الكتاب: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة المؤلف: حياة بن محمد بن جبريل الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1423هـ/2002م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة حياة بن محمد بن جبريل الكتاب: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة المؤلف: حياة بن محمد بن جبريل الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1423هـ/2002م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة جمعا ودراسة تأليف حياة بن محمد بن جبريل شكر وتقدير الحمد لله الموفق لكل خير الواهب للنعم الذي وفقني وأعانني فله الحمد كله، ومنه التوفيق، والسداد، وبعد: فاعترافا بالفضل لأهله واستجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"1. أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لوالدي وأستاذي الجليل فضيلة الدكتور غالب علي العواجي الذي تولى الإشراف على هذا البحث فكان لخبرته الطويلة، ومراسه المتواصل أكبر الأثر في إبراز هذا البحث وإخراجه إلى حيز الوجود، فقد فتح لي صدره الرحب، وغمرني بأخلاقه الكريمة، وجاد علي بتوجيهاته السديدة، وأعطاني من وقته وعلمه الكثيرَ، إذ لم يكن يقتصر - حفظه الله - على ساعات الإشراف الرسمية، بل كان يستقبلني في بيته متى شئت من ليل أو نهار بوجه مشرق ونفس راضية متواضعة، وسرور بالغ فجزاه الله عني وعن جميع زملائي بل وعن العلم وجميع طلابه أحسن الجزاء وأقر عينه في عقبه. كما أتقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ممثلة في القائمين عليها وأخص منهم القائمين على عمادتي كلية   1 رواه أبو داود 5/157- 158، والترمذي 4/339، وقال حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن من رحمة الله تعالى وعظيم لطفه بهذه الأمة أن اختار لهم الإسلام دينا أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وجعله الحبل المتين من   1 الآية 102 آل عمران. 2 الآية 1 النساء. 3 الآية 70 من سورة الأحزاب، وهذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة أخرجها مسلم برقم 868. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 تمسك به نجا ومن التزم به سعد، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا، ويحشر يوم القيامة أعمى. وقد سعد السلف الصالح لتمسكهم بالإسلام فكانوا سادات أهل الأرض طرا، وخير أمة أخرجت للناس بشهادة الحق تبارك وتعالى. وقد كانت طريقتهم اتباع تعاليم الإسلام ظاهرا وباطنا، والتزام عقيدته الصافية كما جاءت عن الوحيين لم يسوموا أدلتها تأويلا، ولم يظهروا في ظواهرها تحريفا ولا تعطيلا، ولا تشبيها ولا تمثيلا، بل كلهم بما نطق به الكتاب والسنة مقرون، فامتد الإسلام على أيديهم شرقا وغرباً، ودخلت الأمم على أيديهم في دين الله أفواجا، فأتم الله ما وعد به عباده المؤمنين من التمكين في الأرض والنصر على الأعداء أعواما وأحقابا. وكلما انقرض جيل أمد الله هذه الأمة بالمجددين الذين يحيون ما اندرس من سنن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم رحمة بهذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد كان من هؤلاء المجددين على رأس المائة الأولى من الهجرة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سلفيا مجددا، وأثريا متبعا، وقد حرص رحمه الله تعالى أن يولي أمور العقيدة جل اهتمامه، فاتخذ علماء السلف آثاره في بيان العقيدة حججا وأدلة، واستدلوا بها في كتبهم، وفي دروسهم في مواطن كثيرة. ومن المعلوم أن أشرف العلوم وأولاها بالعناية والاهتمام هو ما يتعلق منها بأمر العقيدة، ولم لا يكون ذلك؟ وقد كان من عظم أمرها أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 عز وجل هو الذي تولى بيانها فأنزل الكتب وأرسل الرسل ثم بين أن القصد من خلق الجن والإنس وإيجادهم إنما هو لتوحيده وعبادته. وإذا كان أمر هذه العقيدة بهذه الدرجة وشرفها بهذه المكانة فما الذي يوصل إلى فهمها ومعرفتها؟ لاشك أن من أهم ما يوصل إلى فهمها ومعرفتها دراسة آثار سلفنا الصالح في بيانها لأنهم"هم السابقون فقد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم"1، ولقد وُصِفَت آثارهم بأنها هي الدين. قال أحد السلف: "إنما الدين الآثار"2 وقال آخر: " كانوا يرون أنهم على الطريق ما داموا على الأثر"3. أسباب اختيار هذا الموضوع أولا: من مقاصد اختيار هذا الموضوع الرغبة في إبراز عقيدة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وبيان أن آثاره العقدية هي ما عليه السلف الصالح أهل القرون المفضلة.   1 سنن أبي داود ج 4 ص 202-203. 2 انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر ج 1 ص 782. 3 انظر المصدر نفسه ج 1 ص 783. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الشريعة وكلية الدعوة الكليتين اللتين تخرجت فيهما، فقد قدموا لطلابهم كل ما يعينهم على أداء مهمتهم. وأشكر فضيلة الدكتور سعود بن عبد العزيز الخلف، والدكتور محمد بن خليفة التميمي اللذين لهما الفضل بعد الله تعالى في قبولي بالجامعة الإسلامية فجزاهما الله عني وعن جميع زملائي أحسن الجزاء وأسأل الله تعالى أن يتقبل منهما تعاونهما وأن يوفقني وإياهما وجميع المسلمين إلى كل خير. كما أتقدم بالشكر الجزيل والتقدير العظيم لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر الذي له الفضل في الإشارة بالكتابة في هذا الموضوع، فقد أشار حفظه الله على أحد الإخوة في مرحلة الدكتوراه بأن يسجل جهود أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في العقيدة لرسالة الدكتوراه، فرأى مجلس القسم بأن هذا الموضوع يتناسب مع مرحلة الماجستير، فأشار عليّ هذا الأخ الكريم به، فاستحسنته وسارعت في تسجيله، وقد شعرت بفائدته الكبيرة منذ أن بدأت فيه فجزاه الله خير الجزاء. وأشكر كل من مد إلي يد العون في هذا البحث من إعارة كتاب أو إبداء رأي من كافة زملائي وأساتذتي، وأسأل الله تعالى أن يتقبل من الجميع تعاونهم وأن يوفقنا وإياهم إلى كل خير. وأحمد الله حمد شاكر لنعمائه وأشكره وأثني عليه بما هو أهله لا أحصي ثناء عليه كما هو أثنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 على نفسه، فله الحمد في الأولى وله الحمد في الآخرة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ثانيا: لاشك أن جمع آثار هذا الإمام في العقيدة وترتيبها ودراستها دراسة علمية يضيف - إن شاء الله تعالى - مادة خصبة إلى المكتبة السلفية عسى أن يستفيد منها الباحثون عن الحق، والراغبون في الاستنان بسنن السلف الصالح، لاسيما أن شخصية عمر بن عبد العزيز شخصية محببة إلى نفوس أكثر الطوائف، فكما كان لأعماله أثر في نفوس معاصريه وسلوكهم يمكن أن يكون لآثاره العقدية أثر في نفوس كل من يدعي محبته اليوم. ثالثا: يزعم مبتدعة الخلف أن العقيدة السلفية إنما هي من اختراع شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذ مدرسته من بعده. ولا شك أن دراسة هذه الآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز بإنصاف يفند مزاعم هؤلاء ويكشف طويتهم ويبين أن هذه العقيدة إنما هي عقيدة الكتاب والسنة التي نقلها الصحابة والتابعون إلى من بعدهم، وهكذا إلى يوم الدين. رابعا: من أسباب التوجه إلى العناية بآثار هذا الإمام الثمرة العظيمة التي يجنيها الباحث من فقهه في الدين، وسلوكه العملي بالإضافة إلى ما يرجوه من الأجر والثواب في نشر محاسن هذا الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيرا إن شاء الله"1. خامسا: لا ريب أن شخصية الخليفة عمر بن عبد العزيز وعهده المبارك كانا ولا يزالان - قديما وحديثا - ميدانا مرغوبا لدى الباحثين ومع ذلك لم يتطرق أحد - حسب علمي- لدراسة آثاره العقدية فأحببت أن أسهم في ذلك. الدراسات السابقة عن عمر بن عبد العزيز قبل أن أذكر الخطة والمنهج الذي سرت عليه ينبغي أن أشير إلى بعض الجهود العلمية السابقة التي تناول فيها أصحابها شخصية عمر بن عبد العزيز بالبحث والدراسة. وذكر أهم الكتب التي اعتمدت عليها في إعداد هذا البحث. فقد حظيت شخصيته رحمه الله تعالى كما حظي غيره من السلف بالدراسة، والعناية في القديم والحديث. وقلما تجد كتاب عقيدة مسندا أو تاريخا أو علم طبقات وتراجم، أو زهد، أو سير سلوك، إلا وتجد لعمر ابن عبد العزيز ذكرا عطرا، وثناء حسنا، ومناقب مذكورة، ومآثر جمة، وقدوة حسنة، ومن أقدم من قام بدراسة أحوال عمر بن عبد العزيز   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري ت214هـ. روى كتابه عن شيوخه الذين أسند إليهم مادة الكتاب، وكان شيوخه الذين ذكرهم في سنده يكثرون من ذكر عمر بن عبد العزيز أمام تلاميذهم ويتخولونهم بذلك، وقد تبع ابن عبد الحكم في مؤلفه سبيل الرواية، ولا عجب إذا وجد تكرار لبعض الأخبار، فقد يكررها لاختلاف السند وإن لم يذكره، واختلاف بعض ألفاظها، ولذا تجد أنه يحكي القول في أول كل رواية مما جمعه لأي من شيوخه وهذا الكتاب قد تناول سيرة عمر بن عبد العزيز بشكل مستقل، وتوجد في ثنايا الكتاب مسائل عقدية مهمة أفدت منها في بحثي هذا لأنه راوي ثقة مأمون على ما نقله عن شيوخه. ونصوص هذا الكتاب تدور حول حياة عمر منذ البداية وحتى اليوم الأخير من حياته1.قال النووي واصفا هذا الكتاب: "وقد جمع ابن عبد الحكم في مناقب عمر بن عبد العزيز مجلدا مشتملا على جميل سيرته وحسن طريقته، وفيه من النفائس ما لا يستغني عن معرفته والتأدب به ... "2.   1 سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه تأليف أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم تحقيق أحمد عبيد، دار عالم الكتب الطبعة السادسة عام 1404هـ - 1984م وطبعة مكتبة وهبة عام 1373هـ - 1954م، وطبعة دار الفضيلة بمراجعة وتعليق أحمد عبد التواب عوض. 2 تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/17، ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وممن تناول سيرة عمر بن عبد العزيز الآجري ت360هـ صاحب كتاب الشريعة في مؤلفه أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته. والكتاب مسند على طريقة المحدثين وهو كتاب مختصر مفيد لم يتناول جميع الأخبار التي دارت حول سيرة عمر بن عبد العزيز، بل اقتصر على فضائله وترجمته مع ذكر أخبار مبالغ فيها. وفيه بعض الآثار التي تتعلق بالعقيدة أفدت منها في بحثي هذا، ويشتمل هذا الكتاب على ما يقرب من خمسة وثلاثين خبرا تناولت جوانب من حياته كما سبق1. ومن المؤلفين الذين جمعوا أخبار عمر بن عبد العزيز أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت597هـ. وكتابه هذا من أشمل ما كتب عن عمر ابن عبد العزيز فقد استقصى أخباره وجمعها، وبوبها وقلما فاته شيء من أخبار عمر مع بتره الأسانيد أحيانا مما يجعل الاطلاع على موارده من الصعوبة بمكان. وقد تطرق لعقيدة عمر بن عبد العزيز2 في الباب السادس عشر من الكتاب فذكر عشرة آثار تتعلق بعقيدته في التمسك بالسنة والنهي عن الخصومات في الدين وبيان سمات أهل البدع والحكم على القدرية وبيان أن القول بالقدر بدعة في الدين، وإثبات صفة العلم   1 أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز رحمه الله وسيرته تحقيق الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان الطبعة الثانية عام 1412هـ - 1982م. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص86-89 ط. مكتبة دار التراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 لله تبارك وتعالى ردا على من ينكرها من القدرية، وقد أفدت من هذا الكتاب في بحثي هذا لأنه من أشمل ما كتب عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى1. ومن الكتب النفيسة النادرة التي شملت ما يتعلق بعمر بن عبد العزيز كتاب الشيخ الإمام أبي حفص عمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء تلميذ ابن الجوزي ت570هـ. ويميل محقق الكتاب إلى أنه كان مسودة وأن مؤلفه مات وهو ما زال مسودة2، ويعد هذا الكتاب من أشمل ما كتب عن عمر بن عبد العزيز أيضا، بل يفوق في حجمه ما كتبه ابن عبد الحكم، وابن الجوزي، وقد تطرق لعقيدة عمر3، كما فعل شيخه ابن الجوزي وكرر ما ذكره شيخه عن اعتقاد عمر بن عبد العزيز وزاد عليه أثرين أثر في التمسك بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن خلفائه من بعده وآخر في زيادة الإيمان ونقصانه. وقد أفدت من هذا الكتاب لا سيما في توثيق   1 سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ط. مكتبة دار التراث تحقيق أحمد شوحان. 2 انظر الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع ص8 ط. مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى عام 1416هـ تحقيق وتعليق الدكتور محمد صدقي ابن أحمد البورنو. 3 انظر المصدر السابق 1/35-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المعلومات والمتابعات الشيء الكثير في بحثي هذا لشمول الكتاب لكل ما يتعلق بحياة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى1. وذكر محقق كتاب أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته للآجري مؤلفين آخرين ألفا فيما يختص بعمر بن عبد العزيز بشكل مستقل أحدهما هو أحمد بن إبراهيم الدورقي وكتابه هذا اطلع عليه ابن خير الإشبيلي المتوفى سنة 575هـ وذكره في الفهرست2، وأشار إلى أنه في خمسة أجزاء، والكتاب الثاني للشيخ عبد الرؤوف المناوي وأشار إلى أنه توجد منه نسخة بمكتبة برلين3، ولم أطلع عليهما. وللإمام عبد الله بن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير"كتاب يسمى "المنتقى العزيز في فضائل عمر بن عبد العزيز 24 ورقة"4.وللإخميني رحمه الله كتاب يسمى المنتقى الوجيز من مناقب عمر بن عبد العزيز5.   1 الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع لأبي حفص الملاء ط. مؤسسة الرسالة. 2 انظر فهرست ابن خير ص273. 3 انظر مقدمة تحقيق أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته ص33 للدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان. 4 انظر فهرس المخطوطات دار الكتب العربية الظاهرية 2/695. 5 انظر فهرس المخطوطات المصورة بمعهد المخطوطات العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 هؤلاء الفضلاء هم الذين تناولوا أحوال عمر بن عبد العزيز في القديم بشكل مؤلف مستقل خاص به حسب اطلاعي. وهناك كتب أخرى تناولت أحواله ولكن ليست بشكل مستقل كما فعل المتقدمون. وإنما ذكروا ترجمة عمر ضمن تراجم مشاهير أهل العلم والفضل والزهد ومن هؤلاء: محمد بن سعد صاحب الطبقات ت 230هـ. فقد تناول في كتابه الطبقات الكبرى ترجمة وافية لعمر بن عبد العزيز بلغت تسعا وسبعين1 صفحة مع أنه قد فقد من ترجمته ثلاث صفحات أضافها2 محقق الجزء المفقود، وتوجد في ثنايا ترجمة عمر بن عبد العزيز مسائل عقدية مهمة أفدت منها في بحثي هذا لكون المؤلف يرويها بأسانيده عن عمر ولقرب عهده به وعلو إسناده3. ومن المؤلفين الذين تناولوا جانبا مهما من أحوال عمر بن عبد العزيز وتتبعوا ما يختص به أبو يوسف يعقوب بن سفيان البسوي ت 277هـ في كتابه المعرفة والتاريخ. فقد ذكر أخبار عمر بن عبد العزيز في مؤلفه المتقدم فبلغت اثنتين وخمسين   1 انظر الطبقات الكبرى 5/330-408 ط. دار الفكر. 2 انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم دراسة وتحقيق زياد محمد منصور ص89-91، ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية ط. الأولى عام 1403هـ 1983م. 3 الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ط. دار الفكر ودار صادر بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 صفحة. وتوجد في ثنايا أخبار عمر آثار عقدية أفدت منها في بحثي هذا لعلو إسناد هذا المؤلف ولصدقه وثقة من يروي عنهم هذه الآثار1.ومن الكتب المهمة التي تناولت أحوال عمر بن عبد العزيز تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري ت 310هـ. وتوجد منه عدة آثار عقدية أفدت منها في بحثي هذا إفادة لا بأس به2.ومن الكتب المهمة التي اهتمت بجمع ما يخص أحوال عمر بن عبد العزيز ضمن تاريخ المشاهير من الزهاد والنساك كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصفهاني الحافظ ت 430هـ. فقد ترجم لعمر بن عبد العزيز وذكر أحواله وانفرد بذكر رسالته في الرد على القدرية بكاملها كما توجد في ثنايا الترجمة آثار عقدية عدة أفدت منها في بحثي هذا إفادة كبيرة مع نزول سند المؤلف وروايته أحيانا عن الضعفاء والمجهولين مما يجعل دراسة سنده من الصعوبة بمكان، وقد بلغت عدد الصفحات التي كتبها عن أحوال عمر بن عبد العزيز في هذا المؤلف مائة صفحة3.   1 المعرفة والتاريخ للبسوي تحقيق الدكتور أكرم العمري ط. مكتبة الدار بالمدينة ط. الأولى عام 1410هـ. 2 تاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط. دار المعارف بمصر عام 1964م. 3 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ط. دار الكتاب العربي ط. الرابعة عام 1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومن المؤلفين الذين اعتنوا بأحوال عمر بن عبد العزيز الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، فقد خصص لعمر بن عبد العزيز قسطا كبيرا في مؤلفه وذكر آثارا عقدية مهمة جدا أفدت منها في بحثي هذا لثقته وسلامة عقيدته وانتقائه للآثار التي ذكرها عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله1. ومن الكتب التي تناول مؤلفوها جانبا شاملا لأحوال عمر بن عبد العزيز كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر ت 571هـ، فقد ترجم لعمر ابن عبد العزيز ترجمة وافية ضمن مؤلفه هذا بلغت عدد الصفحات مائة وثمانٍ وأربعين صفحة تناول في ثنايا الترجمة بعض الآثار العقدية المهمة وقد أفدت منها في بحثي هذا إفادة لا بأس بها2. كما توجد في ثنايا التراجم آثار كثيرة استفدت منها كذلك. وتوجد كتب عقدية مسندة حرص مؤلفوها أن يرووا الآثار عن أئمة السلف بأسانيدهم، وقد أفدت فائدة كبيرة منها، ومن أهمها كتاب الشريعة للآجري، حيث ذكر لعمر ابن عبد العزيز آثارا مهمة في سيرته مع القدرية وفي الإيمان وغيره. وقد أفدت من الكتاب في بحثي هذا إفادة كبيرة لأن الكتاب من كتب العقيدة   1 البداية والنهاية لابن كثير ط. دار الفكر العربي ط. الأولى سنة 1351هـ - 1933م 2 تاريخ دمشق لابن عساكر 45/126-274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 السلفية المهمة1. ومنها كتاب الإبانة لابن بطة، وهو على غرار كتاب الشريعة، وقد أفدت منه في بحثي هذا إفادة كبيرة لأنه من كتب أئمة السلف في العقيدة2. ومن الكتب المهمة التي ألفها أصحابها في خدمة العقيدة الصحيحة وكان لعمر ذكر فيها كتاب القدر للفريابي، وقد أفدت من هذا الكتاب لا سيما في باب القدر والرد على القدرية إفادة كبيرة لعلو إسناد المؤلف وسلامة عقيدته، وانفراده بعدة أثار مهمة مسندة عن عمر بن عبد العزيز3.ومن كتب العقيدة المفيدة التي أفدت منها في بحثي هذا شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، وقد أفدت منه إفادة عظيمة حيث أورد بسنده عن عمر بن عبد العزيز عدة آثار عقدية انفرد بقسط منها لم أجدها في غيره من الكتب4. ومن 1 الشريعة للآجري تحقيق الوليد بن محمد نبيه سيف النصر ط. مؤسسة قرطبة ط. الأولى عام 1417هـ. 2 الإبانة لابن بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ ط. دار الراية الرياض عام 1415هـ. 3 القدر للفريابي مخطوط برقم (2570) بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ت418هـ تحقيق أحمد سعد حمدان الغامدي ط. دار طيبة الرياض عام 1415هـ ط. الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المؤلفات التي أفدت منها في بحثي هذا ما كتبه ابن أبي الدنيا في رسائله1 الكثيرة المطبوعة التي ذكرت في ثنايا هذا البحث كما أن هناك كتب أخرى أفدت منها سيأتي إن شاء الله ذكرها في ثنايا الأبواب، والفصول، والمباحث، والمطالب وضمن فهرس المراجع. كما أفدت من كتب الزهد مثل الزهد للإمام أحمد وغيره، وأفدت من كتب الإمام الذهبي كسير أعلام النبلاء، وتذكرة الحفاظ، وتاريخ الإسلام، وأفدت كذلك من كتب السنة المعروفة. هذه هي أهم المؤلفات القديمة التي تناولت أحوال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، واستفدت منها. أما في العصر الحديث فقد أشبع ما يتعلق بأحوال عمر بن عبد العزيز بأبحاث كثيرة تناولت ما يتعلق بحكمه وعدله وزهده وسيرته وسياسته في رد المظالم أسرد ما وقفت عليه فيما يأتي: الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز، تأليف عبد العزيز سيد الأهل ط. دار العلم الملايين عام 1979م. بيروت لبنان ط. السادسة   1 ابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي المتوفى 281هـ. ومن رسائله كتاب المنامات، وكتاب الشكر لله عز وجل، وكتاب ذم الدنيا، وكتاب حسن الظن بالله، وكتاب العقل وفضله، وكتاب الورع وأكثر هذه الكتب من مطبوعات مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 عمر بن عبد العزيز، لمحمود زيدان، ط دار الفكر اللبناني عام1992 م الأولى. عمر بن عبد العزيز، تأليف أحمد زكي صفوت ط دار المعارف بمصر ط 3. عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين تأليف عبد الستار الشيخ ط دار القلم دمشق ط الأولى عام 1412 هـ1992م. ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز، للدكتور عماد الدين خليل ط مؤسسة الرسالة ط السابعة عام 1407هـ. خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، تأليف عبد الرحمن الشرقاوى ط دار الكتاب العربي بيروت عام 1407هـ. 7 - عمر بن عبد العزيز، تأليف أحمد الحناوي ط. دار الصحابة للتراث بطنطا ط. الأولى عام 1410هـ. 8 - عمر بن عبد العزيز وتجربته الرائدة في الإصلاح إعداد مركز البحوث بالمجموعة الإعلامية إشراف نبيل بدران ط. طائر العلم للنشر والتوزيع ط. الأولى عام 1415هـ - 1994م. هذه هي المؤلفات الخاصة التي وقفت عليها, أما الرسائل الجامعية فهي كالتالي: 1 - قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز مجددا ومصلحا، أو التصحيحات المالية لعمر بن عبد العزيز وأثرها في بيت المال وفي الأمة من 99-101 هـ، تأليف الدكتور محمد صدقي ابن أحمد البورنو الغزى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط. مكتبة المعارف بالرياض ط. الأولى 1413هـ - 1992م وهذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه سجلت في كلية الشريعة والقانون بالأزهر 2- فقه عمر بن عبد العزيز، رسالة دكتوراه قدمت للمعهد العالي للقضاء إعداد محمد بن شقير عام 1407 هـ. 3 – السياسة الإدارية في عهد عمر بن عبد العزيز رسالة دكتوراه قدمت للمعهد العالي للقضاء إعداد مروان علي القدومى عام 1402هـ. 4 - عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، تأليف ماجدة فيصل زكريا ط. مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة ط. الأولى 1407هـ - 1987م وهذا الكتاب في الأصل كذلك رسالة، ماجستير سجلت بجامعة أم القرى. 5 – عمر بن عبد العزيز حياته ومنهجه في الدعوة، رسالة ماجستير قدمت لجامعة الإمام إعداد حمود بن دخيل الله عام1405 هـ. 6- الخليفة عمر بن عبد العزيز محتسبا، رسالة ماجستير قدمت لجامعة الإمام فرع المدينة إعداد عثمان عبد الرحيم عام 1404هـ. 7- النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز، رسالة ماجستير قدمت لجامعة أم القرى إعداد محمد مشبب القحطانى ط/جامعة أم القرى عام 1418هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وهذه المؤلفات الرسائل التي كتبت في عمر بن عبد العزيز على كثرتها وتناولها الزوايا المختلفة عن أحواله إلا أنه من الملاحظ أن إبراز عقيدته الصافية السلفية في رسالة علمية مستقلة لم يتطرق إليه أحد فأحببت فيما يأتي إن شاء الله أن أجمع عقيدته رحمه الله في شكل رسالة، يجمع شتات ما تفرق في المراجع من عقيدته المبنية على الكتاب والسنة، ومن المعلوم أن العقيدة هي الأساس، وهي سر نجاح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وقد تكلم كثير من المؤلفين حول زهده وعدله، وورعه، لكنهم لم يبرزوا الأساس الذي بنى عليه عدله، وزهده، وورعه ألا وهي العقيدة الصافية النقية التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. وهذه العقيدة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح، وهذا ما تمثله الآثار عنه وقد جمعت ما تشتت منها في مكان واحد، وقارنت ما استطعت مقارنته في هذه الآثار كما سيظهر ذلك أثناء الرسالة. وتتلخص هذه الرسالة في مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة: فقد بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره، والدراسات التي السابقة عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى-، والمنهج الذي سلكته والخطة التي سرت عليها. وأما التمهيد فقد خصصته لتعريف مفردات عنوان الرسالة وتعريف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من حيث سيرته الشخصية، والعلمية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والسياسية، وأخلاقه المكتسبة، وفضائله، ووفاته رحمه الله تعالى لما لهذا التمهيد من صلة بالآثار الواردة عنه. أما الباب الأول فهو بعنوان الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في التوحيد ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في توحيد الألوهية وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الدعاء. المبحث الثاني: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الشكر. المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في التوكل. المبحث الرابع: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الخوف والرجاء. المبحث الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في التبرك المبحث السادس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن الشرك ووسائله وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول:- الآثار عن عمر في النهي عن التطير. المطلب الثاني:- الآثار عن عمر في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. المطلب الثالث:- الآثار عن عمر في حكم الساحر. الفصل الثاني: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في أسماء الله الحسنى وفيه أربعة عشر مبحثا المبحث الأول: ما أثر عن عمر في اسمه تعالى "الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث الثاني: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الرب". المبحث الثالث: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في أسمائه تعالى "الرحمن، الرحيم، المليك، الخبير". المبحث الرابع: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الكريم". المبحث الخامس: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الحي". المبحث السادس: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الرقيب". المبحث السابع: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى"الشهيد". المبحث الثامن: ما أثر عن عمر في اسميه تعالى "الواحد، القهار". المبحث التاسع: ما أثر عن عمر في اسميه تعالى "العلي العظيم". المبحث العاشر: ما أثر عن عمر في اسميه تعالى "العفو الغفور". المبحث الحادي عشر: ما أثر عن عمر في اسميه تعالى "العزيز الحكيم". المبحث الثاني عشر: ما أثر عن عمر في اسمه تعالى "الوارث". المبحث الثالث عشر: ما أثر عن عمر في اسمه تعالى "الخالق". المبحث الرابع عشر: ما أثر عن عمر في اسمه تعالى "العليم". الفصل الثالث: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الصفات العلى. وفيه اثنا عشر مبحثا: المبحث الأول: ما أثر عن عمر في إثبات صفة النفس لله تعالى. المبحث الثاني: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الوجه لله تعالى. المبحث الثالث: ما أثر عن عمر في إثبات صفة العلم لله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المبحث الرابع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الكبرياء لله تعالى. المبحث الخامس: ما أثر عن عمر في إثبات صفة القدرة لله تعالى. المبحث السادس: ما أثر عن عمر في إثبات صفة العلو لله تعالى. المبحث السابع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة المعية والقرب لله تعالى. المبحث الثامن: ما أثر عن عمر في إثبات صفة النزول لله تعالى. المبحث التاسع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة المشيئة والإرادة لله تعالى. المبحث العاشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الغضب لله تعالى. المبحث الحادي عشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الرضا لله تعالى. المبحث الثاني عشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الرحمة لله تعالى. أما الباب الثاني فقد كان بعنوان: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، والقدر، ويشتمل على سبعة فصول: الفصل الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بالملائكة. الفصل الثاني: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالكتب. الفصل الثالث: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالرسل الفصل الرابع: الآثار عن عمر في الإيمان بنبينا محمد وفضائل أصحابه وحقوق أهل بيته وفيه مبحثان: المبحث الأول: الآثار عن عمر في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر بعض خصائصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المبحث الثاني: الآثار عن عمر في فضائل الصحابة وموقفه من أهل البيت، وتحته ثلاث مسائل: المسألة الأولى: الآثار عن عمر في فضائل الصحابة. المسألة الثانية: الآثار عن عمر في ترتيب الخلفاء الراشدين. المسألة الثالثة: موقفه من أهل البيت. الفصل الخامس: الآثار عن عمر في الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أمور وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر في عذاب القبر ونعيمه. المبحث الثاني: الآثار عن عمر في الإيمان بالمعاد. المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الإيمان بالحوض. المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الإيمان بالميزان. المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الإيمان بالصراط. المبحث السادس: الآثار عن عمر في الإيمان بالجنة والنار. المبحث السابع: الآثار عن عمر في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم في الجنة. الفصل السادس: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالقدر. تمهيد في تعريف القدر لغة واصطلاحا. المبحث الأول: الآثار الواردة عن عمر في تقرير الإيمان بالقدر. المبحث الثاني: الآثار الواردة عن عمر في بيان مراتب القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في النهي عن الخوض في القدر. المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الرضا بالقضاء والقدر. الفصل السابع: الآثار الواردة عن عمر في تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الآثار الواردة عنه في تعريف الإيمان. المبحث الثاني: الآثار الواردة عنه في زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الثالث: الآثار الواردة عن عمر في حكم مرتكب الكبيرة. المبحث الرابع: الآثار الواردة عن عمر في حكم لعن المعين وتكفيره. المبحث الخامس: الآثار الواردة عن عمر في الحكم على المعين بالجنة أو النار. المبحث السادس: الآثار الواردة عن عمر في نواقض الإيمان. أما الباب الثالث: فهو بعنوان الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- في الاعتصام بالكتاب والسنة، وموقفه من أهل الأهواء والبدع، وأهل الذمة. ويشتمل على تسعة فصول: الفصل الأول: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة. وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر في وجوب لزوم الجماعة. المبحث الثاني: الآثار عن عمر في اتباع الكتاب والسنة. المبحث الثالث: الآثار عن عمر في تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الحرص على لزوم السنة والذب عنها. المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الأمر بالتمسك بما تدل عليه الفطرة. المبحث السادس: الآثار عن عمر في التمسك بأخبار الآحاد في العقيدة. المبحث السابع: الآثار عن عمر في الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين. الفصل الثاني: في النهي عن الأهواء والبدع. الفصل الثالث: في بيان سمات أهل الأهواء والبدع. الفصل الرابع: الآثار عن عمر في النهي عن الخصومات في الدين، وحثه على الجدال بالتي هي أحسن. الفصل الخامس: موقفه من الخوارج وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه. المبحث الثاني: الآثار عن عمر في مناظرة الخوارج. المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الحكم على الخوارج. الفصل السادس: موقفه من الشيعة. الفصل السابع: موقفه من القدرية وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر في مناظرة القدرية ومنهجه في ذلك. المبحث الثاني: رد عمر علي القدرية في رسالته المشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحث الثالث: حكمه فيهم. الفصل الثامن: الآثار عن عمر في الرد على فرق مختلفة: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على المرجئة. المبحث الثاني: الآثار عن عمر في الرد على الجهمية. المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الرد على من يزهِّد في العلم الشرعي من الفرق الضالة. الفصل التاسع: موقفه من أهل الذمة. وفيه تمهيد وفصل واحد. وأما الخاتمة فقد كانت لبيان أهم ما تبين لي من نتائج دراسة هذه الآثار. المنهج الذي سلكته في جمع ودراسة هذه الآثار. يتبين للمطلع على هذا البحث قيامه واشتماله على جانبين: الأول: جمع جملة من الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى - فيما يتعلق بالعقيدة. الثاني: التعليق على هذه الآثار بعرضها على الكتاب والسنة. وقد بذلت في الجانب الأول جهدا مضاعفا حيث جمعت الكتب التي هي مظان لهذه الآثار وتصفحتها بدقة وعناية لاستخراج ما فيها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الآثار العقدية، ثم رتبت هذه الآثار حسب أهميتها وصحة أسانيدها ثم صنفتها ووضعتها تحت عناوين مناسبة لها. وقد اعتمدت على الروايات المسندة ثم أنتقى من تلك الروايات الرواية التي صححها العلماء وأثبتها في أول كل مبحث إن وجدت إلى ذلك سبيلا ثم أتبعها بالروايات الأخرى, ولاشك أن ذكر جميع الروايات فيه توثيق للمسألة لأن تضافر النقول وكثرتها ينبئ بصحة الرواية وشهرتها. وقد جمعت كل ما وجدته من كلام العلماء حيال الآثار عن عمر - رحمه الله - وإذا لم أقف على كلام العلماء في أثر ما فإني أترجم لرجال إسناده وأذكر الترجمة في أول موضع ترد في الرسالة في الغالب. وقد يتكرر الأثر لدلالته على أكثر من مسألة ودخوله في أكثر باب من أبواب العقيدة. وفيما يخص ابن عبد الحكم، فقد جمع شيوخه في أول كتابه وروى عنهم فاكتفيت بذكر اسمه في كل أثر أنقله عنه مستغنيا بترجمة رجال إسناده في أول أثر أخذته من كتابه. والجانب الثاني: وهو التعليق، فقد اجتهدت فيه، وبذلت أقصى جهدي لكونه مكملاً للجانب الأول، فعلقت على كل مبحث أثبته، وذلك بعرضه على الكتاب والسنة وما أثر عن السلف الصالح. وقد عزوت الآيات القرآنية بذكر رقم الآية والسورة في الحاشية، وخرجت الأحاديث النبوية بذكر اسم المصدر والصفحة، والرقم إن وجد، وإذا كان الحديث في الصحيحين فلا أذكر كلام العلماء فيه وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إذا كان عند غيرهما فقد حرصت على ذكر أقوال العلماء إن وجدتها وتمكنت من العثور عليها، وعند ما أذكر أي مرجع فإنني أثبت طبعته عند وروده أول مرة، وإذا كان مجزأ لكن أرقام صفحاته متسلسلة فأعتبره في الإحالة كالجزء الواحد. ولم أترجم إلا للأعلام الواردة ضمن أسانيد الآثار الواردة عن عمر - رحمه الله تعالى-، وذلك تفاديا من إثقال البحث بالحواشي إلا في النادر. وفيما يخص المراجع المتكررة كثيرا في الرسالة فقد اكتفيت بذكر اسم المؤلف واسم الكتاب مختصرا مثل "ابن عبد الحكم سيرة عمر" "وابن الجوزي سيرة عمر" "وأبو حفص الملاء" لأن هذا الأخير لم يضع لكتابه اسما خاصا كما يرى محققه فاكتفيت بذكر اسمه اختصارا. وقد قمت بدراسة تمهيدية لبعض الأبواب والفصول والمباحث والمطالب التي أرى أنها تحتاج إلى ذلك. وذيلت البحث بفهارس علمية عدة هي: فهرس الآيات القرآنية. فهرس الأحاديث النبوية. فهرس الآثار الواردة عن أئمة السلف. فهرس الألفاظ الغريبة. فهرس الأماكن المعرفة. فهرس الأعلام المترجم لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فهرس المصادر والمراجع. فهرس الموضوعات. وبعد: فهذا جهد مني فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ وضلال فهو مني ومن الشيطان وأستغفر الله الكريم وأتوب إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تمهيد : ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: تعريفات عامة وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الآثار لغة واصطلاحا. الأثر لغة: قال ابن فارس: الهمزة، والثاء، والراء، له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء1. والأثر: محركة: بقية الشيء جمع آثار، والآثار الأعلام، والمأثرة: البقية من العلم تؤثر. وآثره، أكرمه2. فمعنى الأثر يدور حول بقية الشيء، ورسمه، وظهوره، وهو في الأصل: العلامة والبقية والرواية3. أما تعريفه اصطلاحا: فالأثر عند الفقهاء الخراسانيين هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم4.   1 ابن فارس معجم مقاييس اللغة 1/53، ط. دار الجيل بيروت تحقيق عبد السلام هارون ط. الأولى عام 1411هـ. 2 انظر: المعجم الوسيط ص5، والقاموس المحيط ص436، ط. مؤسسة الرسالة. 3 ابن حجر العسقلانى: النكت على ابن الصلاح 1/513، تحقيق فضيلة الشيخ الدكتور ربيع المدخلي. ط الجامعة الإسلامية ط الأولى عام 1404هـ. 4 المصدر السابق 1/513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وعند غيرهم أنه لا فرق بين الحديث والأثر، وذهب بعض المتأخرين إلى الفرق بينهما، وهو الصحيح فالأثر: "هو ما ورد عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم"1.   1 انظر: العراقي: التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح ص67 ط. دار الفكر. وابن كثير: الباعث الحثيث ص43، والسخاوي: فتح المغيث1/124تحقيق وتعليق الشيخ علي حسين ط. إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس الهند ط. الأولى عام 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المبحث الثاني: تعريف العقيدة لغة واصطلاحا العقيدة لغة: قال ابن فارس: العين، والقاف، والدال، أصل واحد يدل على شدّ وشدّة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها1. وعقد الحبل، والبيع، والعهد، يعقده: شده2. واعتقد الشيء: اشتد، وصلب، يقال: اعتقد الإخاء بينهما: صدق، وثبت، وعقد فلان الأمر: صدقه، وعقد عليه قلبه، وضميره. والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده3. فمادة "عقد" في اللغة تدور حول الثبوت على الشيء، والالتزام به، والتأكد منه والاستيثاق به. وأما في الاصطلاح فهي: "العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من الأدلة اليقينية ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية 4.   1 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 4/86. 2 الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص383 ط. مؤسسة الرسالة. 3 المعجم الوسيط 2/614. 4 البريكان: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص9 ط الثالثة عام 1415هـ دار السنة الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكلمة العقيدة من الألفاظ المولدة، فلم ترد هذه اللفظة في الكتاب والسنة، وكانت الأئمة السابقون يستعملون ما يدل على هذه اللفظة: كالسنة والشريعة، والإيمان، وأول من تم الوقوف على ذكره لجمعها "عقائد" هو القشيري [ت:437] ومن بعده الغزالي [ت505] الذي جاء بمفردها عقيدة 1.   1 انظر: الآثار عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء 1/26للدكتور جمال ابن أحمد بن بشير بادي ط. دار الوطن عام 1416هـ ومعجم المناهي اللفظية ص242 للشيخ الدكتور بكر أبو زيد ط. دار ابن الجوزي ط. الأولى عام 1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفصل الثاني: التعريف بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: حياته الشخصية. المبحث الثاني: سيرته العلمية. المبحث الثالث: سيرته السياسية. المبحث الرابع: أخلاقه المكتسبة. المبحث الخامس: فضائله. المبحث السادس: وفاته. المبحث الأول: حياته الشخصية. ويشتمل على الآتي: أ- نسبه وولادته. ب- زوجاته وأولاده. ج- تربية أبنائه. أ- نسبه وولادته نسبه من جهة أبيه: هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب الأموي القرشي أمير المؤمنين، كنيته أبو حفص، ويلقب بالأشج1. أما نسبه من جهة أمه: فقد روى ابن عبد الحكم في كتابه "سيرة عمر بن عبد العزيز" والآجري في كتابه "أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته" أن أمه هي: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه 2 ولا بأس من إيراد كلمة يسيرة عن جدته لأمه تتبين منها كرم عنصره، وشرف محتده، وأصله الطيب، ذكر ابن عبد الحكم والآجري عن عبد   1 انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/114، وابن سعد الطبقات 5/330، وابن حبان البستى: مشاهير علماء الأمصار ص178، عني بتصحيحه م. فلا يشهمر ط. دار الكتب العلمية. 2 انظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك وأصحابه ص23-24، والآجري أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته ص47-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الله ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم1 قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ2 بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من عزمة3 أمير المؤمنين اليوم. قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديا، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنتاه قومي إلى اللبن، فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملإ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّم الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومَن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أَيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه ... فقال 1 انظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر بن عبد العزيز ص23-24، والآجري أخبار أبي حفص 47-49، وعبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، ضعفه يحيى وأبو زرعة، ووثقه أحمد وغيره، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الحافظ: صدوق فيه لين، انظر ميزان الاعتدال 2/ 425 , والمحتد: الأصل انظر: المصباح المنير ص 214. 2 العس: نفض الليل عن أهل الريبة. انظر: معجم مقاييس اللغة 4/42. 3 معنى عزمه عزما: عقد ضميره على فعله. انظر: المصباح المنير ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتا وولدت البنت عمر بن عبد العزيز1. ولادته: تذكر أكثر المصادر التي اعتنت بترجمة عمر بأنه ولد بالمدينة النبوية، وتوجد مصادر أخرى تذكر أنه ولد بمصر وفي حلوان2. وكما اختلفت المصادر في تعيين مكان ولادته اختلفت في سنة ولادته على عدة أقوال ملخصها ما يلي: 1- أنه ولد في عام 59هـ3. 2- أنه ولد في عام 61هـ4. 3- أنه ولد في عام 62هـ5.   1 الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز ص48-49، وابن سعد الطبقات 5/331، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص 19-20، وابن الجوزي سيرة عمر ص10. 2 حلوان: قرية من أعمال مصر، بينها وبين الفسطاط فرسخين من جهة الصعيد. انظر معجم البلدان 2/293. ط. دار الفكر، ط. الثانية 1995م. بيروت. 3 خليفة بن خياط التاريخ ص206. ط. مكتبة دار الكتب العلمية، تحقيق د. مصطفى نجيب ود. حكمت فواز. 4 ابن حبان البستي مشاهير علماء الأمصار ص178. 5 ابن جرير الطبري تاريخ الطبري 5/427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 4- أنه ولد في عام 63هـ 1. ولعل الراجح في هذه الروايات أنه ولد في عام 61هـ، لأنه قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيده ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ. وقوله: تمت حجة الله على ابن الأربعين2. قال ابن كثير: ويقال: كان مولده سنة إحدى وستين، وهي التي قتل فيها الحسين ابن علي ... قاله غير واحد3 من أهل العلم. والله أعلم. مكان ولادته: تذكر بعض المصادر أن عمر بن عبد العزيز ولد بمصر ولعل مستندهم أن والده عبد العزيز بن مروان كان واليا على مصر، ولكن بتتبع مصادر التاريخ يتضح أن هذا القول ضعيف، لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة حتى أخرجوا منها قبيل موقعة الحرّة، ثم عادوا إليها بعد الموقعة، ثم أخرجوا منها مرة أخرى بعد أن   1 ابن سعد الطبقات 5/330. 2 انظر تاريخ خليفة ص206. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 استتب الأمر لابن الزبير، فخرجوا إلى الشام حيث بايع الناس مروان بن الحكم جد عمر بن عبد العزيز1 رحمه الله تعالى. وقد نشأ عمر في المدينة حسبما جاء في رواية ابن عبد الحكم الذي قال: فلما شب وعقل وهو غلام بعدُ صغير كان يأتي عبد الله بن عمر كثيراً لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: "يا أمّه أنا أحب أن أكون مثل خالي" - يريد عبد الله بن عمر- فتؤفف به ثم تقول له: اغرب أنت تكون مثل خالك تكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز ابن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا -يريد عمر- فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم فسُرَّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه   1 انظر تاريخ الطبري 8/35، حوادث سنة 65، وتاريخ ولاة مصر ص44 ط. مؤسسة الكتب الثقافية ط. الأولى عام 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً1. وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر رضي الله عنه، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، فقد كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود يأخذ عنه العلم2، وقد حفظ القرآن وهو صغير. قال ابن كثير: وقال نعيم بن حماد: ثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير فبلغ أمه، فأرسلت إليه فقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه، وكان قد جمع القرآن وهو صغير3. وقد كان أبوه يتفقده ويستفسر عن أخباره، فقد تأخر عن صلاة الجماعة يوما فسأله مؤدبه عن سبب التأخير فقال: كانت مرجلتي4 تسكن شعري، فقال له: قدمت ذلك على الصلاة؟! وكتب إلى   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص24-25. 2 ابن سعد الطبقات 5/398. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/215. 4 رجله: سود شعره وزينه وسرحه المعجم الوسيط ج 1 ص 332 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أبيه - وهو على مصر- يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه1. ووالده هذا هو عبد العزيز بن مروان، وقبل أن نواصل الحديث عن عمر لا بأس من إيراد نبذة وجيزة عن حياة والده. فقد ولد بالمدينة ونشأ، وتربى بها2، وكان حريصا على جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم روى ابن سعد بسنده عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي، وكان قد أدرك بحمص سبعين بدريا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قال: فكتب إليه أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم إلا حديث أبي هريرة فإنه عنده3. قال ابن سعد وقد روى عبد العزيز عن أبي هريرة، وكان ثقة قليل الحديث4، وكان أبوه مروان قد ولاه مصر فأقره عليها أخوه عبد الملك   1 ابن كثير البداية والنهاية 5/215. 2 المصدر السابق 5/62. 3 ابن سعد: الطبقات 3/448. وحمص:- بالكسر ثم السكون والصاد مهملة- بلد مشهور قديم، كبير، مسور، وهي بين دمشق وحلب في نصف الطريق. انظر معجم البلدان 2/302. 4 يمكن حمل قول ابن سعد إنه قليل الحديث على أنه لم يرو عنه كثيرا، ولعل ذلك يعود إلى اشتغاله بأمور الرعية. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ابن مروان. وكان مروان قد عقد لعبد العزيز ولاية العهد بعد عبد الملك، لكن عبد العزيز تنازل عن ولاية العهد في حياته وتوفي قبل عبد الملك. توفي بمصر في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين1، وقد اكتسى عمر أخلاق والده وزاد عليه بأمور كثيرة2. صفاته الخَلْقِيَّة كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- أسمر، رقيق الوجه، أحسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة دابة، قد وخطه الشيب. وقيل في صفته: أنه كان رجلا أبيض دقيق الوجه، جميلا، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة حافر دابة، فلذلك سمى أشج بني أمية، وكان قد وخطه الشيب3.   1 ابن سعد الطبقات 5/236، وابن كثير البداية والنهاية 5/62. 2 ابن كثير البداية والنهاية 5/63-64. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/63-64، ابن عساكر: تاريخ دمشق 54/133، وانظر أبو حفص الملاء 1/11، وابن الجوزي سيرة عمر ص 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ب- زوجاته وأولاده نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها وكان "يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه فاطمة بنت عبد الملك"1. وقد أنجبت له ولدين هما: إسحاق، ويعقوب2. كما كان لعمر زوجات عدة غير فاطمة، منهن: لميس بنت علي بن الحارث الحارثية، وله منها أبناؤه: عبد الله، وبكر، وأم عمار. ومن زوجاته: أم عثمان بنت شعيب بن زبان الأصبغ، وله منها ولده: إبراهيم. وذكر ابن سعد أن له أمة تسرى بها وكان له منها أبناؤه: عبد الملك، والوليد، وعاصم، ويزيد، وعبد الله، وعبد العزيز، وزبان، وآمنة، وأم عبد الله3.   1 ابن كثير البداية والنهاية 5/216، بتصرف يسير، وابن عساكر 13/262. 2 ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق (مخطوط) مجلد 19 ورقة 248أ، وابن سعد الطبقات 5/330. 3 ابن سعد الطبقات 5/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ج- تربية أبنائه وردت نصوص من الكتاب والسنة تحث على تربية الأبناء وتنشِئتهم النشأة الصالحة ليكونوا طائعين لله في كل ما أمرهم به، وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتربية أولاده التربية الصحيحة، فلم يرغب عمر أن ينشأ أولاده في ترف ونعيم، فيجرفهم تيار المجون، والدعة عن اكتساب العلوم، فيروي ابن عساكر عن رجاء بن جميل الإيلي أنه قال: "وكان عمر بن عبد العزيز يَبْدى1 ولده عندنا بالمدينة، وكان يأمر قيِّمه عليهم يكسوهم الكرابيس2، والبتوت3، وإذا حملهم من منزلهم إلى منزل حملهم على الحمر الأعرابية"4. وكان هذا بعد ما أخذوا حظهم من التربية المستقيمة في بيته ثم جعل يتعاهدهم ويكتب إلى مؤدبهم رسائل، ومنها هذه الرسالة الآتية: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى مولاه، أما بعد: فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك عن غيرك من موالي، وذي   1 يبدى من البداوة وهو خلاف الحضر. وتبدى أقام بها، وتبادى: تشبه بأهلها. انظر معجم مقاييس اللغة 1/212. 2 الكرباس: بالكسر ثوب من القطن الأبيض والنسبة: كرابيس وهو فارسي معرب. انظر القاموس المحيط ص735. 3 البت: هو الطيلسان من خز ونحوه وبائعه بتى. القاموس المحيط ص188. 4 ابن عساكر: تاريخ دمشق مجلد 13 ص151، أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصبحة1 فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن الضحك كثرته يميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه. وهو حين يفارقها لا يعتقد بما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته. فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض2، حافيا فرمى سبعة أرشاق3، ثم انصرف إلى القائلة فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: يابني قيلوا4 فإن الشياطين لا تقيل"5.   1 الصبحة: بضم الصاد وفتحها الضحى وتصبَّح نام بالغداة، المصباح المنير ص126 2 الغرض: الهدف الذي يرمى إليه والجمع أغراض. المصباح المنير للفيومي ص169، ط. مكتبة لبنان عام 1990م. 3 الرشق: الرمي والقوم إذا رموا بأجمعهم. المصباح المنير ص87. 4 القيلولة والقائلة: نوم نصف النهار. معجم مقاييس اللغة 5/45. 5 ابن أبي الدنيا: كتاب ذم الملاهي ص50-51، ومن طريقه ابن الجوزي سيرة عمر ص316، وأبو حفص الملاَّء 2/631-632. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فهذه الرسالة تبين المعالم الرئيسة والمبادئ التي يرتكز إليها المؤدب لأولاده وهي بلا شك مستمدة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، وقد كتب عمر أيضا إلى أستاذه صالح بن كيسان يأمره بتأديبهم، وكل هذا منه -رحمه الله تعالى- يدل على تمسكه بالكتاب والسنة وتربية أبنائه على حبهما، وحب السلف الصالح، ولم يكن اهتمامه بأولاده مقصورا على ناحية التربية والتعليم وإنما حرص على مراقبة كل تصرف من تصرفاتهم وقاسه بمقياس الإسلام، وقد ذكر ابن الجوزي، وابن عبد الحكم1، أمثلة كثيرة من هذه النوع، وقد أثرت هذه التربية السليمة المبنية على الكتاب والسنة، وآتت ثمارها حيث أصبح ابنه عبد الملك بن عمر مستشاره ومعينه على الحق وعلى اتباع السنة، ذكر ابن الجوزي عن بعض مشيخة أهل الشام أنهم كانوا يرون أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رآه من ابنه عبد الملك2، وكان عبد الملك هذا يقول لوالده: يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار3.   1 انظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص110و129، وكذلك ص101، وابن الجوزي سيرة عمر ص316-339. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص317. 3 ابن الجوزي سيرة عمر ص320، وانظر كذلك ص322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقد توفي عبد الملك في حياة والده، وقد ذكر ابن الجوزي بقية أولاد عمر وأخبارهم بما فيه الكفاية، من 316-339، ويمكن لمن يريد الاستزادة الرجوع إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المبحث الثاني: سيرته العلمية. ويشتمل على: أ - إمامته ورفعة مكانته في العلم. ب- نشره العلم في الأمصار والبوادي. ج- تدوينه العلم وتثبيته خشية اندراسه بموت حملته. د - تلاميذه وشيوخه. هـ - مروياته ونماذج من فقهه. أ- إمامته ورفعة مكانته في العلم: أما رفعة مكانته في العلم فقد اتفقت كلمة المترجمين له على أنه أحد أئمة زمانه المليء بأئمة التابعين، فقد أطلق عليه كلُّ من الإمامين: مالك، وسفيان بن عيينة - وهما هما- وصف "إمام": وقال فيه مجاهد - وحسبك به -: "أتيناه نُعلِّمه فما برحنا حتى تعلَّمنا منه"1. وقال ميمون بن مِهْران - وهو ممن خبَر عمر بن عبد العزيز-: "ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة". وقال فيه أيضاً: "كان عمر بن عبد العزيز معلِّمَ العلماء"2. وذكر الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" حِجاجَ عمر لبعض خوارج الجزيرة، وأخْذَه الغلبة عليهم، ثم قال فيه: "كان أحد الراسخين في العلم رحمه الله"3. وقال الحافظ الذهبي: "كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبيرَ الشأن، ثبتًا، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيبا يُعَدُّ في حسن السيرة والقيام   1 أبو حفص الملاء 2/505-506، وابن عساكر تاريخ دمشق 45/147- 148، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/405. 2 أبو زرعة الدمشقي: تاريخ أبى زرعة ص255، وابن عساكر 45/148. 3 ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله 2/967، تحقيق أبي الأشبال الزهيري الطبعة الأولى عام 1414هـ دار ابن الجوزي الدمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، ولكن موته قرُب من موت شيوخه، فلم ينتشر علمه"1. وكان طلبُه للعلم في مُقْتبل شبابه على شيوخ المدينة النبوية الزاخرة بالأئمة من عيون التابعين، فنهّل من علمهم وأدبهم. . وكان الذي تولَّى تأديبه من رجالات المدينة النبوية هو صالحَ بن كيسان أحد الثقات الأجلَّة، فرأى صالحٌ من عمر كل خير، حتى قال فيه: "ما خبرت أحداً اللهُ أعظمُ في صدره من هذا الغلام". ورأى عمر من صالح كلَّ رعاية وتأديب رفيع، فاختاره فيما بعد مؤدّباً لأولاده2.وكان شيوخه في العلم والرواية مشاهيرَ علماء المدينة آنذاك، إلا أنه أكثر التَّردد والأخذَ عن أحد فقهائها السبعة الأعلام، وهو عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود، ولكثرة تردده إليه واستفادته منه، وصفه العجلي بقوله:"وهو معلِّمُ عمرَ بنِ عبد العزيز"3.   1 الذهبي: تذكرة الحفاظ ص118-119. 2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403. 3 المصدر السابق 7/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ولقد عبَّر عمر بن عبد العزيز عن إعجابه الكبير بمجلس عبيد الله - وكان أعمى- وكثرة فوائده المنثورة فيه فقال: "لمجلسُ من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحبُّ إليّ من ألف دينار"1. ولمعرفة عمر بما عند عبيد الله من علم ورأي، كان يقول أيام خلافته: "لو كان عبيد الله حيًا ما صدرتُ إلا عن رأيه"2. ومن شيوخه أنس بن مالك وسمع منه، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة المخزومي، والسائب بن يزيد. وروى عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن شهاب وخلق سواهم3. وأمدُ إقامة عمر في المدينة النبوية غير معلوم، إلا أنه من الواضح أنه كان أمداً مديداً، يسَّر لعمر بن عبد العزيز - إلى جانب ذكائه وحافظته - الاستفادة العظيمة من الأئمة الذين لقيهم، ولقد وصف حاله التي خرج   1 الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال 2/126، وابن الجوزي سيرة عمر ص14، وأبو حفص الملاء 1/49. 2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/23، وابن الجوزى: سيرة عمر ص24. 3 انظر أبو نعيم في الحلية 5/359، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/114-115، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 عليها من المدينة بقوله: "خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني"1، مع أنه ترك فيها سعيد بن المسيب ونظراءه. وبيّنة هذه الشهادات والأخبار قائمة في كتب العلم، فما من كتاب من كتب السنة، أو الفقه الاستدلالي إلا ويجد القارئ فيها ذكراً لعمر، من حديث، أو رأي، أو أمر، أو قضاء، ونحوها، وليسهل الأمر على المتتبع فلينظر من هذه الكتب الأبواب التي لها صلة بالخليفة والسلطان، كالزكوات، والصدقات، والمعاقل، والديات، والجهاد، والسّير، ونحوها فإنه واجد فيها الكثير الوفير. بل لو رجعنا إلى الكتب الصغيرة لأئمة العلم الأقدمين لوجدنا فيها ذكر عمر بن عبد العزيز متكرراً، على سبيل الاحتجاج لرأيهم بقوله وفعله. من ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما، وهي رسالة قصيرة لا تتجاوز صفحاتهُا عددَ أصابع اليد، وفيها يحتج الليث - مراراً- لصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز، على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله2.   1 ابن كثير البداية والنهاية 5/195. 2 انظر الرسالة الفسوي: في المعرفة والتاريخ 1/687-695، ومنه نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 3/94-100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويردُ ذِكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة، على سبيل الاحتجاج بمذهبه: فيستدلُّ الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل، حتى لقد جعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحيانا يُدرجون ذكره معه. قال الحافظ القرشي رحمه الله في "الجواهر المضية": "فائدة: يقول أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: "وهو قول عمر الصغير" يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور". وقال الحافظ الزيلعي رحمه الله: "يوجد في بعض نسخ"الهداية": "وبذلك قضى العمران" فيحتمل أنه أراد أبا بكر، وعمر، ويؤيده التصريح بهما في النسخة الأخرى، ويحتمل أنه أراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وكثيرا ما يفعل أصحابنا ذلك"1.   1 انظر الجواهر المضية 4/552، ط. مؤسسة الرسالة ط. الأولى عام 1408هـ تحقيق د/ عبد الفتاح محمد الحلو. ونصب الراية 5/969. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ويُكثر الشافعية من ذكره في كتبهم، ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في "تهذيب الأسماء واللغات". وقال في أولها: "تكرر في "المختصر" و"المهذب" ... "1. وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر عمر بن عبد العزيز في "الموطأ" محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه2. وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثيراً، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: "لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز". وكفاه هذا3. وكفانا قولُ الإمام أحمد أيضا: "إذا رأيتَ الرجل يحبُّ عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيرا إن شاء الله"4.   1 النووي: تهذيب الأسماء واللغات 2/17-24. والمختصر, والمهذب, من كتب الشافعية المشهورة 2 انظر الموطأ الأرقام الآتية: 305، 592، 594، 614، 759، 850، 1107، 1170، 1383، 1429، 1432، 1568، 1578، 1582، 1650، 1665، 1866. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/214. 4 ابن الجوزي: سيرة عمر ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقبل الانتقال إلى الحديث عن الأمر الثاني، أودّ أن أعرض لإشكال والإجابة عنه. قد يقول قائل: إذا كان عمر بن عبد العزيز بهذه المثابة في سعة العلم والإمامة فيه، ويُعْدَل بابن شهاب الزهري، فلم لمْ يشتهر بالعلم هذه الشهرة، ولم يُنقل عنه من العلم ما نُقل عن غيره من الأئمة: كالزهري، ومالك، وابن عيينة وأمثالهم؟! والجواب عنه: أن العلم تحمُّل وأداء: والتحمُّل هو الأخذ والاستماع، والأداء هو التحديث والإسماع. وقد يسّر الله تعالى لعمر بن عبد العزيز الجانبَ الأول من العلم، وهو تحملُه وتلقّيه له، ولم يتيسر له الجانب الثاني إلا قليلا. فلما بعث به أبوه إلى المدينة، توفّر على استماع العلم وتحمله، إلى أن خرج من المدينة النبوية ولم يترك فيها أحداً أعلم منه كما تقدم. ثم شغل بإمارة المدينة، ثم جُمع إليه معها إمارة مكة المكرمة، ثم ألقيت عليه الخلافة بثقلها وأعبائها، فلم يتفرغ لأداء ما تحمّل إلا قليلا. وعذره في هذا عذر غيره من أئمة السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فأبو بكر الصديق رضي الله عنه: كان أطولَ الصحابة صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم ملازمة له، ولم ينقل عنه من الرواية إلا القليل1، وعذره تعجُّل وفاته، وانهماكه في حروب الردة، وأمور الخلافة. وهكذا كان عمر بن عبد العزيز: كثير التحمل قليل الأداء، ولولا ما شُغل به من أمور المسلمين لنُقل عنه من العلم ما نُقل عن أقرانه الأئمة يضاف إليه: انقضاء أجله في الأربعين من عمره. رحمه الله تعالى، والتنصيص على هذا العذر صريح في قول الحافظ الذهبي السابق: " ... وفي العلم مع الزهري ولكن موته قرب من موت شيوخه، فلم ينتشر علمه". ب- نشره العلم في الأمصار والبوادي وأما نشره العلم في الأمصار والبوادي فذلك في إرساله العلماء إليها ليعلّموا أهلها شرع الله ويفقهوهم فيه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله في "تذكرة الحفاظ"، ترجمة نافع مولى ابن عمر: قال عبيد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعا إلى أهل مصر يعلمهم السنن"2.   1 ذكر له السيوطي في تاريخ الخلفاء ص87-94 أربعة أحاديث ومائة حديث، وطبع مسند أبي بكر الصديق للحافظ أبي بكر المروزي، بلغ ترقيم أحاديثه 142 حديثاً، وفيهما من المكرر الكثير. 2 الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/100 وأبو زرعة الدمشقي: تاريخ أبي زرعة ص322، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة بكر بن سوادة المصري: "أرسله عمر بن عبد العزيز إلى أهل أفريقية ليفقههم"1. ومن الذين أرسلهم كذلك عبد الرحمن بن رافع التنوخي، قال الدباغ: كان أحد الفقهاء العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل أفريقيا2. ومنهم عبد الله بن يزيد الحبلى، قال الدباغ: بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أفريقية ليفقههم فبث فيهم علما كثيرا3. ومنهم طلق بن جعبان "أوجابان" الفارسي، قال الدباغ: كان أحد النفر الذين بعث بهم عمر ابن عبد العزيز من فقهاء مصر إلى المغرب4. ومنهم سعد بن مسعود التجيببي ذكره الدباغ وقال: سكن القيروان، وبث فيها علما كثيرا5.   1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 6/155. 2 الدباغ: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان 1/198وهو: عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الأسيدي الدباغ. والكتاب من تصحيح وتعليق إبراهيم شبوح الطبعة الثانية عام 1388هـ مطبعة السنة المحمدية مصر. 3 الدباغ: معالم الإيمان ص180. 4 المصدر السابق 1/215. 5 المصدر السابق 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ومنهم إسماعيل بن عبيد الله الأنصاري ولاءً، سكن القيروان وانتفع به خلق كثير من أهلها وغيرهم1. ومنهم كذلك إسماعيل بن عبيد الله بن المهاجر المخزومي أسلم عامة البربر على يديه، وكان حريصا على إسلامهم، وكان عمر بن عبد العزيز قد أرسله إليهم ليحكم بينهم ويفقههم في الدين2. وعبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني كان قاضيا لعمر بن عبد العزيز في القيروان3. ويحتمل أن من هؤلاء العشرة أبا سعيد جعثل بن عاهان بن عمير الرعيني ثم القتباني. قال الدباغ: وهو أحد العشرة التابعين4، وكذلك حبان بن أبي جبلة القرشي مولى بني عبد الدار. قال الدباغ: وهو أحد العشرة التابعين5. ومن أخبار إرساله العلماء إلى البوادي من أجل نشر العلم وتعليم الناس السنة ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن عبد الحكم، وابن   1 المصدر السابق 1/192. 2 انظر المصدر السابق 1/203، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/286. 3 انظر الدباغ: معالم الإيمان 1/210. 4 الدباغ: معالم الإيمان 1/202. 5 المصدر السابق 1/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الجوزي، أن عمر بن عبد العزيز بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي، والحارث بن "يمجد" وقيل: ابن محمد الأشعري يفقهان الناس في البادية وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل، وأما الحارث فأبى أن يقبل وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرا، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك، فكتب عمر: إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد1. وكان يُردفُ إرساله العلماء بكتب يُرسلها هو إلى الأمصار يعلّمهم فيها السنن والفقه، ويمكن الوقوف على كثير منها في كتابي ابن عبد الحكم، وابن الجوزي في سيرته فلا حاجة إلى الإطالة بذكر بعضها، إنما المفيدُ ذكر كلام الإمام مالك في بيان منهج عمر بن عبد العزيز في هذه الكتب (التعليمية) لعماله ورعيته. روى ابن عبد البر في "التمهيد" عن ابن وهب قال: "سمعت مالكا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يُعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم ... "2.   1 أبو عبيد: الأموال ص275- 276، تحقيق وتعليق محمد خليل الهراس ط. دار الكتب العلمية الطبعة الأولى عام 1416هـ. وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص141، وابن الجوزي سيرة عمر ص74. 2 ابن عبد البر: التمهيد 1/80-81، تحقيق سعيد أعراب 1411هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فكان رحمه الله يستمدُّ علمه - فوق ما اغترفه أول أمره - من معين المدينة النبوية، ويرسل بذلك إلى سائر أمصار الإسلام، فتكون كتبه بمثابة رُسُل توجِّه الرعية. ومما زاد في نشره العلم أمران: أ- فرْضُه العطاءَ والمرتبات لمن نصب نفسه للعلم وحبسها عليه، كي لا يهتمُّوا بدنياهم أو يشتغلوا بها عن هذه المهمة. فروى أبو زرعة الدمشقي عن أبي بكر بن أبي مريم قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: "مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يُغْنيهم، لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث"1. وذكر له ابن الجوزي كتابا آخر إلى والي حمص كذلك، قال له فيه: "انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كلَّ رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وإن خيرَ الخير أعجلُه، والسلام عليك"2.   1 تاريخ أبي زرعة ص326. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ب- حضُّه العلماء على "علنيَّة العلم" وأمره إياهم أن يتخذوا المساجد مراكز لتعليم الناس أمور دينهم، وكتب بذلك: "أما بعد: فأمُرْ أهلَ العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت"1. ج - تدوينه العلم وتثبيته خشية اندراسه بموت حملته: أما تدوينه العلم وتثبيته فذلك في إرشاداته وأوامره الخاصة والعامة بتدوين السنة عامة، وروايات بعض الصحابة والتابعين خاصة. فمن إرشاداته: قوله رحمه الله: "قيّدوا العلم بالكتاب"2، وهذا يدل على ذهابه إلى ما استقر عليه الأمر من جواز كتابة العلم. ولم يقف الأمر منه عند حدِّ الإرشاد العام، إنما تعداه إلى الأوامر الخاصة والعامة: فروى البخاري في "صحيحه" كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "انظُر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خِفْتُ دروسَ العلم - أي اندراسه- وذهاب العلماء"3.   1 أسنده الرامهرمزي "المحدث الفاصل" ص603، وهو في ابن الجوزي سيرة عمر ص94. 2 ابن كثير البداية والنهاية 5/209، وأصله في الحلية لأبى نعيم 5/342، "أيها الناس قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب". 3 البخاري مع الفتح 1/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وروى الخطيب في "تقييد العلم" بسنده قال:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن فاكتُبه، فإني قد خِفْتُ دروس العلم وذهاب أهله"1. وكذلك وجَّه كتاباً إلى الإمام ابن شهاب الزهري – وغيره - بكتابة السنن. فروى الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" عن ابن شهاب قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليه سلطانٌ دفتراً"2. وروى الإمام أبو عبيد في "الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها" أن عمر بن عبد العزيز أمر ابن شهاب أن يكتب مصارف الزكاة الثمانية، وكيف يكون تفريقها فيهم، فكتب له كتاباً مطوَّلاً ذكر أبو عبيد جزءا منه في كتابه الأموال3.   1 الخطيب البغدادي: تقييد العلم ص106. 2 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/331. 3 أبو عبيد: الأموال ص573-574. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وروى الخطيب في "تقييد العلم" عن عبد الله بن دينار البَهْراني قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خِفْتُ دروس العلم وذهاب أهله"1. وأعم الروايات في هذا الصدد عن عمر بن عبد العزيز: رواية أبي نعيم في "تاريخ أصبهان":عن عبد الله بن دينار أيضا قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء"2. قال الحافظ ابن حجر رحمه في شرحه قول عمر بن عبد العزيز لأبي بكر بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه": "يُستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز - وكان على رأس المائة الأولى- من ذهاب العلم بموت العلماء، رأى أن في تدوينه ضبطاً له وإبقاء"3. ويلاحظ قول الحافظ: "تدوين الحديث النبوي" و"أول من دوَّن الحديث" فهذا هو تاريخ تدوينه، أما مجرد كتابته فقد حصلت في عهد   1 الخطيب البغدادي تقييد العلم 106 2 أبو نعيم: أخبار أصبهان 1/312. 3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعده، فكان أحدُهم يكتب لنفسه مسموعاته ليُتْقن حفظها، ويرجع إليها عند الحاجة، ولا تتعدّى كتابتُه خاصة مروياته. ومما تجدُر ملاحظته في تدوين عمر بن عبد العزيز للسنة عدة أمور: 1- حُسْن اختياره لمن يقوم بهذه المهمة العظيمة، وسمت الروايات منهم الزهريَّ وأبا بكر ابن حزم. أما الزهري: فإمام زمانه، ومرجع علماء عصره، وأشهر من أن يعرَّف. وأما أبو بكر بن حزم: فهو الذي شهد له الإمام مالك بقوله: "لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" كما في "التهذيب"1. 2- أمره بتدوين أحاديث أناس مخصوصين لما امتازوا به وكذلك تدوين أحاديث خاصة لأهميتها. وتقدم أن بعض المصادر روت أن عمر بن عبد العزيز طلب من ابن حزم تدوين حديث عمر، وحينئذ فيكون قد طلب منه تدوين مرويات عمر بن الخطاب، لما يقصده من تتبعه سيرته وأحواله وأقضيته، وقد روى   1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أبو نعيم في الحلية وغيره خبراً طويلاً يطلب فيه عمر بن عبد العزيز من سالم بن عبد الله بن عمر أن يكتب إليه بسيرة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1. 3- تنبيهه من يكتبُ له السنة ويدونها، أن يلتزم الثابت الصحيح منها، كما جاء هذا في رواية الإمام أحمد لهذا الخبر حيث قال: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عمرة 2، وهذا تنبيه مهم في حد ذاته، ويزداد أهمية حينما تلاحظ أن هذه هي أولى مراحلِ التدوين، فإذا لم يُرسم هذا المنهج، كانت المراحل اللاحقة أشدَّ اضطرابا وخللاً فيما تجمعه من السنة النبوية. وبهذا يتبين أن عمر بن عبد العزيز انتقى الرجال القائمين بهذا العمل العظيم، فأحسن الانتقاء، ورسم لهم بعض النقاط المهمة جداً، فخصَّ أناساً يتبعون أحاديثهم، وخصَّ أحاديثَ معينة ذات أهمية خاصة بالنسبة له، وأن يكتبوا ما ثبت عندهم من الحديث الشريف فقط، ولا يكون همُّهم الجمع والإكثار.   1 انظر الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز 71- 73، وأبو نعيم في الحلية 5/285 مع بعض الاختلاف في اللفظ. 2 أحمد بن حنبل: كتاب العلل ومعرفة الرجال 1/49، ط. المكتبة الإسلامية استانبول تركيا عام 1987م تحقيق الأستاذ الدكتور طلعت قوج، والأستاذ الدكتور إسماعيل أوغلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وهذا كله يدلُّ على بُعد نظره، ودقة تفكيره، وحسن توفيقه في العلم رحمه الله تعالى، وجزاه الله عن الإسلام والسنة النبوية عظيم الأجر ووافر الثواب1. د- تلاميذه: رأينا فيما سبق جهود عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في خدمة السّنة ولا شك أنها تحمّل وأداء، وقد سبق أنه ممن تحمل العلم فأكثر ثم أشغل بالخلافة، ولم يتمكن من الأداء كغيره، ومع ذلك فقد كانت له تلامذة كثيرون لأنه رحمه الله تعالى كان جواداً بالخير، ولم يبخل بما عنده من علم اكتسبه على تلاميذه أو حتى على جلسائه وعامة رعيته. فروى عنه عدد كثير، وجم غفير، كما أثبتته المصادر من بينهم عدد من شيوخه في حين كتب إليه البعض يستفتونه فأجابهم2. أما شيوخه الذين رووا عنه فهم: 1- أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، المدني، الزهري، أحد فقهاء المدينة (ت94هـ) 3.   1 انظر مقدمة محمد عوامة في تحقيق مسند عمر بن عبد العزيز للباغندي من ص7- 24 بتصرف يسير. 2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403. 3 الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/63، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 2- وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي، أعلم أهل زمانه بالقضاء (ت120هـ) 1. 3- ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي المدني حافظ زمانه (ت124هـ) 2. -كما روى عنه جم غفير من علماء عصره من بينهم: 4- أيوب بن أبي تميمة السختياني العنزي مولاهم الثقة الصدوق الثبت الحجة العدل (139هـ) 3. 5- وإبراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان بن عبد الله المرتحل الشامي المقدسي الثقة الصدوق (ت152هـ) . 6- وعمير بن هانئ العنسي الدارني الإمام التابعي الثقة (ت 127هـ) 4. 7- ويعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي المدني الثقة العالم الورع أحد علماء السيرة (ت128هـ) 5.   1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/35-36، والذهبي: تذكرة الحفاظ ص118، و108-113. 2 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 8/71، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/118. 3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 1/128-129، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/323- 325، وتذكرة الحفاظ ص118. 4 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 6/378، وابن حجر: تهذيب التهذيب 8/128. 5 ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل9/211-212،وابن حجر: تهذيب التهذيب11/341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 8- ومحمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى التيمى القرشي، المدني، الإمام، الحافظ، القدوة (ت130هـ) 1. 9- وحميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري مولى طلحة الطلحات الإمام، الحافظ، الثقة (143هـ) 2. 10- وعمرو بن مهاجر بن أبي مسلم واسمه دينار الأنصاري وهو مولى أسماء بنت زيد (ت139هـ) 3. 11- وعمرو بن ميمون بن مهران الجزري الرقي عامل عمر بن عبد العزيز على خراج الجزيرة كان ثقة صدوقا (145هـ) 4. 12- والنضر بن عربي أبو روح الباهلي مولاهم الجرزي الحراني، الإمام، الثقة، العالم، المحدث (ت168هـ) 5.   1 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 8/97-98، وابن حجر: تهذيب التهذيب 9/407-409. 