإسلام في الأرض فهو مبني على كونها كرة كما جزم به علماء الهيئة المتقدمون والمتأخرون ومن اطلع على هذا العلم وفهمه من علماء الإسلام الأعلام. وهذه مسألة قطعية لا ظنية، وصرح بها ابن القيم من علماء الحديث بالتبع لاستاذه المؤلف وللإمام ابن حزم واقتناعا بأدلتها ويدل عليه قوله تعالى (يكور الليل على النهار) الآية فان التكوير هو اللف على الجسم الكري المستدير كتكوير العمامة على الرأس، وكذا قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) فان الدحو في أصل اللغة دحرجة الكرة وما في معناها. ولا يعارضه قوله تعالى (وإذا الأرض سطحت) كما توهم الجلال وغيره لأن وجه الكرة سطح لها والسطح في اللغة أعم منه في عرف أهل الهندسة وكذلك الخط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول أن الأفلاك مستديرة، واستدارة الأفلاك كما أنه قول أهل الهيئة والحساب فهو الذي عليه علماء المسلمين كما ذكره أبو الحسين بن المنادى وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل، والفلك في اللغة هو المستدير (1) ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار. وكل من جعل الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز في كل جانب. ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحيته يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم. وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقاً فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهته الباقية أصلاً. ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلاً باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه، وغاية   (1) هذا معناه العام. وأما معناه الخاص بالكواكب فهو مدار الكوكب كما تقدم في حاشية (ص 116) وهو مستدير على كل حال سواء كان كما قال المتقدمون من اليونان والعرب أم كان فضاء فما نقله شيخ الإسلام من اتفاق علماء المسلمين على استدارة الافلاك صحيح على كل حال فان الكواكب كلها مستديرة كرية الشكل وافلاكها التي تدور فيها كذلك، والعالم كله كري الشكل، وكل جرم من أجرامه يسبح دائراً في فلك له مستدير بنظام حسابي مطرد كما قال تعالى (الشمس والقمر بحسبان) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ما يقدر أن يكون كري الشكل والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله (1) فإن السموات السبع في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. وأما قول القائل: إذا كان كرياً والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً بطلب العلو، لا نلتفت يمنة ولا يسرة فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها؟ فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقاً، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فرق الأرض مطلقاً، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقينا جميعاً في المركز (2) ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت الآخر بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلاً بالمشرق   (1) أما دليل احاطته فقوله عز وجل (والله من ورائهم محيط) وأما قوله: احاطه تليق بجلاله فلنفي التشبيه باحاطة الاجسام بعضها ببعض، على قاعدة السلف التي قررها شيخ الإسلام مرراً وهي الإيمان بالنصوص من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل (2) هذا متفق عليه بين المتقدمين والمتأخرين من علماء الفلك ويعللون به جاذبية الثقل فهي تختلف بمدى بعد المحيط عن المركز وهو يختلف في المنطقة الاستوائية عن منطقتي كما اشرنا إليه في حاشية (ص 122) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 في السماء أو الأرض، ورجلاً بالمغرب في السماء أو الأرض لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جنبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه الآخر إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره. لوجهين: أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق كان صعوده مما يلي رأسه إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل أن يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا أنه يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد، لأن أي مكان ذهب إليه كان بمنزله مكانه أو هو دونه، وكان الفلك هناك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلاً وتعباً من غيره فائدة، ولو أن رجلاً أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بما هو فوق كل شيء دائماً لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟ وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب؟ ويعدل إلى طريق منحرف طويل؟ والله فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها. الوجه الثاني أنه إذا قصد السفل بلا علو كان منتهى قصده المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها، ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو كان هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 بمنزلة من يقول، أريد أن أحج من الغرب فأذهب إلى خراسان (1) ثم أذهب إلى مكة، بل بمنزلة من يقول أصعد إلى الأفلاك فأنزل في الأرض لأصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكناً في المقدار، لكنه يستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه. وإذا توجه إليه على غير السراط المستقيم كان مسيره منكوساً معكوساً. وأيضاً فإن هذا الجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر منه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى، وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعاً بين قصدين متناقضين، فلا يكون قصده له تاماً، إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة، فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبة تامة ويقصده أو يحب غيره مما يحب - سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة - ومتى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه (2) بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة مثل أن يحب ما يكره محبته في الدين فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده وعقله   (1) أي من الشام - حيث كان المؤلف - إلى خرسان، ومعلوم أن مكة في الجهة الجنوبية للشام وخراسان في الجهة الشرقية فالذهاب من الشام غربا إلى خراسان في الشرق ثم إلى مكة ممكن لان الأرض كرة ولكن هذا عمل لا يعمله من لا يريد بطواف أكثر محيط الأرض إلا مكة للحج إلا أن يكون مجنوناً، وإنما يفعله العاقل إذا كانت الرحلة إلى هذه الاقطار مقصودة لذاتها (2) قوله طلبه من أقرب طريق إلخ جواب إذا ومتى أي إذا كان يجب ما ذكر ومتى كانت محبته له تامة وطلبه بمقتضاها طلبه من أقرب طريق، وفيه ما ترى من التعقيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ينهاه عن ذلك فتراه يقصده من بعيد، كما يقول العامة: رجل إلى قدام، ورجل إلى خلف (1) وكذلك إذا كان في دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من المقصودات التي تحب في الدين، وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصداً لذلك من طريق بعيد: متباطئاً في السير، وهذا كله معلوم بالفطرة. وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك. فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها وينال به مقصوده إذا كان القصد تاماً، ولو كان رجلاً في مكان عال، وآخر يناديه لتوجه إليه وناداه ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكناً، لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد نحوه. وحديث الأدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع، فإن كان ثابتاً فمعناه موافق لهذا (2) فإن قوله " لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله " إنما هو تقدير مفروض: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئاً لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى   (1) مأخوذ من المثل العربي: مالي أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى (2) أن شيخ الإسلام يعلم أن الحديث غير ثابت وتقوية الضعيف للضعيف لا يعتد بها في ثبوت حكم شرعي فعدم الاعتداد بها في صفات الله أولى ولا سيما هذه المتشابهات. ولكنه يجيب عن الاشكال فيه بفرض وقوعه وعبر عنه بقوله إن كان ثابتا لان الأصل في شرط "إن " عدم الوقوع لامتناعه أو لتنزيله منزلة الممتنع كما حققناه في تفسير (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) من جزء التفسير الأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 الجهة الأخرى لكن بتقدير فرض الإدلاء، لا يكون ما ذكر من الجزاء. فهكذا ما ذكره السائل إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة كان هو سبحانه يسمع كلامه، وإن كان متوجهاً إليه بقلبه، لكن هذا ما يمتنع من الفطرة لأن قصده للشيء التام ينافي قصد ضده. فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى، فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل، فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من تلك الناحية، وصعد به إلى الله. وإنما يسمى هبوطاً باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطاً ويسمى هبوطاً مع تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقياً إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدخلاً للحبل والدلو لا إدلاء له (1) . لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: لو أدلى لهبط، أي لو فرض أن هناك هبوطاً وهو يكون إدلاء وهبوطاً إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب. وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء   (1) كذا في الأصل والمدح ولا يظهر معناه هنا والذي يقتضيه المقام أن يقال إن ما يمد أو يدفع من مركز الكرة إلى أي جانب من المحيط يكون مده أو دفعه رفعا وإعلاء له لاادالاء لأن المركز هو الاسفل والمحيط هو الأعلى كما تقدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاء فلا يكون في حقه هبوطاً عليه، كما لو خرق بحبل من القطب أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير بين أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، ومن جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض. فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز وتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض. فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه لا إدلاء وهبوطاً. وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط (1) فإذا قدر أن أحد أدلى بحبل كان هباطاً على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا. والمقصود به بيان إحاطة الخالق تعالى كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث (وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) . وهذا كله كلام على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل وهو أنه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك. والتحقيق أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتاً، فإن قوله " لو   (1) قوله نتخيل أنه هابط - انما سمي هذا تخيلا لأن الجهات الست المذكورة أمور نسبية لا حقيقة ثابتة في نفسها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 دلي بحبل لهبط " يدل على أنه (1) ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك. وإنما يقتضي أنه من تلك الناحية. وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية. بل تقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة (2) فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمة دليله مشكوكاً فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لا يعلم. وإذا تبين هذا، فكذلك قصده بقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه قاصدين له على هذا التقدير لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان. ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب؟ بينا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة بل يكون هماً " ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه فإن تركها لله كتب له حسنة " ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز كما قال الإمام أحمد: " الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار، فيوسف عليه السلام هم هماً تركه لله   (1) الضمير راجع إلى الله تعالى يعني أنه لو كان تعالى في هذه الأشياء أو لو كان عينها لما صح التعبير الذي بني على أن هنالك حبلا ودلوا وانسانا مدليا للدلو المعلق بالحبل وأن غاية فعله وصول الحبل إلى الله الذي هو غير ما ذكر (2) قوله بالكتاب والسنة متعلق بعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها وإن لم يحصل لها المطلوب ". والذين قالوا يعاقب بالإرادة احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " إنه أراد قتل صاحبه " وفي لفظ " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " فهذا أراد إرادة جازمة وفعل ما يقدر عليه وإن لم يدرك مطلوبه، فهو بمنزله امرأة العزيز، فمتى كان القصد جازماً لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه في حصول المقصود، وإذا كان قادراً على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس بعيد. ولهذا امتنع في فطر العباد عند ضرورتهم ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له أن يتوجهوا إليه إلا توجهاً مستقيماً، فيتوجهون إلى العلو دون سائر الجهات، لأنه الصراط المستقيم القريب، وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه، فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد والسائر المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه، فهذا هذا والله أعلم. وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديل الفطرة وتغييرها. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه " كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء " أي مجتمع الخلق سوية الأطراف ليس فيها نقص كجدع وغيره " هل ترون فيها من نقص؟ هل تحسون فيها من جدعاء ". وقال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . فجاءت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة، بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعاً، وخالفوا العقل والنقل، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله " وفي رواية أنه أذن أن يبصق في ثوبه. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه " فقال له أبو رزين: كيف يسمعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال " سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلهم يراه مخلياً به، فالله أكبر " ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه إذا قدر أن يخاطبه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه. ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له وإن كان كل ذلك ممكناً، وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته كما يفعل من ليس مقصوده الخطاب، فإما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه، فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل، كما إذا قدر أنه يخاطب القمر. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال " لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم " واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة، لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع - وهو الذل والسكون - لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله، بل يناسب حاله الإطراق وغض البصر أمامه. وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على أهل الإثبات الذي يقولون أنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر فالجميع سواء. ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء. وأيضاً فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد. وقد قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فليس العبد بمنهي عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى (خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث) وقال تعالى (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) . وأيضاً فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات. ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له، ولا مبين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقض قولهم، وهم يقولون أن ظاهر ذلك كفر فنؤول أو نفوض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره كفر، وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء. والسلب الذي يزعمون أنه الحق الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم، لم ينطق به رسول ولا نبي ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين، والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق بل هو مخالف للحق في الظاهر، بل حذاقهم يعلمون (1) أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن، لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن فلبسوا أو كذبوا لمصلحة العامة. فيقال لهم: فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء والفضلاء إن كان ما تزعمونه حقاً؟ وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضاً وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم كما يقال عن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. وهذا مختلق باتفاق أهل العلم، وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته أن عندهم علماً باطناً يختلف عن الظاهر الذي عند جمهور الأمة. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لم يكن عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ليس عند الناس، ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة، وفيها الديات وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر (2) . ثم أنه من المعلوم أن من جعله الله هادياً مبلغاً بلسان عربي مبين إذا كان   (1) لعلي أصل هذه الكلمة يعتقدون لانه ليس للجهمية علم بذلك بل ظن ولدته نظرياتهم الباطلة التي بين الشيخ بطلانها في عدة مواضع من كتبه (2) وتحريم المدينة كمكة. وهذه الصحيفة كتب بها هذه المسائل التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وكانت في سيفه وقد ذكر البخاري حديثه في عدة من كتبه أولها كتاب العلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 إلا يتكلم أبداً قط بما يخالف الحق الباطن الحقيقي فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان، وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا. والمقصود أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضاً وهو موافق لفطرة الخلائق وما جعل فيهم من العقول الصريحة، وليس العقل الصحيح ولا الفطرة المستقيمة بمعارضة النقل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يظن تعارضهما من صدق بباطل من المنقول وفهم منه ما لم يدل عليه، أو إذا اعتقد شيئاً ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من المكشوفات وهو من المكسوفات، إذا كان ذلك معارضاً لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون كذباً عليه، أو ما يظنه لفظاً دالاً على معنى ولا يكون دالاً عليه، كما ذكروه في قوله صلى الله عليه وسلم " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحة وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " حيث ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا غلط من هم لو كان هذا اللفظ ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال هو " يمين الله في الأرض " فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقة. وقوله " فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحاً الله ولا مقبلاً ليمينه لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله " فكأنما " وهو صريحة في التشبيه. وإذا كان اللفظ صريحاً في أنه جعله بمنزله اليمين لا أنه نفس اليمين، كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين، قائلاً للكذب المبين. فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع. وقد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش بهذا التقدير إنما يقصد إلى العلو لا يجوز في الفطرة ولا في الشريعة مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست، بل هو أيضاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من المثل بالقمر ولله المثل الأعلى وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر وهو آية من آيات الله فالخالق أعلى وأعظم. وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه، وإنه فوق الأفلاك الكرية كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرض فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات. فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها فهو على التقديرين يكون فوقها مبايناً لها. فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وهذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة. وإنما تنشأ الشبهة من اعتقادين فاسدين (أحدهما) أن يظن أن العرش إذا كان كرياً والله فوقه وجب أن يكون الله كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات. وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال فإن الله تعالى مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري سواء كان هو التاسع أو غيره لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها (سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً) . بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك وأنها أصغر عنده من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان، ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته، هل يكون الإنسان كالفلك؟ فالله - وله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره (والأرض جميعاً ---- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) . وكذلك اعتقادهم الثاني وهو أن ما كان فلكاً فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست الخطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان. فقد تبين أن كل واحدة من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات، سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، وسواء كان محيطاً بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كرياً، وسواء كان الخالق سبحانه محيطاً بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا دون الجهة الأخرى. فعلى أي تقدير فرض به كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره كما فطرنا على ذلك، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله سبحانه وتعالى أعلم. تم كتاب العرش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 فهرس رسالة حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود نص السؤال عن حقيقة مذهب الاتحاديين 2 فصل في بيان أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده 4 " " أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله 5 المقالة الأولى مذهب ابن عربي – وله أصلان أولهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم 6 الأصل الثاني لمذهب ابن عربي أن وجود الاعيان نفس وجود الحق وعينه 17 فصل فيما خالفه فيه صاحبه الصدر الرومي وكونه أعلم منه بالكلام وأقل علماً بالاسلام 18 " وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود 23 " واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد قبل هؤلاء 24 مذهب هؤلاء الاتحادية والرد عليها من وجوه يعلم بها أنهم ليسو مسلمين 26 الوجه الأول أن هذه الحقائق الكونية يمتنع أن تكون عين الحق 27 الوجه الثاني في قولهم أنه تجلى لها وظهر بها فلا تقع العين إلا عليه 29 الوجه الثالث والرابع في كلمة أنا وحقيقة النبوة والروح الاضافي 30 " الخامس في قولهم أن لهذه الحقيقة طرفين طرف إلى الحق وطرف إلى الخلق 31 " السادس في حيرتهم وتناقضهم فيها كالنصارى في الأقانيم 32 " السابع قوله أن العلويات جفنها الفوقاني والسفليات جفنها التحتاني 36 الوجوه:8و9و10 في بطلان هذا التشبيه وأخذهم مسألة النفس الكلية عن الفلاسفة 37 الوجوه 11 في زعمهم أن قولهم هو الحق المتبع وكونه لم يقل به أحد قبلهم 38 وأما ماحكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق من أن العالم بمجموعه حدقة عين الله 39 فصل في بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه مع بطلانها والرد عليها 46 أدعاؤه مرتبة خاتم الأولياء التي فضلها على مرتبة الأنبياء من بعض الوجوه 63 فصل في بعض ما يظهر به كفرهم 77 " ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية حديث " كان الله ولا شيء معه " وهو موضوع بهذا اللفظ الذي يستدلون به على كفرهم 93 " في قولهم بايمان فرعون وتحريفهم ماورد في كفره من الآيات الصريحة 98 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 فهرس كتاب عرش الرحمن استفتاء شيخ الإسلام في العرش وما قيل من كونه هو الفلك التاسع عند أهل الهيئة، وكيف يتفق ذلك مع صفة العلو لله تعالى والاستواء على العرش وما اتفقت عليه الملة من أن السماء هي قبلة الدعاء وان الله تعالى لا يتوجه اليه إلا في جهة العلو (جواب شيخ الإسلام وهو في ثلاثة مقامات) 104 المقام الأول أنه لم يثبت أن العرش هو الفلك التاسع، وأن الحوادث ناشئة عن حركة الأفلاك 109 الأحاديث في صفة العرش المنافية لذلك كزنته واهتزازه وقوائمه 112 تشبيه العرش بالقبة لا يفيد كونه فلكا 114 ما جهل البشر من سنن الكون وعلومه أكثر مما يعلمون 116 المقام الثاني، العالم العلوي والسفلي في غاية الصغر بالنسبة إلى الخالق تعالى 120 المقام الثالث في الكلام على العرش وكريته وإحاطته 121 كرية الأرض قطعية لا ظنية أسفلها مركزها وأعلاها سطحها 123 كون أعلى الفلك وكل جسم كري محيطه وأسفله مركزه وغلط من توهم أن نصف الفلك تحت الأرض 126 حديث " لو أدلى أحدكم بحبل إلخ "ومعناه على فرض صحته 131 اقتضاء الفطرة ما تأمر به الشريعة من توجه الداعي لله إلى العلو 132 مخالفة الجهمية للفطرة والشرع في انكار علو الله عز وجل 134 موافقة ما جاءت به الرسل للعقل الصحيح من التوجه إلى الله تعالى في جهة العلو بغير تشبيه ولا تمثيل ولا حصر 135 ضلال من يشبه الله تعالى من خلقه في علو واحاطته بخلقه وغير ذلك من صفاته في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 الجزء الخامس من قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ومنافعها ومضارها علق عليه: السيد محمد رشيد رضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه. الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره - ويسمونها: الآيات - لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة. فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم والقدرة، والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغنى، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم أني ملك، أن أتبع إلا ما يوحى إلي) وكذلك قال نوح عليه السلام. فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض. وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، كلاهما يتبرأ من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 وهذا لأنهم يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم تارة بعلم الغيب كقوله (ويقولن متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ويسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل إنما علمها عند ربي) وتارة بالتأثير كقوله (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا - إلى قوله - قل سبحان ربي، هل كنت إلا بشراً رسولا؟) وتارة يعيبون عليه الحاجة والبشرية، كقوله (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها؟) فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحي إليه، واتباع ما أوحي إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علماً وعملاً بالباطن والظاهر. وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغني عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس. فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفاً ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفاً ومكاشفة، أي كشف له عنه. وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقاً ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثر له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه كقوله (1) " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة - وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث   (1) أي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 المجرد (1) " ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك. وكذلك ما كان من باب العلم والكشف قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المبشرات " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم شهداء الله في الأرض ". وكل واحد من الكشف والتأثير قد يكون قائماً به وقد لا يكون قائماً به بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن اسباط " ما صدق الله عبد إلا صنع له " وقال أحمد بن حنبل " لو وضع الصدق على جرح لبرأ " لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضاً، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك. وقد جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع أنواع المعجزات والخوارق. أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم. ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعمله الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه. فأخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب العلم الخارق، وكذلك أخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته وزوال مملكة فارس والروم، وقتلا الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب دلائل النبوة وسيرة الرسول وفضائله وكتب التفسير والحديث والمغازي، مثل دلائل النبوة   (1) كذا في الأصل بالجيم، ولعلها (المحرد، أو المحرب) بالحاء المهملة مع الدال أو مع الباء والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 لأبي نعيم والبيهقي وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري وغير ذلك مما هو مذكور أيضاً في كتب أهل الكلام والجدل كأعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردي، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جداً. وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين، وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى كالتوراة والإنجيل والزبور وكتاب شعيا وحبقوق ودانيال وأرميا. وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان، وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم. وأما القدرة والتأثير فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أو مركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن. والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليا الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجره - إن صح الحديث - فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفاً كأبي الفرج بن الجوزي، وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السماوات. وأما الجو فاستسقاؤه واستصحاؤه غير مرة، كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما، وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وأما الأرض والماء فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة. وأما المركبات فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة. وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل. وكذلك من باب القدرة عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها. وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم فمثل قول عمر في قصة سارية، وأخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وأخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً. وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام، والقدرة مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب. وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها. فإن تعداد هذا مثل المطر. وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه. فصل الخارق كشفاً كان أو تأثيراً إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب وإما مستحب. وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن عوراء، لكن قد يكون صاحبها معذوراً لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أو علم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة فيكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 من جنس برح العابد، والنهي قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهياً عنه اعتداء عليه. وقد قال تعالى (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين) ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفاً أو تأثيراً (والثاني) أن يدعو على غيره بما لا يستحقه، أو يدعو للظالم بالإعانة ويعينه بهمته، كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال. فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة بحيث يعذرون والناقصين نقصاً لا يلامون عليه كانوا برحية (1) . وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه، وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه فإما أن يكون معذوراً معفواً عنه كبرح أو يكون متعمداً للكذب كبلعام. فتخلص أن الخارق ثلاثة أقسام: محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين. فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لا منفعة فيها كاللعب والعبث. قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك منجلية على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبداً نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم   (1) نسبة إلى الراهب المتقدم ذكره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً. والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفنناً، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغني بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقيناً، فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعداداً وأهلية من الأول، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا يقنص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة. فتعلم هذا لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية. فصل كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية. فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر " وقال سبحانه (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) وقال تعالى (وتمت كلمات (1) ربك صدقاً وعدلاً) والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية. والنوع الثاني الكلمات الدينية وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر   (1) وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف هكذا (كلمت) وقرئت بالافراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عموماً وخصوصاً من الأول العلم بالكونيات والتأثير فيها. أي بموجبها. فالأولى قدرية كونية، والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء، وجلوسه على الناس، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله. والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات. وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله. بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأموراً به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصاً مذموماً إما أن يجعله مستحقاً للعقاب، وإما أن يجعله محروماً من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وأما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلاً في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم. إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة بالدين فقط، أو بالكون فقط. فالأول كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً) فإن السلطان النصير يجمع الحجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية والقدرية الكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنهما حجة على النبوة من الله وهي قدرة. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوته ومجيئه من الخوارق للعادات. فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة. وأما القسم الثاني فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبراً وأمراً ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة، وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك. وأما الثالث فمن يجتمع له الأمران، بأن يؤتى من الكشف والتأثير الكوني، ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي. وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتى من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين. فهذا القسم الثالث هو مقتضى (إياك نعبد وإياك نستعين) إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطناً وظاهراً، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحجة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 آمنوا إيماناً، فكانت فائدتها اتباع دين الله علماً وعملاً كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على المسلمين فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة. وأما القسم الأول وهو المتعلق بالدين فقط فقد يكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة والتابعين وصالحي المسلمين وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لا بد أن يكون لهم شخصاً أو نوعاً بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصاً، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصاً وقد لا يكون نقصاً، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصاً وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصاً عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصاً لثواب لم يكن ذلك نقصاً، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافى أو يجيء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه. وأما القسم الثاني وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصاً، وتارة لا له ولا عليه، وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبياً، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالماً من شر الناس، وقد يكون ملكاً عادلاً فيكون من أوساط الناس فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جثمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء. وذلك من وجوه: (أحدها) أن علم الدين طلباً وخبراً لا ينال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسول وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم. الثاني أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأحباؤه وأولياؤه ولا يأمر به إلا هم. وأما التأثير الكوني فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر، تأثيره في نفسه وفي غيره كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصاً بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون. الثالث أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) . الرابع أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة والاجتماع بالجن لغير فائدة والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله وهو تحت القدرة والسلطان في الكون مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالباً بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 أخرى. وأما الآخر أيضاً فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين، والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثراً ضعيفاً. فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية. قلت: نعم لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس. وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول، أولاً: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلاً وديناً، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوم ممن لا عقل له ولا دين. ثم نقول ثانياً: لو كان صاحب الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكاً من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة. الخامس أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير. وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها، كما يفعله مولهو الأحمدية - فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقي نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين - فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله ديناً يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان (1) للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء. ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقواماً ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا، ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى. السادس أن الدين علماً وعملاً إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) وقال تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) وقال تعالى   (1) أي خادم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً، ولهديناهم صراطاً مستقيماً) وقال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ قوله تعالى - إن في ذلك لآيات للمتوسمين " رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد. وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعاً وبصراً، وبه يعمل بطشاً وسعياً، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار. وهذا باب واسع. وأما الخوارق فقد تكون مع الدين وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه. السابع أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبيبة إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعي من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها. ولما فيها من دفع المضار عن الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته. ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة؟ هذا نتكلم عليه. وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم " ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " أخرجاه في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء. ولهذا يجد كثيراً من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى القال، ونبينا صلى الله عليه وسلم صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان. ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة (إياك نستعين) والدين في مرتبة (إياك نعبد) فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا أو معبد صاحبه عن الله تعالى. فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفاً من النار أو طلباً للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا ولعله اجتهاداً عظيماً في مثله وهذا عرف، ولكن منهم من يكون قصده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهاناً على صحة دينه، كما تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك. ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله. فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق ما لا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة. فصل العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومناماً كما كتبه في الجهاد. أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية وأمور طلبية عملية. فالأول كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك. وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلاماً. ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 والثاني الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارج والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علماً واعتقاداً أو خبراً صادقاً أو كاذباً يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأموراً به أو منهياً عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمناً يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافراً يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني. وقد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول، مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا يثبت إلا بعد تلك المسائل فإثباتها بالسمع (1) حتى يزعم كثيرة من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستو على العرش. وبزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.   (1) بياض في الأصل لعل الساقط: متوقف على اثبات السمع بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين. ويزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني. وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها. فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعاً كثيراً. وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء، من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها. فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفياً وإثباتاً، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض وهم أكثر خلق الله تناقضاً واختلافاً، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعياً. وطائفة ممن تدعي السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب. وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوي، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفاً وهي خيالات غير مطابقة، وأوهام غير صادقة (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) فنقول: أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي – بإجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 المسلمين: الكتاب، لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الإعتقادية. والثاني السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القرآن بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها، وصفة الحج والعمرة وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة. وأما السنة المتواترة التي لا تفر ظاهر القرآن، أو يقال تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجك الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضاً إلا الخوارج، فإن من قولهم - أو قول بعضهم - مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. ويحكي عنهم أنهم لا يتبعونه صلى الله عليه وسلم إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأولهم " لقد خبت وخسرت إن لم أعدل " فأجوز جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وجيه، فقد اتبع ظالماً كاذباً وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟ " أو كما قال، يقول صلى الله عليه وسلم إن أداء الأمانة في الوحي. أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسميه. وقد ينكر هؤلاء كثيراً من السنن طعناً في النقل لا رداً للمنقول كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك. الطريق الثالث السنن المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما متلقاة بالقبول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 من أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضاً مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام، وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم، فلم يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيراً منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضاً، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه. الطريق الرابع الإجماع وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك. الطريق الخامس القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضاً عند جماهير الفقهاء، لكن كثيراً من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأساً، وهي مسئلة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقض. الطريق السادس الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجباً لنصب الشرع عليه دليلاً شرعياً، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له. وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وما توجب الشرعية نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه انتفاء أمور من هذا هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم، ولعلمهم بما بنفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها؛ فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. الطريق السابع المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين. وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي. وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المهدية كلاماً بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً بناء علىأن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه. وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصاً ولا قياساً. والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله. وهي تشبه من بعض الوجوه مسئلة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك، فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسناً كما أن الاستقباح رؤيته قبيحاً، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق. والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيراً ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعاً وحقاً وصواباً ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد (ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً. فإذا كان الإنسان يرى حسناً ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب. وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً. فإن باب جحود الحق ومعاندته من باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون ما يعلمون أنه ظلم، وقد يعتقدون أنه ليس بظلم وهو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى (وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولا) فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه، وهذا في قوة عمله. واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول، وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول هذا جائز أو حسن، بناء على ما رآه، وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعاً في مثل السماع المحدث: سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته، وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن. وهذا يقول جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة، وهو نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول يجوز ويجب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 اعتقادها وإدخالها في الدين إذ كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاء وغير ذلك. واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم - فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال. وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن. ومنه قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى) وقوله (الذي أحسن كل شيء خلقه) كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب - فهذا أيضاً قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة. وأنه هل باب التحسين واحد في الخالق والمخلوق؟ فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود (الأول) متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي (الثاني) متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع، والباطل بإزاء ما لا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله وهو غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب حصول النعيم وزوال العذاب، وحصول الخير وزوال الشر، ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتاً دائماً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وقد يكون منقطعاً لا سيما إذا كان زمناً يسيراً فيستعمل الباطل كثيراً بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود، كما يقال الموت حق والحياة باطل وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصاً أو راجحاً كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أو الراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضرراً ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال، فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل، ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملاً على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب) الآية. أخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له، وكذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) وكذلك الإحباط في مثل قوله (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) ولهذا تسميه الفقهاء العقود. والعبادات بعضها صحيح وبعضها باطل وهو ما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه، ومن هذا قوله (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) الآية وقوله (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) وقوله (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقاً كما أن الأعمال ليست نافعة. وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة كقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع " فيعود الحق فيما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 يتعلق بالإنسان إلى ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها - إلى قوله - كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) وقال تعالى (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - إلى قوله - كذل يضرب الله للناس أمثالهم) . وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة. فالأول ظاهر وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله. وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا، لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضرراً أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقاه، فهي باطلة أيضاً، فثبت أن كل عمل لا يرد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة ما. وأما الكائنات فقد كانت معدومة منفية فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: " ألا كل شيء ما خلا الله باطل " وكما قال صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد " ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله (كل شيء هالك إلا وجهه) إلا ما أريد به وجهه وكل شيء معدوم إلا من جهته. هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الجهمية والزنادقة (1)   (1) لعله سقط من هنا لفظ " الآية" وهو مفعول فسر الإمام أحمد - كما سقط خبر قوله: وأما القول الآخر إلخ وهو معلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 قال أحمد: وأما قوله (كل شيء هالك إلا وجهه) وذلك أن الله أنزل (كل من عليها فان) فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك - يعني ميتاً - إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت " ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان. وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ. وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل (الذي أحسن كل شيء خلقه) وقال تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وقال تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله جميل يحب الجمال " وهو حكم عدل قال الله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) وقال تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) وقال تعالى (وهو الحكيم الخبير) وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملاً غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه. وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلوا عن أن يكون عملاً من الأعمال، أو أن يكون ألماً من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العامل والمعالم، فالمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وأن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق. أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون بل الجميع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 خلقه وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه. ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلماً ولا سفهاً أصلاً، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلاً وحسناً، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين. والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر بمعصيتهم، لكن الأولون يقولو: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة. والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لا بد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختياراً، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلاً، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون أمره لا يتوقف على المصلحة. وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات. إحداها أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعاً، ولو كان الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ:؟ ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا المقدمة الثانية أن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا وقد يدرك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بعض ذلك بالعقل وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص، فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهي عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعاً. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة مقاصدها ومحاسنها. المقدمة الثالثة إن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير ومن جعل شيئاً من الأعمال خارجاً عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية. المقدمة الرابعة إن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه إرادة شرعية دينية وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية فإثبات إرادته في الأمر مطلقاً خطأ ونفيها عن الأمر مطلقاً خطأ وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، يريد الله ليخفف عنكم، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) وقال (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) وقال (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) وقال (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) وأمثال ذلك كثير. المقدمة الخامسة إن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة. ومن قال أن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 فإنه يستلزم أحد أمرين: إما الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها ديناً فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته. وهذا قول القدرية، أو يقول أنه لما كان مريداً لها شاءها فهو محب راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات، وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب واستحباب، وليس هذا المعنى ثابتاً في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأحسن ما يعتذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: أن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كوناً، فكذلك أحبها ورضيها كوناً، وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع. فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حينا بل أن الأمر منه بالشيء إما أن يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا (فيقال) وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به، أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) وقال (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) .والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحساناً منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال (وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 أرسلناك إلى رحمة للعالمين) وقال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) وقال (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقي لما بدل نعمة الله كفراً كما قال (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار) والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى، كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوباً لله وإلا لم يكن محبوباً له وإن كان مراداً له، وإرادته له تكويناً لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع. (فإن قيل) المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ولذة وسروراً، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبعض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضاً ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى - أي في الحديث القدسي - " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال الجواب من وجهين: (أحدهما) الإلزام وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 والمراد وملاءمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلاً لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفي الآخر أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم (1) أنه يلزم من ذلك محذور أو أحد الأمرين لازم: إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور. الجواب الثاني: أن الذي يعلم قطعاً هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وإن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عني به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهو غني بنفسه.   (1) ينظر أين خبر هذا المبتدأ؟ وأما المراد فظاهر وهو أن يقال لمن يتوهم ما ذكر أن اللازم هو أحد الأرين الذين ذكرهما وملخصهما أنه لا يلزم من ذلك شيء أو يلزم شيء ليس بمحدود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه، وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليماً يحب العلم، عفواً يحب العفو، جميلاً يحب الجمال، نظيفاً يحب النظافة، طيباً يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثني بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه. فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسود بن سريع لما قال: إنني حمدت ربي بمحامد فقال " إن ربك يحب الحمد " وقال صلى الله عليه وسلم " لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلوه له ولداً وشريكاً وهو يعافيهم ويرزقهم " فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه. وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضي بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته، فلم يفتقر إلى غيره ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية (1) ونهاية الكمال والعزة.   (1) كذا في الأصل فليحرر مراده من ذكر القدرية هنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وأما الإمكان (1) لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه (2) وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع. ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصاً بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وإنه إذا كان كاملاً بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملاً بغيره ولا مفتقراً إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغني الذي لا يفتقر إلى سواه، (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) .فهذا الأصل العظيم وهو مسئلة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة. والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل   (1) لعله سقط من هنا كلمة: فيلزم. التي هي جواب إما الامكان. والمعنى أنه يلزم كونه لا واجب الوجود أو افتقر وجوده على فرح غيره من الحوادث الممكنة وأما فرحه هو ورفعاء وغيرهما من صفاته فلا يلزم منها امكانه (2) أي من قيام الصفات بنفسه كالكلام والسمع والبصر فيلزم منه حدوثه بزعمهم. وعبارته كلها هنا غير جلية فلعلها محرفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه. وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسئلة الصفات الذاتية والفعلية، ومسئلة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق. فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه منن نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة. وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وفطره عليه الخلائق ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية والله أعلم. (انتهى) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال والفصل فيما اتفق عليه وما اختلف فيه أهل الملل والنحل والمذاهب منها باختلاف الدلائل العقلية والنقلية فيها من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم نص الاستفتاء المسؤول من علماء الإسلام، والسادة الأعلام، أحسن الله ثوابهم، وأكرم نزلهم ومآبهم: أن يرفعوا حجاب الإجمال، ويكشفوا قناع الأشكال، عن مقدمة جميع أرباب الملل والنحل متفقون عليها، ومستندون في آرائهم إليها، حاشى مكابراً منهم معانداً، وكافراً بربوبية الله جاحداً. وهي: أن يقال " هذه صفة كمال فيجب لله إثباتها، وهذه صفة نقص فيتعين انتفاؤها " لكنهم في تحقيق مناطها في أفراد الصفات متنازعون، وفي تعيين الصفات لأجل القسمين مختلفون. فأهل السنة يقولون: إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة والعلم والكلام وغيرها من الصفات الخبرية، كالوجه واليدين والعينين والغضب والرضا - والصفات الفعلية كالضحك والنزول والاستواء - صفات كمال وأضدادها صفات نقصان. والفلاسفة تقول: اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالاً فقد استكمل بغيره فيكون ناقصاً بذاته، وإن أوجب له نقصاً لم يجز اتصافه بها. والمعتزلة يقولون: لو قامت بذاته صفات وجودية لكان مفتقراً إليها وهي مفتقرة إليه، فيكون الرب مفتقراً إلى غيره، ولأنها أعراض لا تقوم إلا بجسم. والجسم مركب، والمركب ممكن محتاج، وذلك عين النقص. ويقولون أيضاً: لو قدر على العباد أعمالهم وعاقبهم عليها كان ظالماً وذلك نقص وخصومهم يقولون: لو كان في ملكه ما لا يريده لكان ناقصاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 والكلابية ومن اتبعهم ينفون صفات أفعاله ويقولون: لو قامت به لكان محلاً للحوادث، والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله، وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به. وطائفة منهم ينفون صفاته الخبرية لاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار. وهكذا نفيهم أيضاً لمحبته لأنها مناسبة بين المحب والمحبوب، ومناسبة الرب للخلق نقص، وكذا رحمته لأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وهي ضعف وخور في الطبيعة، وتألم على المرحوم، وهو نقص. وكذا غضبه، لأن الغضب غليان دم القلب طلباً للانتقام، وكذا نفيهم لضحكه وتعجبه لأن الضحك خفة روح يكون لتجدد ما يسر واندفاع ما يضر. والتعجب استعظام للمتعجب منه. ومنكرو النبوات يقولون: ليس الخلق بمنزلة أن يرسل إليهم رسولاً، كما أن أطراف الناس ليسوا أهلاً أن يرسل السلطان إليهم رسولاً. والمشركون يقولون: عظم الرب يقتضي أن لا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب، فالتقرب إليه ابتداء من غير شفعاء ووسائط غض من جنابه الرفيع. هذا وإن القائلين بهذه المقدمة لا يقولون بمقتضاها ولا يطردونها، فلو قيل لهم: أيما أكمل؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات: من الشم والذوق واللمس أم ذات لا توصف بها كلها؟ لقالوا الأولى أكمل، ولم يصفوا بها كلها الخالق. وبالجملة فالكمال والنقص من الأمور النسبية، والمعاني الإضافية، فقد تكون الصفة كمالاً لذات ونقصاً لأخرى، وهذا نحو الأكل والشرب والنكاح. كمال للمخلوق، نقص للخالق، وكذا التعاظم والتكبر والتفاعل النفسي كمال للخالق نقص للمخلوق، وإذا كان الأمر كذلك فلعل ما تذكرونه من صفات الكمال إنما يكون كمالاً بالنسبة إلى الشاهد، ولا يلزم أن يكون كمالاً للغائب كما بين، لا سيما مع تباين الذاتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وإن قلتم: نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها، هل هي كمال أو نقص؟ فلذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما لأنها قد تكون كمالاً لذات نقصاً لأخرى على ما ذكر. وهذا من التعجب أن مقدمة وقع عليها الإجماع، هي منشأ الاختلاف والنزاع، فرضي الله عمن يبين لنا بياناً يشفي العليل، ويجمع بين معرفة الحكم وإيضاح الدليل، أنه تعالى سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أجاب رضي الله عنه: فتوى شيخ الإسلام الحمد لله، الجواب عن هذا السؤال مبني على مقدمتين (إحداهما) أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك. ودلالة القرآن على الأمور نوعان (أحدهما) خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به (والثاني) دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية لدالة على المطلوب. فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها. وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل. ولا يقال أنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر. وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى الدلالة الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى. فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى. وقد ثبت لفظ الكامل فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير (قل هو الله أحد، الله الصمد) أن الصمد المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل في جميع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه وتعالى. وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ ولا كمثله شيء. وهكذا سائر صفات الكمال ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأكمل من كل شيء. وقد بينا في غير هذا الموضع أن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها. وأما لفظ الكامل فقد نقل الأشعري عن الجبائي أنه كان يمنع أن يسمى الله كاملاً، ويقول: الكامل الذي له أبعاض مجتمعة. وهذا النزاع إن كان في المعنى فهو باطل، وإن كان في اللفظ فهو نزاع لفظي. والمقصود هنا أن ثبوت الكمال له ونفى النقائص عنه مما يعلم بالعقل. وزعمت طائفة من أهل الكلام كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو الإجماع، وإن نفى الآفات والنقائص عنه لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 يعلم إلا بالإجماع، وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك، وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية كالأشعري والقاضي وأبي بكر وأبي إسحاق ومن قبلهم من السلف والأئمة في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية، ولهذا صار هؤلاء يعملون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع ويقولون إذا كنا نثبت هذه الصفات بناء على نفي الآفات، ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي، والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة، قالوا والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة، فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحرى. والذي اعتمدوا عليه في النفي من نفى مسمى التحيز ونحوه - مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين - هو متناقض في العقل لا يستقيم في العقل، فإنه ما من أحد ينفي شيئاً خوفاً من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسماً إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه، وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته، كالمعتزلة لما أثبتوا أنه حي عليم قدير، وقالوا أنه لا يوصف بالحياة والعلم والقدر والصفات لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم ولا يعقل موصوف إلا جسم. فقيل لهم: فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير ولا يوصف شيء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات. فإن جاز أن يقال ما يسمى بهذه الأسماء ليس بجسم، جاز أن يقال فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم، وأن يقال: هذه الصفات ليست أعراضاً، وإن قيل لفظ الجسم مجمل أو مشترك وأن المسمى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره جاز أن يقال الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره، وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع أو بالعقل مع الشرع، كالرضى والغضب والحب والفرح ونحو ذلك: هذه الصفات لا تعقل إلى لجسم. قيل لهم هذه بمنزلة الإرادة والسمع والبصر والكلام، فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله. وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم إذا قالوا ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه، وذلك يستلزم كونه جسماً أو مركباً، قيل لهم هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، ونحو ذلك، فإن قالوا هذه ترجع إلى معنى واحد، قيل لهم أن كان هذا ممتنعاً بطل الفرق، وإن كان ممكناً أمكن أن يقال في تلك مثل هذه، فلا فرق بين صفة وصفة. والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع. فات لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم ولا يعقل موصوف إلا جسم. فقيل لهم: فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير ولا يوصف شيء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم، ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات. فإن جاز أن يقال ما يسمى بهذه الأسماء ليس بجسم، جاز أن يقال فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم، وأن يقال: هذه الصفات ليست أعراضاً، وإن قيل لفظ الجسم مجمل أو مشترك وأن المسمى بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره جاز أن يقال الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره، وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع أو بالعقل مع الشرع، كالرضى والغضب والحب والفرح ونحو ذلك: هذه الصفات لا تعقل إلى لجسم. قيل لهم هذه بمنزلة الإرادة والسمع والبصر والكلام، فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله. وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم إذا قالوا ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه، وذلك يستلزم كونه جسماً أو مركباً، قيل لهم هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعاشق ومعشوق وعشق، ونحو ذلك، فإن قالوا هذه ترجع إلى معنى واحد، قيل لهم أن كان هذا ممتنعاً بطل الفرق، وإن كان ممكناً أمكن أن يقال في تلك مثل هذه، فلا فرق بين صفة وصفة. والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع. ثبوت الكمال لله تعالى بالعقل من وجوه وجوب وجوده وقيوميته وقدمه والمقصود هنا أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل وأن نقيض ذلك منتف عنه، فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع دون تلك، خلاف ما قاله هؤلاء المتكلمون. وجمهور أهل الفلسفة والكلام يوافقون على أن الكمال لله ثابت بالعقل والفلاسفة تسميه التمام، وبيان ذلك من وجوه: (منها) أن يقال: قد ثبت أن الله قديم بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم بنفسه، خالق بنفسه إلى غير ذلك من خصائصه. والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فإذا قيل: الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال. الموجود إما قديم وإما حادث والحادث لا بد له من قديم فيلزم ثبوت القديم على التقديرين، والموجود إما غني وإما فقير، والفقير لا بد له من الغنى، فلزم وجود الغني على التقديرين. والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم، وغير القيوم لا بد له من القيوم. فلزم ثبوت القيوم على التقديرين. والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق، والمخلوق لا بد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة. ثم يقال: هذا الواجب القديم الخالق إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه الممكن الوجود ممكناً له وإما أن لا يكون والثاني ممتنع لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير الممكن، فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى، فإن كلاهما موجود، والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكناً للمفضول فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى، لأن ما كان ممكناً لما وجوده ناقص فلأن يمكن لما وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لا سيما وذلك أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفوض لمن كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه، بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى، ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق والذي جعل غيره كاملاً هو أحق بالكمال منه، فالذي جعل غيره قادراً أولى بالقدرة، والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة. والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة والعلة أولى به. وإذا ثبت إمكان ذلك له فما توقف على غيره لم يكن موجوداً له إلا بذلك الغير، وذلك الغير إن كان مخلوقاً له لزم الدور القبلي الممتنع فإن ما في ذلك الغير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 من الأمور الوجودية فهي منه، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهذا هو الدور القبلي فإن الشيء يمتنع أن يكون فاعلاً لنفسه فلأن يمتنع أن يكون فاعلاً لفاعله بطريق الأولى والأحرى، وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلاً لما به يصير للآخر فاعلاً، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطياً الآخر كماله فإن معطي الكمال أحق بالكمال فيلزم أن يكون كل منهما أكمل من الآخر، وهذا ممتنع لذاته، فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا، وهذا أفضل من هذا، وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له، فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى، وأيضاً فلو كان له موقوفاً على ذلك الغير للزم أن يكون كماله موقوفاً على فعله لذلك الغير وعلى معاونة ذلك الغير في كماله ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه، إذ فعل ذلك الغير وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره، فيلزم أن لا يكون كماله موقوفاً على غيره، فإذا قيل كماله موقوف على مخلوقه لزم أن لا يتوقف على مخلوقه، وما كان ثبوته مستلزماً لعدمه كان باطلاً من نفسه، وأيضاً فذلك الغير كل كمال له فمنه، وهو أحق بالكمال منه، ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفاً إلا على ما هو من نفسه، وذلك متوقف عليه لا على غيره. وإن قيل ذلك الغير ليس مخلوقاً بل واجباً آخر قديماً بنفسه فيقال: إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس فهو الرب والآخر عبده، وإن قيل: بل كل منهما يعطي للآخر الكمال لزم الدور في التأثير، وهو باطل، وهو من الدور القبلي لا من الدور المعي الاقتراني، فلا يكون هذا كاملاً حتى يجعله الآخر كاملاً، والآخر لا يجعله كاملاً حتى يكون في نفسه كاملاً، لأن جاعل الكامل كاملاً أحق بالكمال، ولا يكون الآخر كاملاً حتى يجعله كاملاً، فلا يكون واحد منهما كاملاً بالضرورة، فإنه لو قيل لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعاً، فكيف إذا قيل حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وإن قيل كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء، فإن تقدير مؤثرات لا تتناهى ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شيء منها ولا وجود جميعها ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لا بد أن يكون موجوداً بالضرورة، فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم أن لا يكون لشيء من هذه الأمور كمال، وقد قدر أن الأول، كامل فلزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره كان الكمال له واجباً بنفسه، وامتنع تخلف شيء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم. بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكان ممتنعاً بنفسه أو ممتنعاً لغيره فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن إن حصل مقتضيه التام وجب بغيره وإلا كان ممتنعاً لغير، والممكن بنفسه إما واجب لغيره وإما ممتنع لغيره.، فإنه لو قيل لا يكون كاملاً حتى يجعل نفسه كاملاً ولا يجعل نفسه كاملاً حتى يكون كاملاً لكان ممتنعاً، فكيف إذا قيل حتى يجعل ما يجعله كاملاً كاملاً. وإن قيل كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية لزم التسلسل في المؤثرات، وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء، فإن تقدير مؤثرات لا تتناهى ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شيء منها ولا وجود جميعها ولا وجود اجتماعها، والمبدع للموجودات لا بد أن يكون موجوداً بالضرورة، فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر، وهلم جرا، للزم أن لا يكون لشيء من هذه الأمور كمال، وقد قدر أن الأول، كامل فلزم الجمع بين النقيضين، وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره كان الكمال له واجباً بنفسه، وامتنع تخلف شيء من الكمال الممكن عنه، بل ما جاز له من الكمال وجب له، كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم. بل هذا ثابت في مفعولاته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكان ممتنعاً بنفسه أو ممتنعاً لغيره فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره، أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره، والممكن إن حصل مقتضيه التام وجب بغيره وإلا كان ممتنعاً لغير، والممكن بنفسه إما واجب لغيره وإما ممتنع لغيره. ثبوت الكمال لله تعالى بالنقل من كتابه وقد بين لله سبحانه أنه أحق بالكمال من غيره وأن غيره لا يساويه في الكمال في مثل قوله تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون) وقد بين أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عدل هذا بهذا فقد ظلم. وقال تعالى (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً - هل يستوون؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) فبين أن كونه مملوكاً عاجزاً صفة نقص، وإن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يعبد من دونه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وقال تعالى (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟) وهذا مثل آخر فالأول مثل العاجز عن الكلام، وعن الفعل الذي لا يقدر على شيء، والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فهو عادل في أمره، مستقيم في فعله، فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم، فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محموداً، وقد يكون مذموماً. فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد، فلا يستوي هذا والعاجز عن الكلام والفعل. وقال تعالى (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكن أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) يقول تعالى: إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال والغنى منكم؟ وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد، وهذا كقوله (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون، للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ويجعلون لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون) حيث كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصاً وعيباً، والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم، فإن له المثل الأعلى. فكل كما ثبت للمخلوق فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجرداً عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 من نقص وعيب فالخالق أولى بتنزيهه عنه. وقال تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم، وقال تعالى (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور) فبين أن البصير أكمل والنور أكمل والظل أكمل، وحينئذ فالمتصف به أولى، ولله المثل الأعلى. وقال تعالى (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا؟ اتخذوه وكانوا ظالمين) فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وأن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي، والرب أحق بالكمال. وقال تعالى (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق. أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي؟ فما لم كيف تحكمون) فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهدي إلا أن يهديه غيره، فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل دون الذي لا يهدي إلا بغيره. وإذا كان لا بد من وجوب الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل، وقال تعالى في الآية الأخرى (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) فدل على أن الذي يرجع إليه القول ويملك الضر والنفع أكمل منه. وقال إبراهيم لأبيه (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً) فدل على أن السميع البصير الغني أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك، ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال كعدم التكلم والفعل وعدم الحياة ونحو ذلك مما يبين أن التصف بذلك منتقص معين كسائر الجمادات، وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب. وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات، فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف (1) فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة التي عابها الله تعالى وعاب عباديها. ولهذا كانت القرامطة الباطنية من أعظم الناس شركاً وعبادة لغير الله، إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر أو يغني عنهم شيئاً. والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون سواه، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد وهو إثبات صفات الكمال رداً على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو رداً على المشركين، والشرك في العالم أكثر من التعطيل، ولا يلزم من إثبات التوحيد المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل، ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر. والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة كالرد على فرعون وأمثاله، ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر، لأن القرآن شفاء لما في الصدور، ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل، وأيضاً فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد وأنه حميد مجيد وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد. والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كمال، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك ما هو متصف بصفات الكمال، وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد فثبت أن المستحق (2) للمحامد الكاملة وهو أحق من كل محمود والحمد والكمال من كامل وهو المطلوب.   (1) أي بصفات الكمال المذكورة كمعطلة الصفات من الجهمية والمعتزلة دع الباطنية الملاحدة (2) قوله فثبت أن المستحق إلخ هو كما ترى مختل التركيب ولعل أصله: فثبت أن المستحق للمحامد كلها وهو أحق بالحمد من كل محمود وبالكمال من كل كامل، أو أن المستحق للمحامد كلها أحق بالحمد إلخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 فصل وأما المقدمة الثانية فتقول: لا بد من اعتبار أمرين (أحدهما) أن يكون الكمال ممكن الوجود، و (الثاني) أن يكون سليماً عن النقص، فإن النقص ممتنع على الله، لكن بعض الناس قد يسمى ما ليس بنقص نقصاً، فهذا يقال له إنما الواجب إثبات ما أمكن ثبوته من الكمال السليم عن النقص، فإذا سميت أنت هذا نقصاً وقدر أن انتفاءه يمتنع لم يكن نقصه من الكمال الممكن، والذات التي لا تكون حية عليمة قديرة سميعة بصيرة متكلمة ليست أكمل من الذات التي تكون حية عليمة سميعة بصيرة قديرة متكلمة. وإذا كان صريح العقل يقضي بأن الذات المسلوبة هذه الصفات ليست مثل الذات المتصفة بها فضلاً عن أن تكون أكمل منها، ويقضي بأن الذات المتصفة بها أكمل، علم بالضرورة امتناع كمال الذات بدون هذه الصفات. فإذا قيل بعد ذلك: لا تكون ذاته ناقصة متساوية الكمال إلا بهذه الصفات. قيل الكمال بدون هذه الصفات ممتنع، وعدم الممتنع ليس نقصاً، وإنما النقص عدم ما يمكن، وأيضاً فإذا ثبت أنه يمكن اتصافه بالكمال، وما اتصف به وجب له، امتنع تجرد ذاته عن هذه الصفات، فكان تقدير ذاته منفكة عن هذه الصفات تقديراً ممتنعاً، وإذا قدر للذات تقدير ممتنع وقيل أنها ناقصة صفة كان ذلك مما يدل على امتناع ذلك التقدير لا على امتناع نقيضه، كما لو قيل إذا مات ناقصاً فهذا يقتضي وجوب كونه حياً، كذلك إذا كان تقدير ذاته خالية عن هذه الصفات يوجب أن تكون ناقصة كان ذلك مما يستلزم أن يوصف بهذه الصفات. وأيضاً فقول القائل اكتمل بغيره ممنوع فإنا لا نطلق على صفاته أنها غيره ولا أنا ليست غيره على ما عليه أئمة السلف كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، وهو اختيار حذاق المثبتة كابن كلاب وغيره، ومنهم من يقول: أنا أطلق عليها أنها ليست هي هو ولا أطلق عليها أنها ليست غيره، ولا أجمع بين السلبين فأقول لا هي هو ولا هي غيره، وهو اختيار طائفة من المثبتة كالأشعري وغيره، وأظن قول أبي الحسن التمتي هو هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 أو ما يشبه هذا. ومنهم من يجوز إطلاق هذا السلب وهذا السلب في إطلاقهما جميعاً كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى. ومنشأ هذا أن لفظ الغير يراد به المغاير للشيء، ويراد به ما ليس هو إياه، وكان في إطلاق الألفاظ المجملة إيهام لمعاني فاسدة. ويراد به ما ليس هو إياه، وكان في إطلاق الألفاظ المجملة إيهام لمعاني فاسدة. ونحن نجيب بجواب علمي فنقول: قول القائل: يتكمل بغيره. أيريد به بشيء منفصل عنه أم يريد بصفة لوازم ذاته. أما الأول فممتنع وأما الثاني فهو حق، ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها كما لا يمكن وجودها بدونه، وهذا كما نفسه لا شيء مباين لنفسه. وقد نص الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره وأئمة المثبتة كأبي محمد بن كلاب وغيره على أن القائل إذا قال الحمد لله أو قال دعوت الله وعدبته أو قال بالله فاسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته، وليست صفاته زائدة على مسمى أسمائه الحسنى. وإذا قيل هل صفاته زائدة على الذات أم لا؟ قيل: إن أريد بالذات المجردة التي يقربها نفات الصفات فالصفات زائدة عليها، وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة. والصفات ليست زائدة على الذات المتصفة بالصفات، وإن كانت زائدة على الذات التي يقدر تجردها عن الصفات. فصل وأما قول القائل: لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقراً إليها وهي مفتقرة إليه، فيكون الرب مفتقراً إلى غيره، فهو من جنس السؤال الأول. فيقال أولاً: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقراً إليها يقتضي إمكان جوهر تقوم به الصفات وإمكان ذات لا تقوم بها الصفات، فلو كان أحدهما ممتنعاً لبطل هذا الكلام فكيف إذا كان كلاهما ممتنعاً، فإن تقدير ذات مجردة عن جميع الصفات إنما يمكن في الذهن لا في الخارج، كتقدير وجود مطلق لا يتعين في الخارج. ولفظ ذات تأنيث ذو، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره، فهم يقولون فلان ذو علم وقدرة، ونفس ذات علم وقدرة. وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب لفظ ذو ولفظ ذات لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة كقوله (فاتقوا الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 وأصلحوا ذات بينكم) وقوله (عليم بذات الصدور) وقول خبيب رضي الله عنه (1) وذلك في ذات الإله. ونحو ذلك. لكن لما صار النظار يتكلمون في هذا الباب قالوا أنه يقال أنها ذات علم وقدرة، ثم أنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة وعرفوا فقالوا: الذات، وهي لفظ مولد ليس من لفظ العرب العرباء، ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم كأبي الفتح ابن برهان وابن الدهان وغيرهما وقالوا ليست هذه اللفظة عربية، ورد عليهم آخرون كالقاضي وابن عقيل وغيرهما. وفصل الخطاب أنها ليست من العربية العرباء بل من المولدة كلفظ الموجود ولفظ الماهية والكيفية ونحو ذلك اللفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها فيقال ذات علم وذات قدرة وذات كلام والمعنى كذلك، فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً، بل فرض هذا في الخارج كفرض عرض يقوم بنفسه لا بغيره. ففرض عرض قائم بنفسه لا صفة له كفرض صفة لا تقوم بغيرها، وكلاهما ممتنع، فما هو قائم بنفسه فلا بدله من صفة، وما كان صفة فلا بد له من قائم بنفسه متصف به. ولهذا سلم المنازعون أنهم لا يعلمون قائماً بنفسه لا صفة له سواء سموه جوهراً أو جسماً أو غير ذلك، ويقولون وجود جوهر معرى عن جميع الأعراض ممتنع، فمن قدر إمكان موجود قائم بنفسه لا صفة له فقد قدر ما لا يعلم وجوده في الخارج ولا يعلم إمكانه في الخارج، فكيف إذا علم أنه ممتنع في الخارج عن الذهن. وكلام نفاة الصفات جميعه يقتضي أن ثبوته ممتنع وإنما يمكن فرضه في العقل، فالعقل يقدره في نفسه كما يقدر الممتنعات لا يعقل وجوده في الوجود ولا إمكانه في الوجود. وأيضاً فالرب تعالى إذا كان اتصافه بصفات الكمال ممكناً، وما أمكن له وجب - امتنع أن يكون مسلوباً صفات الكمال، ففرض ذاته بدون صفاته اللازمة   (1) حين قدمه كفار قريش للقتل. هذا نص البيت: وما قبله ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 الواجبة له فرض ممتنع، وحينئذ فإذا كان فرض عدم هذا ممتنعاً عموماً وخصوصاً فقول القائل يكون مفتقراً إليها وتكون مفتقرة إليه إنما يعقل مثل هذا في شيئين يمكن وجود كل واحد منهما دون الآخر، فإذا امتنع هذا بطل هذا التقدير. ثم يقال: ما تعني بالافتقار؟ أتعني أن الذات تكون فاعلة للصفات مبدعة لها أو بالعكس؟ أم تعني التلازم وهو أن لا يكون أحدهما إلا بالآخر؟ فإن عنيت افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا باطل، فإن الرب ليس بفاعل لصفاته اللازمة له بل لا يلزمه شيء معين من أفعاله ومفعولاته؟ فكيف تجعل صفاته مفعولة له، وصفاته لازمة لذاته ليست من مفعولاته؟ وإن عنيت التلازم فهو حق. وهذا كما يقال لا يكون موجوداً ويقال أيضاً لا يكون موجوداً إلا أن يكون قديماً واجباً بنفسه ولا يكون عالماً قادراً إلا أن يكون حياً، فإذا كانت صفاته متلازمة كان ذلك أبلغ في الكمال من جواز التفريق بينهما، فإنه لو جاز وجوده بدون صفات الكمال لم يكن الكمال واجباً له بل ممكناً له، وحينئذ فكان يفتقر في ثبوته له إلى غيره، وذلك نقص ممتنع عليه كما تقدم بيانه، فعلم أن التلازم بين الذات وصفات الكمال هو كمال الكمال. فصل وأما القائل: إنها أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب والمركب ممكن محتاج، وذلك عين النقص. فللمثبتة للصفات في إطلاق لفظ العرض على صفاته ثلاث طرق: منهم من يمنع أن تكون أعراضاً ويقول: بل هي صفات وليس أعراضاً كما يقول ذلك الأشعري وكثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، ومنهم من يطلق عليها لفظ الأعراض كهشام وابن كرام وغيرهما، ومنهم من يمتنع من الإثبات والنفي كما قالوا في لفظ الغير، وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه، فإن قول القائل " العلم عرض " بدعة، وقوله: ليس بعرض - بدعة - كما أن قوله " الرب جسم " بدعة، وقوله " ليس بجسم " بدعة. وكذلك أن لفظ الجسم يراد به في اللغة: البدن والجسد، كما ذكر ذلك الأصمعي وأبو زيد وغيرهما من أهل اللغة. وأما أهل الكلام فمنهم من يريد به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 المركب ويطلقه على الجوهر الفرد بشرط التركيب أو على الجوهرين أو على أربعة جواهر أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو اثنين وثلاثين، والمركب من المادة والصورة ومنهم من يقول: هو الموجود أو القائم بنفسه. وعامة هؤلاء وهؤلاء يجعلون المشار إليه مساوياً في العموم والخصوص، فلما كان اللفظ قد صار يفهم منه معان بعضها حق وبعضها باطل - صار مجملاً، وحينئذ فالجواب العلمي أن يقال: أتعني بقولك أنها أعراض أنها قائمة بالذات أو صفة للذات ونحو ذلك من المعاني الصحيحة؟ أم تعني بها أنها آفات ونقائص؟ أم تعني بها أنها تعرض وتزول وتبقى زمانين؟ فإن عنيت الأول فهو صحيح، وإن عنيت الثاني فهو ممنوع، وإن عنيت الثالث فهذا مبنى على قول من يقول: العرض لا يبقى زمانين. فإن قال ذلك وقال هي باقية قال اسميها أعراضاً - لم يكن هذا مانعاً من تسميتها أعراضاً. وقولك: العرض لا يقوم إلا بجسم. فيقال: يقال للحي عليم قدير عندك وهذه الأسماء لا يتسمى بها إلا جسم كما أن هذه الصفات التي جعلتها أعراضاً لا يوصف بها إلا جسم؟ فما كان جوابك عن ثبوت الأسماء كان جواباً لأهل الإثبات عن إثبات الصفات. ويقال له: ما تعني بقولك هذه الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم؟ أتعني بالجسم المركب الذي كان مفترقاً فاجتمع؟ أو ركبه مركب فجمع أجزاءه؟ أو ما أمكن تفريقه وتبعيضه وانفصال بعضه عن بعض ونحو ذلك؟ أم تعني به ما هو مركب من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة؟ أو تعني به ما يمكن الإشارة إليه؟ أو ما كان قائماً بنفسه؟ أو ما هو موجود؟ فإن عنيت الأول لم نسلم أن هذه الصفات التي سميتها أعراضاً لا تقوم إلا بجسم بهذا التفسير، وإن عنيت به الثاني لم نسلم امتناع التلازم فإن الرب تعالى موجود قائم بنفسه مشار إليه عندنا، فلا نسلم التلازم على هذا التقدير. وقول القائل: المركب ممكن، إن أراد بالمركب المعاني المتقدمة مثل كونه كان مفترقاً فاجتمع، أو ركبه مركب أو يقبل الانفصال - فلا نسلم المقدمة الأولى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 التلازمية، وإن عنى به ما يشار إليه وما يكون قائماً بنفسه موصوفاً بالصفات - فلا نسلم انتفاء الثانية. فالقول بالأعراض مركب من مقدمتين تلازمية واستثنائية بألفاظ مجملة فإذا استفصل عن المراد حصل المنع والإبطال لإحداهما أو لكليهما. وإذا بطلت إحدى المقدمتين على كل تقدير بطلت الحجة. فصل وأما قول القائل: لو قامت به الأفعال لكان محلاً للحوادث، إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به -: فيقال أولاً: هذا معارض بنظيره من الحوادث التي فعلها فإن كليهما حادث بقدرته ومشيئته، وإنما يفترقان في المحل، وهذا التقسيم وارد على الجهتين. وإن قيل في الجواب: بل هم يصفونه بالصفات الفعلية. ويقسمون الصفات إلى نفسية وفعلية، فيصفونه بكونه خالقاً ورازقاً بعد أن لم يكن كذلك، وهذا التقسيم وارد عليهم، وقد أورده عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فزعموا أن صفات الأفعال ليست صفة كمال ولا نقص -: فيقال لهم: كما قالوا لهؤلاء في الأفعال التي تقوم بها أنها ليست كمالاً ولا نقصاً. فإن قيل: لا بد أن يتصف إما بنقص وإما بكمال، فإن جاز خلو أحدهما عن القسمين أمكن الدعوى في الآخر مثله وإلا فالجواب مشترك. وأما المتفلسفة فيقال لهم: القديم لا تحله الحوادث، ولا يزال محلاً للحوادث عندكم، فليس القدم مانعاً من ذلك عندكم، بل عندكم هذا هو الكمال الممكن الذي لا يمكن غيره. وإنما نفوه عن واجب الوجود لظنهم اتصافه به، وقد تقدم التنبيه على إبطال قولهم في ذلك لا سيما وما قامت به الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده عن علة تامة أزلية موجبة لمعلولها، فإن العلة التامة الموجبة يمتنع أن يتأخر عنها معلولها أو شيء من معلولها، ومتى تأخر عنها شيء من معلولها كانت علة له بالقوة، هذا عند ما سماه نقصاً من النقص الممكن انتفاؤه، فإذا قيل: خلق المخلوقات في الأزل صفة كمال فيجب أن تثبت له، قيل: وجود الجمادات كلها أو واحد منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 يستلزم الحوادث كلها أو واحداً منها في الأزل، فيمتنع وجود الحوادث المتعاقبة كلها في آن واحد سواء قدر ذلك الآن ماضياً أو مسقبلاً، فضلاً عن أن يكون أزلياً، وما يستلزم الحوادث المتعاقبة يمتنع وجود في آن واحد فضلاً عن أن يكون أزلياً، فليس هذا ممكن الوجود فضلاً عن أن يكون كمالاً، لكن فعل الحوادث شيئاً بعد شيء أكمل من التعطيل عن فعلها بحيث لا يحدث شيئاً بعد أن لم يكن، فإن الفاعل القادر على الفعل أكمل الفاعل العاجز عن الفعل. فإذا قيل لا يمكنه إحداث الحوادث بل مفعوله لازم لذاته، كان هذا نقصاً بالنسبة إلى القادر الذي يفعل شيئاً بعد شيء، وكذلك إذا قيل: جعل الشيء الواحد متحركاً ساكناً موجوداً معدوماً صفة كمال، قيل هذا ممتنع لذاته. وكذلك إذا قيل إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال، قيل هذا ممتنع لنفسه، فإن كونه مبدعاً يقتضي أن لا يكون واجباً بنفسه بل واجباً بغيره، فإذا قيل هو واجب موجود بنفسه وهو لم يوجد إلا بغيره كان هذا جمعاً بين النقيضين. وكذلك إذا قيل: الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه إذا كان اتصافه بها صفة كما فقد فاتته في الأزل، وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص. قيل الأفعال المنفعلة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزلياً. وأيضاً فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها، وأيضاً فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئاً بعد شيء، فقول القائل فيما حقه أن يوجد شيئاً بعد شيء فينبغي أن يكون في الأزل جمع بين النقيضين. وأمثال هذا كثير، فلهذا قلنا الكمال الممكن الوجود، فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له فضلاً عن أن يقال هو موجود أو يقال هو كمال للموجود. وأما الشرك الآخر وهو قولنا الكمال الذي لا يتضمن نقصاً على التعبير بالعبارة السديدة أو الكمال الذي لا يتضمن نقصاً يمكن انتفاؤه على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصاً - فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً كالأكل والشرب مثلاً، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 والشرب لأن قوامه بالأكل والشرب، فإذا قدر غير قابل له كان ناقصاً عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره، وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب، وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كمال إلى غيره، فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به. والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره. ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق وهو كل ما كان مستلزماً لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه. مال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق وهو كل ما كان مستلزماً لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته، أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه، أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه. فصل في نتيجة ما تقدم وهو كون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق وكون أولى الناس به سلف هذه الأمة (1) إذا تبين هذا تبين أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له وأعظمهم له موافقة، وهم سلف الأمة وأئمتها الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات، فإن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام صفات كمال ممكنة بالضرورة ولا نقص فيها، فإن ما اتصف بهذه فهو أكمل مما لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها. والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد. وأهل الإثبات يقولون للنفاة: لو لم يتصف بهذه الصفات لاتصف بأضدادها من الجهل والبكم والعمى والصم، فقال لهم النفاة: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلات تقابل العدم والملكة إنما يلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر إذا كان المحل قابلاً لهما كالحيوان الذي لا يخلوا إما أن يكون أعمى وإما أن يكون بصيراً لأنه قابل لهما بخلاف الجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا.   (1) هذا العنوان للفصل ليس من الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 فيقول لهم أهل الإثبات: هذا باطل من وجوه. أحدها أن يقال الموجودات نوعان: نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي ونوع لا يقبله كالجماد. ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل مما لا يقبل ذلك، وحينئذ فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها، وأن يكون القابل لها وهو الحيوان الأعمى الأصم الذي لا يقبل السمع والبصر أكمل منه، فإن القابل للسمع والبصر في حال عدم ذلك أكمل ممن لا يقبل ذلك فكيف المتصف بها؟ فلزم من ذلك أن يكون مسلوباً لصفات الكمال على قولهم ممتنعاً عليه صفات الكمال، فأنتم فررتم من تشبيهه بالإحياء فشبهتموه بالجمادات وزعمتم أنكم تنزهونه عن النقائص فوصفتموه بما هو أعظم النقص. الوجه الثاني أن يقال: هذا التفريق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة أمر اصطلاحي، وإلا فكل ما ليس بحي فإنه يسمى ميتاً كما قال تعالى (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) . (الوجه الثالث) أن يقال: نفي سلب هذه الصفات نقص وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حياً عليماً قديراً متكلماً سميعاً بصيراً أكمل ممن لا يكون كذلك، وإن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد، وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال ومجرد سلبها من النقص وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كما ممكن للوجود ولا نقص فيه بحال بل النقص في عدمه، وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات أحدهما يقدر على التصرف بنفسه فيأتي ويجيء وينزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به والآخر يمتنع ذلك منه فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه. وإذا قيل قيام هذه الأفعال يستلزم قيام الحوادث به كان كما إذا قيل قيام الصفات به يستلزم قيام الأعراض به، والأعراض والحوادث لفظان مجملان، فإن أريد بذلك ما يعقله أهل اللغة من أن الأعراض والحوادث هي الأمراض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 والآفات، كما يقال: فلان قد عرض له مرض شديد، وفلان قد أحدث حدثاً عظيماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وقال " لعن الله من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً " وقال " إذا أحدث أحدكم فلا يصلي حتى يتوضأ " ويقول الفقهاء: الطهارة نوعان، طهارة الحديث وطهارة الخبث. ويقول أهل الكلام: اختلف الناس في أهل الأحداث من أهل القبلة، كالربا والسرقة وشرب الخمر، ويقال فلان به عارض من الجن، وفلان حدث له مرض. فهذه من النقائص التي تنزه الله عنها. وإن أريد بالأعراض والحوادث اصطلاح خاص فإنما أحدث ذلك الاصطلاح من أحدثه من أهل الكلام، وليست هذه لغة العرب ولا لغة أحد من الأمم، لا لغة القرآن ولا غيره ولا العرف العام ولا اصطلاح أكثر الخائضين في العلم، بل مبتدعو هذا الاصطلاح هم من أهل البدع المحدثين في الأمة الداخلين في ذم النبي صلى الله عليه وسلم. وبكل حال مجرد هذا الاصطلاح وتسمية هذه أعراضاً وحوادث لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها أو يمكنه ذلك ولا يتصف بها. وأيضاً فإذا قدر اثنان أحدهما موصوف بصفات الكمال التي هي أعراض وحوادث على اصطلاحهم كالعلم والقدرة والفعل والبطش، والآخر يمتنع أن يتصف بهذه الصفات التي هي أعراض وحوادث كان الأول أكمل، كما أن الحي المتصف بهذه الصفات أكمل من الجمادات. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يحب نعوت الكمال ويفرح بها ويرضاها والآخر لا فرق عنده بين صفات الكمال وصفات النقص فلا يحب لا هذا ولا هذا ولا يرضى لا هذا ولا هذا، ولا يفرح لا بهذا ولا بهذا كان الأول أكمل من الثاني. ومعلوم أن الله تبارك وتعالى يحب المحسنين والمتقين والصابرين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهذه كلها صفات كمال. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يبغض المتصف بضد الكمال كالظلم والجهل والكذب ويغضب على من يفعل ذلك، والآخر لا فرق عنده بين الجاهل الكاذب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 الظالم وبين العالم الصادق العادل لا يبغض لا هذا ولا هذا، ولا يغضب لا على هذا ولا على هذا كان الأول أكمل. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يقدر أن يفعل بيديه ويقبل بوجهه والآخر لا يمكنه ذلك إما لامتناع أن يكون له وجه ويدان، وإما لامتناع الفعل والإقبال عليه باليدين والوجه كان الأول أكمل. فالوجه واليودان لا يعدان من صفات النقص في شيء مما يوصف بذلك، ووجه كل شيء بحسب ما يضاف إليه وهو ممدوح به. لا مذموم كوجه النهار، ووجه الثوب، ووجه القوم، ووجه الخيل، ووجه الرأي، وغير ذلك، وليس الوجه المضاف إلى غيره هو نفس المضاف إليه في شيء من موارد الاستعمال سواء كان الاستعمال حقيقة أو مجازاً. فإن قيل: من يمكنه الفعل بكلامه أو بقدرته بدون يديه أكمل ممن يفعل بيديه. قيل من يمكنه الفعل بقدرته أو تكليمه إذا شاء وبيديه إذا شاء هو أكمل ممن لا يمكنه الفعل إلا بقدرته أو تكليمه، ولا يمكنه أن يفعل باليد، ولهذا كان الإنسان أكمل من الجمادات التي تفعل بقوى فيها كالنار والماء، فإذا قدر اثنان أحدهما لا يمكنه الفعل إلا بقوة فيه، والآخر يمكنه الفعل بقوة فيه وبكلامه فهذا أكمل، فإذا قدر آخر يفعل بقوة فيه وبكلامه وبيديه إذا شاء فهو أكمل وأكمل. وأما صفات النقص فمثل النوم، فإن الحي اليقظان أكمل من النائم والوسنان والله لا تأخذه سنة ولا نوم، وكذلك من يحفظ بلا اكتراث أكمل ممن يلزمه ذلك والله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما، وكذلك من يفعل ولا يتعب أكمل ممن يتعب والله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب. ولهذا وصف الرب بالعلم دون الجهل والقدرة دون العجز، والحياة دون الموت، والسمع والبصر والكلام دون الصم والعمي والبكم، والضحك دون البكاء، والفرح دون الحزن. وأما الغضب مع الرضاء والبغض مع الحب فهو أكمل ممن لا يكون منه إلا الرضى والحب دون البغض والغضب للأمور التي تستحق أن تذم وتبغض، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 ولهذا كان اتصافه بأنه يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، أكمل من اتصافه بمجرد الإعطاء والإعزاز والرفع، لأن الفعل الآخر حيث تقتضي الكلمة ذلك أكمل من لا يفعل إلا أحد النوعين ويخل بالآخر في المحل المناسب له. من اعتبر هذا الباب، وجده على قانون الصواب، والله الهادي لأولي الألباب. فصل وأما قول ملاحدة الفلاسفة وغيرهم: إن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالاً فقد استكمل بغيره فيكون ناقصاً بذاته، وإن أوجب له نقصاً لم يجز اتصافه بها - فيقال: الكمال المعين هو الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه. وحينئذ فقول القائل يكون نقصاً بذاته إن أراد به أنه يكون بدون هذه الصفات ناقصاً فهذا حق، لكن من هذا فررنا وقدرنا أنه لا بد من صفات الكمال وإلا كان نقصاً. وإن أراد به أنه إنما صار كاملاً بالصفات التي اتصف بها فلا يكون كاملاً بذاته المجردة عن هذه الصفات - فيقال: (أولاً) : هذا إنما يتوجه أن لو أمكن وجود ذات مجردة عن هذه الصفات أو أمكن وجود ذات كاملة مجردة عن هذه الصفات، فإذا كان أحد هذين ممتنعاً امتنع كماله بدون هذه الصفات فكيف إذا كان كلاهما ممتنعاً، فإن وجود ذات كاملة بدون هذه الصفات ممتنع، فإنا نعلم بالضرورة أن الذات التي لا تصير علة بالفعل واحتاج مصيرها علة بالفعل إلى سبب آخر فإن كان المخرج لها من القوة إلى الفعل هو نفسه صار فيه ما هو بالقوة وهو المخرج له إلى الفعل، وذلك يستلزم أن يكون قابلاً أو فاعلاً، وهم يمنعون ذلك لامتناع الصفات التي يسمونها التركيب، وإن كان المخرج له غيره كان ذلك ممتنعاً بالضرورة والاتفاق، لأن ذلك ينافي وجوب الوجود ولأنه يتضمن الدور المعي والتسلسل في المؤثرات، وإن كان هو الذي صار فاعلاً للمعين بعد أن لم يكن امتنع أن يكون علة تامة أزلية، فقدم شيء من العالم يستلزم كونه علة تامة في الأزل وذلك يستلزم أن لا يحدث عنه شيء بواسطة وبغير واسطة وهذا مخالف للمشهود. ويقال (ثانياً) في إبطال قول من جعل حدوث الحوادث ممتنعاً: - هذا مبني على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 تجدد هذه الأمور بتجدد الإضافات والأحوال والأعدام فإن الناس متفقون على تجدد هذه الأمور، وفرق الآمدي بينهما من جهة اللفظ، فقال هذه حوادث وهذه متجددات، والفروق اللفظية، لا تؤثر في الحقائق العلمية، فيقال: تجدد هذه المتجددات إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن أوجب له نقصاً لم يجز وصفه به. ويقال (ثالثاً) : الكمال الذي يجب اتصافه به هو الممكن الوجود، وأما الممتنع فليس من الكمال الذي يتصف به موجود، والحوادث المتعلقة بقدرته ومشيئته يمتنع وجودها جميعاً في الأزل، فلا يكون انتفاؤها في الأزل نقصاً لأن انتفاء الممتنع ليس بنقص. ويقال (رابعاً) : إذا قدر ذات تفعل شيئاً بعد شيء وهي قادرة على الفعل بنفسها وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئاً بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك كانت الأولى أكمل من الثانية. فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة. وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال. ويقال (خامساً) : لا نسلم أن عدم هذه مطلقاً نقص ولا كمال ولا وجودها مطلقاً نقص ولا كمال، بل وجودها في الوقت الذي اقتضته مشيئته وقدرته وحكمته هو الكمال ووجودها بدون ذلك نقص، وعدمها مع اقتضاء الحكمة كمال، وإذن فالشيء الواحد يكون وجوده تارة كمالاً وتارة نقصاً، وكذلك عدمه. فبطل التقسيم المطلق، وهذا كالماء يكون رحمة بالخلق إذا احتاجوا إليه كالمطر ويكون عذاباً إذا ضرهم، فيكون إنزاله لحاجتهم رحمة وإحساناً، والمحسن الرحيم متصف بالكمال ولا يكون عدم إنزاله حيث يضرهم نقصاً، بل هو أيضاً رحمة وإحسان فهو محسن بالوجود حين كان رحمة، وبالعدم حين كان العدم رحمة. فصل وأما نفي النافي للصفات الخبرية المعينة فلاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار فقد تقدم جواب نظيره، فإنه إن أريد بالتركيب ما هو المفهوم منه في اللغة أو في العرف العام أو عرف بعض بالناس وهو ما ركبه غيره أو كان مفترقاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 فاجتمع، أو ما جمع الجواهر الفردة أو المادة والصورة، أو ما أمكن مفارقة بعضه لبعض، فلا نسلم المقدمة الأولى ولا نسلم أن إثبات الوجه واليد مستلزم للتركيب بهذا الاعتبار، وإن أريد به التلازم على معنى امتياز شيء عن شيء في نفسه وأن هذا ليس هذا، فهذا لازم له في الصفات المعنوية المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة والسمع والبصر، فإن الواحدة من هذه الصفات ليست هي الأخرى بل كل صفة ممتازة بنفسها عن الأخرى، وإن كانتا متلازمتين يوصف بهما موصوف واحد. ونحن نعقل هذا في صفات المخلوقين كأبعاض الشمس وأعراضها. وأيضاً فإن أريد أنه لا بد من وجود ما بالحاجة والافتقار إلى مباين له فهو ممنوع، وإن أريد أنه لا بد من وجود ما هو داخل في مسمى اسمه وأنه يمتنع وجود الواجب بدون تلك الأمور الداخلة في مسمى اسمع فمعلوم أنه لا بد من نفسه فلا بد له مما يدخل في مسماها بطريقة الأولى والأحرى. وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه لم يكن معناه أن نفسه تفعل نفسه. فكذلك ما هو داخل فيها ولكن العبارة موهمة مجملة فإذا فسر المعنى زال المحذور. ويقال أيضاً: نحن لا نطلق على هذا اللفظ الغير فلا يلزمه أن يكون محتاجاً إلى الغير، فهذا من جهة الإطلاق اللفظي، وأما من جهة الدليل العلمي فالدليل دل على وجود موجود بنفسه لا فاعل ولا علة فاعلة وأنه مستغن بنفسه عن كل ما يباينه. أما الوجود الذي لا يكون له صفة ولا يدخل في مسمى اسمه معنى من المعاني الثبوتية فهذا إذا ادعى المدعي أنه المعني بوجوب الوجود وبالغني، قيل له لكن هذا المعني ليس هو مدلول الأدلة، ولكن أنت قدرت أن هذا مسمى الاسم، وجعل اللفظ دليلاً على هذا المعنى لا ينفعك إن لم يثبت أن المعنى حق في نفسه، ولا دليل على ذلك بل الدليل يدل على نقيضه. فهؤلاء عمدوا إلى لفظ الغني والقديم والواجب بنفسه فصاروا يجعلونها على معاني (1) تستلزم معاني تناقض ثبوت الصفات وتوسعوا في التعبير ثم ظنوا أن هذا الذي فعلوه هو موجب الأدلة العقلية وغيرها. وهذا غلط منهم. فموجب الأدلة العقلية لا يتلقى من مجرد التعبير، وموجب الأدلة السمعية   (1) كذا في الأصل والمراد أنهم يطلقونها على مسميات مخترعة محدثة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 يتلقى من عرف المتكلم بالخطاب لا من الوضع المحدث، فليس لأحد أن يقول أن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني (1) ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني هذا من فعل أهل الإلحاد المفترين فإن هؤلاء عمدوا إلى المعاني وظنوها ثابتة فجعلوها هي معنى الواحد والوجوب والغنى والقدم ونفي المثل، ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله تعالى بأنه أحد وواحد علي ونحو ذلك من نفي المقل والكفؤ عنه فقالوا هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء وهذا، من أعظم الافتراء على الله. وكذلك المتفلسفة عمدوا إلى لفظ الخالق والفاعل والصانع والمحدث ونحو ذلك فوضعوها لمعنى ابتدعوه، وقسموا الحدوث إلى نوعين: ذاتي وزماني، وأرادوا بالذاتي كون المربوب مقارناً للرب أزلاً وأبداً، وإن اللفظ على هذا المعنى لا يعرف في لغة أحد من الأمم، ولو جعلوا هذا اصطلاحاً لهم لم ننازعهم فيه، لكن قصدوا بذلك التلبيس على الناس، وأن يقولوا نحن نقول بحدوث العالم وأن لا خالق له ولا فاعل له ولا صانع ونحو ذلك من المعاني التي يعلم بالاضطرار أنها تقتضي تأخير المفعول لا يطلق على ما كان قديماً بقدم الرب مقارناً له أزلاً وأبداً، وكذلك فعل من فعل بلفظ المتكلم وغير ذلك من الأسماء ولو فعل هذا بكلام سيبويه وبقراط لفسد ما ذكروه من النحو والطب، ولو فعل هذا بكلام آحاد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة لفسد العلم بذلك ولكان ملبوساً عليهم فكيف إذا فعل هذا بكلام رب العالمين؟ وهذه طريقة الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته ومن شاركهم في بعض ذلك مثل قول من يقول الواحد الذي لا ينقسم، ومعنى قوله: لا ينقسم، أي لا يتميز منه شيء عن شيء، ويقول لا تقوم به صفة. ثم زعموا أن الأحد والواحد في القرآن يراد به هذا. ومعلوم أن كل ما في القرآن من اسم الواحد والأحد كقوله تعالى (وإذا كانت واحدة فلها النصف) وقوله (قالت إحداها يا أبت استأجره) وقوله (ولم   (1) كذا في الأصل والمراد معاني محدثة اصطلاحية فلعله سقط الوصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 يكن له كفواً أحد) وقوله (وإن أحد من المشركين استجارك) وقوله (ذرني ومن خلقت وحيداً) وأمثال ذلك يناقض ما ذكروه فإن هذا الأسماء أطلقت على قائم بنفسه مشار إليه يتميز منه شيء عن شيء، وهذا الذي يسمونه في اصطلاحهم جسماً. وكذلك إذا قالوا الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل والجواهر تتماثل، وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى (ليس كمثله شيء) على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث، كان هذا افتراء على القرآن، فإن هذا ليس هو المثل في لغة العرب ولا لغة القرآن ولا غيرهما. قال تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) فنفى مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية فكيف يقال أن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه، وقال تعالى (ألم ترك كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد) فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد وكلاهما بلد فكيف يقال أن كل جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب، حتى يحمل على ذلك قوله (ليس كمثله شيء) .وقد قال الشاعر: ليس كمثل الفتى زهيروقال: ما إن كمثلهم في الناس من بشرولم يقصد هذا أن ينفي وجود جسم من الأجسام، وكذلك لفظ التشابه ليس هو التماثل في اللغة قال تعالى (وأتوا به متشابها) وقال تعالى (متشابهاً وغير متشابه) ولم يرد به شيئاً هو مماثل في اللغة، وليس المراد هنا كون الجواهر متماثلة في العقل وليست متماثلة. فإن هذا مبسوط في موضعه بل المراد أن أهل اللغة التي بها نزل القرآن لا يجعلون مجرد هذا موجباً لإطلاق اسم المثل، ولا يجعلون نفي المثل نفياً لهذا فحمل القرآن على ذلك كذب على القرآن. فصل وقول القائل " المناسبة " لفظ مجمل فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال: هذا نسيب فلان ويناسبه. إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، ويراد بها المماثلة فيقال: هذا يناسب هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 أي ماثلة. والله سبحانه وتعالى أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني (1) وضدها المخالفة. والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة، فإن أولياء الله تعالى يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه، وفيما نهى عن فيتركونه، وفيما يعطيه فيصيبونه. والله وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم، نظيف يحب النظافة، محسن يحب المحسنين، مقسط يحب المقسطين، إلى غير ذلك من المعاني. بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال كما تقدم الإشارة إليه. فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال أولا يحب صفات الكمال. وإذا قدر موجودان أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك، والآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا، كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا. فدل على أن من جرد عن صفات الكمال والوجود بأن لا يكون له علم كالجماد فالذي يعلم أكمل منه والعالم الذي يحب المحمود ويبغض المذموم أكمل ممن لا يحبهما وأما أن يحبهما (2) ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم أكمل ممن يحبهما أو يبغضهما. وأصل هذه المسئلة هي الفرق بين محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وبين إرادته كما هو مذهب السلف والفقهاء وأكثر المثبتين للقدر من أهل السنة وغيرهم، وصار طائفة من القدرية والمثبتين للقدر إلى أنه لا فرق بينهما. ثم قالت القدرية: هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يريد ذلك فيكون ما لم يشاء ويشاء ما لم يكن. وقالت المثبتة. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذن قد أراد الكفر والفسوق   (1) من الشواهد على هذا قول الشريف الرضي في إبراهيم الصابي: الفصل ناسب بيننا إن لم يكن ... شرقي يناسبه ولا ميلادي (2) لعل أصل الكلام: فهو إما أن يغضهما معاً وإما أن يحبهما إلخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 والعصيان، ولم يرده ديناً، أو أراده من الكافر ولم يرده من المؤمن، فهو لذلك يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه ديناً ويحبه من الكافر ولا يحبه من المؤمن. وكلا القولين خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، ومجمعون على أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وإن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد. فصل وأما قول القائل: الرحمة ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم، فهذا باطل. أما أولاً: فلأن الضعف والخوف مذموم من الآدميين، والرحمة ممدوحة وقد قال تعالى (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وقد نهى الله عباده عن الوهن والحزن فقال تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) وندبهم إلى الرحمة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " وقال " من لا يرحم لا يرحم " وقال " الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " ومحال أن يقول لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور كما في رحمة النساء ونحو ذلك ظن الغالط أنها كذلك مطلقاً. وأيضاً فلو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله تعالى مستلزمة لذلك كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا يستلزم احتياجاً إلى خالق يجعلنا موجودين والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا، فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه، وهو سبحانه الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلوا عنه، فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء، فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 العلم والقدرة وغيرة ذلك هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان لم يحب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، ولا يقدر ولا يعلم، لكون ذلك ملازماً للحاجة فينا. فكذلك الرحمة وغيرها إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف لم يجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك. وأيضاً فنحن نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجودين أحدهما يرحم غيره فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة، والآخر قد استوى عنده هذا وهذا وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة كان الأول أكمل. فصل وأما قول القائل: الغضب غليان دم القلب بطلب الانتقام: فليس بصحيح في حقنا بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فلا يكون هناك انتقام أصلاً. وأيضاً فغليان دم القلب يقارنه الغضب ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب، كما أن الحياء يقارن حمرة الوجه والوجل يقارن صفرة الوجه، لا أنه هو، وهذا لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب وإن استشعرت العجز عاد الدم إلى داخل فاصفر الوجه كما يصيب الحزين. وأيضاً فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا لم يلزم أن يكون غضب الله تعالى مثل غضبنا، كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا، فليس هو مماثل لنا لا لذاتنا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته. ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد كان الذي عنده تلك القوة أكمل. ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالديوث، ويذم من لا حمة له يدفع بها الظلم عن المظلومين، ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش وحمية يدفع بها الظلم. ويعلم أن هذا أكمل من ذلك. ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرب بالأكملية في ذلك فقال في الحديث الصحيح " لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه والله أغير مني ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية. فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها، لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزاً عن دفعها، وكان كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد. فصل وقول القائل: إن الضحك خفة روح - ليس بصحيح وإن كان ذلك قد يقارنه ثم قول القائل " خفة الروح " إن أراد به وصفاً مذموماً فهذا يكون لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه والآخر لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ينظر إليكم البري قنطين فيظل يضحك، يعلم فرجكم قريب " فقال له أبو رزين العقيلي يا رسول الله " أويضحك الرب؟ قال " نعم " قال لن نعدم من رب يضحك خيراً (1) . فجعل الأعراب العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب أنه (يوماً عبوساً قمطريراً) .وقد روي أن الملائكة قالت لآدم: حياك الله وبياك، أي أضحكك. والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام فليس حقيقة الضحك مطلقاً مقرونة بالنقص كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقروناً بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجداً وأن لا تكون له ذات.   (1) أورد البيهقي الحديث في السماء والصفات بسنده وقال: وروي عن طائشة مرفوعا في معنى هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 ومن هنا ضلة القرامطة الغلاة كصاحب الإقليد وأمثاله فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلمه القلب وينطق به اللسان من نفي وإثبات، فقالوا: لا تقول موجود ولا لا موجود، ولا موصوف ولا لا موصوف، لما في ذلك - على زعمهم - من التشبيه، وهذا يستلزم أن يكون ممتنعاً وهو مقتضى التشبيه بالممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها، وأن يكون مماثلاً لها في شيء من صفاته كالحياة والعلم والقدرة، فإن وإن وصف بها فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق كالحدوث والموت والفناء والإمكان. فصل وأما قوله: التعجب استعظام للمتعجب منه - فيقال: نعم وقد يكون مقروناً بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن يعلم سبب ما تعجب منه بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيماً له. والله تعالى يعظم ما هو عظيم أما العظمة سببه أو لعظمته. فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم. ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال تعالى (رب العرش العظيم) وقال (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) وقال (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً) وقال (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال (إن الشرك لظلم عظيم) ولهذا قال تعالى (بل عجبت ويسخرون) على قراءة الضم فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي آثر هو وامرأته ضيفهما " لقد عجب الله " وفي لفظ في الصحيح " لقد ضحك الله الليلة من صنعكما البارحة " وقال " إن الرب ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا " وقال " عجب ربك من شاب ليست له صبوة " وقال " عجب ربك من راعي غنم على رأس شظية (1) يؤذن ويقيم فيقول الله انظروا إلى عبدي " أو كما قال ونحو ذلك.   (1) الشظية قطعة مرتفعة في رأس الجبل وأصلها الفلقة المكسورة من العصا أو العظم أو الصدفة وغيرها مما ينكسر ويتشظى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 فصل وأما قول القائل: لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصاً. وقول الآخر لو قدر وعذب لكان ظلماً، والظلم نقص - فيقال: أما المقالة الأولى فظاهره فإنه إذا قدر أنه يكون في ملكه ما لا يريده وما لا يقدر عليه وما لا يخلقه ولا يحدثه لكان نقصاً من وجوه: (أحدها) أن انفراد شيء من الأشياء عنه بالأحداث نقص لو قدر أنه في غير ملكه فكيف في ملكه؟ فإنا نعلم أنا إذا فرضنا اثنين أحدهما يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء، والآخر يحتاج إليه بعض الأشياء ويستغنى عنه بعضها كان الأول أكمل، فنفس خروج شيء عن قدرته وخلقه نقص، وهذه دلائل الوحدانية، فإن الاشتراك نقص بكل من المشتركين، وليس الكمال المطلق إلا في الوحدانية، فإنا نعلم أن من قدر بنفسه كان أكمل ممن يحتاج إلى معين، ومن فعل الجميع بنفسه فهو أكمل ممن له مشارك ومعاون على فعل البعض، ومن افتقر إليه كل شيء فهو أكمل ممن استغنى عنه بعض الأشياء. ومنها أن يقال: كونه خالقاً لكل شيء وقادراً على كل شيء أكمل من كونه خالقاً للبعض وقادراً على البعض. والقدرية لا يجعلونه خالقاً لكل شيء ولا قادراً على كل شيء. والمتفلسفة القائلون بأنه من علة غائبة شر منهم، فإنهم لا يجعلونه خالقاً لشيء من حوادث العالم لا لحركات الأفلاك ولا غيرها من المتحركات، ولا خالقاً لما يحدث بسبب ذلك ولا قادراً على شيء من ذلك ولا عالماً بتفاصيل ذلك والله سبحانه وتعالى يقول (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وإن الله قد أحاط بكل شيء علماً) وهؤلاء ينظرون في العالم ولا يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ولا أن الله قد أحاط بكل شيء علماً. (ومنها) أنا إذا قدرنا مالكين أحدهما يريد شيئاً فلا يكون ويكون ما لا يريد، والآخر لا يريد شيئاً إلا كان ولا يكون إلا ما يريد، علمنا بالضرورة أن هذا أكمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وفي الجملة قول المثبتة للقدرة يتضمن أنه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان فيقتضي كمال خلقه وقدرته ومشيئته، ونفاة القدرة يسلبونه هذه الكلمات. وأما قوله أن التعذيب على القدر ظلم منه - فهذه دعوى مجردة ليس معهم فيها إلا قياس الرب على أنفسهم، ولا يقول عاقل أن كل ما كان نقصاً من أي موجود كان لزم أن يكون نقصاً من الله، بل ولا ينتج هذا من الإنسان مطلقاً، بل إذا كان له مصلحة في تعذيب بعض الحيوان وأن يفعل به ما فيه تعذيب له حسن ذلك منه، كالذي ينصع القز فإنه هو الذي يسعى في أن دود القز ينسجه، ثم يسعى في أن يلقى في الشمس ليحصل له المقصود من القز، وهو هنا له سعي في حركة الدود التي كانت سبب تعذيبه. وكذلك الذي يسعى في أن يتوالد له ماشية وتبيض له دجاج ثم يذبح ذلك لينتفع به فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسبباً أفضى إلى عذابه لمصلحة له في ذلك. (1) ففي الجملة: الإنسان يحسن منه إيلام الحيوان لمصلحة راجحة في ذلك، فليس جنس هذا مذموماً ولا قبيحاً ولا ظلماً، وإن كان من ذلك ما هو ظلم. وحينئذ فالظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه والله له كل شيء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي يجب طاعته والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته. فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا امتنع الظلم منه. وإما أن يقال: هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع منه وقوع الظلم منه إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه. على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع منه فعله حكمة تقتضي تنزيهه عنه. وعلى هذا فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة وهذا يكفينا من حيث الجملة. وإن لم   (1) أوضح من هذا المثل تعذيب الطبيب للمريض أو الجريح في معالجته لمصلحته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا. وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه، وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمره، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها. ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفاً بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه لعدم علمه بتوجيهه، والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم في حكمته أعظم جهلاً وتكلفاً للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك. ن أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه لعدم علمه بتوجيهه، والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم في حكمته أعظم جهلاً وتكلفاً للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك. وهذا يتبين بالأصل الذي ذكرناه في الكمال وهو قولنا إن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن الوجود يجب اتصافه به وتنزيهه عما يناقضه، فيقال خلق بعض الحيوان وفعله الذي يكون سبباً لعذابه هل هو نقص مطلقاً أم يختلف. وأيضاً فإذا كان في خلق ذلك حكمة عظيمة لا تحصل إلا بذلك، فأيما أكمل تحصيل ذلك بتلك الحكمة العظيمة أو تفويتها؟ وأيضاً فهل يمكن حصول الحكمة المطلوبة بدون حصول هذا؟ فهذه أمور إذا تدبرها الإنسان علم أنه لا يمكنه أن يقول خلق فعل الحيوان الذي يكون بسبب لتعذيبه نقص مطلقاً. والمثبتة للقدر قد تجيب بجواب آخر لكن ينازعهم الجمهور فيه فيقولون كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صفة كمال بخلاف الذي يكون مأموراً منهياً الذي يؤمر بشيء وينهى عن شيء. ويقولون إنما قبح من غيره أن يفعل ما شاء لما يلحقه من الضرر وهو سبحانه لا يجوز أن يلحقه ضرر. والجمهور يقولون إذا قدرنا من يفعل ما يريد بلا حكمة محبوبة تعود إليه ولا رحمة وإحسان يعود إلى غيره كان الذي يفعل لحكمة ورحمة أكمل ممن يفعل لا لحكمة ولا لرحمة. ويقولون إذا قدرنا مريداً لا يميز بين مراده ومراد غيره ومريداً يميز بينهما فيريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ما يصلح أن يراد وينبغي أن يراد دون ما هو بالضد كان هذا الثاني أكمل. ويقولون: المأمور المني الذي فوقه آمر ناه هو ناقص بالنسبة إلى من ليس فوقه آمر ناه، لكن إذا كان هو الآمر لنفسه بما ينبغي أن يفعل والمحرم عليها ما لا ينبغي أن يفعل، وآخر يفعل يما يريده بدون أمر ونهي من نفسه. فهذا الملتزم لأمره ونهيه الواقعين على وجه الحكمة أكمل من ذلك وقد قال تعالى (كتب ربكم على نفسه الرحمة) وقال " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مجرماً فال تظالموا ". وقالوا أيضاً: إذا قيل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على وجه بيان قدرته، وأنه لا مانع له ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده، ولا أن يجعله مريداً، كان هذا أكمل ممن له مانع يمنعه مراده ومعين لا يكون مريداً أو فاعلاً لما يريد إلا به. وأما إذا قيل: يفعل ما يريد باعتبار أنه لا يفعل على وجه مقتضى العلم والحكمة بل هو متوسل فيما يفعله، وآخر يفعل ما يريد لكن إرادته مقرونة بالعلم والحكمة كان هذا الثاني أكمل. وجماع الأمر في ذلك: أن كمال القدرة صفة كمال، وكون الإرادة نافذة لا تحتاج إلى معاون ولا يعارضها مانع وصف كمال. وأما كون الإرادة لا تميز بين مراد ومراد بل جميع الأجناس عندها سواء فهذا ليس يوصف كمال، بل الإرادة المميزة بين مراد ومراد كما يقتضيه العلم والحكمة هي الموصوفة بالكمال، فمن نقصه في قدرته وخلقه ومشيئته فلم يقدره قدره. ومن نقصه من حكمته ورحمته فلم يقدره حق قدره. والكمال الذي يستحقه إثبات هذا وهذا. فصل في الرد على منكري النبوات بالعقل وأما منكرو النبوات وقولهم: ليس الخلق أهلاً أن يرسل الله إليهم رسولاً كما أن أطراف الناس ليسوا أهلاً أن يرسل السلطان إليهم رسولاً. فهذا جهل واضح في حق المخلوق والخالق، فإن من أعظم ما تحمد به الملوك: خطابهم بأنفسهم لضعفاء الرعية فكيف بإرسال رسول إليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وأما في حق الخالق فهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو قادر مع كمال رحمته، فإذا كان كامل القدرة كامل الرحمة فما المانع أن يرسل إليهم رسولاً رحمة منه؟ كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا رحمة مهداة " ولأن هذا من جملة إحسانه إلى الخلق بالتعليم والهداية وبيان ما ينفعهم وما يضرهم كما قال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) فبين تعالى أن هذا من مننه على عباده المؤمنين. فإن كان المنكر ينكر قدرته على ذلك فهذا قدح في كمال قدرته، وإن كان ينكر إحسانه بذلك فهذا قدح في كمال رحمته وإحسانه. فعلم أن إرسال الرسول من أعظم الدلالة على كمال قدرته وإحسانه، والقدرة والإحسان من صفات الكمال لا النقص. وأما تعذيب المكذبين فذلك داخل في القدر لما له فيه من الحكمة. فصل وأما قول المشركين: إن عظمته وجلاله يقتضي أن لا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب، والتقرب بدون ذلك غض من جنابه الرفيع: فهذا باطل من وجوه: منها أن الذي لا يتقرب إليه إلا بوسائط وحجاب إما أن يكون قادراً على سماع كلام جنده وقضاء حوائجهم بدون الوسائط والحجاب، وإما أن لا يكون قادراً، فإن لم يكن قادراً كان هذا نقصاً والله تعالى موصوف بالكمال فوجب أن يكون متصفاً بأنه يسمع كلام عباده بلا وسائط، ويجيب دعاءهم، ويحسن إليهم بدون حاجة إلى حجاب، وإن كان الملك قادراً على فعل أموره بدون الحجاب، وترك الحجاب إحساناً ورحمة كان ذلك صفة كمال. وأيضاً: فقول القائل إن هذا غض منه إنما يكون فيمن يمكن الخلق أن يضروه ويفتقر في نفعه إليهم، فأما مع كمال قدرته واستغنائه عنهم وأمنه أن يؤذوه فليس تقربهم إليه غضاً منه، بل إذا كان اثنان أحدهما يقرب إليه الضعفاء إحساناً إليهم ولا يخاف منهم. والآخر لا يفعل ذلك إما خوفاً وإما كبراً وإما غير ذلك كان الأول أكمل من الثاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وأيضاً فإن هذا لا يقال إذا كان ذلك بأمر المصاع بل إذا أذن للناس في التقرب منه ودخول داره لم يكن ذلك سوء أدب عليه ولا غضاً منه، فهذا إنكار على من تعبده بغير ما شرع. ولهذا قال تعالى (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه) وقال تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) . فصل وأما قول القائل: أنه لو قيل لهم أيما أكمل؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات من الذوق والشم واللمس أم ذات لا توصف بها؟ لقاوا: الأول أكمل، ولم يصفوه بها. فنقول مثبتة الصفات لهم في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة. أحدها إثبات هذه الإدراكات لله تعالى كما يوصف بالسمع والبصر. وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي وأظنه قول الأشعري نفسه بل هو قول المعتزلة البصريين الذين يصفونه بالإدراكات وهؤلاء وغيرهم يقولون تتعلق به الإدراكات الخمسة أيضاً كما تتعلق به الرؤية. وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في المعتمد وغيره. والقول الثاني قول من ينفي هذه الثلاثة كما ينفي ذلك كثير من المثبتة أيضاً من الصفاتية وغيرهم: وهذا قول طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وكثير من أصحاب الأشعري وغيره. والقول الثالث إثبات إدراك اللمس دون إدراك الذوق لأن الذوق إنما يكون بالمطعوم فلا يتصف به إلا من يأكل ولا يوصف به إلا ما يؤكل والله سبحانه منزه عن الأكل، بخلاف اللمس فإنه بمنزلة الرؤية وأكثر أهل الحديث يصفونه باللمس وكذلك كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولا يصفونه بالذوق. وذلك أن نفاة الصفات من المعتزلة قالوا للمثبتة: إذا قلتم إنه يرى فقولوا أنه يتعلق به سائر أنواع الحس وإذا قلتم إنه سميع بصير فصفوه بالإدراكات الخمسة. فقال أهل الإثبات قاطبة: نحن نصفه بأنه يرى وأنه يسمع كلامه كما جاءت بذلك النصوص. وكذلك نصفه بأنه يسمع ويرى. وقال جمهور أهل الحديث والسنة تصفه أيضاً بإدراك اللمس لأن ذلك كمال لا نقص فيه. وقد دلت عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 النصوص بخلاف إدراك الذوق، فإنه مستلزم للأكل وذلك مستلزم للنقص كما تقدم. وطائفة من نظار المثبتة وصفوه بالأوصاف الخمس من الجانبين. ومنهم من قال إنه يمكن أن يتعلق به هذه الأنواع كما تتعلق به الرؤية، لاعتقادهم أن مصحح الرؤية الوجود، ولم يقولون أنه متصف بها. وأكثر مثبتي الرؤية لم يجعلوا مجرد الوجود هو المصحح للرؤية، بل قالوا إن المقتضى أمور وجودية، لا أن كل موجود يصح رؤيته، وبين الأمرين فرق، فإن الثاني يستلزم رؤية كل موجود بخلاف الأول، وإذا كان المصحح للرؤية هي أمور وجودية لا يشترط فيها أمور عدمية، فما كان أحق بالوجود وأبعد عن العدم كان أحق بأن تجوز رؤيته، ومنهم من نفى ما سوى السمع ولبصر من الجانبيين. فصل وأما قول القائل: الكمال والنقص من الأمور النسبية - فقد بينا أن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأنه الكمال الممكن للوجود، ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلاً، والكمال النسبي هو المستلزم للنقص فيكون كمالاً من وجه دون وجه كالأكل للجائع كمال له وللشبعان نقص فيه، لأنه ليس بكمال محض بل هو مقرون بالنقص. والتعالي والتكبر والثناء على النفس وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى، وهو نقص مذموم من المخلوق، وهذا كالخبر عما هو من خصائص الربوبية كقوله (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) وقوله تعالى (ادعوني أستجيب لكم) وقوله (إن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) وقوله (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقوله (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقود الإشهاد) وقوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه) وأمثال هذا الكلام الذي يذكر الرب فيه عن نفسه بعض خصائصه وهو في ذلك صادق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 في إخباره عن نفسه بما هو من نعوت الكمال - هو أيضاً من كماله، فإن بيانه لعباده وتعريفهم ذلك هو أيضاً من كمال. وأما غيره فلو أخبر بمثل ذلك عن نفسه لكان كاذباً مفترياً، والكذب من أعظم العيوب والنقائص. وأما إذا أخبر المخلوق عن نفسه بما هو صادق فيه فهذا لا يذم مطلقاً، بل قد يحمد منه إذا كان في ذلك مصلحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وأما إذا كان فيه مفسدة راجحة أو مساوية، فيذم لفعله ما هو مفسدة لا لكذبه، والرب تعالى لا يفعل ما هو مذموم عليه بل له الحمد على كل حال فكل ما يفعله هو منه حسن جميل محمود. وأما قول من يقول: الظلم منه ممتنع لذاته فظاهر. وأما على قول الجمهور من أهل السنة والقدرية فإنه إنما يفعل بمقتضى الحكمة والعدل فأخباره كلها وأقواله وأفعاله كلها حسنة محمودة، واقعة على وجه الكمال الذي يستحق عليه الحمد. وله من الأمور التي يستحق بها الكبرياء والعظمة ما هو من خصائصه تبارك وتعالى فالكبرياء والعظمة له بمنزلة كونه حياً قيوماً قديماً واجباً بنفسه وأنه بكل شيء عليهم وعلى كل شيء قدير وأنه العزيز الذي لا ينال وأنه قهار لكل ما سواه فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو فما لا يستحقه إلا هو كيف يكون كمالاً من غيره وهو معدوم لغيره؟ فمن ادعاه كان مفترياً منازعاً للربوبية في خواصها كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته " وجملة ذلك أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب، فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه. ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره فادعاؤه منازعة للربوبية وفرية على الله. ومعلوم أن النبوة كمال للنبي وإذا ادعاه المفترون كمسيلمة وأمثاله كان ذلك نقصاً منهم لا لأن النبوة نقص ولكن دعواها ممن ليست له هو النقص، وكذلك لو ادعى العلم والقدرة والصلاح من ليس متصفاً بذلك كان مذموماً ممقوتاً، وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 يقتضي أن الرب تعالى متصف بكمال لا يصلح للمخلوق، وهذا لا ينافي أن ما كان كمالاً للموجود من حيث هو موجود فالخلق أحق به ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه إذا وصف الخالق بما هو منه فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه، وهذا حق فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء فليس له سمي ولا كفؤ، سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك، أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق فالذي يثبت للخالق منه نوع أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها. وملخص ذلك أن المخلوق يذم منه الكبرياء والتجبر وتزكية نفسه أحياناً ونحو ذلك. وأما قول السائل فإن قلتم نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها هل هي كمال أم نقص؟ فذلك يحيل الحكم عليها بأحدهما لأنها قد تكون كمالاً لذات نقصاً لأخرى على ما ذكر - فيقال بل نحن نقول الكمال الذي لا نقص فيه الممكن الوجود هو كمال مطلق لكل ما يتصف به. وأيضاً فالكمال الذي هو كمال للموجود من حيث هو موجود يمتنع أن يكون نقصاً في بعض الصور، لأن ما كان نقصاً في بعض الصور تاماً في بعض، هو كمال لنوع من الموجودات دون نوع فلا يكون كمالاً للموجود من حيث هو موجود. ومن الطرق التي بها يعرف ذلك أن نقدر موجودين أحدهما متصف بهذا والآخر بنقيضه فإنه يظهر من ذلك أيهما أكمل، وإذا قيل هذا أكمل من وجه وهذا أنقص من وجه لم يكن كمالاً مطلقاً. والله أعلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وافق الفراغ من تعليقها يوم الخميس بعد العصر ثامن عشر المحرم من سنة وست وثلاثين وسبعمائة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 يقول محمد رشيد رضا أن هذه الرسالة من أنفس ما كتبه شيخ الإسلام وامتاز به على جميع علماء الملة، وأدلها على اتقانه لجميع العلوم العقلية ولا سيما المنطق والفلسفة، وهي حجة من حجج الله تعالى على حقية مذهب السلف في إثبات جميع ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله (ص) من الصفات والافعال بدون تأويل ولا تعطيل ولا تمثيل، وخطأ نظار المتكلمين والفلاسفة الذي انكروها أو أولوها، وبطلان نظريتها التي بنوا عليها مذاهبهم. وكونها اصطلاحات مجملة موهمة أساسها قياس الخالق على المخلوق، فليقرأها المخدوعون بتأويلات كتب الكلام القائلين بأن مذهبهم السلف اسلم،ومذهب الخلف أعلم، يعلموا أن من قال هذا فهو لا يعلم ولا يفهم، فمذهب السلف هو الأسلم والأعلم والاحكم، وقد رجح إليه أكبر علماء نظارهم، في أواخر اعمارهم، ولكن لم يستطع منهم لا من المتقدمين ولا من المتأخرين أن يثبته بالبراهين العقلية، على الأساليب الفلسفية، والقوانين المنطقية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 رسالة العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام، العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأسكنه فسيح الجنان: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً. فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصاً حتى أتاه اليقين من ربه. صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. فصل في العبادات، والفرق بين شرعيها فإن هذا باب كثير فيه الاضطراب كما كثر في باب الحلال والحرام. فإن أقواماً استحلوا بعض ما حرمه الله، وأقواماً حرموا بعض ما أحل الله تعالى، وكذلك أقواماً أحدثوا عبادات لم يشرعها الله بل نهى عنها. وأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله. قال الله تعالى (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) . وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطاً وخط خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال " هذه سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 منها شيطان يدعو إليه " ثم قرأ " وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) . وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم، وشرعوا ديناً لم يأذن به الله، فقال تعالى (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) ومنه أشياء هي مرحمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش، مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك. والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخر. والمقصود هنا العبادات فنقول: العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوباً لله ورسوله مرضياً لله ورسوله، إما واجب وإما مستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى " ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إليه بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ". ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومنها نافلة كقيام الليل وكذلك الصيام فيه فرض، وهو صوم شهر رمضان، ومن نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض، وإلى المسجدين الآخرين: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس - مستحب. وكذلك الصدقة منها ما هو فرض ومنها ما هو مستحب، وهو العفو كما قال تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك، وإن متسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول " والفرق بين الواجب والمستحب له موضع آخر غير هذا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع سواء كان واجباً أو مستحباً، وما ليس بمشروع. فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وهو سبيل الله، وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف، وهو طريق السالكين، ومنهاج القاصدين والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله وسلك طريق الزهد والعبادة، وما يسمى بالفقر والتصوف ونحو ذلك. ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة واجبها ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والإذكار والدعوات الشرعية. وما كان من ذلك موقتاً بوقت كرفي النهار، وما كان متعلقاً بسبب كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار والأدعية في ذلك. وهذا يدخل فيه أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي كصيام نصف الدهر وثلثه أو ثلثيه أو عشره وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه السفر الشرعي، كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع. والعبادات الدينية أصولها الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " ألم أحدث أنك قلت لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن في ثلاث؟ " قال بلى. قال " فلا تفعل: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس (1) " ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم فقال: إني أطيق أكثر من ذلك فقال " لا أفضل من ذلك " وقال " أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى. وأفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه " وأمره أن يقرأ القرآن في سبع.   (1) هجمت: أي غارت ودخلت في موضعها. ونفهت: أعيت وكلت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين " يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة، وأنهم يغلون في ذلك حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء. وهؤلاء غلوا في العبادة بلا فقه فآل الأمر بهم إلى البدعة فقال " يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما وجدتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة " فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم. وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها. ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة (1) ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها. وله صنف كتاب الاقتصاد في العبادة. وقال أبي بن كعب وغيره " اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة ". والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيد وأيام التشريق وقيام جميع الليل، هل هو مستحب - كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء والصوفية والعباد، أو هو مكروه - كما دلت عليه السنة وإن كان جائزاً؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل، وقيام ثلث الليل أفضل، ولبسطه موضع آخر. إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشبه بالاعتكاف الشرعي. والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه من العبادات الشرعية. وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه (2) بغار حراء قبل الوحي وهذا خطأ،   (1) أي الصلاة والصيام والقراءة (2) التحنث التعبد وأصله التنزه من الحنث وهو الاثم وزنا ومعنى كالتحرج ويقرب منه التحنف واصل معناه الميل عن القبيح إلى الحسن والحنفية ملة إبراهيم واختلف في عبادة نبينا (ص) في غار حراء قبل النبوة فقيل كانت تفكرا وقيل غير ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه وإلا فلا. وهو من حيث نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون. وقد أقام صلوات الله عليه بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح أقام بها قريباً من عشرين ليلة وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه ولم يقصده، وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية ويقال أن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ بل قال له الملك عليه السلام (اقرأ) قال صلوات الله عليه وسلامه (فقلت لست بقارئ) ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة. ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين كأبي جهل، قال الله تعالى (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى، أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى، كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع ناديه، سندع الزبانية، كلا لا تطعه واسجد واقترب) . وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يوماً ويعظمون أمر الأربعينية ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وقد روي أن موسى عليه السلام صامها وصام المسيح أيضاً أربعين لله تعالى وخوطب بعدها. فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي. وهذا أيضاً غلط فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل شرعت لموسى عليه السلام كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة. وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين وحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عدداً طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل فنزلت عليهم الشياطين لأنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها. قال تعالى (ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين) وكثير منهم لا يحد للخلوة مكاناً ولا زماناً بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة. ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية: الصلاة والصيام والقراءة والذكر. وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير مشروعة، فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة أن لا يزيد على الفرض، لا قراءة ولا نظراً في حديث نبوي ولا غير ذلك، بل قد يأمرونه بالذكر، ثم قد يقولون ما يقوله أبو حامد: ذكر العامة: لا إله إلا الله، وذكر الخاصة: الله الله، وذكر خاصة الخاصة: هو هو. والذكر بالاسم المفرد مظهراً ومضمراً بدعة في الشرع وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلاماً لا إيماناً ولا كفراً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر " وفي حديث آخر " أفضل الذكر لا إله إلا الله " وقال " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير " والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة. وأما ذكر الاسم المفرد فبدعة لم يشرع وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان، ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين يبين أنه ليس قصدنا ذكر الله تعالى، ولكن جمع القلب على شيء معين حتى تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، فإذا اجتمع قلبه ألقي عليه حالاً شيطانياً فيلبسه الشيطان ويخيل إليه أنه قد صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطي ما لم يعطه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ولا موسى عليه السلام يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا. وأبلغ من ذلك من يقول ليس مقصودنا إلا جمع النفس بأي شيء كان، حتى يقول لا فرق بين قولك يا حي وقولك لا جحش. وهذا مما قاله لي شخص منهم وأنكرت ذلك عليه، ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل فيها الشيطان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 ومنهم من يقول إذا كان قصد وقاصد ومقصود فاجعل الجميع واحداً فيدخله في أول الأمر في وحدة الوجود. وأما أبو حامد وأمثاله (1) ممن أمروا بهذه الطريقة فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر، لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر، ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء، حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول: الله الله، وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل قد يقولون: أنه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء. ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للأنبياء، وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في الإحياء وغيره (2) كما أنه يبالغ في مدح الزهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه. فإن المتفلسفة كابن سينا وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنهما هو من العقل الفعال. ولهذا يقولون النبوة مكتسبة فإذا تفرغ صفى قلبه عندهم وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء وعندهم أن موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم كلم من سماء عقله لم يسمع الكلام من خارج فلهذا يقولون إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى وأعظم مما حصل لموسى. وأبو حامد يقول إنه سمع الخطاب كما سمعه موسى عليه السلام وإن لم يقصد هو بالخطاب، وهذا كله لنقص إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، وهذا الذي قالوه باطل من وجوه: أحدها أن هذا الذي يسمونه العقل الفعال باطل لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر. الثاني أن ما يجعله الله في القلوب يكون تارة بواسطة الملائكة، إن كان   (1) يعني بأمثاله من سلكوا طريقة التصوف بعد التفقه في الدين وقلما تفضي بأمثالهم إلى الكفر إلا إذا اختلت عقولهم بالافراط في التقشف والاستسلام للتخيلات (2) ولكنه لم يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للانبياء ولا مثله بل هو يفضل مثل الشافعي على نفسه ويفضل الصحابة على الشافعي بل بين غرور بعض الصوفية وضلالهم في ذلك في كتاب ذم الغرور من الإحياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 حقاً، وتارة بواسطة الشياطين إذا كان باطلاً (1) والملائكة والشياطين أحياء ناطقون كما قد دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من جهة الأنبياء، وكما يدعي ذلك من باشره من أهل الحقائق. وهم يزعمون أن الملائكة والشياطين صفات لنفس الإنسان فقط. وهذا ضلال عظيم. الثالث أن الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربهم بالوحي ومنهم من كلمه الله تعالى فقربه وناداه، كما كلم موسى عليه السلام، لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض كما يزعمه هؤلاء. الرابع أن الإنسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر، فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل أو سمع، وكلاهما لم يدل على ذلك. (2) الخامس أن الذي قد علم بالسمع والعقل أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء (3) حلت فيه الشياطين ثم تنزلت عليه الشياطين، كما كانت تتنزل على الكهان، فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر الله الذي أرسل به رسله، فإذا خلا من ذلك تولاه الشيطان، قال الله تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين، وأنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) وقال الشيطان فيما أخبر الله عنه (فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين) وقال تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا   (1) وأبو حامد قال هذا بعينه في شرح عجائب القلب واستشهد له بحديث الترمذي والنسائي في الكبير في لمة الملك بابن آدم ولمة الشيطان فهو لا يقول ان الملائكة والشياطين صفات للنفس بل يقول فيها ما قاله أهل السنة الجماعة في مواضع كثيرة من الأحياء فمن المستغرب من الشيخ انكاره عليه (2) فيه أنه إذا وافق الشرع يعلم به أنه حق وإلا حكم بأنه باطل كما روى عن الشيخ عبد القادر الجيلي الذي يعترف له شيخ الإسلام بالولاية والكرامات أنه رأى مرة نوراً وسمع منه خطاباً فيه أن ربه يقول له قد أحللت لك المحرمات، فأجابه اخسأ يالعين، فانقلب دخاناً وقال له نجوت مني بفقهك (3) تفريغ القلب من كل شيء محال وانما يجتهدون في تفريغه من الخواطر التي تشغله عن ذكر الله ومراقبته كما صرح به أبو حامد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 من اتبعك من الغاوين) والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئاً، وإنما يعبد الله بما يأمر به على ألسنة رسله، فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين. وهذا باب دخل في أمر عظيم على كثير من السالكين واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء الله المتقين كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. السادس أن هذه الطريقة لو كانت حقاً فإنما تكون في حق من لم يأته رسول. فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك طريق فمن خالفه ضل. وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة وذكر ودعاء وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر وانتظار ما ينزل. فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض الأنبياء لكانت منسوخة بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف وهي طريق جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله تعالى في قلب العبد إلهاماًينفعه، وهذا قد يحصل لك أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق؟ ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج منه عند خوف غير الله ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله ويثبت فيه التوكل على الله (1) وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا يناقضه وينافيه، كما قال حندب وابن عمر " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً ". وأما الاقتصار على الذكر المجرد الشرعي مثل قول: لا إله إلا الله - فهذا قد ينتفع به الإنسان أحياناً لكن ليس هذا الذكر وحده هو الطريق إلى الله تعالى   (1) وأبو حامد يقصد كل هذا بتصوفه وفصله في أحيائه، وقد أخطأ في بعض المسائل كالمبالغة في الزهد كاكثر العباد من السلف والخلف، والقول بالجبر كأكثر الأشعرية وهذا من خطأ العلماء الاجتهادي الذي ذكر شيخ الإسلام مسائل منه عن الصحابة والتابعين وغيرهم وعذرهم فيه بتأولهم واجتهادهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة ثم القراءة ثم الذكر ثم الدعاء (1) والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من القراءة، ثم قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل. وقد ييسر عليه هذا دون هذا فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسراً عليه والفاضل متعسراً عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به. السابع أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش الصين والروم على تزويق الحائط وأولئك صقلوا حائطهم حتى بمثل ما صقله هؤلاء (2) وهذا قياس فاسد لأن هذا الرأي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية كما حصل لهذا الحائط من هذا الحائط، بل هو يقول أن العلم منقوش في النفس الفلكية ويسمى ذلك اللوح المحفوظ تبعاً لابن سينا (3) .   (1) الصوفية الشرعيون كابي حامد يوافقونه في كل إلا أنهم يقولون بالإكثار من الذكر وقد تكرر في القرآن الترغيب فيه (2) يشير إلى المثل الذي ضربه لتطهير القلب وهو أن صناع الروم نقشوا جانباً من صفة بيت لأحد الملوك بأبدع النقوش وصناع الصين صقلوا الجانب الآخر حتى صار كالمرآة فلما زال الحجاب المضروب بينهما انطبع ذلك النقش كله في الجانب المصقول فكذلك القلب الذي يصقل بذكر الله تعالى ينطبع فيه بعض العلوم المكتوبة في اللوح المحفوظ أو قلوب الملائكة (3) انما قال أبو حامد في اللوح ما قاله علماء الشرع لا الفلاسفة، وعبارته في الاحياء هكذا: فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة اهـ فهو يقول أن كتابة مقادير الخلق هي من أفعال الفاطر الاختيارية، والنفس الفلكية عند الفلاسفة قديمة أزلية بما فيها. وقال أبو حامد أن حقائق الأشياء المسطورة في اللوح المحفوظ مسطورة في قلوب الملائكة المقربين، وضرب مثلا لاستفادة القلب العلم منهم ومن اللوح بالرؤيا الصادقة واستشهد لاستعداده لذلك بحديث "سبق المفردون" وتفسيره صلى الله عليه وسلم لهم " بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات" وهو في صحيح مسلم والمستدرك، واستشهد في فصل آخر بحديث المحدثين أي الملهين وكون عمر (رض) منهم. ولا تتسع هذه الحاشية لبسط هذا الموضوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله ورسوله ليس هو النفس الفلكية، وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع فأخذوا مخ الفلسفة وكسوه لحاء الشريعة وهذا كلفظ الملك والمكلوت والجبروت واللوح المحفوظ والملك والشيطان والحدوث والقدم وغير ذلك وقد ذكرنا من ذلك طرفاً في الرد على الاتحادية لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه كما فعلت طائفة القرامطة الباطنية. والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية كما يزعم هؤلاء فلا فرق في ذلك بين الناظر والمستدل والمفرغ قلبه، فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل (1) . ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين ولهم تنزلات معروفة. وقد بسط الكلام علياه ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله كالتلمساني وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة، لكن ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس. ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية، بل سهر مطلق، وجوع مطلق، وصمت مطلق، مع الخلوة، كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره وهي تولد لهم أحوالاً شيطانية. وأبو طالب قد ذكر بعض ذلك، لكن أبو طالب أكثر اعتصاماً   (1) ليس في هذا الموضوع شيء من التحقيق الذي نعهده في كلام شيخ الإسلام والمظلوم فيه أبو حامد فإنه ليس ممن قرنه بهم من الفلاسفة والاتحادية الصوفية، ولم يقل بنزول العلوم من النفس الفلكية، وقد فرق بين الناظر والمستدل وبين المفرغ قلبه بذكر الله من الخواطر الشيطانية بأوضح بيان ومنها هذا التمثيل وكأن الشيخ لم يراجع كلامه حين كتب هذا ولم يكن مما عنى بحفظه كما يحفظ كتب الحديث وألفاظها، ولا بمعانيه كما عني بمذاهب الفقه وغيرها،لأنه لم يكن يراه يستحق هذه العناية. وسبحان من أحاط بكل شيء علما، وقال في وصف كتابه (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 بالكتاب والسنة من هؤلاء. ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة، من جنس أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذب مح وإن كان ليس فيه إلا قراءة قرآن ويذكر أحياناً عبادات بدعية من جنس ما بالغ في معراج الجوع هو وأبو حامد وغيرهما وذكروا أنه يزن الخبز بخشب رطب، كلما جف نقص الأكل (1) . وذكروا صلوات الأيام والليالي، وكلها كذب موضوعة، ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئاً من الخيالات الفاسدة وليس هذا موضع بسط ذلك. وإنما الغرض التنبيه بهذا على جنس من العبادات البدعية. وهي الخلوات البدعية سواء قدرت بزمان أو لم تقدر لما فيها من العبادات البدعية. إما التي جنسها مشروع ولكن غير مقدرة. وإما ما كان جنسه غير مشروع، فأما الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب (2) . فالأول كاعتزال الأمور المحرمة ومجانبتها كما قال تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) ومنه قوله تعالى عن الخليل (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب، وكلا جعلنا نبياً) وقوله عن أهل الكهف (وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فاءوا إلى الكهف) فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة، ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكف وقد قال موسى (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) . وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينتفع، وذلك بالزهد فيه فهو مستحب وقد قال طاول: نعم صومعه الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه. وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة، فهذا حق كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس   (1) أن بعض هذه الرياضات لم يكونوا يعدونها عبادة مطلوبة شرعاً بل تجارب نافعة كتقليل الطعام بالتدريج الذي يؤمن به ضرر تغيير العادة (2) ومنه ما يقوم الدليل على شرعية جنسه وإن لم يرد نص في الأمر به بعينه، وقد بسط أبو حامد في كتاب العزلة من الاحياء فوائد العزلة وغوائلها لمعرفة الراجح من المرجوح منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 أفضل؟ قال " رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة (1) طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير " وقوله " يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة " دليل على أن له مالاً يزكيه وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلاة فيهم فقد قال صلوات الله عليه " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة جماعة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان " وقال " عليكم بالجماعة فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم ". فصل وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس إما مساجد مهجورة وإما غير مساجد مثل الكهوف والغيران التي في الجبال، ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن ومثل المقابر التي يقال أن بها أثر نبي أو رجل صالح. ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية. فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه وقد مات من سنين كثيرة ويقول أنا فلان، وربما قال له نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا كما للتونسي مع نعمان السلامي. والشياطين كثيراً ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر وربما قال: أنا المسيح أنا موسى أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها (2) وثم من يصدق بأن   (1) الهيعة الصوت الذي نفزع منه وتخافه من عدو (2) من ذلك أنه ذكر له رحمه الله أنه رؤى في بعض البلاد يعظ التتار وهو لم يذهب إلى تلك البلاد فعلل ذلك بقوله لعل بعض إخواننا من مسلمي الجن تمثل في صورتنا وصار يعظ هؤلاء الناس لاجل أن يقبل وعظه. ولم يقل أن ذلك شيطان لأنه كان يأمر بالخير وبناء عليه لا ينبغي ان يقال فيمن يرون بعض الأنبياء أو الصحابة يأمرونهم بالحق والخير أنهم رأوا شياطين بصورتهم تأمرهم بذلك وإنما يصح أن يقال ذلك فيمن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف شرعا كما وقع للشيخ عبد القادر. والتحقيق أن أكثر هذه الصور خيالية سببها كثرة الفكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثم شيوخ لهم زهد وعلم ودين يصدقون بمثل هذا. ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلي قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه. ومن هؤلاء من رأى في دائر الكعبة صورة شيخ قال أنه إبراهيم الخليل، ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه. وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه. وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه. وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابها؟ (1) . فصل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه وأن نقتدي بهم وبهداهم. قال الله تعالى (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي   (1) في هذا أنه صح ما ذكروه لا يقتضي أن يكون من يرى في ذلك أفضل من المهاجرين والأنصار ولا من كل من لا يرى ما رآه اذ يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل ولا الافضل كما بينه المؤلف في رسالة المعجزات والكرامات وأما المسألة في نفسها فلا شك أن أكثر ما يروي في رؤية الارواح تخيلات تعرض للمستعدين لها من المرتاضين ولا سيما أصحاب الامزجة العصبية ولذلك نرى كل واحد منهم ينقل عنها ما يوافق اعتقاده ومعارفه من حق أو باطل. وبعض الصوفية وغيرهم يذكرون فرقا بين الرؤية الخيالية التي تشبه الرؤيا المنامية وبين رؤية الأرواح الحقيقية وهذه المسألة قد شغلت فريقاً من علماء النفس وغيرهم في هذا العصر ويحكون فيها وقائع غريبة، ولما تثبت للجماهير ببرهان علمي ولا بتجربة واضحة لا لبس فيها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) وقال تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره، فلم يبق طريق إلى الله إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب فهو مشروع وما رغب فيه وذكر ثوابه وفضله. ولا يجوز أن يقال أن هذا مستحب أو مشروع إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شرعية بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي، وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة، فإذا روي في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يكذب به، وهذا هو الذي كان للإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف فحاشى لله، كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب فإنهم لم يكونون يستحلون روايته إلا أن يثبتوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ". وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه. فإذا تخصص زمان أو مكان بعبادة كان تخصيصه بتلك العبادة سنة كتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل لأنه فعل. وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد، فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا لذلك كنا متبعين له، وكذلك إذا ضرب لإقامة حد، بخلاف من شاركه في السفر وكان قصده غير قصده أو شاركه في الضرب وكان قصده غير قصده، فهذا ليس بمتابع له، ولو فعل بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان، أو أن يصب في أدواته ماء فصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟ كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك. وأما الخلفاء الراشدون وجمهور الصحابة فلم يستحبوا ذلك لأن هذا ليس بمتابعة له، إذ المتابعة لا بد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 بل حصل له بحكم الاتفاق (1) كان في قصده غير متابع له وابن عمر رحمه الله يقول: وإن لم يقصده (2) لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته وإما لتركه مشابهته. ومن هذا الباب إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك وبرخص في مثل ما فعله ابن عمر وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعاً لابن عمر. وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان: أشهرهما أنه مكروه كقول الجمهور وأما مالك وغيره من العلماء فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر فإن أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم لم يفعلها فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكاناً يصلون فيه فقال ما هذا؟ قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فيه وإلا فليمض. وهكذا للناس قولان فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد وغيره كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقطوان كان هو لم يقصد التعبد به فأما الأمكنة نفسها فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها إلا ما عظمه الشارع. فصل وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه فهذا كما تقدم لم يكن ابن   (1) وقد نبه صلى الله عليه وسلم لمثل هذا لئلا يقصد فقال في نسكه في حجة الوداع "وقفت هنا وعرفة كلها موقف. ومنى كلها منحر" وإذا لم يرد أن يتبع في مثل هذه الامور الاتفاقية في النسك فغير النسك أولى، ومخالفة ابن عمر لجمهور الصحابة في هذا يعذر فيها بحسن نيته ولا يتبع (2) أي لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 عمر ولا غيره يفعله فإنه ليس فيه متابعتهم لا في عمل عملوه ولا قصد قصدوه ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها إما في سفر وإما في مقامه مثل طرقه في حجه وغزواته ومنازله في أسفاره، ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحياناً (1) فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ". فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد. ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن تكون المساجد خالصة لله تعالى تبنى لأجل عبادته فقط، لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراماً، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل، ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهذا الذي خاف عمر رضي الله عنه أن يقع فيه المسلمون هو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه، قال الله تعالى (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وقال تعالى (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين) وقال تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حطبت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) . ولو كان هذا مستحباً لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئاً من ذلك.   (1) سقط من هنا ورقة من الأصل. والظاهر من سياق الكلام أنه تكلم فيه على ما اتخذه الناس من القبور والاماكن محال عبادة. وأن ذلك غير شرعي. واحتج على ذلك بأحاديث منها حديث " أن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد إلخ ويعلم تفصيل هذا من كتاب التوسل والوسيلة له وهو مطبوع مشهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يقصد للصلاة إلا المسجد. ولا مكان يقصد للعبادة إلى المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر. وفيها الصلاة والنسك، قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت) وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك وإن كان مسكناً لنبي أو منزلاً أو ممراً. فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها بخلاف ما كان من خصائص. فأما الفعل الذي لم شرعه هو لنا ولا أمرنا به ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه فإن فعله مباحاً فعلناه مباحاً وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص (1) . فصل وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره. وقد يبغض إليهم جنس الكتاب فلا يحبون كتاباً ولا من معه كتاب ولو كان مصحفاً أو حديثاً، كما حكى النصر أبا ذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق،   (1) أي هذا مدرك اجتهاد مخالفي جمهور السلف وأئمة الامصار في المسألة ومدرك الجمهور أقوى فإن التعبد بما لم يجعله الشارع عبادة شرع لم يأذن به الله وغلو في الدين وكلاهما من عظائم الموبقات المذمومة في القرآن وقصد التبرك لا يبيح مخالفته في أصل التشريع وكون دينه وسطاً لا غلو فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 ويأخذ علم الورق، قال ولست أستر ألواحي منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي، وكذلك حكى السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يعقد عنده. ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن. وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب، وذلك أنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا، كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه، وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه وقال الله تعالى عن المشركين (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وقال تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة) . وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى. وكان مما زين لهم طريقهم أن وجودوا كثيراً من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلك سبيله إما اشتغالاً بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلاً وتكذيباً بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين: هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء، وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء، وقد يظنون أنهم يحصلون لهم بطريقهم أعظم مما في الكتب. فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين. ويحكون أن شخصاً حصل له ذلك، وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها، ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال: أخذوا علمهم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع، لكن منهم من يظن ما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة، وقد يكون من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 الشيطان. وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ. وقد قال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) . وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) وقال تعالى (وما هو إلا ذكر للعالمين) وقال تعالى (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكر فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسبتها وكذلك اليوم تنسى) وقال تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليما) وقال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض إلا إلى الله تصير الأمور) وقال تعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) . ثم أن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول. يقول أحدهم فلان عطيته على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضاً: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله ومثل هذا. وقول القائل يأخذ عن الله وأعطاني الله لفظ مجمل، فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا، فهو حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وذلك الذي أخذ عن الكتاب هو أيضاً عن الله بهذا الاعتبار. والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضاً هم كذلك، وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو مما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 وهذا الخطاب الذي يلقى إلي هو كلام الله تعالى: فهنا طريقان: أحدهما أن يقال له من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن، وهذا موجود كثيراً في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم، وفي أهل البدع بحسب بدعتهم. فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو (الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين سبيل أولياء الرحمن، وسبيل أولياء الشيطان. كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه يقال لهم: إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركاً بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق. الطريق الثاني أن يقال: بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب، أو أن يدعوا مخلوقاً كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكاً أو نبياً أو شيخاً، فإذا دعاه كما يدعى الخالق سبحانه إما دعاء أو عبادة وإما دعاء مسئلة صار مشركاً به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك كما كان يحصل للمشركين، وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياناً وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة أو يقضون لهم بعض الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر قال الله تعالى (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنا نحن فئة لا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) . وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال اتقوا الخمر فإنها أم الخبائب. وأن رجلاً سأل امرأة فقالت لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن، فقال لا أشرك بالله، فقالت أو تقتل هذه الصبي؟ فقال لا أقتل النفس التي حرم الله، فقالت أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون، فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة ". والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما نفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون. وهذه الثلاثة موجودة كثيراً في أهل سماع المعازف: سماع المكاء والتصدية، أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبو شيخهم أو غيره مثل ما يحبون الله، ويتواجدون على حبه. وأما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً مفعولاً به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر. وأما القتل فإن قتل بعضهم بعضاً في السماع كثير يقولون: قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته، وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر، كالذين يشربون الخمر ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر، وقد جرى مثل هذا لكثير منهم، ومنهم من يقتل إما شخصاً وإما فرساً أو غير ذلك بحاله ثم يقول صاحب الثار ويستغيث بشيخه فيقتل ذلك الشخص وجماعة معه إما عشرة وإما أقل أو أكثر كما جرى مثل هذا لغير واحد، وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات. فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره الله تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة فبتنا بمكان وأرادوا أن يقيموا سماعاً وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك فجعلوا لي مكاناً منفرداً قعدت فيه فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ويقول يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا: أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي على طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئاً. وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين وكان فيهم من هو سكران بالخمر. والذي قلته معناه أن هذا النصيب وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ليس هو طاعة لله ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال، أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك. وقد يكون سببه نذر لغير الله سبحانه وتعالى مثل أن ينذر لصنم أو كنيسة أو قبر أو نجم أو شيخ ونحو ذلك من النذور التي فيها شرك فإذا أشرك بالنذر فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه كما تقدم في السحر، وهذا بخلاف النذر لله تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي رواية " فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر " فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به منهي عن عقده، ولكن إذا كان قد عقده فعليه الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ". وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه وقد لا يرضى به فيبقى إثماً. وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيراً له. والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير، فليس النذر سبباً في حصول مطلوبهم، وذلك أنا الناذر إذا قال: لله علي إن حفظني الله القرآن أن أصوم مثلاً ثلاثة أيام أو إن عافاني الله من هذا المرض أو إن دفع الله هذا العدو أو إن قضى عني هذا الدين فعلت كذا فقد جعل العبادة التي التزمها عوضاً عن ذلك المطلوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 والله سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة بل ينعم على عبده بذلك المطلوب ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه. وأما تلك العبادة المنذورة فلا تقوم بشكر تلك النعمة ولا بنعم الله، تلك النعمة ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة فصارت واجبة، لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيراً من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها لمجرد ذلك المنذور المحتقر، وإن كان المبذول كثيراً والعبد مطيع لله فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير فليس النذر سبباً لحصول مطلوبه كالدعاء فإن الدعاء من أعظم الأسباب، وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله تعالى أسباب لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر فإنه لا يجلب منفعة ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلاً فلما نذر لزمه ذلك، فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل فيعطى على النذر ما لم يكن يعطيه بدونه والله أعلم. تمت والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً وذلك نهار الثلاثاء آخر شهر صفر من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مسألة في الغيبة) هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه؟ وما حكم ذلك؟ أفتونا بجواب بسيط ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم. الجواب: الحمد لله رب العالمين، أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال " هي ذكرك أخاك بما يكره " قيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ". بين صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان وأن الكذب عليه بهت له كما قال سبحانه (لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال تعالى (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) وفي الحديث الصحيح " أن اليهود قوم بهت ". فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، لكن الافتراء على المؤمن أشد بل الكذب كله حرام. ولكن يباح عند الحاجة الشرعية - المعاريض - وقد تسمى كذباً لأن الكلام يعني به المتكلم المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض، وهي كذب باعتبار الإفهام، وإن لم تكن كذباً باعتبار الغاية السائغة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله: قوله لسارة أختي، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله (أبي سقيم) " وهذه الثلاثة معاريض، وبها احتج العلماء على جوار التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب، ولهذا قال من قال من العلماء إن ما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً " ولم يرخص فيما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث في الإصلاح بين الناس وفي الحرب وفي الرجل يحدث امرأته. قال فهذا كله من المعاريض خاصة ولهذا نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال " الحرب خدعة " وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يهديني السبيل " وقول النبي صلى الله عليه وسلم للكافر السائل له في غزوة بدر " نحن من ماء " وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره " أنه أخي " وعنى أخوة الدين، وفهموا منه أخوة النسب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم ". والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الاغتياب وبين البهتان، وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقاً فهو المغتاب، وفي قوله صلى الله عليه وسلم " ذكرك أخاك بما يكره " موافقة لقوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) فجعل جهة التحريم كونه أخاً أخو الإيمان، ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن، فكلما كان أعظم إيماناً كان اغتيابه أشد. ومن جنس الغيبة الهمز واللمز، فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم كما في الغيبة، لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف، بخلاف اللمز فإنه قد يخلو من الشدة والعنف، كما قال تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي يعيبك ويطعن عليك. وقال تعالى (ولا تلمزوا أنفسكم) أي لا يلمز بعضكم بعضاً. وقال (هماز مشاء بنميم) وقال (ويل لكل همزة لمزة) . إذا تبين هذا فنقول: ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين (أحدهما) ذكر النوع (والثاني) ذكر الشخص المعين الحي أو الميت. أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسله يجب ذمه وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه، وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه، فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء، كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحلل والمحلل له، ولعن من عمل عمل قوم لوط، ولعن من أحد حدثاً أو آوى محدثاً، ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها، ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها، ولعن الله الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين. والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير، وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات. فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه فلا بد من ذكر ذلك ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أن أحداً فعل ما ينهي عنه يقول " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " " ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده " " ما بال رجال يقول أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر؟ ويقول الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام؟ ويقول الآخر: لا أتزوج النساء. ويقول الآخر: لا آكل اللحم؟ لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنا وأتزوج النساء وآكل اللحم؟ فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك مثل أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد به التعريف كما قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) وقال (تلك الجنة التي نورث من عبادنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 من كان تقياً) وقد قال صلى الله عليه وسلم " إن آل أبي فلان ليسوا ليس بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " وقال " إلا أن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا " وقال " إن الله أذهب عنكم عبية (1) الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس من آدم وآدم من تراب " وقال " أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ". فذكر الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره، فأما الحمد والذم والحب والبعض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان، قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقال تعالى (افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين بدلا) وقال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) . ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطى من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله   (1) يعني الكبر والعصبية بغير حق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 يحب المقسطين - إلى قوله - إنما المؤمنون أخوة) فجعلهم أخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وقال تعالى (أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟) وقد قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فهذا الكلام في الأنواع. وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع (منها) المظلوم له إن يذكر ظالمه بما فيه إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " كما قال صلى الله عليه وسلم " لي (1) الواجد يحل عرضه وعقوبته " وقال وكيع: عرضه شكايته وعقوبته حبسه، وقال تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) وقد روى: إنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه. فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه وإن كان الصحيح أنه واجب، فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه؟ أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول في كذب ولا ظلم الغير وترك ذلك أفضل. ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم من الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكج؟ وقالت: أنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء " وروي " لا يضع عصاه عن عاتقه " فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب. وكان هذا نصحاً لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب. وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه. وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال أهل الديوان وغيرها؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".   (1) مماطلته بالحق الذي عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 وقد قالوا لعمر بن الخطاب: في أهل الشورى أمر فلاناً وفلاناً، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمراً جعله مانعاً له من تعيينه. وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا، فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم. ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبل الله ودينه ومناهجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وذلك أن الله يقول في كتابه (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكر. فقوام الدين بالكتاب الهادي، والسيف الناصر (وكفى بربك هادياً ونصيرا) . والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم) في آيتين من القرآن. فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوهم قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاء إلى بدع المنافقين كما قال تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم. وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم يكن كذلك لوجب بيان حالها. ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطاه بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً وكذلك القاضي والشاهد والمفتي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بخلاف ذلك فهو في النار " وقد قاتل تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى إن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) واللي هو الكذب والإعراض كتمان الحق ومثله ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذاب وكتما محقت بركة بيعهما ".ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء. وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصاً له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل، وليس هذا الباب مخالفاً لقوله " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره " فإن الأخ هو المؤمن وأخا المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهداً لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه، ومتى كره هذا الحق كان ناقصاً في إيمانه، ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه، فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه إذ كراهته لما يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) .ثم قد يقال: هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظاً ومعنى وقد يقال دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضي والله أعلم وأحكم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره وما حققه في مواضع من كتبه ومؤلفاته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين سؤال ورد على الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه من الديار المصري في شوال سنة أربع عشرة وسبعمائة، في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أو لغير علة؟ فإن قيل لا لعلة فهو عبث تعالى الله عنه، وإن قيل لعلة، فإن قلتم أنها لم تزل، لزم أن يكون المعلول لم يزل، وإن قلتم أنها محدثة لزم أن يكون لها علة والتسلسل محال. (الجواب) الحمد لله رب العالمين. هذه المسئلة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعباً وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات. فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسئلة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه، وكذلك الشرائع كلها: الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، ومسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه هو الأمر والنهي. وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث؟ أو بمعنى الإمارة والعلامة؟ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم هل هو منزه عنه مع قدرته عليه أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه. وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه هل هو بمعنى إرادته وهو الثواب والعقاب المخلوق، أم هذه صفات أخص من الإرادة. وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه، وفروع هذه المسئلة كثيرة. ولأجل تجاذب الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طواف بني آدم من المسلمين وغير المسلمين. (فالتقدير الأول) هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم. وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس الظاهرية كابن حزم وأمثاله. ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به. فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلوم لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلوم في العلم والقصد كما يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك. ويقال أن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلاً فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عن العمل، فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديماً كان الفعل قديماً بطريق الأولى. فلو قيل أنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل أنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران (أحدهما) أن يكون محلاً للحوادث فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثاً فتقوم به الحوادث. (والمحذور الثاني) أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين (أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضاً مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته، فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث (الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. وهذا نحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه. هـ، فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث (الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. وهذا نحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه. والتقدير الثاني قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم. وهؤلاء أصل قولهم أن للمبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها. وأعظم حججهم قولهم أن جميع الأمور المعتبرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهيجميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم يكن جميعها في الأزل فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل. قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلة ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، فال فاعل بالاختيار. وقولهم باطل من وجوه كثيرة: منها أن يقال هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث. ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها ولا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما يصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن يحدث بلا محدث. وأيضاً فلو قدر أن غيره أحدثها فإن كان واجباً بنفسه كان القول فيه كالقول في الواجب الأول. وأصل قولهم أن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة، لأن تلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه، فامتنع صدور الحوادث عنها وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في غيرها. وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه كان ممكناً مفتقراً إلى موجب يوجب به. ثم إن قيل أنه محدث كان من الحوادث، وإن قيل أنه قديم كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شيء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه. فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة قيل هل حدث فيه سبب يقتضي الحدوث أم لا؟ فإن قيل لم يحدث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن قيل حدث سبب لزم التسلسل كما تقدم. الوجه الثاني الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح والتسلسل عندكم جائز. فإن أصل قولهم أن هذه الحوادث متسلسلة شيئاً بعد شيء وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم هي العقل الفعال أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزاً عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم، وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه الملل: المسلمون واليهود والنصارى. فإن قيل بأنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك كان خيراً من قولهم أنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شيء إلا بسبب حادث فإذا قيل أن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا. الوجه الثالث أن يقال حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 ممكناً في العقل أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً في العقل لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان محدثاً أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفاً على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين. ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة وإما لا تثبتوا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضاً فالوجود يبطل هذا القول، فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة - وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريداً لتلك الحكمة المطلوب جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضاً ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة وأمثال ذلك. وأما التقدير الثالث وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله، لكن هؤلاء على أقوال: منهم من قال أن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضاً كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب، وقالوا إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل. فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم ولا قام به فعل ولا نعت، فقال لهم الناس أنتم متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، أما لتكميل نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بذلك الإحسان الألم، وإما للتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عبثاً ولم يكن محموداً على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل، ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر. ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسئلة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له وكونه ضاراً للفاعل منافراً له أنه يمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المرتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له، والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله. ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكننا من الأفعال فهو حسن، إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون. ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته، فلا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه (على كل شيء قدير) ولا يقولون " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " ولا يقرون بأنه خالق كل شيء. ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته. وقال تعالى (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وغيره " يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيقال له: هل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقال له لا ظلم عليك اليوم، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم بل يثاب على ما أتى به من التوحيد، كما قال تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) . وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم عدلية يقولون من فعل كبيرة واحداً أحطبت جميع حسناته وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلماً يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلماً. والكلام في هذه الأمور مبسوطفي غير هذا الموضع (وإنما) نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام. وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً. وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام وغيرهم والمتفلسفة أيضاً فلا يوافقونهم على هذا بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه، وهو يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك. والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وقال تعالى (وكذلك فتنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) وقال تعالى (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً) قالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا قال قائل فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب كان عن هذا جوابان. أحدهما أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، وكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. والجواب الثاني أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقاصرين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس. وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة. وقال هؤلاء جميع ما يحدث في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وقال (الذي أحسن كل شيء خلقه) والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به. ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله، بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 فالأول كقوله تعالى (الله خالق كل شيء) ونحو ذلك، ومن هذا الباب أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز والمذل، الخافض الرافع، فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه ولا الضار عن قرينه لأن اقترانها يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى، وما في الوجود من غير ذلك فمن عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع " فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله. وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) وقوله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ونحو ذلك. وإضافته إلى السبب كقوله (من شر ما خلق) وقوله (فأردت أن أعيبها) مع قوله (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) وقوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله (ربنا ظلمنا أنفسنا) وقوله تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة مثليها قليتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) وأمثال ذلك. ولهذا ليس في أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله (نبيء عبادي إني أنا لغفور رحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم) وقوله (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) وقوله (اعلموا أن الله شديد العقاب) الآية، وقوله (إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدي ويعيد، وهو الغفور الودود) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 فبين سبحانه أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود. واسم المنتقم ليس من أسماء الله الحسن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى (إنا من المجرمين منتقمون) وقوله (إن الله عزيز ذو انتقام) والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم وذكر في سياقه " البر التواب المنتقم العفو الرؤوف " ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه من طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء، بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة " وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما، ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه (1) . والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسئلة فإن نفوس بني آدم لا يزال يجول فيها من هذه المسئلة أمر عظيم. وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال (سنريهم آياتنا في الآفاق   (1) ملخص كلامه أن الانتقام من أفعاله التي لم يثبت له منها اسم. ونقول أنه في اللغة التي ورد بها القرآن بمعنى الجزاء والقصاص لا يعم معنى الظلم كما يستعمله الناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها " وفي الصحيحين عنه أنه قال " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق حتى أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة، واحتبس عنده تسعاً وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده " أو كما قال. ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمة فلا ينفونها (1) كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين يثبتون إرادة بلا حكمة ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى، وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة غليه سواء لا يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضى بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا لا يحبه ولا يرضاه ديناً قالوا أنه لا يريده ديناً، وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده. وقد قال تعالى (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه، ولا يوافقون المعتزلة على إنكار قدر الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا إن الله خالق كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وهو يحب المحسنين والمتقين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا يرضى لعباده الكفر، ولا   (1) كذا في الأصل وظاهره أن كلمة " الذين" صفة لما قبله وحينئذ يبقى مبتدأ الكلام بغير خبر. فاذا حذفت كانت جملة " يثبتون" خبر المبتدأ، وإذا بقيت وجب حذف الفاء من قوله " فلا ينفونها " لتكون الجملة بعدها هي الخبر. وربما كان في الأصل تحريف غير هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله، وقالوا مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) وكما قال (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون) وقال تعالى (أم تجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار) وقال (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات) وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال تعالى (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) وقال تعالى (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما) وقال تعالى (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحيرون، وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون) ونظائر هذا في القرآن كثير. وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية، فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته وغلطوا في ذلك. فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وهذا حسن وصواب. لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 ولا حرمنا من شيء) فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلاً لما اعتقدوه شراً غير الله سبحانه، فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون (1) بالجزية باتفاق المسلمين، وذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العربي لا يقرون بالجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من المشركين بل قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ". والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل من جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمن والكافر، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون والكافرون سواء. وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط، الذين يقولون التوحيد هو توحيد الربوبية، والآلهية عندهم هي القدرة على الاختراع ولا يعرفون توحيد الآلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود، وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء   (1) يقرون بفتح القاف مبني للمفعول أي يقرهم المسلمون على دينهم بأداء الجزية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 لا يكون توحيداً حتى تشهد أن لا إله إلا الله كما قال تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) . قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التوحيد والفناء في التوحيد ويقولون أن هذا نهاية المعرفة، وأن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشامل. وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام الذين قال الله عنهم (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله، قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل تسحرون) وقال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله قل فأنى تؤفكون) وقال (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) وقال تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله. فقل أفلا تتقون، فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون، كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده، فأنى تؤفكون، قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟ فما لكم كيف تحكمون) وقال تعالى (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 لكم أن تنبتوا شجرها؟ أإله مع الله؟ بل هم قوم يعدلون، أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً؟ أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلاً ما تذكرون، أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته؟ أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون، أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض؟ أإله مع الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم وبيده ملكوت كل شيء، وكانوا مقرين بالقدر، فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره فكانوا مشركين شراً من اليهود والنصارى، فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين. وهذا المقام مقام وأي مقام، زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام. ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد خير ممن يسوي بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبي الكاذب، وأولياء الله وأعدائه الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة، كما قال الخلال في كتاب (السنة والرد على القدرية) وقولهم أن الله أجبر العباد على المعاصي: وذكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله: رجل يقول أن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول وأنكر ذلك، وقال (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) وذكر عن المروذي أن رجلاً قال أن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه آخر فقال أن الله جبر العباد، أراد بذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 إثبات القدر، فسألوا عن ذلك أحمد بن حنبل فأنكر عليهما جميعاً حتى قال - أو أمر أن يقال - (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) . وذكر عن عبد الرحمن بن معدي قال أنكر سفيان الثوري " جبر " وقال أن الله جبل العباد. قال المروذي أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم " لأشج عبد القيس " يعني قوله " أن فيك لخلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة " فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال " بل خلقين جبلت عليهما " فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما. وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال قال الأوزاعي: أتاني رجلان فسألاني عن القدر فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما: قلت رحمك الله أنت أولى بالجواب، قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال، تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر فنازعونا في القدر ونازعناهم فيه حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا أن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت: يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثاً، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه. فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق. وذكر عن بقية بن الوليد قال؟ سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب (1) وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر   (1) كلمة الجبل هنا موهمة للجبر حتى كان الخلاف بينهما لفظي. والحق أن الجبل بمعنى الخلق والفطرة، وقد خلق الله جميع البشر مستعدين للحق والباطل وفعل الخير والشر وخلق لهم إرادة تمكنهم من الترجيح بين ما يتعارض من هذه الاضداد التي تعرض لهم بما عند كل من المرجحات، وجعل الدين مرشداً للفطرة فيما تخطئ فيه بالجهالة واتباع الهوى. وما يتفاضلون به من الاخلاق الفطرية بسنة الله في الوراثة أو غيرها يكون من اسباب الترجيح ولكنه لا يدخل في معنى الجبر وصلب الاختيار. فتدبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل (1) فهذا يعرف في القرآن والحديث. وقال مطرف بن الشخير: لم نوكل إلى القدر وإليه نصير. وقال ضمرة بن ربيعة لم نؤمر أن نتوكل على القدر وإليه نصير. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار " قالوا يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال " لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له " وهذا باب واسع. والمقصود هنا أن الخلال وغيره أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى القدرية، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي؟ ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم. ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، وروي في ذلك حديث مرفوع لأن كلاً من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد. فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد ويهون أمر الفرائض والمحارم، والقدري إن احتج به كان عوناً للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى. ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصديق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) والإيمان بالقدر من تمام ذلك. فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل.   (1) راجع حاشية ص 131 الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحداً منهم أن يعيش به ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ولا يتعاشر عليه اثنان، فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد. فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر. ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الفكر الذي لا يرضاه اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع، فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي وإن كان من كان لا بد وأن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه. هذه حقيقة الأمر فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم. تقسيم الناس في الشرع والقدر إلى أربعة أصناف والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع، فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعايب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعايب، كما قال تعالى (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك) وقال (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) وقال تعالى (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 ومن يؤمن بالله يهد قلبه) قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. قال تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) . وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وعن إبليس أنه قال (فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فمن تاب أشبه أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس. والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى " أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق (وعصى آدم ربه فغوى؟) قال بكذا وكذا سنة، قال فحج آدم موسى " وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وقد روي بإسناد جيد عن عمر رضي الله عنه. فآدم إنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه لأجل حق الله في الذنب. فإن آدم قد تاب من الذنب كما قال تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وقال تعالى (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) ومن هو دون موسى عليه السلام يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب، وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 على موسى لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه. وقد قال تعالى (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) وقال أنس: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته - لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله - لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول " دعوه فلو قضي شيء لكان " وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة ولا دابة ولا شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم لله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه بشيء حتى ينتقم لله " وقد قال صلى الله عليه وسلم " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ففي أمر الله ونهيه يساره إلى الطاعة ويقيم حدود على من تعدى حدود الله ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذ أو قصر مقصر في حقه عفا عنه ولم يؤاخذه نظراً إلى القدر (1) . فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم عليه السلام فإنه لا سبيل إلى لومه شرعاً لأجل التوبة، ولا قدراً لأجل القضاء والقدر. وأما إذا ظلم رجل رجلاً فله أن يستوفي مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له كما قال تعالى (والجروح قصاص فمن تصدق فهو كفارة له) . وأما الصنف الثالث فهم الذين لا ينظرون إلى القدر لا في المعايب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك إلى العبد، وإذا أساءوا   (1) الظاهر أنه (ص) كان يفعل ذلك إيثار للعفو لأنه أفضل وأقرب للتقوى لا لأجل القدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 استغفروا، وهذا أحسن لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى بها عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم دعوه فلو قضي شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة فقد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم) وقال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم) وقال تعالى (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) . ومن هذا قوله تعالى (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته: هؤلاء يقولون الأفعال كلها من الله لقوله تعالى (قل كل من عند الله) وهؤلاء يقولون الحسنة من الله والسيئة من نفسك لقوله (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) . وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة (فمن نفسك؟) بالفتح على معنى الاستفهام وربما قدر بعضهم تقديراً أي أفمن نفسك؟ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى (ما أصابك) فيقولون تقدير الآية (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله - قول الصدق - من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه. فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب ينصره. وأما القرآن فالمراد (منه) هنا بالحسنات والسيئات النعم والمصائب ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) وكقوله (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا) الآية. ومنه قوله تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) كما قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) أي بالنعم والمصائب. وهذا بخلاف قوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) وأمثال ذلك فإن المراد بها الطاع والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال بل هو مبين وذلك أنه إذا قال (ما أصابك) وما مسك ونحو ذلك كان من فعل غيرك بك كما قال (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وكما قال تعالى (إن تصبك حسنة تسؤهم) وقال تعالى (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) . وإذا قال (من جاء بالحسنة) كانت من فعله لأنه هو الجائي بها فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به. وسياق الآيتين يبين ذلك فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً، وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً، ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما) . فأمر سبحانه بالجهاد وذم المثبطين وذكر ما يصيب المؤمن تارة من المصيبة فيه وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد فقال (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثلها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم) وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده كما قال تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) ثم أنه سبحانه قال (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) إلى قوله (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار كانوا يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان. وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون قال تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) ونظيرة قوله تعالى في سورة يس (قالوا ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) فأخبر الله تعالى أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه من الله عز وجل، فقال تعالى (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) والله تعالى نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سبباً للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله) أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى. ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان. وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وفي الصحيح " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة ". ثم قال تعالى (وما أصابك من سيئة) من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد (فمن نفسك) أي بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوباً مقدراً عليك. فإن القدر ليس حجة لأحد على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم ولم يقتل مشرك ولم يقم حد ولم يكف أحد عن ظلم أحد، وهذا من الفساد في الدين المعلوم ضرورة فساده بصريح المعقول، المطابق لما جاء به الرسول. فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضاع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس، فإن الله ذكر عنه أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال (فيما أغويتني لأزينن لهم في الأرض) . وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضاً لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه " ويشبه - والله أعلم - أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين. والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب، ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيراً منهم يضع كتاباً أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون أن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانياً لأنه أثبت الصفات وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى، وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها. والمقصود هنا أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء وهؤلاء: حجة على من يحتج بالقدر فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة لم يعذبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإن سبحانه أخبر أن الحسنة من الله وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا، وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية، إذ كل منهما أرسل إليه الرسول وأجبر على الفعل وأزبحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذاك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله كما حببه إلى المؤمنين كعلي رضي الله عنه وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكره الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم. ومن توهم منهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقاه فيه تختص بأحدهما، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم لا لهم، لأنه تعالى قال (قل كل من عند الله) وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) مخالف لقولهم، فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله سبحانه. وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى (قل كل من عند الله) كان مخطئاً فإن الله ذكر هذه الآية رداً على من يقول الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من الناس أن الحسنة المفعولة من الله والسيئة المفعولة من العبد. وأيضاً فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات أن الله خلقه وهو مخلوق له ومفعول له فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها. وأيضاً فإن قوله بعد هذا (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون أن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون بأن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربيه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، ونحو ذلك - أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة، قال تعالى (لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة) . وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر، فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا يكون فعلاً له. وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر (1) بل هي فعله وليست أفعالاً للعباد بل هي كسب للعبد: وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها، وإن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله وإبداعاً وإحداثاً وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، وقالوا: أن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها، ومع هذا فقد يقولون أنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة. وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه بين الخلق، فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقادرة القديمة، وقالوا: أيضاً الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه   (1) هم الأشعرية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة وهو قائم في محل القدرة الحادثة. وأيضاً فهذا فرق لا حقيقة له فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى تأثير القدرة فيه: وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك. والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها خارجاً عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه. وأيضاً فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل. وأيضاً قال لهم المنازعون: من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه وعدله بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية: من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم إذا كان الكلام مخلوقاً كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضاً من فعل الأفعال. وقالوا أيضاً: القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالى (جزاء بما كنتم تعملون) وقوله (اعملوا ما شئتم) وقوله (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) وقوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وأمثال ذلك. وقالوا أيضاً أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله ويكون حسنة له، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها. وفي المسئلة كلام ليس هذا موضع بسطه لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل فنقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 قول القائل هذا فعل هذا وفعل هذا لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل وتارة يراد به مسمى المصدر. فيقول فعلت هذا أفعله فعلاً وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك فالعمل هنا المعمول، قال تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن. ومن هذا الباب قوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) فإنه في أصح القولين (ما) بمعنى الذي، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام (1) كما قال تعالى (أتبعدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها. ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خالق كل صانع وصنعته " لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم. والمقصود أن لفظ الفعل والعمل والصنع أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى المصدر وعلى المفعول وكذلك لفظ التلاوة والقراءة   (1) التنظير هنا لا محل له فإن عين الأول وإنما جاء بأول الآية لاثبات أن ما موصولة لا مصدرية، والآية من محاجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه (قل أتعبدون ما تنحتون) وهي الأصنام (والله خلقكم وما تعملون) أي والحال أن الله خلقكم وخلق الذي تعملونه منها فهي مخلوقة له. وإذاً يكون هو الحقيق بالعبادة وحده. ولو كانت (ما) مصدرية لكان المعنى كيف تعبدون ما تنحتون والله خلقكم وخلق عملكم، وعملهم يشمل نحت الأصنام وبشمل عبادتهم فإذا كان خلقه لعملهم يقتضي أنه لا عمل لهم يصير الكلام متناقضا ويبطل معنى الانكار عليهم، إذ يصير المعنى كيف تعبدونها وأنتم لا تعبدونها؟ إذ الله هو الذي خلق هذه العبادة الصورية لكم؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 والكلام والقول يقع على نفس مسمى المصدر وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة المقروء والمتلو، كما يراد بها مسمى المصدر. والمقصود هنا أن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله أراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات. ثم من هؤلاء من قال أنه ليس لله فعل يقوم به فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه. وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضاً مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالى بين الفعل والمفعول قال إنها فعل الله تعالى وليس لمسمى فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولى، وبعض هؤلاء قال هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولاً بين فاعلين. وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل والمفعول، فلهذا عظم النزاع وأشكلت المسئلة على الطائفتين وحاروا فيها. وأما من قال خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال أن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ومفعولة للرب كسائر المفعولات ولم يقل أنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال أنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له كما يفعلها العبد وتقوم به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أن سبحانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسبباً لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره. ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون: له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم. ومن يقول لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا. يوضح ذلك أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمى ومرضاً وجوعاً وعطشاً ووصباً ونصباً ونحو ذلك كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم، فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذى والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك، فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك هي أمور ضارة مكروهة مؤذية. وهذا معنى كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسود أيضاً غيره وتضره كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره. يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء كما في قوله تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) وقوله (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) وقوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) . ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزى عليها ويستحق الذم عليها والعقاب وهي مخلوقة لله تعالى، فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه وإن افترقا من وجه آخر، وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلاً لله دون هذا، وهذا فعلاً للعبد دون هذا، لكن يقولون هذا يحسن من الله تعالى لكونه جزاء للعبد، وذلك لا يحسن منه لكونه ابتدأ العبد بما يضره، وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق، أو عوض لاحق. وأما أهل الإثبات للقدر فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق. وأما القائلون بالحكمة وهم الجمهور فيقولون لله تعالى فيما يخلقه من الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا، ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله. والمعتزلة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات، ومن أصولهم الفاسدة أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم، إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به يسمونه به، ويصفونه بما يخلقه في العالم: مثل قولهم هو متكلم بكلام بخلقه في غيره ومريد بإرادة يحدثها لا في محل، وقولهم أن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب، وقولهم أنه لو كان خالقاً لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب، وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة. ولهذا اشتد تكبر السلف والأئمة عليهم، لا سيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله تعالى، وإنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلاماً له، فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة وإنطاقه للجبال والحصى بالتسبيح وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلاماً له، وإذا كان خالقاً لكل شيء كان كل كلام موجود كلامه وهذا قول الخلولية والجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله ولهذا يقولون: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وقد علم بصريح المعقول أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل كان هو المريد المحب المبغض، فإذا خلق فعلاً لعبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً وظلماً وكفراً كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج. والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون أن خلق الله للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله. فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية القدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل أن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه، فقالوا: إذا قلتم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره، كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض - انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالى، فإنه يسمى عادلاً بعدل خلقه في غيره محسناً بإحسان خلقه في غيره، فكذا يسمى متكلماً بكلام خلقه في غيره. والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل ويقولون إنما كان عادلاً بالعدل الذي قام بنفسه ومحسناً بالإحسان الذي قام بنفسه. وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك، كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته، وأما ما يخلقه من الحرمة فهو أثر تلك الحرمة، واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي المصدر ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمى المفعول، كلفظ الخلق يقع تارة على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 الفعل وعلى المخلوق أخرى، والرحمة تقع على هذا وهذا، وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمراً، ويقع على المفعول تارة كقوله تعالى (وكان أمر الله قدراً مقدورا) وكذلك لفظ العلم يقع على المعلوم والقدرة تقع على المقدور ونظائر هذا متعددة. وقد استدل أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله عليه السلام " أعوذ بكلمات الله التامات " ونحو ذلك، وقالوا الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك ". ومن تدبر هذا الباب وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق المنتسبين إلى السنة والهدى إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخرى وضلال آخر لا سميا إذا وافقوهم على ذلك فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك ويطلبون لوازمه حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين، والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم من أن كلام الله غير مخلوق، وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل. واستطالوا عليهم بذلك في مسئلة القدر، واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلاً لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل، ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري، اضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي، والاقتران العادي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثراً في هذا الباب بأولى من العكس. ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا يتجاوز بمحلها. ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول، لما رأوا في هذا القول من التناقض. والكلام على هذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا التنبيه. ومن النكت في هذا الباب أن لفظ التأثير ولفظ الجبر ولفظ الرزق ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا؟ قيل له أولاً لفظ القدرة يتناول نوعين: (أحدهما) القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي (والثاني) القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصياً بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " وكذا قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل لكان قد قال فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئاً عاصياً له. وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم. والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل. وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وعلى هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين. وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم، فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فكل من أمره الله ونهاه فهو مستطيع بهذا الاعتبار وإن علم أنه لا يطيعه. وإن أريد بالقدرة القدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول فمن علم أنه لا يفعل الفعل لم تكن هذه القدرة ثابتة له. ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر والإرادة هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد. فإن الإرادة لفظ فيه إجمال، يراد بالإرادة الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكقوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وقول نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) ولا ريب أن الله يأمر العبادة بما لا يريده بهذا التفسير، والمعنى كما قال تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إن شاء الله أو ليردن وديعته أو غصبه، أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله ونحو ذلك مما أمره الله به. فإنه إذا لم يفعل المحلوق عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله: إن شاء الله، فعلم أن الله لم يشأ مع أمره به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 وأما الإرادة الدينية فهي بمعنى المحبة والرضى، وهي ملازمة للأمر كقوله تعالى (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم) ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئاً لا يريده الله، إذا كان يفعل بضع الفواحش، أي أنه لا يحبه ولا يرضاه، بل ينهى عنه ويكرهه. وكذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه. كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضاء والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتقاد، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي: الجبار الذي جبر العباد على ما أراد كما في الدعاء المأثور عن علي رضي الله عنه " جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها " والجبر ثابت بهذا لتفسير. فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة عن إطلاق إثباته أو نفيه. وكذلك لفظ الرزق فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق كما في قوله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون) وقوله تعالى (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) وقوله (ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً) وأمثال ذلك. وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام كما في قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وقوله عليه السلام في الصحيح " فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد " ولما كان لفظ الجبر والرزق ونحوهما فيه إجمال منع الأئمة من إطلاق ذلك نفياً وإثباتاً كما تقدم عن الأوزاعي وأبي إسحاق الفزاري وغيرهما. وكذا لفظ التأثير فيه إجمال فإن القدرة مع المقدور كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصحح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 للفعل المتقدمة عليه فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه، وعلة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له فتلك علة للفعل وسبب تام، ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لا بد أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع. وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء. وهذا يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك، فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين (أحدهما) فاعل كالنار (والثاني) قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإن شعاعها مشروط بالجسم القابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في موضع آخر. فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة كالوجود المجرد عن الصفات وكالعقول المجردة وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها وكالمادة والصورة العقليين وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وكذلك الواحد (1) كما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو بسبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار. وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء فلا شريك له ولا ند له، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما له فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل حسب الله عليه يتوكل المتوكلون) ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فإذا عرف ما في لفظ التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين. فمن قال: إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية لللإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وإن العبد إذ فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل - فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء: فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلاً بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل   (1) في الأصل (وكذلك الواحد) وفيه تكرار وتشبيه للشيء بنفسه وما صححناه به هو مقتضي ما قبله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 إثبات الصانع، ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسئلة إحداث العالم أن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضى الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله لم يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه، وإن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة، وتجويز هذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بلا سبب، والترجيح بلا مرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع. ثم أن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر، وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لا بد له من محدث مرجح تام غير العبد، فإن ما كان من العبد فهو محدث، وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد، وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية، لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالى، وادعوا هناك أن البديهية فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات، فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطلت حجتهم على المعتزلة ولم تبطل قول القدرية، وإن كان باطلاً بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم، وهذا هو الباطل في نفس الأمر، فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه، وهو عام لا تخصيص فيه، فالفرق المذكور باطل، وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم، وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 ومن قال أن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول، فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز. قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم. ثم أن هؤلاء يقولون لا ينبغي للإنسان أن يقول أنه شبع بالخبز وروي بالماء، بل يقول شبعت عنده ورويت عنده فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة لا بها. وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) الآية، وقال تعالى (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) وقال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) وقال (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) وقال (ونزلنا من السماء ماء فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) وقال (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) وقال (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسميون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) وقال تعالى (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً - إلى قوله - يضل به كثيراً ويهدي به كثيرا) وقال (قد جاءكم من نور الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ومثل هذا في القرآن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 كثير. وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله " لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة " وقال صلى الله عليه وسلم " إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورا " ومثل هذا كثير. ونظير هؤلاء الذي أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات إن كان مقدراً حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدوراً لم يحصل بذلك. وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وفي السنن أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال " هي من قدر الله " ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغبير في وجوه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل إن كان هذا مقدوراً حصل بدون السبب والألم يحصل، جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " وقال صلى الله عليه وسلم " اعلموا فكل ميسر لما خلق له " أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بين وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به، وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالخواتيم " وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة، وجميع السيئات تغفر بالتوبة، ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب أو صلى وأحدث عمداً قبل كمال الصلاة ثم (1) أبطل عمله. وبالجملة فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية، كما قال في الآية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وقال نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) وقال تعالى في الإرادة الدينية (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال (يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) وقال (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وهم مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه خلق الأشياء بقدرته ومشيئته يقرون بأنه لا إله إلا هو، لا يستحق   (1) حرف ثم لا يظهر له هنا معنى، وكما أن هذا يقل أن يقع فما جعل مثلاً له يقل أن يقع، وإنما ذكر في الحديث مثلاً لاطراد نظام القدر، واما الغالب فهو أن المرء يموت على ما عاش عليه، وكذلك يبعث على مامات عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 العبادة غيره، ويطيعونه ويطيعون رسله، ويحبونه ويرجونه ويخشونه، ويتكلون عليه وينيبون إليه، ويوالون أوليائه ويعادون أعداءه، ويقرون بمحبته لما أمر به ولعباده المؤمنين أيضاً ورضاه بذلك، وبغضه لما نهى عنه، وللكافرين وسخطه لذلك ومقته له، ويقرون بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من " أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها، فقال تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته " فهو إلههم الذي يعبدونه وربهم الذي يسألونه كما قال تعالى (الحمد لله رب العالمين - إلى قوله - إياك نعبد وإياك نستعين) فهو المعبود المستعان. والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب لمحبوبه كما قال تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) وكل ما يحبونه سواه فإنما يحبونه لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله: ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " وفي الترمذي وغيره " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم. فإن الله اتخذ إبراهيم خليلاً. واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا " وقال " لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسه ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يحب ويحب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 وأنكرت الجهمية ومن تعبهم محبته. وأول من أنكر ذلك الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وهذا أصل مسئلة إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس قال تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) وقال (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلا) . ومن قال أن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخل الجنة؟ ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة " فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون فيه، ومحبة النظر إليه تبع لمحبته، فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعماً بمعرفته ولذة وسرواً بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وكان صلى الله عليه وسلم يقول " ارحنا بالصلاة يا بلال " وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبوه وهو يحبهم سبحانه، وحبهم له بحسب فعلهم ما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليهوسلم قال " يقول الله تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ". فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعاً لحب نفسه. فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم " إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " وفي الصحيح أنه قال " لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه " وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي، فقال " إن ربك يحب الحمد " فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 أنه قرأ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه) قال " يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً، أنا الذي أعيدها " وفي رواية " يحمد الرب نفسه " (1) فهو يحمد نفسه ويثني عليها ويمجد نفسه سبحانه وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره، بل كل ما سواه فقير إليه (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان) وهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به. فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته وخلقه، فله الملك لا شريك له، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها. قالوا: وقول القائل إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره فيكون ناقصاً قبل ذلك فعنه أجوبة. أحدها أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله. الثاني أنهم قالوا: كما له أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة، فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً. الثالث قول القائل إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل   (1) روجع الصحيحان في التوحيد والتفسير فوجد فيهما جهد الطاقة الحديث بغير هذه الألفاظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره كان كما لو قيل كمل بصفاته أو بذاته. الرابع قول القائل كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم إن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع، بل يقال عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده كمال. فليس عدم كل شيء نقصاً، بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص، فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أن عدمها هو النقص. ولهذا كان الرب تعالى موصوفاً بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله وموصوفاً بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضاً. فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال. وإذا عقل مثل هذا في الصفات فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصاً في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات. والإنسان قد يكون وجود أشياء في وقت نقصاً وعيباً في حقه وفي وقت آخر كمالاً ومدحاً في حقه، كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له. الخامس إنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل أن القادر على ذلك أكمل، مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال، إذا عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال. ثم الجمهور القائلون بهذا الأصل هنا ثلاث فرق (فرقة) تقول إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم، ولم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمناً، ولم يزل ساخطاً على من علم أنه يموت كافراً، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 والفقهاء والصوفية، فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث، لكن يعارضهم الأكثرون الذين ينازعونهم في الحكمة المحبوبة كما ينازعمونهم في الإرادة، فإنهم قالوا: إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول تخصيص بلا مخصص. قال أولئك: الإرادة من شأنها أن تخصص. قال لهم المعارضون: من شأنها جنس التخصيص. وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة بل لا بد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر. والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته، ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص، وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله، فإن هذا ترجيح بلا مرجح. ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع، قالوا: ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة، وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته. وهكذا يقول الجمهور إذا كان الله تعالى راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل؟ فإن قلتم لم يحصل إلا ما كان في الأزل. قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات، فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك، فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها، قالوا: فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها. والفرقة الثاني قالوا إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث والصوفية، قالوا وإن قام ذلك بذاته فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 بذاته. والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضاً والأفعال حوادث، ويقولون لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث، فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله تعالى عن النقائص والعيوب والآفات. ولا ريب أن الله يحب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته، منزه عن كل نقص تنزيهاً لا يدرك الخلق كماله. وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه. روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي وأبي جعفر الطبري والبيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (الصمد) قال: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله عز وجل، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ ولا كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار. وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال أنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الصمد الكامل في صفاته وأفعاله. وثبت عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: الصمد السيد الذي انتهى سؤدده. وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف كسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والحسن والسدي والضحاك وغيرهم من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 موقوفاً أو مرفوعاً، فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام عليه. ولفظ الأعراض في اللغة قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك. والله تعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور؟ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله، فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله. وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك، ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال، ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في العلم القديم ويقول إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثاً، كما يقول في نظير من يقوله في الإرادة. وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكورة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور. وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن لزمكم التسلسل، قالوا: القول في حدوث الحكمة كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات، ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن، فإذا قلنا إنه أحدثها بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، فإذا قلنا إنه أحدثنا بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له: القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول الذي ترتبت عليه الحكمة ما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا. فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث من أئمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام: هذه حجة جدلية إلزامية ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب، وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفى مثل هذا التسلسل، بل التسلسل نوعان والدور نوعان، أحدهما التسلسل في العلل والمعلولات فهذا ممتنع وفاقاً. والثاني التسلسل في الشروط والآثار فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم. وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي أدلة ضعيفة، كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة أحدهما، وكزيادة الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل، وبعقود الأعداد وبمعلومات الله مع مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه. والدور نوعان: فالدور القبلي السبقي ممتنع، وأما الدور المعي الاقتراني وهو أن لا يكون هذا إلا مع هذا فهذا الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايقات والمتلازمات، ومثل هذا جائز. فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال. وهي عدة أقوال (الأول) قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه (والثاني) قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاتها (والثالث) قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته لكن يقول جنسها حادث (والخامس) (1) قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته. فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع كانت الحكمة كذلك، وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً وإن كانت آحاده حادثة.   (1) كذا في الأصل ولم يذكر الرابع فأما سقط وإما غلط الناسخ فجعل الرابع خامساً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر، بأن يقال: لا ريب أن الله عز وجل يحدث مفعولات لم تكن، فإما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في الانتهاء، فإن وجب أن يكون لها ابتداء أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها، فإذا قال القائل لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل. كان جوابه على هذا التقدير أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين، ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة إلا إذا حاز أن لا يكون للحوادث ابتداء، فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال، فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء؟ وإن قيل يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الحق، ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان، أو بفناء حركات أهل الجنة، كما يقوله أبو الهذيل، فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجوز أن يكون لها عندهم ابتداء وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا لها ابتداء وليس لها انتهاء. والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين. والمقصود هنا أن الجواب يحصل على التقديرين، فمن جوز أن يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث وقال هذا تسلسل في الآثار والشروط لا تسلسل في العلل والمؤثرات والممتنع إنما هو الثاني دون الأول، وقال أنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم. ومن أوجب أن يكون لها ابتداء. قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى. ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال: خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا، فإن لم يجز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 تعليله كان هذا هو التقرير الأول. وعلى هذا التقرير فلا يسمى هذا عبثاً، وإذا سماه المسمي عبثاً لم تكن تسميته عبثاً قدحاً فيما تحقق، فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل، وإذا كان التعليل ممتنعاً واجب القول به، ولو سماه المسمي بأي شيء سماه، وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما أن لا يجوز، فإن قيل لا يجوز ذلك لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول. فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة، وإن قيل يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك. ثم إما أن يقال: يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة، وإن كانت مقدورة مرادة له، فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث ولا قيام حادث بالمحدث وإن قيل بل لا يجوز أن يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك. ثم إما أن يقال هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه، فإن قيل لا يستلزمه لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذوراً لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة وإن ذلك يستلزم التسلسل. ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعاً، فإنه لو استلزم ممتنعاً لكان ممتنعاً بغيره وإن كان جائزاً بنفسه، والتقدير أنه جائز جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه. وما كان جائزاً جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع. فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه، بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور، ولكن السؤال مبني على ست مقدمات: لزوم العبث، وإنه منتف، ولزوم قدم المفعول، وأنه منتف، ولزوم التسلسل، وأنه منتف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فصاحب القول الأول يقول: لا أسلم أنه يلزم العبث، وصاحب القول الثاني يقول: لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول، وصاحب القول الثالث يقول: لا أسلم أنه يلزم التسلسل، أو يقول لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع. فهذه أربع ممانعات لا بد منها. ويمتنع أن تكون كلها فاسدة بل لا بد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع السؤال به وهو المقصود. وذلك لأن القسمة العقلية تحصر من الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به، ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسئلة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين، فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم، وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم. ومن جملة أجوبتهم أن يقال: هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث، والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء. فكل ما يورده على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة. وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق، ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحص به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها. فلهذا يجب أن يكون لخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله سبحانه أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله من تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره منقولة من الجزء الحادي والثلاثين من كتاب الكواكب الدراري الموجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً. فصل في صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا بني تميم، اقبلوا البشرى " قالوا: قد بشرتنا فاعطنا، فأقبل على أهل اليمن فقال " يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وفي لفظ " معه " وفي لفظ " غيره " " وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " وفي لفظ " ثم خلق السموات والأرض " ثم جاءني رجل فقال: أدرك ناقتك، فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها، فوالله لوددت أني تركتها ولم أقم. قوله " كتب في الذكر " يعني اللوح المحفوظ كما قال (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) أي من بعد اللوح المحفوظ، يسمى ما يكتب في الذكر ذكراً كما يسمى ما يكتب فيه كتاباً كقوله عز وجل (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) . والناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: إن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجوداً وحده، ثم أنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وإن جنس الزمان حادث لا في زمان، وجنس الحركات والمتحركات حادث، وإن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتدأ الفعل ولا كان الفعل ممكناً. ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: وكذلك صار متكلماً بعد أن لم يكن يتكلم بشيء، بل ولا كان الكلام ممكناً له. ومنهم من يقول: الكلام أمر يوصف بأنه يقدر عليه، لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته. ثم هؤلاء منهم من يقول: هو المعنى دون اللفظ المقروء عبر عنه بكل من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومنهم من يقول بل هو حروف وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال، وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها وغير ذلك. والقول الثاني في معنى الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا، بل أن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام وكان حينئذ عرشه على الماء، كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه عن عمران رضي الله عنه. ومن هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب. قال وما أكتب؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة " فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف، كما قدر ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. والدليل على هذا القول الثاني وجوه (أحدها) أن قول أهل اليمن " جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر " إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم أو جنس المخلوقات، فإن كان المراد هو الأول كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجابهم لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم، وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً بل قال " كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " فلم يذكر إلا خلق السموات والأرض، لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول " وهو رب العرش العظيم " وهو خالق كل شيء: العرش وغيره ورب كل شيء: العرش وغيره. وفي حديث أبي رزين قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلق العرش. وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه، بل أخبر بخلق السموات والأرض، فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم لا بأول الخلق مطلقاً. وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم أنهم إنما سألوه عن هذا لم يسألوه عن أول الخلق مطلقاً، فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه بل هو صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك، مع أن لفظه إنما يدل على هذا لا يدل على ذكره أول الخلق، وإخباره بخلق السموات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض، فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب وإنما سألوه عن أول هذا الأمر، فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك كما نطق في أولها في أول الأمر خلق الله السموات والأرض. وبعضهم يشرحها في البدء أو في الابتداء خلق الله السموات والأرض. والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض وأنه كان الماء غامراً للأرض، وكانت الريح تهب على الماء، فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وهواء وتراباً، وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي الآية الأخرى (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: اءتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا أتينا طائعين) وقد جاءت الآثار عن السلف بأن السماء خلقت من بخار الماء وهو الدخان. والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم عما سألوه عنه ولم يذكر إلا ابتداء خلق السموات والأرض، فدل على أن قولهم " جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر " كان مرادهم خلق هذا العالم. والله أعلم. الوجه الثاني أن قولهم " هذا الأمر " إشارة إلى حاضر موجود، والأمر يراد به المصدر ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره، وهذا مرادهم فإن الذي هو قوله (1) ليس مشهوداً مشاراً إليه بل المشهود المشار ليه هذا المأمور به قال تعالى (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) وقال تعالى (أتى أمر الله) ونظائره متعددة. ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لم يشيروا إليه بهذا فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بذلك، ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود. الوجه الثالث أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وقد روي " معه " وروي " غيره " والألفاظ الثلاثة في البخاري، والمجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين انقضى المجلس، بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس، وهو المخبر بلفظ الرسول فدل على أنه إنما قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ فالذي ثبت عنه لفظ " القبل " فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) كذا في الأصل ولعل صوابه فإن الأمر الذي هو قوله للشيء (كن) فيكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 أنه كان يقول في دعائه " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء " وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) . وإذا ثبت في هذا الحديث لفظ القبل فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله واللفظان الآخران لم يثبت (1) واحد منهما أبداً، وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل " كان الله ولا شيء قبله " مثل الحميدي والبغوى وابن الأثير وغيرهم. وإذا كان إنما قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق. الوجه الرابع أنه قال فيه " كان الله ولم يكن شيء قبله، أو معه، أو غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو، لم يذكر في شيء منها ثم، وإنما جاء ثم في قوله " خلق السموات والأرض " وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم وبعضهم ذكرها بالواو. فأما الجمل الثلاث المتقدمة فالرواة متفقون على أنه ذكرها بلفظ الواو، ومعلوم أن لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور، فلا يفيد الأخبار بتقديم بعض ذلك على بعض، وإن قدر أن الترتيب مقصود، إما من ترتيب الذكر لكونه قدم بعض ذلك على بعض، وإما من الواو (2) عند من يقول به، فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء، وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكر كل شيء، وتقديم كتابه في الذكر كل شيء على تقديم خلق السموات والأرض، وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر، لكن في جواب أهل اليمن إنما   (1) لعل أصله " لا يثبت " لتأكيده بكلمة أبداً التي بمعنى المستقبل (2) لعل أصله من جعل الواو لترتيب إلخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك. الوجه الخامس أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، وسواء كان قوله " وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن كان قد خلق من مادة، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " فإن كان لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم " ثم خلق " فقد دل على أن خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كونه عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر، وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظ الترتيب، وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض بعد ذلك، وكما دل على ذلك سائر النصوص فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السموات والأرض، وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السموات والأرض وقد أخبر عن خلق السموات مع كون ذلك علم أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض حين كان العرش على الماء كما أخبر بذلك في القرآن، وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 الوجه السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قد قال " كان ولم يكن قبله شيء " وإما أن يكون قد قال " ولا شيء معه " " أو غيره " فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث. وإن كان قد قال الثاني أو الثالث فقوله " ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر " إما أن يكون مراده أنه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء، فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالم. ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود وكان عرشه على الماء. وأما القسم الثالث وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه وبعد ذلك كان عرشه على الماء وكتب في الذكر ثم خلق السموات والأرض، فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقاً، بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء، بل إنما فيه إخباره بخلق السموات والأرض، ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك، بل ذكره بحرف الواو، والواو للجمع المطلق والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وإذا لم يكن لم يبين الحديث أول المخلوقات ولا ذكر ما كان خلق العرش الذي أخبر أنه كان على الماء مقروناً بقوله " كان الله ولا شيء معه "، دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء وبابتداء المخلوقات بعد ذلك إذ لم يكن لفظه دالاً على ذلك وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض. الوجه السابع أن يقال لا يجوز أن يجزم بالمعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بدليل يدل على مراده، فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعنى وهذا المعنى لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل، فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما لمن جزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إن أراد ذلك المعنى الآخر فهو مخطئ (1) .   (1) كذا في الأصل وليحرر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 الوجه الثامن أن يقال هذا المطلوب لو كان حقاً لكان أجل من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحد، ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور لحاجة الناس إلى معرفة ذلك لما وقع فيه من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس، فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب لم يجز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث بسياقه وإنما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان ولا شيء معه " فظنوه لفظاً ثابتاً مع مجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم وظنوا معناه الإخبار بتقدمه تعالى على كل شيء، وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم بل ولا ظن يستند إلى إمارة، وهب أنهم لم يجزموا بأن مراده المعنى الآخر فليس عندهم بأنه قاله. وقد قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقال تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) . وهذا كله لا يجوز. الوجه العاشر أنه قد زاد فيه بعض الناس " وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده، وليست في شيء من الروايات. ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود بل وجوده عين وجود المخلوقات كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، كما يقوله ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وابن الفارض ونحوهم. وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعاً وعقلاً أنه باطل. الوجه الحادي عاشر إن كثيراً من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع: أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذا (1) لم يجدوا   (1) لم يظهر لنا معنى هذا الظرف هنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 في الكتاب والسنة ما ينطق به مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين واليهود والنصارى، كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام الذي ذمه السلف وخالفوا به الشرع والعقل. وبعضهم يحكيه إجماعاً للمسلمين، وليس معهم بذلك نقل لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن الكتاب والسنة، فضلاً عن أن يكون هو قول جميع المسلمين. وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال بقدم العالم ووافق الفلاسفة الدهرية، لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها لا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته، سواء قيل هو موجود بنفسه أو معلول لغيره. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة والكرامية الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً. وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون: بل الكلام قديم العين إما معنى واحد، وأما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان، ويقول هؤلاء أن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته، إما قائماً بذاته أو منفصلاً عنه عند من يجوز ذلك، وإما منفصلاً عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته. ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمناً بأن الرسل لا يقولون إلا حقاً بظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم. ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 وقد جعلوا ذلك معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم. فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول قاله ولا في العقل ما يدل عليه. بل العقل والسمع يدل على خلافه. ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه. الوجه الثاني عشر أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه، وكذلك رضاه وغضبه، والتزموا على ذلك أن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها. وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده. ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل قالوا أن الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 الوجه الثالث عشر إن الغلط في معنى هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل المعقول الصريح، فإنه أوقع كثيراً من النظار وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين قول الدهرية القائلين بالقدم. وقول الجهمية القائلين بأنه لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره. ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل عليه بل هو معه أزلاً وأبداً أمر يناقض صريح العقل. وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن. ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض بما يفهم (1) جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم يكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله. وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء، بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء. وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً، ورأوا صريح العقل يقضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً، فلا بد من حدوث شيء (2) وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان   (1) قوله بما يفهم الخ خير كان لا متعلق بقوله أخبر (2) أي أوجب كونه فاعلاً على أصولهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 ممتنعاً بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن فيكون الفعل معه فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد أن لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر بما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيض ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك. ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً، وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حياً، وقيل أن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة - كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلماً فعالاً مع العلم بأن الحي يتكلم يفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا نقول أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق (1) والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً، لا شبه له ولا كيف.   (1) أصل العبارة ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة فقدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 [وقال في موضع آخر (1) : فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم. وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً (2) فتعالى الله عن هذه الصفة بل أنه لم يزل متكلماً إذا شاء. ولا نقول أنه كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول أنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ثم ساق كلامه رضي الله عنه] . فليس مع الله شيء (3) من مفعولاته قديم معه. لا بل هو خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً. وإذا قيل أن الخلق صفة كمال لقوله تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق) أفلا أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم وليس مع الله شيء قديم. وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول. فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وإن ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعلية فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى. ولهذا   (1) الظاهر أن هذه الجملة مدرجة في شرح الحديث نقلها صاحب الكواكب أو غيره من الموضع الآخر وقد جعلناها بين علامتين هكذا [] (2) بياض في الأصل (3) هذا الكلام متصل بما قبل الجملة المدرجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فأطلق الخلق ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه، وتكليمه بالإيحاء وبالتكلم من وراء حجاب وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى (وعلمك ما لم تكن تعلم) وقال تعالى (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) وقال تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علماً) وقال تعالى (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان) . وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له، فإن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله، وعندهم أنه لا يعلم شيئاً من جزئيات العلم، والتعليم فرع العلم، فمن لم يعلم الجزئيات يمتنع أن يعلمها غيره، وكل موجود فهو جزئي لا كلي، كذا الكليات إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، فإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة. ومن قال منهم لا يعلم لا كلياً ولا جزئياً فقوله أقبح. ومن قال يعلم الكليات الثابتة دون المتغيرة، فهو عندهم لا يعلم شيئاً من الحوادث ولا يعلمها لأحد من خلقه، كما يقتضي قولهم أنه لم يخلقها، فعلى قولهم لا خلق ولا علم، وهذا حقيقة قول مقدمهم أرسطو، فإنه لم يثبت أن الرب مبدع للعالم ولا جعله علة فاعلة، بل الذي أثبته أنه علة غائية يتحرك الفلك لتشبثه به كتحريك المعشوق للعاشق، وصرح بأنه لا يعلم الأشياء. فعنده لا خلق ولا علم. وأول ما أنزل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) . الوجه الرابع عشر إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته وهي المخلوقات المشهودة الموجودة، من السموات والأرض وما بينهما، فأخبر الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش. وشرع أهل الإيمان (1) أن يجتمعوا كل أسبوع يوماً يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق فيه السموات والأرض. ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع فإن النفس يتبع النصوص (2) فالاسم يعبر عما تصوره، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفاً بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك، وأما الأسبوع فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم، وحينئذ فأخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه وأنه خلقه في ستة أيام، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما. وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم " رواه البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما.   (1) لعله: لأهل الإيمان (2) كذا في الأصل وهو غير ظاهر وإنما المعنى الذي يدل عليه المقام أن التسمية تتبع التصور فالاسم يعبر عما تصوره واضعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 وقوله " بدأ الخلق " مثل قوله في الحديث الآخر " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء. ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم، كما في حديث القلم: إن الله لما خلقه قال اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وكذلك في الحديث الصحيح " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقوله في الحديث الآخر الصحيح " كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله (بكل شيء عليم - وعلى كل شيء قدير) وقوله (الله خالق كل شيء - وتدمر كل شيء - وأوتيت من كل شيء - وفتحنا عليهم أبواب كل شيء - ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين) وأخبرت الرسل بتقدم أسمائه وصفاته كما في قوله (وكان الله عزيزاً حكيماً. سميعاً بصيراً. غفوراً رحيماً.) وأمثال ذلك. قال ابن عباس " كان ولا يزال " ولم يقيد كون بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه، فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك. فلا يتوقف شيء من كمال ولوازم كماله على غيره، بل نفسه المقدسة، وهو المحمود على ذلك أزلاً وأبداً، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه. وأما غيره فلا يحصي ثناء عليه بل هو نفسه كما أثنى على نفسه، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وإذا قيل لم يكن متكلماً ثم تكلم، أو قيل كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له، كان هذا - مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال - ممتنعاً من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه (1) فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث. وكذلك إذا قيل كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال، وكذلك إذا قيل كلامه كله قديم العين وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه. أما قول من يقول ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره فهذا تعطيل للكلام من كل وجه وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سلب للصفات إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين، بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى ويخبر ويبشر وينذر وينادي من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا أنه يريد ويحب ويبغض ويغضب من غير أن يقوم به شيء من ذلك، وفي هذا من مخافة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع. وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والمتخيلات، وهذا (معنى) تكليمه لموسى عليه السلام وعندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم. ثم إذا قالوا مع ذلك أنه لا يعلم   (1) كذا في الأصل والمعنى المراد أنه ليس فيه شيء من معنى السببية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الجزئيات، فلا علم ولا أعلام، وهذا غاية التعطيل والنقص، وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل وأنه لم يزل الفاعل فاعلاً أو لم يزل لفعله مدة أو أنه لم يزل للمادة مادة، وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك ولا قدم شيء من حركاته ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك. والرسل أخبرت بخلق الأفلاك (1) وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسواء قيل أن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها أو قيل أنها أكبر منها كما قال بعضهم: أن كل يوم قدره ألف سنة، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض (2) .   (1) الفلك في الأصل مدار الكوكب ومجراه في منازله، وفي اصطلاح هؤلاء الفلاسفة الذين يرد الشيخ عليهم أن الفلك جسم صلب شفاف كروي وأن الافلاك تسعة. سبعة منها للدراري السبعة المعروفة على اصطلاحها والثامن لجميع النجوم الثوابت والتاسع خال من الكواكب والنجوم ويسمونه الاطلس. وقد نقض علم الهيئة الجديد هذا الاصطلاح وأثبت بطلانه. وكلام الشيخ ليس نصاً في اثباته وانما يقول أن الفلك بمعناه الأعم وكيفما كان فهو مخلوق (2) اليوم في اللغة الوقت الذي يحده ما يقع فيه كأيام العرب في حروبها وغيرها ومنه قوله تعالى (وذكرهم بأيام الله) ومنه يوم الحساب للزمن الذي يقع فيه. فأيام خلق السموات والأرض هي الأزمنة التي خلق الله كل طور أو مقدار منها في زمن كخلقه لمادة الأرض في يومين وتقدير أقواتها النباتية والحيوانية في يومين تتمة أربعة أيام. كما في سورة فصلت. ولا يعلم تقدير كل يوم منها بأيامنا إلا خالقها عز وجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 وقد أخبر سبحانه أنه (استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين) فخلقت من الدخان. وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، المذكور في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئاً كما قال (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) مع إخباره أنه خلقه من نطفة. وقوله (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فيها قولان، فالأكثرون على أن المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) كما قال تعالى (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وقال تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) وقيل: أم خلقوا من غير مادة، وهذا ضعيف لقوله بعد ذلك (أم هم الخالقون) فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء أم من ماء معين؟ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم، ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دل على جهلهم، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم. والاستفهام استفهام إنكار مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقاً خلقهم نفعهم ذلك، وأما إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغن ذلك عنهم من الله شيئاً. الوجه الخامس عشر أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه، فإن كونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 لم يكن قادراً ثم صار قادرة على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته والتي هي من أظهر صفات الكمال، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني، فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر ثم جعله غيره عالماً قادراً وكذلك إذا قالوا كان غير متكلم ثم صار متكلماً. وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلماً. قال: كالإنسان، قال: فقد جمعتم بين تشبيه وكفر. وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع (1) . وإذا قال القائل: كان في الأزل قادراً على أن يخلق فيما لا يزال، كان هذا كلاماً متناقضاً لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل، ومن لم يمكنه الفعل في   (1) قال الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية الذي نقله الخلال واعتمده عليه القاضي أبو يعلى وغيره: فلما ظهرت عليه الحجة قال أن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم فقد شبهتم الله بخلقه حتى زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا ولا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما. فقد جمعتم بين كفر وبين تشبيهه تعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول أن الله لم يزل متكلما أزلا ولا نقول أنه كان لا يتكلم حتى خلق كلاما فتكلم، ولا نقول أنه كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول أنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة. ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق علما فعلم، والذي لا يعلم هو جاهل، ولا نقول أنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة، والذي ليس له قدرة عاجز. ولكن نقول لم يزل الله عالما قادراً متكلماً بلا متى ولا كيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 الأزل امتنع أن يكون قادراً في الأزل، فإن الجمع بين كونه قادراً وبين كون المقدور ممتنعاً جمع بين الضدين، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادراً. وأيضاً يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعاً إلى كونه ممكناً بغير سبب موجب يحدد ذلك ممتنع. وأيضاً فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر. وإذا قدر قبل ذلك شيئاً شاءه الله فالأمر كذلك، فلم يزل قادراً والفعل ممكن وليس لقدرته وتمكينه من الفعل أول، فلم يزل قادراً يمكنه أن يفعل فلم يكن الفعل ممتنعاً عليه قط. وأيضاً فإنهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة - فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافاً لا ينتهي. فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك. وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً. وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ وأيضاً فالأزل معناه عدم الأولية، ليس الأزل شيئاً محدوداً، فقولنا لم يزل قادراً بمنزلة قولنا هو قادر دائماً، وكونه قادراً وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء، يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مسبوق بالعدم، فليس معه شيء قديم بقدمه. وإذا قيل لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، ننفي ما ننفيه من الحوادث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 والحركات شيئاً بعد شيء. وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل لا بأن معه مفعولاً من المفعولات بعينه. وإن قدر أنه نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن إذ كان كل مخلوق فله ابتداء، ولا نجزم أن يكون له انتهاء. وهذا فرق في أعيان المخلوقات، وهو فرق صحيح لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام فلم يفرقوا بين كون كلامه قديماً بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبين كون الكلام المعين قديماً، وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين (1) المعين قديماً كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وكذلك كل ما سواه. وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح. وإن من غلط أهل الفلسفة والكلام أو غيرهم فإنما هو لغلط فيهما أو في أحدهما، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضاً لا يكذب بعضه بعضاً قال تعالى (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) بعد قوله: (ومن أظلم ممن افترى على اله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه) وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه. وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع أحدهما   (1) بياض في الأصل ولعله (قديماً والشيء المعين) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 بالآخر، وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل ما لا يصح نسبته إليه أو كذب بالحق لما جاءه، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل، وقال تعالى عن أهل النار (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار، وقال تعالى (أولم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذن يسمعون بها إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقال تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) أي أن القرآن حق، فأخبر أنه سيري عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق. ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك، فطائفة كأرسطو وأتباعه قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في الزمان، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة، ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم، فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين. وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلاً ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب، وكان الشيء بعد ما لم يكن في غير زمان، وأمثال ذلك مما يخلف صريح العقل، وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وليس هذا القول منقولاً عن موسى ولا عيسى ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 محمد صلوات الله عليهم وسلامه ولا عن أحد من أصحابهم، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم، فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليهم وسلم، وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية، وإما بعدم بيان الحق، وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء. وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان. فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً. انتهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى وتقدس (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج " أنهم كلاب أهل النار " وقرأ هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم. وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية - وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 والخوارج هم أول من كفر المسلمين بالذنوب. ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق. وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه. فصل ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهله العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل الإسلام بلا خلاف عندهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحد أنه لا تصح إلى خلف من عرف حاله. ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك (1) ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر. فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال أن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال. فصل ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.   (1) أي لأجل كون ملوكهم الفاطميين ودعاتهم ملاحدة لا شيعة مبتدعة فقط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " وقال صلى الله عليه وسلم " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه " وقال صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله " وقال " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال " أنه أراد قتل صاحبه " وقال " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " وقال " إذا قال المسلم لأخيه لا كافر فقد باء بها أحدهما " وهذه الأحاديث كلها في الصحاح. وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 الخطاب لحاطب (1) بن أبي بلتعة " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ " وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضاً: من حديث الأفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: أنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم أنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة. وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً. فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل. ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه " أن لا يهلك أمته بسنة عامة أعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن   (1) أي في شأن حاطب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك " وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً. وثبت في الصحيحين لما نزل قوله (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو من تحت أرجلكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال " هاتان أهون ". هذا ما أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة " وقال " الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " وقال " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم ". فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح " يؤم القوم أقرأم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة. فإن كان في الهجرة سواء فأقدمهم سناً " وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً وكان قد رد بدعة ببدعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان صح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته. وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفكر) هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هو سواد الليل وبياض النهار " ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ. وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت، وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين " ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ". فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدراً. فصل أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن ذلك حق يجزم به المسلمون يقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علمه المسلم وجزم به فهو يقطع به وإن كان الله قادراً على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء، وإذا قال المسلم أن أقطع بذلك فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال أن الله لا يقدر على مقل إماتة الخلق وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق هم قوم أحدثوا ذلك من عندهم ولم يكن هذا الشيخ ينكر هذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون في الإيمان كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويستثنون في أعمال البر، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. ومراد السلف من ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمر الله ورسوله، فيشك في قبول الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثني لأن الأمور جميعها إنما تكون بمشيئة الله كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه. وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور، ثم جاء بعدهم قوم جهال فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو واحد من علماء المسلمين أنه كره لفظ القطع في الأمور المجزوم بها فقد كذب عليه. وصار الواحد من هؤلاء يظن أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن مرزوق ولا أصحابه في حياته ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ مطلقاً، بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم. كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سب الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سب أصحاب ذنب لا يغفر " وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن لأن الله تعالى قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا في حق من لم يتب. وقال في حق التائبين (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله لا يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) فثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب تاب الله عليه. ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر أو مجنون أو معلم أو مفتر وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي صرح، وكان قد ارتد وكان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن، ثم تاب وأسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 وإذا قيل: سب الصحابة حق لآدمي: قيل: المستحل لسبهم كالرافضي يعتقد ذلك ديناً، كما يعتقد الكافر سب النبي صلى الله عليه وسلم ديناً. فإذا تاب وصار يحبهم ويثني عليهم ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات. ومن ظلم إنساناً فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبل الله توبته. لكن إن عرف المظلوم مكنه من أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أصحهما أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل بل يحسن غليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته. كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم والحسنات يذهبن السيئات. كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول أنه كاذب إذا تاب وشهد أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق وصار يحبه ويثني عليه ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته والله تعالى (يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وقد قال تعالى (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) . آخر كلام شيخ الإسلام بن تيمية، قدس الله روحه الزكية، وأسكننا وإياه بمنه الغرف العلية. وصلى الله على محمد وصحبة وسلم. [يقول محمد رشيد صاحب المنار] هذه الرسالة من أنفس ما كتبه شيخ الاسلام وأنفعه في التأليف بين أهل القبلة الذين فرق الشيطان بينهم باهواء البدع وعصبيات المذاهب، على كونه أقوى أنصار السنة برهانا، وأبلغ المفندين للبدع قلما ولسانا، ومنهاجه في الرد على المبتدعة ببيان الحق بالأدلة، وحكم ما خالفه من شرك وكفر وبدعة، مع عدم الجزم بتكفير شخص معين له شبهة تأويل، فضلا عن تكفير فرقة تقيم أركان الدين. فجزاه الله أفضل الجزاء على ارشاده ونصحه للمسلمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 المذهب الصحيح الواضح فيما جاء من النصوص في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات من تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره منقول من الجزء الحادي والثلاثين من كتاب الكواكب الدراري الموجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى ورضي عنه: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسله صلى الله عليه وسلم تسليماً. فصل في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه. قال الله في كتابه (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) وقال تعالى، فيما ذم به بني إسرائيل (فيما نقضهم ميثاقهم - إلى قوله - وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر، لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض، فكل من العاقدين يطلب من الآخر تسليم ما عقد عليه ولهذا قال تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به) أي تتعاهدون وتتعاقدون، وهذا هو موجب العقود ومقتضاها، لأن كلاً من المتعاقدين أوجب على نفسه بالعقد ما طلبه الآخر وسأله منه، فالعقود موجبة للقبوض، والقبوض هي المسؤولة المقصودة المطلوبة، ولهذا تتم العقود بالتقابض من الطرفين، حتى لو أسلم الكافران بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 التقابض في العقود التي يعتقدون صحتها أو تحاكما إلينا لم نتعرض لذلك لانقضاء العقود بموجباتها، ولهذا نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، لأنه عقد وإيجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ولا لهما. ولهذا حرم الله الميسر الذي منع بيع الغرر، ومن الغرر ما يمكنه قبضه وعدم قبضه كالدواب الشاردة، لأن مقصود العقد وهو القبض غير مقدور عليه. ولهذا تنازع العلماء في بيع الدين على الغير، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه، وبهذا وقع التعليل في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الثمار حتى تزهى " قيل: وما تزهى؟ قال حتى " تحمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " وفي لفظ أنه " نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وعن النخل حتى يزهو؟ قيل: وما يزهو قال يحمار ويصفار " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمر حتى تزهو " فقلت لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت أن منع الله الثمر، بم تستحل مال أخيك؟ وهذه ألفاظ البخاري. وعند مسلم " نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو " وعند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: أرأيت إن منع الله الثمرة - من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. أدرجاه يه، ويرون أنه غلط. وفيما قاله أبو مسعود نظر. وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين ليس فيه نزاع، وهو من الأحكام التي يجب اتفاق الأمم والملل فيها في الجملة، فإن مبنى ذلك على العدل والقسط الذي تقوم به السماء والأرض، وبه أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، كما قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وذلك أن المعاوضة كالمبايعة والمؤاجرة مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله، إلا ليحصل له ما طلبه. فكل منهما آخذ معط طالب مطلوب. فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه - مثل تلف العين المؤجرة قبل التمكن من قبضها وتلف ما بيع بكيل أو وزن قبل تمييزه بذلك وإقباضه ونحو ذلك - لم يجب على المؤخر أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن. ثم إن كان التلف على وجه لا يمكن ضمانه وهو التلف بأمر سماوي بطل العقد ووجب رد الثمن إلى المشتري إن كان قبض منه، وبرئ منه إن لم يكن قبض، وإن كان على وجه يمكن فيه الضمان وهو أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه فللمشتري الفسخ لأجل تلفه قبل التمكن من قبضه وله الإمضاء لإمكان مطالبة المتلف، فإن فسخ كانت مطالبة المتلف للبائع وكان للمشتري مطالبة البائع بالثمن إن كان قبضه، وإن لم يفسخ كان عليه الثمن وله مطالبة المتلف، لكن المتلف لا يطالب إلا بالبدل الواجب بالإتلاف، والمشتري لا يطالب إلا بالمسمى الواجب بالعقد، ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن المتلف إما أن يكون هو البائع أو المشتري أو ثالثاً أو يكون بأمر سماوي، فإن كان هو المشتري فإتلافه كقبضه يستقر به العوض، وإن كان بأمر سماوي انفسخ العقد، وإن كان ثالثاً فالمشتري بالخيار، وإن كان المتلف هو البائع فأشهر الوجهين أنه كإتلاف الأجنبي، والثاني أنه كالتلف السمائي. وهذا الأصل مستقر في جميع المعاوضات إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من القبض تلفاً لا ضمان فيه انفسخ العقد، وإن كان فيه الضمان كان في العقد الخيار. وكذلك سائر الوجوه التي يتعذر فيها حصول المقصود بالعقد من غير إياس، مثل أن يغصب المبيع أو المستأجر غاصب، أو يفلس البائع بالثمن، أو يتعذر فياه ما تستحقه الزوجة من النفقة والمتعة والقسم، أو ما يستحقه الزوج من المتعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 ونحوها، ولا ينتقض هذا بموت أحد الزوجين، لأن ذلك تمام العقد ونهايته، ولا بالطلاق قبل الدخول لأن نفس حصول الصلة بين الزوجين أحد مقصودي العقد. ولهذا ثبتت به حرمة المصاهرة في غير الربيبة. فصل والأصل في أن تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد من السنة ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو بعث من أخيك تمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " وفي رواية " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ". فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً، ثم بين سبب ذلك وعلته فقال " بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " وهذا دلالة على ما ذكره الله في كتابه من تحريم أكل المال بالباطل وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ ماله بغير حق بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال بالباطل لأنه من الظلم المخالف للقسط الذي تقوم به السماء والأرض. وهذا الحديث أصل في هذا الباب. والعلماء وإن تنازعوا في حكم هذا الحديث كما سنذكره واتفقوا على أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد ويحرم أخذ الثمن فلست أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً صريحاً في هذه القاعدة وهي (إن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد) غير هذا الحديث. وهذا له نظائر متعددة قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصاً يوجب قاعدة ويخفي النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة ويتنازعوا فيما لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 يبلغهم فيه النص. مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص، والمضارية ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلاً بالنص ويفرعون عليه لا ينازعون في الأصل المنصوص ويوافقون فيما لا نص فيه، ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه لهيبة الاتفاق في القلوب وأنه ليس لأحد خلافه. وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص. وقد يكون حكمه أقوى من المتفق عليه. وإن خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع من قوته في نفس الأمر حتى يقطع به من ظهر له مدركه. ووضع الجوائح من هذا الباب، فإنها ثابتة بالنص، وبالعمل القديم الذي لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين، وبالقياس الجلي والقواعد المقررة، بل عند التأمل الصحيح ليس في العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق. وذلك أن القول به هو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً، وعليه العمل عندهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك وغيره، وهو مشهور عن علمائهم كالقاسم ابن محمد ويحيى بن سعيد القاضي ومالك وأصحابه، وهو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وأصحابه وأبي عبيد والشافعي في قوله القديم. وأما في القول الجديد فإنه علق القول به على ثبوته لأنه لم يعلم صحته، فقال رضي الله عنه: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلاً بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. فقد أخبر أنه إنما لم يجزم به لأنه لم يعلم صحته. وعلق القول به على ثبوته، فقال: لو ثبت لم أعده. والحديث ثابت عند أهل الحديث لم يقدح فيه أحد من علماء الحديث بل صححوه ورووه في الصحاح والسنن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد. فظهر وجوب القول به على أصل الشافعي أصلاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 وأما أبو حنيفة فإنه لا يتصور الخلاف معه في هذا الأصل على الحقيقة لأن من أصله: أنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده، ومطلق العقد عنده وجوب القطع في الحال ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح لم يصح عنده بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض في الحال، فلا يجوز تأخيره لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية فقد تلف بعد وجوب قطعه كما لو تلف عند غيره بعد كمال إصلاحه، وطرد أصله في الإجارة فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئاً فشيئاً لا تملك بمجرد العقد وقبض العين ولهذا يفسخها بالموت وغيره. ومعلوم أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في التفريق بين ما بعد بدو الصلاح وقبل بدوها كما عليه جماهير العلماء حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وذلك ثابت في الصحاح من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وأبي هريرة فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح ظهر النزاع معه. والذين ينازعون في وضع الجوائح لا ينازعون في أن المبيع إذا تلف قبل التمكن من القبض يكون من ضمان البائع، بل الشافعي أشد الناس في ذلك قولاً فإنه يقول: إذا تلف قبل القبض كان من ضمان البائع في كل مبيع ويطرد ذلك في غير البيع، وأبو حنيفة يقول به في كل منقول. ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائج يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة وما لم يمكن قبضه لما روى البخاري من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: مضت السنة إن ما أدركته الصقعة حباً مجموعاً فهو من مال المشتري. وإما النزاع في أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا؟ فإنهم يقولون هذا تلف بعد قبضه لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشتري وبينه، فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالاتفاق، ولأن المشتري يجوز تصرفه فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 بالبيع وغيره، وجواز التصرف يدل على حصول القبض لأن التصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز، فهذا سر قولهم. وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها، مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ومثل ما روي في الصحيحين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تألى أن لا يفعل خيراً ". ولا دلالة في واحد من الحديثين، أما الأول فكلام مجمل فإنه حكى أن رجلاً اشترى ثماراً فكثرت ديونه فيمكن أن السعر كان رخيصاً فكثر دينه لذلك، ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين أو إلى البيت أو السوق، ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها. ولو فرض أن هذا كان مخالفاً لكان منسوخاً، لأنه باق على حكم الأصل وذاك ناقل عنه، وفيه سنة جديدة فلو خولفت لوقع التغيير مرتين، وأما الحديث الثاني فليس فيه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم " تألى أن لا يفعل خيراً " والخير قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، ولم يحكم عليه لعدم مطالبة الخصم وحضور البينة أو الإقرار، ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح. وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه مجمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه كما في حديث أنس. وهذا باطل لعدة أوجه. أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة " والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 والثاني أنه أطلع بيع الثمرة ولم يقل قبل بدو صلاحها فأما تقييده ببيعها قبل بدوصلاحها فلا وجه له. الثالث أنه قيد ذلك بحال الجائحة، وبيع الثمر قبل بدو صلاحها لا يجب فيه ثمن بحال. الرابع أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فلو كان الثمر على الشجر مقبوضاً لوجب أن يكون مضموناً على المشتري في العقد الفاسد. وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح في البيع الصحيح. كما توضع في البيع الفاسد، لأن ما ضمن في الصحيح ضمن في الفاسد، وما لا يضمن في الصحيح لا يضمن في الفاسد. وأما قولهم: إنه تلف بعض القبض فممنوع، بل نقول ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله، بل وقبل التمكن من القبض، لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر، حتى لو ترك ذلك لكان مفرطاً، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد. فقد وجد التسليم دون تمام التسلم. وذلك أحد طرفي القبض. ولم يقدر المشتري إلا على ذلك. وإنما على المشتري أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذي اقتضاه العقد، سواء كان القبض مستعقباً للعقد أو مستأخراً وسواء كان جملة أو شيئاً فشيئاً. ونحن نطرد هذا الأصل في جميع العقود، فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد، بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد لفظاً وعرفاً، ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة وإن تأخر بها القبض على الصحيح، كما يجوز بيع العين المؤجرة، ويجوز بيع الشجر واستثناء ثمره للبائع، وإن تأخر معه كمال القبض. ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد. وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان يحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما. ولهذا قلنا أن شرطا تعجيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً وحرم حلالاً، وإن أطلقا فالعرف تأخير الجداد والحصاد إلى كمال الصلاح. وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية فالقبض مرجعه إلى عرف الناس، حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع. وقبض ثمر الشجر لا بد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح، بخلاف قبض مجرد الأصول، وتخلية كل شيء بحسبه، ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة. وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع، فعن أحمد في هذه المسألة روايتان: (أحدهما) لا يجوز بيعه ما دام مضموناً على البائع لأن بيع ما لم يقبض فلا يجوز وعلى هذا يمنع الحكم في الأصل (والرواية الثانية) يجوز التصرف، وعلى هذه الرواية فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الاستيفاء كانت من ضمان المؤجر بالاتفاق، ومع هذا فيجوز التصرف فيها قبل القبض، وذلك لأنه في الموضعين حصل الإقباض الممكن فجاز التصرف باعتبار التمكن، ولم يدخل في الضمان لانتفاء كماله وتمامه الذي به يقدر المشتري والمستأجر على الاستيفاء، وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان، بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا، وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف كما في المقبوض قبضاً فاسداً، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة فقبض الصبرة كلها، وكما في الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين. اختارها الخرقي. وقد يحصلان جميعاً وقد لا يحصلان جميعاً. ولنا في جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان، لما في ذلك من ربح ما لم يضمن، ورواية ثالثة: إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة فتكون الزيادة في مقابلة الزيادة. فالروايتان في بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين في إيجار العين المؤجرة، ولو قيل في الثمار إنما يمنع من الزيادة على الثمن كرواية المنع في الإجارة لتوجه ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 وبهذا الكلام يظهر المعنى في المسئلة وإن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد، فيكون مضموناً على البائع كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها. وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع، والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض، ولهذا لا قطع فيه، ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر. وإنما المقصود حصاده وجداده، ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جداده وسقيه، والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه وإن كانت معدومة كما تدخل المنافع في الإجارة وإن كانت معدومة، فكيف يكون المعدوم مقبوضاً قبضاً مستقراً موجباً لانتقال الضمان؟ فصل وعلى هذا الأصل تتفرع المسائل، فالجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد، مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك، كما لو تلف بها غير هذا المبيع. فإن أتلفها آدمي يمكن تضمينه، أو غصبها غاصب، فقال أصحابنا كالقاضي وغيره: هي بمنزل إتلاف المبيع قبل التمكن من قبضه، يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما تقدم، وإن أتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التي تنهبها واللصوص الذين يخربونها، فخرجوا فيه وجهين (أحدهما) ليست جائحة لأنها من فعل آدمي (والثاني) وهو قياس أصول المذهب أنها جائحة وهو مذهب مالك كما قلنا مثل ذلك في منافع الإجارة، لأن المأخذ إنما هو إمكان الضمان، ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار أو أهل الحرب كان ذلك كالآفة السماوية، والجيوش واللصوص وإن فعلوا ذلك ظلماً ولم يكن تضمينهم فهم بمنزلة البرد في المعنى، ولو كانت الجائحة قد عيبته ولم تتلفه فهو كالعيب الحادث قبل التمكن من القبض، وهو كالعيب القديم يملك به الفسخ أو الأرض حيث يقول به، وإذا كان ذلك بمنزلة تلف المبيع قبل التمكن من قبضه فلا فرق بين قليل الجائحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وكثيرها في أشهر الروايتين، وهي قول الشافعي وأبي عبيدة وغيرهما من فقهاء الحديث لعموم الحديث والمعنى (والثانية) أن الجائحة الثلث فما زاد كقول مالك، لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة، فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث، كما قدر به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الثلث، والثلث كثير " وعلى الرواية الأولى يقال، الفرق مرجعه إلى العادة، فما جرت العادة بسقوطه أو أكل الطير أو غيره له فهو مشروط في العقد، والجائحة ما زاد على ذلك، وإذا زادت على العادة وضعت جميعهاً، وكذلك إذا زادت على الثلث وقلنا بتقديره بأنها توضع جميعها، وهل الثلث مقدر بثلث القيمة أو ثلث المقدار؟ على وجهين، وهما قولان في مذهب مالك. فصل والجوائح موضوعة في جميع الشجر عند أصحابنا، وهو مذهب مالك. وقد نقل عن أحمد أنه قال: إنما الجوائح في النخل، وقد تأوله القاضي على أنه أراد إخراج الزرع والخضر من ذلك، ويمكن أنه أراد أن لفظ الجوائح الذي جاء به الحديث هو في الخل وباقي الشجر ثابتة بالقياس لا بالنص، فإن شجر المدينة كان النخل. وأما الجوائح فيما يبتاع من الزرع ففيه وجهان ذكرهما القاضي وغيره (أحدهما) لا جائحة فيها، قال القاضي: وهذا أشبه، لأنها لا تباع إلا بعد تكامل صلاحها وأوان جدادها، بخلاف الثمرة فإن بيعها جائز بمجرد بدو الصلاح ومدته تطول. وعلى هذا الوجه حمل القاضي كلام أحمد: إنما الجوائح في النخل - يعني لما كان ببغداد - وقد سئل عن جوائح الزرع فقال: إنما الجوائح في النخل. وكذلك مذهب مالك أنه لا جائحة في الثمرة إذا يبست، والزرع لا جائحة فيه كذلك، لأنه إنما يباع يابساً، وهذا قول من لا يضع الجوائح في الثمر كأبي حنيفة والشافعي في القول الجديد المعلق (1) .   (1) أي المعلق على عدم صحة الحديث وقد صح قوجب العمل به على قاعدته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 والوجه الثاني فيها الجائحة كالثمرة. وهذا هو الذي قطع به غير واحد من أصحابنا كأبي محمد لم يذكروا فيه خلافاً ولم يفرقوا بين ذلك وبين الثمرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وبيع الحب حتى يشتد، فبيع هذا بعد اسوداده كبيع هذا بعد اشتداده. ومن حين يشتد إلى حين يستحصد مدة قد تصيبه فيها جائحة. ومن أصحابنا من قال: ما تكرر حمله كالقثاء والخيار ونحوهما من الخضر والبقول وغيرهما فهو كالشجر وثمره كثمره في ذلك لصحة بيع أصوله صغاراً كانت أو كباراً مثمرة أو غير مثمرة. فصل هذا إذا تلفت قبل كمال صلاحها ووقت جدادها، فإن تركها إلى حين الجداد فتلفت حينئذ فكذلك عند أصحابنا. ونقل عن مالك أنها تكون من ضمان المشتري. وللشافعي قولان، وذلك لأنه لم يبق على البائع شيء من التسليم، والمشتري لم يحصل منه تفريط لا خاص ولا عام فإن تأخيرها إلى هذا الحين من موجب العقد. فأصحابنا راعوا عدم تمكن المشتري وعدم تفريطه، والمنازع راعى تسليم البائع وتمكينه. وأما إن تركها حتى يجاوز (1) نقلها وتكامل بلوغها ثم تلفت ففياه لأصحابنا ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون من ضمان البائع أيضاً لعدم كمال قبض المشتري وهو الذي قطع به القاضي في المجرد وابن عقيل وأكثر الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعي، لكن القاضي في المجرد علله بما إذا لم يكن له عذر دون ما إذا عاقه مرضه أو مانع، وأما غيره فذهبوا إلى الوجه الثالث وهو عدم اعتبار إمكان الرفع والجد. قال ابن عقيل: هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا وهو   (1) بياض بالأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 كما قال، فإن هذه الثمرة بمنزلة المنفعة في الإجارة. ولو حال بين المستأجر الحائل وبينها حائل يخصه مثل مرضه ونحوه لم تسقط عنه الأجرة بخلاف الحائل العالم فإنه يسقط أجرة ما ذهب به من المنفعة. فصل هذا إذا اشترى الثمرة والزرع، فإن اشترى الأصل بعد ظهور الثمر أو قبل التأبير واشترط الثمر فلا جائحة في ذلك عند أصحابنا ومالك وغيرهما. ولذلك احترز الخرقي من هذه الصورة فقال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع، وذلك لأنه هنا حصل القبض الكامل بقبض الأصل، ولهذا لا يجب على البائع سقي ولا مؤونة أصلاً، فإن المبيع عقار والعقار قبض بالتخلية، والثمر دخل ضمناً وتبعاً، فإذا جاز بيعه قبل صلاحه جاز هنا تبعاً، ولو بيع مقصوداً لم يجز بيعه قبل صلاحه. فصل هذا الكلام في البيع المحض للثمر والزرع، وأما الضمان والقبالة وهو أن يضمن الأرض والشجر جميعاً بعوض واحد لمن يقوم على الشجر والأرض ويكون الثمر والزرع له، فهذا العقد فيه ثلاثة أقوال. أحدها أنه باطل وهذا القول منصوص عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، بناء على أن في ذلك تبعاً للثمر قبل بدو صلاحه (والثاني) يجوز إذا كانت الأرض هي المقصودة والشجر تابع لها بأن يكون شجراً قليلاً، وهذا قول مالك (والثالث) حواز ذلك مطلقاً، قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، منهم ابن عقيل، وهذا هو الصواب لأن إجارة الأرض جائزة ولا يمكن ذلك إلا بإدخال الشجر في العقد فجاز للحاجة تبعاً، وإن كان في ذلك بيع ثمر قبل بدو صلاحه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 إذا بيع مع الأصل، ولأن ذلك ليس ببيع للثمر. لأن الضامن هنا هو الذي يسقي الشجر ويزرع الأرض، فهو في الشجر بمنزلة المستأجر في الأرض، والمبتاع للثمر بمنزلة المشتري للزرع، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين بعد موته وأخذ القبالة فوفى بها دينه. رواه حرب الكرماني في مسائله وأبو زرعة لدمشقي في تاريخه بإسناد صحيح، ولأن عمر بن الخطاب ضرب الخراج باتفاق الصحابة على الأرض التي فيها شجر نخل وعنب وجعل للأرض قسطاً وللشجر قسطاً، وذلك إجارة عند أكثر من ينازعنا في هذه المسئلة، وهو ضمان لأرض وشجر. وقد بسطت الكلام في هذه المسئلة في القواعد الفقهية. والغرض هنا مسئلة وضع الجوائح، فإذا قلنا لا يصح هذا العقد فكيف الطريق في المعاملة؟ قيل أنه يؤجر الأرض ويساقي على الشجر (والزرع) منها، وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، وهو قول القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال الحيل، والمنصوص عن أحمد إبطال هذه الحيلة وهو الصواب، كما قررنا في كتاب إبطال الحيل فساد ذلك من وجوه كثيرة (منها) أنه إن جعل أحد العقدين شرطاً في الآخر لم يصح، وإن عقدهما عقدين مفردين لم تجز له هذه المحاباة في مال موليه كالوقف ومال اليتيم ونحوهما، ولا مال موكله الغائب ونحوه. ومنها أنه قد علم أن إعطاء العوض العظيم من الضامن لم يكن لأجل منفعة الأرض التي قد لا تساوي عشر العوض وإنما هو لأجل الثمرة، وكذلك المالك قد علم أنه لم يشترط لنفسه من الثمرة شيئاً، وهو لا يطالب بذلك القدر النذر الذي لا قيمة له، وإنما جعل الثمرة جميعها للضامن. وفي الجملة فهذا العقد إما أن يصح على الوجه المعروف بين الناس وإما أن لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 يصح بحال، لكن الثاني فيه فساد عظيم لا تحتمله الشريعة فتعين الأول. وأما هذه الحيلة فيعرف بطلانها بأدنى نظر. فعلى هذا إذا حصلت جائحة في هذا الضمان، فإن قلنا: العقد فاسد فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها وقد خلي بينه وبينها وتلفت قبل كمال الصلاح أو لم تطلع. وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه لقوله " أرأيت أن منع الله الثمرة " أو قال " أرأيت إن لم يثمرها الله، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " وإذا أصابتها جائحة منعت كمال صلاحها وأفسدتها فقد منع الله الثمرة فيجب أن لا يأخذ مال أخيه بغير حق. ومن قال أن الثمرة تضمن بالقبض في العقد الصحيح فيلزمه أن يقول أنها تضمن بالقبض في العقد الفاسد، فإذا تلفت هنا يكون من ضمانه لأن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على المشتري، لكن يجب أن يضمنوا قيمتها حين تلفت، وقد يكون تلفها في أوائل ظهورها وقيمتها قليلة، وقد يكون بعد بدو صلاحها وهذا مما يلزمهم فيه إلزاماً قوياً، وهو أنه إذا اشتراها بعد بدو صلاحها مستحقة التبقية فكثير من أجزائها وصفاتها لم يخلق بعد، فإذا تلفت بجائحة ولم نضع عنه الجائحة، فيجب أن لا يضمن إلا ما قبضه دون ما لم يخلق بعد ولم يقبضه، فيجب أن ينظر قيمتها حين أصابتها الجائحة فينسب ذلك إلى قيمتها وقت بدو الصلاح، فيضمن من الثمن بقدر ذلك، بمنزلة من قبض بعض المبيع وبعض منفعة الإجارة دون بعض فإنه يضمن ما قبضه دون ما لم يقبضه بعد. فأما أن يجعل الأجزاء والصفات المعدومة التي لم تخلق بعد من ضمانه وهي لم توجد فهذا خلاف أصول الإسلام، وهو ظلم بين لا وجه له، ومن قاله فعليه أن يقول أنه إذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها وقبض أصلها ولم يخلق منها شيء لآفة منعت الطلع أن يضمن الثمن جميعه للبائع، وهذا خلاف النص والإجماع، ويلزمه أن يقول أنه لو بدا صلاحها في العقد الفاسد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وتلفت بآفة سماوية أن يضمن جميع الثمرة كما يضمنها عنده بالعقد الصحيح، فإن ما ضمن بالقبض في أحدهما ضمن بالقبض في الآخر، إلا أنه يضمن هنا بالمسمى وهناك بالبدل. وهذه حجة قوية لا محيص عنها، فإنه إن جعل ما لم يخلق من الأجزاء مقبوضاً لزمه أن يضمن في العقد الفاسد، وإن جعله غير مقبوض لزمه أن لا يضمن في العقد الصحيح. والأول باطل قطعاً مخالف للنص والإجماع. ومن قال من الكوفيين أن المعقود عليه هو ما وجد فقط وهو المقبوض فقد سلم من هذا التناقض، لكن لزمه مخالفة النصوص المستفيضة، ومخالفة عمل المسلمين قديماً وحديثاً، ومخالفة الأصول المستقرة، ومخالفة العدل الذي به تقوم السماء والأرض، كما هو مقرر في موضعه. وهذا كالحجج القاطعة على وجوب وضع الجوائح في العقود الصحيحة والفاسدة، ووضعها في العقد الفاسد أقوى، وأما إذا جعلنا الضمان صحيحاً فإنا نقول بوضع الجوائح فيه، كما نقوله في الشراء وأولى أيضاً، وأما من يصحح هذه الحيلة ويرى العقد صحيحاً فقد نقول أنت مساق والمساقاة ليس فيها جائحة فيبني هذا على وضع الجوائح في المساقاة. فصل وأما الجوائح في الإجارة فنقول: لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة، لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في تلف الثمرة المبيعة، لأن الثمرة هناك قد يقولون قبضت بالتخلية، وأما المنفعة التي لم توجد فلم تقبض بحال. ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها بطلت الإجارة، وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الانتفاع، إلا خلافاً شاذاً حكوه عن أبي ثور. لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه تلف المبيع بعد القبض جعلا لقبض العين قبضاً للمنفعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 وقد يقال: هو قياس قول من يقول بعدم وضع الجوائح، لكن يقولون: المعقود عليه هنا المنافع وهي معدومة لم تقبض، وإنما قبضها باستيفائها أو التمكن من استيفائها، وإنما جعل قبض العين قبضاً لها في انتقال الملك والاستحقاق، وجواز التصرف. فإذا تلفت العين فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة فتبطل الإجارة. وهذا يلزمهم مثله في الثمرة باعتبار ما لم يوجد من أجزائها. والأصول في الثمرة كالعين في المنفعة وعدم التمكن من استيفاء المقصود بالعقد موجود في الموضعين. فأبو ثور طرد القياس الفاسد كما كرد الجمهور القياس الصحيح في وضع الجوائح وإبطال الإجارة. وإن تلفت العين في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقى من المدة دون ما مضى. وفي انفساخها في الماضي خلاف شاذ، وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة كتلف بعض الأعيان المبيعة، مثل موت بعض الدواب المستأجرة وانهدام بعض الدور. وتعطل المنفعة يكون بوجهين (أحدهما) تلف العين كموت العبد والدابة المستأجرة (والثاني) زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت أو انقطع ماؤها، فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء لا فرق بينهما عند أحد من العلماء، وإن زال بعض نفعها المقصود وبقي بعضه مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء ويكون زرعاً ناقصاً وكان الماء ينحسر عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة أو نشوء الزرع، ملك فسخ الإجارة فإن ذلك كالعيب في البيع - ولم تبطل به الإجارة. وفي إمساكه بالأرش قولان في المذهب. وإن تعطل نفعها بعض المدة لزمه من الأجرة بقدر ما انتفع به كما قال الخرقي. فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 بمقدار مدة انتفاعه. وإذا بقي من المنفعة ما ليس هو المقصود بالعقد، مثل أن ينقطع الماء عن الأرض المستأجرة للزرع ويمكن الانتفاع بها بوضع حطب ونصب خيمة، وكذلك الدار المتهدمة يمكن نصب خيمة فيها، والأرض التي غرقت يمكن صيد السمك منها، فهل تبطل الإجارة هنا أو يكون هذا كالنقص الذي يملك به الفسخ؟ على وجهين (أحدهما) تبطل، وهو قول أكثر العلماء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي في صورة الهدم، لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة بالعقد كان وجودها وعدمها سواء (والثاني) يملك الفسخ، وهو نص الشافعي في صورة انقطاع الماء. وقد اختاره القاضي وابن عقيل في بعض المواضع. والأول اختاره غيرهما من الأصحاب. فصل إذا تبين هذا فإذا استأجر أرضاً للزرع فقد ينقطع الماء عنها أو تغرق قبل الزرع، وقد ينقطع الماء عنها أو تغرق أو يصيب الزرع آفة بعد زرعها وقبل وقت الحصاد، فما الحكم في هذه المسائل؟ المنصوص عن أحمد والأصحاب وغيرهم في انقطاع الماء - أن انقطاعه بعد الزرع كانقطاعه قبله، إن حصل معه بعض المنفعة وجب من الأجرة بقسط ذلك وإن تعطلت المنفعة كلها فلا أجرة قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله: عن رجل اكترى أرضاً يزرعها وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت؟ قال: يحط عنه من الأجرة بقدر ما لم ينتفع بها أو بقدر انقطاع الماء عنها. فصرح بأن انقطاع الماء بعد الزرع يوجب أن يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، وعلى هذا أصحابنا من غير خلاف أعلمه. وذكر القاضي وغيره أنه إذا اكترى أرضاً للزرع فزرعها ثم أصابها غرق أو آفة غير الشرب فلم ينبت لزمه الكراء وذكر أن أحمد نص (1) على ذلك   (1) بهامش الأصل وجدت بخطه "لعل لفظ أحمد في نفي ضمان الزرع" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وأنها لو غرقت في وقت زرعها فلم يمكنه الزراعة لم تلزمه الأجرة لتعذر التسليم وكذلك ذكر صاحب التفريع مذهب مالك في الصورتين، فالقاضي يفرق بين الصورتين كالنصين المفترقين: يفرق بين انقطاع الماء وبين حدوث الغرق وغيره من الآفات، بأن انقطاع الماء المعتاد بمنزلة عدم التسليم المستحق كموت الدابة والأجرة إنما تستحق بدوام التسليم المستحق، وأما الغرق وغيره من الآفات التي تفسد الزرع فهو إتلاف لعين ملك المستأجر فهو كما لو تلف بعد الحصاد. وسوى طائفة من أصحابنا - كالشيخ أبي محمد - في الإجارة بين انقطاع الماء وحدوث الغرق الذي يمنع الزرع أو يضر الزرع، إن ذلك إن عطل المنفعة أسقط الأجرة وإن أمكن الانتفاع معه على تعب من القصور، مثل أن يكون الغرق يمنع بعض الزراعة أو يسوء الزرع ثبت به الفسخ، وإن كان ذلك لا يضر كغرق بماء ينحسر في قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها الماء من مكان آخر أو كان انقطاعه في زمن لا يحتاج إليه فيه لم يكن له الفسخ. وعلى هذه الطريقة ينقل جواب أحمد من مسئلة انقطاع الماء إلى مسألة غرق الزرع، ومن مسئلة غرق الزرع إلى مسئلة انقطاع الماء، لأن المعنى في الجميع واحد، وذلك أن غرق الزرع الحادث قبل الزرع إذا منع من الزرع فالحادث بعده يمنع من نبات الزرع، كما أن انقطاع الماء يمنع من نبات الزرع، والمعقود عليه المقصود بالعقد هو التمكن من الانتفاع إلى حين الحصاد ليس إلقاء البذر هو جميع المعقود عليه ولو كان ذلك وحده هو المعقود عليه لوجب إذا انقطع الماء بعد ذلك أن لا يملك الفسخ ولا يسقط شيء من الأجرة ولم يقولوا به ولا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 أن يقال به، لأنا نعلم يقيناً أن مقصود المستأجر الذي عقد عليه العقد هو تمكنه من الانتفاع بتربة الأرض وهوائها ومائها وشمسها إلى أن يكمل صلاح زرعه، فمتى زالت منفعة التراب أو الماء أو الهواء أو الشمس لم ينبت الزرع ولم يستوف المنفعة المقصودة بالعقدة، كما لو استأجر داراً للسكنى فتعذرت السكنى بها لبعض الأسباب، مثل خراب حائط أو انقطاع ماء أو انهدام سقف ونحو ذلك. ولا خلاف بين الأمة إن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة أو نقصها أو الفسخ وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة وانهدام الدار وانقطاع ماء السماء، فكذلك حدوث الغرق وغيره من الآفات المانعة من كمال الانتفاع بالزرع. يوضح ذلك أن المقصود المعقود عليه ليس هو مجرد فعل المستأجر الذي هو شق الأرض وإلقاء البذر حتى يقال إذا تمكن من ذلك فقد تمكن من المنفعة جميعها وإن حصل بعده ما يفسد الزرع ويمنع الانتفاع به، لأن ذلك منتقض بانقطاع الماء بعد ذلك، ولأن المعقود عليه نفس منفعة الأرض، وانتفاعه بها ليس هو فعله فإن فعله ليس هو منفعة له ولا فيه انتفاع له بل هو كلفة عليه وتعب ونصب يذهب فيه نفعه وماله، وهذا بخلاف سكنى الدار وركوب الدابة، فإن نفس السكنى والركوب انتفاع وبذلك قد نفعته العين المؤجرة. وأما شق الأرض فتعب ونصب وإلقاء البذر وإخراج مال، وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالنفع الذي يخلقه الله في الأرض من الإنبات، كما قال تعالى (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وقال (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) وقال (فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقصباً وزيتوناً ونخلاً) . وليس لقائل أن يقول: أن إنبات الأرض ليس مقدوراً للمستأجر ولا للمؤجر والمعقود عليه يجب أن يكون مقدوراً عليه، لأن هذا خلاف إجماع المسلمين بل وسائر العقلاء فإن المعقود عليه المقصود بالإجارة لا يجب أن يكون من فعل أحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 المتآجرين، بل يجوز أن يجعل غيرهما من حيوان أو جماد وإن كانا عاجزين عن تلك المنفعة مثل أن يؤجره عبداً أو دابة ونفعها هو باختيارها، ومثل أن يؤجره داراً للسكنى ونفس الانتفاع بها هو بما خلق الله فيها من البقاء على تلك الصورة ليس ذلك من فعل المؤجر، وكذلك جريان الماء من السماء ونبعه من الأرض هو داخل في المعقود عليه وليس هو من مقدور أحدهما. وكذلك إذا آجره منقولاً من سلاح أو كتب أو ثياب أو آلة صناعة أو غير ذلك فإن المنفعة التي فيه ليست من فعل المؤجر ونظائر ذلك كثيرة، فكذلك نفع الأرض الذي يخلقه الله فيها حتى ينبت الزرع بترابها ومائها وهوائها وشمسها، وإن كان أكثره لا يدخل في مقدور البشر - هو المعقود عليه المقصود بالعقد فإذا تلف هذا المعقود عليه بطل العقد وإن بطل بعضه كان كما لو تعطل منفعة غيره من الأعيان المؤجرة بل بطلان الإجارة أو نقص الأجرة هنا أولى منه في جوائح الثمر. فإن الذين تنازعوا هناك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي حجتهم أن الثمرة تلفت بعد القبض فهو كما لو تلفت بعد الجذاذ أو بعد وقته، وأما هنا فقد اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض - القبض المضمون على المستأجر - شيئاً فشيئاً. ولهذا اتفقوا على أنه إذا تلفت العين أو تعطلت المنفعة أو بعضها في أثناء المدة سقطت الأجرة أو بعضها أو ملك الفسخ، وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه حيث ظن أن المنفعة المقصودة بالعقد إثارة الأرض والبذر فيها وظن أن تلف الزرع بعد ذلك بغرق أو غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصاد وبمنزلة تلف ثوب له في الدار المستأجرة. وهذه غفلة بينة لمن تدبر. ولهذا ينكر كل ذي فطرة سليمة ذلك حتى من لم يمارس علم الفقه من الفلاحين وشذاذ المتفقهة ونحوهم فإنهم يعلمون أن المعقود عليه هو انتفاع المستأجر منفعة العين المؤجرة لا مجرد تعبه ونفقته الذي هو طريق إلى الانتفاع فإن ذلك بمنزلة إسراجه وإلجامه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 واقتياده للفرس المستأجرة وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب لا أنه المعقود عليه وإن كان داخلاً فيه، وكذلك شد الأحمال وعقد الحبال ونحو ذلك هو طريق إلى الانتفاع بالحمل على الدابة وهو داخل في المعقود عليه بطريق التبع، وإلا فالمعقود عليه المقصود هو نفس حمل الدابة للحمل والركوب وإن كان الحمل نفع الدابة والإسراج والشد فعل المستأجر فكذلك هنا الشق والبذر، وإن كان فعله فهو داخل في الإجارة بطريق التبع لأنه طريق إلى النفع المعقود عليه المقصود بالعقد وهو نفع الأرض بما يخلقه فيها من ماء وهواء وشمس. فمن ظن أن مجرد فعله هو المعقود عليه فقد غلط غلطاً بيناً باليقين الذي لا شبهة فيه وسبب غلطه كون فعله أمراً محسوساً لحركته وكون نفع الأرض أمراً معقولاً لعدم حركتها فالذهن لما أدرك الحركة المحسوسة توهم أنها هي المعقود عليه وهذا غلط منقوض بسائر صور الإجارة فإن المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة سواء كانت جامدة كالأرض والدار والثياب أو متحركة كالأتاسي والدواب، لا عمل الشخص المستأجر وإنما عمل الشخص المستأجر طريق إلى استيفاء المنفعة، فتارة يقترن به الاستيفاء كالركوب واللبس وتارة يتأخر عنه الاستيفاء كالبناء والغراس والزرع. فإن المعقود عليه حصول منفعة الأرض للبناء والغراس والزرع لا مجرد عمل الباني الغارس الزارع الذي هو حق نفسه، كيف يكون حق نفسه هو الذي بذل الأجرة في مقابلته؟ وإنما يبذل الأجرة فيما يصل إليه من منفعة العين المؤجرة لا فيما هو له من عمل نفسه فإن شراء حقه بحقه محال ومن تصور هذه قطع بما ذكرناه ولم يبق عنده فيه شبهة إن شاء الله. وإذا كان المعقود عليه نفس منفعة العين من أول المدة إلى آخرها فأي وقت نقصت فيه هذه المنفعة بنقص ما وانقطاعه أو بزيادته وتغريقه أو حدوث جراد أو برد أو حر أو ثلج ونحو ذلك مما يكون خارجاً عن العادة ومانعاً من المنفعة المعتادة فإن ذلك يمنع المنفعة المستحقة المعقود عليها، فيجب أن يملك الفسخ أو يسقط من الأجرة بقدر ما فات من المنفعة كانقطاع الماء وليس بين انقطاع الماء وزيادته وسائر الموانع فرق يصلح لافتراق الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 فصل إذا تبين ذلك فقد تقدم نص أحمد والخرقي وغيرهما على أنه عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة وهذا نوعان. أحدهما حصول المنفعة في بعض زمن الإجارة أو بعض أجزاء العين المستأجرة فهذا تسقط فيه الأجرة على قدر ذلك ويجب بقسط ما حصل من المنفعة وتكون الأجرة مقسومة على قدر قيمة الأمكنة والأزمنة فإن كلاً منهما قد يكون متماثلاً وقد يكون مختلفاً بأن يكون بعض الأرض خيراً من بعض وكرى بعض فصول السنة أغلى من بعض. وقد صرح بذلك أصحابنا وغيرهم. والثاني نقص المنفعة في نفس المكان الواحد والزمان الواحد مثل أن يقل ماء السماء عن الوجه المعتاد أو يحصل غرق ينقص الزرع ونحو ذلك، فهنا لأصحابنا وجهان (أحدهما) أنه لا يملك إلا الفسخ (والثاني) وهو مقتضى المنصوص وقياس المذهب أنه يخير بين الفسخ وبين الأرش كالبيع، بل هو في الإجارة أوكد، لأنه في البيع يمكنه الرد والمطالبة بالثمن وهنا لا يمكنه رد جميع المنفعة، فإنه لا يردها إلا متغيرة. فلو قيل هنا: أنه ليس له إلا المطالبة بالأرش كما نقول على إحدى الروايتين: أن تعيب المبيع عند المشتري يمنع الرد بالعيب القديم ويوجب الأرش - لكان ذلك أوجه وأقيس من قول من يقول ليس له إذا تعقب المنفعة إلا الرد دون المطالبة بالأرش. فهذا قول ضعيف جداً بعيد عن أصول الشريعة وقواعد المذهب وخلاف ما نص عليه أحمد وأئمة أصحابه، وإن كان القاضي قد يقوله في المجرد ويتبعه عليه ابن عقيل أو غيره، فالقاضي رضي الله عنه صنف (المجرد) قديماً بعد أن صنف (شرح المذهب) وقبل أن يحكم (التعليق والجامع الكبير) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وهو يأخذ المسائل التي وضعها الناس وأجابوا فيها على أصولهم فيجيب فيها بما نص عليه أحمد وأصحابه وبما تقتضيه أصوله عنده. فربما حصل في بعض المسائل التي تتفرع وتتشعب ذهول للمفرع في بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص في نحو ذلك. وعلى هذا فإذا حصل من الضرر - كالبرد الشديد والغرق والهواء المؤذي والجراد والجليد والفأر ونحو ذلك - ما نقص المنفعة المقصودة المعتادة المستحقة بالعقد، فيصنع في ذلك كما يصنع في أرش المبيع المعيب: تنظر قيمة الأرض بدون تلك الآفة وقيمتها مع تلك الآفة، وينسب النقص إلى القيمة الكاملة ويحط من الأجرة المسماة بقدر النقص، كأن تكون أجرتها مع السلامة تساوي ألفاً ومع الآفة تساوى ثمانمائة، فالآفة قد نقصت خمس القيمة فيحط خمس الأجرة المسماة، وكذلك في جائحة الثمر ينظر كم نقصته الجائحة، هل نقصته ثلث قيمته، أو ربعها، أو خمسها؟ يحط عنه من الثمن بقدره. وكذلك لو تغير الثمر وعاب نظر كم نقصه ذلك العيب من قيمته؟ وحط من الثمن بنسبته. وأما ما قد يتوهمه بعض الناس أن جائحة الزرع في الأرض المستأجرة توضع من رب الأرض أو يوضع من رب الأرض بعض الزرع قياساً على جائحة المبيع في الثمر والزرع - فهذا غلط. فإن المشتري للثمر والزرع ملك بالعقد نفس الثمر والزرع. فإذا تلفت قبل التمكن من القبض تلفت من ملك البائع. وأما المستأجر فإنما استحق بالعقد الانتفاع بالأرض. وأما الزرع نفسه فهو ملكه الحادث على ملكه لم يملكه بعقد الإجارة، وإنما ملك بعقد الإجارة المنفعة التي تنبته إلى حين كمال صلاحه. فيجب الفرق بين جائحة الزرع والثمر المشترى وبين الجائحة في منفعة الأرض المستأجرة المزروعة. فإن هذا مزلة أقدام ومضلة أفهام، غلط فيها خلائق من الحكام والمقومين والمجيحين والملاك والمستأجرين، حتى أن بعضهم يظنون أن جائحة الإجارة للأرض المزروعة بمنزلة جائحة الزرع المشترى. وبعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 المتفقهة يظن أن الأرض المزروعة إذا حصل بها آفة منعت من كمال الزرع لم تنقص المنفعة ولم يتلف شيء منها، وكلا الأمرين غلط لمن تدبر. ونظير الأرض المستأجرة للازدراع الأرض المستأجرة للغراس والبناء فإن المؤجر لا يضمن قيمة الغراس والبناء إذا تلف، ولكن لو حصلت آفة منعت كمال المنفعة المستحقة بالعقد، مثل أن يستولي عدو بمنع الانتفاع بالغراس والبناء أو تحصل آفة من جراد أو آفة تفسد الشجر المغروس، أو حصل ريح يهدم الأبنية ونحو ذلك، فهنا نقصت المنفعة المستحقة بالعقد نظير نقص المنفعة في الأرض المزروعة. ولما كان كثير من الناس يتوهم أن المستأجر توضع عنه الجائحة في نفس الزرع والبناء والغراس كالمشترى - نفى ذلك العلماء، ويشبه أن يكون هذا معنى ما نص عليه أحمد ونقله أصحابنا كالقاضي وأبي محمد حيث قالوا - واللفظ لأبي محمد - إذا استأجر أرضاً فزرعها فتلق الزرع فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافاً. لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم يتلف إنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثياباً فتلفت الثياب فيها. فهذا الكلام يقتضي أن المؤجر لا يضمن شيئاً من زرع المستأجر كما يضمن البائع بزرع المشتري ولذلك ذكر ذلك في باب جوائح الأعيان وعلل ذلك بأن التالف إنما هو عين ملك المستأجر لا المنفعة وهذا حسن في نفي ضمان نفس الزرع، ويظهر ذلك فيما إذا تلف الزرع بعد كماله. وقد بينا فيما تقدم أن نفس المنفعة المعقود عليها تنقص وتتعطل بما يصيب الزرع من الآفة فيحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. فما نفى فيه الشيخ الخلاف ضمان نفس العين ولم يذكر ضمان نقص المنفعة هنا، لكن ذكره في كتاب الإجارة والموضع موضع اشتباه وفي كلام أكثر العلماء فيها إجمال وربما حققناه يتضح الصواب. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهت رسالة الجوائح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233