2 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 3/221، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/152. 3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 8/90. 4 ابن حجر: تهذيب التهذيب 8/90-91. 5 المصدر السابق 10/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 كما روى عنه أبناؤه الذين تقدم ذكرهم وزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان1. وبما سبق ذكره يظهر جليا أن عمر قد أصبح في زمانه مهوى أفئدة طلاب العلم. روى الحديث فأكثر ونظر في النصوص فاجتهد واستنبط فأخذ عنه الفقهاء، واعتبروا رأيه حجة. هـ- مرويات عمر بن عبد العزيز لعمر بن عبد العزيز رحمه الله مرويات كثيرة في مسائل متعددة فقد ذكر ابن الجوزي عددا من مروياته، وكذلك روى له أصحاب السنن، وأفرد له الحافظ أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي مسندا يحوي واحدا وستين حديثا والكتاب مطبوع ومتداول ولله الحمد2. ومن مروياته حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت -والإمام يخطب - فقد لغوت" رواه   1 انظر ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق مجلد 19 ورقة 247 ب، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/118، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403، ط. دار الكتب العلمية ط. الأولى عام 1415هـ. 2 انظر الباغندي: مسند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز طبعة مكتبة الدعوة الطبعة الأولى في 15/5/1397هـ تحقيق محمد عوامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 مسلم1، وحديث: "سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} " رواه النسائي2. وحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقبلها وهو صائم" رواه مسلم3. وحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن أعطى شيئا فلا يأخذه" رواه مسلم4. نماذج من فقهه وما أفتى به لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتاوى فقهية بحكم تضلعه من العلم، فقد كانت تعترضه مسائل فقهية يعمل فيها فكره، بالإضافة إلى استشارته العلماء من حوله وتلك المسائل كثيرة ونأخذ منها بعض الأمثلة التي تدل على مدى سعة علمه، فمنها:   1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/453 رقم (851) . 2 سنن النسائي 1/161، ط. دار الفكر. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 3/177، برقم (1106) . 4 صحيح مسلم بشرح النووي 3/535، رقم (1406) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 1- نهيه عن الطلاء وهو النبيذ المسكر والمتخذ من غير العنب، قال ابن عون كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال: نهى عنه إمام هدى يعني عمر بن عبد العزيز1. 2- عظم الميتة نجس، فعن أم ولد عمر بن عبد العزيز قالت: "سألني عمر دهنا فأتيته به وبمشط من عظام الفيل، فرده، وقال: "هذه ميتة" قلت: وما جعله ميتة؟ قال: ويحك! من ذبح الفيل2. 3- ليس في العسل زكاة، كتب عمر إلى ابن حزم ألا تأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة"3. 4- إسقاط الجزية عن الذمي إذا أسلم قبل استحقاقها، فعن عمر بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز في الذي يسلم قبل السنة بيوم قال: لا تؤخذ منه الجزية"4.   1 أبو نعيم: الحلية 5/257،وابن الجوزي سيرة عمر ص74. 2 ابن سعد: الطبقات 5/401، وهذه مسألة خلافية قال الزهري في عظام الموتى من الفيل وغيره: "أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها لا يرون به بأسا" انظر التفصيل في البخاري مع الفتح 1/342-343، وفقه السنة 1/24. 3 أبو عبيد: الأموال ص191. 4 ابن سعد: الطبقات 5/356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وعن سويد بن حصين، عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: "إذا أسلم والجزية في كفة الميزان فلا تؤخذ منه"1. وهذه الأمثلة هي محل خلاف بين العلماء وقد رأينا من يستند فيها منعا وإباحة إلى ما قرره عمر بن عبد العزيز رحمه الله لوثوقهم به وبمعرفته لترجيح الروايات والجمع بين أقوال العلماء وهناك روايات كثيرة لم نذكرها هنا إذ الغرض الإشارة إلى فقه عمر.   1 المصدر السابق 5/356، وأبو عبيد: الأموال ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المبحث الثالث في سيرته السياسية: ويشتمل على الآتي: أ- ولايته على خناصرة ثم المدينة ب- تسلمه الخلافة. جـ- تسخيره الولاية والخلافة لخدمة السنة والعقيدة الصحيحة. أ- ولاية عمر بن عبد العزيز على خناصرة1. من المعلوم أن التدرب على أي عمل من الأعمال مما يؤدي إلى إتقانه، والإلمام بجوانبه، ومعرفة دقائقه، وهذا ما وفق فيه عمر بن عبد العزيز فقد كان عبد الملك ابن مروان يحبه ويؤثره أحياناً على أولاده فبعد وفاة عبد العزيز بن مروان والد عمر ولاَّه2 عبد الملك بن مروان خناصرة تطييبا لخاطره ولما أراد الله له من التدرب على الأعمال القيادية منذ وقت مبكر من عمره. وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصرة، لكن الراجح هو القول الأول لأن المؤرخين ذكروا أن عمر بن عبد العزيز كان يلازم سليمان بن عبد الملك ملازمة تامة قال سعيد بن عبد العزيز: "كانت خلافة سليمان بن عبد الملك كأنها خلافة عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد شيئاً قال له ما تقول يا أبا حفص؟ " 3 ولم تشر المصادر التي اعتنت بترجمته وذكر أحواله تاريخ ولايته على خناصرة، ولا المدة التي مكث فيها ولعلها مدة قصيرة، حيث لم تحظ بعناية الذين أرخوا لعمر بن عبد العزيز وأرخوا لذلك العهد من صدر الدولة الأموية.   1 خناصرة: بليدة من أعمال حلب تحاذي قِنِّسرين نحو البادية. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/390، ط. ارصاد - ط. الثانية عام 1995م. 2 أبو نعيم الحلية 5/299، ط. دار الكتاب العربي ط. الرابعة عام 1405هـ. 3 المصدر السابق 5/301، وتاريخ أبي زرعة ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ولايته على المدينة النبوية لا يخفى أن كل وال من الولاة يحب أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا ما فعله الوليد بن عبد الملك حين ولى عمر بن عبد العزيز على المدينة النبوية، وولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة من أهم أعماله قبل أن يلي الخلافة العظمى، ولأهمية الموقع الذي تمتاز به المدينة النبوية حيث كانت عاصمة الدولة الإسلامية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة فقد حرص عمر بن عبد العزيز أن يؤدي للمدينة ما تستحقه من قدسية وما يستحقها أهلها من معاملة طيبة وإيثار، وما يستحقه من أساء إلى أهلها من تأديب وهجران، وقد وُفِّق في ذلك، وسجل له أعمال فيها تذكر على مر الدهور والأزمان. ذكر ابن سعد أن عمر بن عبد العزيز قدم واليا على المدينة في شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين للهجرة، وهو ابن خمس وعشرين سنة ... 1. ودخل دار جده مروان، ثم بعد ما صلى الظهر دعا عشرة من الفقهاء وهم كما روى ابن سعد في الطبقات قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: "لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليا عليها كتب حاجبه الناس، ثم دخلوا فسلموا عليه، فلما صلى الظهر دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن   1 ابن سعد: الطبقات 5/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبا بكر بن سليمان بن أبي حيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا بلغني. فجزوه خيرا، وافترقوا1. وكان حريصا على تتبع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته وفي خطبه في المواسم. روى ابن سعد بسنده أن عمر بن عبد العزيز سأل أنس بن مالك رضي الله عنه عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنس: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم التروية بيوم، وخطب بعرفة يوم عرفة، وخطب بمنى الغد من يوم النحر والغد من يوم النفر2. وكان عمر في صلاته حينما كان على المدينة يصلي الظهر فيطيل الأوليين منها ويخفف الآخرتين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد أشبه   1 المصدر السابق 5/334. 2 المصدر نفسه 5/331- 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز-1. وكان عابداً تقياً يصوم الاثنين والخميس2،وكان أهم أعماله بالمدينة توسيع المسجد النبوي، وإدخال حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد بأمر الوليد بن عبد الملك، وقد حرص عمر رحمه الله تعالى أن يمنع العوام من اتخاذ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبلة لهم في صلاتهم، فبنى الحجرة الشريفة بناء هندسيا محكما. قال ابن أبي زيد القيرواني: "وعمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محددا بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي إليه، جعل ذلك حين انهدم جدار البيت فصار للبيت خمسة أركان"3. وقال الحافظ ابن حجر: " ... لما وسع المسجد جعلت حجرتها - يعني عائشة رضي الله عنها- مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة"4.   1 ابن سعد الطبقات 5/332. 2 المصدر نفسه 5/333. 3 ابن أبي زيد القيرواني: كتاب الجامع ص141، تحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ ط. مؤسسة الرسالة ط. الثالثة عام 1406هـ. 4 البخاري مع الفتح 3/200، وانظر التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة لجمال الدين المطري ص87، تحقيق سعيد عبد الفتاح ط. الأولى عام 1417هـ الناشر نزار مصطفى الباز مكة المكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 واتفق المؤرخون على أن نهاية مدة ولايته على المدينة كانت عام ثلاثة وتسعين1، وقد ذكروا لعزله عن المدينة روايتين. أحدهما: أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بأن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، ومن المهم إيراد نبذة يسيرة عن خبيب هذا، فهو خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، المدني2، روى عن أبيه وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين، وروى عنه ابنه الزبير بن خبيب، وسليمان بن عطاء، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان من أهل العلم والنسك. قال الزبير بن بكار: كان خبيب قد لقي كعب الأحبار ولقي العلماء وقرأ الكتب وكان من النساك3. قال الزبير: وأدركت من أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علما كثيراً لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه، يشبه ما يدعى الناس من علم النجوم. قال عمي مصعب بن عبد الله: وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له: يعلى بن عقيبة. قال: كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف، ثم قال: سأل قليلا فأعطي كثيرا وسأل كثيرا فأعطي قليلا،   1 الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/117، وتاريخ خليفة بن خياط ص198. 2 المزي: تهذيب الكمال 8/223. 3 المصدر السابق 8/224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فطعنه فأذراه فقتله ثم أقبل عليَّ فقال: قتل عمرو بن سعيد الساعة ثم مضى، فوجد ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن سعيد. وله أشباه هذا يذكرونها فالله أعلم ما هي. وكان مع ذلك عالما بقريش، وكان طويل الصلاة قليل الكلام1، قال ابن سعد في الطبقات: وكان خبيب عالما. فبلغ الوليد بن عبد الملك عنه أحاديث كرهها فكتب إلى عامله بالمدينة أن يضربه مائة سوط فضربه مائة سوط وصب عليه قربة من ماء بارد بيتت بالليل، فمكث أياما ثم مات2، والأحاديث التي كرهها الخليفة منها ما رواه خبيب، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثون رجلا اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله دولا"3. ولا شك أنه حديث ضعيف، فبعد هذه الوقعة استعفى عمر من ولاية المدينة وامتنع من الولاية.   1 المصدر السابق 8/224. 2 ابن سعد: الطبقات الكبرى القسم المتمم لتابعي أهل المدينة تحقيق زياد محمد منصور ص107. 3 الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة 6/507، عن أبي سعيد، وأبي هريرة قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكر طرق أخرى ورد بها هذا الحديث "وهذه الطرق كلها ضعيفة. انظر ابن كثير البداية والنهاية 4/279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أما الرواية الثانية فهي تذكر أن عمر بن عبد العزيز كان يكره أعمال الحجاج، ويؤوي من يهرب إليه منه، فكتب الحجاج إلى الوليد يخبره بما يلقاه المخالفون له الذين يلجئون إلى عمر من إيوائه لهم، وعدم تمكين الحجاج من عقابهم، ومن هنا نجد أن الوليد بدأ يأمر عمر بأوامر يشدد عليه فيها، بقصد تجربته وطاعته، وحزمه في تنفيذ الأوامر فطلب إليه أولا أن يرسل بعثا من المدينة للجهاد فنفذ عمر هذا الطلب، ثم طلب إليه مرة أخرى أن يضرب خبيب بن عبد الله لروايته المتقدمة، ونفذ أيضا هذا الأمر ولكن يبدو أن الحجاج كان يتابع الأمر بدقة وإصرار على إزالة عمر عن المدينة فما كان من الوليد إلا أن طلبه أخيرا ليأتي إلى الشام فذهب عمر إلى الشام1. وقد ندم عمر على ما صدر منه من ضرب خبيب، وأعتق ثلاثين عبداً، وتصدق بصدقة كثيرة، وفرق في آل خبيب مالا عظيما، وأسف على موت خبيب أسفاً منعه من العيش سبعين ليلة حتى أشفى 2 على التلف3.   1 انظر تاريخ الطبري 5/256، وابن الجوزي سيرة عمر ص44. 2 أشفى على الشيء اقترب منه انظر المعجم الوسيط ص488 3 انظر أبو حفص الملاء 1/102-103، وابن الجوز ي سيرة عمر ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ب- توليه الخلافة كان لتولية عمر بن عبد العزيز على بعض الأماكن في الشام مثل الولاية على خناصرة ثم الولاية على المدينة ومكة بمثابة مقدمات نافعة له لما يريده الله له من حمل الخلافة فقد جعلته هذه المقدمات السابقة متمرسا لحمل الخلافة العظمى، وحتى بعد تركه للولايات لم يكن بعيدا عنها حيث كان مع سليمان بن عبد الملك كالوزير1، فكان لا يصدر إلا عن رأيه ووجد عند سليمان بن عبد الملك ميل إلى العدل وحين حضره الوفاة أشار عليه رجاء بن حيوة2، بأن يستخلف عمر بعده فقبل ذلك لكنه رأى أنه لابد أن يجعل بعد عمر يزيد بن عبد الملك حتى لا تقع فتنة3.   1 انظر تاريخ أبي زرعة ص45. 2 رجاء بن حيوة الإمام أبو المقدام، وأبو نصر الكندي الشامي، شيخ أهل الشام وكبير الدولة الأموية كان رجلا فاضلا كثير العلم، وهو الذي أشار على سليمان ابن عبد الملك باستخلاف عمر بن عبد العزيز. مات سنة اثنتي عشرة ومائة وقد شاخ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/118. 3 انظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص35، وابن الجوزي سيرة عمر ص64، وابن سعد في الطبقات 5/334- 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقد تمت بيعة عمر يوم موت سليمان سنة 99هـ قيل في العاشر من شهر صفر وقيل في العشرين منه1. وقد خطب بعد ذلك وخير الناس في بيعته فكلهم2 عبروا عن فرحهم بذلك. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ويقال: إنه خطب الناس، فقال في خطبته: أيها الناس إن لي نفسا تواقة، لا تعطي شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة فأعينوني عليها يرحمكم الله3. وقد استبشر الناس بخلافته حتى إن بعض فرق الخوارج قالوا: ما ينبغي لنا أن نخرج على هذا الرجل المستقيم4. وقد توسع ابن عبد الحكم وابن الجوزي وغيرهما في تفصيل كيفية تولي عمر الخلافة بإسهاب لا داعي هنا لذكره لأن الغرض هو بيان استخلافه وليس ذكر تفاصليها، وملابساتها5.   1 انظر ابن كثير البداية والنهاية 5/206. 2 انظر: الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته ص56. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/206. 4 ابن الجوزي سيرة عمر ص67. 5 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص33-35، وابن الجوزي سيرة عمر ص62-72، وابن سعد الطبقات 5/335- 340، وابن كثير البدابة والنهاية 5/203-205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 منزلة عمر بن عبد العزيز في خلافته أجمع أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا على أن الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر، وعثمان، وعليا رضي الله عنهم أجمعين هم الخلفاء الراشدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ... "1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية ... "3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة على هذه الأدلة، واستدل بها كذلك على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه، واشتد إنكاره على من توقف، حتى قال: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار   1 الحديث رواه أحمد في المسند 4/126، وأبو داود رقم 4635، 4/208. وقد صححه الألباني انظر ظلال الجنة في تخريج السنة ص29. 2 أحمد في المسند 5/220-221، والترمذي وقال:هذا حديث حسن, 5/436، وأبوداود4 /211 3 أحمد في المسند 3 /103 وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 5/188 – 189وقال رجاله ثقات وصححه الألباني في السنة لابن أبى عاصم ص 520 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أهله، ونهى عن مناكحته، وهذا المروي عن الإمام أحمد متفق عليه بين الفقهاء، وعلماء السنة، وأهل المعرفة ... " وهو مذهب العامة1. وقال ابن عبد البر: الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2. وهذه النصوص المتقدمة تحصر الخلافة الراشدة في الأربعة الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نجد أن بعض علماء السلف وغيرهم قد أطلقوا على عمر ابن عبد العزيز "الخليفة الراشد" أو خامس الخلفاء الراشدين، فروي عن سفيان الثوري أنه قال: الأئمة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وما سوى ذلك فهم منتزون"3. وعن مجاهد قال: المهادي سبعة: مضى خمسة وبقي اثنان: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم 4. وقال الشافعي: "الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم5.   1 انظر مجموع الفتاوى 35/18-19. 2 جامع بيان العلم 2/1168. 3 جامع بيان العلم وفضله 2/1173، وابن الجوزي سيرة عمر ص 74. ومنتزون: قال ابن فارس: نزو النون والزاي والحرف المعتل أصل صحيح يرجع إلى معنى واحد هو الوثبان والارتفاع والسمو معجم مقاييس اللغة ج 5 ص 418 4 ابن الجوزي سيرة عمر ص77. 5 آداب الشافعي ومناقبه لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ص189، ط. الثانية عام 1413هـ تحقيق عبد الغني عبد الخالق الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقال ابن كثير: وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وذكره غير واحد في الأئمة الاثني عشر الذين جاء فيهم الحديث الصحيح: "لا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يكون فيهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش"1، 2. هذا بعض كلامهم والواقع أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إمام هدى، ولا يمكن أن يقارن بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لما تقدم من الأحاديث، ولعل منهج حكمه شبيه بمنهج الخلفاء الراشدين، ومن هذا الجانب أطلق الأئمة من السلف تشبيهه بالخلفاء الراشدين. روي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه سئل عن عمر بن عبد العزيز هل هو من أهل الجنة فتوقف، وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى، أو قال: رجل صالح3.   1 الحديث رواه مسلم 4/520- 522، برقم (1821) . 2 ابن كثير البداية والنهاية 5/224. 3 ابن رشد الجد: البيان والتحصيل 1/479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن قول سفيان الثوري أئمة العدل خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز فقال: هذا باطل - يعني ما ادعي على سفيان - ثم قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاربهم أحد1. وقال الذهبي: كان عمر بن عبد العزيز إماما، فقيها، مجتهدا، عارفا بالسنن ... يعد في حسن السيرة، والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر ... "2، وقد يكون مستند من عدَّه مع الخلفاء الراشدين ما ذكره البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن حبيب بن سالم3، عن النعمان بن بشير أن أبا ثعلبة سأله عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، وكان حذيفة بن اليمان قاعدا معهم، فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم في النبوة تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. قال: فقدم عمر - يعني   1 الخلال: في السنة 2/436. 2 انظر: الذهبي تذكرة الحفاظ 1/118-119. 3 حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير وكاتبه لا بأس به. تقريب التهذيب ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 عمر بن عبد العزيز - ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث، وكتبت إليه: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين بعد الجبرية، قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسُرَّ به وأعجبه1. أو لعل العلماء الذين عدوه مع الخلفاء الراشدين إنما يقصدون أنه خليفة راشد في حسن السيرة والقيام بالعدل، كما ذكر ذلك الذهبي في كلامه المتقدم. ومن المعلوم أن الصحابة لا يمكن أن يقاربهم أحد، من غيرهم فضلا عن أن يعَدَّ منهم. روى أبو بكر الخلال بسنده إلى الإمام أحمد أنه سئل: من أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ قال: من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني"2،3.   1 دلائل النبوة وأحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي 6/491، تحقيق عبد المعطي قلعجي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1405هـ. 2 البخاري مع الفتح 7/3، حديث رقم 3649. 3 الخلال: في السنة 1/434-435 تحقيق الدكتور عطية الزهراني ط. دار الراية ط. الثانية عام 1994م 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وروى بسنده أن الأعمش ذُكِرَ له عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟! قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله1. ولا شك أن الخلفاء الراشدين هم أفضل الصحابة ولا يمكن أن يلحق شأوهم في العدل في الحكم والإصابة فيه من جاء بعدهم، مهما بلغ من العدل، فالصحيح أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى "قد جاء إلى أمر مظلم فأناره، وإلى سنن قد أميتت فأحياها، ولم يخف في الله لومة لائم، ولا خاف في الله أحدا، فأحيا سننا قد أميتت وشرع شرائع قد درست رحمه الله تعالى"2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عمر بن عبد العزيز إنه: "قد أحيا السنة وأمات البدعة، ونشر العدل، وقمع الظلمة من أهل بيته وغيرهم، ورد المظالم التي كان الحجاج بن يوسف وغيره ظلموها للمسلمين، وقمع أهل البدع كالذين كانوا يسبون عليا، وكالخوارج الذين كانوا يكفرون عليا، وعثمان، ومن والاهما،   1 المصدر السابق 1/437. 2 انظر المصدر السابق 1/88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وكالقدرية مثل غيلان القدري وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتنة بعلمه ودينه وعدله"1. ج- تسخيره الولاية والخلافة لخدمة السنة والعقيدة الصحيحة قد سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تولى إمارة المدينة عدة سنوات ثم أتته الخلافة، وقد وظف هذه الولاية والخلافة لخدمة السنة أحسن توظيف، ففي اليوم الأول من ولايته على المدينة كوَّن عشرة من العلماء الأبرار يحيطون به، وحدد لهم مهام مجلسهم قائلا "ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم" 2، أما حين تولى الخلافة فقد كتب إلى عماله رسائل طويلة تتجلى فيها روح الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، والتمسك بالسنة في أسلوب الترغيب والترهيب، كما بين بغيته في الخلافة ومنهجه فيها فقال: "سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصربها فهو منصور،   1 سؤال في يزيد بن معاوية ص14، لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد. 2 ابن سعد الطبقات 5/334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاَّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" 1. فعمر كما اتضح من هذا الأثر سيأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها وسنن خلفائه الراشدين المهديين من بعده، ويوضح كيفية اتباع السنة في خطبه، فيخطب قائلا: "أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع ... "2. فهو متبع حريص على الاتباع، ولكن سنة من؟ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، وهذا هو الميزان الحقيقي لاتباع الكتاب والسنة. ولا شك أن المقصود بالولاية والخلافة إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم3، ولذا بين في خطبه أنه متبع وليس مبتدعا، متبع للكتاب المنزل المحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته كل الشرائع، فما أحل الله في هذه الشريعة فهو   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40. 2 المصدر السابق ص40. 3 انظر مجموع الفتاوى 28/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 حلال إلى يوم القيامة، وما حرم في هذه الشريعة فهو حرام إلى يوم الدين، ولم يكتف عمر بهذه الخطب البليغة وإنما عقّب ذلك برسائل جامعة يبين فيها تمسكه بالسنة، وحث عماله عليها. قال ابن عبد الحكم: ولما ولى عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: "فإني أوصيكم بتقوى لله ولزوم كتابه والاقتداء بسنة نبيه وهديه، فإن الله قد بين ما تأتون، وما تتقون، وأعذر إليكم في الوصية، وأخذ عليكم الحجة حين أنزل عليكم كتابه الحفيظ الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1، قال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاََّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2، وقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3، فأقيموا فرائضه، واتبعوا سننه، واعملوا بمحكمه، واصبروا أنفسكم عليه، وآمنوا بمتشابهه، فإن الله علمكم ما علمكم، وأولكم يومئذ أقل الناس شوكة، وأوهنه قوة، وأشده فرقة، وأحقره عند من سواهم من الناس مَحْقِرةً، ليس لهم من الله حظ في الهدى   1 الآية 42، من سورة فصلت. 2 الآية 105 من سورة الإسراء. 3 الآية 52 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يرجعون به إليه، مع أن الدنيا ومواضع أموالها وعددها وجماعتها ونكايتها في غيرهم، حتى أراد الله إكرامهم بكتابه ونبيه بعث إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله بالحق بشيراً، يبشر بالخير الذي لا خير مثله، وينذر الشر الذي لا شر مثله وأخَّره الله لذلك في القرون وسماه على لسان من شاء من أنبيائه الذين سبقوا، وأخذ عليهم ميثاق جماعتهم قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1، فأخر الله ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه رحمة للعالمين {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2، وأحكم الله في كتابه ما رضي من الأمور، فما جعل من ذلك حلالاً فهو حلال إلى يوم القيامة وما جعل من ذلك حراماً فهو حرامٌ إلى يوم القيامة. وعلمه سنته ففهمها وعمل بها بين ظَهْرَي أمته، فصلى الصلوات لوقتها كما أمره الله، وعلم مواقيتها التي وقتها الله له فإنه قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ   1 الآية 81، من سورة آل عمران. 2 الآية 46 من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} 1، ودلوك الشمس ميلها بعد نصف النهار، فلما نعت الله في هذه الآية وقت صلاة الظهر والعصر، والمغرب، ثم قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} 2، وصلاة العشاء صلاة العتمة، فهذه الصلوات قد جمعها القرآن وبينها محمد صلى الله عليه وسلم، ثم فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة على أمر الله في العين والحرث، والماشية وبين مواضع ذلك فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3، حتى استقامت سنتها في الأخذ حين تؤخذ، وفي القسمة حين تقسم، فعمل بها المسلمون في جزيرة العرب، حتى علموها أو كلّ ذي عقل منهم. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غير مرة، وأغزى الجيوش والسرايا، يقسم إذا كان حاضراً، ويأمر من تولىَّ أمر جيوشه وسراياه بالذي أمر الله به من   1 الآية 78 من سورة الإسراء. 2 الآية 58 من سورة النور. 3 الآية 60 من سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قسم ما أفاء الله عليه وعليهم، فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، ثم أمره الله في الحج بما أمره فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 2، ثم أفاء الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أموال قرى لم يوجَف عليها خيل ولا ركاب، فقال فيها لتكون سنة فيما يفتح الله من القرى بعدها: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3، وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى   1 الآية 41 من سورة الأنفال. 2 الآيات 27-28- 29 من سورة الحج. 3 الآية 6 من سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1، ثم سمى في هؤلاء الآيات الذي للمسلمين فليس لأحد منهم قسم إلا وهو في هذه الآيات فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 2، وأهل هذه الآية من خرج من بلاده مهاجرا إلى المدينة وليس فيهم الأنصار ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، وأهل هذه الآية من كان بالمدينة من الأنصار، فإن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إليهم ثم قال في الآية الثالثة وهي التي جمعت حظ   1 الآية رقم 7 من سورة الحشر. 2 الآية رقم 8 من سورة الحشر. 3 الآية 7و8 من سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 من بقي من المسلمين بعد هذين الصنفين الأوَّلين في الإسلام وقسم المال {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، فهم جماعة من بقي من أهل الإسلام ومن هو داخل فيه بعد الهجرة الأولى حتى تنقضي الدنيا، ففي الذي علمكم الله من كتابه، والذي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن التي لم تدع شيئاً من دينكم ولا دنياكم نعمة عظيمة وحق واجب في شكر الله، كما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فليس لأحدٍ في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأي إلا إنفاذه، والمجاهدة عليه. وأما ما حدث من الأمور التي تبتلى الأئمة بها مما لم يحكمه القرآن ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن والي أمر المسلمين وإمام عامتهم، لا يُقَّدم فيها بين يديه، ولا يُقضى فيها دونه، وعلى من دونه رفعُ ذلك إليه، والتسليم لما قضى. وقد أحببت في كتابي هذا أن تعرفوا الحال التي كنتم عليها قبل نزول كتاب الله وسنة نبيه من الضلالة، والعمى، وضَنك المعيشة، والذي أبدلكم الله من الكرامة والنصر والعافية، والجماعة، وسلب لكم مما كان في يد غيركم مما لم تكونوا لتسلبوه بقوتكم لو وكلكم إلى أنفسكم، كان   1 الآية 9و 10 من سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قد شرط ذلك للمؤمنين، وأعطاهم إياه إذ شرط عليهم شرطه، فقد وفاكم الله ما شرط لكم وهو آخذكم بما اشترط عليكم. قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1، فقد أنجز الله لكم وعده فأنجزوا دين الله في رقابكم أن يكفر كافر بنعمة الله، أو ينسى بلاءه، فيجده على الله هيناً ويطول خلوده فيما لا طاقة له به. ثم إني أحببت أن يعلم من كان جاهلاً من أمري والذي أنا عليه مما لم أكن أريد به المنطق في يومي هذا، حتى رأيت أن المنطق ببعضه هو أقرب إلى الصلاح في عاجل الأمر وآجله للذي قد أفضى إلي من هذا الأمر وأنا أعلم من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما سلف عليه أمر الأئمة بين يدي علما من الله علَّمنيه من لم يكن له شغل عنه، وقد كان شغلي والذي كتب الله أن ابتلى به عاملا منه بما عملت، أو قاصرا منه على ما قصرت، فما كان من خير عَلِمْته فبتعليم الله ودلالته، وإلى الله أرغب في بركته، وما كان عندي من غير ذلك من داء الذنوب، فأسأل الله العظيم تجاوزه   1 الآية 55 من سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عني بمغفرته. فلعمري ما ازددت علماً بالولاية إلا ازددت لها مخافة، ومنها وجلاً، ولها إعظاما حتى قدر الله لي منها وقدر عليَّ ما قدر، فأنا أشد ما كنت لها استثقالا. ثم أحسن الله حميد أعواني، وعاقبتي، وعاقبة من ولاني أمره، فأصلح أمرهم، وجمع كلمتهم، وبسط علي من نعمه وعليهم ما لم يكن دعائي ولا دعاؤهم ليبلغه، عند الله به ثوابي، وعنده به جزائي من صلاح عامتهم، وأداء حقوقهم إليهم، والعفو عن ذي الذنب منهم. وقد أعطاني من ذلك وله الحمد في عاجل الدنيا، وجماعة من الشمل وصلاح ذات البين، وسعةٍ في الرزق، ونصر على الأعداء، وكفاية حسنة، حتى أغنى لأهل كل ذي جانب من المسلمين جانبهم، ووسَّع عليهم الرزق. ولا يرى أهل كل ناحية إلا أنهم أفضل قسماً مما بسط الله لهم من رزقه ونعمه من أهل الناحية الأخرى. فإن تعرفوا نعمة الله عليكم، وتشكروا فضله فأحرص بي على ذلك. وأحبب به إلي. قد يعلم الله كيف دعائي بذلك وكيف حرصي عليه، علانية، وإن يجهل ذلك جاهل أو يقصر عنه رأيه، فإن الذي حرصت عليه أن أحملكم عليه من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو حجتي في الدنيا، وبغيتي فيما بعد الموت، ولا تلبسوا ذلك بغيره. وإياكم أن يتشبه في أنفسكم ما حملتكم عليه من كتاب الله وسنة نبيه. وأما ما سوى ذلك من الأمور التي من رأي الناس فإني - لعمري - لولا أن أعمل فيكم ما وليت أمركم، وإن تعملوا به ما نفست الذي أنا فيه من الدنيا علي، أبغض الناس إلي رجل واحد إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 حجزه الله على ديني أن يفتنني1،ولا كنت أرى المنزل الذي أتى به لمن عسى أن يعمل بغير كتاب الله وسنة نبيه غبطة ولا كرامة، ولا رفعة، ولا الدنيا وما فيها، فمن كان سائلاً عن الذي في نفسي، وعن بغيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذي في نفسي وبغيتي منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، ومن عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يُذكر له ذلك أن لعمري أن تموت نفسي أول نفس أحبُّ إلي من أن أحملهم على غير اتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم التي عاش عليهما من عاش، وتوفاه الله عليها حين توفاه، إلا أن يأتي علي من ذلك أمر وأنا حريص على اتباعه، وإن أهون الناس علي تلفاً وحزناً لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة، وذلك الأمر الذي رفعنا ونحن بمنزلة الوضيعة، وأكرمنا ونحن بمنزلة الهوان، وأعزنا ونحن بمنزلة الذل، معاذ الله من أن نستبدل بذلك غيره، ومعاذ الله من أن نتقي أحداً، فإذا تكلمتم في مجالسكم، أو ناجى الرجل أخاه، فليذكر هذا الأمر الذي حضضتكم عليه من إحياء كتاب الله وسنة نبيه، وترك ما خالف ذلك، فإنه ليس بعد الحق إلا الباطل، ولا بعد البصر إلا العمى، وليحذر قوم الضلالة بعد الهدى،   1 قال محقق كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم لما جاء ذكر هذه العبارة: "هذه الجملة والتي قبلها مضطربتان في النسختين، وما اهتديت إلى وجه الصواب فيهما، وربما كان بعض الكلمات قد سقط من الأصل". ص84 حاشية رقم 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 والعمى بعد البصر، فإنه قال لقوم صالح: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1، اتبعوا ما تؤمرون به، واجتنبوا ما تنهون عنه، ولا يعرِّض أحدكم بنفسه، فإنه ليس لي في دنياكم والحمد لله رغبة، لا في ما في يديَّ منها، ولا ما في أيديكم، وليس عندي مع ذلك صبر على انتقاص شيء من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا استبقاء لمن خالف، والحمد لله ولا نعمة عين، ولعمري إن من يعمل ذلك منكم لحقيق أن يظن بامرئ لا حاجة له في دنياكم، ولا صبر له على زيغكم عن دينكم، ولجاجتِكم فيما لا خير لكم فيه أنه جرأ على هراقة دم من انتقص كتاب الله، أو زاغ عن دينه، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. هذا نحو من الذي قبلي، قد بينته لكم، ولعمري لتخلصن جماعتكم أيها الجند وخياركم مما يكره من الأمور، ولتتبعن أحسن ما توعظون به إن شاء الله. أسأل الله برحمته وسعة فضله، أن يزيد المهتدي هدى، وأن يراجع بالمسيء التوبة في عافية منه، وأن يحكم على من أراد خلاف كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بحكم يغلب به في خاصته، ويعجله له، فإنه على ذلك   1 الآية 17 من سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قادر، وأنا إليه فيه راغب، ويحسن عاقبة العامة، ولا يعذبنا بذنب المسيء، والسلام عليكم ورحمة الله"1. هذا فيما يخص رعيته يبين لهم شدة تمسكه بالسنة وحضه إياهم على التمسك بها وحملهم على اتباع ما فيها، ونهيهم عن اتباع ما خالفها، وهذه الرسالة من عمر إلى العمال بعد توليه الخلافة تعتبر بمثابة خطة يرسمها لعماله مبينا لهم المعالم الرئيسة التي تحدد علاقته بهم وهي اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، وقد بين في هذه الرسالة تمسكه بالعقيدة الصحيحة الصافية، حيث أوصى رعيته بلزوم الكتاب والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد حدد لهم ما في نفسه وبغيته وهو أن يتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد. وقد وضع نصب عينيه كتاب الله - وهو الخليفة العالم - فأحل حلاله وحرم حرامه، ونفذ أوامره، واجتنب نواهيه، وزواجره، واتخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منار هداية ونور إرشاد إلى بيان آيات الكتاب. وقد كان يكتب إلى عماله ويأمرهم بالأخذ بالسنة في الأحكام، ويقول: "إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله"2، فروى أبو الحسن محمد   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص65-72، وأبو حفص الملاَّء 1/284- 290 باختلاف ألفاظ. 2 ابن كثير البداية والنهاية 5/232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ابن الفيض الغساني قال: حدثنا إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن جدي قال: لما ولاَّني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها، فوجدتها من أكثر البلاد سرقا ونقبا، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلاد، وأسأله أن آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟ فكتب إلىَّ أن آخذ الناس بالبينة، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. قال يحيى: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد، وأقلها سرقا ونقبا1. وكان - رحمه الله تعالى - يرجح التحقيق العادل المبني على السنة على التحقيق الصارم الذي ابتدعه الولاة عند تغير الناس. فقد كتب إليه عامله عدي بن أرطأة يستأذنه في تعذيب من اقتطعوا من مال الله، فقال: "من عدي بن أرطأة أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قبلي أناسا من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل مالا عظيما، لست أرجو استخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين- أصلحه الله - أن يأذن لي في ذلك أفعل".   1 كتاب: أخبار وحكايات لأبي الفيض الغساني ص31، تحقيق إبراهيم صالح ط. دار البشائر ط. الأولى عام 1994م، وابن الجوزي سيرة عمر بن عبد العزيز ص121-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال: فأجابه: "أما بعد: فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب الله، وكان رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل. فانظر من قامت عليه بينة عدول، فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به. وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم والسلام"1. وكان رحمه الله تعالى يستشير أهل السنة في شؤون الدين والدنيا ويأمر عماله أن ينشروا العلم فكتب إليهم: "أما بعد: فأمر أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميت2. وأحب أن يكون عماله من أهل الصلاح والقرآن فكتب إلى عماله: "إياكم أن تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن. فكتبوا إليه يا أمير المؤمنين، إنا استعملنا أهل القرآن فوجدناهم خونة، فكتب لهم: إياكم أن يبلغني عنكم أنكم استعملتم على شيء من أعمالنا إلا أهل   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص105- 106، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص73. 2 المصدر السابق ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 القرآن، فإنه إن لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير1. وكان يتجنب الإصلاح بالظلم، فروى ابن عبد الحكم أن عمر قال: "من لم يصلحه إلا الغشم فلا يصلح، والله لا أصلح الناس لهلاك ديني"2. وكان يستشير الحسن البصري في كل ما يشكل عليه فروى أبو عبيد القاسم بن سلام أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن يسأله: ما بال من مضى من الأئمة قبلنا أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات؟ - وذكر أشياء من أمرهم قد سماها - قال: فكتب إليه الحسن: "أما بعد: فإنما أنت متبع ولست بمبتدع. والسلام"3. وقد كتب إلى الحسن يسأله عن صفات الإمام العادل فأجابه الحسن ببيان صفات الإمام العادل في رسالة بليغة4. كما كان يستشير الزهري في أموره كلها ومنها أمره للزهري بتدوين السنة كما تقدم، وأمره أن يكتب له مواضع الصدقة5.   1 المصدر السابق ص124 يعني ابن الجوزي. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص124. 3 الأموال لأبي عبيد ص41. 4 انظر الرسالة في العقد الفريد لابن عبد ربه 1/50-52، ط. دار الكتاب العربي تحقيق أحمد أمين وإبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون. 5 أبو عبيد: الأموال ص573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ومن الجدير ذكره أنه قد كتب إلى عامله بالمدينة أن اكتب إليَّ بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عمرة1. وكتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يطلب منه أن يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب، وقضائه في أهل القبلة وأهل العهد2. وكان عمر رحمه الله تعالى ينتقى من يأخذ عنه السنة فروى الفسوي قال: حدثنا بندار عن عبد الرحمن "ابن مهدي" عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: اكتب لي حديث عمرة، وكان عمر بن عبد العزيز يسألها3. وذلك لاختصاص عمرة بأحاديث عائشة رضي الله عنها واختصاص عائشة رضي الله عنها بمعرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن اجتهاده رحمه الله تعالى لرفع السنة وأهلها، وقمع البدع، ومن يروجها مناظراته مع غيلان الدمشقي4الضال الذي كان ينكر القدر ويقول بأن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد إلا بعد عملهم إياها، وقد اهتم   1 أحمد بن حنبل: العلل 1/78.وعمرة هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية أكثرت عن عائشة رضى الله عنها ثقة ماتت قبل المائة وقيل بعدها انظر تقريب التهذيب ص750. 2 الآجري: أخبار أبي حفص ص70. 3 الفسوي: المعرفة والتاريخ 2/108، ومحمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة. 4 انظر ترجمة غيلان في مبحث الرد على القدرية من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ببيان أمر القدر وبيان أركانه، كما بين لعماله أهمية اتباع السنة في هذا الباب، ورد على الذين كتبوا إليه برد علم الله السابق برسالة بليغة وستأتي في الآثار، وكان يستشير العلماء في أمر القدرية ويكتب إلى عماله بحبسهم وضربهم، وقطع ألسنتهم، وقد تبع السنة في معاملة الخوارج حيث كتب إليهم كما كان يفعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم ناظرهم وحاربهم، وحين غلب عليهم لم يغنم أموالهم، ولم يقتل جريحهم، وأسيرهم، ومن استعماله الولاية والخلافة في خدمة السنة ما كتبه إلى عماله في النهى عن المنكر والأمر بالمعروف، وكتابه إليهم في اتباع أوامر القرآن وطاعة الله ودعوة الناس إلى الإسلام وبيان مواضع الخمس، والصدقات، والنهي عن الطلاء، وتوحيد المكاييل والموازين، وبيان حكم العشور، والخراج، والجزية، وتحريم المكس، كما كتب إليهم مبينا لهم كيفية العدالة في الحكم، وكيفية تأديب الجاهل، وأمرهم بأن لا يتأثروا بمن حولهم من السفهاء إذا طبقوا السنة، فكان عمر رحمه الله تعالى القدوة في كل ما أمر به. لأنه كان عالما برعيته، عادلاً في قضيته، عاريا من الكبر، متحريا للصواب، رفيقا بالضعيف، غير محاب للقريب ولا جاف للغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قال ابن عبد الحكم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى العمال: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العمال: أما بعد: فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. وإن دين الله الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه، ويتبع أمره ويجتنب ما نهى عنه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه. ويحل حلاله ويحرم حرامه، ويعترف بحقه ويحكم بما أنزل فيه، فمن اتبع هدى الله اهتدى ومن صد عنه {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 2. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه: أن يدعو الناس إلى الإسلام كافة، وأن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة، وأن توضع الصدقات والأخماس على قضاء الله وفرائضه، وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر لا يمنعون ولا يحبسون. وأما الإسلام فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ   1 التوبة الآية 33. 2 سورة المائدة 12، والممتحنة الآية 1. 3 سبأ الآية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1. وقال تبارك وتعالى فيما يأمر به المؤمنين من شأن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} 2. فهذا قضاؤه وحكمه، فاتباعه لله طاعة، وتركه معصية لله، فادع إلى الإسلام وأمر به فإن الله تعالى قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. فمن أسلم من نصراني أو يهودي، أو مجوسي من أهل الجزية فخالط عمَّ المسلمين وفارق داره التي كان بها فإن له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أن أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للمسلمين كانت لهم ولكنها فيء الله على المسلمين عامة. وأما من كان محاربا فليُدْعَ إلى الإسلام قبل أن يقاتل فإن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وله ما أسلم عليه من أهل أو مال. وإن كان من أهل الكتاب فأعطى الجزية وأمسك بيديه فإنا نقبل ذلك منه.   1 الأعراف الآية 158. 2 التوبة الآية 11. 3 فصلت الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وأما الهجرة فإنا نفتحها لمن هاجر من أعرابي فباع ماشيته في الهجرة، وانتقل من دار أعرابيته إلى دار الهجرة، وإلى قتال عدونا، فمن فعل ذلك فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم، وإن الله نعت المؤمنين عند ذكر الفيء فجعله للفقراء والمهاجرين {الَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِم} 1. والذين جاءوا من بعدهم ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 2، وقد كان المهاجرون يجاهدون على غير عطاء ولا رزق يجرى عليهم فيوسع الله عليهم، ويعظم الفتح لهم ولمن تأسى بهم، وعمل بصالح سنتهم ممن يحبون من إخوانهم ليوجبن الله له الأجر في الآخرة، وليعظمن له الفتح في الدنيا. وأما الصدقات فإن الله تبارك وتعالى فرضها وسمى أهلها حين طعن فيها أناس وبلغوا فيها تهمة نبيهم فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 3، فقال الله تبارك وتعالى عند ذلك: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ   1 الحشر الآية 9. 2 الجمعة الآية 3. 3 التوبة الآية 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الأموال: الحرث، والمواشي، والذهب، والورق، فتؤخذ الصدقات كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض، لا يظلمون ولا يتعدى عليهم ولا يحابي بها قريب ولا يمنعها أهلها، ثم تجعل إلى مرضيين من أهل الإسلام فيجعلونها حيث أمرهم الله، يحملهم الإمام من ذلك على ما حمل وينزه نفسه من ذلك من أمر قد أكثر فيها على الأئمة. وأما الخمس فإن من مضى من الأئمة اختلفوا في موضعه، فطعن في ذلك طاعن من الناس وأكثر فيه، ووضع مواضع شتى فنظرنا فإذا هو على سهام الفيء في كتاب الله لم تخالف واحدة من الاثنتين الأخرى، فإذا عمر ابن الخطاب رحمه الله قد قضى في الفيء قضاء قد رضي به المسلمون، فرض للناس أعطية وأرزاقا جارية لهم، ورأى أن لن يبلغ بتلك الأبواب ما جمع من ذلك، ورأى أن فيه لليتيم والمسكين وابن السبيل، فرأى أن يلحق الخمس بالفيء وأن يوضع مواضعه التي سمى الله وفرض، ولم يفعل ذلك إلا ليتنزه منه وخيفة التوهم فيه، فاقتدوا بإمام عادل فإن الآيتين   1 التوبة الآية 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 متفقتان، آية الفيء وآية الخمس، فإن الله قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1. وكذلك فرض الله الخمس، فنرى أن يجمعا فيجعلا فيئا للمسلمين، ولا يستأثر عليهم ولا يكون {دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم} 2. ونرى أن الحمى يباح للمسلمين عامة، وقد كانت تحمى فتجعل فيها نِعَمُ الصدقات. فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيرا إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء. ثم إن الطلاء لا خير فيه للمسلمين، إنما هو الخمر يكنى باسم الطلاء قد جعل الله عنه مندوحة وأشربة كثيرة طيبة، وقد علمت أن ناسا يقولون: قد أحله عمر رضي الله عنه وشربه ناس ممن مضى من خيارنا، وإن عمر إنما أتي منه بشراب طبخ حتى خثر، فقال حين أتى به: أطلاء هذا؟ يعني به طلاء الإبل، فلما ذاقه قال: لا بأس بهذا فأدخل الناس فيه بعد عمر. أما من شربه من صالحيكم فإنهم شربوه قبل أن يتخذ مسكراً وقد قال رسول   1 الحشر الآية 7. 2 الحشر الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الله صلى الله عليه وسلم: "حرامٌ كل مسكر على كل مؤمن" 1، فلا أرى أن يتخذ الفاجر البارَّ دلسة، ونرى أن يتنزه المسلمون عنه عامة، وأن يحرموه فإنه من أجمع الأبواب للخطايا وأخوفها عندي أن تصيب المسلمين منه جائحة تعمهم. وأما البحر فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2، فأذن فيه أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه، فإن البر والبحر لله جميعا سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم؟ ثم إن المكيال والميزان نرى فيهما أمورا علم من يأتيها أنها ظلم إنه ليس في المكيال زيغ إلا من تطفيف ولا في الميزان فضل إلا من بخس، فنرى أن تمام مكيال الأرض وميزانها أن يكون واحدا في جميع الأرض كلها. وأما العشور فنرى أن توضع إلا عن أهل الحرث، فإن أهل الحرث يؤخذون بذلك وإنما أهل الجزية ثلاثة نفر: صاحب أرض يعطي جزيته   1 أخرجه ابن ماجة في سننه (2/1142/رقم3389) من حديث معاوية رضي الله عنه وضعفه الألباني بهذا اللفظ في ضعيف سنن ابن ماجة ص274. 2 الجاثية الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 منها، وصانع يخرج جزيته من كسبه، وتاجر يتصرف بماله يعطي جزيته من ذلك وإنما سنتهم واحدة. فأما المسلمون فإنما عليهم صدقات أموالهم، إذا أدوها في بيت المال كتبت لهم بها البراءة فليس عليهم في عامهم ذلك في أموالهم تباعة. وأما المكس فإنه البخس الذي نهى الله عنه فقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1، غير أنهم كنوه باسم آخر. ونرى أن لا يتجر إمام، ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه فإن الأمير متى يتجر يستأثر، ويصيب أمورا فيها عنت وإن حرص على أن لا يفعل. ونرى أن لا يباع عمارة الأرض، فإنما يشترى المشتري لنفسه ويقطع لنفسه، فإنما يصيب من ذلك خراب الأرض وظلم أهلها، وأما من كان من عرب أهل الأرض في غير أرضه وجزيته جارية عليه في أرضه، فليس عليه إلا ذلك وعامل أرضه أولى بتبعته. ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض فإن غايتها أمور يدخل فيها الظلم. ونرى أن ترد المزارع لما جعلت له، فإنما جعلت لأرزاق المسلمين عامة، فإن أمر العامة هو أفضل للنفع وأعظم للبركة.   1 سورة هود الآية 85، والشعراء الآية 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ثم إن مواريث أهل الأرض إنما هي لأوليائهم أو لأهل أرضهم الذين يخرجون الخراج فنرى أن لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكون عاملا فيبعثه الإمام في عمله بالذي يرى عليه من الحق. والسلام عليك1. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد ينصحهم ويبين لهم كيفية تأديب الجهال والعدالة في العقوبة، وعدم التأثر بمن حولهم وأمرهم بالإخلاص لله وحده فقال: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد، أما بعد: "فإنه من بُلي بالسلطان تحضره مكاره كثيرة، وبلايا عظام، إن أغبته يوما فهي حرية أن تحضره في اليوم الآخر، وإنه ليس أحد بأشغل عن نفسه ولا أكثر تعرضا لزيغ من ولي السلطان إلا ما عافى الله ورحم، فاتق الله ما استطعت واذكر منزلك الذي أنت به والذي حملت، فقاتل هواك كما تقاتل عدوك، واصبر نفسك2 عندما كرهت ابتغاء ما عند الله من حسن ثوابه الذي وعد المتقون فيما بعد الموت،والذي وعدكم على التقوى والصبر من النجاة في عاجل الأمر وآجله.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 78-83، وأبو حفص الملاء 1/272-277 باختلاف ألفاظ. 2 لم يتبين لي المعنى ولعل فيه سقطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلى به فرأيت منه سوء رعة1، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له فسدده ما استطعت وبصره وارفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم، كانت نعمة من الله وفضلا، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه، فإن رأيت أنه أتى ذنبا استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك عليه، ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق في قدر ذنبه بالغا ما بلغ، وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها، وإن كان ذنبه فوق ذلك ورأيت عليه من العقوبة في ذلك قتلا فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك، فإنه - لعمري - ربما عاقب الإمام لمحضر جلسائه ولتأديب أهل بلده ولتغامزهم به، وما من إمام له جلساء إلا سيكون ذلك فيهم وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم، إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضاء فإنه قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2.   1 سوء رعة: الرعاع السفلة من الناس. انظر المصباح المنير ص88. 2 سورة هود الآية 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وإن استجهلت فتثبت، وإذا نظر إليك ممن حولك ما أنت فاعل بسفيه من رعيتك إن سفه، وأخطأ حظه فاعمد في ذلك للذي ترى أنه أبرّ وأتقى وخير لك غدا فيما بعد الموت، ولا يطربك نظرهم إليك ولا حديثهم، فإنه لا يبقى في أنفسهم حديث أحبوه ولا كرهوه إلا قليلا إلا أبدوه. فاغتنم كل يوم أخرجك الله فيه سالما، وكل ليلة مضت عليك وأنت فيها كذلك، وأكثر دعاء الله بالعافية لنفسك ولمن ولاك الله أمره، فإن لك في صلاحهم ما ليس لأحد منهم، ولا تبتغ منهم جزاء خير أحسنته إليهم ولا بتسديد سددتهم، ولا تطلب بعمل صالح عملته فيهم جزاء ولا ثوابا ولا مدحة، ولا حظوة، وليكن ذلك لمن لا يعطي الخير ولا يصرف السوء غيره - يعني الله عز وجل - ثم تعاهد صاحب بابك وصاحب حرسك، وعاملك المقيم عندك، والذي تبعث، فلا يعملون في شيء مما تحت يديك بغشم ولا بظلم، وأكثر المسألة عنهم، فمن كان منهم محسنا نفعه ذلك ومن كان منهم مسيئا استبدلت به من هو خير منه. نسأل الله ربنا برحمته وقدرته على خلقه أن يغفر لنا ذنوبنا وأن ييسر لنا أمورنا، وأن يشرح لنا صدورنا بالبر والتقوى، والعمل فيما يحب ويرضى، وأن يعصمنا من المكاره كلها، وأن يجعلنا من الذين لا يريدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 علوا في الأرض ولا فسادا، ومن المتقين الذين لهم العاقبة والسلام عليكم ورحمة الله1. وكتب إلى بعض عماله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان سبب عدم القيام بهما، فقال: "أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده. ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمع فيهم أهل الباطل واستخفي فيهم بالمحارم فلم يظهر من أحد محرّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض (على أهل المعاصي وعلى المداهنين لهم) ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزل من كتابه عند مُثلة أهلك بها أحدا نجى أحدا من أولئك إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يصبهم بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل، والنقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر، وبالظلم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهم إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين أو يجعلنا   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 68- 70، وأبو حفص الملاء 1/268-270 باختلاف ألفاظ وجزء منه لابن الجوزي سيرة عمر ص118 باختلاف كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 مداهنين للظالمين. وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم، وأمن الفساق في مدائنكم، وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عليه، كان لا يظهر مثله في علانية قوم يرجون لله وقارا، ويخافون منه غِيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم ولا بذلك تمت نعمة الله عليهم، بل كانوا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار} 1 {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2، ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، والأبناء، والعشائر وإنما سبيل الله طاعته. وقد بلغني أنه بطَّأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلف، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقا بل أولئك أسوأكم أخلاقا. وما أقبل على نفسه من كان كذلك بل أدبر عنها ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها: إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمره الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.   1 سورة الفتح، الآية 29. 2 سورة المائدة، الآية 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقد ذلت ألسنة كثير من الناس بآية وضعوها في غير موضعها وتأولوا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1. وصدق الله تبارك وتعالى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إذا اهتدينا ولا ينفعنا هدى من اهتدى إذا ضللنا {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. وإن ما على أنفسنا وأنفس أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يظهروا محرما إلا انتقموا ممن فعله منهم من كنتم ومن كانوا. وقول من قال: إن لنا في أنفسنا شغلا، ولسنا من الناس في شيء. ولو أن أهل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذلك ما عمل لله بطاعة، ولا تناهوا له عن معصية، ولقهر المبطلون المحقين. فصار الناس كالأنعم أو أضل سبيلا. فتسطلوا على الفساق من كنتم ومن كانوا فادفعوا بحقكم باطلهم وببصركم عماهم، فإن الله جعل للأبرار على الفجار سلطاناً مبينا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أئمة.   1 سورة المائدة، الآية 105. 2 سورة الأنعام الآية 164، والإسراء الآية 15، وفاطر الآية 18، والزمر الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومن ضعف عن ذلك باليد أو اللسان فليرفعه إلى إمامه، فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، قال الله لأهل المعاصي: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} 1. ولينتهين الفجار أو ليهيننهم الله بما قال: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} 2،3. فهذه كتبه المتتابعة التي كتبها إلى عماله يظهر عند كل واحدة منها لونا من كتابات هذا الخليفة العظيم. فالأول كتاب يظهر فيه صفة الحاكم المنفذ للشرع، والخليفة العادل. والثاني كتاب يظهر فيه صفة الحاكم الموجه، والمؤدب لعماله، والناصح لهم في أعمالهم وما يجابهون من مشاكل الحكم وتحمل التبعة، وكيف تخدم السنة.   1 سورة النحل، الآيتان 45، 46. 2 سورة الأحزاب، الآية 60. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص137- 140، وأبو حفص الملاء 1/294-297. وانظر قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز لمحمد صدقي البورنو ص 585-587. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وأما الكتاب الثالث فهو يبين الخليفة المعلم الداعي إلى الخير والآمر بالمعروف، والقائم بالحجة، الذي له خبرة بأحوال الناس ودوافعهم، وبعلمه يبطل حججهم وبورعه يحذرهم، وينذرهم، وبسلطانه يتوعدهم ويهددهم1. مسخرا الولاية والخلافة لخدمة السنة وأهلها. وقد كان رحمه الله تعالى في ولايته على المدينة النبوية يؤدب أهل الفسق والمجون. فروى ابن عبد البر عن أسامة بن زيد الليثي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرساً يجزون كل شين الهيئة في شعره لم يفرقه2. وكان رحمه الله شديدا في حكمه، فكان يؤدب كل من يظهر بمظاهر لا تليق بالإسلام فإذا وجد رجلا يصفف جمته جلده وحلقه3. ولم يكن عمر بن عبد العزيز يعجب بالغناء فلذا أمر حين تولى الخلافة بنفي الأحوص إلى دهلك4، واستمر هناك طوال خلافة عمر.   1 انظر قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز لمحمد صدقي البورنو ص297. 2 ابن عبد البر: التمهيد 6/17. 3 الأغاني 14/165 4 الأحوص هو عبد الله بن محمد شاعر من الأوس ولد حوالي سنة 40 وتوفى حوالي 105 الأغاني ج4 ص 224 ودهلك جزيرة في بحر القلزم بينها وبين بر اليمن نحو ثلاثين ميلا. انظر معجم البلدان 2/492. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ومن خدمته للسنة وتوظيفه الخلافة لخدمتها ما كتبه إلى عماله من النهي عن الحلف، والعصبية القبلية البغيضة، قال ابن عبد الحكم:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله حين سمع بأن بعض رعيته يتداعون إلى الحلف فقال: "أما بعد، فإن الله جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه، لا يقبل الله دينا غيره، كرَّمه بما أنزل من كتابه الذي فرق به بين الإسلام وبين ما سواه، فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حين بعثه، وأنزل عليه الكتاب حين أنزله، وأنتم معشر العرب فيما قد علمتم من الضلالة والجهالة والجهد، وضنك العيش وتفرُّق الدار، والفتن بينكم عامة، والناس لكم حاقرون مستأثرون عليكم بالدين، وليس من ضلالتهم من شيء إلا وأنتم على مثله، من عاش منكم عاش فيما ذكرت من الجهل والضلالة، ومن مات منكم مات إلى النار. حتى أخذ الله بنواصيكم عما   1 سورة المائدة الآيتان 15و16. 2 سورة الإسراء الآية 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كنتم فيه من عبادة الأوثان والتقاطع والتدابر وسوء ذات البين، فأنكر منكركم، وكذَّب مكذبكم، ونبي الله عليه الصلاة والسلام يدعو إلى كتاب الله وإلى الإسلام، ثم أسلم معه قليل مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم وأيدهم بنصره، وزرقهم الله من أذن له بالإسلام، والدنيا مقبوضة عنه، والله منجزٌ لرسوله موعوده الذي ليس له خلف، فيراه من يراه بعيدا إلا قليلا من المؤمنين فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1، وقال في بعض ما يعده والمسلمين أن قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 2، فأنجز الله لنبيه عليه والصلاة والسلام وأهل الإسلام موعودهم الذي وعدهم، فلم يعطكم الله يا أهل الإسلام ما أعطاكم من ذلك إلا بهذا الذي تفلجون به على خصمكم، وبه تقومون شهداء يوم القيامة، ليس لكم نجاة غيره، ولا حجة ولا حرزٌ ولا منعة في الدنيا والآخرة، فإذا أعطاكم الله منه أحسن يوم وعدتموه فارجوا ثواب الله فيما بعد الموت، فإن الله قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا   1 سورة التوبة الآية 33، والصف الآية 9. 2 سورة النور الآية 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1، وإني أحذركم هذا القرآن وتباعته فإن تباعته وشروطه قد أصابكم منها أيتها الأمة وقائع من هراقة دماء وخراب ديار، وتفرق جماعات، فانظروا ما زجركم الله عنه في كتابه فازدجروا عنه، فإن أحق ما خيف وعيد الله بقول أو بعمل أو غير ذلك، فإن كان بقول في أمر الله فنعما له، وإن كان بقول في غير ذلك فإنما يُفضي إلى سبيل هلكة، ثم إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثا، ظاهر جفاؤهم، قليل علمهم بأمر الله اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسيانا عظيماً، وغيَّروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلُح لهم أن يبلغوه، وذُكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة الله، وأقربهم من كل مهلكة مذلة وصُغُر، قاتلهم الله أيةَ منزلةٍ نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا، ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلق باطلا، أولم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ   1 سورة القصص الآية 83. 2 سورة الحجرات الآية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1، وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالا يتداعون إلى الحلف، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف وقال: "لا حِلف في الإسلام". قال: "وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة"2. فكان يرجوا أحدا من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا، ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً، أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير، وأشهد عليهم الذي هو آخذ بناصية كل دابة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً، مع أني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئا ليؤخذ له به، أو ليدفع عنه، أحرص - والله المستعان - على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء، ثم ليكون أهل البر وأهل الإيمان عوناً   1 سورة المائدة الآية 3. 2 الحديث رواه مسلم برقم 2530 ج 6ص 65 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون. نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام1. ولما سمع بأن نساءً من أهل السفه يقمن بالنياحة على موتاهن، وتحقق في هذا الأمر، كتب إلى عامله في تلك الجهة ما يأتي: أما بعد فإنه ذُكر لي أن نساءً من أهل السفة، والجفاء يخرجن (إلى الأسواق) عند موت الميت، ناشراتٍ رؤوسهن يَنُحن نياحة أهل الجاهلية، ولعمري ما رُخِّص للنساء في وضع خُمْرِهِنّ مذ أُمرن أن يضربن بهن على جيوبهن، فانْه عن هذه النياحة نهيا شديداً، وتقدم إلى صاحب شرطكم فلا يقِرُّ نوحا في دار ولا طريق فإن الله قد أمر المؤمنين عند مصائبهم بخير الأمرين في الدنيا والآخرة، فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2 3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص93، وأبو حفص الملاء 1/280-283 باختلاف ألفاظ. 2 الآيتان 156-157 من سورة البقرة. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص93-94. وابن سعد في الطبقات 5/393، وأبو حفص الملاء 1/183 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المبحث الرابع: أخلاقه رحمه الله تعالى أ- الزهد: إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رجل توَّاق لا ينال شيئاً إلا تاق إلى ما هو أشرف وأعلى مما ناله، فلما وصل إلى الخلافة وهي أعلى منصب دنيوي على الإطلاق تاقت نفسه إلى الآخرة، والعمل بالعدل، فوظَّف الخلافة لنيل سعادة الآخرة، ولا شك أن سلعة الله تبارك وتعالى سلعة غالية لا تنال بالتمني وإنما تنال بالأعمال الصالحة الموافقة لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالتزم أخلاقا فاضلة منها: الزهد، والورع، والتواضع. والزهد في الدنيا هي الصفة التي اشتهر بها نظرا للمحيط الذي كان يعيش فيه، والأشخاص الذين عاصرهم، ولا شك أن الزهد المبني على الكتاب والسنة زهد مشروع مرغب فيه، وهو ترك ما لا ينفع في الآخرة1، ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد بذل ما بوسعه لترك كل أمر لا ينفعه في آخرته فلم يفرح بموجود وهي الخلافة، ولم يحزن على مفقود كما في وفاة ابنه البار عبد الملك أحب الناس إليه، وهذا هو تطبيق نص الآية الكريمة قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ   1 الفوائد لابن القيم 118، ومدارج السالكين 2/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} 1، ولقد شهد له غيره بالزهد في الدنيا، لأن خير الزهد المشروع أن يترك الإنسان ما هو قادر على تحصيله من متاع الدنيا انشغالا بما هو خير في الآخرة ورغبة فيما عند الله عز وجل. قال مالك بن دينار: "الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها"2. ولقد وصف أحد الذين كتبوا عن عمر في العصر الحديث حاله تلك فقال: "إن عمر بن عبد العزيز قد عفّ عن مال المسلمين مع قدرته على استغلاله وإنفاقه كما يشاء، ولم يكن هناك من يستطيع أن يقول له: لم فعلت ذلك؟ وقد منع نفسه عن التمتع بلذائذ الحياة من عيشة هنية رضية، ومتاع دنيوي، وشهوات مباحة، أو غير مباحة لو أرادها لسعت إليه دون أن يسعى لها، ولأكل أطيب الطعام، ولشرب أفضل الشراب، وللبس ألين وأثمن الثياب، ولركب أفره الدواب، ولتزوج وتسرى أجمل وأحلى، وأشرف النساء والجواري، وكل ذلك تحت يديه ورهن إشارته لو أراد3، وقد كان قبل خلافته يأخذ حظه من متاع الدنيا المباح، ولكن لما تولى   1 سورة الحديد الآية 23. 2 انظر: حلية الأولياء 5/257، وابن الجوزي سيرة عمر ص155. 3 انظر: قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز ص145، د: محمد صدقي البورنوط مكتبة المعارف الرياض ط. الأولى عام 1413هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الخلافة كتب إلى عماله أما بعد: فإن هذا الأمر الذي ولاني الله لو كنت إنما أصبحت ورغبتي فيه مطعم، أو ملبس، أو مركب، أو اتخاذ أزواج، أو اعتقاد أموال لكنت قد بلغ الله بي من ذلك قبل ما ولاني من أفضل ما بلغ بعباده. ولكن أصبحت له خائفا، أعلم أن فيه أمرا عظيما وحسابا شديدا، ومسألة لطيفة عند مجاهدة الخصوم بين يدي الله إلا ما عافى الله ورحم ودفع ... "1. قال ابن عبد الحكم: "ولما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه وترك ألوان الطعام فكان إذا صنع له طعام هيئ على شيء، وغطي، حتى إذا دخل اجتذبه فأكل"2. فإذا لا يهمه من الأكل إلا أنه يسد جوعه ويقيم صلبه، ولكن كم كانت نفقته وعياله في اليوم؟ قال سلم بن زياد: "كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين"3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص81-82، وأبو حفص الملاَّء 1/142، وابن سعد الطبقات 5/380، والطبري في التاريخ 5/319، وأبو نعيم الحلية 5/312. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص43. 3 المصدر السابق ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فلعله رحمه الله تعالى كان يتأول ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البُرّ ثلاث ليال تباعا" 1. والواقع أن الزهد الشرعي لا يذم صاحبه، وهذا بخلاف الزهد الذي ابتدعه غلاة الصوفية وغيرهم بحيث لم يلتزموا بحدود الزهد المرغب فيه وهو التوسط في تناول المباحات التي أحلها الله، وأما ما يصل إلى حد الإسراف فهذا منهي عنه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2، فمن أسرف في تناول كل ما يحلو له فقد جانب الزهد المرغب فيه، ومن بالغ في تقتيره على نفسه بحيث امتنع عن تناول الطيبات، والمباحات بقصد الزهد فقد جانب الصواب أيضا، فإن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رده على الثلاثة الذين سألوا عن عمله فتقالوها، فأوجب كل واحد منهم على نفسه تحريم شيء من المباحات، فلما علم صلى الله عليه وسلم بقولهم غضب، وأخبر بأنه يتزوج النساء، ويصوم ويفطر، ويأكل اللحم. ونصوص أخرى كلها تدل على أن الشخص ينبغي عليه أن يكون معتدلا وسطا في مطعمه وملبسه، وكل شئونه، وما روى عن عمر رحمه الله   1 رواه البخاري برقم5416 ومسلم برقم2972. 2 الآية 67 من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 تعالى من الزهد فإنه يحمل على الزهد المرغب فيه الذي لا إفراط ولا تفريط فيه. فلم يزد في مأكله ما يكفيه لقوته فكان غداؤه وعشاؤه صفحة غليظة فيها خبز قد كسر وصب عليه ماء وملح وزيت، هذا في وقت الصباح. أما في العشاء فنفس القصعة فيها ثريد عدس وبصل، وقد اعتذر خادم عمر من خشونة هذا الطعام، فقال: "لو كان لعمر عشاء غيره لعشاكم منه وما فطره إلا على مثل هذا"1. وكما زهد عمر في طعامه فكذلك زهد في لباسه فاقتصر على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولم يكن لباسه لباس شهرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يلبس الخشن من الثياب وقد روى عن أبي بردة، قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبد أو إزاراً غليظا وقالت: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين"2. وقد ذُكر أن عمر بن عبد العزيز - بعد خلافته - كان لا يلبس إلا الخشن من الثياب، يحكى رياح بن عبيدة - وكان تاجرا - قال: كنت أتَّجِر فقال لي عمر بن عبد العزيز: "يا رياح اتخذ لي كساءين خزا أتخذ أحدهما محبسا، والآخر شعارا". قال: ففعلت فصنعتهما بالبصرة فلم آل ثم قدمت بهما، فأمر بقبضهما فلما أصبح غدوت عليه فقال لي: "يارياح ما   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص135. 2 مسلم 5/247-248 برقم 2080. الملبد الذي ثخن وسطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أجود ثوبيك لولا خشونة فيهما". وكان هذا قبل أن يلي الخلافة، فلما وُلّي قال لي: "يا رياح اتخذ لي من هذه الجباب الهروية عامل قطن فيهن صفر. قال: فاشتريت له ثلاث شقق فقطعت من الثلاث جبتين خشنتين ثم أتيت بهما إليه فقبضهما، فقال لي: "يا رياح ما أجود ثوبيك لولا لين فيهما". فقال رياح: فذكرت قوله الأول وقوله الآخر1. ويُحكى كذلك أنه أخّر الجمعة يوما عن وقتها الذي كان يصلى فيه فيقال له: أخرت الجمعة اليوم عن وقتها؟ فيقول: "إن الغلام ذهب بالثوب يغسلها فحبس بها". فعرفنا أنه ليس له غيرها. ويحكى أيضا أنه لم يعد يلبس من الثياب إلا المرقوع حسب ما يرويه سعيد بن سويد: أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، وعليه قميص مرقوع الجيب، من بين يديه ومن خلفه فلما فرغ جلس وجلسنا معه، قال: فقال له رجل من القوم، يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست وصنعت. فنكس مليا حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة2.   1 انظر أبو نعيم في الحلية 5/325، وابن عبد ربه العقد الفريد4/434، وابن الجوزي سيرة عمر ص148. 2 ابن سعد الطبقات 5/42. وسعيد بن سويد قال البخاري: لا يتابع في حديثه. ميزان الاعتدال 2/145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فعمر رحمه الله تعالى كان زاهدا عن الدنيا حسب الروايات التي سبقت، رغبة فيما عند الله واستهانة بأمر الدنيا لأنها زائلة، وربما يريد من وراء ذلك حثَّ غيره من أهل بيته وعماله على الرغبة عن الدنيا، لأن الرغبة الشديدة فيها قد تؤدي إلى قسوة القلوب، وتبعدها عن تذكر الفقراء والمحتاجين، ولا حرج على المسلم أن يلبس أيّ لباس شاء مما يتناسب معه وهو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فعن أبي الأحوص عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني سيء الهيئة فقال: "هل لك من شيء" قال: "نعم من كلٍّ قد آتاني الله". فقال: "إذا كان لك مال فليُرَ عليك"1. وكان عليه الصلاة والسلام يلبس الحلة الجميلة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحدا من الناس أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "2. ولم يسكن رحمه الله تعالى القصور الشاهقة المفروشة بأنواع المفارش الوثيرة، وإنما كان قدوته وقائده سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يضع   1 سنن النسائي 4/196. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 3/1072، ط. المكتب الإسلامي. 2 الشمائل المحمدية للترمذي ص36، تعليق وإشراف عزت عبيد الدعاس ط. دار الحديث بيروت. الطبعة الثالثة عام 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لبنة على لبنة حتى خرج من الدنيا، وهكذا كان عمر في خلافته رحمه الله تعالى، فقد كانت لعمر مرقاتان يرقى من صحن داره إلى مقر بيته عليهما، فانقلعت إحدى المرقاتين، فأتاها رجل من أهل بيته فأصلحها كراهية أن يشق على عمر، فلما جاء عمر ونظر إليها قال: "من صنع هذا؟ قالوا: فلان. قال: علي به. فلما جاء قال: "ويحك يا فلان أنفست على عمر أن يخرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة؟ والله لولا أن يكون فساد بعد إصلاح لغيرتها إلى ما كانت عليه"1. وحتى هذه الدار المذكورة إنما ورثها عن والده عبد العزيز بن مروان، وهي الملاصقة للجامع الأموي، ويبدو أنها كانت دارا متواضعة بدليل أن المصادر لم تذكر وصفا لها لكونها كباقي بيوت العامة في ذلك الوقت، ولو أنها كانت أكثر من ذلك لحظيت بوصف المؤرخين لها.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 136، وانظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص59، وذكر أبو حفص الملاء أن لعمر بيتا متواضعا يسكن فيه في دير سمعان انظر: أبو حفص الملاء 1/394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وقد ظل عمر في منزله هذا بعد أن أفضت الخلافة إليه إلا أنه بدلا من زيادة طنافسه وستوره، ورياشه جرده من كل ما فيه منها وحتى ثيابه وعطره باعها، ووضع ثمنها في بيت المال1. ومن زهده رحمه الله تعالى ترك مظاهر البذْخ والإسراف التي سادت قبله، فكان أول ما أنكره الناس منه أنه لما غُسل سليمان بن عبد الملك وكُفن، وصلي عليه ودُفن، أتي بمراكب الخلافة وهي البراذين، والخيل، وكان لكل دابة سائس فقال عمر: ما هذه؟ فقالوا له: مراكب الخلافة لم تركب من قبل، يركبها الخليفة عند ما يلي، فقال عمر: "ما لي ولها نَحُّوها عني، بغلتي أوفق لي". فأتوه بدابته فركبها، وقفل راجعا بعد ما أمر مزاحما مولاه بضم تلك المراكب والسرادقات والحجر التي لم يجلس فيها أحد قط، والتي جرت العادة أن تضرب للخليفة - أول ما يولَّى- إلى بيت المال2.   1 انظر تهذيب الاسماء واللغات 1/307، وابن عبد الحكم ص124، وابن عساكر مجلد 10 ورقة 194/أ، وانظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص58، وابن كثير البداية والنهاية 5/62. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص33، وابن كثير البداية والنهاية 5/198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ثم أمر بستور دار الخلافة فهتكت وبالبسط فرفعت وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين1، وهكذا فعل بالجواري والعبيد حيث رد الجواري إلى أصحابهن إن كن من اللاتي أخذن بغير حق، ووزع العبيد على العميان وذوي العاهات، وحارب كل مظاهر الترف والبذخ، والإسراف. ولم يكن عمر رحمه الله يسعى هذا السعي الحثيث طلبا للجاه والمنزلة والشهرة وإنما كان يطلب من وراء ذلك كله مرضاة الله عز وجل فقد زهد في الخلافة، فحينما بويع قام على الناس2 خطيبا فقال: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص124، وأبو حفص الملاء 1/142-143، وابن سعد الطبقات 5/341-342. 2 سبق أن ذكرنا أن عمر كان يقول: إن لي نفسا تواقة ومن ضمنها رغبته في الخلافة وهذه الرغبة يظهر أنها كانت موجودة لديه قبل أن تتحقق له الوصول إلى الخلافة فلما رأى الجد في توليها أحسّ بثقل وعبء القيام بحملها فخير الناس. 3 الآجري: أخبار أبي حفص ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فصاح الناس صيحة واحدة، قد اخترناك يا أمير المؤمنين فَلِ أمرنا باليمن والبركة1. وأما ما قيل عن زهده بالنسبة للنكاح2 فقد روى ابن عبد الحكم فقال: "وقالت فاطمة زوجته ما اغتسل من جنابة منذ ولي حتى لقي الله غير ثلاث مرات، ويقال: ما اغتسل من جنابة حتى مات"3. فعلى فرض صحة هذه الرواية عن فاطمة زوجته فإنها تتحدث عما حدث لها معه بعد الخلافة وقد كان لعمر زوجات ثلاث غيرها ذكرناهن فيما سبق، فتَوُجَّهُ هذه الرواية على ما علمته فاطمة عنه رحمه الله، ولاشك أن الزواج مرغب فيه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حث القادرين على الزواج بالتزوج فقال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"4، وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... " 5، وعاب صلى الله عليه وسلم الذين يتركون النكاح وهم قادرون عليه وبين أن ذلك من الرهبانية المذمومة   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص50، وابن الجوزي سيرة عمر ص58، وابن كثير ابن كثير البداية والنهاية 5/202. 2 قد يطلق النكاح ويراد به الجماع فلعله زهد عنه لانشغاله بأمور الخلافة والله أعلم. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص50. 4 سنن النسائي 3/66، ط. دار الفكر عام 1930م وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/386، وقال حسن صحيح. 5 البخاري مع الفتح 9/106رقم (5165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 التي نهينا عنها1، وعلاوة على هذا فإنه قد ورد عن فاطمة نفسها رواية أخرى ذكرها الفسوي بسنده عن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع القرشي: أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك وقال لها: ألا تخبريني عن عمر؟ فقالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة، ولا من احتلام منذ استخلفه الله حتى قبضه2، فصرحت في هذه الرواية على ما علمته منه، فقط ولا يمنعه من أن يتمتع بغيرها من نسائه البواقي، بل قد صرحت بأنه قد اغتسل ثلاث مرات حسب علمها، ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز من أشد الناس حبا للسنة وتطبيقا لها، والزواج من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فيستبعد منه رحمه الله أن يترك السنة ويمنع نفسه من المباح الذي أحله الله له، ولا داعي في رأيي لما قام به بعض الباحثين3 من دفاع عن عمر فيما يخص الرواية السابقة، فإن ترك الزواج وتحريم ذلك لا علاقة له بالزهد الإسلامي الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دخيل على المجتمع المسلم، وهو مما تفتخر به بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام وتدعي أنه من الزهد الإسلامي، ولهم في ذلك حكايات لا يشك من تأملها أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة, فمن ذلك أن   1 انظر البخاري مع الفتح 9/104رقم (5163) . 2 الفسوي المعرفة والتاريخ 1/584. 3 انظر قدوة الحكام المصلحين عمر بن عبد العزيز ص138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أحدهم تزوج امرأة فبقيت عنده على الزهد ثلاثين سنة وهي بكر1، كما أن آخر منهم تزوج أربعمائة امرأة ولم يجامع واحدة منهن2، وآخر تزوج ابنة شيخه فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها حياءً من والدها، ومات عنها وهي بكر3. ولهم في ذلك وصايا عجيبة، وتوجيهات غريبة، فمن أقوالهم: - من ترك النساء والطعام فلا بد له من ظهور كرامة. - من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته ... فاحذروا من التزويج. - لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب. - من تعود أفخاذ النساء لا يفلح. - من تزوج فقد ركن إلى الدنيا 4. إلى غير ذلك كثير. وهذا المفهوم أيضا يخالف الإسلام ومثله باعتباره دين توسط واعتدال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد التبتل وترك الزواج: "فمن رغب عن   1 انظر اللمع ص264 لأبي نصر السراج. ط. دار الكتب الحديثة القاهرة عام1960م. 2 انظر تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص241. 3 انظر الأخلاق المتبولية للشعراني 3/979. 4 انظر الطبقات للشعراني 1 / 34 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 سنتي فليس مني" 1. وجملة القول أن هذا الزهد الذي تحدث عنه هذه الفرقة المنحرفة بعيد كل البعد عن الزهد الذي عرفه السلف الصالح ومن سار على نهجهم. ب - الورع: ومن أخلاق أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أيضا "الورع"، والورع هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل المحرمات، والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه، ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه2. فالورع المشروع من نوع التقوى الشرعية، وهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه3؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات   1 البخاري مع الفتح 9/104. 2 انظر مجموع الفتاوى 10/615. 3 انظر المصدر السابق 20/137- 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في رواية: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس" 3، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى على فراشه تمرة فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها" 4. وهذه الأدلة كلها تدل على أن على المسلم أن يتورع عن الشبهات قدر استطاعته، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله   1 البخاري مع الفتح4/290،برقم (2051) ، ومسلم 4/207-208،برقم (1599) ولفظه هناك قريب من اللفظ هنا. 2 ذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم 4/291 باب تفسير المشبهات، وقال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئا أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. ورواه الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. انظر سنن الترمذي 4/576-577، وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. 3 مسلم بشرح النووي 6/86-87، رقم (2553) ، ولفظه: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وليس فيه لفظ: "وإن أفتاك الناس" وإنما ورد ذلك عند الإمام أحمد في مسنده (رقم17540، 17545) والدارمي في سننه (رقم 2533) . 4 البخاري مع الفتح 4/293، رقم (2055) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تعالى لا سيما بعد تسلمه الخلافة لأنه رأى أن هذه المشتبهات تشبه الحرام، فقد تكون سببا للوقوع في المحذور المقتضي للعذاب الأليم في الآخرة فتورع عنها. ومن أمثلة ذلك: أنه رحمه الله تعالى ما كان يقبل أي هدية من عماله أو من أهل الذمة خوفا من أن يكون ذلك من باب الرشوة، فروى ابن الجوزي عن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فقال: لو كانت لنا - أو عندنا - شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب الطعم. فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحا. فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه، ارفعه يا غلام، فأقرئ فلانا السلام وقل له: إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب. فقلت يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. قال: ويحك؟ إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية وهي لنا اليوم رشوة1. وعن ميمون بن مهران قال: أهدي إلى عمر بن عبد العزيز تفاحا وفاكهة فردها وقال: لا أعلم أنكم بعثتم إلى أحد من أهل عملى شيئا"   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية؟ قال: بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة1. وعن فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فطلب له فلم يوجد فركب وركبنا معه، فتلقاه غلمان من الديارنة2 بأطباق منها تفاح فوقف على طبق منها فتناول منه تفاحة فشمها ثم أعادها في الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم، لا أعلم أنكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء. قال: فحركت بغلتي فلحقته، فقلت: يا أمير المؤمنين: اشتهيت التفاح، وطلب لك فلم يوجد، ثم أهدي إليك فرددته، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يقبلون الهدية؟ قال: إنها كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما هدية، وللعمال بعدهم رشوة3. ويبلغ بعمر الورع أنه لا يرى لنفسه أن تشم رائحة مسك أتته من أموال المسلمين، فروى ابن الجوزي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن رياح بن عبيدة، وأبي سنان، عن عمر بن عبد العزيز أنه   1 نفس المصدر ص197. 2 لعل المقصود بالديارنة: سكان الدير. 3 ابن الجوزي سيرة عمر ص198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وضعت بين يديه مِسْكة عظمية فأخذ بأنفه، فقيل يا أمير المؤمنين إنما هو ريح قال: وهل ينتفع منها إلا بريحها1. وكما تورع في طعامه وشهوته وحتى حواسه التي لا يقدر على دفع ما يدخل فيها إلا بشق الأنفس، تورع أن يرى لنفسه حقا في دواب المسلمين التابعة لبيت مالهم أن يستعملها وإن استعملها أهله بدون معرفة منه دفع الثمن إلى بيت المال، فروى ابن الجوزي، عن رياح بن عبيدة كان عمر بن عبد العزيز يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوما عسلا، فلم يكن عندهم، فأتوه بعد ذلك بعسل فأكل منه فأعجبه فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد فاشتراه لي فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به فأتته بعُكَّة2 فيها عسل، فباعها بثمن يزيد ورد عليها رأس المال وألقى بقيته في بيت مال المسلمين، وقال: أنصبتِ دواب المسلمين في شهوة عمر؟ 3. وللمسلم أن يأخذ بالرخص التي أباحها الشرع للحاجة والضرورة، ولكن عمر رحمه الله لا يأخذ على نفسه إلا بالعزائم، ففي الشتاء البارد   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص200، وابن أبي الدنيا كتاب الورع ص 74 وقال محقق الكتاب إسناد الأثر حسن. 2 الْعُكَّة: بالضم: آنية السمن، أصغر من القربة. القاموس المحيط ص1225. 3 ابن الجوزي سيرة عمر ص196، وانظر ابن أبي الدنيا كتاب الورع ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والبرد القارس، احتاج عمر إلى من يسخن له الماء ليوم الجمعة قيل له ياأمير المؤمنين ما عندنا عود حطب. قال: فذهبوا بالقمقم1 إلى مطبخ المسلمين. قال: ثم جاءوا بالقمقم فقالوا هذا القمقم يا أمير المؤمنين وهو يفور فقال: ألم تخبروني أنه ليس عندكم حطب؟ لعلكم ذهبتم به إلى مطبخ المسلمين؟ قالوا: نعم. قال ادعوا لي صاحب المطبخ. فلما جاء قال له: قيل لك هذا قمقم أمير المؤمنين فأوقدت تحته؟ قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أوقدت تحته عودا واحدا، وإن هو إلا جمر لو تركته لخمد حتى يصير رمادا. قال بكم أخذت الحطب: قال: بكذا. قال: أدوا إليه ثمنه2. واحترز عن استعمال أموال المسلمين العامة فكان يسرج السراج من بيت المال إذا كان في حاجة المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه الخاص به من ماله الخاص3. ويحترز عمر ويتورع عن كل شيء مهما قل إذا كان من حق غيره، يتبين لنا ذلك في القصة التالية، فروى الفسوي عن فرات بن مسلم قال:   1 القمقم إناء من نحاس أو فخار يستقى به ويستعمل للوضوء وغيره انظر لسان العرب 12/495. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص199، وانظر ابن أبي الدنيا كتاب الورع ص124، وقال محقق الكتاب إسناد الأثر حسن. 3 انظر الفسوى: المعرفة والتاريخ ص579 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كنت أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة، فعرضتها عليه فأخذ منها قرطاسا قدر شبر أو أربع أصابع بقي، فكتب فيه حاجة له. فقلت غفل أمير المؤمنين. فلما كان من الغد بعث إلي أن تعال وجئ بكتبك، فجئته بها، فبعثني في حاجة، فلما جئت قال: ما آن لنا أن ننظر كتبك بعد. قلت: لا، إنما نظرت فيها أمس. قال خذها حتى أبعث إليك. فلما فتحت كتبي وجدت قرطاسا قدر قرطاسي الذي أخذ1. واشتهى يوما اللحم فأرسل غلامه بقطعة يشويها ليأكل فيقيم بذلك أوده، فرجع الغلام بها سريعا، فقال له عمر: "أسرعت بها؟ قال شويتها في نار المطبخ وكان للمسلمين مطبخ يغديهم فيه ويعشيهم. فقال لغلامه: كلها يا بني فإنك زرقتها ولم أرزقها2. فتورع عن أكلها لأنها شويت في مطبخ المسلمين، وتركها لغلامه ليأكلها، وهو واحد من الرعية، له حق في مطبخ العامة رحمه الله. وهناك أمثلة أخرى يذكرها المؤرخون لورع عمر بن عبد العزيز رحمه الله كلها تدل على مدى اتصاف هذا الخليفة الراشد بصفة الورع، وحبه له، أملاً فيما عند الله حيث اعتبر أن البعد عن أموال المسلمين حتى   1 ابن سعد الطبقات 5/377. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص199-200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 في الأشياء اليسيرة القليلة هو من باب الابتعاد عن الشبهة، فكان بعيدا عن الشبهات احتياطا لدينه. وذلك أن الأمور ثلاثة كما قال هو بنفسه: 1- أمر استبان رشده فاتبعه. 2- وأمر تبين خطؤه فاجتنبه. 3- وأمر أشكل عليك فتوقف عنه1. ومن المهم الإشارة إلى أن شيخ الإسلام قد بين أن الغلط يقع في الورع من ثلاث جهات: 1- أحدها: اعتقاد كثير من الناس أن الورع من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا يبتلي به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الدرهم فيه شبهة: لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل جهة التكليف ونحو ذلك.   1 ابن عبد ربه العقد الفريد 4/397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج، والروافض والمعتزلة 1، ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم، وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة، والحج والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة. 2- الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب، والمشتبه، وترك المحرم، والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم، لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى} 2 وهذا حال أهل الوسوسة في النجاسات: فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين، وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر   1 مجموع الفتاوى 20/140. 2 الآية 23 من سورة النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة. وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع1، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا 2. وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب: ... فيحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة، والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله أهل البدع من الخوارج والروافض، وغيرهم. 3- الجهة الثالثة: جهة المعارض الراجح: هذا من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع، ولا يلحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح، وبالعكس. فهذا هذا وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوّتوه   1 مجموع الفتاوى 20/ 140-141. 2 مسلم بشرح النووي 6/168، برقم (2670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب1. وقد نقلنا بيان هذه الجهات الثلاث بطولها لأهميتها، ولكون أكثر المتورعين الذين عندهم قلة علم، وفقه بالكتاب والسنة، يقعون فيها كلها، أو في بعضها بدون قصد أحيانا، أو سوء فهم أو غير ذلك من المعوقات. ج - تواضعه من صفات أمير المؤمنين عمر رحمه الله عند تولِّيه الخلافة خلق "التواضع"، ولا شك أن التواضع صفة حميدة، تحبب المرء الذي يتخلق بها إلى الناس، وتعظمه في نفوسهم، وتجعل منه ملء العيون والقلوب، والناس يعشقون قرب المتواضع ويتمنون لقاءه، ويستأنسون بحديثه، ويتفانون في خدمته، ولذا كان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز محببا إلى النفوس، وقد حث القرآن الكريم والسنة على التواضع فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} 2   1 انظر مجموع الفتاوى 20/141-142. 2 الآية 63 من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أي يمشون بسكينة ووقار متواضعين ... " 1. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"2. وكان السلف الصالح متواضعين لله تعالى أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى متخلقا بخلق التواضع، ولين الجانب، حسب الروايات التي نقلت هذه الخصلة الحميدة عنه فمنها: 1- ما رواه ابن سعد بسنده: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا سمر في أمر العامة أسرج من بيت مال المسلمين وإذا سمر في أمر نفسه أسرج من مال نفسه. قال فبينما هو ذات ليلة إذ نعس السراج فقام إليه ليصلحه فقيل له: يا أمير المؤمنين إنا نكفيك. فقال: "أنا عمر حين قمت وأنا عمر حين جلست" 3.   1 مدارج السالكين 2/340، طبعة دار الكتب العلمية بيروت عام 1408هـ. الطبعة الثانية. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 6/323، برقم (2865) [64] . 3 ابن سعد الطبقات 5/399، والفسوى المعرفة والتاريخ 1/577-578، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومنها ما رواه الفسوي: قال حدثني حرملة، أخبرني وهب، قال: حدثني الليث أن أبا النضر حدثه. قال: دسست إلى عمر بن عبد العزيز بعض أهله، أن قل له، إن فيك كبرًا، وأنه يتكبر. فقيل ذلك، فقال عمر: قل له لبئست ما ظننت إن كنت تراني أتوقى الدينار والدرهم مراقبة الله فأنطلق إلى أعظم الذنوب فأركبه، الكبرياء إنما هو رداء الرحمن، فأنازعه إياه ... ؟! "1. ومن تواضعه أنه يخدم نفسه، بل يخدم جميع المسلمين عبيدهم وإمائهم، بل يصل تواضعه إلى أن يخدم جاريته، روى ابن الجوزي قال: حدثنا النضر بن سهيل، عن أبيه، قال: قال عمر بن عبد العزيز لجارية له: ياجارية روِّحيني، فأقبلت تروِّحه، فغلبتها عيناها فنامت، فأخذ المروحة وأقبل يروِّحها، فانتبهت فصاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحرِّ ما أصابني، وأحببت أن أروحك مثل الذي روَّحتني2. وكان عمر إذا دخل بيته يخدم أهله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، جاءت امرأة من العراق فدخلت على زوجته فاطمة، فجاء عمر فأقبل حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار، فانتزع منها دلاء صبَّها على طين، كان بحضرة البيت، وكان يكثر النظر إلى فاطمة فقالت لها   1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/581-582. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المرأة استتري من هذا الطيان فإني أراه يديم النظر إليك فقالت: ليس هو بطيان هو أمير المؤمنين ... "1. ولم يكن - رحمه الله - تعالى يحب مظاهر التكبر والاحترام الزائد، والغلو في الأمور، وإنما كان أموره كلها متوسطة، لا إفراط فيها ولا تفريط. ولذلك كان ينهى حراسه أن يقوموا إجلالاً له وأن يبدأوه بالسلام، فروى ابن عبد الحكم قال: وكان عمر ابن عبد العزيز يتقدم إلى الحرس إذا خرج عليهم أن لا يقوموا إليه ويقول لهم: لا تبتدأوني بالسلام إنما السلام علينا لكم2. كما أذن عمر في إباحة دخول المظلومين عليه بغير إذن3، ولا طلب، وإنما يكفي المظلوم أن يقوم بالدخول متى وجد فرصة ليتظلم، وليأخذ حقه فالضَّعيف عنده قوي حتى يأخذ حقه، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه. ولتواضعه لم يكن يستنكف أن يجلس إليه أحد من عبيده، ولا يريد من أحد منهم أن يتهيَّب في الجلوس إليه، يجلس على الأرض، ويأبى أن يتميز على الناس بمركب أو مأكل أو مشرب، أو ملبس، وكان ينكر   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص149. 2 المصدر السابق ص40. 3 المصدر السابق ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ذاته، دخل عليه رجل فقال له يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زينا وأنت زين الخلافة وإنما مثلك كما قال الشاعر: وإذا الدر زان حسن وجوه ** كان للدر حسن وجهك زينا. فأعرض عنه عمر1. وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا. ودخل عليه رجل وهو في ملإ من الناس، فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: عم بسلامك.2   1 أبو نعيم في الحلية 5/329. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المبحث الخامس: فضائله رحمه الله تعالى الخليفة عمر بن عبد العزيز صاحب فضائل مأثورة ومناقب جمة، ولا شك أنه من فضلاء التابعين الذين نص الحديث الصحيح بأنهم خير القرون بعد الصحابة حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم1 ... " الحديث، علاوة على هذا فقد انفرد بفضائل من أهمها ما يلي: 1- كونه من الخلفاء العدول، والعدل أساس الملك، وقد مدحه الله في عدة آيات منها ما يأتي: قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. وقال عز وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 3. وقال عليه الصلاة والسلام: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل ... " 4.   1 البخاري مع الفتح 7/3، رقم (3651) . 2 الآية 8 من سورة الممتحنة. 3 الآية 29 من سورة الأعراف. 4 البخاري 2/143،رقم (660) ، ومسلم 3/99، رقم (1031) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فهذه النصوص تبين لنا أهمية العدل، وبعضها نصت على فضيلة الإمام العادل وقد كان عمر بن عبد العزيز متصفا بالعدل في الرعية حتى مع أهل الملل الأخرى، كما حدث له مع نصارى دمشق بشأن الجامع الأموي1، ولم يقتصر عدله بين رعيته من الناس. فقد كان رحيما محبا للعدل حتى مع الدواب، فقد روى أبو نعيم أنه كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغلة له، وكان يأتيه كل يوم بدرهم، فجاءه يوما بدرهم ونصف، فقال: من أين لك هذا؟ قال الغلام: نفقت السوق قال لا، ولكنك أتعبت البغل أرحه ثلاثة أيام2. ولحرصه على العدل وتطبيق نصوص الكتاب والسنة، والاقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم بدأ بنفسه وبأهله فأخرج كل ما بيده من الأموال، وردها إلى بيت المال. وكذلك فعل مع قرابته من بني أمية، ثم رد   1 انظر البداية والنهاية 5/169، وذلك أن النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز طلبوا منه أن يعقد لهم مجلسا في شأن مكان أخذه منهم الوليد بن عبد الملك، وكان عمر عادلا فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه منهم الوليد فأدخله في الجامع ثم حقق عمر القضية. ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة فخيرهم عمر بين رد ما سألوه وتخريب هذه الكنائس كلها أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفسا للمسلمين بهذه البقعة فاتفقوا بعد ثلاثة أيام على بقاء الكنائس فكتب لهم أمان بها. البداية والنهاية لابن كثير 5/170. 2 أبو نعيم في الحلية 5/260، وابن الجوزي سيرة عمر ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المظالم التي كانت قد أخذت، حتى إنه كان يرد المظلمة بدون شهود إذا تأكد من وجودها، كما تنازل عن فدك لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج عن كل الإقطاعات والصفايا وردها إلى بيت المال، وكان يتدرج في هذه الأمور كلها فقد سأله ابنه البار "عبد الملك": لماذا لا يمضى لما يريد من العدل؟ فأجابه عمر: يا بني إنما أُروِّض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه. وكان يؤلف الناس بالعطايا حتى يقبلوا الحق الذي يريده منهم، فعن هشام بن عبد الملك قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً1. والتدرج في الأمور من سنن الله تعالى ثم إنه من سنن رسله عليهم الصلاة والسلام واستعماله هذا التدرج يُعَدُّ من عمق فقهه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه وإخلاصه رحمه الله. 2- ومن فضائله رحمه الله تعالى ما ذكره بعض أهل العلم من أنه هو المجدد للقرن الأول، وهو المقصود بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" 2.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص136- 137. 2 سنن أبي داود 4/480، والحاكم في المستدرك 4/522-523 وصححه ووافقه الذهبي، وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني. انظر صحيح سنن أبي داود 3/809. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالما عاملا، همه كله وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن، ونصر صاحبها، وإماتة البدع، ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنان، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ولم يسلم بتوفر جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل ... 1. 3- ومن فضائله رحمه الله تعالى ما ذكره ابن عبد الحكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رؤيا ثم استيقظ وقال: "إن من ولدي رجلا بوجهه أثر يملأ الأرض عدلا"2. ولا شك عمر بن الخطاب قد خص بالذكر في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر ... " 3.   1 البخاري مع الفتح 13/295. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص20. 3 البخاري مع الفتح 7/42، برقم (3689) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال الحافظ ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات"1. ولعل هذه الرؤيا مما وقع له من إصابات بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد وردت هذه الرؤيا عند ابن سعد في الطبقات، فروى بسنده قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي ثم القرشي2، حدثنا محمد بن عمر بن أبي شميلة3 عن جويرية بن أسماء4، عن نافع5، قال: قال عمر بن الخطاب: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جورا6.   1 البخاري مع الفتح 7/51. 2 ثقة جواد رمى بالقدر ولم يثبت. التقريب ص374. 3 محمد بن عمر بن أبي شميلة لم أجده. 4 جويرية بن أسماء بن عبيد بن مخارق الضبعي صدوق التقريب ص143، وانظر الجرح والتعديل 2/531. 5 نافع أبو عبد الله مولى ابن عمر ثقة فقيه مشهور. التقريب ص559. هذا الإسناد فيه محمد بن عمر بن أبي شميلة لم أقف له على ترجمة ... وفيه انقطاع أيضا بين نافع وعمر رضي الله عنه. 6 ابن سعد الطبقات 5/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يحدث بهذا كثيرا، ولعله مما حفظه عن أبيه عمر فقال ابن سعد: أخبرنا سليمان بن حرب1، قال: حدثنا المبارك بن فضالة2، عن عبيد الله بن عمر3، عن نافع، عن ابن عمر: قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا4. وقال: أخبرنا يزيد بن هارون عن الماجشون عن عبد الله بن دينار5، قال: قال ابن عمر: إنا كنا نتحدث أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يلي هذه   1 سليمان بن حرب الأزدي الواشحي بمعجمة ثم مهملة البصري قاضي مكة ثقة إمام حافظ. التقريب ص250. 2 المبارك بن فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوى. التقريب ص519. 3 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، المدني، أبو عثمان ثقة ثبت قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع. التقريب ص373، قلت: إسناده ضعيف لعنعنة مبارك وهو مدلس من المرتبة الثالثة. 4 ابن سعد الطبقات 5/331. 5 يزيد بن هارون بن زازان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد. تقريب ص 606. والماجشون هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بكسر الجيم بعدها معجمة مضمونة المدني نزيل بغداد مولى آل الهدير ثقة فقيه مصنف. التقريب ص 357، وعبد الله بن دينار العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن = المدني مولى ابن عمر ثقة من الرابعة. التقريب ص302. رجاله ثقات، وصححه النووي في تهذيب الأسماء واللغات 2/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الأمة رجل من ولد عمر يسير بسيرة عمر فيها بوجهه شامة قال: فكنا نقول هو بلال بن عبد الله بن عمر، وكانت بوجهه شامة. قال: حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب1. فيستأنس بما سبق من الآثار أنه رحمه الله تعالى كان مجددا لما توفر فيه من صفات تجعله خليقا بهذا الوصف. وتوجد نصوص وآثار عن عدة من فضلاء التابعين تجعل عمر بن عبد العزيز هو المهدي المنتظر، فروى ابن سعد قال: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي2، قال: أخبرنا عبد الجبار بن أبي معن3، قال: سمعت سعيد ابن المسيب4، وسأله رجل فقال: يا أبا محمد من المهدي؟ فقال له سعيد: أدخلت دار مروان؟ قال: لا. قال: فادخل دار مروان تر المهدي! قال: فأذن عمر بن عبد العزيز للناس، فانطلق الرجل حتى دخل دار مروان   1 ابن سعد الطبقات 5/331. 2 عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي أبو علي البصري صدوق لم يثبت أن يحيى بن معين ضعفه من التاسعة. مات سنة 209. التقريب ص373. 3 عبد الجبار بن أبي معن لم أجده. 4 سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار. التقريب ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فرأى الأمير، والناس مجتمعين، ثم رجع إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا محمد دخلت دار مروان فلم أر أحدا أقول هذا المهدي. فقال له سعيد بن المسيب - وأنا أسمع-: هل رأيت الأشج عمر بن عبد العزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم. قال: فهو المهدي1. قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثني مسلمة أبو سعيد، قال: سمعت العزرمي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: النبي منا، والمهدي من بني عبد شمس، ولا نعلمه إلا عمر بن عبد العزيز، قال: وهذا في خلافة عمر بن عبد العزيز2. قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثني أبو بكر بن الفضل بن المؤتمر العتكي، قال: حدثني أبو يعفور، عن مولى لهند بنت أسماء قال: قلت لمحمد بن علي: إن الناس يزعمون أن فيكم مهديا فقال: إن ذاك كذاك، ولكنه من بنى عبد شمس. قال: كأنه عني عمر بن عبد العزيز3.   1 ابن سعد الطبقات 5/333، فالأثر ضعيف لوجود هذا المجهول عبد الجبار بن أبي معن ومتنه لا يستقيم لأن المهدي المنتظر يكون في آخر الزمان ثم إن المسألة توقيفية لا رأي لأحد فيها. 2 ابن سعد الطبقات 5/333. وأحمدبن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميمي اليربوعي الكوفي ثقة حافظ. تقريب ص81. ومسلمة أبو سعيد هو مسلمة بن عُلَيِّ الخشني بضم الخاء وفتح الشين المعجمة ثم نون أبو سعيد الدمشقي البلاطي، متروك من الثامنة. والتقريب ص531. والعزرمي هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان بن ميسرة العزرمي صدوق له أوهام. التقريب ص494، ويمكن أن يكون هو عبد الملك بن أبي سليمان بن يسرة العزرمي صدوق له أوهام. التقريب ص363. ومحمد بن علي بن الحسين الباقر ثقة فاضل. التقريب ص497. فالأثر ساقط لوجود المتروك ومتنه يحتاج إلى نص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. 3 ابن سعد الطبقات 5/333، ومسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري ثقة مأمون مكثر. التقريب ص529. وأبو بكر بن الفضل العتكي قال عنه أبوحاتم: شيخ. انظر الجرح والتعديل9/341-342. وأبو يعفور الثقفي الكوفي لا بأس به. انظر الجرح والتعديل 9/460، ومولى هند بنت أسماء مبهم. فالأثر ضعيف، ويحتاج متنه إلى توقيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فلو صحت هذه الآثار عن هؤلاء الفضلاء لأمكن حملها على أن مقصودهم بذلك أن عمر بن عبد العزيز من ضمن الأئمة المهديين الذين جاء الحديث الصحيح بذكرهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر قائما حتى يلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش"1. أما أن يكون المقصود بها أن عمر بن عبد العزيز هو المهدي المنتظر الذي يأتي في آخر الزمان، فهذا مردود، لأن المهدي المنتظر يكون خروجه قريبا مع نزول عيسى عليه السلام، وهو من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون اسمه موافقا لاسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، وكذلك أنه يأتي في   1 صحيح مسلم 4/520- 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقت، والمسلمون بدون حاكم إلى آخر صفاته التي لا تنطبق على عمر بن عبد العزيز اللهم إلا إذا أريد بالمهدي بمعنى المجدد، فهذا لا حرج فيه. والله أعلم. 4- ومن فضائله رحمه الله تعالى أنه كان مستجاب الدعاء، فروى ابن عبد الحكم أن ابن الريان كان سيافا للوليد بن عبد الملك، فلما ولي عمر الخلافة قال: إني أذكر بأوه1، وتيهه، ثم قال: اللهم إني قد وضعته لك فلا ترفعه" فما رئي شريف قد خمد ذكره مثله حتى لا يذكر2. وعمر رحمه الله تعالى لم يدع عليه هنا لأمر شخصي أو خلافي كان قد نشأ بينهما فيما سبق وإنما دعا عليه لتيهه، وتكبره على الخلق، وظلمه، وغشمه، واعتدائه على الناس، وعمر العادل تكره نفسه مثل هذه النفوس فأجاب الله دعاءه. وقد دعا عمر رحمه الله تعالى حين حج فأخبر قبل دخوله إلى مكة بقلة الماء فيها، فدعا عند ذلك فأجاب الله دعاءه. فسقوا وهذا حين كان أميرا على المدينة3، كما دعا على غيلان القدري حين   1 بأْوَه: قال ابن فارس: والهمزة والواو كلمة واحدة: وهو العجب. انظر معجم مقاييس اللغة 1/328. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص30. 3 ابن كثير البداية والنهاية 5/83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ناظره فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا، وإلا فاصلبه، فصلب بعد في خلافة هشام بن عبد الملك1. 5- ومن فضائله رحمه الله ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم في النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء، ثم يكون خلافة على منهاج النبوة تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". قال: فقدم عمر يعني ابن عبد العزيز ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث وكتبت إليه - الكاتب هو حبيب بن سالم أو داود الواسطي - إني أرجوا أن يكون أمير المؤمنين بعد الجبرية قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسُرَّ به وأعجبه2. وكذلك من فضائله كثرة الخيرات في خلافته فكانت مدة ولايته ثلاثين شهرا تقريبا وما مات حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم فيقول:   1 انظر الآجرى الشريعة 1/438. 2 البيهقى دلائل النبوة 6/ 492.والحديث أخرجه الطيالسي ج 1 ص 350 وقال محقق الكتاب: إسناده حسن انظر مسند الطيالسي تحقيق الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي ط هجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 اجعلوا هذا المال حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله وقد أغنى عمر الناس1. وهناك فضائل ذكرها العلماء لعمر بن عبد العزيز وهي مبالغ فيها جدا فلا فائدة في ذكرها لظهور ضعفها وكون أكثرها من الإسرائيليات والمنامات. وعمر بن عبد العزيز رحمه الله كما ظهر مما سبق من المشهود لهم بالفضل والخير وقد ورد في الحديث "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض.."2. وقد روى الإمام مسلم بسنده عن سهيل بن أبي صالح أنه كان في عرفة مع أبيه فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه. قال: فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث المتقدم3.   1 البيهقي دلائل النبوة 6/492، وانظر أبو عبيد الأموال ص552. 2 مسلم بشرح النووي 6/140 رقم 2637. 3 مسلم بشرح النووي 6/141.] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقوله عليه الصلاة والسلام: " ... أنتم شهداء الله في الأرض ... " 1، فمن هذين النصين وغيرهما من النصوص نرجو إن شاء الله أن يكون عمر ابن عبد العزيز ممن سبقت لهم الحسنى والله أعلم. المبحث السادس: وفاته رحمه الله تعالى   1 البخاري مع الفتح 3/228-229، ومسلم برقم 949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يذكر غالب المؤرخين وغيرهم في سبب وفاة عمر بن عبد العزيز بأنه مات مسموما1، بينما ذهب آخرون إلى أن ذلك كان بسبب عزوفه عن مأكل طيب، ومشرب هني، يعوض بنيته ما تفقده من طاقة هائلة في العمل الذي لا يهدأ ليلا ونهارا، فلما أمسكت به علة -لم يحدد المؤرخون 2 طبيعتها ولا فصلوا القول فيها - تشبثت بجسمه المنهك الضعيف عشرين يوما حتى كانت الوفاة3. وتوجد رواية عند أبي حفص الملاء مفادها أن أهل عمرلم يزالوا يراودونه على أخذ بوله ليعتبره الطبيب فيأبى ذلك، حتى أخذوه يوما في طست، وقلبوه في قارورة ونفذوه إلى الطبيب من حيث لا يشعر لمن هو. فأخذ الناس يعرضون عليه قواريرهم ويصف لهم ما يصف، حتى جيء   1 انظر ابن كثير البداية والنهاية 5/234، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/140، والطبري تاريخ الطبري 5/556، وابن عبد ربه العقد الفريد 4/432، وابن الجوزي ص340، وأبو حفص الملاء 2/637. 2 حددها ابن كثير بأنها "السل". انظر البداية والنهاية 5/234، وابن عساكر 45/274. 3 انظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص254، تأليف ماجدة فيصل زكريا ط. مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة عام 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بقارورة عمر، فلما نظر فيها قال: إني لأرى في هذا الماء عجبا. قال: وما هو العجب؟ قال: إن هذا بول رجل فتت الحزن كبده1. وتوجد رواية عند ابن سعد وغيره تبين سلامة بوله، فعن عبد المجيد بن سهل قال: لقيت الطبيب وقد خرج من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له: رأيت اليوم بوله؟ فقال: ما ببوله بأس إلا الهم بأمر الناس2، ولما سئلت زوجته عن بدء مرضه قالت: أرى كل ذلك أو جله الخوف3. ويبدو أنه لا معارضة بين هذه الأسباب المذكورة فلعلها كلها قد اجتمعت عليه فقد ألزم نفسه حسب الروايات التي وصلت إلينا بأعمال شاقة عليه، وعزف عن المأكل الطيب الذي كان قد تعوده قبل خلافته، ثم شدد على أقربائه من أمراء البيت الأموي، ولم يكن يتحرز كثيرا في مأكله ومشربه، فأصبحت الفرصة سانحة لسقيه السم، وقد فصل بعض المؤرخين كيفية سقيه السم، حيث ذكروا بأن خادمه وضع السم في ظفر إبهامه فلما استقى عمر غمس إبهامه في الماء، ثم سقاه، فمرض عمر مرضه الذي مات فيه4.   1 أبو حفص الملاء 2/639. 2 ابن سعد الطبقات 5/404. 3 المصدر السابق 5/404. 4 العقد الفريد 4/432، والبداية والنهاية 5/234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ولعله حين علم بسقيه السم وتيقن بذلك دعا على نفسه بالموت كما سيأتي فروى أبو زرعة الدمشقي أن عمر قال: اللهم إني قد مللتهم، وملوني، فأرحني منهم وأرحهم مني1. كما روى ابن عبد الحكم أن عمر دعا ابن أبي زكريا، وطلب منه أن يدعو له بالموت فدعا له2. وهكذا مات في أخريات رجب لسنة إحدى ومائة ولخمس، أو ست، أو عشر بقين من الشهر، وكان موته يوم الجمعة عن أربعين سنة في أصح الأقوال3. وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر أو ستة أشهر وعليهن أيام كما كانت خلافة الصديق رضي الله عنه 4. ولا شك أن موته كانت خسارة فادحة في حق المسلمين، يظهر ذلك من مواقف الناس حين سمعوا بموته، ومن الرثاء له، واتفاقهم على الحزن عليه والتأسف لفقده. فقد روى أن مسلمة بن عبد الملك نظر إلى عمر بن   1 تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص46. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص99-101. 3 ابن سعد الطبقات 5/407-408. 4 انظر البداية والنهاية 5/214، وابن سعد الطبقات 5/408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عبد العزيز وهو مسجى فقال له: يرحمك الله يا عمر لقد لينت لنا قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا. ولما بلغ الحسن البصري موت عمر قال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا صاحب كل خير1. وقال عبد الملك بن عمير: رحمك الله يا عمر، إن كنت لغضيض الطرف، أمين الفرج، جواداً بالحق، بخيلا بالباطل، تغضب في حين الغضب، وترضى في حين الرضى، وما كنت مزاحا، ولا عَيابًا، ولا مرتابا، ولا بهاتا2. وروي أن جماعة من الفقهاء جاءوا إلى فاطمة زوجته فقالوا لها: اعلمي أن الرزية بأمير المؤمنين عمر عامة، والمصيبة به شاملة3. وكان رسول عمر بن عبد العزيز إذا وصل إلى البصرة تلقاه الناس بالرحب والسعة، فإنه كان لا يأتي إلا بزيادة عطاء، أو بإنفاذ مال يتفقد أحوال الفقراء، فلما وصل الرسول بموته هرع الناس إليه جريا على   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص353، وأبو حفص الملاء 2/674. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص354، وأبو حفص الملاء 2/674. 3 ابن سعد الطبقات 5/270، وأبو نعيم فى الحلية 5/260، وابن الجوزي سيرة عمر ص353، وأبو حفص الملاء 2/676. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عادتهم، فلما أخبر بموته ضج الناس بالبكاء والعويل، وغم ذلك أهل البصرة بأسرهم، وعمت مصيبته1. وقد رثاه عدة من الشعراء - مع كونه قد أقصاهم وأدّب بعضهم - بقصائد نختار اثنتين منها وهي كما يلي: فقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز: تنعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... ياخير من حج بيت الله واعتمرا. حملت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا. فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك، نجوم الليل والقمرا2 وقال كثير عزة يرثي عمر: لقد كنت للمظلوم عزا وناصرا ... إذا ما تعيا في الأمور حصونها. كما كان حصنا لا يرام ممنعا ... بأشبال أسْد لا يرام عرينها وليت فما شانتك فينا ولاية ... ولا أنت فيها كنت ممن يشينها إلى أن يقول: سقى ربنا من دير سمعان حفرة ... بها عمر الخيرات رهنا دفينها صوابح من مزن ثقال غواديا ... دوالح دهما ماخضات دجونها3   1 أبو حفص الملاء 2/475. 2 ديوان جرير ص235 ط. دار صادر بيروت. 3 ديوان كثير ص235-236، شرح وتحقيق الدكتور رحاب عكاوي ط. دار الفكر العربي بيروت ط. الأولى 1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قال ابن كثير: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل صلى عليه يزيد بن عبد الملك. وقد ذكر المؤرخون أخباراً مبالغا فيها في كراماته عند وفاته، وقد قال ابن كثير في بعض هذه الأخبار: وفيها غرابة شديدة كما سبق ذكره والله أعلم1.   1 ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 178، و179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الباب الأول: الآثار الواردة عن عمر في التوحيد الفصل الأول: الأثار الواردة عن عمر في توحيد الألوهية المبحث الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الدعاء ... الباب الأول: الآثار الواردة عن عمر في التوحيد. الفصل الأول: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في توحيد الألوهية تمهيد: توحيد الألوهية أساس دين الإسلام، بل هو أساس كل دين سماوي، به أرسل جميع الرسل وأنزلت عليهم جميع الكتب، وهو الذي دعا إليه كل رسول من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو الغاية من خلق الجن والإنس. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1، وكان سلف هذه الأمة رحمهم الله يهتمون بهذا النوع من التوحيد كما سيتضح لنا ذلك فيما يأتي، وممن كان له إسهام في هذه المسألة عمر بن عبد العزيز الذي كان له أقوال مأثورة ومواقف مشهورة سوف تتضح خلال هذا المبحث الذي يمهد له الآن، وسوف يتضح أنه كان يحرص دائما في كلامه وفي خطبه على بيان هذا الجانب وبيان ما يضاده. وقبل بيان ما أثر عنه أرى أنه من الأهمية بمكان بيان المقصود من توحيد الألوهية عند إطلاقه: فعرف بأنه: "استحقاق الله سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له"2. وعرفه بعض الباحثين بأنه: "توحيد الله بأفعال العباد وهو المعبر عنه بتوحيد الطلب والقصد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومحبته، وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرهبة، والرغبة منه وإليه   1 الآية 56 من سورة الذاريات. 2 انظر شرح العقيدة الطحاوية بتصرف يسير 1/29، طبعة مؤسسة الرسالة تحقيق د/عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط "ط" "6" عام 1414هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية، والمالية دون إشراك أحد أو شيء من خلقه1. وأما بالنسبة للآثار التي وردت عن هذا الخليفة العادل في توحيد الألوهية بخصوصها فقد كانت مفرقة في بعض أنواع هذا التوحيد فمما ورد عنه آثار في الدعاء والتبرك، والخوف، والرجاء، والتوكل،   1 انظر رسالة توحيد الألوهية أساس الإسلام للباحث حامد عبد القادر الأحمدي مطبوع على الآلة الكاتبة ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 كتابه أن أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين والمؤمنات، وأن رجالا من القصاص قد أحدثوا صلاة على خلفائهم، وأمرائهم عدل ما يصلون على النبي وعلى المؤمنين فإذا أتاك كتابي هذا فمر قصاصكم فليصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وليكن فيه إطناب دعائهم وصلاتهم ثم ليصلوا على المؤمنين والمؤمنات، ولينتصروا الله ولتكن مسألتهم عامة للمسلمين وليدعوا ما سوى ذلك ... 1. 10- ابن أبي شيبة قال: حدثنا حسين بن علي2، عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز، أما بعد: فإن أناسا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن أناسا من القصاص قد أحدثوا من الصلاة على خلفائهم، وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أتاك   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص80-81، وأبو حفص الملاَّء 2/488، وأبو نعيم في الحلية 5/339. 2 الحسن بن علي أبو عبد الله الجعفي الكوفي مولاهم روى عنه ابن أبي شيبة، ثقة. انظر الجرح والتعديل 3/55- 56، وجعفر بن برقان روى عن عكرمة وميمون بن مهران، والزهري، ثقة. قال أبو حاتم: محله الصدق، أحاديثه عن الزهري مضطربة. انظر الجرح والتعديل 2/474- 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أبي1،وأبي خازم2، على عمر بن عبد العزيز فقال عمر لأبي، يا أبا بكر! ما لي أراك مهموماً؟، قال: فقال له أبو خازم: لديْن عليه، فقال عمر: أَفُتِح عليك3 الدعاء؟ فقال: نعم. فقال له عمر: بارك الله لك فيه4. 3- ابن أبي الدنيا قال حدثني أبو محمد البزار حدثنا المسيب بن واضح، عن محمد بن الوليد، قال: مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصاة يلعب بها، وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام إليه فقال: بئس الخاطب أنت! ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء5.   1 وأبوه: هو محمد بن المنكدر. 2 أبو خازم: هو سلمة الأعرج التمار. 3 في الأصل: "ففتح لك فيه الدعاء" والتصحيح من أبي حفص الملاء 2/491. 4 ابن الجوزي سيرة عمر ص294، وأبو حفص الملاء 2/491. 5 ابن أبي الدنيا كتاب الإخلاص والنية ص 38 وأبو نعيم في الحلية ج5 ص 287- 288 وابن الجوزي سيرة عمر ص84، وأبو حفص الملاء 2/473، والمسيب بن واضح السلمي الحمصي، قال عنه ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، كان يخطئ كثيرا فإذا قيل له لم يقبل. انظر الجرح والتعديل8/111-112، وانظر ميزان الاعتدال 4/116-117، ولسان الميزان 6/49و50، وسير أعلام النبلاء 11/403-405. ومحمد بن الوليد لم اهتد إليه. ولعله الزبيدى ثقة تقريب ص 511. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 4- ابن عبد الحكم1 قال: حدثني أبي عبد الله بن عبد الحكم2، قال: حدثني مالك ابن أنس3، والليث بن سعد4، وسفيان بن عيينة5،   1 هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعْيَن المصري، الفقيه، ثقة، روى عن أبيه مات سنة ثمان وستين. انظر تهذيب الكمال 15/192، وتقريب التهذيب ص488وسير أعلام النبلاء 10/221. 2 عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث المصري أبو محمد الفقيه، روى عن بكر ابن مضر، وسفيان بن عيينة، وابن لهيعة، وابن وهب، ومالك، وغيرهم. قال الذهبي: وذكروا أنه صنف كتاب مناقب عمر بن عبد العزيز. وقال أبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق، أنكر عليه ابن معين شيئا. وقد عقب الذهبي على إنكار ابن معين عليه بقوله: لم يثبت قول ابن معين إنه كذاب. ولد سنة 155هـ وتوفي 214هـ بمصر. انظر تهذيب الكمال 15/191-192-193، وسير أعلام النبلاء 10/221-222، وتقريب التهذيب ص310. 3 مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين وكبير المتثبتين ... مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. انظر تقريب التهذيب ص516. 4 الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، مات سنة خمس وسبعين. انظر تقريب التهذيب ص464، وكان مولده سنة 94هـ. انظر المعرفة والتاريخ 1/166. 5 سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، إمام، حجة، إلا أنه تغير حفظه بآخر، وكان ربما دلس لكن عن الثقات، مات سنة ثمان وتسعين وله 91سنة. انظر تقريب التهذيب ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وعبد الله بن لهيعة1، وبكر بن مضر2، وسليمان بن يزيد الكعبي3، وعبد الله بن وهب4، وعبد الرحمن بن القاسم5، وموسى   1 عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن قاضي مصر وعالمها ومحدثها، كان من بحور العلم على لين في حديثه. قال بعض الحفاظ يروى حديثه ويذكر في الشواهد والاعتبارات والملاحم، لا في الأصول. وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير فإنه عدل في نفسه، وكان صالحا لكنه يدلس عن الضعفاء ثم احترقت كتبه. ولد سنة خمس أو ست وتسعين وتوفي سنة 174هـ. انظر ميزان الاعتدال 2/475- 482، وسير أعلام النبلاء 8/11-14. 2 بكر بن مضر بن محمد بن حكيم المصري أبو محمد أو أبو عبد الملك، ثقة ثبت، مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وله نيف وسبعون سنة. انظر تقريب التهذيب ص127. 3 سليمان بن يزيد الكعبي أبو المثنى الكعبي الخزاعي روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعباد بن إسحاق وروى عنه ابن وهب، قال عنه أبو حاتم: منكر الحديث، ليس بقوي، وقال الحافظ: ضعيف. انظر الجرح والتعديل 4/149، وتقريب التهذيب ص670. 4 عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ، عابد، مات سنة 97هـ وله اثنتان وسبعون سنة. تقريب التهذيب ص328. 5 عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي - بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف- أبو عبد الله المصري الفقيه، صاحب مالك ثقة من كبار العاشرة، مات سنة 191هـ. انظر تقريب التهذيب ص438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ابن صالح1 وغيرهم ممن لم أسم بجميع ما في هذا الكتاب من أمر عمر ابن عبد العزيز على ما سميت ورسمت، وفسرت، وكل واحد منهم قد أخبرني بطائفة فجمعت ذلك كله2.   1 موسى بن صالح الهمداني الكوفي روى عن ابن أبي ليلى قال ابن أبي حاتم: منكر الحديث. انظر الجرح والتعديل 8/147، وميزان الاعتدال 4/207. والسند عند ابن عبد الحكم في ص23 ط. دار عالم الكتب تحقيق أحمد عبيد عام 1404هـ الطبعة السادسة. 2 يرى الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى جواز رواية الحديث عن جماعة ملفقا مجملا فقد قال في حديث الإفك عند ذكر فوائده: "وفي هذا الحديث من الفوائد ... جواز رواية الحديث عن جماعة ملفقا مجملاً". انظر البخاري مع الفتح 8/479. قلت: إذا جاز ذلك في الحديث الذي يبنى الأحكام عليه فلأن يجوز في الآثار التي يستأنس بها من باب أولى. وعبد الله بن عبد الحكم وثقه أبو زرعة، وغيره ولم يتكلم في حفظه، فمثله يقبل منه في جمع الشيوخ. لكن من المهم الإشارة أن غالب الذين ذكرهم المصنف في هذا السند لم يلتقوا بعمر بن عبد العزيز فكيف رووا عنه؟ فيحتمل أن بعض الآثار عن عمر كانت وجادة وجدوها في كتبه التي كان يرسل بها إلى عماله، وبعض الآثار كانت مشافهة مع الذين التقوا به لكن لشهرتها بين الناس في زمنهم ولعدم بناء حكم مستقل منها أهملوا جانب السند بدليل أن بعض هذه الآثار الموجودة في هذا الكتاب قد جاءت مسندة عنه بطريق متصل صحيح كما سيأتي، وقلما ينفرد ابن عبد الحكم بخبر إلا وجد من تابعه فيه. وسأكتفي بذكر السند هنا فكل أثر أذكر فيه ابن عبد الحكم فقصدي أن سنده قد ذكر في هذه الصفحة في جميع أبواب وفصول، ومباحث هذه الرسالة. وحيث توبع فسأذكر من تابعه أو ما يشهد لأثره إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومن ذلك: أن عمر بن عبد العزيز كان يدعو بهذا الدعاء. "اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما برح بي هذا الدعاء حتى لقد أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في مواضع القضاء1. 5- ابن الجوزي قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما"2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص97، وابن الجوزي سيرة عمر ص242، عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ... والبيهقي في القضاء والقدر والرد على من يحتج بالقدر ص9، تحقيق عبد العزيز الأثري الطبعة الأولى عام 1416هـ مكتبة السنة مصر، وابن أبي الدنيا في كتاب الرضى عن الله بقضائه والتسليم بأمره ص52، تحقيق ودراسة مصطفي عبد القادر عطا طبعة مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان عام 1413هـ - 1993م. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص242، والزبير بن بكار هو ابن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير الأسدي أبو عبد الله بن أبي بكر قاضي المدينة ثقة أخطأ السليماني في تضعيفه من صغار العاشرة، مات 56هـ. تقريب التهذيب ص214، وأخرج الأثر أيضا أبو حفص الملاَّء 1/343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 6- ابن أبي الدنيا قال: قال داود بن رشيد: نا الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال: حدثني عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قال: ما قلب عمر بن عبد العزيز نظره إلى نعمة أنعم الله عز وجل بها عليه إلا قال: "اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمة الله كفرا أو أكفرها بعد معرفتها أو أنساها فلا أثني عليك بها"1. 7- ابن عبد الحكم قال: وكان عمر يقول: "يا رب خلقتني وأمرتني ونهيتني، ورغبتني في ثواب ما أمرتني به، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه، وسلطت علي عدوا فأسكنته صدري وأسكنته مجرى دمي، إن أهم بفاحشة شجعني، وإن أهم بطاعة ثبطني لا يغفل إن غفلت ولا ينسى إن نسيت ينصب لي الشهوات، ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني   1 ابن أبي الدنيا الشكر لله عز وجل ص32 تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول طبعة مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى بيروت لبنان عام 1413هـ - 1993م. وابن الجوزي سيرة عمر ص242 وانظر كذلك أبو حفص الملاَّء 1/343،وابن عساكر 45/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 كيده يستزلني، اللهم فاقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى تخسئه بكثرة ذكري لك فأفوز مع المعصومين بك ولا حول ولا قوة إلا بك"1. 8- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز في الزلزلة: أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليصدق2. قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} 3، وقولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص98، وابن الجوزي سيرة عمر ص241- 242، وله غيرها من الأدعية فانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص97- 98. 2 في الحلية " يتصدق" بدل فليصدق. 3 الآية 14 -15 من سورة الأعلى. 4 الآية 13 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، وقولوا كما قال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 2"3. 9- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد أما بعد: فإن الناس ما اتبعوا كتاب الله نفعهم في دينهم ومعايشهم في الدنيا ومرجعهم إلى الله فيما بعد الموت، وإن الله أمر في كتابه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4، صلوات الله على محمد رسول الله والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 5، فقد جمع الله تبارك وتعالى في   1 الآية 47 من سورة هود. 2 الآية 87 من سورة الأنبياء. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص 64، وابن الجوزي سيرة عمر ص 128- 129، وابن أبي الدنيا كتاب العقوبات ص32، وأبو حفص الملاَّء 1/254، وأبو نعيم في الحلية 5/304-305. 4 الآية 56 من سورة الأحزاب. 5 الآية 19 من سورة محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كتابه أن أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين والمؤمنات، وأن رجالا من القصاص قد أحدثوا صلاة على خلفائهم، وأمرائهم عدل ما يصلون على النبي وعلى المؤمنين فإذا أتاك كتابي هذا فمر قصاصكم فليصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وليكن فيه إطناب دعائهم وصلاتهم ثم ليصلوا على المؤمنين والمؤمنات، ولينتصروا الله ولتكن مسألتهم عامة للمسلمين وليدعوا ما سوى ذلك ... 1. 10- ابن أبي شيبة قال: حدثنا حسين بن علي2، عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز، أما بعد: فإن أناسا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن أناسا من القصاص قد أحدثوا من الصلاة على خلفائهم، وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أتاك   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص80-81، وأبو حفص الملاَّء 2/488، وأبو نعيم في الحلية 5/339. 2 الحسن بن علي أبو عبد الله الجعفي الكوفي مولاهم روى عنه ابن أبي شيبة، ثقة. انظر الجرح والتعديل 3/55- 56، وجعفر بن برقان روى عن عكرمة وميمون بن مهران، والزهري، ثقة. قال أبو حاتم: محله الصدق، أحاديثه عن الزهري مضطربة. انظر الجرح والتعديل 2/474- 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعون ما سوى ذلك1. 11- ابن عبد الحكم قال: ولما مرض عمر بن عبد العزيز مرضه الذي مات منه، وقد مات أعوانه، سهل أخوه، وعبد الملك ابنه ومزاحم مولاه، قام حبْوا2 إلى شن3 معلق فتوضأ منه فأحسن الوضوء ثم أتى مسجده فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إنك قد قبضت سهلا، وعبد الملك، ومزاحما، - وكانوا أعواني على ما قد علمت - فلم أزدد لك إلا حباً، ولا فيما عندك إلا رغبة فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. فما قام من مرضه ذلك حتى قبضه الله تعالى فرحمه الله4.   1 ابن أبي شيبة في المصنف 8/241، وعنه ابن الجوزي في سيرة عمر لكنه بدأ السند بجعفر بن برقان. انظر ابن الجوزى سيرة عمر ص290- 291، والأثر أخرجه الحافظ ابن حجر في الفتح بمعناه 8/534، وحسن إسناده عند إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن له، وقد أخرج الأثر أيضا أبو حفص الملاَّء 2/488، وصححه الألباني في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للإمام إسماعيل بن إسحاق الجهضمي ص68 ط. المكتب الإسلامي ط. الثالثة 1397هـ. 2 حبوا: حبا الصبي حبوا زحف، والبعير برك وزحف انظر المعجم الوسيط 1/153. 3 الشن: القربة الخَلَقُ الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيرها. المعجم الوسيط1/497. 4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص100- 101، وانظر الفسوى المعرفة والتاريخ 1/601،وانظر ابن رشد الجد البيان والتحصيل 17/413 طبعة دار الغرب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 12- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز:" ... اللهم إني قد مللتهم وملوني فأرحني منهم، وأرحهم مني، قال: فما عاد إلى المنبر ثانية حتى قبضه الله عز وجل1. 13- ابن عبد الحكم قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن أبي زكريا، وكان من صلحاء أهل الشام ... فقال له ادع الله أن يميتني ... " فدعا له2. 14- الفسوي قال: حدثنا "عبد الله بن عثمان" قال: قال عبد الله 3 قال عمر بن عبد العزيز: إني فكّرت في أمري وأمر الناس فلم أر شيئا خيرا من الموت، قال عبد الله - يعني لفساد الناس وما دخلهم - فقال لقاصه "محمد بن قيس": ادع لي بالموت فأبيت وأبي علي قال: فدعوت له وعمر رافع يديه يؤمن على دعائي وهو يبكي ... "4.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص99. 2 المصدر السابق ص99، وعند ابن عساكر رواية أخرى نحوها، انظر تاريخ دمشق 45/248. 3 يعني ابن المبارك، لأنه صرح باسمه في 1/490 من المعرفة والتاريخ. 4 الفسوي المعرفة والتاريخ 1/591، وعنه ذكره ابن الجوزي في سيرة عمر ص240، وفيه زيادة، وذكره أيضا أبو حفص الملاء 2/643. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 15- أبو زرعة قال: أخبرني الحارث بن مسكين عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يحدث أن عمر بن عبد العزيز قال لبعض من يخلو معه: ادع الله لي بالموت1. 16- ابن عبد ربه قال: قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فكثر بكاؤه ومسألته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت! وقد صنع الله على يديك خيرا كثيرا، أحيا بك سننا، وأمات بك بدعا، قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين أقر الله عينه وجمع له أمره قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 2،3.   1 أبوزرعة في التاريخ ص64، طبعة دار عالم الكتب بيروت. وضع حواشيه خليل المنصور الطبعة الأولى عام 1417هـ، ومن طريقه ابن عساكر 45/248. والحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف مولى بني أمية أبو عمرو المصري قاضيها ثقة فقيه. تقريب التهذيب ص148. 2 الآية 101 من سورة يوسف. 3 ابن عبد ربه العقد الفريد 4/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 التعليق: يتبين من الآثار التي تقدم ذكرها عدة مسائل تتعلق بالدعاء وقبل بيان هذه المسائل وإيضاح ما تدل عليه يحسن تعريف الدعاء أولا: فالدعاء لغة: الطلب والابتهال: يقال: دعوت الله أدعوه دعاء: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعا الله: طلب منه الخير ورجاه منه، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان: طلب الشر له1. والدعاء في الاصطلاح هو: "استدعاء العبد ربه عز وجل العناية واستمداده إياه المعونة"2. وقد صح في النصوص أن الدعاء هو العبادة3، وقد اتفق جميع العقلاء على أن الدعاء نفعه محسوس، وكل إنسان محتاج إليه، لكن أورد بعض الضلال الجهلة سؤالا مفاده: "أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع. وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله   1 الفيومي المصباح المنير ص74، والمعجم الوسيط 1/286. 2 انظر: الخطابي شأن الدعاء ص4. ط. دار الثقافة العربية دمشق وبيروت ط. الثالثة عام 1412هـ. 3 سنن ابن ماجة 2/1258، ونص الحديث "أن الدعاء هو العبادة ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... } " والترمذي 5/426، وقال حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 العبد أو لم يسأله. فوهموا واعتقدوا صحة هذا السؤال فتركوا الدعاء، وقالوا لا فائدة فيه. وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون، فلو اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب، فيقال لأحدهم: إن كان الشبع، والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قد قدر لك فلا بد منه وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأهما، وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسرى، وهلم جرا، فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟! بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل، وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام يل هم أضل سبيلا1 وعلى هذا فالمسألة الأولى التي تدل عليها الآثار السابقة هي: أن كون الدعاء سبب من أسباب وقوع المقدور به والمدعو به هو المأثور عن عمر بن عبد العزيز فقد قال للرجل الذي دعا له بقوله أبقاك الله بأن هذا قد فرغ منه وقضى قضاء مبرما، لكنه طلب من الرجل أن يدعو له بالصلاح، وهذا دليل على أنه يرى أن الدعاء سبب من أسباب وقوع المدعو به كما يتأكد ذلك بقوله لمحمد بن   1 انظر: ابن القيم الجواب الكافي ص 15. ط. دار الفكر بيروت. وانظر الدعاء ومنزلته من العقيدة لجيلان بن خضر العروسي 1/381، ط. مكتبة الرشد الرياض عام 1414هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المنكدر: "أفتح لك فيه الدعاء؟ " قال ذلك حين رآه مهموما لديْن كان عليه فقال محمد نعم. فقال عمر فقد بارك الله لك فيه. وهذا المأثور عن عمر بن عبد العزيز هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1، فإذا لم يكن الدعاء سببا من أسباب وقوع المدعو به لم يكن للأمر بالدعاء في الآية فائدة وهو بلا شك منتف. وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه"2، وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته فلولم يكن للدعاء فائدة لاستوى الداعي وغيره وهذا خلاف ما دل عليه نص الحديث الشريف. ومن أقوال السلف الصالح المؤيدة لما أثر عن عمر ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه"3،   1 الآية 60 من سورة غافر. 2 رواه الترمذي 5/456، وابن ماجه 2/1258، وأحمد 2/442، وحسن إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138. 3 ابن القيم: الفوائد ص 110 ط دار الكتب العلمية , والجواب الكافي ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقول الطحاوي: "والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات"، قال شارحه: "والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار"1. وقال ابن القيم: "والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن". وقال: "وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه"2. والمسألة الثانية هي: أن من شروط الدعاء الإخلاص وحضور القلب. وهذا ما بينه عمر حين نبه الرجل الذي يدعو وهو يلعب بحصاة ويقول: اللهم زوجني من الحور العين فقام إليه وقال بئس الخاطب أنت ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله في الدعاء.   1 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/676. 2 الجواب الكافي ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وهذا الذي أثر عن عمر هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين ... } 1، وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه"3. وقد أمر الله تعالى بحضور القلب والخشوع في الذكر، والدعاء فقال سبحانه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 4. وأما المسألة الثالثة فهي: أن المشروع في التوسل هو التوسل بالأعمال الصالحة، كما فعل عمر بن عبد العزيز حيث توسل بالتوحيد والطاعة، وطلب الغفران من الله تعالى حين قال: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء   1 الآية 14 من سورة غافر. 2 الآية 5 من سورة البينة. 3 سنن الترمذي 5/483، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 2766. 4 الآية 205 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر، فاغفر لي ما بينهما. ولا شك أن التوسل بالأعمال الصالحة مشروع، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار1، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب الله دعاءهم ويفرج كربتهم وقد توسل المؤمنون بأعمالهم الصالحة من الإيمان وقدموه قبل الدعاء. قال تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} 2، فإنهم قدموا الإيمان قبل الدعاء وأمثال ذلك كثير3. ومما يقدم قبل الدعاء الثناء على الله تعالى بتعداد النعم التي أنعمها عليه، والتعوذ، وطلب العصمة من الله تعالى من شر الشيطان الرجيم، فبين عمر أن التوفيق والهداية من الله تعالى. ثم طلب من الله تبارك وتعالى أن يعصمه من شر الشيطان. وهذا له أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، وفي الأدعية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نطيل بذكرها.   1 انظر: قصتهم في صحيح مسلم بشرح النووي 6/214-216 رقم 2743. 2 الآية 193 من سورة آل عمران. 3 انظر الفتاوى 1/309 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والمسألة الرابعة: أمره رحمه الله الرعية بالالتجاء إلى الله تعالى، والتصدق والاستغفار، والخروج إلى المصلى عند ما حصلت الزلزلة بالشام. وذلك تأسيا بالرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكسوف وبعد الصلاة خطب الناس وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا لله وكبروا وصلوا وتصدقوا ... "1. والمقصود أن مما يشرع له الصلاة والدعاء والتضرع (عند عمر بن عبد العزيز) حدوث بعض الآيات وقد بين صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أن الزلازل من أمارات الساعة2 ولا شك أن حدوث الزلزلة مما يوجب التخوف المفضي إلى الخشوع والإنابة، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال رحمه الله تعالى: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك ... "3.   1 البخاري مع الفتح 2/529، رقم 1044. 2 انظر البخاري مع الفتح 2/521، رقم 1036. 3 الفتاوى 24/264، وانظر كذلك 36/169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولعل عمر لاحظ في هذا عموم الأدلة الدالة على التضرع والإنابة، وما يشرع في حالة الخسوف والكسوف. والمسألة الخامسة: نهيه رحمه الله تعالى عن الابتداع في الدعاء، ويتضح ذلك بنهيه عن الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام، وقد بيّن أن الصلاة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، أما من عداهم فيدعى لهم فقط، لأنهم من ضمن المؤمنين والله تعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 1. قال ابن القيم روي عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار ... "2. وقال النووي: أجمعوا على الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أجمع من يعتد به على جوازها واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالا. وأما غير الأنبياء فالجمهور على أنه لا يصلى عليهم ابتداء فلا يقال أبو   1 الآية 19 من سورة محمد. 2 انظر جلاء الأفهام لابن القيم ص260، ومصنف ابن أبي شيبة 2/401 عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه ويسلم ص67، وقال الألباني إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بكر صلى الله عليه وسلم واختلفوا في هذا المنع. فقال بعض أصحابنا: هو حرام، وقال أكثرهم: مكروه كراهة تنزيه، وذهب كثير منهم إلى أنه خلاف الأولى، وليس مكروها. والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله سبحانه وتعالى. فكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلاً لا يقال: أبو بكر وعمر صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحا ... "1. والصواب في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم التفصيل في ذلك. فإذا لم يكن على وجه الغلو، ولم يجعل ذلك شعارا لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الدعاء، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع منه وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث" 3، وفي   1 الأذكار للنووي ص108، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/150- 151. 2 الآية 43 من سورة الأحزاب. 3 البخاري مع الفتح 1/538،رقم 445،ومسلم بشرح النووي 2/296، رقم 661. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حديث قبض الروح: "صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه"1، وهذا هو المنصوص عن أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وأما إن جعل الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلو كما كانت تفعله الشيعة وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره فهذا مكروه منهي عنه وهذا هو السبب في قول ابن عباس لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على الرسول صلى الله عليه وسلم2. المسألة السادسة: ما أثر عن عمر من الدعاء على نفسه بالموت, فإن حمل ذلك على الدعاء بحسن الخاتمة فلا إشكال, وأما إن حمل على الدعاء بالموت ففيه إشكال لأنه قد ورد في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تمني الموت لضر نزل بالإنسان ونهى عن الدعاء به كما في صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما   1 صحيح مسلم بشرح النووي 6/327، رقم 2872. 2 انظر مجموع الفتاوى 22/472- 473- 474، وانظر جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم ص271 طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولى عام 1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" 1، وحديث أنس أيضا: "لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنوا الموت" لتمنيت" 2، وحديث خباب: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به"3 وإذا تبين هذا فما أثر عن عمر يمكن حمله على إحدى الحالات الآتية: الحال الأولى: أن يكون عمر بن عبد العزيز طلب الدعاء له بالموت على الإيمان ودعا به اقتداء بالصالحين قال تعالى مبينا دعاء المؤمنين: { ... وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} 4 وقال عز وجل عن نبيه يوسف عليه السلام: { ... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 5 فهذا الدعاء من سنن المرسلين وهو من شعار الصالحين, وأيضا د عي به - رحمه الله - خوفا من الفتنة في الدين لاسيما عند وفاة أعوانه ابنه عبد الملك ومولاه مزاحم، وأخيه سهل، كما صرح به في دعائه.   1 البخاري مع الفتح 10/127، رقم 5671، ومسلم بشرح النووي 6/179، رقم 2680. 2 صحيح مسلم 2/179، رقم 2680. 3 البخاري مع الفتح 13/220/7234. 4 الآية 193 آل عمران، ومعنى الآية: اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك. 5 الآية101 يوسف، ومعنى الآية: إذا جاء أجلى توفني مسلما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الحال الثانية: أن تكون الأحاديث المشعرة بالنهي عن الدعاء بالموت لم تبلغه، وقد كان رحمه الله راضيا بقضاء الله وقدره وهو القائل لقد أصبحت ومالي في الأمور هوى إلا في مواضع القضاء. الحال الثالثة: أن يكون لما علم بسقيه السم، وتيقن ذلك، دعا لنفسه بالموت على الإيمان حتى لا يكون ممن كره لقاء الله تعالى. وخوفا من سوء الخاتمة. ولا شك أن الدعاء بالموت مطلقا ليست فيه مصلحة ظاهرة ... لأنها طلب إزالة نعمة الحياة وما يترتب عليها من الفوائد لاسيما لمن يكون مؤمنا فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال1، لكن إذا نزل هذا وحضر وتيقن المرء بدنو أجله فيستحب له أن لا يكره الموت إذا حضر لئلا يدخل فيمن كره لقاء الله تعالى والله تعالى أعلم.   1 البخاري مع الفتح 13/221 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المبحث الثاني: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الشكر 17/1- ابن عبد الحكم قال: وكتب إلى عمر عدي بن أرطأة1 أنه قد أصاب الناس من الخير خير حتى لقد خشيت أن يبطروا. قال فكتب إليه عمر: إن الله تبارك وتعالى حين أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النارِ النار رضي من أهل الجنة بأن {َقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} 2، فمر من قبلك أن يحمدوا الله3. 18/2- ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها4.   1 عدي بن أرطأة الفزاري عامل عمر مقبول. انظر تقريب التهذيب ص388. 2 الآية 74 من سورة الزمر. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص64، وانظر: ابن سعد في الطبقات 5/383، وأبو حفص الملاء 2/489، وابن الجوزي سيرة عمر ص274، وأبو نعيم في الحلية 5/293. 4 ابن أبى شيبة في المصنف 8/240، وانظر: ابن أبى الدنيا الشكر لله عز وجل ص30، عن يحيى بن سعيد: "ذكر النعم شكر" وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأزدي صدوق يخطئ، ت 90هـ، تقريب التهذيب ص250. وأخرج الأثر ابن عساكر 45/228،وابن الجوزي سيرة عمر ص 247، وهناد السرى في الزهد 2/400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 19/3- ابن أبي الدنيا قال: حدثكم أحمد بن سلمان نا عبد الله، نا محمد بن صدران الأزدي، نا عبد الله بن خراش، نا يزيد بن يزيد، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: قيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى1. 20/4- ابن أبى الدنيا أيضا قال: قال داود ابن رشيد، نا الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال: حدثني عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قال: ما قلب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله عز وجل بها عليه إلا قال: "اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا، أو أكفرها بعد معرفتها أو أنساها فلا أثني بها"2.   1 ابن أبي الدنيا كتاب الشكر لله تعالى ص19، وابن الجوزي سيرة عمر ص247. وفي الأثر عبد الله بن خراش - بالخاء المعجمة - ابن خوشب الشيباني أبو جعفر الكوفي، ضعيف، وأطلق عليه ابن عمار الكذب. انظر تقريب التهذيب ص301. 2 المصدر السابق ص32،وقدتقدم الأثر برقم (6) وداود بن رشيد أبو الفضل البغدادي صدوق. الجرح والتعديل 3/412، والوليد بن مسلم هو الدمشقي أبو العباس مولى لبني أمية روى عن الأوزاعي، وابن جابر، ثقة كثير التدليس والتسوية، انظر تقريب التهذيب ص584، والجرح والتعديل 9/216. وابن جابر هو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي روى عنه الوليد بن مسلم ثقة. الجرح والتعديل5/299- 300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 21/5- ابن أبي الدنيا أيضا قال: حدثني الحسن بن محبوب أخبرنا أبو توبة الربيع ابن نافع، حدثنا أبو ربيعة عن أبيه عن جده قال: كتب عمر ابن عبد العزيز إلى بعض عماله أما بعد: ... أوصيك بتقوى الله وأحثك على الشكر فيما عندك من نعمته وآتاك من كرامته فإن نعمه يمدها شكره ويقطعها كفره ... "1. 22/6- هناد السرى في الزهد قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ذكر النعمة شكرها2. 23/7- ابن الجوزي قال: حدثنا مرثد بن يزيد، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: قيدوا نعمة الله بالشكر لله عز وجل3.   1 ابن أبي الدنيا ذم الدنيا ص81 والحسن بن محبوب بن الحسن القرشي قال عنه أبو حاتم لا بأس به. الجرح والتعديل 3/38، والربيع بن نافع أبو توبة الحلبي ثقة حجة عابد. تقريب ص207، وأبو ربيعة وأبوه وجد هـ لم أجدهم. وذكر هذا الأثر ابن الجوزي سيرة عمر ص 254-255، وأبو حفص الملاء 2/460-461. 2 هناد السرى في الزهد 2 /400 وأبو بكر بن عياش الأسدي الكوفي صدوق ربما غلط ذكره ابن حبان في الثقات، وانظر تهذيب الكمال 33/129- 137، ويحيى ابن سعيد ثقة ثبت. تقريب ص591. 3 ابن الجوزي سيرة عمر ص247، وانظر ابن أبي الدنيا كتاب الشكر لله ص19، ومرثد بن يزيد لم أجده. وأخرج الأثر أبو حفص الملاء 2/491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 24/8- ابن الجوزي قال: وعن عبد الله بن مروان الشامي أن عمر ابن عبد العزيز أتى بعض أهله فقرب إليه طعاما كثيرا فقال عمر: ويحك يا فلان دون هذا ما يسد الجوعة ويذهب سورة النفس، وتقدم فضل ذلك ليوم فقرك وفاقتك. فقال يا أمير المؤمنين إن الله أوسع وأحسن. فقال عمر بن عبد العزيز: فعند ذلك فقد وجب عليك الشكر ثم نهض1. التعليق: إن الآثار الواردة عن عمر في هذا المبحث تبين أنَّ شكر الخالق تبارك وتعالى على نعمه الكثيرة وآلائه الجسيمة مأمور به، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة: قال تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2، وقال عز وجل: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} 3.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص259، وأبو حفص الملاء 2/469. وعبد الله بن مروان لم أجده. 2 الآية 172 من سورة البقرة. 3 الآية 152 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 والشكر يستلزم المزيد قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 1. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تورمت قدماه، فقيل له تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ "2، وأمر صلى الله عليه وسلم معاذا بأن يقول دبر كل صلاة: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" 3. وما أثر عن عمر - رحمه الله تعالى- في هذا الجانب يبين منهج السلف في التعامل مع النعم التي ينعمها الخالق على عباده، ولا ريب أن شكر النعم رباط لبقائها والاستزادة منها، فكانوا دائما يلهجون بالشكر إلى الله في كل حين لأنهم يعلمون أن شكر النعمة يؤدي إلى رضى الله عز وجل، وأن عدم الشكر يؤدي إلى سخطه. كما بينت الآية التي ذكرناها آنفا، فمن وفقه الله إلى شكر النعم، فقد اعترف لله بفضله وبنعمته وقدرته   1 الآية 7من سورة إبراهيم. 2 البخاري مع الفتح 3/14، رقم (1130) ومسلم بشرح النووي 6/296- 297رقم (2819) . 3 أخرجه أبو داود 2/86،والنسائي 3/53، قال الحافظ ابن حجر وصححه ابن حبان، والحاكم. انظر البخاري مع الفتح 11/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فاستحق بذلك المدح والثناء، ومن غفل عن ذلك فقد استحق اللوم والعقاب. والشكر مبني على خمس قواعد: قال ابن القيم - مبينا هذه الخمس - وهي: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره1. ويظهر من الآثار السابقة وغيرها أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- قد استوفي هذه الشروط وهذه القواعد، فخضوعه لخالقه واضح في أمره لعماله بشكر الخالق تبارك وتعالى، وأما حبه لخالقه فواضح من قوله في مرض موته اللهم إنك قبضت سهلا، وعبد الملك، ومزاحما، وكانوا أعواني على الحق فلم ازدد لك إلا حبا ... "2. وأما اعترافه بنعم ربه فقد أثر عنه في ذلك عدة أثار منها قوله: "ذكر النعم شكرها" وأما ثناؤه لربه فواضح من دعائه حين قال: "أو أنساها فلا أثني عليك بها" وأما عدم استعمال النعم فيما يغضب الله تعالى من المعاصي والآثام فسيرته العطرة مكتظة بالأمثلة الدالة على ذلك، وقد سبق ذكر بعضها.   1 مدارج السالكين 2/254. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص 100-101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وتوجد فروق بين الحمد والشكر، فالحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أولم يكن، وأما الشكر فلا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه فالحمد أعم من الشكر فإنه يكون على المحاسن والإحسان ... وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه لكنه يكون بالقلب واليد، واللسان، كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا. ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} 1. والحمد إنما يكون بالقلب واللسان فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه والحمد أعم من جهة أسبابه2. هذا وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة فقد ثبت أنه رأس الشكر فهو أول الشكر. والحمد وإن كان على نعمته وعلى حكمته فالشكر بالأعمال هو على نعمته. وهو عبادة له لإلهتيه التي تتضمن حكمته فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر.   1 الآية 13من سورة سبأ. 2 انظر مجموع الفتاوى 11/133- 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ولهذا عظم القرآن أمر الشكر ولم يعظم أمر الحمد مجردا إذ كان نوعا من الشكر، وشرع الحمد الذي هو الشكر المقول أمام كل خطاب مع التوحيد ففي الفاتحة: الشكر، والتوحيد، والخطب الشرعية لابد من الشكر والتوحيد1   1 انظر مجموع الفتاوى 14/310- 311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في التوكل 25/1- الذهبي قال: قال معاوية بن يحيى: حدثنا أرطأة، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز لو جعلت على طعامك أمينا لا تغتال، وحرسيا إذا صليت، وتنح عن الطاعون، قال: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوما دون القيامة فلا تؤمن خوفي1. 26/2- الذهبي أيضا قال: خالد بن مرداس حدثنا الحكم بن عمر، قال: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمائة حرسيّ وثلاثمائة شرطي فشهدته يقول لحرسه: إن لي عنكم بالقدر حاجزا، وبالأجل حارسا من أقام منكم فله عشرة دنانير ومن شاء فليلحق بأهله2.   1 سير أعلام النبلاء 5/139، ومعاوية بن يحيى أبو مطيع الأطرابلسي الشامي روى عن ارطأة بن المنذر. قال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل 8/384. وأرطأة بن المنذر الحمصي، ثقة من السادسة. تقريب ص97. وأخرج الأثر ابن سعد في الطبقات 5/398، وابن عساكر 45/249.وهذا الدعاء إن صح عنه فهو محل نظر لأنه لا يجوز للمسلم أن يدعو على نفسه والله أعلم. 2 سير أعلام النبلاء 5/136، وابن عساكر 45 /220 وأخرج الأثر أيضا أبو حفص الملاء 2/440، وابن الجوزي سيرة عمر ص118- 119. وخالد بن مرداس أبو الهيثم السراج روى عن الحكم بن عمرو، وكان ثقة. انظر تاريخ بغداد 8/307، والجرح والتعديل 3/352، والحكم بن عمرو الرعيني روى عن عمر بن عبد العزيز، وقيل ابن عمر قال يحيى ليس بشيء لا يكتب حديثه، وقال النسائي ضعيف. انظر الجرح والتعديل 3/119- 123، وميزان الاعتدال1/578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 27/3- ابن عبد الحكم في قصة مناظره عمر الخوارج وفيه قال عمر لأصحابه: "ابحثوهما أن لا يكون معهما حديدة"1. 28/4- ابن عبد الحكم قال: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظر مولاه مزاحم إلى القمر فإذا القمر في الدبران2 قال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران يامزاحم، إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكنا نخرج بالله الواحد القهار3. 29/5- الفسوي قال: حدثنا عبد الله بن عثمان أخبرنا عبد الله4، قال: عمر بن عبد العزيز لمزاحم مولاه - وكان فاضلا - قال: إن هؤلاء القوم - يعني أهله- أقطعوني ما لم يكن لي أن آخُذه، ولا لهم أن يعطوني، وإني هممت بردها على أربابها، قال: فقال: مزاحم فكيف تصنع بولدك؟   1 يقصد بذلك الخارجيين اللذين أمر بإدخالهما عليه ليناظراه. ابن عبد الحكم سيرة عمر ص113. 2 الدبران: سيأتي التعريف بها في مطلب النهي عن التطير. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص32، وأبو حفص الملاء 2/336،وابن القيم في مفتاح دار السعادة ص235. وسيأتي برقم 42، ورقم 58. 4 هو ابن المبارك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال: فخرت دموعه على وجنتيه، قال: فجعل يمسحها بإصبعه الوسطى ويقول: "أكلهم إلى الله ... "1. 30/6- ابن عبد الحكم قال: وعهد عمر برسالة مع منصور بن غالب حين بعثه على قتال أهل الحرب وفيها: ... "وأمره أن يكون عيونه من العرب، وممن يطمئن إلى نصيحته وصدقه من أهل الأرض، فإن الكذوب لا ينفع خبره، وإن صدق في بعضه، وإن الغاش عين عليك وليس بعين لك والسلام2. التعليق: تتضح من الآثار المنقولة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث حرصه على التوكل مع الأخذ بالأسباب المشروعة. والتوكل هو الاعتماد على الله، مع الأخذ بالأسباب3، وهو أصل من أصول التوحيد. قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 4، وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 5.   1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/586، وأبو حفص الملاء 1/209. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص78، وأبو حفص الملاَّء 1/196، وأبو نعيم في الحلية 5/303. 3 انظر: ابن الأثير النهاية في غريب الحديث والأثر 5/221. 4 الآية 123من سورة هود. 5 الآية 58 من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وفي سنن الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل يارسول الله - في أمر ناقته- أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إعقلها وتوكل"1. كما تتضمن المنع من التعلق بالأوهام التي لا حقيقة لها كالتطير، كما نجد في بعض هذه الآثار عدم التفاته إلى الأسباب الظاهرة، ومعلوم أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح المتوكلين على الله تعالى، وبين مزاياهم ودرجاتهم عند الله وأنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب2 وقد بيّن ذلك صلى الله عليه وسلم عمليا فكان - وهو سيد المتوكلين - يلبس لأمة الحرب،3 ويمشي في الأسواق للاكتساب حتى قال الكافرون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاق} 4.   1 سنن الترمذي - كتاب صفة القيامة - باب61رقم2517، وحسنه الألباني، انظر صحيح سنن الترمذي 2/309، وصحيح الجامع الصغير برقم 1068. 2 الحديث في صحيح مسلم 1/447-448-449، رقم (371) . وموضع الشاهد من الحديث قوله "وعلى ربهم يتوكلون". 3 انظر البخاري مع الفتح 6 ص 99الحديث رقم2915 4 الآية 7 من سورة الفرقان، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 2/352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ومما يجدر توضيحه هنا أن الأسباب تنقسم إلى قسمين: أ- أسباب مأمور بها كالأكل والشرب، والنكاح، وركوب السفينة لمن احتاج إلى عبور البحر وغير ذلك. ب- أسباب مباحة مثل كسب ما يتصدق به. فترك الأسباب المأمور بها قادح في التوكل، وقد تولى الحق إيصال العبد بها وأما ترك الأسباب المباحة فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحةً فممدوح، وإلا فهو مذموم1. والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويدفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها2. وقد كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - متوكلا على الله كما أنه أحيانا لا يركن إلى الأسباب لتمام توكله فمع كونه يبين لحراسه: "أن لي عنكم بالقدر حاجزا، وبالأجل حارسا"، نجده لا يطردهم ولا يترك   1 انظر مدارج السالكين 2/121- 122. 2 المصدر السابق 2/125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الأسباب كليا، فيوجه إليهم الخطاب موضحا تعامله مع الأسباب "من أقام منكم فله عشرة دنانير ومن شاء فليحلق بأهله". هذه هي طريقة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، توكل على الله حق توكله واعتماد على الأسباب المباحة، والمأمور بها في كل حين ووقت. بخلاف غيرهم ممن يدّعى التوكل وهو متواكل يترك الأسباب ويستجدي الناس ظانا بجهله أن هذا هو التوكل. ولفشو الجهل وسيطرة هؤلاء المغفلين على كثير من المجتمعات المسلمة ظن بعض من لا علم له بأصول العقيدة الإسلامية أن الإسلام هو السبب في كثرة هؤلاء المتطفلين، والإسلام منهم براء، ولا شك أنه لو قدم إلى هؤلاء العقيدة الصحيحة لتقبلوها بقبول حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المبحث الرابع: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الخوف والرجاء 31/1- ابن سعد قال: أخبرنا عمر بن سعيد قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز أن عمر بن عبد العزيز استؤمر في البسط على العمال فقال: يلقون الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم1. 32/2- ابن سعد أيضا قال: أخبرنا علي بن محمد عن يزيد بن عياض ابن جعدبة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كريمة: إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حسابا ولا أهون على الله إن عصاه مني فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكا إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني2.   1 ابن سعد الطبقات 5/376، وابن الجوزي سيرة عمر ص106-107. وعمر بن سعيد الدمشقي يروي عن سعيد بن عبد العزيز. قال أبو حاتم: كتبت حديثه وطرحته، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مسلم: ضعيف الحديث، مات سنة 225هـ. انظر ميزان الاعتدال 3/199، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي ثقة. انظر تقريب التهذيب ص238، والجرح والتعديل 6/111. 2 ابن سعد الطبقات 5/394- 395. ويزيد بن عياض بن جعدبة بن الليثي يكنى بأبي الحكم، كذبه الإمام مالك، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ضعيف. انظر الجرح والتعديل 9/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 33/3- الفسوي قال: حدثنا الربيع بن روح حدثنا حنظلة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: قلت لعمر بن عبد العزيز - وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام -: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابنا ولا مثل أخيك أخا ولا مثل مولاك مولى، قال فنكس ساعة ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع؟ فأعدتها عليه. فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئا من ذلك كان لم يكن من الذي أرجو من الله فيهم1. 34/4- ابن عبد الحكم قال: وكتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العمال أما بعد:   1 الفسوي المعرفة والتاريخ 1/610. والربيع بن روْح اللاحوني - بمهملة - الحمصي ثقة من التاسعة. د س. تقريب ص206، وحنظلة بن عبد العزيز لم أجده، وعبد العزيز لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 5/382، والربيع بن سبرة بن معبد الجهني روى عن أبيه، وروى عنه الزهري. ولم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. الجرح والتعديل 3/462. قلت: يحتمل أنه حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة الجهني من أهل ذي المروة روى عن عمه عبد الملك بن الربيع وروى عنه الحكم بن موسى ودحيم، والحميدي، ويعقوب بن حميد، قال أبو محمد: وروى عن أبيه عن جده، قال عنه يحيى بن معين: لا بأس به. الجرح والتعديل 3/274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فإن هذا الأمر الذي ولاني الله لو كنت إنما أصبحت ورغبتي فيه مطعم أو ملبس أو مركب أو اتخاذ أزواج أو اعتقاد أموال لكنت قد بلغ بي من ذلك قبل ما ولاني من أفضل ما بلغ بعباده، ولكن أصبحت له خائفا أعلم أن فيه أمرا عظيماً، وحسابا شديدا، ومسألة لطيفة، عند مجاهدة الخصوم بين يدي الله إلا ما عافي الله ورحم ودفع، وإني آمرك فيما وليتك من عملي وأفضيت إليك من أمري بتقوى الله وأداء الأمانة، واتباع ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، وقلة الالتفات إلى شيء خالف ذلك، ليكون الذي آمرك به في سيرتك، والنظر في نفسك وفي عملك وما تفضي به إلى ربك وما تعمل به فيما بينك وبين الرعية قبلك، وأنت تعلم علما يقينا أنه ليست نجاة ولا حرز إلا أن تنزل بذلك المنزل من طاعة الله، ودع أن ترصد شيئا ليوم ترجوه غدا من الله، وتخاف منه فإنك رأيت عبرا في نفسك وعبرا ما مثلها وعظ مثلنا وكفي ... 1. 35/5- ابن الجوزي قال: حدثنا أبو زيد الدمشقي قال: لما ثقل عمر ابن عبد العزيز دعي له طبيب فلما نظر إليه قال الرجل: قد سقي السم، ولا آمن عليه الموت فرفع عمر بصره فقال: ولا تأمن الموت أيضا على من لم يسق السم. قال الطبيب: هل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم قد عرفت حين وقع في بطني. قال: فتعالج يا أمير المؤمنين؟ فإني   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص81- 82، وأبو حفص الملاَّء 1/270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أخاف أن تذهب نفسك. فقال ربي خير مذهوب إليه، والله لو علمت أن شفاي عند شحمة أذني، ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته1، اللهم خرْ لعمر في لقائك. قال فلم يلبث أياما حتى مات2. 36/6- ابن الجوزي أيضا: وعن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك. السلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف 3 من وجعي وقد علمت أني مسؤول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة. ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئا يقول تعالى فيما يقول: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 4. فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت   1 هكذا في الكتاب ولعل الصحيح "فأتناوله". 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص340، وأبو زيد الدمشقي لم أجده. وانظر أبو حفص الملاَّء 2/638- 639، وابن عساكر 45/249، وابن أبي الدنيا كتاب المحتضرين ص82-83، ط. دار ابن حزم عام 1417هـ بيروت وهذا الأثر يدل على إحسان عمر الظن بالله وخاصة في مثل هذه الحال وبناء على ذلك فلا يعارض ما سبق من أمره بالبحث عن الخارجيين اللذين أمر بإدخالهما عليه ومن ناحية السند فان الأثر الأول أقوى إسنادا من أثرنا هذا والله أعلم. 3 دنف الرجل من مرضه براه المرض حتى أشفي على الهلاك لسان العرب9 /107 4 الآية 7 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 من الهوان الطويل، وإن سخط علي فياويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته وأن يمن علي برضوانه والجنة ... 1. 37/7- ابن القاسم عن مالك قال: إن عمر بن عبد العزيز كان رجلا عيشه هذه القطاني، وأنه أكل يوما عدسا، وشرب عليه ماء، ثم استلقى فضرب على بطنه فقال: "بطين بطيئ عن أمر الله يتمنى على الله منازل الأبرار" - شك ابن القاسم في ضرب بطنه عن مالك2.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص340- 341، وقتادة هو: ابن دعامة السدوسي البصري روى عن أنس بن مالك. وروى عنه سعيد بن أبي عروبة وصف بالحفظ والإتقان. انظر الجرح والتعديل 7/133- 134- 135. والأثر رواه أبو نعيم بسنده حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق السراج الثقفي، ثنا محمد بن الصباح، ثنا عمر بن حفص، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عمر، به. انظر الحلية 5/274- 275. 2 ابن رشد الجد البيان والتحصيل 18/474- 475، تحقيق الدكتور محمد حجي عام 1408هـ ط. دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان. وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص50، والفسوى في المعرفة والتاريخ 1/585، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن المبارك، عن ميمون بن مهران، به. مع بعض الاختلاف في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 التعليق: يظهر مما أثر عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- جمعه بين الخوف والرجاء ولا شك أن الجمع بين الخوف والرجاء هو من عقيدة السلف الصالح، وهو توسط المؤمن بين الأمن من مكر الله واليأس من روح الله، فالسلف كانوا يخافون ربهم ويرجون رحمته، وهم سائرون على ما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1. قال أحد السلف: الخوف والرجاء، كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في الموت2. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} 3 وبقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} 4.   1 الآية 57 من سورة الإسراء. 2 مدارج السالكين 2/37. 3 الآية 9 من سورة الزمر. 4 الآية 16 من سورة السجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال شارح الطحاوية: الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنا، والخوف يستلزم الرجاء ولولا ذلك لكان قنوطا ويأسا، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إلى ربه1. ويجب أن يكون العبد خائفا راجيا، فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ... والرجاء المحمود رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راجٍ لثوابه أو رجل أذنب ذنبا ثم تاب منه إلى الله، فهو راجٍ لمغفرته. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني، والرجاء الكاذب3. ومما يجدر ذكره هنا أن بعض السلف غلَّبوا جانب الخوف وبعضهم غلَّب جانب الرجاء ولعل الصواب في ذلك أن المسلم يغلب جانب الخوف إذا كان في صحة وعافية ويغلب جانب الرجاء إذا كان في مرض   1 شرح العقيدة الطحاوية 2/456. 2 الآية 218 من سورة البقرة. 3 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مخوف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه"1، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلم بأن يغلب جانب الرجاء عند الموت2. ويتضح أن بعض الآثار الواردة عن عمر ولا سيما التي قالها في مرض موته فيها تغليبه جانب الرجاء، وكل ما أثر عنه - رحمه الله تعالى - يدل على طريقة السلف الصالح في عبادتهم لربهم وخوفهم منه ورجائهم فيما عنده وهي الطريقة التي أشار إليها القرآن الكريم حين قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} 3، فإن الجمع بين الخوف والرجاء هو من أحسن الطرق التي ينبغي أن يسير عليها المسلم، لأن عبادة الله بالخوف فقط كما يفعله الخوارج تؤدي إلى القنوط واليأس، وعبادته بالرجاء فقط يؤدي إلى التكاسل عن العمل كما هو الحال عند المرجئة، وطريقة السلف بخلاف ذلك حيث جمعوا بين الخوف والرجاء4. ويتبين من الأثر الأخير ما كان عليه عمر بن عبد العزيز من الخوف لله عز وجل، ومخافة التقصير في أمره مع الرجاء فيما عنده من أن يحله محل   1 مسلم رقم 2877، 6/329. 2 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/458. 3 الآية 60 من سورة المؤمنون. 4 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الأبرار وهذا هو الواجب أن يكون الرجاء والخوف في قلب الرجل سيين فلا يأمن من عذابه ولا يقنط من رحمته1.   1 انظر البيان والتحصيل 18/474- 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 المبحث الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في التبرك . تمهيد: أصل البركة في اللغة العربية: "الثبوت واللزوم" فكل شيء ثبت وأقام فقد برك1 وتطلق البركة على النماء والزيادة، والتبريك هو الدعاء للإنسان بالبركة، والتبرك بالشيء طلب البركة بواسطته، والبركة في القرآن والسنة هو ثبوت الخير ودوامه أو كثرة الخير وزيادته أو اجتماعهما معا2. والبركة في الاصطلاح هو "ثبوت الخير الإلهي في الشيء"3، والتبرك هو: طلب حصول الخير بمقاربة ذلك الشيء وملابسته4. ولا شك أن التبرك بالشيء له تعلق بالشرع فينقسم إلى قسمين: أ- تبرك مشروع وهو الذي أذن به الشرع أو أمر به. ب- وتبرك ممنوع وهو عكس الأول. وفيما يلي الآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله في التبرك:   1 انظر معجم مقاييس اللغة 1/227- 228، ولسان العرب 1/396. 2 انظر التبرك أنواعه وأحكامه ص39. 3 المفردات ص44 للراغب الأصفهاني. 4 انظر التبرك أنواعه وأحكامه ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 38/1- روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم ... حتى جلس في سقيفة بني ساعدة وأصحابه ثم قال: "اسقنا ياسهل". فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه. قال: فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز فوهبه له"1. 39/2- الذهبي قال: قال مروان بن محمد، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني أخي عمرو أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس برد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذ قضيبه في يده يوم العيد2. 40/3- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن مسلم بن جماز عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله قال: أوصى عمر بن عبد العزيز عند الموت فدعا بشعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وأظفار من أظفاره وقال: إذا مت فخذوا الشعر والأظفار ثم اجعلوه في كفني ففعلوا ذلك3. 41/4- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا هشام بن سعيد، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني أخي عمرو بن مهاجر، قال: كان لعمر بن عبد العزيز بيت يخلو فيه، في ذلك البيت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 البخاري مع الفتح 10/98- 99، رقم 5637. 2 سير أعلام النبلاء 5/135. 3 ابن سعد الطبقات 5/406، فالأثر ضعيف لوجود محمد بن عمر لكن ورد عن أنس بن مالك مثل فعل عمر. انظر البخاري مع الفتح 11/70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فإذا سرير مرمول1 بشريط وقعب2 يشرب فيه الماء، وجرة3 مكسورة الرأس يجعل فيها الشيء، ووسادة من أدم محشوة ليف وقطيفة غبراء كأنها من هذه القطف الجرمقانية فيها من وسخ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول: "يا قريش هذا تراث من أكرمكم الله عز وجل به وأعزكم يخرج من الدنيا على ما ترون"4.   1 مرمول: منسوج: والمراد أنه سرير قد نسج وجهة بالصوف ولم يكن عليه وطاء سوى الحصير. انظر النهاية 2/265. 2 القدح الضحم الذي يروى الرجل. انظر القاموس المحيط ص162. 3 الجرة: إناء من خزف ... المعجم الوسيط ص116. 4 الإمام أحمد بن حنبل الزهد مع زوائد ابنه عبد الله ص19، وهشام بن سعيد هو: أبو أحمد الطالقاني، روى عن محمد بن مهاجر الأنصاري، روى عنه أحمد بن حنبل، ثقة. انظر الجرح والتعديل 9/62- 63. ومحمد بن مهاجر الأنصاري الشامي أخو عمرو، ثقة من السابعة. مات سنة سبعين. بخ م14. انظر تقريب التهذيب ص509. وعمرو بن المهاجر بن أبي مسلم الأنصاري أبو عبيد الدمشقي ثقة، من الخامسة مات سنة تسع وثلاثين وله أربع - أو خمس- وسبعون سنة. ي د ق. انظر تقريب التهذيب ص427. وقد خرج الأثر أبو نعيم في الحلية 5/326- 327، وأبو حفص الملاء 2/459- 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 التعليق: إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- في هذا المبحث أثار تبين تبركه -رحمه الله - بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم الباقية في عهده. والتبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم مما اتفق عليه أهل العلم قاطبة لأنه صلى الله عليه وسلم مبارك الأعيان والصفات، وبعد التحاقه بالرفيق الأعلى بقيت بعض الأشياء التي كان يستعملها، كبعض لباسه، ومقتنياته الشخصية، وبقية أظفاره وشعره، والقدح الذي شرب منه، وغير ذلك، فحرص عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- على اقتناء بعض هذه الأشياء تبركا بها، وهذا تبرك مشروع، مع العلم بأننا الآن لا يمكن أن نثبت على وجه الجزم واليقين وجود هذه المقتنيات الخاصة به صلى الله عليه وسلم، وقد تبرك عمر بن عبد العزيز بالقدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو تبرك مشروع، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يشربون من القدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج البخاري في صحيحه عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك رضي الله عنه وكان قد انصدع فسلسله بفضة قال أنس: "لقد سقيت في هذا القدح أكثر من كذا وكذا"1.   1 البخاري مع الفتح 6/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والمقصود أن الصحابة كانوا يتبركون بالشرب في القدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك اقتناء عمر - رحمه الله تعالى- البردة والقضيب وتبركه بهما من التبرك المشروع لما ورد في الصحيح عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة - رضي الله عنها - كساء ملبدا1 وقالت "في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم 2". وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة طيالسة وقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها3. فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها كثير تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق، ولباس، وما استعمله من   1 ملبدا: أي مرقعا، وقيل: الملبد الذي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبدة. انظر النهاية 4/224. 2 صحيح مسلم 5/245- 246،رقم (2080) ، والبخاري مع الفتح 6/212، (3108) . 3 صحيح مسلم بشرح النووي5/237/برقم2069. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الأواني وغيرها قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفي به ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة1. ووصية عمر - رحمه الله تعالى - بأن يجعل في كفنه بعض أشعار رسول الله صلى الله عليه وسلم له في ذلك سلف صدق من الصحابة، ففي صحيح البخاري أنه لما حضر بأنس بن مالك الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطة سك2 كان فيه شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم سليم قد جمعته وفيه عرقه وشعره صلى الله عليه وسلم3. ومن المهم الإشارة إلى أنه قد ذهب بعض الخلف4 إلى جواز قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيستحب التبرك بآثار الصالحين مثل التمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وهذا خطأ صريح لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا   1 انظر التبرك المشروع والتبرك الممنوع ص29 لعلي نفيع العلياني. 2 السك: طيب مركب يضاف إلى غيره. انظر الفتح 11/72. 3 انظر البخاري مع الفتح 11/70، وسير أعلام النبلاء 2/307 4 انظر: البخاري مع الفتح 3/130، ومسلم بشرح النووي 5/303، فقد ذهب الإمامان ابن حجر، والنووي إلى جواز التبرك بآثار الصالحين ولا شك أن ذلك زلة منهما يغفر الله لهما والقاعدة عند أهل السنة (أن كل واحد منا يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه ويسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بعد وفاته ولو كان خيرا لسبقوا إليه ... فدل على أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم1. ومما يؤكد اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التبرك أن التابعين رحمهم الله تعالى ومنهم كما سبق عمر بن عبد العزيز قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الباب فلم ينقل عنهم وقوع التبرك بالصحابة وغيرهم ولا فعله التابعون مع فضلائهم وقادتهم في العلم والدين2 بل إنهم منعوا ذلك سدا للذريعة كما يرى الشاطبي رحمه الله فقد قال في بيان هذه العلة "إن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه ... "3. فالاقتصار على ما جاء به النص هو سبيل المؤمنين الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.   1 انظر تيسير العزيز الحميد ص186. 2 انظر فتح المجيد ص106 وكتاب الدين الخالص لمحمد صديق حسن 2/250. 3 الاعتصام للشاطبي ص77 ط. دار الكتب العلمية ط. الثانية 1411هـ بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المبحث السادس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن الشرك ووسائله المطلب الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن التطير ... المبحث السادس الآثار عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن الشرك ووسائله. المطلب الأول: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز من النهي عن التطير. 42/1- ابن عبد الحكم قال1: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران، يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكنا نخرج بالله الواحد القهار2. التعليق: يتبين من هذا الأثر عن عمر نهيه - رحمه الله تعالى- عن التطير، ولا شك أن من حقَّق التوكل على الله تبارك وتعالى لا يلتفت إلى الأوهام التي   1 القائل مولاه مزاحم. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص32، والدبران: منزلة من ثمانية وعشرين نجما هي أمهات المنازل، والدبران الكوكب الأحمر الذي على أثر الثريا بين يديه كواكب كثيرة مجتمعة، من أدناها إليه كوكبان صغيران يكادان يلتصقان، يقول الأعراب هما كلباه والبواقي غنمه أو نياقه، وسمي بالدبران لأنه دبر الثريا أي خلفها ونوؤه ثلاث ليال وقيل بل هو ليلة وهو غير محمود عندهم. "الأزمنة والأمكنة ص234 للمرزوقي الأصفهاني، ط. دار الكتب العلمية عام 1417هـ. وانظر الخليفة الزاهد لعبد العزيز الأهل ط. دار العلم للملايين بيروت الطبعة السادسة 1979م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 نسجها الجهال المنجمون حول مقارنة المخلوقات العلوية بعضها مع بعض على إحداث شيء أو منع شيء، أو إعطاء سعادة أو إصابة بنحس، بل لله الأمر جميعا، وكان العرب في الجاهلية يرون أن القمر إذا كان في الدبران فإن السفر في تلك الليلة مشئوم1 وهذا وهم وتطير، والتطير من الشرك لما فيه من تعلق القلب بغير الله تعالى، ولاعتقادهم أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى2. ومن المعلوم أن الشمس والقمر، والنجوم مخلوقات مربوبة لا تتصرف بنفسها وإنما يصرفها الله كيف يشاء فمن الخطأ البين والوهم التعلق بالخيالات التي لا حقيقة لها، واعتقاد أن هذه المخلوقات لها تصرف في الكون، وأن اتصال بعضها مع بعض يوجب سعادة أو شقاوة. وهذا ما كان عليه العرب في الجاهلية، ولما جاء الإسلام أبطله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، كما أبطله السلف الصالح رحمهم الله تعالى كما مر في الأثر السابق عن عمر بن عبد العزيز حين قال لمزاحم- لما تطير -: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار.   1 انظر ما كتبه ابن القيم في بيان كراهية المنجمين للسفر والقمر في العقرب، ص216، مفتاح دار السعادة، وانظر كذلك الأزمنة والأمكنة ص234. 2 انظر تيسير العزيز الحميد ص438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فتوكله رحمه الله وكمال توحيده بالتوكل جعله لا يعبأ بهذه الأوهام التي تطرأ على نفوس بعض بني آدم أحيانا. وأصل التطير - وهو التشاؤم بما يراه أو يتعرض له في أثناء الخروج للسفر- أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طارت يمنة تيمن بها واستمر، وإن رآها طارت يسرة تشاءم بها ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير لتطير فيعتمد على طيرانها، فإذا طارت يمنة تيامن، وإن طارت يسرة تشاءم، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك ... وليس من تيامن الطير، وتياسرها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له إذ لا نطق للطير ولا للدبران ولا للقمر، ولا تمييز فيستدل بفعلهم على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله ... وكان أكثر أهل الجاهلية يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين1، ولعل ما مر من محاورة عمر لمولاه مزاحم من هذه البقايا الموروثة عن عرب الجاهلية أو الصائبة، وقد صرحت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن التطير فروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا   1 انظر البخاري مع الفتح 10/212- 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 طيرة ... " 1، فالمؤمن المتوكل لا يتطير وكلما قوي توكل العبد على ربه وصفت عقيدته ابتعد عن الأوهام، وعن وساوس الشيطان وحبائله فنسأله تعالى حسن التوكل وصفاء العقيدة. هذا وقد وفي العلامة ابن القيم موضوع التطير والفأل، ووجه الأحاديث الورادة في ذلك في كتابه مفتاح دار السعادة فأجاد وأفاد2.   1 البخاري مع الفتح 10/212، رقم (5753) . 2 انظر مفتاح دار السعادة ص216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المطلب الثاني: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز من النهي عن اتخاذ القبور مساجد . 43/1- عبد الرزاق قال: أخبرنا مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى - أو قال: لا يجتمع - دينان بأرض العرب"1. 44/2- ابن الجوزي قال: حدثنا حصين، أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يبنى القبر بآجر وأوصى بذلك2   1 عبد الرزاق في المصنف 10/359- 360. والحديث متفق عليه انظر البخاري مع الفتح 3/200، رقم (1330) ، عن عائشة - رضي الله عنها- ومسلم بشرح النووي 2/184، رقم (259) ، لكن بدون زيادة لا يبقى أو لا يجتمع دينان بأرض العرب، والحديث أخرجه البيهقي في دلائل النبوة مرسلا عن عمر بن عبد العزيز، انظر دلائل النبوة 7/204، وإسماعيل بن أبي حكيم القرشي مولاهم المدني ثقة من السادسة، مات سنة 30هـ م د س ق. انظر تقريب التهذيب ص107. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص 346،وابن القيم إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/196. ط. دار المعرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 التعليق: تبين مما سبق ذكره محبة عمر بن عبد العزيز للعقيدة الصحيحة، وبغضه لكل ما يضادها، ولا شك أن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتجصيصها من وسائل الشرك الممنوعة، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته يَعِزُّ عليه ما يشق عليها ويضرها، كما كان حريصا على سد منافذ الشرك ووسائله عن أمته. وقد كان السلف الصالح مهتمين بهذا الجانب حرصا منهم على اتباع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، يتبين ذلك من خلال ما أثر عن عمر بن عبد العزيز وهو نص حديث متفق عليه أرسله عمر رحمه الله، وقد ورد هذا الحديث بلفظين "قاتل" و"لعن". ومضمون الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حذر أمته من اتخاذ القبور مساجد وبين أن ذلك من فعل اليهود والنصارى، والمسلم منهي عن الاقتداء بهؤلاء الضلال المغضوب عليهم بنص القرآن، ولا شك أن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتجصيصها مما أجمع على منعه سلف الأمة كما مر عن عمر بن عبد العزيز حيث نهى أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره. ولما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد النبوي حين كان عمر عاملا له على المدينة وإدخال حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها حجرة عائشة - رضي الله عنها - التي فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كان عمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محددا بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فيصلى إليه جعل ذلك حين انهدم جدار البيت فبناه على هذا فصار للبيت خمسة أركان1. قال النووي رحمه الله: ... ولما احتاجت الصحابة والتابعون2 إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتد الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة - رضي الله عنها - مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ... 3.   1 انظر الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص141، تحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ. طبعة مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة عام 1406هـ. وانظر تيسير العزيز الحميد ص324. 2 وفي عبارة النووي رحمه الله ما يوهم أن إدخال حجرة عائشة رضي الله عنها في مسجده صلى الله عليه وسلم كان من فعل الصحابة والتابعين، والحال أن الأمر ليس كذلك، وإنما حصل هذا من الوليد بن عبد الملك كما مر ذكر ذلك. 3 انظر النووي على صحيح مسلم 2/185- 186. 4 انظر البخاري مع الفتح 3/200، رقم (1330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقال الحافظ ابن حجر: ... لما وسع المسجد جعلت حجرتها "يعني عائشة" مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة4. وقال ابن رشد الجد قال: مالك: وإنما بنى عمر بن عبد العزيز هذا البناء "يعني الحجرة الشريفة" حين كان الناس يصلون إليه، وجعلوه مصلى". ثم علق ابن رشد على قول مالك بقوله: أما الصلاة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهو محظور لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 فبناه عمر ابن عبد العزيز محددا على هيئة لا يمكن من صلى إلى القبلة استقباله2. والمقصود أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد سد منافذ الشرك بعلمه وحكمته كما تبين من نَقْل من شاهدوا بناء المسجد النبوي في عهد ولايته على المدينة النبوية، ولا شك أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا كان خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ... 3.   1 البخاري مع الفتح3 /200 رقم 1330 2 البيان والتحصيل 17/625-626. 3 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقد منع عمر من اتخاذ البناء لقبره وأوصى بذلك مع أنه كان في الزمن الذي فيه العقيدة صافية نقية إذا قورن ذلك الزمان بما بعده، ولكن لفهمه الصحيح لمقاصد السنة ولاتباعه المنهج الصحيح منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفقه الله تعالى للوصية بأن لا يبنى على قبره خشية أن يتخذ مسجدا فحسم الموقف قبل أن يستفحل، ولا شك أن ما ذهب إليه عمر هو ما يدل عليه الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه1.   1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/32-33، رقم (970) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المطلب الثالث: الآثار عن عمر في حكم السحر . 45/1- ابن قتيبة قال: حدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبد الصمد، قال همام عن يحيى بن أبي كثير أن عامل عمان كتب لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لسنا من الماء في شيء إن قامت البينة وإلا فخل سبيلها1. 46/2- ابن حزم الظاهري قال: عن يحيى بن أبي كثير قال: أن غلاما لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة فألقاها في الماء فطفت، فكتب إليه   1 ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث ص124-125. ط. دار الكتاب العربي. وانظر وابن عبد ربه: العقد الفريد 6/287 ط. دار الكتاب العربي بيروت. وزيد بن أخزم -بمعجمتين- الطائي البناني أبو طالب البصري ثقة حافظ، من 11خ. تقريب 221. وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري مولاهم صدوق ثبت في شعبة من التاسعة. تقريب ص356. وهمام بن يحيى بن دينار العوذي البصري ثقة ثبت ربما وهم من السابعة. تقريب ص574. ويحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل من الخامسة. تقريب ص596. وانظر الجرح والتعديل 3/556، و6/50،و9/107، و9/141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 عمر ابن عبد العزيز أن الله لم يأمرك أن تلقيها في الماء فإن اعترفت فاقتلها1. 47/3- ابن حزم أيضا قال: وعن ربيعة بن عطاء أن رجلا عبدا سحر جارية عربية، وكانت تتبعه، فرفع إلى عروة بن محمد، وكان عامل عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يبيعه بغير أرضها وأرضه، ثم ادفع ثمنه إليها2. التعليق: السحر لغة: هو كل أمر لطف مأخذه ودق3واصطلاحا: عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه4ومن المعلوم أن السحر من الشرك لأنه لا يحصل إلا بالاستعانة بالشياطين، ولا شك في خطورة انتشاره بين الناس، ويتبين من الأثرين الأوليين عن عمر حكم الساحر حيث إنه رحمه الله أمر بالتحقق ممن   1 ابن حزم: المحلى بالآثار 11/395. 2 ابن حزم: المحلى بالآثار 11/395. وربيعة بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع روى عن عروة بن محمد، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري. الجرح والتعديل 3/477، وذكره ابن حبان في الثقات، انظر ثقات ابن حبان ج 6 ص 300. 3 المعجم الوسيط ج 1 ص 419. 4 فتح المجيد ص315 ط وزارة الشئون الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يتعاطى السحر فإذا تبين أنه ساحر فحكمه القتل لأنه كافر، قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ... } 1، وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، وفصل الشافعي رحمه الله تعالى في حكم الساحر حيث بين أننا نسأله ونختبره فإذا كان سحره يستوجب القتل قتل، وإلا نزلناه منزلته التي يستحقها. والصواب ما عليه الجمهور لدلالة الآية، قال الحافظ ابن حجر: "وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر"2. والآية التي يشير إليها الحافظ هي قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر"4. فدل الحديث على أن السحر من الذنوب المهلكات التي تهلك صاحبها إذا لم يتب قبل موته، وهذا الذي   1 الآية 103 من سورة البقرة. 2 انظر البخاري مع الفتح 10/224، وانظر تيسير العزيز الحميد ص384. 3 الآية 103 من سورة البقرة. 4 البخاري مع الفتح 10/232، رقم (5764) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أثر عن عمر هو مدلول الآية كما سبق، وقد أثر كذلك عن حفصة، وعمر بن الخطاب، وجندب الخير1. والمقصود أن السحر من الشرك الذي يضاد التوحيد. وأما ما روي عن عمر في الأثر الثالث من عدم قتل الساحر الذي سحر جارية عربية وأمره بأن يباع من غير أرضه وأرضها ثم يدفع ثمنه إليها ففي ثبوته عن عمر نظر، لأن ابن حزم الظاهري لم يذكر سنده إلى ربيعة حتى تتبين صحته من عدمها، ثم إن صح الأثر عنه فلا تعارض بينه وبين الأثرين المتقدمين إذ يُحتمل أنه لم يتأكد من سحر هذا العبد ولم يجزم به لعدم وجود الأدلة الكافية على ذلك، فاكتفي ببيعه في غير أرضه وأرضها ودفع ثمنه إليها لأنه هو الخليفة أو لعله اعتقد أن قتله خسارة على أهله لأنه عبد مملوك. وعلى فرض ثبوته أيضا فقد يكون عمر قد استند إلى ما جاء عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها دبرت جارية، فاشتكت عائشة - رضي الله عنها - فطال شكواها، فقدم إنسان المدينة يتطبب، فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها فقال: والله إنكم تنعتون نعت امرأة مطبوبة،   1 انظر تيسير العزيز الحميد ص392-394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قال هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها قالت: نعم1 أردت أن تموتي فأعتق قال: وكانت مدبرة قالت: فبيعوها في أشد العرب ملكة، واجعلوا ثمنها في مثلها2.   1 هذا جواب عن سؤال لم يذكر في الحديث وكان عائشة سألتها هل قول الطبيب صحيح؟ فقالت نعم أردت أن تموتي فاعتق. عن كتاب نواقض الإيمان القولية والفعلية ص513. 2 أخرجه أحمد الفتح الرباني 14/159، والحاكم 4/219- 220، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6/178 رقم 1757. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الفصل الثاني: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في أسماء الله الحسنى المبحث الأول: ما أثر عنه في أسمه تعالى "الله" ... تمهيد: تعريف الاسم لغة واصطلاحا وبيان مذهب أهل السنة في أسماء الله تعالى الاسم لغة: مشتق من السمو، وقيل: أنه مشتق من السمة وهي العلامة1. والصحيح أنه مشتق من السمو، وهو العلو. قال الأزهري: ومن قال إن اسما مأخوذ من وَسِمْتُ فهو غلط، لأنه لو كان اسم من سِمْتُه لكان تصغيره، وُسَيْما مثل تصغير عدة وصلة وما أشبههما2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الاسم مشتق من السمو وهو العلو كما قال النحاة البصريون، لأن الاسم يظهر به المسمى ويعلو، فيقال للمسمِّي: سَمِّه أي أظهره وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به3.   1 انظر: الفتاوى 6/207، ومعجم مقاييس اللغة 3/99، تحقيق عبد السلام هارون ط. دار الجيل بيروت عام 1411هـ ط. الأولى. 2 انظر تهذيب اللغة للأزهري 13/117، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني ومراجعة على محمد البجاوي ط. الدار المصرية للطباعة والنشر. 3 انظر مجموع الفتاوى 6/207- 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أما تعريفه اصطلاحا: فأسماء الله الحسنى هي كلما ته الدالة على ذاته المتضمنة إثبات صفات الكمال له بلا مماثلة وتنزيهه عن صفات النقص والعيب1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها"2. وقال أيضا: "أهل الإسلام وأهل السنة يذكرون أسماء الله ويعرفونه ويعبدونه ويحبونه، ويذكرونه، ويظهرون ذكره، فله الأسماء الحسنى كما أخبر بذلك في كتابه وأخبر بذلك في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما ليس له اسم فإنه لا يذكر، ولا يظهر، ولا يعلو ذكره، بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف، ولذا يقال الاسم دليل على المسمى، وعلم على المسمى، ونحو ذلك. والملاحدة الذين ينكرون أسماءه وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته، ومحبته، وذكره، حتى ينسوا ذكره {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} 3، وقال: {وَلا   1 خالد عبد اللطيف: منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى ج2 ص391. 2 شرح العقيدة الأصبهانية ص5. 3 الآية 67: سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 1، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 23. والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه، وأمر بالتسبيح باسمه، كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى فيدعى بأسمائه الحسنى، ويسبح اسمه، وتسبيح اسمه هو تسبيح له، إذ المقصود بالاسم المسمى، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4، فالله هو المدعو الواحد الذي له الأسماء الحسنى"5. ولا شك أن كل قارئ للقرآن الكريم، وللأحاديث النبوية يجد أن الله تبارك وتعالى في كتابه قد سمى نفسه بأسماء، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد سمى ربه بأسماء، ومن المعلوم أن السلف الصالح يثبتون لله تعالى من الأسماء ما أثبته   1 الآية 19 من سورة الحشر. 2 الآية 205 من سورة الأعراف. 3 انظر: مجموع الفتاوى 6/209. 4 الآية 110 من سورة الإسراء. 5 انظر: مجموع الفتاوى 6/210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله، ولا أحد أعلم بالله بعد الله من رسوله صلى الله عليه وسلم. وأسماء الله تعالى كلها حسنى، وهي أعلام، وأوصاف، وهي أسماؤه حقيقة دالة على ذاته وصفاته، وهي توقيفية، وغير محصورة بعدد معين، وغير مخلوقة، ولا يجوز الإلحاد فيها. ولأهل السنة تفاصيل في أسماء الله الحسنى يحسن الرجوع إلى كتبهم في هذا الجانب، لأن الغرض من هذا التمهيد بيان مذهب أهل السنة في الجملة لربط ذلك بما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في بيان أسماء الله الحسنى. وهذا ما سيتضح بالآثار المنقولة فيما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 المبحث الأول: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الله". 48/1- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز رسالة فقال: "أما بعد: إني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ... "1. 49/2- ابن عبد الحكم قال: وكان عمر بن عبد العزيز يدعو بهذا الدعاء: "اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك ... "2. 50/3- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر إلى أهل الأمصار: "إن هذه الرجفة شيء يعاتب الله به العباد ... "3. 51/4- ابن عبد الحكم أن عمر خطب وفي آخر خطبته قال: "أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم"4.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص88، وأبو حفص الملاَّء 1/277. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص97، وأبو حفص الملاَّء 2/433، وابن الجوزي سيرة عمر ص311. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص64، وأبو حفص الملاَّء 1/262، وابن أبي الدنيا كتاب العقوبات. ص32 4 نفس المصدر ص40، وأبو حفص الملاَّء 2/451، وأبو نعيم في الحلية 5/295- 296، وابن الجوزي سيرة عمر ص233، وابن عساكر ورقة 141ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 التعليق: اسم الله العلم "الله" من الأسماء الحسنى، بل هو أعظم الأسماء الحسنى، لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء، ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى. قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 1. "وقد اختلف في اشتقاقه وتصريفه، قال الزجاج: واختلفوا هل هو مشتق أم غير مشتق؟ فذهبت طائفة: إلى أنه مشتق، وذهب جماعة ممن يوثق بعلمه إلى أنه غير مشتق". والصحيح أنه مشتق لأنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه ... ". ومعنى قولنا: "إله" إنما هو الذي يستحق العبادة بحق وهو تعالى المستحق لها دون من سواه. ومن فروع هذا الاسم العظيم "اللهم" قال سيبويه: زادوا الميم في آخره مثقلة عوضا عن حرف النداء في أوله، فلا يجمع بينهما لا يقال: "يا اللهم" لأن العوض والمعوض منه لا يجتمعان، وجرى مجرى الأصوات فبنى لذلك، ولذلك لا يوصف فلا يقال: "اللهم العزيز ... "2.   1 الآية 8 سورة طه. 2 انظر تفسير أسماء الله الحسنى إملاء أبي إسحاق بن إبراهيم بن السري الزجاج ص25- 26، ط. دار الثقافة العربية دمشق الطبعة الخامسة 1412هـ، واشتقاق أسماء الله للزجاجي ص32، ط. مؤسسة الرسالة بيروت. وبدائع الفوائد 1/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المبحث الثاني: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الرب" . 52/5- ابن عبد الحكم قال: وكان عمر يقول: "يارب خلقتني وأمرتني ونهيتني، ورغبتني في ثواب ما أمرتني به ... " وكان يقول: " يارب انفعني بعقلي ... "1. التعليق: الرب من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} 2. ومعنى الرب: المصلح للشيء، يقال: رببت الشيء أربه ربا وربابة: إذا أصلحته وقمت عليه، ورب الشيء: مالكه، فالله عز وجل مالك العباد، ومصلحهم ومصلح شئونهم. ومصدر الرب الربوبية، وكل من ملك شيئا فهو ربه، يقال: هذا رب الدار، ورب الضيعة، ولا يقال: "الرب" معرفا بالألف واللام مطلقا إلا لله عز وجل لأنه مالك كل شيء3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص68، وأبو حفص الملاَّء 2/477. 2 الآية 15 سورة سبأ. 3 انظر: الزجاجي اشتقاق أسماء الله ص32-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المبحث الثالث: في ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في أسمائه تعالى "الرحمن الرحيم، المليك، اللطيف، الخبير" . 53/6- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا محمد بن الصباح، ثنا عمر بن حفص، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك سلام عليك فإني أحمد الله إليك الله الذي لا إله إلا هو ... وقد علمت أني مسئول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ... فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ... فعليك بتقوى الله والرعية الرعية فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلا حتى تلحق باللطيف الخبير"1.   1 أبو نعيم في الحلية 5/274- 275، وابن الجوزي سيرة عمر ص340، بنفس السند لكن بتره وبدأ بقتادة، وأبو حامد بن جبلة سيأتي ترجمته في رسالة عمر في الرد على القدرية إن شاء الله تعالى. ومحمد بن إسحاق السراج النيسابوري روى عن قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وهو صدوق ثقة. انظر الجرح والتعديل 7/196، ومحمد بن الصباح لم أجده. وعمر بن حفص أبو حفص الأزدي البصري روى عن أبي حمزة، وسعيد بن أبي عروبة، قال أبو حاتم: منكر الحديث. الجرح والتعديل 6/102. وقتادة هو ابن دعامة السدوسي البصري روى عن أنس بن مالك وروى عنه سعيد ابن أبي عروبة حافظ إمام. انظر الجرح والتعديل 7/133-134. وسعيد بن أبي عروبة إمام أهل البصرة في زمانه، أبو النضر مولى بني عدي، واسم أبيه مهران. وله مصنفات لكنه تغير بأخرة ورمي بالقدر. انظر ميزان الاعتدال 2/151 -153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 التعليق: هذا الأثر عن عمر يحتوي على عدة أسماء حسنى وردت عن عمر بن عبد العزيز في البسملة، وخلال فقرات من الأثر كما هو واضح، فمن هذه الأسماء الحسنى اسمه تعالى "الرحمن" واسمه "الرحيم"، قال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 1. والرحمن الرحيم صفتان لله عز وجل مشتقتان من الرحمة فالرحمن فعلان، والرحيم فعيل، روي عن ابن عباس أنه قال: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم: الراحم. وقيل: إنه قال: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، والرحمن اسم خاص، والرحيم اسم عام، فلذلك قدم الرحمن على الرحيم في البسملة، ولهذا قيل رجل رحيم، ولم يقل: رحمن، ومن علماء اللغة من   1 الآية 3 سورة الفاتحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يرى أن معناهما واحد. والصواب ما تقدم لأن فعلان أشد مبالغة من فعيل كما يقال غضبان للممتلئ غضبا، وعطشان للممتلئ عطشا، وكذلك الرحمن: ذو النهاية في الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء. وكل اسم كان عن طريق الفعل أشد انعدالا كان في المدح أبلغ فرحمن أشد انعدالا عن طريقة الفعل من رحيم فلذلك كان أبلغ في المدح. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى أحسن ... وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف، والثاني للفعل. فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته". وقد ورد في الأثر اسم الله تعالى "المليك" وقد جاءت هذه الصيغة لهذا الاسم في القرآن الكريم قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 1 ومعنى هذا الاسم أن الله عز وجل مالك الأشياء ومصرفها على إرادته لا يمتنع عليه منها شيء، لأن المالك في كلام العرب هو المتصرف فيه القادر   1 الآية 55 سورة القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 عليه. والله عز وجل قادر على الأشياء التي خلقها ويخلقها لا يمتنع عليه منها شيء. وكذلك ورد في الأثر اسم الله "اللطيف"، قال الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. ومعناه أن الله هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون، ومعلوم أنه إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستحق سبيل الرفق دون العنف. فإذا اجتمع الرفق في الفعل، واللطف في العلم تم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا لله تعالى. وورد في الأثر كذلك اسم الله تعالى "الخبير"، ومعناه أن الله هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة وهو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا2.   1 الآية 14 سورة الملك. 2 انظر اشتقاق أسماء الله تعالى للزجاجي ص39-40، وص43، وبدائع الفوائد 1/21. وانظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص44- 45، والمقصد الأسنى للغزالي ص74، وص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 المبحث الرابع: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الكريم". 54/7- ابن الجوزي قال: حدثنا سهل بن يحيى المروزي قال: أخبرني أبي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم ... "1. التعليق: الكريم اسم من أسماء الله الحسنى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} 2.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص269، والآ جرى أخبار أبي حفص ص56، وسهل بن يحيى بن محمد روى عن أبيه، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان مصاحبا لابن المبارك ولم يذكره أبو حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 4/205. 2 الآية 6 سورة الانفطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ومعناه الجواد المعطى الذي لا ينفد عطاؤه، والله تعالى مسبب كل خير ومسهله فهو أكرم الأكرمين1.   1 انظر النهاية في غريب الحديث 4/166، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المبحث الخامس: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الحي" . 55/8- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن محمد بن العباس، ثنا سلمة بن شبيب، ثنا سهل بن عاصم، ثنا عبد الله بن عقبة، حدثني علي بن الحسين، قال: كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات فجاء إلى أهله يعزيهم، فصرخوا في وجهه، فقال لهم عمر: "إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت ... "1.   1 أبو نعيم في الحلية 5/330. عبد الله بن جعفر بن محمد موسى أبو الحسين البزاز كان ثقة. انظر تاريخ بغداد 10/128- 129، وقد مات سنة 351هـ. وعبد الله بن محمد بن العباس بن بيان قال الخطيب: فيه نظر. انظر تاريخ بغداد 10/106. ومسلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري صدوق. الجرح والتعديل 4/164. وسهل بن عاصم السجستاني روى عنه سلمة بن شبيب. قال أبو حاتم: شيخ. الجرح والتعديل 4/202. وعبد الله بن عقبة الليثي روى عن عبد الله بن سلام حديثا لعبد الله بن عمر رواه عنه نافع مولى ابن عمر. ولم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 6/178- 179. والأثر أخرجه أبو حفص الملاَّء 2/457، وابن الجوزي سيرة عمر ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 التعليق: قال ابن فارس: الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما خلاف الموت، والآخر الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة. وقال الزجاجي: الحي يفيد دوام الوجود. والله تعالى لم يزل موجودا، ولا يزال موجودا. والحي في كلام العرب خلاف الميت ... فالله عز وجل الحي الباقي الذي لا يجوز عليه الموت ولا الفناء. فالحي اسم من أسماء الله الحسنى. قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1. وحياته تعالى لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة، والسمع، والبصر، وغيرها2.   1 255 سورة البقرة. 2 انظر: الزجاجى اشتقاق أسماء الله ص102، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص56، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس2/122، والقواعد المثلى لابن عثيمين ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المبحث السادس: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الرقيب". 56/9- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز ... إن الله على كل شيء رقيب1 ... ". التعليق: الرقيب اسم من أسماء الله الحسنى، قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. ومعنى الرقيب: الحافظ، وهو مما جاء على فعيل بمعنى فاعل بمنزلة شهيد بمعنى شاهد، وعليم بمعنى عالم، ورقيب هنا بمعنى راقب، والرقبة الحفظ3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص109، وأبو حفص الملاَّء 1/280. 2 الآية 117 سورة المائدة. 3 انظر: الزجاجى اشتقاق أسماء الله ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المبحث السابع: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الشهيد" . 57/10- ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز خطبة وكان مما قال فيها ... والله على كل شيء شهيد1 ... ". التعليق: الشهيد من الأسماء الحسنى، كما قال تقدم في الآية السابقة. ومعناه في اللغة الشاهد. وهو فعيل بمعنى فاعل. كما أن العليم بمعنى العالم. والرحيم بمعنى الراحم. والشاهد خلاف الغائب، تقول العرب: "فلان كان شاهدا لهذا الأمر" أي لم يغب عنه. فالله عز وجل لما كانت الأشياء لا تخفي عليه كان شهيدا لها وشاهدا لها أي عالما بها وبحقائقها علم المشاهد لها، لأنه لا تخفي عليه خافية2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص109، وأبو حفص الملاَّء1/280. 2 انظر: الزجاجي اشتقاق أسماء الله ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المبحث الثامن: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى"الواحد القهار" ... المبحث الثامن: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسميه تعالى "الواحد القهار". 58/11- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم حين تطير، يامزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار1. التعليق: من أسماء الله الحسنى الواحد القهار، قال الله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 2. الواحد: وحد يحد حدة، بمعنى بان عن غيره، فالواحد مبني عن انقطاع النظير وعوز المثل3، لأن معناه في حق الله تعالى أنه لا ثاني له في ذاته وأسمائه، وصفاته وأفعاله، ولفظه يطابق معناه، لتوافقهما في الدلالة على ذات الله ووحدته4.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص32، وأبو حفص الملاء 2/436. 2 الآية 48 سورة إبراهيم. 3 انظر تهذيب اللغة 5/292، 293، 294، 295. 4 انظر رسالة أسماء الله الحسنى معانيها وآثارها ص670، 671. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ويقصد عمر رحمه الله تعالى من ذكر هذا الاسم صدق توكله على الواحد الأحد، وعدم الاعتماد على أي شيء آخر ولا شك أن هذا مقام الموحدين1. وقد ورد في الأثر كذلك اسم الله تبارك وتعالى القهار. وهو من الأسماء الحسنى، والقهر في وضع العربية، الرياضة والتذليل، يقال قهر فلان الناقة إذا راضها وذللها ... والله تعالى قهر المعاندين بما أقام من الآيات والدلالات على وحدانيته. وقهر جبابرة خلقه بعز سلطانه، وقهر الخلق كلهم بالموت. ويقصد أيضا بذكر هذا الاسم بأن الله تعالى هو القاهر فوق عباده ويجب على الخلق أن يتوكلوا عليه ولا يحيدوا عن ذلك، وأن لا يتعلقوا بما سواه من الأجرام والأفلاك لأنه هو القاهر وما سواه لا يستطيع صرف ضر ولا جلب خير. فهو سبحانه مستو على عرشه قاهر لخلقه فله علو القهر، والغلبة، والعظمة2.   1 انظر: الزجاج تفسير أسماء الله الحسنى ص57. 2 انظر: المصدر السابق ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المبحث التاسع: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى"العلي العظيم" ... المبحث التاسع: ما أثرعن عمر بن عبد العزيز في اسميه تعالى "العلي العظيم". 59/12- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد رسالة واختتمها بقوله ... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم1. التعليق: العلي من الأسماء الحسنى، قال الله تعالى: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2. والله هو العالي القاهر وله سبحانه علو القهر، وعلو الغلبة، وعلو الذات. فهو سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه كما أخبر بذلك. وهذا الاسم غُصَّة في حُلوق الجهمية نفاة العلو لله تبارك وتعالى فقد حاولوا تأويله فما تمكنوا فَبُهِتُوا. والعظيم: هو المستحق لأوصاف العلو والرفعة، والجلال، والعظمة، والتقديس من كل آفة وهذا الاسم من الأسماء التي تتضمن جملة من   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص81. 2 الآية 255 سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الصفات ولا يختص بصفة بعينها ومن ذلك المجيد والصمد، قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كقوله وهو الكبير المتعال. وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح: أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه1.   1 انظر تفسير ابن كثير 1/310، والاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة للبيهقي ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 المبحث العاشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى" العفو الغفور" ... المبحث العاشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسميه تعالى "العفو الغفور". 60/13- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أحمد بن الحسين الحذاء، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا عنبسة بن سعيد، ثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك في مرض عمر الذي توفي فيه وقال فيها: ... فإن يعف عني فهو العفو الغفور، وإن يؤاخذني بذنبي فيا ويح نفسي إلى ماذا تصير1.   1 أبو نعيم في الحلية 5/275. عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عثمان بن المختار أبو المزني الواسطي يعرف بابن السقا روى عنه أبو نعيم الحافظ، وكان فهما حافظا. انظر تاريخ بغداد 10/130. وأحمد بن الحسين بن نصر أبو جعفر الحذاء مولى همذان ثقة. انظر تاريخ بغداد 4/97- 98، وأحمد بن إبراهيم بن الحسن أصله من دورق، وكان ثقة ثبتا صحيح السماع كثير الحديث. انظر تاريخ بغداد 4/18-19. وعنبسة بن سعيد بن أبان القرشي الأموي الكوفي روى عن شريك، وابن المبارك روى عنه أحمد الدورقي. كان من حفاظ أهل الكوفة. انظر الجرح والتعديل 6/400. وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي روى عن مكحول، والزهري روى عنه ابن المبارك، ثقة صدوق. انظر الجرح والتعديل 5/300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 التعليق: العفو والغفور من الأسماء الحسنى، قال الله تعال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} 1 ومعنى العفو أن الله تعالى عفو وغفور عن الذنوب، وتارك العقوبة عليها. ومعنى الغفور: هو الذي يكثّر المغفرة، فالله تعالى يستر عباده المذنبين ويغفر لهم بعد الستر2.   1 الآية 60 سورة الحج. 2 انظر الاعتقاد للبيهقي ص23، وتفسير أسماء الله الحسنى ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المبحث الحادي عشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى"العزيز الحكيم" ... المبحث الحادي عشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسميه تعالى "العزيز الحكيم". 61/14- قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة، ثنا علي بن عثمان، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عمرو بن ميمون مهران، حدثني ليث بن أبي رقية كاتب عمر بن عبد العزيز في خلافته أن عمر كتب إلى ابنه رسالة وفيها ... فلله الحمد رب السموات والأرض، رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم1.   1 أبو نعيم في الحلية 5/277، والآيتان 36-37 من سورة الجاثية. وأخرج الأثر أيضا ابن الجوزي سيرة عمر ص111-112، وأبو حفص الملاء 1/267. وعبيد الله بن جرير بن جبلة بن أبي رود أبو العباس، وقيل أبو الحسن العتكي البصري، ثقة. توفي سنة 262هـ. انظر تاريخ بغداد 10/325. وعلي بن عثمان بن عبد الحميد لاحق الرقاشي روى عن عبد الواحد بن زياد وغيره ثقة. انظر الجرح والتعديل 6/196. وعبد الواحد بن زياد أبو بشر العبدي البصري ثقة. انظر الجرح والتعديل 6/20. وعمرو بن ميمون بن مهران الجزري ثقة. انظر الجرح والتعديل 6/258. وليث بن أبي رقية كاتب عمر بن عبد العزيز شامي لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل 7/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 التعليق: العزيز الحكيم من أسماء الله الحسنى قال الله تعال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. العزيز هو المنيع الذي لا يغلب. والعز في كلام العرب يأتي لمعان: فيأتي بمعنى الغلبة وبمعنى الشدة والقوة، وبمعنى نفاسة القدر، ومعنى العزيز على هذا أنه الذي لا يعادله شيء وأنه لا مثل له ولا نظير. والحكيم هو المحكم لخلق الأشياء، وكون هذا الاسم يأتي مقارنا لاسمه تعالى العزيز إشارة إلى أن عزته تعالى منوطة بحكمته بخلاف العزيز من البشر فاجتماعهما نور على نور2.   1 الآية 2، سورة فاطر. 2 انظر: الخطابي شأن الدعاء ص47- 48- 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المبحث الثاني عشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الوارث". 62/15- ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز وذكر بالموت وقال: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون حتى ترد إلى خير الوارثين1 ... " التعليق: الوارث من الأسماء الحسنى، ويقارب في معناه اسمه تعالى الباقي في معنى الأبدية الدائمة وهو من لوازم اسمه الآخِرِ لأنه تعالى الباقي بعد ذهاب أمد الخلق، وهذا الذي أكدته غير ما آية من القرآن كأية سورة الحجر {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} 2. وذلك لأن وجود الخلق كان بمشيئة الله وكذلك الأملاك الدنيوية جعل الناس مستخلفين فيها وقد كتب عليهم وعليها الفناء والهلاك فإذا حشروا كان له الحكم والقهر   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42-43، والفسوى المعرفة والتاريخ 1/612. 2 آية 23 سورة الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بالملك كما قال عز وجل { ... لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 1. فتكون له المواريث جميعا2.   1 آية 16 سورة غافر. 2 انظر رسالة الأسماء الحسنى معانيها وأثارها ص702، رسالة دكتوراه لم تنشر بعد للدكتور رفيع أووَّنْلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 المبحث الثالث عشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "الخالق". 63/16- ابن عبد الحكم قال: وخطب عمر في التقوى فقال: أيها الناس إني لست بخازن ولكني إنما أضع حيث أمرت ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ... "1. التعليق: الخالق من الأسماء الحسنى، قال الله تعال: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} 2. ومعناه مأخوذ من قول العرب: خلق فلان الأديم إذا قدره للقطع للإصلاح. ورجل خالق أي صانع. فالخالق يدل على ذات الله وعلى صفة الخلق. ويدل على الذات وحدها 3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص41، وأبو حفص الملاَّء2/446، وأبو نعيم في الحلية 5/295-296، وابن عساكر ورقة 95ب. 2 الآية 24 سورة الحشر. 3 انظر اشتقاق أسماء الله الحسنى ص166-167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 المبحث الرابع عشر: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في اسمه تعالى "العليم". 64/17- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد ابن إسحاق السراج، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا محمد بن بكر البرساني، ثنا سليم نفيع القرشي، عن خلف أبي الفضل القرشي، عن كتاب عمر بن عبد العزيز إلى المكذبين بالقدر وفيها: ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليما، وعلى كل شيء شهيدا قبل أن يخلق وبعد ما خلق ... "1. التعليق: العليم من الأسماء الحسنى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. فالله عز وجل هو العالم المحيط علمه بكل شيء بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة. فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه   1 أبو نعيم في الحلية 5/346، و348، وسيأتي الكلام على السند في فصل الرد على القدرية 2 الآية 75 سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 مكان ولا زمان ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر، والبواطن، والجلي، والخفي، وأحاط علمه بالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفي عليه شيء من الأشياء1. هذه بعض أسماء الله الحسنى الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وكلها تبين المنهج الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة. وقد قعد أهل السنة قواعد في أسماء الله تعالى يمكن استنتاج بعضها من كلام عمر رحمه الله تعالى فمن هذه القواعد ما يلي: 1- أن أسماء الله تعالى أزلية، قال عمر بن عبد العزيز:" ... ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليما، وعلى كل شيء شهيدا قبل أن يخلق شيئا وبعد ما خلق ... "2. فبين عمر أن الله له لأسماء الحسنى وهي العليم، والشهيد أزلا وهذا معتقد أهل السنة والجماعة كما تقدم.   1 انظر شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي القحطاني ص88- 90. 2 أبو نعيم في الحلية 5/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 2- أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهذا منهج أهل السنة والجماعة وهو ما تبين بالاستقراء من كلامه حيث لم يذكر حسب اطلاعي إلا أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة، وهو الحق إذ لا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. 3- أن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف، أعلام باعتبار دلالتها على الذات وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني وهي بالاعتبار الأول - أي أعلام - مترادفة، وبالاعتبار الثاني - أي أنها أوصاف - متباينة، لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فالحي الرحمن الرحيم كلها أسماء لمسمى واحد، لكن معنى الحي غير معنى الرحمن وهكذا1. وقد خالف معتقد السلف الصالح في توحيد الأسماء الحسنى بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام، فالجهمية أنكرت الأسماء الحسنى وذلك لظنهم أن التوحيد نفي محض، وأن إثبات الأسماء الحسنى إثبات لأعراض حادثة، ولم يثبتوا من الأسماء الحسنى غير اسم الله "القادر والخالق" لأن الجهم لا يسمي أحداً من المخلوقين قادرا لنفيه استطاعة العباد، ولا يسمى أحداً   1 انظر القواعد المثلى ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 خالقا غير الله تعالى، لأن عنده أن كل صفة أو اسم يجوز أن يسمى أو يتصف به غير الله فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى1. وعلى هذا يجب على المسلم الوقوف عند ما ثبت وترك الابتداع، والتحريف، والتأويل المفضي إلى الإلحاد فإن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.   1 انظر منهاج السنة 2/526. 2 الآية 180 سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الفصل الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الصفات العلى المبحث الأول: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في إثبات صفة النفس لله تعالى ... الفصل الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الصفات العلى تمهيد: في تعريف الصفة لغة واصطلاحا وموقف أهل السنة من صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة. الصفة لغة: الصفة أصلها وصف، قال ابن فارس: الواو والصاد، والفاء، أصل واحد، هو تحلية الشيء، ووصفته أصفه وصفا. والصفة: الأمارة اللازمة للشيء1. فالصفة إذاً ما قام بالموصوف من نعوت، وتارة يراد به الكلام الذي يوصف به الموصوف، وتارة يراد به المعاني التي دل عليها الكلام، كالعلم والقدرة2. فصفات الله تعالى إذاً هي: "نعوت الكمال القائمة به سبحانه وتعالى". والصفة غير الذات، وزائدة عليها من حيث مفهومها، وتصورها بيد أنها لا تنفك عن الذات3.   1 معجم مقاييس اللغة 6/115. 2 انظر مجموع الفتاوى 3/335. 3 انظر منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله 2/400، وانظر الصفات الإلهية في الكتاب والسنة للشيخ الدكتور محمد أمان الجامي رحمه الله ص 82، ط. الجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من نعوت الجلال والكمال إثباتا بلا تمثيل ولا تكييف، وينزهون الله عن صفات النقص ومشابهة خلقه له في صفاته تنزيها بلا تعطيل. قال ابن عبد البر: "أجمع أهل السنة على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة كلها، والإيمان بها وحملها على الحقيقة، لا على المجاز"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة المفضلة، ومن سلك سبيلهم من الخلف، أن هذه الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف منهم - الخطابي- مذهب السلف: أنها تجرى على ظاهرها، مع نفي الكيفية، والتشبيه عنها. وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية. فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية"2.   1 انظر التمهيد لابن عبد البر 7/145. 2 انظر الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 29-30 تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ط. الأولى عام 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ولأهل السنة والجماعة تفاصيل في الصفات التي يجوز إطلاقها على الباري، وما لا يجوز. فمما لا يجوز إطلاقه على الباري، وصفه بما هو شر، وإطلاق الصفات المذمومة عليه مطلقا، ويمكن أن يطلق عليه ما يكون في حال المقابلة صفة مدح، كما في قوله تعالى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} 1، وذلك أن هذه الصفة وغيرها تكون كمالا في حال، ونقصا في حال، فمن هنا فهي ليست جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق. فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفي عنه نفيا مطلقا فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمنع في الحال التي تكون نقصا. واتفق أهل السنة على أنه لا تصغّر صفات الله2، ولهم تفاصيل كثيرة ليس المجال مجال بحثها، وتفصيلها. وإنما إعطاء نبذة موجزة عنها، وقد كان السلف الصالح ومن سار على نهجهم يثبتون لله تعالى صفاته العلى الواردة في الكتاب والسنة كما تقدم. وكان أمير المؤمنين عمر بن عبد   1 الآية 142 من سورة النساء. 2 انظر البخاري مع الفتح 13/366، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 العزيز الذي هو موضوع البحث عن آثاره العقدية ممن يثبت الصفات العلى، وهذا ما سيتبين بالآثار المنقولة عنه فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 المبحث الأول: ما أثر عن عمر في إثبات صفة النفس لله تعالى 65/1- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك ابن عبد الرحمن1 رسالة فقال: أما بعد فإن الله جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه لا يقبل دينا غيره2 ... التعليق: إثبات صفة النفس لله تبارك وتعالى كما تبين من هذا الأثر عن عمر ابن عبد العزيز هو ما يدل عليه الكتاب والسنة وهو ما عليه السلف الصالح، قال عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 3 وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} 4 وقال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: " ... لا أحصي ثناء عليك   1 الضحاك بن عبد الرحمن بن عزرب الشامي. تابعي ثقة. انظر: ميزان الاعتدال 2/324. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص86، وأبو حفص الملاء 1/280. 3 الآية 28، من سورة آل عمران. 4 الآية 54 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أنت كما أثنيت على نفسك" 1، وفي الحديث القدسي: " ... إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ... "2. فنفسه تعالى هي ذاته المقدسة، كما تبين ذلك من الكتاب والسنة، وبه قال عامة السلف، ولكن مع ظهور أدلة هذه الصفة وقوتها وعدم قبولها التأويل والتحريف حاولت الجهمية إنكارها. وقالوا: إن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه، وإن نفسه غيره، كما أن خلقه غيره. وهذا لا يتوهمه ذو لب فضلا عن أن يتكلم به، فإن الله قد بين في محكم تنزيله أنه كتب على نفسه الرحمة، وحذر العباد نفسه، أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره؟ 3. فنفسه تعالى هي ذاته المتصفة بصفاته وليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات4.   1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/152، رقم (486) . 2 متفق عليه صحيح مسلم بشرح النووي 6/175، برقم (2675) ، والبخاري مع الفتح 13/384، برقم (7405) . 3 انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ص 8. 4 انظر مجموع الفتاوى 14/196، و9/292-293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 المبحث الثاني: ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في صفة الوجه لله تعالى ... المبحث الثاني: ما أثر عن عمر في صفة الوجه لله تعالى. 66/2- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر إلى الخوارج رسالة وفيها: " ... وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي ... لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة ... "1. التعليق: صفة الوجه لله تبارك وتعالى من الصفات الخبرية الذاتية التي جاء بها الكتاب والسنة، وقال بها سلف الأمة كما تبين آنفا من النقل عن عمر بن عبد العزيز. فمن الآيات التي ورد فيها إثبات الوجه لله قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 2، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} 3، وغيرهما من الآيات. ومن السنة حديث ابن مسعود رضي الله عنه: لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75، وابن الجوزي سيرة عمر ص96، وانظر البخاري مع الفتح 12/313. 2 الآية 272، سورة البقرة. 3 الآية 22 من سورة الرعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الغنائم يوم حنين1 وقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ... "2. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حبسوا في الغار فقال كل واحدمنهم: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنَّا ما نحن فيه ... "3. فما على المسلم إلا التسليم لقول الله تبارك وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم سلف هذه الأمة لنصوص الصفات، وقد كان سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويلح في الدعاء طالبا النظر إلى وجهه تعالى، فلا يعقل أن يسأل الرسول ربه ما لا يجوز، ففي سؤاله ربه لذة النظر إلى وجهه بقوله:   1 حنين: مكان قريب من مكة وقيل: هو واد قبل الطائف، وقيل واد بجنب ذي المجاز. وقال الواقدي: بينه وبين مكة ثلاث ليال، وقيل بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً، وقعت فيه معركة حنين المشهورة. انظر معجم البلدان لياقوت 2/313. 2 البخاري مع الفتح 6/251، برقم (3150) ، ومسلم بشرح النووي 3/129، برقم (1062) . 3 البخاري مع الفتح 4/450، برقم (2272) ، ومسلم بشرح النووي 6/215، برقم (2743) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 "وأسألك لذة النظر إلى وجهك"1 أبين البيان وأوضح الحجج أن لله وجها يتلذذ بالنظر إليه من منَّ الله عليه وتفضل بالنظر إلى وجهه، ولا يتوهم أننا بإثباتنا لله وجها يليق به تشبيه وجه خالقنا عز وجل بوجه أحد من المخلوقين، كما يدعي من نفي صفات الرب جل وعلا وذلك بتفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} 2، بزعمه أن الوصف بقوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} إنما هو للرب فالمنعوت بـ"ذو الجلال والإكرام" عنده الرب لا الوجه، وقد رد هذا الدعوى الإمام ابن خزيمة فقال: "هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} فذكر الوجه مضموما في هذا الموضع مرفوعا وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه ولو كان قوله {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} مردود إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة "ذي   1 الحديث أخرجه أحمد 4/364 والنسائي 3 / 55 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي1/280-281 2 الآية 27، من سورة الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الجلال والإكرام" مخفوضا، فذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع ذو1. ولا شك أن ما وصف به خالق السموات والأرض من الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن ينفي خوفا من التشبيه بالخلق وأن ما وصف به الخلق من الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم"2.   1 انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ص12، والرد على الجهمية للدارمي ص132. 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص26- 27، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المبحث الثالث: ماأثر عن عمر بن عبد العزيز في إثبات صفة العلم لله تعالى ... المبحث الثالث: ما أثر عن عمر في إثبات صفة العلم لله تعالى 67/3- الآجري قال: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الهيثم بن عمران قال سمعت عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان - وهو مولى لآل عثمان وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز فبلغه أنهما ينطقان بالقدر، فدعاهما فقال: أعلم الله نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: نافذ يا أمير المؤمنين. قال: ففيم الكلام؟ فخرجا فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أسرفا فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟ قال عمرو فأومأت إليهما برأسي أن قولا نعم فقالا نعم، فأمر بإخراجهما1.   1 الشريعة للآجري 1/443، والقدر للفريابي ورقة ب56، والفريابي هو: جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض أبو بكر الفريابي قاضي الدينور أحد أوعية العلم ... وكان ثقة أمينا حجة. انظر ميزان الاعتدال 4/302، والهيثم بن عمران الدمشقي روى عن عمرو بن مهاجر وروى عنه هشام بن عمار لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 9/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 68/4- وروى أبو داود أن عمر كتب إلى عامله رسالة وفيها: ... وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء من الأشياء لم يحط به علمه ولم يحصه كتابه ولم ينفذ فيه قدره ... "1. 69/5- أبو نعيم الحافظ بسنده إلى كتاب عمر بن عبد العزيز إلى النفر الذين كتبوا إليه، قال فيها: ... ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعا فما ضل منهم إلا من كان في علم الله ضالا ... 2. التعليق: العلم صفة ذاتية لله تبارك وتعالى والسلف الصالح ومن سار على نهجهم رحمهم الله تعالى يثبتون أن لله تعالى علما وأن علمه أزلي بأزليته وأنه عز وجل علم في الأزل ما سيكون من دقيق وجليل. وهو عالم بكل شيء. وهذا ما قرره عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بقوله: أعلم الله   1 أبو داود في السنن 4/202، والآجري في الشريعة 1/444- 445، والفريابي في القدر ورقة ب 74، وابن بطة في الإبانة 2/231-232- 233، والبيهقي في القضاء والقدر ل ق 89، وصحح الأثر الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/873. 2 أبو نعيم في الحلية 5/347، وسيأتي الكلام على سند هذا الأثر في فصل الرد على القدرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 نافذ في عباده، وقوله: أن يكون شيء لم يحط به علمه ... " وقد كفر عمر من جحد العلم من القدرية كما سيأتي في مناظرته لغيلان القدري، وثبوت العلم لله تبارك وتعالى هو ما نطق به الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ... } 1، وقال عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3، ومن السنة أدلة كثيرة منها حديث الاستخارة: "اللهم إني استخيرك بعلمك.."4. ولا شك أن علمه تعالى من لوازم نفسه المقدسة، وبراهين علمه تعالى ظاهرة مشاهدة في خلقه وفي شرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولا بد للإرادة من علم بالمراد كما قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 5.   1 الآية 255 من سورة البقرة. 2 الآية 166 من سورة النساء. 3 الآية 97 من سورة المائدة. 4 البخاري مع الفتح 11/183، برقم "6382) . 5 الآية 14 من سورة الملك. وانظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وإثبات صفة العلم لله تعالى هو مذهب السلف والخلف من الأشاعرة والكلابية1 وغيرهم، ومع وضوح أدلة هذه الصفة وكونها من الصفات التي أثبتها العقل والسمع حاول أن ينفيها غيلان القدري وغيره من القدرية الأولى ثم ورث هذا المعتقد الفاسد الجهمية، والمعتزلة فقالت المعتزلة إن علمه تعالى هي ذاته2، وهذا معلوم بطلانه بضرورة العقل الذي يقد مه المعتزلة. ويفضلونه على النقل فوجود المخلوقات، وظهور تناسبها دليل على علم خالقها فالمعتزلة خالفوا بدائه العقول فالعقول لا تعقل وجود ذات عالمة بغير علم. قال الحافظ ابن خزيمة رحمه الله: ... أنكرت الجهمية أن يكون لخالقنا علم مضاف إليه من صفات الذات تعالى الله عما يقول الطاعنون في علم الله علوا كبيراً، فيقال لهم: خبرونا عمن هو عالم بالأشياء كلها أله علم أم لا؟ فإن قال: الله يعلم السر والنجوى، وهو بكل شيء عليم، قيل له فمن هو عالم بالسر والنجوى وهو بكل شيء عليم أله علم أم لا علم له؟ فلا جواب لهم لهذا السؤال إلا الهرب. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3.   1 انظر مثلا كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ص49، ولمع الأدلة للجويني ص94. والبخاري مع الفتح 11/183. 2 انظر شرح الأصول الخمسة ص183. 3 كتاب التوحيد لابن خزيمة تحقيق محمد خليل الهراس ص 10، والآية 258 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 المبحث الرابع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الكبرياء لله تعالى . 70/4- الفسوى قال: حدثنا حرملة أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني الليث أن أبا النضر حدثه، قال: دسست إلى عمر بن عبد العزيز بعض أهله أن قل له إن فيك كبرا وأنه يتكبر: فقيل ذلك فقال عمر: "قل له: لبئس ما ظننت أن كنت تراني أتوقى الدينار والدرهم مراقبة لله فأنطلق إلى أعظم الذنوب فأركبه الكبرياء إنما هو رداء الرحمن فأنازعه إياه"1. التعليق: الكبرياء لله تعالى صفة ثابتة بالكتاب والسنة يثبتها السلف على ما يليق بالله تعالى كما اتضح لنا آنفا من كلام عمر بن عبد العزيز، ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله التي لا يجوز للعباد أن يتصفوا بها فقد   1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/581- 582، وابن الجوزي سيرة عمر ص215، وأبو حفص الملاء 1/164. وحرملة بن يحيى بن حرملة، أبو حفص التجيبي صدوق، انظر تقريب التهذيب ص156، وأبو النضر هو راوي قول أنس ما صليت خلف أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى ولم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 9/450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 توعد الله المتكبرين بجهنم. قال عز وجل: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 1، ولذا فقد حرص عمر رحمه الله تعالى أن يبين للسائل أنه لا يجوز له الاتصاف بالتكبر لأن هذه الصفة خاصة بالخالق عز وجل، ومن أدلة ثبوت هذه الصفة لله تعالى قوله: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، وحديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما: "العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته" 3. فوصف الله تعالى بأن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه تثبت كسائر صفاته على ما يليق به ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص دون تحريف ولا تعطيل4.   1 الآية 72 من سورة الزمر. 2 الآية 37من سورة الجاثية. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/133، برقم "2620) . قال النووي "ينازعني يتخلق بذلك" انظر النووي على صحيح مسلم 6/133. 4 شرح كتاب التوحيد للغنيمان 1/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 المبحث الخامس: ما أثر عن عمر في صفة القدرة لله تعالى 71/5- ابن الجوزي قال: حدثنا عيسى بن سليمان عن ضمرة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله "أما بعد: فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك في نفاذ ما يأتي إليهم وبقاء ما يأتي إليك"1. 72/6- أبو نعيم في رسالة عمر في الرد على القدرية وفيها: ... فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحدا إبطال علمه ... "2. التعليق: يتبين من خلال الأثرين السابقين إثبات عمر بن عبد العزيز صفة القدرة لله تبارك وتعالى وهي من الصفات التي دل عليها السمع والعقل   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص125، وابن كثير البداية النهاية 5/225، وأبو حفص الملاء 1/205. رجال السند عيسى بن سليمان يحتمل أنه القرشي الحمصي الفهري يدل حديثه على الصدق. انظر الجرح والتعديل 6/278. وضمرة هو ابن ربيعة الفلسطيني أبو عبد الله الرملي صالح الحديث انظر الجرح والتعديل 4/467. 2 أبو نعيم في الحلية 5/347، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} 2، ومن السنة حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه لما ضرب غلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"3.   1 الآية 20 من سورة البقرة وغيرها. 2 الآية 65 من سورة الأنعام. 3 مسلم برقم 1659، 4/290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 المبحث السادس: ما أثر عن عمر في إثبات صفة العلو لله تعالى 73/6- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد وفي آخر الرسالة قال: ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم1 74/7- أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن ذكوان حدثنا عبد العزيز بن أبي السائب عن أبيه قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: والذي أكرمك بما أكرمك به من الخلافة قال: فاستتر بيده من السماء وقال: ويحك تدري ما تقول؟ 2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص81. 2 تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص209، ط. دار الكتب العلمية عام 1417هـ ط. الأولى. وعبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان البهراني الدمشقي إمام الجامع صدوق، مات سنة 42 وله نحو 70 سنة، د ق تقريب ص295. وانظر الجرح والتعديل 5/5. وعبد العزيز ابن أبي السائب هو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان بن أبي السائب الدمشقي روى عن أبيه. انظر الجرح والتعديل 5/399، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من عباد أهل الشام. ثقات ابن حبان 8/392- 393. ووالده هو الوليد بن سليمان بن أبي السائب الدمشقي الشامي روى عنه ابنه عبد العزيز بن الوليد وهو من ثقات مشيخة دمشق. انظر الجرح والتعديل 9/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 75/8- ابن عبد الحكم قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال فيها: ... وإن لكم معادا ينزل الله تبارك وتعالى للحكم فيه والفصل بينكم ... "1. 76/9- ابن أبي الدنيا قال: حدثني الحسن بن الصباح قال: ثنا ميسرة ابن إسماعيل، عن أبي عبد الله الأنطاكي: قال عمر بن عبد العزيز: كانت المساجد على ثلاثة أصناف: فصنف ساكت سالم، وصنف في ذكر الله عز وجل، والذكر معروج به وصنف في صلاة والصلاة لها من الله نور ... 2. التعليق: تتضمن هذه الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز إثبات علو الله تبارك وتعالى تصريحا وتلميحا، وإثبات علو الله على خلقه مركوز في الفطر السليمة، وثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42، وانظر: الفسوى المعرفة والتاريخ 1/612. 2 ابن أبى الدنيا العزلة والانفراد ص81-82، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط. دار الوطن الرياض، ط. الأولى عام 1417هـ. وقال المحقق إسناده ضعيف. والأثر ذكره ابن الجوزي سيرة عمر ص260، وأبو حفص الملاء 2/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قال شارح الطحاوية: والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده تقرب من عشرين نوعاً: أحدها: التصريح بالفوقية مقرونا بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 1. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 2. الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 3. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم"4. الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} 5. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 6، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} 7.   1 الآية 5 من سورة النحل. 2 الآية 18 و 61 من سورة الأنعام. 3 الآية 4 من سورة المعارج. 4 البخاري مع الفتح 2/33/رقم555 ومسلم بشرح النووي 2/272/برقم632. 5 الآية 10 من سورة فاطر. 6 الآية 158 من سورة النساء. 7 الآية 55 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وشرفاً كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 1. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 3. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله تعالى {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 4، وغيرها من الآيات. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك} 5، وقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه تعالى على نفسه: "أنه عنده فوق العرش"6. التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء كقوله للجارية "أين الله" فقالت: في السماء7 والسماء يراد به العلو، و"في" بمعنى "على".   1 الآية 255 من سورة البقرة. 2 الآية 23 من سورة سبأ. 3 الآية 51 من سورة الشورى. 4 الآية 1 من سورة الزمر. 5 الآية 206 من سورة الأعراف. 6 البخاري مع الفتح 6/287، برقم (3194) . 7 مسلم برقم 537 وأحمد ج 5/445. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 العاشر: التصريح بالاستواء مقرونا بأداة "على" مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات مصاحبا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا "1، والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة، والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع. الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل. الثالث عشر: الإشارة إليه حسًّا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به ولما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم. قال لهم أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعا لها إلى من هو فوقها وفوق   1 الحديث رواه مسلم برقم 1218، 3/340- 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 كل شيء قائلا: "اللهم اشهد"1، فكأنا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع اصبعه إليه: "اللهم اشهد" ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر: التصريح بلفظ "الأين" كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه: "أين الله"2 في غير موضع. الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان. السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطّلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه فوق السموات فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى   1 أخرجه أحمد 5/438، وابن أبي شيبة 1/340، وأبو داود برقم 1488، والترمذي برقم 3551، وابن ماجة 3865، وصححه ابن حبان 2399، وحسنه الحافظ في الفتح 11/121. 2 مسلم برقم 537، 2/381، وأحمد 5/447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 1، فمن نفي العلو من الجهمية فهو فرعوني ومن أثبته فهو موسوي محمدي. السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة فيصعد إلى ربه، ثم يعود إلى موسى عدة مرات. الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم ... "2. ومع وضوح هذه الأدلة وثبوتها حيث لا مجال للمسلم تجاهها إلا التسليم والإيمان حرفها من خرج عن منهج السلف من المتكلمين ومن تأثر بهم وسلكوا في ردها مسلكين معوجين هما: 1- تأويل هذه الأدلة والزعم بأن ظاهرها غير مراد، وأن إثباتها يؤدي إلى محذور ويكفي في الرد عليهم أن نقول لهم أأنتم أعلم أم الله ورسوله؟ 2- التفويض وهو عندهم أن هذه الصفة ثابتة لكن ثبوتها يقتصر على القول بها لفظا أما المعنى المراد منها فموكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى.   1 الآيتان 36-37 من سورة غافر. 2 انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/380 إلى 386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وهؤلاء المفوضة أساءوا إلى السلف الصالح حيث زعموا أنهم يفوضون1 معاني نصوص الصفات بلا دليل صحيح ويرد عليهم بما ثبت ما نقلناه عن عمر بن عبد العزيز من استتاره بيده من السماء حياءً من الله تعال، ى وإثباته النزول يوم القيامة، ولا شك أن النزول يستلزم العلو عند جميع العقلاء، ولا يمكن حمل ما أثر عن عمر بن عبد العزيز وغيره على أنه وغيره من السلف كانوا يفوضون معاني نصوص الصفات، بأي وجه من الوجوه لأن كلامه رحمه الله تعالى هنا لا يقبل التأويل ولا التفويض. فعلوه تعالى مطلق من كل وجه فله سبحانه وتعالى علو القهر وعلو القدر، وعلو الذات، ومن أثبت البعض ونفي البعض فقد تناقض 2. وعلوه سبحانه وتعالى ثابت بالعقل من عدة وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر.   1 السلف كانوا يفوضون كيفية الصفات أما معناها فمعلوم لهم ومن زعم انهم يفوضون المعنى والكيفية فقد أبعد النجعة. 2 انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته والأول باطل، أما أوّلاً فبالاتفاق، وأما ثانيا فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والثاني: يقتضي كون العالم واقعا خارج ذاته، فيكون منفصلا، فتعينت المباينة لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول. الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية لأنه غير معقول فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه والأول باطل فتعين الثاني فلزمت المباينة. وعلوه ثابت أيضا بالفطرة فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهويتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: ياالله إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال وبكى وقال: حيّرني الهمداني حيّرني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الهمداني أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المعلمين يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو1.   1 انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/389- 391، وانظر العلو للعلي الغفار للذهبي ص188- 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 المبحث السابع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة المعية والقرب لله تعالى . 77/10- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك ابن عبد الرحمن، أما بعد: فإن الله جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ... وفيها: " ... وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير وأشهد عليهم الذي هو آخذ بناصية كل دابة والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد ... "1. 78/11- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أيوب ابن شرحبيل وأهل مصر رسالة وفيها: " ... ومن يخالف ما نهى عنه نعاقبه في العلانية ويكفينا الله ما أسر، إنه على كل شيء رقيب والله على كل شيء شهيد ... "2. التعليق: تتضمن الأثران السابقان عن عمر بن عبد العزيز إثبات صفة المعية لله تبارك وتعالى وصفة القرب. ولا شك أن المعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة ومعية خاصة.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 291، و93، وأبو حفص الملاء 1/283. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص89- 90، وأبو حفص الملاء 1/280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وهذا المأثور عن عمر هو الحق الذي دل عليه الكتاب فمن أدلة المعية العامة في الكتاب قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} 1، والمعنى أن الله مع جميع ما خلق يعلم ما هم عليه فلا تخفي عليه منهم خافية في الأرض ولا في السماء بل أحاط كل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، ومن أدلة المعية الخاصة قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 2، ومما يجدر التنبيه عليه أن معية الله لا توجب المخالطة والممازجة الذاتية لا شرعا ولا لغة بل تمنع ذلك باعتبار إضافتها إلى الله تعالى فإذا كانت معية عامة فمعناها العلم والإطلاع والإحاطة، وإن كانت خاصة فمعناها الحفظ والنصر والتأييد. ولا ينبغي أن نفهم منها أي معنى من المعاني التي لا تليق بالله تعالى3. وأما صفة القرب فهي صفة ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 4 ومن السنة حديث: "من تقرب   1 الآية 4 من سورة الحديد. 2 الآية 128 من سورة النحل. 3 انظر الصفات الإلهية في الكتاب والسنة لمحمد أمان الجامي ص240. 4 الآية186 البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 إلي شبرا تقربت منه ذراعا ... "1 وأهل السنة والجماعة من السلف وأهل الحديث يعتقدون أن الله عز وجل قريب من عباده حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته وهو مستو على عرشه بائن من خلقه ,وأنه يتقرب إليهم حقيقة ويدنو منهم حقيقة ولكنهم لا يفسرون كل قرب ورد لفظه في القرآن أو السنة بالقرب الحقيقي, فقد يكون القرب قرب الملائكة, وذلك حسب سياق اللفظ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وأما دنوه وتقربه من بعض عباده, فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه, ومجيئه يوم القيامة, ونزوله, واستواؤه على العرش, وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم متواتر2.   1 الحديث رواه البخاري برقم (7405) ومسلم برقم (26756) . 2 الفتاوى5 /466 وانظر: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي السقاف 75- 76/ط دار الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 المبحث الثامن: ما أثر عن عمر في إثبات صفة النزول لله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء . 79/12- الفسوى قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة - وكانت آخر خطبة خطبها - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وأن لكم معادا ينزل الله ليحكم فيكم ويفصل بينكم ... "1.   1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/611-612، وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42، وابن الجوزي سيرة عمر ص275، وابن كثير في البداية والنهاية 5/222. وأبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر المصري روى عن معاوية بن يحيى الأطرابلسي، وعبد الرحمن بن القاسم ولم يذكره ابن أبى حاتم بجرح ولا تعديل انظر الجرح والتعديل 5 /274- 275. ويعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني روى عنه عبد الرحمن بن أبي الغمر ثقة. انظر الجرح والتعديل ج9/210، وأبوه هو: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري روى عنه ابنه يعقوب ثقة. انظر الجرح والتعديل 5/281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 80/13- اللالكائي قال: أخبرنا الحسين قال أخبرنا أحمد قال ثنا بشر قال ثنا عبد الله بن يزيد المقري قال: ثنا حرملة بن عمران قال: حدثني سليمان بن حميد أنه سمع محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار أقبل تبارك وتعالى في ظلل من الغمام ومعه الملائكة فيقف على أهل أول درجة من الجنة فيسلم عليهم فيردون عليه وهو قوله: سلام قولا من رب رحيم1. التعليق: إن صفة النزول التي قررها عمر بن عبد العزيز في الأثر الأول صفة ثابتة بالكتاب قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 2، وقال عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 3، وقال   1 اللالكائى: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/500، قال محقق الكتاب هذا الأثر لا يصح عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأنه من الأمور التي لا يقبل فيها الاجتهاد وإنما مدارها على الوحي ولم يرد فيه نص صحيح وأما سنده ففيه سليمان ابن حميد مجهول الحال. الجرح والتعديل 4/106. 2 الآية 22 من سورة الفجر. 3 الآية 210 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} 1، وثابتة بالسنة قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية: " ... قال فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم ... " 2، وغيرها من الأحاديث والسلف الصالح ومن سار على نهجهم يثبتون هذه الصفة كما يليق بجلال الله وعظمته وأنه تعالى ينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإذا ثبت نزوله يوم القيامة كما يليق بجلاله فمن باب أولى أن يؤمن بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل، لا سيما مع ثبوت الخبر الصادق وقد استدل الإمام إسحاق بن راهويه بنزوله يوم القيامة على نزوله في الدنيا. فروى الذهبي في العلو أن إسحاق بن راهويه حضر مجلس ابن طاهر أمير خراسان فسئل عن حديث النزول أصحيح هو؟ قال نعم. فقال له بعض القواد كيف ينزل؟ فقال: أثبته فوق حتى أصف لك النزول، فقال الرجل:   1 الآية 158 من سورة الأنعام. 2 الحديث رواه البخاري برقم (7439) 13/421، ومسلم برقم (302) 1/401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أثبته فوق. فقال: إسحاق قال الله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1 فقال ابن طاهر: هذا ياأبا يعقوب يوم القيامة. قال: ومن يجئ يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ 2 أما كيف ينزل وهل يخلو منه العرش؟ هذا فيه خلاف بين السلف قال شيخ الإسلام مبينا الصواب من قول أهل السنة في النزول مع كونه على العرش: "المأثور عن سلف الأمة وأئمتها أنه - لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك ... "3، هذا مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.   1 الآية 22 من سورة الفجر. 2 الذهبي: العلو للعلي الغفار ص132. 3 انظر: شرح حديث النزول ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أما غيرهم من أهل الكلام والتجهم فلم يقدروا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في إثبات هذه الصفة فتأولوها بنزول أمره أو نزول رحمته أو نزول الملك1، وهذه كلها تأويلات باطلة مخالفة لنصوص الوحيين. قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان ... "2.   1 انظر شرح جوهرة التوحيد المسماة تحفة المريد ص93، والمواقف في علم الكلام ص273، وشرح المقاصد 4/174. 2 الصابونى عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص23. ط. الأولى عام 1413هـ تحقيق نبيل بن سابق السبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 المبحث التاسع: ما أثر عن عمر في إثبات صفة المشيئة والإرادة لله تعالى 81/14- الآجري قال: وأخبرنا الفريابي، نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا عبد الله بن إدريس، عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله تعالى أن لا يعصَى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة1. 82/15- الآجري قال: وحدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، قال: نا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، قال: حدثني شيخ، قال مؤمل: زعموا أنه أبو رجاء الخراساني أن عدي بن أرطأة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن قبلنا قوما يقولون: لا قدر فاكتب إلي برأيك، واكتب إلي بالحكم   1 الآجرى في الشريعة 1/440، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات ص222، واللالكائي في السنة برقم (1245) ، وابن بطة في الإبانة برقم (1846) 2/238، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة رقم 936، وصحح هذا الأثر محقق كتاب الشريعة. وعبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي روى عنه ابن أبي شيبة وغيره ثقة حجة. انظر الجرح والتعديل 5/8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فيهم، فكتب إليه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره ... وفيها: ... وما يقدر يكن، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .... 1. التعليق: إن مما أثر عن عمر بن عبد العزيز هنا يدل دلالة واضحة على إثبات صفة الإرادة لله تعالى كما يليق بجلاله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى واصفا قول أهل السنة في الإرادة وهو أن الله تعالى لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته2. وكونه تعالى متصفا بصفة الإرادة هو صريح ما دل عليه الكتاب. قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 3، وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا   1 الشريعة للآجري 1/443- 445، وأخرجه أبو داود 4/202، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 3856. 2 انظر: مجموع الفتاوى 16/303. 3 الآية 16 من سورة البروج. 4 الآية 82 من سورة يس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 1، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وغيرها من الآيات وقد ضل كثير من الطوائف في هذه الصفة وخالفهم التوفيق فالأشاعرة ذهبوا إلى أنه تعالى مريد بإرادة قديمة3 أزلية واحدة وإنما يتجدد تعلقها بالمراد ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص4. وكثير من العقلاء يقول: إن هذا فساده معلوم بالاضطرار حتى قال أبو البركات: ليس في العقلاء من قال بهذا. وما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام، وبطلانه من جهات: من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تخصص أولا تخصص. بل تجددت نسبة عدمية ليست وجودا   1 الآية 16 من سورة الإسراء. 2 الآية 185 من سورة البقرة. 3 انظر الإرشاد للجويني ص102. 4 انظر: الفتاوى 16/301-302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وهذا ليس بشيء، فلم يتجدد شيء فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث ولا مخصص، والكرامية وغيرهم يقولون بإرادة واحدة قديمة مثل الأشاعرة لكنهم يقولون تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته بتلك المشيئة القديمة، وهؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال ولكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث، وتخصيصات بلا مخصص، وجعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة، وجعلوها أيضا تخصص لذاتها ولم يجعلوا عند وجود الإرادات الحادثة شيئا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث، وأما المعتزلة والجهمية فإنهم ينفون قيام الإرادة بالله تعالى، ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة أو يفسرونها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين1. والسبب في هذا هو إنكارهم للأفعال الاختيارية لله تبارك وتعالى فلذا قالوا بإرادة قديمة واحدة والله أعلم.   1 انظر: مجموع الفتاوى 16/301- 302- 303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 المبحث العاشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الغضب كما يليق لله تعالى 83/16- ابن عبد الحكم قال: وخرج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز إلى الحج فأصابهم مطر شديد ورعد برق فقال سليمان: هل رأيت مثل هذا يا أبا حفص؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا في حين رحمته فكيف به في حين غضبه1. 84/17- ابن كثير قال: روى ابن أبي الدنيا قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب قال: كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد لملك فأصابهم السماء برعد وبرق، وظلمة، وريح شديدة، حتى فزعوا لذلك وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان: ما يضحكك يا عمر؟ أما ترى ما نحن فيه؟ فقال له يا أمير المؤمنين هذا آثار رحمته فيها شدائد ما ترى فكيف بآثار سخطه وغضبه2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص30. 2 ابن كثير البداية والنهاية 5/201، إسحاق بن إسماعيل أبو يعقوب المعروف بالطالقاني سمع جرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ثقة. انظر تاريخ بغداد 6/334- 337، وجرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها ثقة صحيح الكتاب قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه تقريب ص139، وعطاء بن السائب أبو محمد، ويقال أبو السائب الثقفي صدوق اختلط. تقريب ص391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 85/18- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أبو حامد ثنا محمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن هانئ، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله: "أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه ... "1. 86/19- الدارمي قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري ابنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمراء الأجناد: "أما بعد: إني أوصيك بتقوى الله وطاعته والتمسك بأمره، والمعاهدة على ما حملك الله من دينه واستحفظك من كتابه فإن بتقوى الله نجا أولياؤه من سخطه ... "2.   1 أبو نعيم في الحلية 5/278، وابن الجوزي سيرة عمر ص114، وأبو حفص الملاء 2/466-467، وفي الأثر إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة الأنصاري مجهول. انظر الجرح والتعديل 2/156. 2 الرد على الجهمية للدارمي ص 103 تحقيق بدر البدر، وقال إسناده ضعيف لأن إسماعيل بن إبراهيم ضعيف. قلت: لكن معناه صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 التعليق: يتبين من الآثار المتقدمة المأثورة عن عمر بن عبد العزيز إثبات صفة الغضب كما يليق بجلال الله وعظمته وهذه الصفة يثبتها السلف الصالح لدلالة الكتاب والسنة على ذلك قال تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 1، وقوله عز وجل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} 2. وهناك عدد من آيات الكتاب المبين في إثبات هذه الصفة، ومذهب سائر الأئمة إثباتها كما أن هناك أحاديث تؤكد ما جاء في هؤلاء الآي من وصف الله بالغضب، كما يليق به وإن هذا الغضب يحدث في وقت دون وقت، ومن ذلك ما جاء في حديث الشفاعة الطويل وهو سبحانه يخبر عما يقوله الأنبياء اعتذارا للناس عند ما يتقدمون إليهم لطلب الشفاعة، فكل واحد منهم يقول: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله اذهبوا إلى غيري ... "3، إلى آخر الحديث، والحديث يدل دلالة واضحة على إثبات صفة الغضب ومحل   1 الآية 61 من سورة البقرة. 2 الآية 93 من سورة النساء. 3 البخاري مع الفتح 6/371، برقم (3340) ، ومسلم 1/428، برقم (327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الشاهد من الحديث: "إن ربي قد غضب اليوم" واللفظ صريح في أن الله يغضب في ذلك اليوم غضبالم يغضب مثله قبل ذلك كما لا يغضب بعده مثله1. وكذلك حديث كلام الرب لأهل الجنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يارب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأي شيء أفضل من ذلك: فيقول أُحِلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا"2. وقد حاول المتكلمون إنكار هذه الصفة فركبوا مطيتهم المعروفة بالتأويل، فصرفوا هذه النصوص، وفسروا الغضب بأنه انتقام الله تعالى ممن عصاه، أو إرادته العقوبة لأهل المعاصي 3. ويرد عليهم بأن الأصل حمل الكلام على الحقيقة، وبإجماع السلف الصالح ومنهم كما تقدم عمر بن عبد العزيز على إثبات هذه الصفة،   1 انظر: الجامي محمد أمان رحمه الله الصفات الإلهية ص298- 299. 2 البخاري مع الفتح 11/415، برقم (6549) ، ومسلم 6/300، برقم (2829) . 3 انظر: الإنصاف للباقلاني ص 62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وبالقاعدة المطردة، وهي أن الكلام في بعض الصفات كالقول في بعض، فإنهم يقولون بأن الله تعالى حي بحياة عليم بعلم مريد بإرادة، ويجعلون ذلك كله حقيقة، فيقال لهم لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال لك ,والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت هذه إرادة المخلوق قيل لك وهذا غضب المخلوق1. فالتسليم لنصوص الوحي واتباع منهج السلف الصالح هو سبيل المؤمنين الذي من اتبعه وصل إلى الحق واليقين، ومن حاد عنه وركب هواه فمسلكه خطير، وطريقه معوج، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.   1 انظر: مجموع الفتاوى 3/17- 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المبحث الحادي عشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الرضى لله تعالى . 87/20- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن أما بعد: فإن الله جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه ... 1. 88/21- أبو نعيم بسنده أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي عهده رسالة وفيها ... فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت2. التعليق: يتبين من الأثرين الواردين عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إثباته صفة الرضى لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وهذا ما دل عليه القرآن والسنة المطهرة قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص91، وأبوحفص الملاء 1/280. 2 أبو نعيم في الحلية 5/274- 275، وابن الجوزي سيرة عمر ص340، وقد تكلمنا عن سنده في مبحث الأسماء الحسنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الشَّجَرَةِ} 1، وقال عز وجل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2، ومن السنة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة ياأهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول عز وجل أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا يارب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً "3. فالرضا من الله تعالى مطلب كل عابد وغاية كل سالك، فرضى الله عن المؤمنين في دار الكرامة وعدم السخط عليهم بعد الرضى مطلب ليس بعده مطلب، فلا تؤول بدعوى أن الرضى انفعال نفسي، وتغير من حال إلى حال، لأن هذا من لوازم صفات المخلوق المعروفة لنا حقيقة ذاته، وأما بالنسبة لصفات الله تعالى فهذه اللوازم غير لازمة لصفاته، وقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، وقد أجمع السلف الصالح على إثبات هذه الصفة لله تبارك وتعالى   1 الآية 18 من سورة الفتح. 2 الآية 8 من سورة البينة. 3 البخاري مع الفتح 13/487، برقم "7518) ، ومسلم 6/300، برقم (2829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المبحث الثاني عشر: ما أثر عن عمر في إثبات صفة الرحمة لله تعالى . 89/22- ابن عبد الحكم قال: كان عمر بن عبد العزيز يدعو ويقول: اللهم لا تعطني عطاء يبعدني من رحمتك في الآخرة ... 1. 90/23- ابن عبد الحكم قال: كان عمر يدعو بهذا الدعاء ويقول: ... واكفني كل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك يا أرحم الراحمين2. التعليق: إثبات صفة الرحمة لله تعالى هو مذهب أهل السنة والجماعة وهذا ما ثبت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما تقدم سطره في الأثرين اللذين ذكرناهما آنفا، وهو أيضا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، وقوله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4،   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص98، وأبو حفص الملاء 2/477. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص98، وأبو حفص الملاء 2/476. 3 الآية 5 من سورة طه. 4 الآية 156 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ومن السنة ما رواه البخاري عن أسامة قال: كان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فأرسلت إليه أن يأتيها فأرسل: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى فلتصبر، ولتحتسب، فأرسلت إليه فأقسمت عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت معه، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقلقل في صدره حسبته قال كأنها شَنّة فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد بن عبادة أتبكي فقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"1. وحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليصيبن أقواما سفع2 من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته تعالى يقال لهم الجهنميون" 3. وفي هذه النصوص ونحوها كثير أبلغ دليل على ثبوت صفة الرحمة لله تعالى ... وبذلك يتبين بطلان قول أهل التأويل في هذه الصفة الكريمة من صفات ربنا تبارك وتعالى - وقولهم أن الرحمة رقة في القلب وهي تدل   1 البخاري مع الفتح 13/434، برقم (7448) . 2 البخاري مع الفتح 13/434، والسفع: علامة تغير ألوانهم أي يريد أثراً من النار. انظر النهاية 2/374. 3 البخاري مع الفتح 13/434، برقم (7450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 على الضعف والخور في طبيعة الراحم وتألمه على المرحوم 1 هذا قول باطل بالنسبة إلى صفة الله تعالى وبيان ذلك من وجوه: الأول: أن هذا وصف رحمة بعض المخلوقين من النساء ونحوهن، وقد علم التفاوت العظيم بين الخالق تعالى والمخلوقين بالشرع، والعقل، والإجماع، وقد تقرر أن الصفة تتبع الموصوف في الكمال وضده. الثاني: أن الضعف والخور مذموم وهو نقص وأما الرحمة فممدوحة كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 2، مع نهيه - تعالى عباده عن الوهن والحزن، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} 3، وحثهم على الرحمة كما في بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يرحم"4، وقوله: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" 5، وقوله: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"6   1 انظر: الإنصاف للباقلاني 62-63 وشرح أسماء الله الحسنى للرازي 341-342 2 الآية 17 من سورة البلد. 3 الآية 139 من سورة آل عمران. 4 البخاري مع الفتح 10/426، برقم (5997) . 5 الحديث رواه الترمذي 4/258، وقال: حسن, والإمام أحمد 2/301. 6 الحديث رواه الترمذي 4/285، وقال حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ومستحيل أن يقول: "لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي ولما كانت الرحمة في حق كثير من الناس تقارن الضعف والخور ظن من غلط في ذلك أنها كذلك مطلقا. الثالث: أن أسماء الله تعالى حسنى لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، وصفاته عليا عن النقص أيضا والله تعالى قد تمدح بهذه الأسماء والصفات لأنها تدل على الكمال، فمن المحال أن يلحقها ما يلحق رحمة المخلوق1. وفي ختام هذا المبحث في موقف عمر بن عبد العزيز من إثبات الصفات أود التنبيه إلى أن التوسع في دراسة تلك الصفات له أماكنه الخاصة به وقد كتبت فيها مؤلفات عديدة ورسائل علمية كثيرة ولم يكن غرضي استقصاء دراسة كل صفة لعدم تعلق موضوعي به. فإن مجال بحثي هو في متابعة ما يقوله عمر فيها وكان موقف عمر منها هو الإثبات، ولم أر له مجادلات ومناظرات مع المخالفين فاكتفيت بإثبات معتقده في الصفة وإثبات الصفة أيضا من كتاب الله وسنة نبيه وفهم السلف.   1 انظر شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الله الغنيمان 1/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الباب الثاني: الآثار عن عمر في الإيمان بالملائكة والكتب، والرل، واليوم الآخر، والقدر الفصل الأول: الآثار عن عمر في الإيمان بالملائكة ... الفصل الأول: الآثار عن عمر في الإيمان بالملائكة. تمهيد: إن الإيمان بالملائكة والكتب من لوازم الإيمان بالرسل المعبر عنه بالنبوات، فلا يؤمن أحد برسل الله تبارك وتعالى إلا ويلزمه الإيمان بالملائكة الذين هم الواسطة بين الله وبين رسله، كما يلزمه الإيمان بالكتب التي يأتي بها هؤلاء الرسل لهداية الناس وتبشيرهم وإنذارهم وتهذيب نفوسهم وإرشادهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. ولا شك أن الإيمان بالرسل ركن عظيم ودعامة يبنى عليه أساس كل العبادات التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام. هذا وقد أثر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى آثار تتعلق بالإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، كما ورد عنه آثار في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر بعض خصائصه وفضائل أصحابه وأهل بيته يتبين ذلك بما يأتي من الآثار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 91/1- ابن الجوزي قال: وعن قادم بن مسور قال: قال عمر بن عبد العزيز لما أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم أول من سجد له إسرافيل فأنابه أن كتب القرآن في جبهته1. 92/2 - ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى منصور ابن غالب حين بعثه على قتال أهل الحرب رسالة وفيها: "واعلموا أن معكم من الله حفظة عليكم يعلمون ما تفعلون في مسيركم ومنزلكم فاستحيوا منهم وأحسنوا صحابتهم ولا تؤذوهم بمعاصي الله ... "2. 93/3 - ابن الجوزي قال: حدثنا حازم قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه عبد الملك حين توفي:   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص274، وأبو حفص الملاء 2/494، وابن الجوزي أيضا المنتظم 1 /203 ط دار الكتب العلمية. وقادم بن مسور لم أجده. والأثر وإن كان شقه الأول صحيح المعنى لكن شقه الذي دل على كتابة القرآن على جبهة إسرافيل يحتاج إلى نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من الأمور الغيبية ولم أطلع على دليل صحيح يؤيد ما دل عليه الشق الثاني من هذا الأثر. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص76، وابن الجوزي سيرة عمر ص241، وأبو نعيم في الحلية 5/302- 304، وأبو حفص الملاء 1/293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أما بعد: فإن الله تبارك اسمه وتعالى جده كتب على خلقه حين خلقهم الموت، وجعل مصيرهم إليه، فقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد الملائكة على حقه ... "1. 94/4- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم حين سأله عن شأن غشيته حين سمع بوفاة ابنه عبد الملك ... ولكني علمت أن ملك الموت قد دخل منزلي فأخذ بضعة مني فراعني ذلك فأصابني ما قد رأيت2. 95/5- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا سفيان بن وكيع، ثنا ابن عيينة، عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكون بدعة لحلفت أن لا أفرح من الدنيا بشيء أبدا حتى أعلم ما في وجوه رسل ربي إلي عند الموت، وما أحب أن يهون علي الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المؤمن3.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص330- 331، وأبو نعيم في الحلية 5/357. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص100، وأبو حفص الملاء 2/434. 3 أبو نعيم في الحلية 5/316، وانظر الزهد، وزوائده للإمام أحمد وابنه عبد الله ص418. إبراهيم بن محمد بن الحسن البخاري مجهول. انظر الجرح والتعديل 2/130، وسفيان بن وكيع بن الجراح لين. انظر الجرح والتعديل 3/231- 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 96/6- البلاذري قال روى المدائني عن العباس بن محمد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله: أما بعد ... فانظر من ادعى الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه يؤمن بالله وملائكته ... 1. التعليق: هذه الآثار الواردة عن عمر تدل على الإيمان بالملائكة مع ذكر بعض وظائفهم كحفظ أعمال العباد، وقبض أرواحهم عند انقضاء آجالهم بإذن الله تعالى، وتبشير المؤمنين بالجنة، وكونهم هم الواسطة بين الخلق والخالق عن طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهم وظائف كثيرة جدا، نقتصر على ما ورد عن عمر في ذلك. والإيمان بالملائكة هو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى خلق عالما سماه الملائكة، "وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية قادرة على التمثيل بأنواع مختلفة الشكل بإذنه تعالى مناسبة للحالة التي يأتون فيها"ففي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم2"3.   1 البلاذري كتاب جمل من أنساب الأشراف 8/163. 2 مسلم 6/415 رقم (2996) كتاب الزهد باب أحاديث متنوعة. 3 انظر منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان ص21 للشيخ الدكتور علي بن ناصر الفقيهي. ط. الأولى 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وقد كلف الله العباد الإيمان بهم والتصديق بوجودهم، لأن ذلك من جملة العقائد الإيمانية المذكورة في القرآن والسنة. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... } 1، ومن السنة حديث جبريل المشهور وفيه: " ... أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"2. وأما ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في ذكر بعض وظائف الملائكة فمنها: أن الملائكة تحفظ أعمال العباد. وهذا ما ورد في الكتاب العزيز وقال به أهل السنة. قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 3، وقال عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِين يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 4، وقوله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ   1 الآية 285 من سورة البقرة. 2 الحديث متفق عليه صحيح مسلم بشرح النووي 1/131، برقم (1) ، والبخاري مع الفتح 1/115، برقم (50) . 3 الآيتان 17- 18 من سورة ق. 4 الآيتان 10- 12 من سورة الانفطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 1، فهؤلاء الملائكة مكلفون بمراقبة الإنسان في كل حركاته وسكناته، فإذا تيقن أن جميع أعماله الصادرة عنه مكتوبة عليه علم ماذا ينبغي أن يقوم تجاه مواقف الملائكة معه ووظائفهم المتعلقة به. وهذا ما عناه عمر بقوله فأحسنوا صحابتهم ولا تؤذوهم بمعاصي الله. ومن وظائف الملائكة المأثورة عن عمر كذلك قبض أرواح بني آدم عند انقضاء آجالهم. وهذا ما جاء في الكتاب العزيز وقال به أهل السنة والجماعة. قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم} 2. قال الطحاوي: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين"3. كما أثر عن عمر أن لملك الموت أعوانا، وهذا ما جاء في الكتاب العزيز أيضا قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 4، والملائكة مخلوقات مربوبة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وليس لهم من علم الغيب من شيء {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا   1 الآية 80 من سورة الزخرف. 2 الآية 11 الم السجدة. 3 شرح العقيدة الطحاوية 2/561. 4 الآية 61 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1، وهم منقطعون دائما لعبادة الله وطاعة أمره. قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} 2، ولا يحصي عدد الملائكة إلا ربهم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} 3، ويجب علينا أن نؤمن بمن سُمي لنا منهم كجبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، ومالك. وأما من لم يرد ذكرهم في الكتاب والسنة الصحيحة فنؤمن بهم بصورة إجمالية، ونؤمن بما ذكر من أصنافهم وأفعالهم في القرآن والسنة، وهذا كله ما تدل عليه الآثار السابقة الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وكل هذه الأمور مما كان لعمر فيها أثر معتقد أهل السنة والجماعة وسائر من ينتسب إلى الإسلام ولم يخالف في وجودهم إلا الملاحدة الذين يزعمون   1 الآيتان 27- 28 من سورة الأنبياء. 2 الآيتان 165- 166 من سورة الصافات. 3 الآية 31 من سورة المدثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أنهم لا يؤمنون إلا بمحسوسات ولا يؤمنون بما وراء ذلك من المغيبات وهؤلاء خارجون عما قررته الشرائع السماوية، ولا عبرة بما يقولونه1.   1 انظر: الإيمان أركانه حقيقته ونواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ص 37 -43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الفصل الثاني: الآثار عن عمر في الإيمان بالكتب . 97/1- روى البلاذري قال: قال أبو الحسن المدائني: كتب عمر إلى الخوارج رسالة قال فيها: إلى العصابة الذين خرجوا بزعمهم التماس الحق أما بعد: فإن الله تعالى لم يلبس على العباد أمورهم، ولم يتركهم سدى، ولم يجعلهم في عمياء، فبعث إليهم النذر، وأرسل إليهم الكتب، وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه كتابا حفيظا1. 98/2 ابن عبد الحكم قال: ... واعملوا بمحكمه واصبروا أنفسكم عليه، وآمنوا بمتشابهه ... " 2. 99/3- ابن عبد الحكم أن عمر قال: " ... فإن الله قد بين لكم ما تأتون وما تتقون، وأعذر إليكم في الوصية، وأخذ عليكم الحجة حين أنزل كتابه الحفيظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ... " 3.   1 البلاذرى: كتاب جمل من أنساب الأشراف 8/209-211والعيون والحدائق في أخبار الحقائق ص41 لمؤلف مجهول ط مكتبة المثنى بغداد. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص65، وأبو حفص الملاء 1/284. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص64، وأبو حفص الملاء 1/284، والآية 15 من سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 100/4- ابن عبد الحكم قال: قال عمر في شأن القرآن: " وأحكم الله في كتابه ما رضي من الأمور، فما جعل من ذلك حلالا فهو حلال إلى يوم القيامة، وما جعل من ذلك حراما فهو حرام إلى يوم القيامة"1. 101/5 - ابن عبد الحكم قال: قال عمر: "وإن دين الله الذي بعث به محمد كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه ويتبع أمره، ويجتنب ما نهى عنه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعترف بحقه، ويحكم بما أنزل فيه، فمن تبع هدى الله فقد اهتدى، ومن صد عنه فقد ضل سواء السبيل ... "2. 102/6 - عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص66، وانظر ابن سعد الطبقات الكبرى 5/340، والفسوى المعرفة والتاريخ 1/575. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص83، وأبو حفص الملاء 1/272. 3 الزهد وزوائده للإمام أحمد وابنه عبد الله ص412، وانظر تفسير ابن جرير الطبري 3/183، وانظر كذلك تفسير القرطبي 3/16. الحسين بن الجنيد الدامغاني القومسي لا بأس به. تقريب ص165، وذكره ابن حبان في الثقات ج 8 ص 193. وأبو نعيم هو الفضل بن دكين الكوفي الملائي مشهور بكنيته ثقة ثبت تقريب ص446، وعمرو بن عثمان بن عبد الله ابن موهب التيمي مولاهم أبو سعيد الكوفي ثقة من السادسة وسماه شعبة محمدًا، تقريب ص424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 التعليق: إن مما ورد عن عمر في هذه الآثار السابقة ليدل على وجوب الإيمان بالكتب جملة وبالقرآن تفصيلا. والإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء ركن من أركان الإيمان، ولا يتم إيمان المسلم إلا بالإيمان بها وبالكتاب المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم، وقد بين ذلك عمر رحمه الله تعالى كما في الأثر الأول حيث قال: "وأرسل إليهم الكتب"، والكتب المنزلة على الأنبياء كثيرة ويجب علينا الإيمان بما ذكر منها في القرآن الكريم كالتوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والزبور المنزل على داود، وصحف إبراهيم، وإيماننا إنما هو على أصولها المنزلة على هؤلاء الأنبياء. أما ما يوجد عند أهل الكتاب الآن فإنه محرف مبدل بنص القرآن الكريم، وتدل الآثار كما سبق على أنه يجب علينا الإيمان بالقرآن الكريم على التفصيل. وقد أولى عمر بن عبد العزيز فيما أثر عنه القرآن عناية بالغة حيث أمر بالعمل بمحكم القرآن والإيمان بمتشابهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقبل بيان هذا النص الموجز لا بد من التوقف قليلا عند معنى المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح، لما لهذين اللفظين من صلة بموضوع الإيمان بالقرآن. فالمحكم في اللغة يطلق إطلاقات متعددة، منها ما ذكره ابن منظور حين قال: " ... والعرب تقول: حكمت وأحكمت وحكّمت بمعنى منعت ورددت، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكما، لأنه يمنع الظالم. قال الأصمعي: أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم. قال: ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها ترد الدابة، وقال الأزهري: وحكم الشيء وأحكمه كلاهما منعه من الفساد1، إلى غير ذلك من المعاني التي تتفق جميعها في معنى عام - هو المنع. أما المتشابه: فيطلق في اللغة على المماثلة بين شيئين، والعبارات الواردة في معنى المتشابه لا تعنى أكثر من ذلك. يقول ابن منظور: "الشبْه والشبه والشبيه المثل والجمع أشباه، وأشبه الشيء ماثله" 2. أما في اصطلاح العلماء: فقد وقع بينهم اختلاف كبير، ذكر إمام المفسرين ابن جرير ما لا يقل عن سبعة أقوال، منها:   1 لسان العرب 12/141- 143. 2 المصدر السابق 13/503. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 -1المحكم: المعمول بهن وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من الآيات المتروك العمل بهن المنسوخات1. -2المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلف ألفاظه. -3المحكمات من آي الكتاب ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها ما احتمل من التأويل أوجها. -4المحكم ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ واتفق المعاني2. -5المحكم: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت خروج عيسى بن مريم والدجال، وحقيقة نعيم الجنة وغير ذلك3. إلى غير هذه الأقوال التي ذكرها ابن جرير رحمه الله تعالى.   1 جامع البيان في تأويل القرآن 3/114. 2 المصدر السابق 3/116. 3 انظر المصدر السابق 3/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 والمقصود: أن المحكم عند عمر بن عبد العزيز في القرآن هو الناسخ لغيره، بدليل قوله: فما جعل من ذلك حلالا فهو حلال إلى يوم القيامة، وما جعل من ذلك حراما فهو حرام إلى يوم القيامة، وهو الذي أمرنا بالعمل به. ولا شك أن العمل بالمأمورات يستلزم الصبر عليها، فلذا قال عمر: واصبروا أنفسكم عليه. ثم قال: وآمنوا بمتشابهه، فما هو المتشابه؟ المتشابه الذي أمرنا بالإيمان به هو المتشابه الحقيقي الذي استأثر الله بعلمه والذي يستوي فيه الراسخون في العلم وغير الراسخين في عدم معرفته، وذلك كحقيقة نعيم الجنة التي تخالف حقيقة نعيم الدنيا، فلا نعلمها نحن في الدنيا كما لا نعلم وقت الساعة، وحقيقة ما سيقع فيها من الحساب والصراط والميزان والحوض والثواب والعقاب، وحقيقة ذات الرب وصفاته سبحانه كاستوائه على عرشه وسمعه وبصره وكلامه، وغير ذلك من الحقائق الغيبية التي أثبتناها له تعالى حقيقة وآمنا بها دون معرفة حقائقها وكيفياتها، ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك شرعا. وهذه المعاني هي المقصودة لعمر بقوله: وآمنوا بمتشابهه1. تبقى الإشارة إلى أنه قد ورد عن عمر تفصيلات عن الإيمان بالقرآن، منها أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والقرآن فيه تفصيل كل شيء وهو كتاب حفيظ لا يتبدل ولا يتغير   1 انظر مجموع الفتاوى من 4/372-400، فقد أجاد وأفاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ولا يحرف كما حرفت غيره من الكتب السابقة، وأن من الإيمان به أن يطاع الله فيه، ويتبع أمره، ويجتنب ما نهى عنه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعترف بحقه، ويحكم بما أنزل فيه. وبهذا يتبين أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قد أتى على جل ما يتعلق بالإيمان بالكتب، ومن ضمن ذلك الإيمان بالقرآن الكريم الذي هو ناسخ الكتب المتقدمة، وأنه أنزل للأمة المحمدية التي هي آخر الأمم، كما أن نبيها آخر الأنبياء، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة من النواحي العقدية والشرعية إلا وبينها وأوضحها، وفصلها. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1. ولهذا حث عمر الأمة بأن يطاع الله في القرآن ويتبع أمره، ويجتنب نهيه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه، فمن عمل بذلك فقد اهتدى بهدي الله. وعلى ضوء ما ذكره عمر في الإيمان بكتاب الله عز وجل فإننا نجد فئاما كثيرة ضلت في الإيمان بكتاب الله، كالرافضة الذين يدعون أن القرآن ناقص ومحرف، وأن القرآن الكامل مع الغائب الذي سيخرج في آخر الزمان من سرداب سامراء ... "2. وكغلاة الصوفية عموما ومنهم   1 الآية 38 من سورة الأنعام. 2 انظر: الأصول من الكافى1 \228-230 للكلينى ط طهران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 التيجانية، وذلك بتفضيلهم أورادهم وأذكارهم - كصلاة الفاتح على القرآن الكريم - حيث قالوا: إن قراءة صلاة الفاتح أفضل من قراءة القرآن ستة آلاف مرة1. وكذلك الفرق الباطنية كلها، وذلك بانحرافهم في تأويل القرآن وإغراقهم في التأويل الباطني وإخراج القرآن عن معانيه وحقائق الصحيحة2.   1 انظر: جواهر المعاني 2 /135-136 ط الحلبى القاهرة 1963 /م. 2 انظر: رسائل إخوان الصفا 3 /301 ط دار صادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الفصل الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بالرسل. 103/1- ابن أبي الدنيا قال: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل "الطالقاني" قال أخبرنا سفيان1، قال: أخبرنا جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر ابن عبد العزيز أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله تعالى به العباد، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا من يوم كذا من شهر كذا فمن كان عنده شيء فليصدق فإن الله عز وجل قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} 2، وقولوا كما قال أبوكم آدم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي   1 هو سفيان بن عيينة. 2 الآيتان 14- 15 من سورة الأعلى. 3 الآية 23 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، وقولوا كما قال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 2،3. 104/2- ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو بكر محمد بن هانئ قال: حدثني أحمد بن شبور، قال: حدثني سليمان بن صالح، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن رجل، عن ابن أبي عبلة، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخطئ الخطيئة فيقذف في بطن الحوت ولا ينجيه منها إلا التوبة4.   1 الآية 47 من سور هود. 2 الآية 87 من سورة الأنبياء. 3 ابن أبى الدنيا: العقوبات ص32-33، وقد مر في الدعاء برقم (8) ، ورواه أبو نعيم في الحلية 5/304- 305، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص64، وابن الجوزي سيرة عمر ص128، وأبو حفص الملاء 1/262. 4 ابن أبى الدنيا: العقوبات ص123. أبو بكر محمد بن هانئ الطائي أبو عمرو، وهو والد أبي بكر الأثرم. انظر تاريخ بغداد 3/370، والجرح والتعديل 8/117، وأحمد بن شبور لم أجده وإنما وجدت أحمد بن شبويه المروزي أبو الحسن روى عن وكيع وعبد الرزاق. انظر الجرح والتعديل 2/55. وسليمان بن صالح، ويعرف بسلمويه بن صالح المروزي روى عن عبد الله بن المبارك إمام حافظ، وابن أبي عبلة هو إبراهيم بن أبي عبلة واسمه شمر بن يقظان المرقل العقيلي ثقة. تهذيب الكمال 2/140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 105/3- قال البلاذري: روى المدائني عن العباس بن محمد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله: أما بعد ... فانظر من ادعى الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه يؤمن بالله وملائكته ورسله وأن عيسى عبد الله وكلمته ورسوله إذا كان نصرانيا وأن عزيرا عبد الله إذا كان يهوديا ... فضع عنه الجزية ... "1. 106/4- أبو نعيم في الحلية في رسالة عمر في الرد على القدرية وفيها ... ولقد حرصت الرسل على هدي الناس جميعا فما اهتدى منهم إلا من هداه الله ... "2، ... ولقد سمى الله رجالا من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييرا، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلا، فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا   1 كتاب جمل من أنساب الأشراف 8/163. والمدائني هو: علي بن محمد أبو الحسن المدائني الإخباري صاحب التصانيف، وثقه يحيى بن معين انظر ميزان الاعتدال 3/153. وأما العباس بن محمد وأبوه فلم أجدهما. 2 أبو نعيم في الحلية 5/347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} 1"2. 107/5- أبو نعيم في رسالة عمر أيضا قال: ... وابتلى آدم فعصى فرحم، وهم آدم بالخطيئة فنسي، وهم يوسف بالخطيئة فعصم ... "3. التعليق: يظهر من الآثار السابقة إيمان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بالرسل الكرام، وقد تناولت الآثار الواردة عنه مسائل في الإيمان بهم كحرصهم على هدي الناس جميعا، وكونهم رجالا. ومشروعية الاقتداء بهم فيما لم يخالف شرعهم شرعنا، كما تتضمن بيان موقفه من عصمتهم من الذنوب. وأما حرصهم على هدي الناس جميعا فالرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم هداة مهمتهم إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأول   1 الآية 45- 46 من سورة ص. 2 أبو نعيم في الحلية 5/347. 3 المصدر نفسه 5/350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الرسل عليهم السلام نوح، دعا قومه جهارا ثم أسر إليهم الدعوة إسرارا ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد ولم يتوان ولم ييئس إلا بعد أن أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وهكذا تتابع الرسل في مهمة الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقد دعى إلى ربه حتى أتاه اليقين، والقرآن مملوء بذكر مواقف الأنبياء من الدعوة إلى الله والحرص على هدي الناس ودعوتهم إلى العقيدة السليمة بدون مجاملة ولا تردد، وقد بين عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الآثار السابقة الفرق بين هديين هما: هدي دلالة وبيان: وهو الذي يملكه الرسل وأتباعهم. وهدي توفيق وإلهام: وهو الذي لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى. فقال: ولقد حرص الرسل على هدى الناس جميعا فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، وهذا الفرق هو الذي تدل عليه الآيات. قال تعالى في هدي الدلالة والبيان الذي يملكه الرسل وأتباعهم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقال عز وجل في هدي التوفيق والإلهام الذي لا يملكه إلا   1 الآية 52 من سورة الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} 1،2. وقد بين عمر في تلك الآثار أننا نقتدي بالرسل والأنبياء في الأمور التي لم يخالف فيه شرعهم شرعنا. فأمر رعيته بالدعاء حين ضربت الزلزلة بعض مدنهم اقتداء بالرسل والأنبياء السابقين كآدم ونوح ويونس عليهم السلام، فإن هؤلاء كانوا قد فزعوا إلى ربهم عند نزول الكرب عليهم، وتضرعوا إليه بالدعاء فكشف عنهم ما نزل بهم بدعائهم وتضرعهم وإظهارهم الفاقة والمسكنة لخالقهم العظيم. ولا شك أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يخالف شرعنا،3 ويظهر كذلك من الآثار أن الرسل والأنبياء عليهم السلام كلهم كانوا رجالا ولا يوجد نبي ولا رسول أنثى. وهذا ما قاله جمهور أهل العلم استدلالا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم ... } 4، وهذه الآية نص في المسألة وقد ذهب ابن   1 الآية 56 من سورة القصص. 2 انظر شفاء العليل لابن القيم ص168. 3 الصواب أن المسالة خلافية وهذا أحد الأقوال فيها انظر تفصيلها في البحر المحيط للزركشى6 /39-48 ط الثانية الكويت عام 1413 هـ. 4 الآية 7 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 حزم1 وغيره إلى أن الله تعالى قد أوحى إلى مريم وإلى أم موسى، وذكر أن كل من أوحي إليه فهو نبي، ورد عليهم الجمهور بالآية السابقة، والمقصود أن عمر يرى أن الرسل والأنبياء كلهم رجالا يتبين ذلك من قوله رحمه الله تعالى: "ولقد سمى الله رجالا من الرسل". وهناك مسألة مهمة تتعلق بالإيمان بالرسل ذكرها عمر في آثاره السابقة وهي عصمتهم من الذنوب. فهل الرسل والأنبياء معصومون عن الكبائر والصغائر قبل نبوتهم وبعدها؟ الذي يظهر من الآثار أنهم ليسوا بمعصومين من الصغائر ولكنهم لا يقرُّون عليها، بل ينبهون بالوحي أو بغيره، فيتوبون فور وقوع المعصية، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه المسألة في الفتاوى فقال: "العصمة ثابتة للأنبياء والرسل فيما يبلغونه عن الله فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين2، ثم قال: "وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ... ".   1 انظر الفصل في الملل والنحل والأهواء 5/17-19. 2 انظر مجموع الفتاوى 10/290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الأشياء إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة: "لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا ... الخ "1. وأما نسيان آدم عليه السلام وهَمُّ يوسف بالخطيئة فإنهما ليسا بقادحين في الرسالة والنبوة. فالإنسان لا يؤخذ بما نسيه، ثم إن آدم عليه السلام قد تاب من تلك الحوبة فغفر له بنص القرآن. وأما عزم يوسف فلم يكن عزما مصمما وإنما هم همًا تركه لله فأُثيب عليه حسنة وهو لم يفعل ذنبا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارا من هذا الهم فعلم أنه لم يفعل ذنبًا"2.   1 انظر مجموع الفتاوى 10/292- 294، والحديث متفق عليه البخاري مع الفتح 11/102، برقم (6308) ، والنووي على صحيح مسلم 6/218-221، برقم (2675) . 2 انظر مجموع الفتاوى 15/117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الفصل الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بالرسل ... والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا، وهذا ما أثر عن عمر رحمه الله تعالى كما سبق. ثم قال رحمه الله: والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول. وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليها الأنبياء، فإن القائلين احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه، وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه. كما قال بعض السلف. كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة. وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الفصل الرابع: الآثار عن عمر في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفضائل أصحابه وحقوق أهل بيته المبحث الأول: الآثار عن عمر في الإيمان بنبينا محد صلى الله عليه وسلم وذكر بعض خصائصه ... المبحث الأول: الآثار عن عمر في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر بعض خصائصه. 108/1- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى العمال رسالة وفيها ... وأما الإسلام فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2،3. 109/2- ابن عبد الحكم أيضا أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال: أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة ... "4.   1 الآية 28 من سورة سبأ. 2 الآية 158 من سورة الأعراف. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص83، وأبو حفص الملاء 1/197. 4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40، والفسوي المعرفة والتاريخ 1/574- 575، والآجري في سيرة أبي حفص عمر بن عبد العزيز ص63، وابن الجوزي سيرة عمر ص45، وأبو نعيم في الحلية 5/295-296، وأبو حفص الملاء 2/446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 110/3- ابن عبد الحكم أن عمر كتب رسالة في شأن المسلمين وفيها ... حتى أراد الله إكرامهم بكتابه ونبيه بعث إليهم محمدا عبد الله ورسوله بالحق بشيرا بالخير الذي لا خير مثله، وينذر الشر الذي لا شر مثله. وأخره الله لذلك في القرون وسماه على لسان من شاء من أنبيائه الذين سبقوا وأخذ عليهم ميثاق جماعتهم قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1، فأخر الله ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه رحمة للعالمين ... "2. التعليق: إن مما دلت عليه الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبيان بعض خصائصه صلى الله عليه وسلم من كونه بعث إلى الناس كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأن الرسل كانوا مؤمنين به قبل   1 الآية 81 من سورة آل عمران. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص 66، وأبو حفص الملآء 1/284- 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 خروجه لهو الحق الذي لا مرية فيه. وقد استدل عمر رحمه الله تعالى على ذلك بآيات الكتاب التي تنص على هذه المسائل. ونضيف إلى بيانه واستدلاله بعض الأدلة من الأحاديث الدالة على ما أثر عنه. فمن الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمساً مما لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"1. وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة"2. قال الحافظ ابن حجر في الجمع بين الحديثين السابقين: وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يرفع هذا الإشكال من أوله، وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله،   1 البخاري مع الفتح1/435 -436،برقم (335) ، ومسلم برقم (521) ،2/178. 2 مسلم بشرح النووي برقم 523، 2/179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وهو كذلك ولا يعترض بأن نوحا عليه السلام كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم، ولأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك، وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: أنت أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية رسالته، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتفصيله سبحانه وتعالى في عدة آيات على إرسال نوح إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم بعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، وقد ثبت أنه أول الرسل وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم فأجيب، وهذا جواب حسن لكن لم ينقل أنه نُبِّئَ في زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شيء من شريعته إلى يوم القيامة ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في   1 الآية 15 من سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته. ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس فتمادوا على الشرك فاستحقوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير سورة هود1 قال: وغير ممكن أن تكون نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته. ووجهه ابن دقيق العيد بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما. لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم، ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم2، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"3. قال الطحاوي: وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة4، ورسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ   1 انظر المحرر الوجيز 3/168- 169 طبعة دار الكتب العلمية بيروت تحقيق عبد السلام عبد الشافي عام 1413هـ. 2 انظر البخاري مع الفتح 1/436- 437. 3 مسلم برقم (153) ، من حديث أبي هريرة 1/341. 4 شرح العقيدة الطحاوية 1/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1، من خصائصه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. وهذا هو المأثور عن عمر كما سبق بيانه في الأثر الثاني وهو الذي يدل عليه نصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين ... } 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"3. وقد أكد صلى الله عليه وسلم هذه الخصيصة وبينها ووضحها لأهميتها. فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"4.   1 الآية 107 من سورة الأنبياء. 2 الآية 40 من سورة الأحزاب. 3 البخاري مع الفتح 6/558، برقم (3534) ، وصحيح مسلم بشرح النووي 5/450- 451، برقم (2286) . 4 أبو داود برقم 4252، وأحمد 5/278، وصحح سنده محققا العقيدة الطحاوية انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وحديث فضلت على النبيين بست وفيه: " ... وختم بي النبيون"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي"2. فصرح صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء في غير ما حديث كما سبق سطره وضرب لذلك الأمثال وحذر من المتنبئين بعده وقد وقع ذلك فأطفأ الله باطلهم وبقي نور الحق ساطعا وبشر أمته ببقاء طائفة منها إلى قيام الساعة وأسماؤه صلى الله عليه وسلم دالة على خاتميته فمنها العاقب، والحاشر، والمقفى، كما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم تأكيد ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم مثل إجماعهم على قتال المتنبئين وروايتهم لأحاديث الختم وتصريحهم بختم نبوته في أقوالهم وتهكمهم بالمتنبئين وأجمعت الأمة كلها ولله الحمد على التمسك بكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين3. ونبينا صلى الله عليه وسلم وإن كان آخر الأنبياء والمرسلين لكنه اختص بأن جميع الرسل والأنبياء السابقين مقرون بنبوته ورسالته وكلهم قد أخذ عليهم الميثاق على ذلك. قال عمر: "وسماه على   1 البخاري مع الفتح 6/554، برقم (3532) . 2 مسلم بشرح النووي 2/179، برقم (523) . 3 انظر عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية للدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ص30 - 57 طبعة دار طيبة الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لسان من شاء من أنبيائه الذين سبقوا وأخذ عليهم ميثاق جماعتهم" قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره هذه الآية "يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسي عليه السلام لمهما آتي الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ... قال ابن عباس وابن عمه علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ... فالرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة   1 الآية 81 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 المقدم على الأنبياء كلهم1. وله صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة اقتصرنا على الوارد منها عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تاركين من يريد الاستزادة الرجوع إلى كتب الخصائص والشمائل كما توجد رسائل علمية تحدثت عن خصائصه عليه الصلاة والسلام2.   1 تفسير القرآن العظيم 1/377- 378. 2 مثل كتاب الشفا للقاضي عياض والشمائل المحمدية لابن كثير وغيره، ودلائل النبوة للبيهقي وغيره، ورسالة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لشيخنا الأستاذ الدكتور محمد بن خليفة التميمي، ورسالة خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم بين الغلو الجفاء للصادق محمد إبراهيم وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المبحث الثاني: الآثار عن عمر في فضائل الصحابة وموقفه من أهل البيت تمهيد: الصحابي هو كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك1، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خير القرون وقد تشرفوا بصحبة خير الخلق صلى الله عليه وسلم ونطق الكتاب العزيز بفضلهم. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2. وقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 3.   1 انظر البخاري مع الفتح 7/3-4. 2 الآية 100 من سورة التوبة. 3 الآية 29 من سورة الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1. ونهى صلى الله عليه وسلم عن سبهم وشتمهم وحرم ذلك على أمته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"2. وفضائل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ويكفينا أنهم خير القرون، ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا3. فالصحابة كلهم عدول ويجب علينا الترضي عنهم والثناء عليهم وعدم الخوض فيما جرى بينهم بل يذكر محاسنهم ويتحدث بها ويسكت عن بعض ما صدر من بعضهم وهو لا يعد شيئا بجانب ما لهم من المحاسن الكثيرة، فهم على كل حال لم يخرجوا عن نطاق البشرية وليسوا   1 الآية 10 من سورة الحديد. 2 صحيح مسلم 6/72-73 (2540) . 3 البخاري مع الفتح 7/3، برقم (3650) ، ومسلم 6/66، برقم (2533) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بمعصومين فيما اجتهدوا فيه فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"2. ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم3. ولا قيمة لمخالفة الروافض والخوارج والنواصب لأهل السنة في هذا الباب، لأن هؤلاء لم يحفظوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق صحابته، وقد تولى كبر مخالفة وصية النبي صلى الله عليه وسلم في حق صحابته الروافض. حيث زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخلافة نصا قاطعا للعذر   1 الآية 10 من سورة الحشر. 2 مسلم بشرح النووي 6/72-73. 3 الفتاوى 3/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وأن علياً معصوم، ومن خالفه كفر ورتبوا على ذلك تكفير كل الصحابة إلا نفرا قليلا منهم لزعمهم أنهم كتموا النص وبدلوا الدين وأصبحوا يتقربون إلى الله -في زعمهم- بسب الصحابة رضوان الله عليهم ولعنهم ونال أبابكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم النصيب الأوفر، من ظلمهم وبهتانهم1. ويلي الروافض في الطعن على الصحابة الخوارج حيث كفروا عثمان وعليا ومن تبعهما وكفروا أهل صفين من الطائفتين2. وطعن النواصب على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتنقصوه، وبالغوا في ذلك حتى رموه بالفسق، والظلم، وإرادة الدنيا ثم تعدى بهم الحال والمعتقد الفاسد إلى تنقص بقية أهل البيت وبغضهم وعداوتهم فعليهم من الله ما يستحقون3، هذا وقد كان لعمر بن عبد العزيز مواقف مشرقة تجاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرز فيها فضائلهم وما يجب علينا نحوهم من حبهم واحترامهم والنهي عن الخروج عن إجماعهم، والنهي عن الخوض   1 انظر مجموع الفتاوى 3/356. 2 المصدر السابق 3/355. 3 انظر الآثار عن أئمة السلف في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء للدكتور جمال بادي 2/581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فيما شجر بينهم، كما أشاد بأهل البيت ورد عليهم حقوقهم المادية والمعنوية. يتبين ذلك بالآثار المنقولة عنه في المسائل التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 المسألة الأولى: الآثار عن عمر في فضائل الصحابة. 111 /1 - أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا حبيب بن الحسن ثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عرعرة بن البرنْد، عن حاجب بن خليف البرجمي، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة. فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه1.   1 أبو نعيم في الحلية 5/298، وانظر جامع العلوم والحكم ص288، وحبيب بن الحسن بن داود بن محمد أبو القاسم القزاز روى عنه أبو نعيم، قال الخطيب: ثقة توفي سنة 359هـ. انظر تاريخ بغداد 8/253- 254، وجعفر بن محمد الفريابي قاضي الدينور روى عنه قتيبة بن سعيد، وخلق كثير بطول ذكرهم. وكان ثقة أمينا. انظر تاريخ بغداد 7/199- 200، وقتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت. تقريب ص454، وتاريخ بغداد 12/464. وعرعرة بن البرنْد بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة السامي بالمهملة الناجي بالنون والجيم أبو عمرو البصري لقبه كزْمان بضم الكاف وسكون الزاي ... صدوق يهم من الثامنة. تقريب ص389، وحاجب بن خليفة البرجمي قال ابن أبي حاتم: روى عن عمر بن عبد العزيز، روى عنه عرعرة بن البرند سمعت أبي يقول ذلك. الجرح والتعديل 3/285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 112/2 - ابن عبد الحكم قال: وذُكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: من عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أما بعد: فقد ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني ولا إرادة يعلم الله ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا فاكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب في أهل القبلة وأهل العهد، فإني سائر بسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام1. 113/3 - أبو زرعة الدمشقي2 قال: حدثني آدم حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران. قال الزهري: فكان رأي3 عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان: ليس على   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص107، وانظر الحلية 5/284 مع اختلاف في بعض الألفاظ وكذا عند ابن الجوزي سيرة عمر ص108 والآجري في أخبار أبي حفص رحمه الله ص70- 71، وأبو حفص الملاء 1/395- 396 مع بعض الاختلاف. 2 هو عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري بالنون أبو زرعة الدمشقي ثقة حافظ مصنف. تقريب ص347. 3 انظر حول مسألة طلاق السكران في البخاري مع الفتح 9/391، ومصنف ابن أبي شيبة 4/30- 31، حيث ذهب الجمهور بوقوعها بينما ذهب الشافعي في رواية إلى أن الطلاق لا يقع قياسا على المعتوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 المجنون ولا السكران طلاق فقال عمر تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده ورد إليه امرأته1. 114/4 - ابن عبد البر قال: وذكر ابن وهب عن نافع بن أبي نعيم عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة2.قال: أبو عمر رحمه الله هذا فيما كان طريقه الاجتهاد. 115/5 - ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو   1 تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/509، وانظر مصنف ابن أبي شيبة 4/31، والبخاري مع الفتح 9/391، وفيه حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه به. وسيأتي هذا الأثر برقم 190، و232. 2 جامع بيان العلم 2/901- 902، قال محقق الكتاب رجاله ثقات وقد علقه المصنف ولعله في كتاب الجامع لابن وهب. انظر الحاشية وقد بحثت في كتاب الجامع المطبوع فلم أجد الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا1. 116/6 - عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عون بن عبد الله قال: قال لي عمر بن عبد العزيز أعدلان عندك عمر وابن عمر؟ قال: قلت نعم. قال: إنهما لم يكونا يكبران هذا التكبير2. 117/7 - ابن عبد البر قال: أخبرنا عبد الوارث ثنا قاسم، ثنا أحمد بن زهير، ثنا هارون بن معروف، قال: نا ضمرة، عن رجاء بن جميل قال:   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40، وابن بطة في الإبانة 1/352، ورقم 230- 231، والآجري في الشريعة 1/174، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/1176. كلهم عن مالك بن أنس وأعل بالانقطاع ورواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه ص173، واللالكائي 1/106 من طريق يعقوب بن سفيان الفسوي عن سعيد بن أبي مريم عن رشدين بن سعد قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز به، ورشدين ضعيف. انظر التقريب 209، وقد صحح هذا الأثر محقق كتاب الشريعة للآجري فقال: والأثر يصح بهذين الطريقين ويقوى بهما. انظر الشريعة 1/174. وقد أخرجه أيضا قواَّم السنة في الحجة في بيان المحجة 1/109- 110 وابن كثير في البداية والنهاية 5 /242 وعزاه محقق كتاب المعرفة والتاريخ إلى الجزء المفقود منه. انظر المعرفة والتاريخ 3/436- 347. وسيأتي برقم 208، 215، 218، 228، 233، 252، 266، 323. 2 عبد الرزاق في المصنف 2/66.والتكبير المقصود هنا هو تكبيرات الانتقال انظر المصنف 2 /66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد رضي الله عنهما فجعلا يتذاكران الحديث. قال: فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم. قال: وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه، فقال له عمر: لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم1. 118/8 - ابن سعد قال: أخبرنا علي بن محمد، عن خالد بن يزيد ابن بشر عن أبيه قال: سئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان، وصفين، وما كان بينهم فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها2. 119/9 - ابن عبد البر قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم، ثنا أحمد بن زهير، ثنا الحوطي، ثنا أشعث بن شعبة، قال: سمعت الفزاري قال: سئل عمر بن عبد العزيز، عن قتال أهل صفين فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي لا أريد أن ألطخ بها لساني3. 120/10 - ابن سعد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب، عن محمد بن النضر، قال: ذكروا اختلاف أصحاب   1 جامع بيان العلم 2/901، وقال المحقق إسناده حسن. 2 الطبقات 5/394، وعلي بن محمد ويزيد بن بشر لم أجدهما. 3 جامع بيان العلم 2/934، وقال محقق الكتاب إسناده لا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 محمد صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز فقال: أمر أخرج الله أيديكم منه ما تعملون ألسنتكم فيه1. 121/11 - أبو بكر الخلال: قال: أخبرنا هلال بن العلاء أبو عمر الرقي قال: حدثني أبو يوسف محمد بن أحمد الرقي، قال: حدثني أبو سلمة الخزاعي، عن جحشفة بن العلاء، قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا سئل عن صفين والجمل قال: أمر أخرج الله يدي منه لا أدخل لساني فيه2. 122/12 – ابن سعد قال: أخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن إسماعيل بن عبد الملك عن عون عن عمر بن عبد العزيز قال: ما يسرني باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حمر النعم.3.   1 ابن سعد الطبقات 5/382. وأحمد بن عبد الله بن يونس ثقة. تقريب ص81، مات سنة 27هـ. وأبو شهاب هو موسى بن نافع الأسدي صدوق. تقريب ص554. ومحمد بن النضر لم أهتد إليه. 2 الخلال في السنة 1/461- 462 قال محققه في إسناده جحشفة بن العلاء مجهول الحال. انظر الجرح والتعديل 2/551. 3 ابن سعد الطبقات 5 /381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 التعليق: تدل الآثار المذكورة في هذا المبحث على أن عمر بن عبد العزيز كغيره من السلف الصالح حريص على إبراز فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولِمَ لا يكون ذلك! وقد أمر الله تبارك وتعالى بالاقتداء بهم والإقرار بفضائلهم. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. وقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 2. فالصحابة الذين نصروا الدين، وآمنوا بالقرآن، وعزروا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم، وقام الدين على أكتافهم، وجاهدوا لإقامة دعائم   1 الآية 157 من سورة الأعراف. 2 الآية 18 من سورة الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الدين، وحرصوا على إتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هم الفائزون برضوان الله تعالى المفلحون، وقد بشرهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بالنجاح والفلاح في الآخرة قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" 1، فحبهم إيمان وبغضهم نفاق، وعصيان. وفضائلهم لا تحصى كثرة، وقد بوَّب البخاري رحمه الله في جامعه الصحيح بابا بعنوان " فضائل الصحابة "2، وبوب مسلم3 لفضائلهم باباً ذكر عدة أحاديث تدل على فضلهم وعدالتهم، كما ذكر مآثرهم أصحاب السنن والمسانيد وغيرهم، ففضائلهم متواترة. حرص أهل السنة والجماعة على إبرازها وبيانها، ومن هؤلاء عمر بن عبد العزيز الذي يقتدي بهم، ويحرم الخروج عما أجمعوا عليه من الأقوال والأفعال والاعتقادات، بل يعد الأخذ بما سنوا اعتصاما بالكتاب العزيز فمن اقتدى بهم فهو مهتد، ومن استنصر بما سنوا فهو منصور، ومن تبع غير سبيلهم فقد خرج عن سبيل الله ودخل في السبل وعاقبة أمره أن يصلى في جهنم وساءت مصيرا، فمن أخذ بقول أحدهم   1 الحديث رواه الترمذي 5/694 رقم 3860 وقال حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي 3/240، وأصله في مسلم كما سيأتي قريبا. 2 انظر البخاري مع الفتح 7/106. 3 مسلم 5/529- 580، و6/5-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فهو في سعة إذا كان قول هذا الصحابي في الأمور الاجتهادية. ومما يجدر ذكره أن موقف أهل السنة والجماعة عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة، وهذا هو الذي أُثر عن عمر. وتكاد أقواله ومواقفه مع من سأله عن هذه المسألة - أن تكون بمثابة قاعدة يسير عليها أهل السنة والجماعة فقوله: "تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أريد أن أغمس لساني فيها" وقوله: "تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني" تُعَدَّان من أوجز الكلام وأوفاه تجاه ما شجر بين الصحابة. قال البيهقي معلقا على قول عمر: "هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"2. فنقول فيما شجر بين الصحابة: إنه إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورا، أو ذنبا مغفورا، أو اجتهادا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه. فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم بل يعلم أنهم عدول مرضيون وأن هؤلاء رضي الله عنهم لاسيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى،   1 ذكر ذلك عنه الرازي في مناقب الشافعي ص136. 2 الحديث أخرجه الترمذي 5/694، ورواه مسلم 6/47.برقم 2496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان أو أعان عليه، وكان بعض من تقاتله يظن ذلك به، وكان ذلك من شبههم التي قاتلوا علياًّ بها. وهي شبهة باطلة وكان علي يحلف - وهو الصادق البار- أني ما قتلت عثمان ولا أعنت على قتله، ويقول: اللهم شتت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل1، وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتلة عثمان من شبههم ذلك، ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود ونحو ذلك لكون الناس مختلفين عليه وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به. فإن التفرق والاختلاف يقوم من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم والعارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام2. وقال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى في الرسالة فيما يجب على المسلم اعتقاده تجاه الصحابة. قال: وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب3.   1 ابن كثير البداية والنهاية4 /250. 2 الفتاوى 27/476- 477. 3 الثمر الداني في تقريب المعاني شر ح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وقال النووي عند قوله صلى الله عليه وسلم إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار1: واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد. ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ، لأنه الاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة، وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدته منهم2. وقال الحافظ ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين3.   1 شرح النووي على صحيح مسلم برقم 2888. 2 شرح النووي على صحيح مسلم 6/11. 3 البخاري مع الفتح 13/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 هذا وقد كان علي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين وترتيب هؤلاء الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة عند أهل السنة، بينما ذهب الرافضة إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر وعثمان والغلو فيه. وقد أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ما يؤيد ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، وهذا هو مضمون الآثار المروية عنه في المسألة التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 المسألة الثانية: الآثار عن عمر في ترتيب الخلفاء الراشدين والمفاضلة بينهم. 123/1 - الذهبي قال: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمع عمير ابن هانئ يقول: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: كيف تقول في رجل رأى سلسلة دليت من السماء فجاء رسول الله فتعلق بها فصعد، ثم جاء أبو بكر فتعلق بها فصعد، ثم جاء عمر فتعلق بها فصعد، ثم جاء عثمان فتعلق بها فانقطعت فلم يزل حتى وصل ثم صعد، ثم جاء الذي رأى هذه الرؤيا فتعلق بها فصعد، فكان خامسهم. قال عمير: فقلت في نفسي هو هو ولكنه كنى عن نفسه. وعلق الذهبي على هذه الرؤيا بقوله: يحتمل أن يكون الرجل عليا وما أمكن الرأي يفصح به لظهور النصب إذ ذاك1. 124/2 - ابن قتيبة قال: أخبرنا محمد بن الزبير الحنظلي قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري رحمهما الله تعالى أسأله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر رضي الله عنه فأتيته فاستوى جالسا وقال: إي   1 سير أعلام النبلاء 5/139، وتاريخ داريا ص83-84 تحقيق سعيد الأفغاني ط دار الفكر عام 1404هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 والذي لا إله إلا هو استخلفه وهو أعلم بالله وأتقى لله من أن يتوثب عليهم لو لم يأمره1. 125/3 - أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني أحمد بن أبي الحوارى، قال: حدثنا مروان بن محمد، قال: حدثني صدقة بن خالد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله قال: قال ميمون ابن مهران: كنت أفضل عليّا على عثمان رحمة الله عليهما، فقال لي عمر بن عبد العزيز أيهما أحب إليك رجل أسرع في كذا أو رجل أسرع في المال؟ قال: فرجعت وقلت لا أعود2. 126/4 - الذهبي قال: وروى إسماعيل بن عبيد الله، عن ميمون ابن مهران، قال: كنت أفضل عليّا على عثمان، فقال لي عمر بن عبد العزيز: أيهما أحب إليك، رجل أسرع في الدماء، أو رجل أسرع في المال؟ فرجعت وقلت: لا أعود3.   1 الإمامة والسياسة المنسوب إلى ابن قتيبة ص10 تحقيق طه الزيني. ط دار المعرفة. وانظر شرح الطحاوية 2/707 وعزاه إلى الإبانة لابن بطة ولم أجده في الإبانة المحقق. ومحمد الزبير الحنظلي البصري متروك. انظر تقريب التهذيب ص478. 2 تاريخ أبي زرعة ص145، وأحمد بن أبي الحواري هو: أحمد بن عبد الله بن ميمون ابن العباس بن الحارث التغلبي يكنى أبا الحسن بن أبي الحواري ثقة زاهد. تقريب ص81. ومروان بن محمد الطاطري شامي روى عنه أحمد بن أبي الحوارى ثقة. انظر الجرح والتعديل 8/275. وصدقة بن خالد الأموي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة. تقريب ص275. وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي مولاهم الدمشقي أبو عبد الحميد ثقة. تقريب ص109. وانظر الجرح والتعديل 2/182-183، والأثر أخرجه الذهبي في السير 5/72. 3 سير أعلام النبلاء 5/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 التعليق: اتضح مما سبق نقله عن عمر بن عبد العزيز موقفه من الخلافة، وترتيب الخلفاء الراشدين. والخلافة هي: "نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا" 1، والخلفاء الراشدون هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضوان الله عليهم أجمعين، وكلهم من العشرة المبشرين بالجنة. وكانت خلافتهم على منهاج النبوة. روى الترمذي وأبو داود عن سفينة أنه صلى الله عليه وسلم قال: خلافة النبوة ثلاثون سنة"2. والآثار التي رويت عن عمر بن عبد العزيز يؤخذ منها أنه كان يرى أن خلافة الصديق ثبتت بالنص والإجماع. كما يرى أن ترتيب الخلفاء   1 مقدمة ابن خلدون ص151. 2 أبو داود/4 /211 والترمذي وقال هذا حديث حسن 4/436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، بل قد صرح بذلك في الأثر الأخير حيث قدم عثمان على علي رضي الله عنهما، وهذا هو موقف أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: "ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم هم الخلفاء الراشدون الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خلافتهم بقوله فيما رواه سعيد بن جهمان عن سفينة-: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" ثم قال: أمسِكْ خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشرا وعثمان ثنتي عشرة وعلي ستا، وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض على ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم 1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا انعقاد خلافة أبي بكر وشرعيتها: خلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها، ورضا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم له بها ... وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختيارا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله بها وأنها حق. وأن الله أمر بها وقدرها، وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها، لأنه حينئذ يكون طريق ثبوتها العهد. وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضي الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلا على أن الصديق   1 عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص86- 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة. فإن ذلك لا يحتاج إلى عهد خاص1. وقد هم صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأبي بكر كتابا ثم قال: "يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر "2. ولعل وجود الشيعة الذين يرون أن الخلافة لعلي وأهل بيته في زمن عمر بن عبد العزيز جعله يكتب إلى الحسن البصري سيد التابعين ليؤكد لهؤلاء الشيعة أن موقفه هو موقف أهل السنة والجماعة، وليس في سؤاله للحسن إن صح ذلك عنه - ولا أظنه يصح - ما يدل أنه كان شاكا في ثبوت خلافة الصديق رضي الله عنه. ويحتمل أنه يريد أن يبين لهم أن موقفه هو موقف العلماء في وقته. وفيما يخص التفضيل بين هؤلاء الخلفاء الراشدين على العموم وبين علي وعثمان على الخصوص فإن أهل السنة والجماعة يرون تقديم عثمان على علي، كما هو المأثور عن عمر بن عبد العزيز، روى البخاري عن   1 منهاج السنة 1/140- 141. ط. دار الكتب العلمية بيروت وبهامشه بيان موافقة المعقول لصريح المنقول. 2 الحديث رواه مسلم 5/535، برقم (2387) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنا نعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فنقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت1. قال الحافظ ابن حجر: في الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قال به سفيان الثوري، ويقال إنه رجع عنه، وقاله ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده. وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر قاله مالك في المدونة وتبعه جماعة، منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم، وحديث الباب حجة الجمهور2. وأما ما ذكر في الأثر الأخير من أن عثمان أسرع في المال وأن عليا أسرع في الدماء فعلى فرض صحته وصدوره عن عمر فإن أهل السنة والجماعة وفي مقدمتهم عمر يرون الكف عن الكلام فيما شجر بين الصحابة كما تقدم ذلك مستوفى في المبحث السابق، ولعل مقصد عمر في ذلك أن يزجر ميمون بن مهران فيما كان يذهب إليه من تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما، ولا يمكن أن يطعن أحد من الصحابة برأي أحد، ولم يأخذ عثمان المال بغير حق، كما لم يسفك علي دم أحد بغير   1 انظر البخاري مع الفتح ونص الرواية: كنا نخير بين الناس زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبابكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم. 7/16، برقم (3655) ، وأحمد 2/14. 2 البخاري مع الفتح 7/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 حق، وإنما قاتل البغاة الذين خرجوا عليه، وهو محق في قتالهم، وتوفي شهيدا حميداً رضي الله عنه وأرضاه. ومما هو جدير ذكره هنا أن عليّا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولأهل البيت حقوق ثبتت بالنصوص الصحيحة، وقد علم عمر بن عبد العزيز هذه الحقوق فأداها لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم حين كان أميرا بالمدينة وحين تولى الخلافة بعد ذلك. وهي حقوق مادية ومعنوية، وسيتضح موقفه وما أثر عنه تجاه أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المبحث الذي يلي هذا التعليق بإذن الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 المسألة الثالثة: موقفه من أهل البيت. تمهيد: المراد بأهل البيت عند أهل السنة والجماعة أزواجه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن جميعا وأقربائه. قال الراغب الأصفهاني: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أودين أو ما يجرى مجراهما ... "1، وتعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا ... ". وقال ابن منظور ... وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره أعني عليا وقيل: نساء النبي صلى الله عليه وسلم 2. وقد ذكر ابن القيم أن العلماء اختلفوا في تحديد المراد بأهل البيت على أقوال، قال رحمه الله: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: فقيل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال: أ- أنهم بنو هاشم وبنوا المطلب. ب - أنهم بنو هاشم خاصة. ج- أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب.   1 المفردات في غريب القرآن ص29. 2 لسان العرب 11/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة1. القول الثالث: أن آله أتباعه إلى يوم القيامة. القول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته2. ثم رجح رحمه الله القول الأول وهو أن آله صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة3. هذا ويرى الشيعة أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أربعة فقط: علي وفاطمة والحسن والحسين، وقولهم هذا مخالف للنصوص الصحيحة ولا تؤيده اللغة ولا العرف، لأن لفظة أهل البيت وردت في القرآن الكريم في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 4. فنفهم من الآية أن المراد بأهل البيت هن أزواجه عليه الصلاة والسلام.   1 انظر جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص 109. 2 المصدر السابق ص110. 3 انظر المصدر السابق ص110- 119 ط دار الكتب العلمية. 4 الآية 28 من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 هذا ولما لم توجد في زمن عمر واحدة من زوجاته صلى الله عليه وسلم وإنما وجد ذريته عليه الصلاة والسلام وأكثرهم من أولاد علي وأولاد أولاده فقد عرف لهم عمر رحمه الله تعالى حقوقهم المادية والمعنوية وأداها إليهم مستوفاة كاملة بدون بخس ولا شطط، وسيتبين ما قام به من خلال الآثار الآتية بإذن الله تعالى. 127/1- أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن المغيرة قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك1 ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيِّمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة أبي بكر وعمر عملا فيها عمله، ثم أقطعها مروان، ثم صارت لي، فرأيت أمرا منعه رسول الله بنته ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2.   1 فدك: قرية بالحجاز. قريبة من المدينة قيل بينها وبين المدينة مسيرة يومين أو ثلاثة أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع صلحا. انظر معجم البلدان 4/238. 2 سنن أبي داود 3/378- 379 ط دار الحديث، وانظر سير أعلام النبلاء 5/128- 129، وانظر أيضا ابن الجوزي سيرة عمر ص136- 137، وأبو حفص الملاء 1/138، وابن عساكر ورقة 142، وابن سعد في الطبقات 5/287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 128/2- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن بشر بن حميد المزني عن أبيه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: خذ هذا المال الأربعة آلاف دينار فاقدم بها على أبي بكر بن حزم فقل له فليضم إليه خمسة آلاف أو ستة آلاف حتى يكون عشرة آلاف دينار وأن تأخذ تلك الآلاف من الكتيبة ثم تقسم ذلك على بني هاشم وتسوي بينهم الذكر والأنثى والصغير والكبير سواء، قال: ففعل أبو بكر ... 1. 129/3- ابن سعد قال: أخبرنا مالك بن إسماعيل قال: حدثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت فاطمة بنت علي بن أبي طالب ذكرت عمر ابن عبد العزيز فأكثرت الترحم عليه، وقالت: دخلت عليه وهو أمير المدينة يومئذ فأخرج عني كل خصي وحرسي، حتى لم يبق في البيت غيري وغيره ثم قال: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلي منكم ولأنتم أحب إلي من أهل بيتي2. 130/4- ابن سعد قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا أبو المليح عن ابن عقيل يعني عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال:   1 ابن سعد الطبقات 5/390، وفي الأثر محمد بن عمر شيخ المصنف متروك. 2 المصدر السابق 5/388، ومالك بن إسماعيل النهدي ثقة متقن، مات سنة 17هـ. تقريب التهذيب ص516. وجويرية بن أسماء صدوق. تقريب ص143 مات عام 73هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أول مال قسمه عمر بن عبد العزيز لمال بعث به إلينا أهل البيت فأعطى المرأة منا مثل ما يعطي الرجل وأعطى الصبي مثل ما تعطي المرأة، قال: فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار وكتب لنا: إني إن بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم1. 131/5- أخبرنا علي بن محمد عن لوط بن يحيى الغامدي قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون عليا رحمه الله تعالى فلما ولى عمر أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي: وليت فلم تشتم عليا، ولم تخف ريا، ولم تتبع مقالة مجرم2. 132/6- الفسوى قال: حدثنا سعيد بن عفير حدثني يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدب بها فكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده فكان عمر يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علي بن أبي طالب   1 المصدر السابق 5/392، وعبد الله بن جعفر الرقي ثقة تقريب ص298، والجرح والتعديل 5/22. وأبو المليح: هو الحسن بن عمر أو عمر الفزازي ثقة. تقريب ص165. وعبد الله بن محمد صدوق. تقريب ص321. 2 نفس المصدر 5/393- 394 = في الأثر لوط بن يحيى أبو مخنف متروك الحديث. انظر الجرح والتعديل 7/182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فأتاه عمر فقام يصلي وأزر عمر فلم يبرح حتى سلم من ركعتين ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ قال: فعرف عمر ما أراد فقال: معذرة إليك والله لا أعود. قال: فما سمع عمر بن عبد العزيز بعد ذلك ذاكرا عليا إلا بخير1. 133/7- ابن الجوزي قال: وعن حسين بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر ابن عبد العزيز فقال قائلون فلان، وقال قائلون فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه2. التعليق: إن عمر بن عبد العزيز كغيره من السلف الصالح كان قائما بأداء حقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لما أمر به صلى الله عليه وسلم ... "أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي"3.   1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/568، والأغاني 9/152، وابن كثير 5/193، وابن عساكر 45/136، والذهبي في السير 5/117. وفي الأثر من لم أجده وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله والد يعقوب. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص292، وأبو حفص الملاء 2/493، وحسن بن صالح ابن حي الهمداني الثوري أبو عبد الله الكوفي فقيه عابد على تشيع فيه، ولد سنة مائة انظر التقريب ص161. 3 صحيح مسلم 5/554، برقم (2408) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وروى الإمام أحمد والترمذي، وغيرهما عن أم سلمة أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1، لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم3، وآل بيته صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم 4. والحقوق التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هي التي حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله على أدائها على الوجه المطلوب شرعا فرد على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك كما قام برد خمس الخمس عليهم كما أطعمهم في الفيء ونهى عن الطعن على أحد منهم حيث أن بعض عمال بني أمية كانوا يستفزون بعض أهل البيت بالطعن عليهم وجعل عمر   1 الآية 33 من سورة الأحزاب. 2 المسند 6/292، والترمذي 5/30-31.وأصله في مسلم 5/566 برقم (2424) . 3 انظر مجموع الفتاوى 3/407. 4 انظر مجموع الفتاوى 3/407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 مكان الطعن الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ..} 1. وقيل غيرها. وقد بين الإمام الذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية السبب في طعن بعض ولاة بني أمية على بعض أهل البيت وعلى علي رضي الله عنه بالذات فقال الذهبي: "وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء وإما قد ولدوا في الشام على حبه وتربي أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب نعوذ بالله من الهوى كما قد نشأ جيش علي رضي الله عنه ورعيته إلا الخوارج منهم على حبه والقيام معه وبغض من بغى عليه والتبري منهم وغلا خلق منهم في التشيع. فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا في الحب، مفرطا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين"2.   1 الآية 9 من سورة النحل. وقيل جعل مكانه قوله تعالى: الآية 10 من سورة الحشر، وانظر: مروح الذهب 3/194، والكامل في التاريخ 5/42، واليعقوبي 2/305. 2 سير أعلام النبلاء 3/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"سب علي رضي الله عنه كان شائعا في أتباع معاوية ... وهو من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها الطائفة الباغية ويدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة ... "1. وقد قام عمر رحمه الله تعالى بالاهتمام بحقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسلّم إليهم حقوقهم المادية والمعنوية، حرصا منه على إتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه وحبا منه لاتباع السلف الصالح الذين أحب أن يقتدى بهم في كل لحظة من لحظات حياته لتكمل له بذلك ما كان يمن به نفسه، وما كان يحرص عليه ويتمناه من العمل بالعدل واتباع السنة والسير على نهج أهل الحق ليصل إلى الثمن الغالي الذي تَتُوق نفسه إلى الوصول إليه، فرحمه الله رحمة واسعة.   1 انظر الفتاوى 4/437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الفصل الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أمور المبحث الأول: الآثار عن عمر في عذاب القبر ونعيمه ... تمهيد: إن الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أمور قد كثر ذكره والتذكير به في الكتاب. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 1. وقال عز وجل في وصف الكفار: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور أهمية الإيمان باليوم الآخر حيث جعله صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإيمان، فقال في تعريفه للإيمان: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... "3. والحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة. فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت، من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من البعث والنشور، وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار. ويلحق العلماء ما يكون قبل ذلك من علامات وأشراط، كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر. هذا ولما كان الموت والقبر وعذابه أو نعيمه أول منازل الآخرة فيجدر تقديم ما أثر عن عمر رحمه الله في هذه   1 سورة النمل، الآية 13. 2 سورة هود، الآية 19. 3 أخرجه مسلم 1/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 المسألة على المسائل الأخرى لتكتمل الصورة ولتعم الفائدة ثم يعقب بعدها بالمسائل التي أثرت عنه في الإيمان بهذا اليوم العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 المبحث الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه. 134/1- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: يا فلان قرأت البارحة سورة فيها زيارة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 1، فكم عسى الزائر يلبث عند المزور حتى ينكفئ إما إلى جنة وإما إلى نار2. 135/2 - ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: " ... أيها الناس ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وفي بيوت الميتين وفي دور الظاعنين جيرانا كانوا معكم بالأمس أصبحوا في دور خامدين، بين آمن روحه إلى يوم القيامة وبين معذب روحه إلى يوم القيامة ... "3.   1 الآيتان 1و2 من سورة التكاثر. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص121، وأخرج الأثر ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء ص357، وابن الجوزي سيرة عمر 230، وأبو نعيم في الحلية 5/317، وأبو حفص الملاء 1/336. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص117، وأبو حفص الملاء 2/450، وأبو نعيم في الحلية 5/266، وابن الجوزي سيرة عمر ص259- 260 بعضه ببعض اختلاف في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 136/3 - ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: " ... في كل يوم تشيعون غاديا إلى الله ورائحا قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب وخلع الأسلاب وواجه الحساب وسكن التراب مرتهنا بعمله غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم ... "1. التعليق: إن ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الآثار السابقة يدل على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإثبات عذاب القبر ونعيمه هو معتقد أهل السنة والجماعة، ولا شك أن الإيمان بذلك واجب، والتصديق به لازم، حسب ما أخبر به الصادق وهو أن الله تعالى يُحْيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه، ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان2. وبهذا دلت النصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى:   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص420 43، وابن الجوزي سيرة عمر ص259- 260، وأبو نعيم في الحلية 5/294، وأبو حفص الملاء 2/450. 2 انظر التذكرة للقرطبي ص137. ط. دار الكتب العلمية بيروت ط. الثانية عام 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة} 1، فقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر2. وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 3. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا. وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"4. وهذا الذي دل عليه الحديث هو ما فهمه الصحابة والتابعون الذين نزل القرآن بلغتهم كما سبق بيان ما نقل عن عمر بن عبد العزيز، وهو أن   1 الآية 27 من سورة إبراهيم. 2 انظر الروح لابن القيم ص144. 3 الآية 45 سورة غافر. 4 البخاري مع الفتح 3/232، برقم (1374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الإيمان بعذاب القبر ونعيمه من الغيب الذي أمرنا بالإيمان به، وأن العبد يرد إليه روحه ويسأله الملائكة وينعم ويعذب في قبره حسب أعماله التي قدمها في الدنيا، ومما يجدر تنبيهه هنا أن ما أثر عن عمر في ذكر أمن الروح وتعذيبه لا يحمل على أنه يرى أن العذاب في القبر إنما هو على الروح فقط دون الجسد لأنه يحتمل أنه أراد بهذا تفسير الحديث "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة"1، ومن المعلوم أن أحكام البرزخ تقع على الأرواح، والأبدان تبع لها، بخلاف ما في الدنيا فإن الأحكام على الأبدان والأرواح تبع لها، ولهذا فقد صح عن السلف الصالح أن العذاب في القبر على الروح والجسد تبع له. وقد تنعم الروح وتعذب وهي منفردة عن البدن أحيانا, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العذاب والنعيم في القبر" على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون على الروح منفردة عن البدن.   1 الحديث رواه أحمد في المسند 6/386، وابن ماجة 2/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 أما قول من يقول إن النعيم والعذاب على الروح فقط، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب فهو قول شاذ ليس من أقوال أهل السنة والجماعة، وإنما تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين1. وقال الحافظ ابن حجر: قال الجمهور: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه. والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد وغيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب، وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم ليتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله. وقد   1 مجموع الفتاوى 4/282-284ونقل ذلك عنه السفاريني في لوامع الأنوار البهية 3/24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله: "إنه ليسمع خفق نعالهم" وقوله: "يضرب بين أذنيه" وقوله: "تختلف أضلاعه" وقوله: "يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق" وقوله: "فيقعدانه" وكل ذلك من صفات الأجساد ... "1. فظهر مما تقدم نقله أن العذاب في القبر على الروح والجسد معا، وقد بين عمر في الأثر الثالث أن الميت إنما ينفعه في قبره أو يضره فيه عمله وهو الحق، فيضره معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، كما ينفعه اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر2.   1 البخاري مع الفتح 3/235، وانظر الحديث الذي أشار إليه الحافظ في البخاري مع الفتح 3/232-233 برقم (1374) . 2 انظر كتاب الروح لابن القيم ص134- 141، ط دار الكتاب العربي تحقيق ودراسة الدكتور السيد الجميلي. الطبعة الثالثة عام 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 المبحث الثاني: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بالمعاد، ونزول الرب لفصل القضاء . 137/1- ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله تبارك وتعالى للحكم فيه والفصل بينكم ... "1. 138/2- ابن أبي الدنيا قال: حدثني الحسن بن محبوب أخبرنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا أبو ربيعة عن جده قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله فينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.."2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42، وابن الجوزي سيرة عمر ص 259-260، والفسوي المعرفة والتاريخ 1/611- 612، والآجري أخبار أبي حفص ص64وأبو حفص الملاء 2/449-450، وابن أبي الدنيا قصر الأمل ص66، وأبو نعيم في الحلية 5/266 و294. 2 ابن أبي الدنيا ذم الدنيا ص81، والحسن بن محبوب بن الحسن القرشي، قال أبو حاتم: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل 3/38، والربيع بن نافع أبو توبة الحلبي ثقة عابد. تقريب 1/246. وأبو ربيعة هو عمر بن ربيعة الإيادي قال عنه يحيى بن معين: كوفي ثقة، وقال أبو حاتم: منكر الحديث. انظر الجرح والتعديل 7/107، وقال الحافظ: مقبول من السادسة. تقريب ص639. وأبوه هو ربيعة بن يزيد الدمشقي أبو شعيب الإيادي القصير ثقة عابد من الرابعة. تقريب ص208. وجده لم أجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 139/3- هناد السرى قال: حدثني أبو أسامة عن جرير بن حَازم، قال قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي " ... اعلم أن أحدا لا يستطيع إنفاذ قضايا ما بين الناس حتى لا يبقى منها شيء، لابد أن تستأخر قضايا ليوم الحساب"1. 140/4- ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو حاتم الرازي قال: حدثنا موسى بن أيوب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: فإني أذكرك ليلة تمخض   1 هناد السرى فى الزهد 1/299- 300، وهناد السَّرى الكوفي ثقة. تقريب ص574، وأبو أسامة حماد بن أسامة القرشي ثقة ثبت. تقريب ص177، وجرير بن حازم بن عبد الله الأزدي ثقة. تقريب ص138، وأخرج الأثر أيضا ابن الجوزي سيرة عمر ص115، وأبو حفص الملاء 1/257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 بالساعة وصباحها القيامة فيالها من ليلة وياله من صباح كان على الكافرين عسيرا1. 141/5- ابن الجوزي قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي بعض الأجناد أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته ... فمن كان راغبا في الجنة أو هاربا من النار فالآن في هذه الأيام الخالية، والتوبة مقبولة، والذنب مغفور قبل نفاد الأجل وانقضاء المدة، وفراغ الله عز وجل للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه الحيلة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس جميعا بأعمالهم، وينصرفون منه أشتاتا إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله عز وجل، وويل يومئذ لمن عصى الله عز وجل2.   1 ابن أبي الدنيا الرقة والبكاء ص92، وابن الجوزي سيرة عمر 127، وأبو حفص الملاء 1/260، وقال محقق كتاب الرقة والبكاء إسناده لا بأس به. وأبو حاتم الرازي: هو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي أحد حفاظ الحديث مات سنة 77هـ. انظر تقريب التهذيب ص467. وموسى بن أيوب بن عيسى النصيببي أبو عمران الأنطاكي صدوق. انظر تقريب التهذيب ص550. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص115- 116، وأبو حفص الملاء 1/266، وأبو نعيم في الحلية 5/275-276. عن ليث بن أبي رقية كاتب عمر بن عبد العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 142/6- ابن أبي الدنيا قال: وحدثني محمد قال: حدثني خالد بن عمرو الأموي قال: حدثنا عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله حتى صعد المنبر فخطب فقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} 1، فقال: وما شأن الشمس؟ {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت} 2، حتى انتهى إلى {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت} 3، فبكى ... "4. التعليق: إن الإيمان بالمعاد والبعث والنشور وأن الله تبارك وتعالى يجمع كل الخلائق وبيان الحكمة من ذلك وبيان شدة هذا اليوم على الكفار هو   1 الآية 1 من سورة التكوير. 2 الآية 2 من سورة التكوير. 3 الآية 12- 13 من سورة التكوير. 4 ابن أبي الدنيا الرقة والبكاء ص39، وابن الجوزي سيرة عمر ص157، وابن عساكر ج 33 ص 416 وابن كثير البداية والنهاية5 /243 والأثر في إسناده خالد بن عمرو الأموي أبو سعيد الكوفي رماه ابن معين بالكذب ونسبه صالح جزره وغيره إلى الوضع. انظر تقريب التهذيب ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 مدلول الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى هنا، ولا شك أن الإيمان بالمعاد من أهم العقائد التي تتميز بها الإسلام 1، وقد حاز قصب السبق في هذا المضمار، فجل سور القرآن الكريم تتضمن الإيمان بالمعاد، إما تصريحا وتأكيدا أو تلميحا وإشارة، وقد بين الله تبارك وتعالى في كثير من آيات الكتاب وجوب الإيمان بالبعث، وبين في بعضها الرد على من ينكر حشر الأجساد بحجج عقلية لا يمكن للمنكرين إلا الإذعان لها أو المكابرة قال تعالى: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2 وقال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 3. وقال في منكري البعث: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ   1 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/589. 2 الآية 11 من سورة الروم. 3 الآيات 16 من سورة المؤمنون. 4 الآيات 77-79 من سورة يس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 1. كما ثبت السنة في المطهرة الإيمان بالبعث فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما بين النفختين أربعون، قالوا: أربعون يوما؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة قال: أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماءا فينبتون كما ينبت البقل، قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة"2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا"3. ومضمون هذه النصوص هو المأثور عن عمر كما سبق بيانه حيث قال: وإن لكم معادا" كما بين في تلك الآثار الحكمة من المعاد فقال: أما   1 الآيات من 36- 40 من سورة القيامة. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 6/394، برقم (2955) وعجب الذنب: العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب المصدر السابق. 3 البخاري مع الفتح 6/287، برقم (3193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله فينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهذا ما بينه القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي يجازي كُلاًّ بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر"3. وقال عز وجل في بيان الحكمة من البعث: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 4. قال شارح الطحاوية معلقا على هذه الآية الكريمة: ... كيف تقتضي حكمة الخالق المبدع من العدم والمصور في الأرحام من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم شق السمع والبصر وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع، ... كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن   1 الآية 15 من سورة طه. 2 الآية 31 من سورة النجم. 3 تفسير ابن كثير 4/255. 4 الآية 115 من سورة المؤمنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه قدرته. ثم قال رحمه الله: فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه1. وبعد قيام الناس من قبورهم ووقوفهم في ساحة القيامة، يشتد الأمر ويعظم الخطب، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ويفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه، لأن كُلاً منهم يومئذ شأن يغنيه، وهذا الموقف الرهيب مما يستدعي الخوف والبكاء، فلذا لما تصوره عمر ابن عبد العزيز وذلك بقراءته سورة التكوير، بكى، وأبكى، فالسورة تصور مشهدا من مشاهد القيامة العصيبة، كما أن لهذا اليوم مشاهد أخرى، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرةرضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم" 2، فإذا اشتد الأمر بالناس في الموقف فزعوا إلى الأنبياء ليزيحوا عنهم الكرب ويدفعوا عنهم الغم، فكل نبي من   1 انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/596- 597. يشير رحمه الله إلى الآية {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا ... } 2 البخاري مع الفتح 11/392، برقم (6532) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 آدم إلى عيسى يشير إلى غيره من الأنبياء حتى تصل النوبة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها أنا لها"، وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى لنبينا في القرآن. قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1. فإذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف واستجيب دعاؤه ينزل الرب تبارك وتعالى، كما يليق بجلاله للقضاء بين الخلائق فتنشر الدواوين وينصب الميزان كما سيأتي.   1 الآية 79 من سورة الإسراء، وللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى يثبتها أهل السنة والجماعة بينما أنكرها كثير من فرق الضلال ولم أقف لعمر كلام في هذه الشفاعات فأحيلك أيها القارئ الكريم إلى لوامع الأنوار البهية للسفاريني فقد أجاد وأفاد وغيرها من كتب السلف في العقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الإيمان بالميزان . 143/1- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا أبو عبد الله الأزدي عن الحسن ابن محمد الخزاعي عن رجل من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه: إن لكل سفر زادا لا محالة، ... أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عولتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين فيه منصوبة1. 144/2- ابن الجوزي قال: حدثنا شعيب بن صفوان عن الفيض بن عبد الحميد قال: قال عمر بن عبد العزيز: ... "أوما رأيتم حالات الميت؟ وجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار" واتقوا يوما لا يخفى فيه مثقال ذرة في الموازين2.   1 ابن أبي الدنيا قصر الأمل ص50-51، وأبو نعيم في الحلية 5/291، وابن الجوزي سيرة عمر ص234-244، وأبو حفص الملاء 2/445، وأبو عبد الله الأزدي، والحسن بن محمد الخزاعي لم أجدهما. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص255، وأبو حفص الملاء 2/456. وشعيب بن صفوان أبو يحيى الثقفي قال عنه أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر الجرح والتعديل 4/348. والفيض بن عبد الحميد لم أجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 145/3- ابن الجوزي قال: حدثني بحدل الشامي عن أبيه وكان صاحبا لعمر بن عبد العزيز قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يتلو على المنبر هذه الآية {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1. حتى ختمها فمال على أحد شقيه يريد أن يقع2. التعليق: إن هذه الآثار الواردة عن عمر رحمه الله تدل على أن بعد القيام من الأجداث والذهاب إلى المحشر، ونزول الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، ينصب الميزان، وهو ميزان حقيقي، توزن به أعمال العباد، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة. قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكِفَّتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وغيرهم. وقالوا: هو عبارة عن العدل، فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه   1 الآية 47 من سورة الأنبياء. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص248، وأبو حفص الملاء 2/452، عن علي بن زيد بن جدعان قال شهدت عمر بن عبد العزيز ... وأبو نعيم في الحلية 5/297، أما بحدل الشامي وأبوه فلم أجدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 يضع الموازين لوزن الأعمال ليري العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين1. وهذا الميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2. والميزان غير العدل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 3، وقوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه} 4. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"5. وقد اختلف العلماء في الميزان هل هو واحد أم أن الموازين متعددة؟ فذهب بعضهم إلى أنه ميزان واحد، وذهب آخرون إلى أنها موازين متعددة، ولكلا الفريقين ما يستدل به على ما يذهب إليه، وقد أشار إلى   1 انظر البخاري مع الفتح 13/538. 2 سورة الأنبياء الآية 47. 3 سورة المؤمنون الآية 102. 4 سورة المؤمنون الآية 103. 5 البخاري مع الفتح 13/537، برقم (7563) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 هذا العلامة السفاريني فقال: اختلف في الميزان هل هو واحد أو أكثر؟ فالأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال، كفتاه كأطباق السموات والأرض. وقيل: إنه لكل أمة ميزان، وقال الحسن البصري: لكل واحد من المكلفين ميزان1، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} 2. وأجيب بأن جمع الموازين في الآية والأحاديث لكثرة من توزن أعمالهم، أو أن ذلك للتفخيم، أو تعدد الأعمال. ويدل على تعدد الأعمال قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه} 3، فالميزان واحد وإنما جمع باعتبار الموزون. ولكن بماذا نجيب عن ما ورد عن عمر في جمع الموازين؟ يجاب بأن الميزان واحد في تلك الآثار وإنما جمعها عمر رحمه الله تعالى في تلك الآثار لتفخيمها4،لأنه كان شديد التأثر بالآيات التي فيها ذكر أمور الآخرة.   1 لوامع الأنوار البهية 3/186. 2 سورة الأنبياء 47. 3 سورة المؤمنون الآية 102- 103. 4 انظر البخاري مع الفتح 13/538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وأما الذين ذهبوا إلى أنها موازين متعددة فيظهر أنهم أخذوا بظواهر النصوص التي تدل على تعدد الموازين، وأياً كان فإن هذه قضية غيبية الأهم فيها الإيمان بوقوع وزن الأعمال والعامل وصحف الأعمال فكل ذلك ممكن في قدرة الله. هذا وقد اختلف في الموزون ما هو؟ ولم يرد عن عمر رحمه الله تعالى شيء في ذكر الخلاف في الموزون، وإنما ورد عنه مطلق الإيمان بالميزان وكونه يعلق فيوزن فيه الأعمال دقيقها وجليلها وقد وفّى الموضوع حقه العلامة السفاريني في لوامع الأنوار البهية1، وكذلك القرطبي في التذكرة2، والعلامة مرعي الحنبلي المقدسي3، رحمهم الله تعالى. وبعد وزن الأعمال وظهور بعض الفرج للمؤمنين يمر الناس ويشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن لكل نبي حوضاً، واختلف في مكان الحوض، فالقرطبي يرى أنه في عرصات القيامة4، بينما استظهر ابن حجر   1 لوامع الأنوار البهية ص186. 2 التذكرة للقرطبي ص377. 3 تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان لمرعي الحنبلي المقدسي ص58، تحقيق د/سليمان صالح الخزى. 4 التذكرة ص362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 من صنيع البخاري أن الحوض بعد الميزان1، ويمكن الجمع بين القولين بأن ذلك يحمل على تعدد الشرب، كما يحتمل الجمع بأن الشرب من الحوض لقوم قبل الصراط وآخرين بعده بحسب ما عليهم من الذنوب والأوزار حتى يهذبوا منها على الصراط2. والإيمان بالحوض هو معتقد أهل السنة والجماعة، لصحة النصوص الواردة في الإيمان به، والإيمان به كذلك هو المأثور عن عمر كما سيأتي.   1 البخاري مع الفتح 11/466. 2 لوامع الأنوار البهية 3/196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الإيمان بالحوض . 146/1- أبو زرعة قال: حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا الوليد ابن مسلم عن يحيى بن الحارث عن أبي سلام، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى صاحب دمشق أن سل أبا سلام عما سمع من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوض فإن كان يثبته فاحمله على مركبة من البريد1.147/1- ابن الجوزي قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن العباس بن سالم اللخمي قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلام الحبشي يحمل على البريد. فلما قدم عليه قال: لقد شق علي، قال: عمر: ما أردنا ذلك ولكنه بلغني عنك حديث ثوبان في الحوض فأحببت أن أشافهك به، فقال: سمعت ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن حوضي من عدن2   1 تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص164،وابن كثير البداية والنهاية 5 /226 وعبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي يعرف بدحيم اليتيم روى عن الوليد بن مسلم، ثقة. انظر الجرح والتعديل 5/211- 212، والوليد بن مسلم القرشي مولاهم ثقة لكنه كثير التدليس. تقريب ص584، ويحيى بن الحارث الذمارى بكسر المعجمة وتخفيف الميم أبو عمرو الشامي القارئ ثقة. تقريب ص589. وأبو سلام هو ممطور الأسود الحبشي ثقة يرسل. تقريب ص545. وسيأتي الأثر برقم 226، و227. 2 عدن: بالتحريك آخره نون مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. انظر معجم البلدان 4/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 إلى عمان البلقاء1 ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين ... "2. 147/2- أبو زرعة قال: أخبرني يحيى بن صالح الوحاظي، قال: حدثنا محمد بن مهاجر، عن العباس بن سالم، عن أبي سلام: أنه دخل على عمر بن عبد العزيز فقال: لقد شققت علي يا أمير المؤمنين، قال: ما أردت ذاك ولكن أحببت أن تشافهني بحديث ثوبان في الحوض3.   1 عَمَّان بالفتح ثم التشديد وآخره نون بلد في طرف الشام وكانت قصبة أرض البلقاء. انظر معجم البلدان 4/151. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص37، إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي بالنون أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم من الثامنة. تقريب ص109. والعباس بن سالم اللخمي الدمشقي ثقة من السادسة. د ت ق. تقريب ص294، والحديث صححه الشيخ الألباني في السلسلة برقم 1082. وقد أخرج الأثر أبو حفص الملاء 2/584- 585. 3 تاريخ أبي زرعة ص164، ومن طريقه ابن عساكر45/216 ويحيى بن صالح الوحاظي الحمصي صدوق. تقريب ص591. والعباس بن سالم الدمشقي ثقة. تقريب ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 التعليق: يتبين من الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث الإيمان بالحوض على حقيقته كما جاء في الكتاب والسنة، ولا شك أن الإيمان بالحوض كما جاء في النصوص الصحيحة هو عقيدة أهل السنة والجماعة، استنادا إلى النصوص الصريحة بذلك، فمنها ما ورد في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول يارب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"1. وأدلة إثبات الحوض في السنة بلغت حد التواتر، وأما بالنسبة للقرآن فإنه لم يرد التصريح به، إلا أن من العلماء من جعل الحوض بمعنى الكوثر، ثم استدل لإثبات الحوض بسورة الكوثر تغليبا لاسم الكوثر على اسم الحوض. والذي يظهر من النصوص ومن كلام العلماء أن الحوض في الموقف والكوثر في الجنة، وبينهما اتصال قوي، حيث يصب من الكوثر إلى الحوض الذي هو في عرصات القيامة2.   1 البخاري مع الفتح 11/463، رقم (6575) . 2 انظر الحياة الآخرة لشيخنا الدكتور غالب العواجي 2/1409 ط. دار لينة ط. الأولى 1417هـ مطابع الفاروق الحديثة القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وقد أولت المعتزلة الأدلة الصحيحة السابقة وأنكروا وجود الحوض، وكذلك الخوارج. قال ابن حجر وأنكرت طائفة من المبتدعة الحوض، وأحالوه على ظاهره، وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله فخرقوا إجماع السلف وفارقوا مذهب الخلف1. وقد كان السلف يقولون عن منكري الحوض عبارتهم المشهورة: "من كذب به فلا سقاه الله منه"، ولا شك أن حرص عمر رحمه الله تعالى في سماع الحديث من أبي سلام دليل على شدة حبه للعقيدة الصحيحة والتأكد من رواتها، ومشافهتهم حتى يطمئن قلبه رحمه الله، كما أنه يمكن أن يستدل بعمل عمر هذا على الرد على من ينكر الحوض، حيث شافه من سمع الحديث من ثوبان رضي الله عنه مع شهرة أحاديث الحوض بين الصحابة. وقد تقدم أن أحاديث الحوض بلغت حد التواتر، وقد وقع الخلاف بين العلماء في تحديد مسافة الحوض، وهو ناشئ عن اختلاف الروايات في تحديده، فقد ورد أن طوله وعرضه مسيرة شهر، وأنه كما بين عدن وعمان، وما بين صنعاء والمدينة، وما بين المدينة وعمان، وما بين أيلة ومكة، وما بين المدينة وبيت المقدس، وغير ذلك. قال بعض العلماء وهذا الاختلاف والاضطراب لا يوجب الضعف، لأنه من اختلاف التقدير   1 انظر البخاري مع الفتح 11/467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 والتحديد، لا من الاختلاف في الرواية، لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعد اضطرابا، وإنما جاء في أحاديث مختلفة عن غير واحد من الصحابة وقد سمعوه في مواطن متعددة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمثل لكل قوم الحوض بحسب ما يعلم المتكلم ويفهم السائل وبحسب ما يسنح له صلى الله عليه وسلم من العبارة ويحدد الحوض بحسب ما يفهم الحاضرون من الإشارة1.   1 لوامع الأنوار البهية 3/201- 202. وانظر الحياة الآخرة 2/1447-1451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 المبحث الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بالصراط . 148/1- ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو سعيد المديني عبد الله بن المسيب، حدثني محمد بن عمر بن سعيد العطار، حدثني زكريا بن منظور، عن عمه، عن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أخ له: يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله، فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أوحي إلى نبيك صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك أن تغرك الدنيا فإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ... "1. لتعليق: إن هذا الأثر الوارد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يدل على الإيمان بالصراط، وذلك أنه بعد الخروج من عرصات القيامة في اليوم   1 ابن أبي الدنيا ذم الدنيا ص61، وابن الجوزي سيرة عمر ص257، وأبو حفص الملاء 2/457. وأبو سعيد المديني عبد الله المسيب القرشي مولاهم مقبول ص323 تقريب. ومحمد ابن عمر بن أبي حفص العطار روى عن السدي روى عنه أبو نعيم الفضل بن دكين ولم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 8/19. وزكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي أبو يحيى ضعيف. انظر تقريب التهذيب ص216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 العصيب يمر الناس على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، أدق من الشعرة وأحد من السيف، يرده الأولون والآخرون من أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، فتلقى عليهم الظلمة قبل الصراط. وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون ويُحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، ويعطي كل مؤمن نوره بقدر عمله يضيء له الطريق فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، وكالريح، ومنهم من يرمل رملا حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تَخِرّ يدٌ وتعلق يد، وتخر رجل وتصيب جوانبه النار1. وقد دل الكتاب والسنة على المرور على الصراط. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ... } 2. قال شارح الطحاوية: واختلف المفسرون في المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط. قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 3، وفي الصحيح أنه   1 انظر: شرح الطحاوية ص470. 2 الآية 72 من سورة مريم. 3 سورة مريم الآية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة"، قالت حفصة: فقلت: يارسول الله أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ، فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} " 1 أشار إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله. فالمؤمنون يمرون فوق النار على الصراط ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا، فبين صلى الله عليه وسلم أن الورود هو الورود على الصراط2. والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك، كما قال تعالى في شأن فرعون {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 3، أي بئس المدخل المدخول. والورود الثاني: ورود الموحدين وهو مرورهم4 على الصراط كما سبق وهو ما عناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله بقوله: "يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أوحي   1 مسلم برقم2496/ 6 / 47. 2 شر ح الطحاوية ص471، والحديث رواه مسلم6 /470 برقم2496. 3 سورة هود 98. 4 القيامة الكبرى للأشقر ص278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 إلى نبيك صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج ... " 1. فعمر في هذا الأثر يذكر أخاه بالمرور على الصراط وهو خاص بالمؤمنين والموحدين من أتباع الرسل وفيهم بعض المنافقين الذين يحبسون ويسقطون في النار، فالورود هنا كما بينه عمر هو المرور على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين في النار جثيا، أعاذنا الله ونجانا من هذا المكان برحمته ولطفه.   1 انظر: القيامة الكبرى للأشقر ص278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 المبحث السادس: الآثار عن عمر في الإيمان بالجنة والنار. 149/1- أبي الدنيا قال: حدثني محمد قال: حدثني يوسف بن الحكم قال: حدثني عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء. فلما تجلى عنهم العبر قالت فاطمة بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله: فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه1. 150/2- أبي الدنيا حدثني محمد قال: حدثني الحميدي عن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز يوما ساكتا وأصحابه يتحدثون فقالوا له:   1 ابن أبي الدنيا الرقة والبكاء ص76، وأبو نعيم في الحلية 5/269، وابن الجوزي سيرة عمر ص213- 214، وأبو حفص الملاء 1/3023 باختلاف ألفاظ، وأخرجه ابن رجب في التخويف من النار ص34، ط. دار الكتب العلمية الأولى 1405هـ. ومحمد بن الحسين البرجلاني روى عن ابن أبي الدنيا وغيره مدحه الإمام أحمد. انظر الجرح والتعديل 7/229، ويوسف بن الحكم وفي الحلية يونس ابن الحكم الإثنين لم أجدهما وكذلك عبد السلام مولى مسلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكرا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى1. 151/3- وقال أيضا حدثني محمد، قال: حدثنا يونس بن يحيى أبو نباتة، قال: حدثنا ابن أبي ذيب قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} 2، فبكى حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرق الناس3.   1 ابن أبي الدنيا الرقة والبكاء ص82، وابن الجوزي سيرة عمر ص154، وأبو حفص الملاء 1/335. والحميدي هو عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري ثقة. تقريب ص303. وسفيان هو ابن عيينة ولم يلق عمر بن عبد العزيز. 2 الآية 13 من سورة الفرقان. 3 ابن أبى الدنيا الرقة والبكاء 95- 96، وابن الجوزي سيرة عمر ص156- 157، وأبو حفص الملاء 1/328- 329. ويونس بن يحيى بن نبانة القرشي الأموي أبو نبانة من الثقات تهذيب الكمال 32/549- 551، وابن أبي ذيب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة العامري ثقة. تهذيب الكمال 25/630- 644. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 152/4- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا أبو عبد الله الأزدي عن الحسن ابن محمد الخزاعي عن رجل من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنهما: أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه ... أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة وأنتم صائرون إلى أحدهما1. 153/5- ابن الجوزي قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض الأجناد ... واعلم أنه ليس يضر عبدا صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر وبلاء، وأنه لن ينفع عبدا صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء. وما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم كل شيء من ذلك كأن لم يكن2. 154/6- ابن عبد الحكم قال: وقرأ عمر بن عبد العزيز بالعشاء ذات ليلة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 3، فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} 4، خنقته   1 ابن أبى الدنيا قصر الأمل ص50- 51، وابن الجوزي سيرة عمر ص244، وأبو نعيم في الحلية 5/291، وأبو حفص الملاء 2/445. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص250- 251، وأبونعيم فى الحلية 5/ 278- 279، وأبو حفص الملاء 1/203- 204. 3 الآية 1 من سورة الليل. 4 الآية 14 من سورة الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 العبرة فلم يستطع أن ينفذها فرجع حتى إذا بلغها خنقته العبرة فلم يستطع أن ينفذها فتركها وقرأ سورة غيرها1. 155/7- ابن الجوزي قال: حدثنا الفضل بن الربيع قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: بلغني أن عاملا لعمربن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: ياأخي اذكر طول سهر أهل النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب، طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك. لا أعود إلى ولاية أبدا حتى ألقى الله تعالى2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص47، وأبو حفص الملاء 1/339. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص124- 125، وأبو حفص الملاء ص259- 260.وابن كثير البداية والنهاية/ 5 /232. والفضل بن الربيع روى عن ابن جريج، قال الذهبي: قال العقيلي: لا يتابع على حديثه. انظر ميزان الاعتدال 3/351، وفضيل بن عياض الزاهد شيخ الحرم وأحد الأثبات مجمع على ثقته وجلالته. قال الذهبي: ولا عبرة بما رواه احمد بن أبي خيثمة. قال: سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت حديث فضيل بن عياض لأنه روى أحاديث رمي فيها على عثمان رضي الله عنه فمن قطبة وما قطبة حتى يجرح وهو هالك. مات الفضيل سنة سبع وثمانين ومائة هـ. ميزان الاعتدال 3/361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 التعليق: يتضح مما سبق من الآثار تقرير عمر بن عبد العزيز بالجنة والنار وإيمانه بوجودهما الآن، ودوامهما، وإثباته نعيم الجنة وعذاب النار. وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة، وقال به السلف الصالح، ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر، بل المقصد من الطاعات كلها هو الوصول إلى رضى الله تعالى ودخول الجنة والنجاة من سخطه ومن النار. "والنار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين"1. وأما الجنة فهي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم يحير العقل ويذهله، لأن تصور عظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه2. وقد خلق الله الجنة والنار وجعل الجنة دار الأبرار والنار دار الفجار قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ... } 3.   1 انظر: الجنة والنار للأشقر ص11. 2 انظر: المصدر السابق ص117. 3 الآية 13-14 من سورة الانفطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والإيمان بهما من أصول الإيمان التي اتفق المسلمون على الإيمان بها، لدلالة القرآن والسنة المطهرة على ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 1. وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2 ومذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ومستندهم النصوص الصحيحة الدالة على ذلك. قال تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 3، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} 4. وقال عن النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 5،وقال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً} 6. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن   1 الآية 75- 76 من سورة طه. 2 الآية 192 من سورة آل عمران. 3 آل عمران الآية 133. 4 الحديد الآية 21. 5 آل عمران الآية 131. 6 النبأ الآية 21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة"1. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار"2. وقد اتفق أهل الملة الإسلامية على أن لا فناء للنار لا لعذابها ولا للجنة ولا لنعيمها إلا الجهم بن صفوان3، فإنه قال بفنائهما، لأنهما حادثان، وقد استدل أهل السنة والجماعة على خلود النار بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 4، وغيرها من الآيات التي فيها تأكيد الخلود بالأبدية، وكذلك الأحاديث، ومنها الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: ويقال: ياأهل   1 مسلم بشرح النووي 6/323، برقم (2866) . 2 رواه مسلم برقم (426) ، 2/113. 3 انظر مراتب الإجماع لابن حزم 173، وهذا الأدلة خارجة عن كون الموحدين لا يخلدون في النار. 4 الآية 74 من سورة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1"2. ويكون هذا بعد خروج الموحدين من النار. وذهب المعتزلة والخوارج إلى أن من دخل في النار لا يخرج منها، لكونهم يرون أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وهم محجوجون بأحاديث الشفاعة الصحيحة وغيرها. ويتضح مما سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قد بين ما يتعلق بوجود الجنة والنار ودوامهما وهو ما بينه السلف، كما دلت عليه النصوص الثابتة في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن من خالف هذا المفهوم فإنما هو متبع لهواه وآراءه الفاسدة التي لا تنبني على الأسس الصحيحة، كما أن الذين نفوا وجودهما الآن ودوامهما لا يستطيعون الإتيان بأي حجة صحيحة مقبولة غير ما يستندون إليه من شبهات تأويل الفلاسفة وعلماء الكلام المذموم.   1 صحيح مسلم 6/312- 313، برقم (2849) . 2 سورة مريم الآية 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المبحث السابع: الآثار عن عمر في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم في الجنة . 156/1- الدارمي قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري أنبأ إبراهيم ابن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمراء الأجناد: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله وطاعته والتمسك بأمره والمعاهدة على ما حملك الله من دينه، واستحفظك من كتابه، فإن بتقوى الله نجا أولياؤه من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها وافقوا1 أنبياءه، وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم2. 157/2- الدارمي أيضا قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد -يعني ابن سلمة- عن علي بن زيد بن جدعان، عن عمارة القرشي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز فأتاه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه   1 في الحلية وابن الجوزي، والملاء: "رافقوا" بدل وافقوا. 2 الرد على الجهمية للدارمي ص103، والأثر أخرجه ابن الجوزي سيرة عمر ص114، وأبو نعيم في الحلية 5/278، وأبو حفص الملاء 1/254. وسعيد بن أبي مريم المصري هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحي بالولاء أبو محمد المصري ثقة ثبت فقيه من العاشرة، ع تقريب ص234، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي مولاهم ضعيف. تقريب ص87. وقد قلب هذا الاسم في الحلية بإسماعيل بن إبراهيم وهو خطأ وكذا عند ابن الجوزي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فقضى له حوائجه فلما خرج رجع فقال عمر أذكر الشيخ؟ فقال له عمر: ما ردك؟ ألم تقض حوائجك؟ قال: بلى، ولكن ذكرت حديثا حدثناه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأمم يوم القيامة في صعيد واحد، فإذا بدا له أن يصدع بين خلقه، مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فيدرجونهم حتى يقحموهم النار ثم يأتي ربنا ونحن في مكان رفيع فيقول: من أنتم؟ فنقول نحن المؤمنون فيقول: ما تنتظرون؟ فنقول: ننتظر ربنا فيقول من أين تعلمون أنه ربكم؟ فيقولون: حدثتنا الرسل أو ما أشبه معناه فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، إنه لا عدل له فيتجلى1 لنا ضاحكا، ثم يقول تبارك وتعالى: أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا قد جعلت مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا" فقال عمر لأبي بردة: والله لقد سمعت أبا موسى يحدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم2 زاد في ابن الجوزي فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا الحديث3.   1 عند ابن الجوزي فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تبارك وتعالى ص33 سيرة عمر. 2 الرد على الجهمية للدارمي ص 92 3 الرد على الجهمية للدارمي ص92، وابن الجوزي سيرة عمر ص33، وقال محقق كتاب الرد على الجهمية أخرجه أحمد 4/407- 408، والآجري ص263، وابن خزيمة ص236، مختصرا وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعمارة القرشي نقل الذهبي في الميزان 3/178، تضعيفه عن الأزدي وذكر له هذا الحديث من مناكيره وقوله في الحديث: "بدا له" منكر كما ذكر الشيخ الألباني في تعليقه على هذا الحديث في الصحيحة 2/395، ولكن الحديث صحيح دون الشطر المذكور فإن له شاهدا من حديث جابر أخرجه احمد 3/383- 384، ومسلم 1/177- 178 ... وأما قوله: "فإنه ليس منكم إلا وقد جعلت مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا" فبمعناه رواه أحمد 4/391- 402، ومسلم 4/2119، من طرق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا. انظر تعليق بدر البدر على كتاب الرد على الجهمية للدارمي ص92- 93 الحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 التعليق: يظهر مما سبق في هذا المبحث إيمان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى برؤية المؤمنين ربهم في الجنة، وهذه القضية من القضايا التي بحثت من قبل السلف ومن قبل المخالفين لهم من الخلف، وألفت في ذلك المؤلفات الكثيرة، ولا شك أن رؤية الله تعالى في الجنة نعمة من أعظم النعم بعد نعمة التوفيق والهداية. قال تعالى في وصف المؤمنين في ذلك اليوم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقال جل شأنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى   1 الآية 22-23 من سورة القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ةٌ} 1، وعن صهيب قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النارِ النارَ ينادي مناد ياأهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فقالوا: ألم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتجرنا من النار. قال: فيكشف الحجاب فينظروا إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل"2. وقال سبحانه وتعالى مبينا عن مصير الكفرة في ذلك اليوم العسير عليهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 3، روي عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن الله لما حجب الكفرة عن رؤيته دل على أن المؤمنين يرونه4، وقد ثبت في السنة الصحيحة رؤية الله تعالى في يوم القيامة، فعن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ... " فهذا بيان بليغ وتأكيد عجيب أكده بأن وبالفعل   1 الآية 26 من سورة يونس. 2 مسلم بشرح النووي 1/393، برقم (297) . 3 سورة التطفيف الآية 15. 4 انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/212 ورواه البيهقي في مناقب الشافعي 1/419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وَزِيَادَ المضارع المسبوق بالسين وبقوله: "كما ترون هذا القمر" مع إشارته إليه فليس بعد هذا البيان بيان، ولا مزيد على هذه التأكيدات، فمن حاول تأويل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بعد ما سمع هذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يجادل بالباطل ليدحض به الحق1. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه ... " 2،. ولهذه الأدلة القوية أجمع الأمة على الإيمان برؤية الله تعالى في الجنة، واختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء. وأنكرت بعض الفرق الضالة رؤية المؤمنين ربهم في الجنة. وفي مقدمتها الجهمية والمعتزلة، والخوارج، والإمامية، وأولت النصوص الدالة على الرؤية وتكلفت في التأويل. قال الزمخشري في تفسيره قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} : أي أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه3.   1 انظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله الغنيمان 2/11-12، والحديث أخرجه البخاري 13/419، برقم (7434) . 2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5/134، وانظر كذلك 1/393- 394، برقم (299) . 3 الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 4/ 165. ط دار المعرفة لبنان بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ففسر الرؤية بالانتظار والتوقع، وهذا لا يسلم له، لأن النظر إذا تعدى بنفسه فمعناه التوقع، والانتظار، كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} 1، وإن عدِّي بفي فمعناه: التفكر والاعتبار قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2، وإن عدي بإلى فمعناه: المعاينة بالأبصار كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ... } 3، فلا دليل له فيما ذهب إليه 4. هذا وقد أثبت الأشاعرة رؤية الله تعالى في الجنة لكنهم أنكروا لازمها حيث قالوا: إنه يُرى لا في جهة، وزعموا أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه لا يشترط فيها مقابلة المرئي ولا كونه في جهة وحَيز ولا غير ذلك5.   1 الآية 13 من سورة الحديد. 2 الآية 185 من سورة الأعراف. 3 الآية 99 من سورة الأنعام. 4 انظر: شرح كتاب التوحيد ص 163، وانظر الجنة والنار للأشقر، وشرح الطحاوية ص203. 5 انظر شرح جوهرة التوحيد للقّاني المسماة تحفة المريد للبيجوري ص115، ط دار الكتب العلمية بيرون لبنان 1414هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 إذا ثمت خلاف بين السلف والأشاعرة فالسلف الصالح حين أثبتوا الرؤية أثبتوا جهة العلو لله تعالى أيضا لأنها لازمة لها، والأشاعرة نفوها وذلك نفي للرؤية نفسها، لأن نفي اللازم نفي للملزوم. لذلك كانت المعتزلة أكثر منطقية مع أنفسهم حين ذهبوا إلى نفي الأمرين فرارا من الوقوع في التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة كما سبق1.   1 انظر البيهقي وموقفه من الإلهيات ص316 لشيخنا الأستاذ الدكتور أحمد بن عطية الغامدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الفصل السادس: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالقدر المبحث الأول: الآثار الواردة عن عمر في تقرير الإيمان بالقدر ... الفصل السادس: الآثار الواردة عن عمر في الإيمان بالقدر. إن الإيمان بالقدر ودراسته من الأمور الهامة في حياة المسلم، وذلك لكثرة ما فيها من الأمور التي تحتاج إلى تفحص وتبصر، ولوقوع الاختلاف الكثير بين الفرق المخالفة لمنهج السلف الصالح في العقيدة فيما بين تلك الفرق من جهة وفيما بينها وبين المتبعين لمنهج الحق منهج السلف من جهة أخرى. ولا شك أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا على الجادة فهم كما وصفهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: " إنهم هم السابقون فقد تكلموا فيه" ويعني في مسألة الإيمان بالقدر:" بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم" وقد بين عمر رحمه الله تعالى من خلال رسائله وخطبه وما كان يكتبه إلى عماله الطريق الحق في الإيمان بالقدر ورد على المنكرين لهذا الركن كله أو لبعض أجزائه مستندا في ذلك كله على الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رحمهم الله. وهذا الفصل الذي نحن بصدد دراسته يعالج الأمور التي أثرت عنه في هذا الباب. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع من المستحسن تعريف القدر لغة واصطلاحا وإيضاح العلاقة بينه وبين القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 تعريف القدر لغة واصطلاحا تعريف القدر لغة: القدر: محركة: القضاء والحكم، ومبلغ الشيء ... والجمع أقدار. ويطلق ويراد به الغنى واليسار والقوة. وإذا وافق الشيء الشيءَ قلت: جاءت قدره، وقدره مماثله. ويقال: ما له عنده قدْر ولا قدر أي حرمة ووقار1. والقدر بالفتح لا غير القضاء الذي يقدره الله، وإذا وافق الشيء الشيء قيل جاء على قدر بالفتح2. وقال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول، وقدر الله الشيء بالتشديد قضاه3.   1 انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي ص590- 591، ولسان العرب 11/55- 56. 2 المصباح المنير ص187- 188. 3 البخاري مع الفتح 11/477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 هذه هي أهم معاني القدر في اللغة وهناك معان أخرى جانبية تعرضت لها كتب اللغة1، يرجع إليها من يريد الاستزادة. وإذا كان ما سبق ذكره هو أهم معاني القدر ومنها القضاء، فهل القضاء والقدر في اللغة مترادفان؟ الصحيح أنهما مترابطان فكل منهما قد يأتي بمعنى الآخر في الجملة. فالقضاء يرجع معناه إلى إحكام الأمر، وإتقانه، وإنفاذه، ومن معانيه الأمر، والحكم، والإعلام، والقدر ترجع معانيه إلى التقدير - والله سبحانه وتعالى - قد ر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها، وشاءها، وخلقها، وهي مقضية ومقدرة فتقع حسب أقدارها وهذا هو الترابط بين هاتين الكلمتين في اللغة. يبقى أن نشير إلى أننا كثيرا ما نقرأ ونسمع الإيمان بالقضاء والقدر، مع أننا لا نجد أثراً لورود اللفظين في الكتاب والسنة مجتمعين، ولا في كلام الصحابة ويبدو أنهما ظهرتا عند ظهور الفرق التي تنكر القدر، ولعل الترابط بينهما الذي ذكرناه آنفا هو السبب في تلازمهما   1 انظر: القضاء والقدر في الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه /27 -29 وانظر في كتب اللغة مثلا: في مادة قدر الصحاح للجوهري 2/786، وما بعدها ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/62- 63، ولسان العرب 5/74 وما بعدها، وتاج العروس 3/481 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وصدورهما من كلامهم، وكل ما ذكر في اللغة فهو وثيق الصلة بتعريفهما في الاصطلاح. تعريف القدر في الاصطلاح: عرف العلماء القدر بعدة تعريفات كلها تدور حول مراتب القدر الأربعة التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى فعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بأنها: 1- "تقدير الله تعالى الأشياء في القدم وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة وكتابته - سبحانه - لذلك ومشيئته له ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقها لها"1. 2- وعرفها الشيخ ابن عثيمين بأنها: "تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته"2. 3- وعرفها العلامة السفاريني بقوله: هو:"ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد وإنه - عز وجل - قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في   1 انظر شرح العقيدة الواسطية للشيخ صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله - ص162- 169 وشفاء العليل لابن القيم ص63. 2 رسائل في العقيدة للشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله - ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الأزل وعلم - سبحانه وتعالى - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده - تعالى - وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها1. 4- وعرفها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بأن قال: "القدر هو أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته2. وإذا جمعت هذه التعريفات كلها يمكن دمج بعضها في بعض لتصبح دالة على تعريف القدر شرعا: 5- فالقدر شرعا: "تقدير الله للكائنات بأعيانها وأزمانها وخصائصها حسبما سبق به علمه وجرى به قلمه واقتضتها إرادته وحكمته ثم إيجادها حسبما جرى به القلم. فهذا التعريف الأخير مختصر شامل لمراتب القدر بينما التعريفات السابقة بعضها دقيق ولكنه طويل وبعضها لا يشمل مراتب القدر الأربعة إما بنقص مرتبة الكتابة أو الخلق.   1 لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/348. 2 البخاري مع الفتح 1/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الفرق بين القضاء والقدر في الاصطلاح: قيل "المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 1، أي خلقهن فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر والآخر بمنزلة البناء، وهو القضاء. فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه2. وقيل: إن القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق. قال الحافظ ابن حجر: "وقالوا - أي العلماء -: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله3. وقيل: إذا اجتمعا افترقا بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول بحسب ما مر في القولين السابقين. وإذا افترقا اجتمعا، بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر4. قياسا على ما جاء في التفريق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين، ونحو ذلك ولعل هذا التعريف توفيق بين من يرى   1 الآية 12 من سورة فصلت. 2 النهاية لابن الأثير 4/78. 3 البخاري مع الفتح 11/486. 4 انظر الدرر السنية 1/512، وانظر القضاء والقدر لمحمد بن إبراهيم الحمد ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 التفرقة بين القضاء والقدر وبين من لا يرى ذلك. والذي يظهر أنه ليس هناك فرق واضح بين القضاء والقدر خصوصا إذا لاحظنا أن لفظتا القضاء والقدر لم ترد مجتمعة في الكتاب والسنة فيحتمل أنها من المترادفات عند من يطلقها جميعا1.   1 انظر القضاء والقدر نشأتها عند الفلاسفة والمتكلمين ص 103 -105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 المبحث الأول: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيزفي تقرير الإيمان بالقدر 158/1- قال أبو داود1 رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن كثير قال ثنا سفيان، قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر. ح.   1 أبو داود صاحب السنن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني ثقة حافظ مصنف. تقريب ص250، ومحمد بن كثير العبدي أبو عبد الله البصري صدوق. انظر الجرح والتعديل 8/70. وسفيان هو سفيان بن سعيد الثوري ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة مات سنة61. تقريب 244، والربيع بن سليمان المؤذن ثقة مات سنة 70 هـ. تقريب ص206. وأسد بن موسى بن إبراهيم الأموي صدوق يغرب مات سنة 12.تقريب ص104. وحماد بن دُلَيْل مصغر أبو زيد صدوق تقريب ص178. والنضر هو النضر بن عربي أبو عمر ويقال أبو روح العامري مديني روى عن عمر ابن عبد العزيز وثقه يحيى بن معين، وغيره. انظر الجرح والتعديل 8/475. وقبيصة هو ابن عقبة الكوفي صدوق جليل قال الذهبي: كان هناد إذا ذكر قبيصة بكى وقال الرجل الصالح. انظر ميزان الاعتدال 3/383- 384. وأبو رجاء هو الهروى عبد الله بن واقد الحنفي ثقة. انظر تقريب التهذيب ص328. وأبو الصلت شيخ لأبي رجاء وهو شهاب خراش الشيباني صدوق يخطئ. انظر التهذيب ص269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد ابن دليل، قال: سمعت سفيان الثوري يحدث عن النضر. ح. وحدثنا هناد بن السري، عن قبيصة، قال: ثنا أبو رجاء، عن أبي الصلت، وهذا لفظ حديث ابن كثير ومعناهم، قال كتب رجل إلى عمر ابن عبد العزيز يسأله عن القدر. فكتب أما بعد: ... كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا، ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم، وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم، وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء، لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا؟ لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر وكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الشقاوة وما يقدر يكن، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا1. 159/2- ابن الجوزي قال: وهذه رسالة مروية عن عمر بن عبد العزيز في الأول، وجدت أكثر كلماتها لم تضبطها النقلة على الصحة، فانتقيت منها كلمات صالحة: أخبرنا سليمان بن نفيع القرشي2، عن خلف أبي الفضل3،القرشي عن كتاَّب4 عمر بن عبد العزيز إلى نفر كتبوا بالتكذيب بالقدر: أما بعد: فقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: "الاعتصام بالسنة نجاة، وسينقص العلم نقصا سريعا5، ومنه قول عمر بن الخطاب وهو   1 سنن أبي داود 4/202- 203 وصحيح سنن أبي داود 3/873، والشريعة للآجري 1/444- 445، وابن بطة في الإبانة 2/231- 232- 233، والبيهقي في القضاء والقدر ل ق 89/ب وصحح هذا الأثر الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن أبي داود. وسيأتي برقم 160، 170، 224، 238، و309. 2 سليمان بن نفيع القرشي لم أجده، وعند أبي نعيم: "سليم". 3 خلف أبي الفضل القرشي قال الذهبي "عنه": سليم بن نفيع" انظر المقتنى في سرد الكنى للذهبي 2/14. 4 من كتاب عمر ليث بن أبي رقية. 5 الأثر ذكره اللالكائي بسنده عن الزهري مع بعض الاختلاف في اللفظ. انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/106، رقم الأثر 136، و137 منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 يعظ: "إنه لا عذر لأحد عَبَدَ الله بعد البينة، بضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة. فقد تبينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر1، فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب، تقطعت من يده أسباب الهدى، ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى، وبلغكم أني أقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون، فأنكرتم ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 2، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 3، وزعمتم في قول الله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 4، أن المشيئة في أي ذلك أحببتم فعلتم من ضلال أو هدى؟ والله يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5، فبمشيئته شاءوا.   1 ذكر هذا الأثر الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه عن الأوزاعي عن عمر رضي الله عنه. انظر الفقيه والمتفقه 1/148. 2 الآية 15 من سورة الدخان. 3 الآية 28 من سورة الأنعام. 4 الآية 29 من سورة الكهف. 5 الآية 29 من سورة التكوير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وقد حرصت الرسل على هدي الناس جميعا، فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، وحرص إبليس على ضلالتهم جميعا، فما ضل منهم إلا من كان في علم الله ضالا. وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وأنكم الذين هديتم أنفسكم من دون الله، وحجزتموها عن المعصية بغير قوة من الله. ومن زعم ذلك منكم، فقد غلا في القول، لأنه لو كان شيء لم يسبق في علم الله وقدره، لكان لله في ملكه شريك تنفذ مشيئته في الخلق دون الله، والله يقول: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 1. وسميتم نفاذ الله2 في الخلق حيفا، وقد جاء الخبر أن الله عز وجل، خلق آدم، فنثر ذريته بين يديه، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون"3،4.   1 الآية 7 من سورة الحجرات، وذكر السيوطي في الإكليل في استنباط التنزيل أن ابن أبي حاتم ذكر هذه الآية بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه احتج بها في الرد على القدرية. الإكليل ص241 ط. دار الكتب العلمية ط الثانية عام 1405هـ. ولم أجده في تفسير ابن أبي حاتم المطبوع الآن. 2 عند أبي نعيم "فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفا ... " انظر الحلية 5/350. 3 الخبر رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/423. 4 ابن الجوزي سيرة عمر ص88-89، وأبو نعيم في الحلية 5/346-353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 التعليق: إن المأثور عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله في رسالتيه السابقتين يبين اهتمامه وتقريره كل ما يبين الإيمان بالقدر الذي هو الركن السادس من أركان الإيمان. كما جاء ذلك في حديث جبريل ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... وقال يا محمد أخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ... " 1، قال الحافظ ابن حجر: وإنما أعاد اللفظ وتؤمن عند ذكره القدر ولم يعده في الأركان الخمسة التي سبقته إشارة إلى ما سيقع فيه من الاختلاف فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة "تؤمن" ثم قرره بالإبدال بقوله: خيره وشره، حلوه ومره، ثم زاده تأكيدا بقوله في الرواية الأخيرة "من الله"2. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى   1 صحيح مسلم 1/131. 2 البخاري مع الفتح 1/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1، قال: النووي رحمه الله تعالى: وفي هذه الآية الكريمة والحديث تصريح بإثبات القدر، وأنه عام في كل شيء فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله مراد له2. والأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على وجوب الإيمان بالقدر كثيرة جدا. منها: قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3، قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها"4. وقال عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 5، أي كل شيء بقضاء وقدر6.   1 الآيتان 48-49 من سورة القمر. والحديث رواه مسلم 6/156 برقم (2656) . 2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 6/156. 3 الآية 49 من سورة القمر. 4 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/267، ط. مكتبة التراث القاهرة. 5 الآية 38 من سورة الأحزاب. 6 تفسير الرازي 25/213، ط. دار الفكر بيروت عام 1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وقال جل شأنه: { ... فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} 1، أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم، مؤجلا إلى قدر معلوم قد علمه الله سبحانه وتعالى وحكم به فقدرنا على ذلك فنعم القادرون نحن، أو فقدرنا ذلك تقديرا فنعم المقدرون له نحن على قراءتين، والقراءة الثانية قدَّرنا بالتشديد، توافق قوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} 2. فهذه الآيات تفيد الإخبار عن قدر الله الشامل لكل شيء، وأخبار القرآن مقطوع بها3. ومن النصوص في السنة على وجوب الإيمان بالقدر ما تقدم من حديث جبريل وحديث أبي هريرة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن   1 الآية 21-22 من سورة المرسلات. 2 الآية 19 من سورة عبس. 3 انظر: تفسير القرآن الجليل للنسفي 5/308، المكتبة الأموية - دمشق مكتبة الغزالي - حماة -مؤسسة الرسالة. وانظر أيضا فتح البيان 10/190-191، وانظر بالنسبة للقراءات وتوجيهها في الآية حجة القراءة لأبي زرعة عبد الرحمن بن زنجله ص743-744، تحقيق وتعليق سعيد الأفغاني ط. الثانية عام 1399هـ. وانظر القضاء والقدر في الكتاب والسنة ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 عبد الله رضي الله عنهما: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه"1. وحديث علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع ... ويؤمن بالقدر"2. وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر"3. فدلت هذه الأحاديث على وجوب الإيمان بالقدر في الجملة وحذرت من لم يؤمن به بالدخول في النار ويمثل ما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الرسالتين السابقتين منهج السلف الصالح في الإيمان بالقدر، فالرسالة الأولى التي كتبها إلى عامله تبين أن الإيمان بالقدر ثابت نقلا وعقلا وفطرة. فهو ثابت بكتاب الله تعالى فالصحابة استنبطوا الإيمان به   1 رواه الترمذي برقم 2144، وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث وقد صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/227. 2 رواه الترمذى4 /393 وذكر له طرقا وابن ماجة 1/32، وصححه الألباني. في صحيح سنن ابن ماجة 1 /21. 3 رواه الإمام أحمد 6/ 441، وقال الهيثمي وفيه سليمان بن عتبة الدمشقي وثقه أبو حاتم وضعفه ابن معين مجمع الزوائد 7 /203 وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 675. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وفهموا أركانه وتعلموها من القرآن. وقد ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين كما بينا ذلك آنفا. قال عمر: "وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه ... " والإقرار بالقدر ثابت بالسنة والفطر السليمة، وإجماع الصحابة بل إنكار القدر من أبين البدع الحادثة. وفي إيضاح ذلك يقول عمر: "ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر. لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما ... " فهذا الأثر يصلح أن يكون قاعدة وأساسا في باب القدر لاشتماله على جل مباحث القدر مع وجازته وبلاغته وهو دليل على ما أعطاه الله تعالى لعمر بن عبد العزيز من الحكمة والبيان والفهم في الدين، وكما دل هذا الأثر على الإيمان بالقدر في الجملة فقد دل أيضا على الإيمان بأركان القدر الأربعة التي لا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أما رسالته الثانية التي رواها ابن الجوزي بسنده عن كتاب عمر بن عبد العزيز ورواها بكاملها أبو نعيم في الحلية1، فهي واضحة جلية تدل على الإيمان بالقدر وموقف عمر رحمه الله من القدرية وجهوده في تقرير الإيمان بالقدر ومنهجه في الرد على القدرية حيث ذكر أقوالهم قولا قولا ثم عقب على كل قول بالرد مع الاعتماد في الرد على النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف. وقد بين رحمه الله تعالى خطورة قول القدرية وضمن ردوده عليهم أعنف العبارات، وكشف مقصد القدرية في مقالاتهم السيئة، وبين لهم ضلالهم في فهم النصوص من الكتاب والسنة، وفي مسائل الهداية والضلالة، وعلم الله السابق لخلقه والمشيئة والإرادة، وأفعال العباد. كما بين مسألة الآجال والأرزاق مبينا قول أهل السنة في ذلك. وسيأتي مزيد بيان لهذه الرسالة في ردوده على القدرية. وتبين مما أثر عن عمر أن الإيمان بالقدر مما اتفقت الفطر السليمة على الإقرار به، فالعرب في الجاهلية قبل الإسلام مع كونهم يعبدون الأصنام وجد منهم من كان مؤمنا بالقدر، واستفاض ذلك فكانوا يتكلمون به نظما ونثرا. ولما جاء الإسلام أقره فإقرار الإسلام له، دليل على أنه من بعض العقائد السليمة التي بقيت في الجاهلية مثل الاعتراف بتوحيد   1 انظر الحلية 5/346- 353، وانظر ابن الجوزي سيرة عمر ص88- 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الربوبية، وفي معرض هذا يقول عمر: لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم ... 1.   1 ذكر اللالكائي رحمه الله تعالى عددا من النثر والنظم من كلام عرب الجاهلية في الإقرار بالقدر فمن النثر الذي ذكره بسنده عن الأصمعي قال: سئل أعرابي عن القدر قال: ذاك علم اختصمت فيه الظنون وغلا فيه المختصمون فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/766. ومن النظم من أشعار الجاهلية، قوله: تجرى المقادير على غرز الإبر ... فما تنفذ الإبرة إلا بقدر وقوله: إن الشقاء على الأشقين مكتوب وقال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل وقال أمية بن أبي الصلت: خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور وقال غيره: هي المقادير فلمنى أو فذر ... إن كنت أخطأت فما اخطأ القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 والإيمان بالقدر مبني على أركان أربعة، دل عليها الكتاب والسنة والمأثور من أقوال السلف الصالح. وقد بينها عمر بن عبد العزيز فيما أثر عنه في المبحث التالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 المبحث الثاني: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في بيان مراتب القدر 160/1- قال أبو داود1: حدثنا محمد بن كثير، قال: حدثنا سفيان، قال كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر. ح. وثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد ابن دليل، قال: سمعت سفيان الثوري يحدث عن النضر. ح. وثنا هناد بن السري عن قبيصة، قال: ثنا أبو رجاء، عن أبي الصلت - وهذا لفظ ابن كثير ومعناهم، قال كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب أما بعد: ... كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر. لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة. ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين. وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته يقينا، وتسليما، لربهم وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه ولم   1 الأثر مكرر انظر رقم 158/1.والسبب في تكراره دلالته على تقرير الإيمان بالقدر وبيان مراتبه وتصحيح الأئمة لسنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 يحصه كتابه ولم يمض فيه قدره وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا، لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر وكتب الشقاوة وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا1. 161/2- وذكر الآجرى قال: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الهيثم بن عمران، قال سمعت عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان وهو مولى لآل عثمان، وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز فبلغه أنهما ينطقان بالقدر فدعاهما، فقال: أعلم الله نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ ياأمير المؤمنين. قال: ففيم الكلام، فخرجا فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أسرفا فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود: أنه لا يسجد؟ قال عمرو فأشرت إليهما برأسي قولا: نعم. فقالا: نعم. فأمر بإخراجهما   1 سنن أبي داود 4/202-203، والإبانة لابن بطة 2/231-232-233 من الكتاب الثاني والآجري في الشريعة 1/444-445، وأبو نعيم في الحلية 5/338-339، ذكر رحمه الله أول الرسالة ولم يذكر آخرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وبالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما قالا فمات عمر رضي الله عنه قبل أن ينفذ تلك الكتب1. 162/3- الآجري أيضا قال: حدثنا أبو شعيب عبد الله بن حسن الحراني: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الوليد قال: خرج عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة فخطب كما كان يخطب ثم قال: أيها الناس من عمل منكم خيرا فليحمد الله تعالى، ومن أساء فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله، فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم2. 163/4- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عمرو بن ذر، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: "لو أراد الله عز وجل أن لا يعصى ما   1 الآجري في الشريعة 1/443، والفريابى في القدر ورقة ب/56. وقال محقق كتاب الشريعة رجاله ثقات غير الهيثم بن عمران الدمشقي: ترجم له ابن أبي حاتم برواية ثلاثة من الثقات ولم يذكر فيها جرحا ولا تعديلا. الجرح والتعديل 9/82، وقد وثقه ابن حبان في الثقات 7/577. وسيأتي برقم 297. 2 الآجري في الشريعة 1/441، وأبو نعيم في الحلية 5/296، وابن بطة في الإبانة 2/237، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده محتمل للتقوية وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف 8/240 وفيه عمر بن أبي الوليد بدل عبد الله بن الوليد، وابن عساكر 1/32، وأبو حفص الملاء 2/446، وسيأتي رقم 306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 خلق إبليس، وقد فسر ذلك في آية من كتاب الله عز وجل عقلها من عقلها، وجهلها من جهلها: ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1،2. وزاد في الإبانة لابن بطة: بمضلين إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم"3. 164/6- الفريابي قال: حدثنا جعفر، ثنا عبد الله عمر القواريري، ثنا بشر بن المفضل، عن سليمان التيمي، قال: سئل عمر بن عبد العزيز عن القدر فقال: ما طار ذباب بين السماء والأرض إلا بقدر، قال: ثم قال للرجل لا تعد تسأل عن القدر4.   1 الآية 161-162 من سورة الصافات. 2 الآجري في الشريعة 1/421، والفريابى في القدر ورقة ب/54، وابن بطة في الإبانة 1/272، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/553، والبغوي في شرح السنة 1/144، وقال محقق كتاب الشريعة: الأثر صحيح. الشريعة 1/443، وسيأتي برقم 288، 289. 3 ابن بطة في الإبانة 2/66. 4 الفريابى في القدر ورقة ب/56، والآجرى في الشريعة 1/442، 443، بلفظ مقارب وقال محقق كتاب الشريعة: أثر التيمي عن عمر بن عبد العزيز صحيح رجاله ثقات، ورواه اللالكائي بمعناه رقم (1247) وقال الشيخ مقبل هذا الأثر صحيح 1/442، وسيأتي برقم 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 165/7- الفريابي أيضا: قال حدثنا جعفر، نا هشام بن عمار، ثنا معاوية بن يحيى، ثنا عمرو بن مهاجر، قال استأذن غيلان على عمر بن عبد العزيز فأذن له فقال ويحك يا غيلان ما الذي بلغني عنك أنك تقول، قال: إنما أقول بقول الله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ... } إلى قوله: { ... إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 1، فقال عمر: أتم السورة ويحك أما تسمع الله يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، أما تعلم أن الله قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إلى قوله: {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 3، فقال غيلان: ياأمير المؤمنين لقد جئتك جاهلا فعلمتني وأعمى فبصرتني، وضالا فهديتني، فقال: اخرج فلا يبلغني أنك تتكلم في شيء من هذا4.   1 الآية 1-3 من سورة الإنسان. 2 الآية 30 من سورة الإنسان. 3 الآية 30 -33 من سورة البقرة. 4 الفريابى في القدر ورقة ب/56، الجامعة الإسلامية مخطوطة رقم 2570، وفي التنبيه والرد للملطى زيادة تفسير لهذا الأثر فبعد ما انتهى غيلان من قراءة ما يستدل به قال له عمر: ويحك من ها هنا تأخذ الأمر وتدع به خلق آدم عليه السلام ثم قرأ عليه الآيات 3-33 من سورة البقرة. انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص178. وسيأتي برقم 171، 174، 293،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 166/8- عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان كان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلى بها1. 167/9- اللالكائي قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: أخبرنا أحمد ابن حمدان، قال: ثنا بشر بن موسى، قال: ثنا معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا فكان فيما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع ما شاء من هدى أو ضلالة2.   1 عبد الرزاق في المصنف 11/122 وابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/753، وعبد الرزاق هوا بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ مصنف شهير. انظر تقريب التهذيب ص354. ومعمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت فاضل مات سنة 54. تقريب التهذيب ص541، وسيأتي برقم 305. 2 اللا لكائى شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/752. والفريابى في القدر ورقة ب/66، والمطبوع ص227. قال محقق الكتاب: تابعه اللالكائي برقم 1246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 168/10- الدارمي قال: حدثنا نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن زيد بن رفيع الجزري، عن عمر بن عبد العزيز قال: من أقر بالعلم فقد خصم1. التعليق: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تدل بمجموعها على الإيمان بالقدر، كما تدل على الإيمان بمراتب القدر الأربعة التي اتفق السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن سار على نهجهم على أنه لا يتم الإيمان بالقدر، إلا بالإيمان بها كلها. وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق. وكانت القدرية الموجودون في زمن عمر بن عبد العزيز ينكرون العلم والكتابة، وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم ابن عمر بقوله: " إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني" وكانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى فعلوا ذلك. فعلمه بعدما فعلوه، ولهذا قالوا: الأمر أنف أي مستأنف2، وكلام عمر في هذه الآثار التي في هذا المبحث   1 الدارمي الرد على الجهمية ص119. وفي الأثر زيد بن رفيع، فيه ضعف. انظر لسان الميزان لابن حجر 2/506. 2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/553، والقدر للفريابي لوحة 54والإبانة لابن بطة 1/272، والشريعة للآجري 1/443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 واضح كل الوضوح في الرد على هؤلاء القدرية وجلي في إثبات المراتب التي يبنى عليها الإيمان بالقدر. فأول المراتب هو: 1- مرتبة العلم: والمقصود أن الله تبارك وتعالى قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون قبل أن يخلقهم، بعلمه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته، وأنه يعلم أهل الجنة، وأهل النار1. وهذا هو القول الذي دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: { ... لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 2. وقال عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3. وقال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} 4.   1 انظر الإيمان لابن تيمية ص364، وانظر رسالة عمر في الحلية 5/346-353 فقد ذكر ذلك بالحرف الواحد. 2 الآية 5 من سورة الطلاق. 3 الآية 22 من سور الحشر. 4 الآية 98 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 قال مجيبا الملائكة بعد إخبارهم أنه جاعل في الأرض خليفة واستفهامهم قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله بقوله يارسول الله أعلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسر لما خلق له"2. ن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"3. فنصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة متضافرة على إثبات علم الله تعالى المحيط بكل شيء {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 4، وقد كانت القدرية الأولى الذين ظهروا في أواخر عهد الصحابة وامتد بقاؤهم إلى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز ينكرون هذه المرتبة كما مر في محاورة عمر لغيلان عن العلم. وكان السلف يكفرون من ينكر هذه المرتبة إذا   1 الآية 30 من سورة البقرة. 2 مسلم برقم 2649، 6/151، والبخاري بلفظ: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ انظر البخاري مع الفتح 11/491، برقم (6596) . 3 متفق عليه، البخاري مع الفتح 11/493، برقم (6597) ومسلم 6/160-161برقم (2659) 4 الآية 14 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 أقيمت عليه الحجة. وقد انقرضت هذه الجماعة التي تنكر علم الله السابق كما ذكر ذلك النووي رحمه الله تعالى 1 ثم تبنت المعتزلة آراء القدرية ولكنهم لم ينكروا ما كان ينكره متقدموهم في رد علم الله السابق بأفعال خلقه حتى تكون منهم. ومع ذلك وافقوهم واعتقدوا أن العباد خالقون لأفعالهم، والآثار المروية عن عمر هنا ترد على القدرية الأولى وعلى المعتزلة. وذلك بإثبات ما جاء في القرآن والسنة من أن العباد لهم مشيئة وإرادة وأن الله خالقهم وخالق أفعالهم وعالم بهم لا تخفى عليه منهم خافية. والمرتبة الثانية هي: 2- مرتبة الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء وقد بين عمر ذلك في رسائله وخطبه ففي رسالته إلى عامله يقول: وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه. ولم يحصه كتابه ... 2.   1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 1/129. 2 انظر سنن أبي داود 4/202-203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وخطب في يوم جمعة فقال: أيها الناس من عمل منكم خيرا فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله. ثم إن عاد فليستغفر الله فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم1. وخطب يوما فقال في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن2. وهذا المأثور عن عمر من كتابة الله مقادير الخلائق قبل خلقهم وإحصائه كل ذلك وعلمه جزئيات كل شيء هو ما دل عليه الكتاب والسنة. فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 3، وقال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 4، وقال رب العزة والجلال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} 5.   1 انظر الشريعة ص212- 213. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص244. 3 الآية 12 من سورة يس. 4 الآية 22 من سورة الحديد. 5 الآية 58 من سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وقد أجمع أهل السنة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب كما دلت على ذلك هذه الآيات فأفعاله تعالى وأقواله مكتوبة في اللوح المحفوظ. والآيات فيها رد على القدرية النفاة فإن الله قد علم الأشياء قبل كونها وكتبها في اللوح المحفوظ قبل إيجادها ثم أوجدها على طبق ما كتب. ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء"1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يارسول الله: إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وقد كتبت شقية أو سعيدة ... "3. هذه الكتابة في الجملة وإذا خلق الجنين في بطن أمه ونفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه، وأجله،   1 رواه مسلم 6/155، برقم (2653) . 2 رواه البخاري، البخاري مع الفتح 9/117، برقم (5076) . 3 البخاري مع الفتح 3/225، برقم (1362) ، ومسلم 6/149، برقم (2647) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وعمله، وشقي أم سعيد. وقد أشار عمر رحمه الله إلى هذا التفصيل في رسالته إلى عامله حيث قال فيها: ... وكتب الشقاوة ومايقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... 1. وهذا الذي أشار إليه عمر هو مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق- قال: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فوالله إن أحدكم أو الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"2. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وحكى ابن التين أن عمر بن عبد العزيز لما سمع هذا الحديث أنكره وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعة ثم لا يدخل الجنة انتهى. ثم قال: وتوقف شيخنا ابن الملقن في صحة ذلك عن عمر. وظهر لي أنه إن ثبت عنه حمل على أن راويه حذف منه   1 سنن أبي داود 4/202- 203. 2 البخاري مع الفتح 11/477، رقم (6594) ، ومسلم بشرح النووي 6/145، برقم (2643) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قوله في آخره"فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها "1. أو أكمل الراوي ولكن استبعد عمر وقوعه وإن كان جائزا ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة2. وابن التين والحافظ ابن حجر لم يبينا السند عن عمر حتى نحكم عليه بصحة أو ضعف ولم أجد في كلام عمر رحمه الله ما يدل على ذلك بعد البحث الطويل، بل المروي عنه رحمه الله تعالى يخالف ذلك، فقد ثبت عنه رحمه الله تعالى قوله: وكتب الشقاوة وما يقدر يكن وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا"3. فالقائل بأن الشقاوة مكتوبة على العبد لا يعقل أن ينكر أن الشقي قد يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب بشقاوته فيعمل بعمل أهل النار كما أن عمر رحمه الله تعالى كان ينهى نهيا شديدا عن معارضة السنن برأي أو تأويل باطل فقد قال في رسالته ... ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا؟ ثم أجاب: لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم ... " وأجاب من سأله عن الأهواء عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سوى ذلك" وبين في رسالته التي   1 البخاري مع الفتح 11/477، ومسلم بشرح النووي 6/145. 2 البخاري مع الفتح 11/491. 3 سنن أبي داود 4/202-203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 كتبها إلى الذين كتبوا إليه بالتكذيب بالقدر أن الهداية والضلالة والخير الشر، بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء، فقال: ... هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلهم العذاب فآمنوا وقبل منهم، ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ - أي علم الله الذي قد خلا في خلقه - وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 1،وذلك كان موقعه عندهم أن يهلكوا بغير قبول، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان، والخير، والشر، بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء في طغيانهم يعمهون"2. المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر. 3- المشيئة: والمقصود بها: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حركة ولا سكون في السموات ولا في الأرض إلا بمشيئته سبحانه وتعالى فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، وقد حرص عمر رحمه الله تعالى   1 الآية 84-85 من سورة غافر. 2 أبو نعيم في الحلية 5/352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 على توضيح هذه المرتبة والرد على من أنكرها كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ففي رسالته إلى عامله يقول: وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... " وكان يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس" وناظر غيلان وأفحمه حين بين له خطأه في الاحتجاج بأوائل الآيات من سورة الإنسان فطلب منه أن يقرأ آخر السورة وقال له: ويحك أما تسمع الله يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} . وكتب إلى ابنه كتابا فكان مما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع ما شاء من هدي أو ضلالة" وهذا الذي أثر عن عمر رحمه الله تعالى هو الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. وقال عز وجل: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ   1 الآية 82 من سورة يس. 2 الآية 39 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، فهذه الآيات تدل على مشيئة الله النافذة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما تدل على قدرته التامة، الشاملة بكل شيء. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يامصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"2. وقال في شأن الجنين: "فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك"3. وفي قصة نومهم في الوادي قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء"4. المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: 4- الخلق: والمقصود بها: أن الله تعالى هو خالق الخلق وخالق كل شيء فهو الذي خلق الكون وأوجده فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق، ولعمر بن عبد العزيز في تقرير هذه المرتبة أبلغ البيان فقد كتب   1 الآية 111 من سورة الأنعام. 2 رواه مسلم 6/155. برقم (2654) . 3 رواه مسلم 6/148 برقم 2645. 4 البخاري مع الفتح. برقم (595) 2/66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّك} 1، قال: الذين لا يختلفون خلقهم الله عز وجل للرحمة2. فهذه الآية تتضمن خلق العباد وأعمالهم. وكتب إلى عدى بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلى بها3 وهذا الذي قرره عمر رحمه الله تعالى هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع العقلاء كلهم. فمن الكتاب قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، وقال عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 5. وقال صلى الله عليه وسلم مجيبا من سأله: أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به   1 الآية 118- 119 من سورة هود. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص74، والفريابى في القدر ورقة أ 15. 3 عبد الرزاق في المصنف 11/122. 4 الآية 62 من سورة الزمر. 5 الآية 96 من سورة الصافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 نبيهم؟ قال: بل شيء قضي عليهم ومضى. قال ففيم العمل؟ قال: "من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها"1. قال ابن القيم رحمه الله في تقرير هذه المرتبة: وهذا أمر متفق عليه بين الرسل عليهم السلام، وعليه اتفقت الكتب الإلهية والفطر والعقول والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس الأمة فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين - وهي أشرف ما في العالم - عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته بل جعلوهم الخالقين لها ولا تعلق لها بمشيئته ولا تدخل تحت قدرته. وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا، والمصلي مصليا وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك لا يجعله تعالى2.   1 البخاري مع الفتح 11/477. 2 انظر شفاء العليل ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في النهي عن الخوض في القدر 169/1- الآجري قال: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا أبو كامل الجحدري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا التيمي قال: سئل عمر بن عبد العزيز عن القدر؟ فقال: ما جرى ذباب بين اثنين إلا بقدر ثم قال للسائل: لا تعودن تسألني عن مثل هذا1. 170/2- وروى أبو داود وغيره بسنده عن عمر أنه كتب إلى عامله ... كتبت تسألني عن القدر فعلى الخبير بإذن الله سقطت، ما أحدث المسلمون محدثة ولا ابتدعوا بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من أمر القدر، ولقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم ويقولون به في أشعارهم يعزون به أنفسهم عن مصائبهم، ثم جاء الإسلام فلم يزده إلا شدة وقوة. ثم ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين ولا ثلاثة فسمعه المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلموا فيه حياة   1 الآجرى في الشريعة 1/442، والفريابى في القدر ورقة ب 56، وأبو كامل الجحدري هو فضيل بن حسن ثقة حافظ. تقريب التهذيب ص447، وبشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي ثقة ثبت عابد. تقريب التهذيب ص124. والأثر صححه محقق كتاب الشريعة 1/442، والتيمي هو سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر البصري ثقة عابد. تقريب ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته يقينا وتصديقا وتسليما لربهم، وتضعيفا لأنفسهم: إن يكون شيء لم يحط به علمه ولم يحصه كتابه ولم ينفذ فيه قدره. فلئن قلتم: قد قال الله عز وجل في كتابه كذا وكذا ولم أنزل الله عز وجل آية كذا وكذا؟ لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم ثم قالوا بعد ذلك كله كتاب وقدر، وكتب الشقوة، وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا. ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا1. 171/3- الفريابي: حدثنا جعفر نا هشام بن عمار، ثنا معاوية بن يحيى، ثنا عمرو بن مهاجر، قال: استأذن غيلان على عمر بن عبد العزيز فأذن له فقال ويحك ياغيلان ما الذي بلغني عنك أنك تقول. قال إنما أقول بقول الله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} إلى قوله: { ... إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 2، فقال عمر: أتم السورة ويحك أما تسمع الله يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3،أما تعلم أن الله قال: {إِنِّي   1 الآجرى في الشريعة ص211، واللفظ له وسنن أبي داود 4/202- 203. 2 الآية 1-3 من سورة الإنسان. 3 الآية 30 من سورة الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إلى {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 1، فقال غيلان ياأمير المؤمنين لقد جئتك جاهلا فعلمتني، وأعمى فبصرتني، وضالا فهديتني، فقال اخرج فلا يبلغني أنك تتكلم في شيء من هذا 2. 172/3- عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال عمر بن عبد العزيز: ويلهم - يعني القدرية- أما يقرأون هذه الآيات {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 3، ويلهم أما يقرأون وقرأ حتى بلغ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 45.   1 الآية 30 -33 من سورة البقرة. 2 الفريابى في القدر ورقة ب 56، والآجري في الشريعة 1/438 بمعناه وقد حسن إسناده محقق كتاب الشريعة. 3 الآية 162-163 الصافات. 4 الآية 171 - 173 من سورة الصافات. 5 عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 173/5- ابن سعد قال: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان، عن جعفر بن برقان، قال: سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سوى ذلك1. 174/6- الفريابي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا التيمي، قال: سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن القدر؟ فقال: ما طار ذباب بين السماء والأرض إلا بقدر. ثم قال: للرجل لا تعد تسأل عن القدر"2. 175/7- الآجري قال: وأخبرنا الفريابي، قال: نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي قال نا محمد بن عمرو الليثي أن الزهري حدثه، قال: دعا عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى غيلان فقال: ياغيلان بلغني أنك تتكلم في القدر. فقال ياأمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال: يا غيلان اقرأ أول يس فقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى أتى {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ ... لا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم   1 ابن سعد في الطبقات 5/374 وصحح إسناد الأثر النووي في تهذيب الأسماء واللغات 2/19.وسيأتي برقم 225، 235، و322. 2 انظر الفريابي في القدر ص196-197، والآجري في الشريعة 1/442، واللالكائي في السنة برقم 1247، وقال محقق كتاب الشريعة الأثر صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أشهدك ياأمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول. فقال عمر: اللهم إن كان صادقا فثبته وإن كان كاذبا فاجعله آية للمؤمنين"1. التعليق: إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث الذي نحن بصدد التعليق عليه تنهي عن الخوض في القدر. وقد وجه العلماء رحمهم الله تعالى الأحاديث الواردة في النهي عن الخوض في القدر مثل حديث: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا"2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما تنازعوا في القدر: "عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه" 3. بأن المنهي عنه إنما هو الخوض فيها بالباطل وعلى وجه التنازع والاعتراض على الله تعالى لأن التنازع مظنة الاختلاف وهو سبب من أسباب القول فيه بغير الحق. ولا   1 الآجري في الشريعة 1/438- 439، قال محقق الكتاب: إسناده حسن، وعبد الله ابن الإمام في السنة 2/429 مع بعض الاختلاف في اللفظ، وسيأتي برقم 292. 2 رواه الطبراني في المعجم الكبير 2/93، تحقيق حمدي عبد المجيد ط. الأولى عام 1980م وقال الهيثمي "وفيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف" مجمع الزوائد 7/202، وانظر البخاري مع الفتح 11/477. 3 رواه الترمذي 4/443، وابن ماجة 1/33، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 1732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 شك أن ذلك منهي عنه، أما معرفة تفاصيل هذا الركن كما جاء في الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح حتى يتحقق الإيمان ويثمر ثماره المرجوة فلا يدخل في هذا النهي وقد بحث علماء السلف مسألة القدر وبينوا للناس الحق والصواب فيه حتى لا يضلوا، وحتى يكونوا على بصيرة من أمر دينهم. ويظهر لنا جليا من الآثار السابقة عن عمر أنه إنما منع الخوض في القدر إذا كان ذلك بالباطل كما يفعل غيلان ومن شايعه من القدرية، والمعتزلة. أو كان ذلك في الجانب الخفي من القدر وهو كونه سبحانه وتعالى أضل وهدى وأمات وأحيا ومنع وأعطى، فمحاولة معرفة سر الله في ذلك لا تجوز لأن الله حجب علمها حتى عن أقرب المقربين فمحاولة معرفته عن طريق العقل القاصر منهي عنه لأنه من القول على الله بغير علم. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1،2. قال النووي: قال أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول. فمن عدل عن   1 الآية 36 من سورة الإسراء. 2 انظر القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه ص18- 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونه الأستار اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه. وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب1.   1 شرح النووي على صحيح مسلم 6/150، وانظر البخاري مع الفتح 11/477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الرضا بالقضاء 176/1- ابن سعد قال: حدثنا عارم بن الفضل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد، أن عمر بن عبد العزيز قال: ما أصبح لي اليوم في الأمور هوى إلا في مواقع قضاء الله فيها1. 177/2- ابن عبد الحكم قال: وكان عمر بن عبد العزيز يدعو بهذا الدعاء: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما برح   1 ابن سعد في الطبقات 5/372، وعارم بن الفضل هو: محمد بن الفضل السدوسي أبو النعمان البصري لقبه عارم ثقة ثبت تغير في آخر عمره من صغار التابعين ... تقريب ص502. وحماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة ثقة عابد..ز وتغير حفظه بآخرة من كبار الثامنة. تقريب ص178. ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أبو سعيد القاضي ثقة ثبت من الخامسة. تقريب ص591. والأثر أخرجه ابن عبد الحكم سيرة عمر ص97 مع بعض الاختلاف في اللفظ. وأخرجه ابن أبي الدنيا في رسالة الرضا عن الله بقضائه والتسليم بأمره ص26، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا وأبو حفص الملاء 2/433، والبيهقي في القضاء والقدر ص90، وابن الجوزي سيرة عمر ص230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 بي هذا الدعاء حتى لقد أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في موضع القضاء1. 178/3- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن زياد بن أبي حسان، أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك فقال: ... رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين2. 179/4- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم العبدي، قال: حدثنا يعلى بن الحارث المحاربي، قال: حدثني أبي، عن سليمان بن حبيب، قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل عليه هشام الغاز   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص97، وأبو حفص الملاء 2/433، وابن أبي الدنيا في رسالة الرضا عن الله ص52، والبيهقي في القضاء والقدر ص90- 91 تحقيق أبي الفداء الأثرى ط. مكتبة السنة. 2 الزهد وزوائده ص421، وابن أبي الدنيا رسالة الرضا عن الله ص78، وأبو نعيم في الحلية 5/356، وأبو حفص الملاء 2/431، وابن الجوزي سيرة عمر 303. وإسماعيل بن إبراهيم بن زياد بن أبي حسان لعله خطأ فعند ابن أبي الدنيا وأبي نعيم حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرني زياد بن أبي حسان وإسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التميمي ضعيف من الثامنة. تقريب ص106. وزياد بن أبي حسان النبطي روى عن أنس وعمر بن عبد العزيز قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر الجرح والتعديل 3/350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فعزاه فقال: عمر: وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي1. التعليق: تحث الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على الرضا بالقضاء والمقصود بالرضا بالقضاء القضاء الذي قدره الله على عبده من المصائب التي ليست ذنوبا فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم أصحها أنه مستحب ليس بواجب2. ولا شك أن الرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقدر. وقد غلط فيه طائفتان أقبح غلط. فقالت القدرية النفاة الرضا بالقضاء، طاعة وقربة، والرضا بالمعاصي لا يجوز، فليست بقضائه وقدره، وقالت   1 ابن أبي الدنيا رسالة الرضا عن الله اص76، وأبو نعيم في الحلية 5/358، و357. وأحمد بن إبراهيم بن كثير الدورقي ثقة حافظ مات سنة 46هـ. تقريب ص77، ويعلى بن الحارث المحاربي الكوفي ثقة مات سنة 68هـ. تقريب ص609، وأبوه هو الحارث بن حرب المحاربي لم أجده. وسليمان بن حبيب المحاربي أبو أيوب الدارني القاضي بدمشق ثقة من الثالثة. تقريب ص250 مات سنة 26هـ. 2 انظر مجموع الفتاوى 8/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 غلاة الجبرية الذين طووا بساط الأمر والنهي: المعاصي بقضاء الله وقدره والرضا بالقضاء قربة وطاعة فنحن نرضى بها ولا نسخطها ... ويجاب عن غلط هؤلاء بأن الحكم والقضاء نوعان: ديني وكوني. فالديني يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به. كالمصائب والذنوب التي يسخطها الله وإن كانت بقضائه وقدره ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه قولان: هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي. وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه وكتابه، وتقديره، ومشيئته، فالرضا به من تمام الرضاء بالله ربا وإلها وملكا، ومدبرا ... 1. وتبين الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رضاه وتسليمه بقضاء الله وقدره، وقد وثق بما عند الله تعالى وسلم لله الأمر، فلا يندم على ما فات، ولا يفرح بما هو آت مما قدره الله تعالى له، فهو يرضى به على وفق قضاء الله له   1 انظر شفاء العليل ص545- 546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الفصل السابع: الآثار الواردة عن عمر في تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل المبحث الأول: الآثار الواردة عنه في تعريف الإيمان ... تمهيد: تعريف الإيمان لغة: الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا فهو مؤمن1، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية2، وهو من الأمن ضد الخوف3. قال الأزهري: "واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه: التصديق4. والصحيح أنه قد عرف بعدة تعريفات فقيل: هو التصديق4، وقيل هو الثقة5، وقيل هو الطمأنينة6، وقيل هو الإقرار7. وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الإيمان اللغوي أنه بمعنى الإقرار 8، لأنه رأى لفظة أقرّ أصدق في الدلالة على معنى الإيمان من غيرها من الألفاظ التي فسر بها الإيمان9. تعريف الإيمان اصطلاحا: الإيمان في الاصطلاح: هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح يزيد وينقص، وهذا هو الحق الذي يدل عليه نصوص الكتاب والسنة وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز كما يأتي:   1 انظر: تهذيب اللغة للأزهري 15/513، ط. دار الكتاب العربي عام 1967م. 2 انظر: الصحاح للجوهري 5/2071. 3 انظر: المفردات للراغب الاصفهاني ص35، والقاموس المحيط ص1518. 4 انظر: تهذيب اللغة 15/515. 5 انظر: الصحاح للجوهري 5/2071، وتهذيب اللغة 15/516. 6 انظر: تهذيب اللغة 15/516. 7 انظر: مجموع الفتاوى 7/638. 8 انظر: تهذيب اللغة 15/516. 9 انظر زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه للشيخ الدكتور عبد الرزاق العباد البدر ص17 ط. دار القلم والكتاب الطبعة الأولى عام 1446هـ. 1996م. الرياض المملكة العربية السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 المبحث الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في تعريف الإيمان. 180/1- ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو أسامة عن جرير بن حازم حدثني عيسى بن عاصم حدثني عدي بن عدي، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الإيمان فرائض، وشرائع، وحدودا، وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص1.   1 ابن أبى شيبة في الإيمان ص48، والبخاري مع الفتح 1/45، واللالكائى في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/926، برقم 1572، والبغوي في شرح السنة 1/40، وابن عساكر 45/203، وقوَّام السنة في الحجة في بيان المحجة 2/150، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص60، وابن بطة في الإبانة 2/859، والبيهقي في الشعب 1/197، وأبو حفص الملاء 1/38، والخلال في السنة 4/57، وصحح إسناده الشيخ الألباني ومحقق كتاب السنة للخلال. وأبو أسامة هو حماد بن أسامة بن زيد القرشي روى عن الأعمش، وروى عنه عبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة، وهو ثقة ثبت. انظر الجرح والتعديل 3/132- 133، وجرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي أبو النضر البصري، والد وهب ثقة. تقريب ص138. وعيسى بن عاصم الأسدي الكوفي ثقة. تقريب ص439. وعدي بن عدي بن عميرة -بفتح المهملة- الكندي أبو فروة الجزري ثقة فقيه عمل لعمر بن عبد العزيز على الموصل من الرابعة مات سنة 120هـ. تقريب ص388. وسيأتي برقم 182، و319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 181/2- ابن أبي شيبة أيضا قال: حدثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن عرى الدين وقوائم الإسلام الإيمان بالله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فصلوا الصلاة لوقتها1. التعليق: يدل ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على تعريف الإيمان، حيث بين رحمه الله تعالى أن الإيمان فرائض أي: أعمالا مفروضة كالصلاة والحج والصوم، وشرائع أي: عقائد دينية كالإيمان بالله وملائكته، وحدودا أي: منهيات ممنوعة كشرب الخمر والزنا، وسننا أي: مندوبات كإماطة الأذى عن الطريق2، وغيرها من المندوبات فهذه الأمور كلها من الإيمان.   1 ابن أبى شيبة في الإيمان ص23، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص72. وعمر بن أيوب العبدي الموصلي صدوق له أوهام. تقريب ص410. 2 انظر البخاري مع الفتح 1/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وهذا المأثور عن عمر هو الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح. فالإيمان عند أهل الحق: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان. فمن الأدلة الدالة على أن الإيمان قول باللسان قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله"2. ومن الأدلة على أن أعمال القلوب من الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } 3، والوجل من أعمال القلوب. وقد سمى في الآية إيمانا. ومن الأدلة على أن أعمال الجوارح من الإيمان قوله تعالى: { ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم ... } 4، يبين ذلك سبب نزول الآية حين سئل   1 الآية 136 من سورة البقرة. 2 البخاري مع الفتح3/262، برقم (1399) ، ومسلم1/168- 169، رقم (32) . 3 الآية 2 من سورة الأنفال. 4 الآية 143 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 عليه السلام: أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: { ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم} وفي هذا دلالة على أنه تعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانا فإذا ثبت ذلك في الصلاة ثبت ذلك في سائر الطاعات1. ومن أقوال سلف الأمة في تعريف الإيمان وأنه يشمل الأعمال، والأقوال، والعقائد، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: ... جمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل ... وربما قال بعضهم قول وعمل ونية، وربما قال آخر: قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال: قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان أي بالجوارح ... ". وقال الآجري: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح. ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون   1 انظر الاعتقاد للبيهقي ص95- 96، وتفسير ابن كثير 1/192، وسنن الترمذي 5/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين1. ثم روى بأسانيده عن عدد من السلف أن الإيمان قول وعمل2. هذا هو القول الصحيح في تعريف الإيمان وقد ضل في هذه المسألة طوائف ويمكن تقسيم قولهم في الإيمان إلى قسمين: قسم يدخلون العمل في الإيمان ويجعلونه شرطا في صحته، وقسم يخرجون العمل من الإيمان وهم أقسام ويجمعهم وصف الإرجاء3. أما أهل القسم الأول فهم الخوارج والمعتزلة، يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، لكن الإيمان عندهم كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله فمن أخل بالأعمال ذهب إيمانه باتفاق الطائفتين، وهو كافر عند الخوارج وفي منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة4. وفساد هذا القول ظاهر فإن نصوص الكتاب والسنة وما أثر عن عمر هنا في تعريف الإيمان وزيادته ونقصانه وما نقل عن غيره من السلف كل   1 الشريعة للآجري 1/274. 2 الشريعة1/288. 3 انظر زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه للشيخ الدكتور عبد الرزاق العباد البدر ص26. 4 انظر مجموع الفتاوى13/48،وزيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ذلك يدل على تبعض الإيمان وتفاضله وزيادته ونقصانه، وستأتي المسألة في المبحث التالي إن شاء الله تعالى. وأما أهل القسم الثاني وهم المرجئة فهؤلاء ثلاثة أصناف: 1- صنف يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر المرجئة ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه. 2- وصنف يقولون: هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. 3- وصنف يقولون: هو تصديق القلب وقول اللسان. وهذا المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم1. وهذه الأقوال فاسدة وأشدها فسادا وخبثا قول الجهمية الغلاة فإن لازم قولهم أن فرعون وإبليس -واليهود وأمثالهم مؤمنون كاملي الإيمان. ثم يلي قول جهم في الفساد قول الكرامية أن الإيمان هو قول اللسان فقط، ثم يلي هذا القول: قول المرجئة الفقهاء: أن الإيمان اعتقاد في القلب وقول باللسان.   1 انظر مجموع الفتاوى 7/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وجميع هذه الأقوال بعيدة عن الحق مجانبة للصواب الوارد في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة. ومنهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما سبق في الآثار. تبقى الإشارة إلى أن الأثر الوارد عن عمر في تعريف الإيمان قد جاء بروايتين "أن الإيمان" "وأن الإسلام" كما عند ابن عبد الحكم، وابن عساكر، فهل الإسلام والإيمان لفظتان مترادفتان؟ اختلف أهل العلم في ذلك فذهب بعضهم إلى أنهما لفظتان مترادفتان، بينما ذهب الآخرون إلى أنهما متغايرتان، والصحيح أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. وهذا هو المشهور عند العلماء المحققين حين يذكرون حقيقتهما يقررون أنه في الشرع لهما حالتان: أ- أن يطلق الإسلام على الافراد غير مقترن بذكر الإيمان فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه، من اعتقاداته وأقواله وأفعاله كقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2.   1 الآية 3 من سورة المائدة. 2 الآية 84 من سور آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 ب- أن يطلق الإسلام مقترنا بالإيمان فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة وذلك كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ... } 1. ووجه الجمع والتفريق بين الإسلام والإيمان حال الاجتماع والافتراق يتضح بتقرير أصل عظيم وهو "أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات والاسم المقرون دال على باقيها. فإذا يقال: إذا أُفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق، وعليه فهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. فاجتماعهما في الذكر يقتضي افتراقهما في المعنى، وافتراقهما في الذكر يقتضي اجتماعهما في المعنى2.   1 الآية 14 من سورة الحجرات. 2 انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 المبحث الثاني: الآثار عن عمر في زيادة الإيمان ونقصانه . 182/1- ابن عبد الحكم قال: وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإسلام حدودا، وشرائع، وسننا، فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت، فما أنا على صحبتكم بحريص1. 183/2- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز رسالة وفيها: ... "أسأل الله برحمته وسعة فضله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يرجع بالمسيء التوبة في عافية منه ... "2. 184/3- ابن سعد قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة رحل إليه عون بن عبد الله3، وأبو الصباح موسى بن أبي كثير4، وعمر بن   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص60، وقد مر في المبحث السابق تخريجه. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص72، وأبو حفص الملاَّء 1/280. 3 هو عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي كان ثقة كثير الإرسال. انظر الطبقات 6/313. 4 هو موسى بن أبي كثير الأنصاري من المتكلمين في الإرجاء وغيره. وكان ثقة في الحديث. انظر الطبقات6/339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 حمزة1، فكلموه في الإرجاء2، وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شيء منه3. 185/4- ابن سعد أيضا قال: ممن وفد إلى عمر بن عبد العزيز وكلمه في الإرجاء موسى بن أبي كثير4. التعليق: تبين من الآثار السابقة الواردة عن عمر أن الإيمان يزيد وينقص. وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح. وهذه الأدلة كثيرة يصعب استقصاؤها في هذا المقام وإنما يذكر أمثلة تدل على المقصود. فمنها قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5، وقوله عز وجل:   1 عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني ضعيف. تقريب ص411. 2 الإرجاء: هو التأخير: وكذلك إعطاء الرجاء، والمرجئة فرقة من الفرق الضالة وهم أصناف عدة. ويتميزون بأنهم يؤخرون الأعمال عن الإيمان، ويعطون الرجاء للفساق أي أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. انظر مقالات الإسلاميين 1/213-225، والملل والنحل للشهرستاني 1/189-195، على هامش الفِصَل، والفرق بين الفرق ص202. 3 ابن سعد: في الطبقات 6/313. 4 انظر: ابن سعد في الطبقات 6/339. 5 الآية 2 من سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 1، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 2، وغير ذلك من الآيات. ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"3، وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن" 4. ووجه الدلالة من هذا الحديث نفي كمال الإيمان الواجب عمن اقترف هذه المعاصي، وأنه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، على أحد الأقوال5.   1 الآية 76 من سورة مريم. 2 الآية 31 من سورة المدثر. 3 أخرجه البخاري 1/51،برقم (9) ، ومسلم 1/202-203برقم (58) واللفظ له. 4 أخرجه البخاري 5/119، برقم (2475) ، ومسلم 1/231-232 رقم (100) . 5 انظر زيادة الإيمان ونقصانه للشيخ الدكتور عبد الرزاق ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له" 1. ووجه الدلالة أن من لا أمانة له يعتبر مؤمنا ناقص الإيمان. ومن أقوال سلف الأمة قول الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص2. وقول معاذ بن جبل رضي الله عنه اجلسوا بنا نؤمن ساعة"3، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحابه هلموا نزداد إيمانا وفي لفظ تعالوا نزداد إيمانا4. فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه مما أجمع عليه سلف الأمة لكن أهل البدع زاغوا عن هذا الإجماع. فذهب طوائف من المتكلمين والمرجئة والخوارج، والمعتزلة إلى أن الإيمان لا يزيد وينقص. واستندوا إلى شبه، ولعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يقصد الرد على بعض هؤلاء الذين يرون عدم زيادة الإيمان ونقصانه بقوله: "فمن استكملهن فقد استكمل الإيمان ... " ومن لم يستكملهن لم يستكمل الإيمان، فالإيمان عنده رحمه الله تعالى ذو شعب وأجزاء وهو شامل للعبادات البدنية   1 الإيمان لابن أبي شيبة ص5 وصححه الألباني. 2 البخاري مع الفتح 1/47. 3 رواه البخاري في صحيحه تعليقا 1/45. 4 الإيمان لابن أبي شيبة ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 والقلبية. كما أنه يحتوي على المندوبات والمنهيات. وهذه كلها قابلة للزيادة والنقصان فعمل القلب يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة ووضوحها. ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة وكل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها1. ويؤيد الأثر الثاني المروي عن عمر ما سبق تقريره في الأثر الأول حيث عد الإيمان بالله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة من الإسلام والإسلام إذا أطلق مفردًا فإنه يدخل فيه ويراد به الإيمان كما سبق بيانه. وهذه الشعب في هذا الأثر هي شعب الإيمان الواردة في حديث وفد عبد القيس كما في الصحيحين أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله عز وجل قال: "أتدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم ... "2.   1 انظر البخاري مع الفتح 1/46. 2 البخاري مع الفتح 1/129، برقم (53) ، ومسلم 1/151، برقم (23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أما الأثر الثالث فيدل على زيادة الهدى والهدى من الإيمان قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} 1. وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 2، وقوله في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 3، فالهدى من الإيمان وزيادته دليل على زيادة الإيمان. وبعد ثبوت هذه الآثار عن عمر رحمه الله تعالى يتحتم الإشارة إلى أن ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلا إليه عون بن عبد الله، وموسى بن أبي كثير، وعمر بن حمزة، فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شيء منه غير صحيح، للأدلة الصحيحة من الآثار المتقدمة التي نقلت عنه ولأن ابن سعد روى هذا الخبر بدون سند، ولأنه استعمل فيه صيغة التمريض "زعموا" وأيضا إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته   1 الآية 76 من سورة مريم. 2 الآية 17 من سورة محمد. 3 الآية 13 من سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 متهمون بالإرجاء، ولو سلمنا جدلا بثبوت تلك الرواية فيحتمل أنه وافقهم قبل أن يطلع على خبث هذا المذهب فحين اطلع عليه بدأ يكتب رسائله إلى عماله مبينا لهم حقيقة الإيمان عند السلف، ومضمنا في نفس هذه الرسائل الرد على المبتدعة. وقد ثبت في كتب التراجم أن من بين الذين وفدوا على عمر من تاب1 عن الإرجاء فلعل اللقاء حصل بينهم قبل ذلك. وهذا هو الصحيح لصحة ما نقل عنه من الآثار ولشدته رحمه الله تعالى على جميع المبتدعة كما مر فيما سبق. وسيأتي مزيد بيان لهذه الرواية في مبحث الرد على المرجئة. هذا ولما كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة يقبل الزيادة والنقصان كان موقفهم مخالفا لموقف الفرق الضالة في مسألة مرتكب الكبيرة المسلم يتبين لنا ذلك فيما يأتي من الآثار عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.   1 انظر سير أعلام النبلاء 5/104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في حكم مرتكب الكبيرة . 186/1- ابن حزم الظاهري قال: عن يحيى بن أبي كثير أن غلاما لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة فألقاها في الماء فطفت فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز أن الله لم يأمرك أن تلقيها في الماء فإن اعترفت فاقتلها1. 187/2- ابن قتيبة قال: حدثني زيد بن أخزم الطائي قال: نا عبد الصمد، قال: نا همام، عن يحيى بن أبي كثير، أن عامل عمان كتب لعمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه، أنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لسنا من الماء في شيء إن قامت البينة، وإلا فخل سبيلها2. 188/3- وعن ربيعة بن عطاء أن رجلا عبدا سحر جارية عربية. وكانت تتبعه فرفع إلى عروة بن محمد، وكان عامل عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يبيعه بغير أرضها وأرضه ثم ادفع ثمنه إليها3. 189/4- ابن الجوزي قال: حدثنا الصعق بن حزن قال: شهدت قراءة كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة وأهل البصرة.   1 ابن حزم: المحلى بالآثار 11/395. 2 ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث ص125. وسيأتي الأثر برقم 204. 3 ابن حزم: المحلى بالآثار 11/395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 أما بعد: فإنه قد كان في الناس من هذا الشراب أمر ساءت فيه رعيتهم وغشوا فيه أمورا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم بلغت بهم الدم الحرام والفرج الحرام والمال الحرام. وقد أصبح جل من يصيب من ذلك الشراب يقول: شربنا شرابا لا بأس به. ولعمري أن ما حمل على هذه الأمور وضاع الحرام لبأس شديد وقد جعل الله عنه مندوحة وسعة من أشربة كثيرة طيبة ليس في الأنفس منها جائحة: الماء العذب الفرات، واللبن، والعسل، والسويق، فمن انتبذ نبيذا فلا ينبذه إلا في أسقية الأدم التي لا زفت فيها. وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نبيذ الجر والدباء والظروف المزفتة. وكان يقال: كل مسكر حرام فاستغنوا بما أحل الله عما حرم فإنا من وجدناه يشرب شيئا من هذه بعد ما تقدمنا إليه أوجعناه عقوبة شديدة، ومن استخفى فالله أشد عقوبة وأشد تنكيلا. وقد أردت بكتابي هذا اتخاذ الحجة عليكم اليوم وفيما بعد اليوم أسأل الله أن يزيد المهتدي منا ومنكم هدى، وأن يراجع بالمسيء منا ومنكم التوبة في يسر وعافية. والسلام1.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص126- 127،وابن كثير البداية والنهاية 5 /244 والصعق بن حزن -بفتح المهلمة وسكون الزاي - ابن قيس البكري البصري أبو عبد الله صدوق يهم وكان زاهدا، من السابعة. بخ م مدس. تقريب ص276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 190/5- أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني آدم حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز طلقت امرأتي وأنا سكران. قال الزهري فكان رأي عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان: ليس على المجنون والسكران طلاق. فقال عمر: تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده ورد إليه امرأته1. 191/6- الذهبي قال: قال أبو زرعة عبد الأحد بن أبي زرارة القتباني سمعت مالكا يقول: أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز وقالوا: إن أبانا توفي وترك مالا عند عمنا حميد الأمجي فأحضره عمر فلما دخل قال أنت القائل: حميد الذي أمج داره أتاه المشيب على شربها ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع. وكان كريما فلم ينزع. ... قال نعم ما أراني إلا سوف أحدك إنك أقررت بشرب الخمر وأنك لم تنزع عنها ... "2.   1 أبو زرعة: تاريخ أبي زرعة 1/509، وانظر مصنف ابن أبي شيبة 4/31، والبخاري مع الفتح 9/391. 2 سير أعلام النبلاء 5/118، وابن عبد البر أنس المجالس1 /107 وابن عساكر 45/ 142- 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 التعليق: يتبين من الآثار السابقة عن عمر أن منهج أهل الحق في مرتكب الكبيرة وسط لا إفراط فيه ولا تفريط فلا يسلبون الفاسق الملي أصل الإيمان ولا يطلقون عليه أنه مؤمن كامل الإيمان، وإنما سيماهم التوسط وهو اتباع الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح فيطلقون عليه اسم المؤمن بإيمانه الفاسق بكبيرته وقد اختلف السلف في حد الكبيرة. ومن أجمع التعاريف لها "أنها كل معصية فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو ورد فيها وعيد بنفي إيمان أو لعن ونحوهما"1. وموقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله من مرتكب الكبيرة خلال هذه الآثار المتقدمة هو موقف أهل السنة والجماعة حيث اتسم رحمه الله بالحرص على تطبيق النصوص الشرعية فحين كتب إليه عامله في شأن الساحرة والسحر كبيرة من الكبائر لم يأمر بقتلها لأنها ارتكبت هذه الموبقة وإنما أمر عامله أن يتأكد من سحرها، فإذا ثبت أنها ساحرة فما عليه إلا أن يقتلها. وأما إذا كان سحرها مما لا يوجب القتل فعليه أن يتركها وأن يستعمل معها الوسائل المشروعة لا أن يلقيها في الماء لأن هذا لم يأمر الله   1 انظر الفتاوى 11/650، ولوامع الأنوار البهية 1/365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 تبارك وتعالى به. كما أمر عامله أن يبيع العبد الساحر للجارية بغير أرضه وأرضها لأنه رحمه الله تعالى ربما رأى أن ما قام به هذا العبد لا يتجاوز التأديب، والتعزير وهو التفريق بين هذا العبد والجارية. وهذا الموقف يبرز موقفه من مرتكب الكبائر حيث لم يكفر هذا العبد ولم يأمر بقتله مع العلم بأن السحر كبيرة وكما أن السحر من الكبائر فكذلك شرب الخمر. والنبيذ المسكر فمنع شرب النبيذ وعلل ذلك بأنه يسكر وكل ما يسكر فهو خمر وكل خمر حرام. ثم بين أن من شرب المسكر يعاقب بالحد الذي أمر الله به، إذا اطلع عليه ولا يكفر بشربه وإنما يعاقب في العلانية. ومن استخفى فالله أشد عقوبة إن شاء وأشد تنكيلا. ولم يفرق بين الرجل الذي طلق زوجته وبين زوجته. وقد كان عازما على ذلك وإنما اكتفى بحده كما عزم على أن يحد الشاعر الذي ذكر في شعره أنه لم ينزع عن شرب الخمر وقد كان يمنع الخلفاء الذين كانوا قبله من قتل الحرورية وكان يقول: ضمنهم الحبس حتى يحدثوا توبة1. ونهى عن تكفير أهل القبلة فروى أبو نعيم بسنده عن عمر في رسالته في الرد على القدرية وفيها ... أهل التوحيد لا تكفروهم ولا تشهدوا عليهم بشرك ... "2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص27-28، وابن الجوزي سيرة عمر ص54. 2 أبو نعيم في الحلية 5/353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 قال شيخ الإسلام ابن تيمية واصفا موقف أهل السنة من هذه المسألة: "وهم ... لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف} 1، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2. ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 3، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ   1 الآية 178 من سورة البقرة. 2 الآيتان 9-10 من سورة الحجرات. 3 الآية 92 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"2. ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم3. وأدلة الكتاب والسنة دالة على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من ثبوت مطلق الإيمان مع المعصية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4، فناداهم باسم الإيمان مع وجود المعصية وهي موالاة الكفار5.   1 الآية 2 من سورة الأنفال. 2 البخاري مع الفتح 5/119، برقم (2475) ومسلم 1/232، برقم (100) . 3 الفتاوى 3/151- 152، والعقيدة الواسطية للفوزان ص162- 165. 4 انظر شرح العقيدة الواسطية ص164. والآية 1 من سورة الممتحنة. 5 انظر شرح العقيدة الواسطية ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان" 1، ولم يخص أمته بذلك بل ذكر الإيمان مطلقا2. ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين نفاة الوعيد من المرجئة وموجبيه من القدرية. فمن مات على كبيرة عندهم فأمره مفوض إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، وإذا عاقبه بذنبه فإنه لا يخلد خلود الكفار بل يخرج من النار ويدخل الجنة4. وأما المرجئة فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان ولا يستحق الوعيد. وأما الخوارج والمعتزلة فمرتكب الكبيرة كافر حلال الدم والمال عند الخوارج في الدنيا خالد مخلد في النار في الآخرة. وأما عند المعتزلة فحكمه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين وأما في الآخرة فهو خالد في النار ولا شك5 أن ما ذهب إليه المرجئة والمعتزلة والخوارج باطل للأدلة   1 البخاري مع الفتح 1/103، برقم (44) . 2 شرح العقيدة الطحاوية 2/524- 525. 3 الآية 117 من سورة النساء. 4 شرح العقيدة الطحاوية 2/524-525. 5 انظر شرح العقيدة الواسطية ص130- 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الصحيحة التي تقدمت فيما سبق، هذا وأهل البدع من الخوارج ومن يرى رأيهم يوجبون لعن أهل الذنوب، وتكفيرهم. وقد كان لعمر بن عبد العزيز مناظرات ومجادلات مع الخوارج في هذه المسألة سيتبين ذلك من خلال الآثار المنقولة عنه فيما يأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 المبحث الرابع: الآثار عن عمر في حكم لعن المعين وتكفيره . 192/1- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الحميد بن عمران، عن عون بن عبد الله بن عتبة، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الخوارج الذين خرجوا عليه فكلمتهم فقلت: ما الذي تنقمون عليه؟ قالوا: ما ننقم عليه إلا أنه لا يلعن من كان قبله من أهل بيته فهذه مداهنة منه ... "1. 193/2- ابن عبد البر قال: أخبرنا أحمد بن محمد، ثنا محمد بن عيسى، ثنا بكر بن سهل، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عثمان بن سعيد بن كثير ابن دينار، قال: نا هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه، قال: خرجت علي الحرورية بالموصل2 فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بمخرجهم فكتب إلي عمر يأمرني بالكف عنهم وأن أدعو رجالا منهم فأجعلهم على   1 ابن سعد في الطبقات 5/358، ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك مع سعة علمه. تقريب ص498. وعبد الله بن عمران أبو الجويرية الأصفر كوفي نزل المدينة، روى عن حماد بن أبي سليمان، وروى عنه معن بن عيسى وحماد بن خالد الخياط ولم يذكر بجرح ولا تعديل. انظر الجرح والتعديل 6/16. 2 الموصل: بالفتح وكسر الصاد، المدينة المشهورة ... وهي مدينة قديمة الأس على طرف دجلة ومقابلها من الجانب الشرقي. انظر معجم البلدان ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 مراكب البريد حتى يقدموا على عمر فيجادلهم ... فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم ثم أدخلهم عليه فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم ونزعوا عن رأيهم، وأجابوا عمر. وقالت طائفة منهم لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك وتلعنهم وتبرأ منهم. فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون أو لعنتموه أو ذكرتموه في شيء من أموركم؟ قالوا: لا. قال: فكيف وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبدا بأخبث من صفته إياه ولا يسعني ترك أهل بيتي ومنهم المحسن والمسيء والمصيب والمخطئ ... "1. 194/3- وروى أيضا وقال: أخبرنا أحمد قال: نا محمد بن عيسى، ثنا بكر بن سهل، ثنا نعيم، ثنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سليم أحد بني ربيعة بن حنظلة بن عدي، قال: "بعثني وعون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى خوارج خرجت بالجزيرة وفيه قالوا: خالفت أهل بيتك وسميتهم الظلمة فإما أن يكونوا على الباطل، فإن زعمت أنك على الحق وهم على الباطل فالعنهم وتبرأ منهم، فإن فعلت فنحن منك وأنت منا وإن لم تفعل فلست منا ولسنا منك ... فقال عمر أخبروني عن اللعن أفرض هو على العباد. قالوا: نعم. قال عمر لأحدهما:   1 ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله 2/965، وقال محقق الكتاب إسناد الأثر لا بأس به. وسيأتي برقم 261، و268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي بذلك منذ زمان، فقال عمر: هذا رأس من رؤوس الكفر ليس له عهد بلعنه منذ زمان، وأنا لا يسعني أن لا ألعن من خالفتهم من أهل بيتي ... "1. 195/4- ابن الجوزي قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: دخل الخوارج على عمر فلم يدع لهم حجة إلا كسرها، فقالوا: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك وتلعنهم وتبرأ منهم. فقال عمر: إن الله لم يجعلني لعانا ولكن إن أبقى أنا وأنتم فسوف أحملكم وإياهم على المحجة البيضاء. فأبوا أن يقبلوا ذلك منه. فقال لهم عمر: إنه لا يسعكم في دينكم إلا الصدق. منذ كم دنتم الله بهذا الدين؟ قالوا: منذ كذا وكذا سنة. قال: فهل لعنتم فرعون وتبرأتم منه؟ قالوا: لا. قال: فكيف وسعكم تركه؟ ألا يسعني ترك أهل بيتي وقد كان فيهم المحسن والمسيء، والمصيب والمخطئ؟ 2.   1 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/966، وإسناد الأثر لا بأس به كما قال المحقق،وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص112-114 بألفاظ مقاربة لما هنا. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص98- 99. وإبراهيم بن هشام الدمشقي روى عن أبيه وعن سعيد بن عبد العزيز، ضعفه ابن أبي حاتم. انظر الجرح والتعديل 2/142- 143. وأبوه هشام روى عن جده يحيى وهو صالح الحديث. انظر الجرح والتعديل 9/70. وجده يحيى بن يحيى الغساني قاضي دمشق روى عن سعيد بن المسيب، وروى عنه ابنه هشام وهو ثقة. انظر الجرح والتعديل 9/197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 196/5- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، نا روح بن عبادة، نا ابن جريج، قال: قال عمر بن عبد العزيز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يستحي فهو كافر" 1. 197/6- الملطى قال: وقال حسان بن فروخ: سألني عمر بن عبد العزيز عما تقول الأزارقة فأخبرته فقال ما يقولون في الرجم؟ فقلت يكفرون به فقال: الله أكبر كفروا بالله وبرسوله2. 198/7- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد يعني ابن سلمة، حدثنا أبو جعفر الخطمي، قال شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له ... ما تقول في العلم؟ قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت. وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ... 3.   1 ابن أبى الدنيا: مكارم الأخلاق ص43، قال محقق الكتاب إسناده ضعيف فيه انقطاع، وابن جريج لم يصرح بالسماع. 2 الملطى: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص196. وسيأتي برقم 206، و282. 3 السنة لعبد الله 2/429. وأخرج الأثر الآجري في الشريعةص 228،والملطى التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص168. وسيأتي برقم 205،264، 295،300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 التعليق: الآثار الواردة عن عمر في هذا المبحث تدور حول تكفير المعين ولعنه أو تكفير المعينين ولعنهم. واللعن: الطرد والإبعاد، ولعنه كمنعه: طرده وأبعده فهو لعين وملعون1. واللعن شرعا هو: الطرد، والإبعاد عن رحمة الله. والتكفير والكفر ضد الإيمان. وكفر نعمة الله وبها كفورا وكفرانا. جحدها وسترها2. وأما الكفر شرعا فهو: جحود الإيمان وتغطيته وستره. وأهل السنة والجماعة لا يخصون أحدا من المسلمين باللعن كما رأينا ذلك عن عمر بن عبد العزيز من خلال الآثار المتقدمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه إما تحريما وإما تنزيها. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة "حمار" الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه   1 انظر القاموس المحيط ص1588. 2 انظر المصدر السابق ص605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله" 1، وقال: "لعن المؤمن كقتله"2، هذا مع أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، فقد لعن عموما شارب الخمر ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين3. ومثل هذا نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني، والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار، لجواز تخلف المقتضى عن المقتضي لمعارض راجح، إما توبة وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع4. هذا ويجوز لعن أهل الذنوب على العموم فروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"5، قال: الحافظ: قال ابن بطال: معناه لا ينبغي   1 البخاري مع الفتح 12/75. برقم (6780) . 2 رواه أحمد 4/33. 3 قلت: ذكر الحافظ ابن حجر رأي من يرى لعن المعين وأيده. انظر البخاري مع الفتح 12/76. 4 الفتاوى 4/484، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 1/418. 5 البخاري مع الفتح12/81، رقم (6783) ، وصحيح مسلم بشرح النووي4/334 رقم (1687) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم وزجرا عن انتهاك شيء منها ولا يكون لمعين لئلا يقنط1. وقال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق" هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2، وأما المعين فلا يجوز لعنه. قال القاضي: وأجاز البعض لعن المعين ما لم يحد فإذا حد لم يجز لعنه، فإن الحدود كفارات لأهلها. قال القاضي: وهذا التأويل باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن اللعن، فيجب حمل النهي على المعين ليجمع بين الأحاديث ... 3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مقررا أن اللعن المطلق لا يستلزم لعن المعين ... لعن المطلق من العصاة لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق. ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق   1 البخاري مع الفتح 12/81. 2 الآية 18 من سورة هود. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له والمغفور له فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب التوبة والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة1. هذا وأهل السنة والجماعة يفرقون بين التكفير المطلق والتكفير المعين فالذي أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة فيقال: من قال كذا أو فعل كذا فهو كافر ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره إطلاقا حتى تجتمع فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها2 وهذا ما فعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله مع غيلان المنكر للقدر كما تقدم بيانه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة3. ثم يقول رحمه الله: إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط   1 انظر الفتاوى 10/329-330. 2 انظر نواقض الإيمان القولية والعملية ص52. 3 الفتاوى 12/466. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وانتفت الموانع. يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه1. فمنهج أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الضلال في تكفير المعين ولعنه فلا يلعنون إلا من لعنه الله ورسوله كما رأينا رأي عمر بن عبد العزيز في لعن فرعون وفي لعن اليهود، والنصارى حين أرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كما تقدم ذلك بينما يرى الخوارج وجوب لعن أصحاب الكبائر لأنهم عندهم كفار خالدون في النار. فمذهب أهل السنة والجماعة واضح في مسألة لعن المعين وتكفيره فيلعن من لعنه الله ورسوله ويكفر من كفره الله ورسوله. وهناك فرق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي. فالكفر العملي كفر دون كفر يدل على ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة المشهورة فقد ارتكب محظوراً ولكنها كانت في العمل ولم يكن يعتقدها. فلم يكفره الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 2. فنادى حاطبا باسم الإيمان كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من   1 الفتاوى 12/487- 488. 2 الآية 1 من سورة الممتحنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ضرب عنق حاطب رضي الله عنه. أما الكفر الاعتقادي المعبر عنه بالنفاق أحيانا فهو كفر مخرج عن الملة ولكننا لم نلزم بمعرفة البواطن فحكمنا ينصب على الظاهر والله تعالى يتولى السرائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الحكم على المعين بالجنة أو النار. 199/1- اللالكائي قال: وذكر عبد الرحمن قال: ثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عيسى قال: ثنا علي بن موسى البصري قال ثنا سليمان بن عيسى الشجري قال ثنا سهل الحنفي عن مقاتل بن حيان قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: من أين أنت؟ فقلت من أهل بلخ فقال: كم بينك وبين النهر؟ قلت كذا وكذا فرسخا. فقال: هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم؟ قلت لا. قال سيظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يهلك خلقا من هذه الأمة يدخلهم الله وإياه النار مع الداخلين 1. 200/2- ابن الجوزي قال: قال عباد بن إسحاق، عن الزهري، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو أن الأمم تخابثت فجاءوا بأخبثها رجلا، وجئنا بالحجاج، لظننا أنا سنغلبهم، وفى رواية: "إذا أتت قوم فارس بأكاسرتها والروم بقياصرتها أتينا بالحجاج فكان عدلا بهم" وإني لأظن كلمة تنجيه   1 اللالكائى: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3 /425 قال محقق الكتاب يبدو على ظاهر الرواية الوضع لأن عمر توفى قبل خروج الجهم بحوالي ثلاثين سنة تقريبا والغيب لا يعلمه إلا الله الحاشية ج 3ص 425وعبد الرحمن هو عبد الرحمن ابن أبى حاتم، وبقية رجال السند مجهولون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 عندي قوله عند الموت: رب اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تغفر لي1. 201/3- قال: حدثنا ... عن إبراهيم بن هشام، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: - يعني عمر بن عبد العزيز- ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل وفى رواية عند ابن عساكر عن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال: قال لي عمر بن عبد العزيز لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بأبي محمد لفتناهم فقال رجل من آل أبي معيط لا تقل ذلك فوالله إن وطأ لكم هذا الأمر الذي أصبحتم فيه غرة فقال عمر: أتحب أن يدخلك الله مدخل الحجاج؟ قال إي والله إني لأحب أن يدخلني الله مد خلا ولا يدخلني مدخلك فقال عمر: أمنوا اللهم أدخله مدخل الحجاج2.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص112. وابن عساكر تاريخ دمشق 12/ 194 وابن الجوزى أيضا المنتظم 7/5. وعباد هو عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني نزيل البصرة ويقال له عباد. صدوق رمي بالقدر من السادسة بخ م4. تقريب ص336. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص 112وأبو نعيم في الحلية5/345، وابن عساكر12/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 202/4- قال: حدثنا عبد العزيز عن محمد بن المنكدر، قال: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج، وكان ينفس عليه بكلمة تكلم بها عند موته: اللهم اغفر لي فإنهم زعموا أنك لا تفعل1. التعليق: نلمح من الآثار السابقة موقف عمر بن عبد العزيز في الحكم على المعين من أهل القبلة بالجنة أو النار. ولا شك أن أهل السنة والجماعة لا يشهدون لمعين بالجنة أو بالنار إلا بدليل خاص، ولا يشهدون لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم، لأنه قد يندرج في العمومين فيستحق الثواب والعقاب لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2، والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته، ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه، وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار،   1 المصدر السابق ص112، وابن كثير البداية والنهاية 5/154. وابن أبي الدنيا رسالة حسن الظن بالله ص74،وابن عساكر/12 / 194 وعبد العزيز هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثقة فقيه. تقريب ص357. 2 الآيتان 7-8 من سورة الزلزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وأنهم لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وإن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الإيمان شيء. وهذه أقوال فاسدة مخالفة للكتاب والسنة المتواترة وإجماع الصحابة"1. قال شارح الطحاوية: ... لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة، أو إنه من أهل النار إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين. ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم. لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء. وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء. وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية والأوزاعي. والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص. وهذا قول كثير من العلماء، وأهل الحديث.   1 الفتاوى 35/68 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 والثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت. ومر بأخرى فأثنوا عليها بشرّ فقال: وجبت، وفي رواية كرر: وجبت ثلاث مرات. فقال عمر: يا رسول الله ما وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا وجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض1. وقال صلى الله عليه وسلم: "توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار"، قالوا: بم يارسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ"2. فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار3. والذي يترجح هو القول الثاني، الذي ينص على أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء النص فيه ,. وأما كون الثناء الحسن الصادر حكمها من النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن ذلك مما اطلع عليه بالوحي ولا يقاس غيره عليه. وأما الحديث الثاني توشكون، ... ففيه أن الثناء الحسن والسيئ من أمارات من يدخل الجنة ومن يدخل النار، ومعروف أن الثناء لوحده أو   1 البخاري مع الفتح 3/228-229، برقم (1368) ، ومسلم 3/18-19. رقم (949) . 2 أخرجه ابن ماجة (4221) ، وأحمد 3/416، و6/466. 3 شرح العقيدة الطحاوية 2/537- 538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 الذم فقط لا يوجبان جنة ولا نارا. وإنما يستأنس بهما بعد وجود الأصل الذي هو الإيمان. فالقول الصحيح هو القول الثاني الذي تؤيده الأدلة فالمؤمنون الذين جاء النص بدخولهم الجنة يقطع لهم بذلك ويتوقف عن غيرهم إلا بدليل خاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 المبحث السادس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في نواقض الإيمان . 203/1- ابن سعد قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس، قال: حدثني أبي، عن سهيل بن أبي صالح، أن عمر بن عبد العزيز قال: لا يقتل أحد في سب أحد إلا في سب نبي1. 204/2- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا عبد الله ابن أبى عبيدة عن ربيعة بن عطاء عن عمر بن عبد العزيز قال: يستتاب المرتد ثلاثة أيام فإ ن تاب وإلا ضربت عنقه2. 205/3- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد يعني ابن سلمة حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا   1 ابن سعد في الطبقات 5/379، وانظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر 146وابن عساكر45 /207 وإسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس صدوق. انظر تقريب التهذيب ص108. وأبوه هو عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس، أبو أويس المدني صدوق يهم. انظر تقريب التهذيب ص309. وسهيل بن أبي صالح: ذكوان السمان أبو يزيد المدني صدوق تغير حفظه بآخرة. تقريب ص259. 2 ابن سعد في الطبقات 5/351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الذي بلغني عنك؟ قال يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم أقل. قال: ما تقول في العلم؟ قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقربه فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ... "1. 206/4- الملطى قال: وقال حسان بن فروخ سألني عمر بن عبد العزيز عما تقول الأزارقة2، فأخبرته فقال: ما يقولون في الرجم؟ فقلت يكفرون به. فقال: الله أكبر كفروا بالله وبرسوله3. التعليق: تدل الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على أربعة نواقض من نواقض الإيمان، وهي: إنكار صفة من صفات الله تبارك وتعالى المعلومة من الدين بالضرورة كصفة العلم، أو سب نبي من أنبيائه، أو إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أو الردة. وقبل بيان وجه   1 عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/429، واللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/789، وسيأتي برقم 294، 318. 2 الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق الخارجي. 3 الملطى: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص196، وسيأتي رقم 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الاستدلال بهذه الآثار على هذه النواقض ينبغي تعريف النقض لغة واصطلاحا: فالنقض: هو إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء فهو بمعنى نكث الشيء أو انتشار العقد. والنقض ضد الإبرام، ونقيضك الذي يخالفك.1. واصطلاحا: أنها اعتقادات، أو أقوال أو أفعال تزيل الإيمان وتقطعه. فهي تقطع الإيمان وتنقضه بينما سائر المعاصي تنقص الإيمان" 2. ووجه كون إنكار صفة العلم لله تعالى ناقضا من نواقض الإيمان فلأن ذلك يعد تكذيبا بالوحيين. قال تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجب إكفار القدرية في نفيهم كون الشر من خلق الله. وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه4، ولا شك أن نفي العلم عن الله تبارك وتعالى والادعاء بأن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد صدورها عنهم وقاحة وجرأة وكيف يعجز عن العلم من علم بالقلم،   1 القاموس المحيط ص 846 ومعجم مقاييس اللغة 5 / 470-471. 2 نواقض الإيمان القولية والعملية ص48- 494. 3 الآية 22-23 من سورة فصلت. 4 الفتاوى 6/318- 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وعلم الإنسان ما لم يعلم، كلا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1 وعلى زعمهم هذا فما فضل {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} 2، الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 3، على المخلوق الذي لا يعلم شيئا إلا ما علمه الله4. ومن نواقض الإيمان المأثورة عن عمر بن عبد العزيز سب النبي صلى الله عليه وسلم أو سب الأنبياء عليه السلام ولا يخفى أن من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله تعالى. ولا يصدر السب لنبي من أنبياء الله تعالى من مؤمن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل5. والدليل على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء يعد كفرا أو ناقضا من نواقض الإيمان اعتبارات منها:   1 الآية 14 من سورة الملك. 2 الآية 109 المائدة. 3 الآية 7 طه. 4 انظر الرد على الجهمية للدارمي ص118. 5 الصارم المسلول ص512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 أ- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1. ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى قرن أذاه بأذى رسوله صلى الله عليه وسلم فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله قد احتمل بهتانا وإثما عظيما. وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة، وأعد له العذاب المهين. ب - قوله عليه الصلاة والسلام من آذى أصحا بي فقد آذاني2. ج - أمره صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتل ابن خطل فحين أخبر بتعلقه بأستار الكعبة قال: "اقتلوه "3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث: "وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدر دمه وأنه قتل4.   1 الآيتان 57-58 من سورة الأحزاب. 2 الترمذى 5 / 358 رقم 3954 وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. 3 البخاري مع الفتح 8/15، رقم (4286) . وانظر الصارم المسلول ص44. 4 الصارم المسلول ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 فإذا كان حكم من سب نبينا صلى الله عليه وسلم القتل فكذلك حكم من سب غيره من الأنبياء لأن الإيمان به إيمان بجميع الأنبياء والرسل، والكفر به كفر بجميعهم. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه} 1، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 2، فقد دلت الآيات على أن الكفر بنبي من الأنبياء كفر بجميعهم. وكذلك غيره مما ينزل منزلته كالاستهزاء والسب، والشتم يعتبر ناقضا من نواقض الإيمان، ويعطى حكم أصله الذي هو الكفر. وهذا ما بينه عمر بن عبد العزيز بقوله:" إنه لا يقتل أحد بسب أحد إلا في سب نبي". ولا شك أن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة ناقض من نواقض الإيمان. وهذا ما أثر عن عمر رحمه الله تعالى في الخوارج الذين أنكروا الرجم كما سبق. وقد خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إنكار الرجم من   1 البقرة آية 285. 2 الآيتان 150- 151 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 قبل وبين أنه ضلال، وأن الرجم فريضة أنزلها الله فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أصحابه فروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو الاعتراف. قال سفيان: كذا حفظت، ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده1. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع ما خشيه عمر ... فأنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض المعتزلة. ويحتمل أن يكون عمر قد استند في خوفه من هذا الإنكار إلى توقيف فروى عبد الرزاق عن ابن عباس أن عمر قال: سيجيء قوم يكذبون بالرجم2، وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب، عن عمر: "إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم إن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ... " 3، وفي الحديث إشارة إلى أن عمر استحضر أن أناسا قالوا ذلك فرد عليهم4.   1 البخاري مع الفتح 12/137. 2 المصنف لعبد الرزاق 7/330. 3 الموطأ ومعه تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 3/ 42. 4 انظر البخاري مع الفتح 12/148. وصحيح مسلم بشرح النووي 4/337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 والمقصود أن الرجم ثابت في كتاب الله تعالى بالآية المنسوخة قراءة الثابتة حكما1، وإنكار الرجم مع العلم بثبوته ناقض من نواقض الإيمان لأنه إنكار ما علم من الدين بالضرورة. ومن المعلوم أن الإيمان قائم على تصديق حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أهم هذه الأحكام أحكام الحدود، كالرجم، وغيره. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وغيرهما. ورجم الصحابة رضوان الله عليهم فإنكار الخوارج هذا الحكم القطعي دليل على مروقهم من الدين واعتمادهم على عقولهم في التعامل مع نصوصه الصحيحة الصريحة أعاذنا الله من الحور بعد الكور وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ومن نواقض الإيمان الردة وقد بين عمر أن من ثبت عنه هذا الناقض فإنه يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ... } 2.   1 وهي "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". وقيل قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} الثيب بالثيب الرجم". 2 الآية 217 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وفيه: "والتارك لدينه المفارق للجماعة"1 قال النووي: فأما قوله: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت, فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام 2. هذا وكون المرتد يستتاب ثلاثة أيام هو قول أكثر أهل العلم3.   1 الحديث متفق عليه البخاري مع الفتح 12 /201 رقم6878 ومسلم4/316رقم1676 2 شرح النووي على صحيح مسلم4 /318. 3 انظر المغنى لابن قدامة ج12 /264 -266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 المجلد الثاني الباب الثالث: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة وموقفه من أهل الأهواء والبدع وأهل الذمة الفصل الأول: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة المبحث الأول: الأثار عن عمر في وجوب لزوم الجماعة ... الباب الثالث: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة وموقفه من أهل الأهواء والبدع وأهل الذمة. وفيه تسعة فصول: الفصل الأول: الآثار عن عمر في الاعتصام بالكتاب والسنة. وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: الآثار عن عمر في وجوب لزوم الجماعة. 207/1- ابن الجوزي قال: قال ابن مهدي: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"1. 208/2- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: سنّ رسول الله صلىالله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً2.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص86، والإمام أحمد في الزهد ص408-410، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/135، والدارمي في السنن 1/91، وأبو نعيم في الحلية 5/338، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/932، وأبو حفص الملاء 1/35-36) وسيأتي برقم 234، 246، 247، و 287. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40، وقد تقدم تخريجه برقم115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 209/3- ابن عبد الحكم أن عمر كتب رسالة إلى الخوارج وفيها: ... أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ... "1. التعليق: تدل الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على لزوم الجماعة وترك التفرق. ولاشك أن ميزة أهل السنة والجماعة كونهم متفقين غير متفرقين ولذا تجد التوافق العجيب بينهم وإن باعدت بينهم الديار والأزمان، لأن مصدر تلقي العقيدة عندهم كتاب الله وسنة نبيه صلىالله عليه وسلم ولأن الاجتماع على الحق هو مطلبهم وغايتهم، فمن اهتدى بمنهجهم هُدي ومن استبصر بها بصر، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بالاجتماع وترك التفرق قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 2، وبرأ الله نبيه صلىالله عليه وسلم {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75. وابن الجوزي سيرة عمر ص96، وابن حجر في الفتح 12/303، وابن عبد البر في التمهيد 23/336. وسيأتي برقم 265. 2 الآية 103، آل عمران. 3 الآية 32 الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"1. ولزوم جماعة المسلمين والحرص على الحق هو ديدن أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - في بيان أهمية هذا الأصل-: "وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا، وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلىالله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة2. وإذا كان الاجتماع على الحق وأهله بهذه المنزلة فمن هم الجماعة المعنية بهذه المنزلة الرفيعة والنجاح الموفور في الدنيا والآخرة؟ قال الشاطبي رحمه الله تعالى- في بيان هذه الجماعة-: "اختلف الناس في معنى الجماعة على خمسة أقوال: أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام. الثاني: جماعة أئمة العلماء المجتهدين. الثالث: جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر. الرابع: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير.   1 رواه مسلم 4/375- 376، رقم (1715) . 2 مجموع الفتاوى 22/359. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 الخامس: الجماعة هي الصحابة على الخصوص1. وهذا ما كان يراه عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كما تبين من الآثار وكما ذكر ذلك عنه الشاطبي2،ويدل على هذا أن إجماعهم حجة، والتمسك بسنتهم والسير على نهجهم من أسمَى المطالب، فالمتمسك بما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان هم الجماعة في أي زمان وفي أي مكان، ومن خالف ما عليه أصحاب محمد صلىالله عليه وسلم فهو خارج عن الجماعة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3. وقد حذر الرسول صلىالله عليه وسلم أصحابه من مخالفة سبيل المؤمنين والخروج عن جماعتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" 4. وروى الترمذي من حديث الحارث بن الحارث الأشعري فذكر حديثا طويلا وفيه: " ... وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة، والجهاد،   1 انظر الاعتصام للشاطبي ص448- 451. 2 المصدر السابق ص448 -451. 3 الآية 115 من سورة النساء. 4 البخاري مع الفتح 13/5،رقم (7053) ،ومسلم 4/549،رقم 1849 واللفظ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"1 ويتبين مما أثر عن عمر أنه كان يقصد بالعامة في تلك الآثار: "الجماعة" بدليل وصفه من خرج عنها بالضلال، ووصفه من تركها بأنه قد اتبع غير سبيل المؤمنين وهو من الهالكين، كما بين للخوارج أنهم لو كانوا أولاده من صلبه ثم خرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم لدق رقابهم قربة لله تعالى. وهذا منه رحمه الله تعالى تطبيق لنص الحديث الشريف كما في صحيح مسلم أنه صلىالله عليه وسلم قال: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"2. وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحثون على لزوم الجماعة ويحذرون من الخروج عليها حرصا منهم على اتباع الكتاب والسنة، وتقديرا للعواقب، وتجنبا للفتنة ودرءا للمفسدة وحقنا لدماء المسلمين، وهذه كلها يجب على المسلم مراعاتها. قال الآجري رحمه الله تعالى: "إن المؤمن العاقل يحتاط لدينه فالفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة نجا منها أقوام، وهلك فيها   1 انظر البخاري مع الفتح 13/316. 2 مسلم 4/550 رقم (1852) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 أقوام باتباعهم الهوى، وإيثارهم للدنيا فمن أراد الله تعالى به خيراً فتح له باب الدعاء والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه وحفظ لسانه وعرف زمانه، ولزم الحجة الواضحة والسواد الأعظم ... "1. ويبدو مما تقدم أن الراجح في الجماعة التي يراها عمر أنهم هم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن سار على نهجهم، واقتفى آثارهم، وهذا هو الحق، لأن تلك الأقوال كلها تصدق على الصحابة، وتصدق على من سار على نهجهم. ومن المهم ذكره هنا أن هذه الجماعة التي يقصدها عمر باقية إن شاء الله تعالى إلى قيام الساعة روى البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله "2.قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - مبينا أمر هذه الجماعة وهذه الطائفة-: "ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أوّلاً فأوّلاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله"3.   1 انظر الآجري في الشريعة ص51-52. 2 البخاري مع الفتح 13/442، رقم 7459. 3 البخاري مع الفتح 13/295. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 المبحث الثاني: الآثار الواردة عنه في اتباع الكتاب والسنة 210/1- ابن عبد الحكم قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم كتابه والاقتداء بسنة نبيه وهديه1، ... وليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلىالله عليه وسلم أمر ولا رأي إلا إنفاذه والمجاهدة عليه2 ... فإن الذي في نفسي وبغيتي في أمر أمة محمد صلىالله عليه وسلم أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلىالله عليه وسلم وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، من عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يذكر له ذلك، ولعمري لأن تموت نفسي في أول نفس أحب إلى من أن أحملهم على غير اتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم التي عاش عليها من عاش وتوفاه الله عليها حين توفاه - إلا أن يأتي علي وأنا حريص على اتباعه - وإن أهون الناس علي تلفاً وحزَنًا لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة ... "3.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص65، وأبو حفص الملاَّء 1/284. 2 المصدر السابق ص68، وأبو حفص الملاَّء 1/287. 3 انظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص71، وأبو حفص الملاَّء 1/290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 211/2- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز إن الله فرض فرائض وسن سننا من أخذ بها لحق ومن تركها1 محق2. 212/3- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي3. 213/4- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى هؤلاء العصابة الذين خرجوا، أما بعد: فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ... "4. 214/5- ابن سعد قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله ابن يونس الثقفي عن سيار أبي الحكم قال: لما وُلي عمر بن عبد العزيز خرج إلى المسجد فصعد المنبر وحمد الله فأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما   1 محق: محق الشيء محقا: نقصه وأهلكه وأباده ويقال: محق الله العلم اذهب بركته وأبطله ومحاه انظرالمعجم الوسيط ص856. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص39. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص130. وانظر ابن عساكر 45/199. 4 المصدر السابق ص75، وانظر الطبري تاريخ الأمم والملوك 6/555. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 أحل الله حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض ولكني منفذ ألا إني لست بمبتدع ولكني متبع1. 215/6- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلىالله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام2 بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها .... 3، قال عبد الله بن عبد الحكم فسمعت مالكا يقول: وأعجبني عزم عمر في ذلك. التعليق: إن الآثار التي وردت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في هذا المبحث تحث على اتباع الكتاب والسنة ولزومهما، وبذل الجهد والطاقة في تطبيقهما، وإن أدى ذلك إلى قطع الأعضاء وإزهاق النفس، كما تبين   1 ابن سعد الطبقات 5/340، طبعة دار الفكر. وابن عبد الحكم في سيرة عمر ص40، والفسوي المعرفة والتاريخ1/574-575، وابن كثير البداية والنهاية 5/222، وابن الجوزي سيرة عمر ص56، وابن عساكر تاريخ مدينة دمشق مجلد 5/75، والآجري أخبار أبي حفص ص63. 2 في جميع المصادر "تصديق" بدل "اعتصام". 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40، وتقدم تخريجه برقم 115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 المنهج الذي يسير عليه عمر في دعوة أهل البدع إلى الالتزام بالكتاب والسنة. ولا شك أن ما ذهب إليه هنا من اتباع الكتاب والسنة والتحاكم إليهما في موارد النزاع وتحكيمهما في كل صغير وكبير، والرضا بذلك، والانقياد إليه، هو أصل الدين وأساسه، ومن الواجبات عند كل مسلم أن يقر بأن أصول الدين الإسلامي وفروعه لا تعلم إلا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كله جاءت النصوص والأدلة وعليه قامت البراهين والشواهد. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1، وقال عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.   1 الآية 65 من سورة النساء، وانظر الآثار عن أئمة السلف في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء للدكتور جمال بادي 1/115. 2 الآية 51 من سورة النور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 1. وقد خطب رسول الله صلىالله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "ياأيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي"2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"3. ومن آثار السلف الصالح في ذلك ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلىالله عليه وسلم ... "4. فاتباع الكتاب والسنة من الأمور التي اتفق عليها سلف هذه الأمة وهي أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة فكان من   1 الآية 36 من سورة الأحزاب. 2 أخرجه مالك في الموطأ 3/93، والحاكم 1/93. 3 البخاري مع الفتح 13/249. رقم (7280) . 4 المصدر السابق 13/249. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قطُّ أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول صلىالله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ... من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم، فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدي به ... وسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه ... "1. وعندما ضعف اتباع الكتاب والسنة عند أهل الأهواء والبدع، وقعوا في حيرة من أمرهم، واستبدلوا باتباع الكتاب والسنة اتباع الفلاسفة الوثنيين، والهنود وغيرهم من أهل الضلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية "وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الاعراض عن الطريق المشروع فيقعون في البدع فيقع فيهم الخلاف2. وقال الحافظ ابن حجر - مبينا حيرة المتكلمين، وتعنتهم، ونبذهم الكتاب والسنة، وراء ظهورهم فقال -: واشتد إنكار السلف لذلك   1 انظر الفتاوى 13/28- 29. 2 مجموع الفتاوى 19/274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 "يعني علم الكلام" ... وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه الكتاب والسنة وتوسعوا فيه، ومعلوم أنه لم يكن في عهد النبي صلىالله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء، وقد توسع من تأخر عن القرون الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن منه بد فليكتف بقدر الحاجة ويجعل الأول المقصود بالأصالة. والله الموفق1.   1 انظر البخاري مع الفتح 13/253. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم . 216/1- ابن أبي شيبة قال: محمد بن بشر قال: حدثنا عبيد الله بن الوليد عن عبيد بن الحسن، قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب؟ فقال: ما لهم قاتلهم الله؟! والله ما زدت أن أتخذ رسول الله إماما1. 217/2- البلاذري: قال: كتب عمر بن عبد العزيز: " مروا أهل الصلاح يتذاكروا السنن في مجالسهم ومساجدهم وأسواقهم"2. 218/3- محمد بن نصر المروزي قال: قال الأوزاعي قال عمر بن عبد العزيز: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى3.   1 ابن أبى شيبة في المصنف 8/739. ومحمد بن بشر العبدي أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ. تقريب ص469، وانظر الجرح والتعديل 7/210، وعبيد الله بن الوليد ضعيف. تقريب ص375، والجرح والتعديل 5/336، وعبيد الحسن المزني أو الثعلبي أبو الحسن الكوفي ثقة من الخامسة. تقريب ص376. 2 البلاذرى كتاب جمل من أنساب الأشراف 8 /160 3 محمد بن نصر المروزي في السنة ص/31 ط مؤسسة الكتب الثقافية ط1 بيروت 1408هـ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 219/4- ابن عبد البر قال: حدثنا عبد الوارث، نا قاسم نا أحمد بن زهير، نا الحوطي، نا إسماعيل بن عياش، عن سوادة بن زياد، وعمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس أنه: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم1. التعليق: الآثار الواردة عن عمر في هذا المبحث تدل على تجريد المتابعة للنبي صلىالله عليه وسلم وتجريد المتابعة له صلىالله عليه وسلم هي الشرط الثاني من شروط قبول الأعمال عند الله تعالى، وهي حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فلا يكون العبد متحققا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُد} إلا بأصلين عظيمين: أحدهما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود"2. وهذا الذي أثر عن عمر رحمه الله تعالى تدل عليه الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة وأقوال السلف الصالح. فمن الآيات الدالة على   1 ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله 1/781، ومحمد بن نصر المروزي في السنة 31، وابن بطة الإبانة الكبرى 1/262- 263، والآجري في الشريعة 1/182، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده صحيح رجاله ثقات. 2 ابن القيم مدارج السالكين 1/95، طبعة دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثانية عام 1408هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... } 1، ومنه قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 3. ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم حديث عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد" 4، وفي رواية: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 5، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما ذكر لهم   1 الآية 31 من سورة آل عمران. 2 الآية 65 من سورة النساء. 3 الآية 21 من سورة الأحزاب. 4 مسلم بشرح النووي 4/379، رقم (1718) ، والبخاري 5/301 رقم (9697) واللفظ لمسلم. 5 لفظ مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي 4/380. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ذلك فكأنهم تقالُّوها فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بما أزمعوا عليه قال لهم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1. ومما أثر عن السلف الصالح في تجريد المتابعة للنبي صلىالله عليه وسلم ما تقدم ذكره من الآثار عن عمر بن عبد العزيز، وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"2، وعن الأوزاعي3 رحمه الله قال: كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله4. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في حقيقة المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم: "فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد، من الإنس والجن كتابيهم وغير كتابيهم في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة في عقائده وحقائقه، وطرائقه، وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا شريعة إلا   1 البخاري مع الفتح 9/104، رقم (5063) . 2 رواه اللالكائي 1/99، رقم 114، و115 عن أبي الدرداء رضي الله عنه. 3 هو عبد الرحمن بن عمرو ابن أبي عمرو الأوزاعي، الفقيه ثقة جليل مات سنة سبع وخمسين. تقريب ص347. 4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/71 رقم الأثر 48، والحلية 6/142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 شريعته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته، وولايته إلا بمتابعته ظاهراً وباطنا في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، في أقوال القلب، وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان، وأعمال الجوارح"1. فمتابعته صلى الله عليه وسلم واتباعه في أمره ونهيه والاقتصار على ذلك هو سبيل المؤمنين وطريق الموحدين الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.   1 مجموع الفتاوى 10/430- 431، وانظر الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 المبحث الرابع: الآثار عن عمر في الحرص على لزوم السنة والذب عنها . 220/1- ابن عبد الحكم قال: قال: سليمان بن داود الخولاني1، أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: يا ليتني قد عملت فيكم بكتاب الله، وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو حتى يكون آخر شيء منها خروج روحي2. 221/2- الفسوي قال: حدثنا ابن بكير قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد العزيز، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبيد الله بن عاصم خال عمر بن عبد العزيز أنه قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز حين استخلف قال: وجاءه الناس من كل مكان قال: فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ... وقال: والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقا3.   1 سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي سكن داريَّا صدوق من السابعة. تقريب ص251. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص130 وأبو حفص الملاَّء 1/170، وابن سعد في الطبقات 5/343 ببعض اختلاف في الألفاظ. 3 الفسوى في المعرفة والتاريخ 1/574، وانظر ابن سعد في الطبقات 5/253، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص42، وابن الجوزي سيرة عمر ص55. وابن بكير هو: يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي مولاهم المصري ثقة في الليث، وتكلموا في سماعه من مالك من كبار العاشرة. تقريب ص592. وعبد العزيز هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون روى عنه الليث بن سعد ثقة. انظر الجرح والتعديل 5/386. وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ثقة ثبت. تقريب ص373. وعبد الله بن عبيد الله بن عاصم مقبول من الرابعة. تقريب ص312. وفواقا: الوقت بين الحلبتين - والوقت بين قبضتي الحالب للضرع - وما يعود فيجتمع من اللبن بعد ذهابه برضاع أو حلاب. المعجم الوسيط ص706. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 222/3- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: ... ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة ... 1. 223/4- ابن سعد قال: أخبرنا سعيد بن عامر، عن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42. 2 ابن سعد في الطبقات 5/343، وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص130، ومحمد ابن نصر المروزي في السنة ص 30, وأبو حفص الملاَّء 1/170 ببعض اختلاف في اللفظ. وابن عساكر 45/199. وسعيد بن عامر الضبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة أبو محمد البصري، ثقة صالح، وقال أبو حاتم: ربما وهم من التاسعة. تقريب ص237. وحزم بن أبي حزم القطعي - بضم القاف وفتح الطاء - أبو عبد الله البصري صدوق يهم من السابعة مات سنة 75هـ خ. تقريب ص157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 224/5- الآجري قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، قال: نا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، قال: حدثني شيخ - قال مؤمل: زعموا أنه أبو رجاء الخراساني - أن عدي بن أرطأة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن قبلنا قوما يقولون: لا قدر، فاكتب إلي برأيك، واكتب إلي بالحكم فيهم فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة. أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه وترك ما أحدث المحدثون مما قد جرت سنته وكفوا مؤنته. فعليكم بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق ... "1.   1 الآجرى في الشريعة 1/443-444، وسنن أبي داود 4/202.، والإمام أحمد في الزهد ص416. وأبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي القطان ثقة. انظر تاريخ بغداد 10/105. وأبو موسى محمد بن المثنى العنزي ثقة. انظر الجرح والتعديل 8/95. ومؤمل بن إسماعيل أبو عبد الرحمن مولى آل عمر بن الخطاب بصري وثقه يحيى بن معين. وقال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير الخطأ يكتب حديثه. انظر الجرح والتعديل 8/374. وسفيان الثوري ثقة حافظ إمام فقيه. تقريب 244. وأبو رجاء الخراساني هو عبد الله بن واقد بن الحارث بن عبد الله الحنفي أبو رجاء الهروي الخراساني ثقة موصوف بخصال الخير من السابعة. تقريب ص328. وعدي بن أرطأة الفزاري عامل عمر بن عبد العزيز مقبول من الرابعة. تقريب ص388. والأثر صححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3856) كما صححه محقق كتاب الشريعة انظر الحاشية 1/443. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 التعليق: يظهر مما سبق نقله عن عمر بن عبد العزيز أنه كان من أحرص الناس على لزوم السنة والتمسك بها والذب عنها، بل إنه قد وظَّف الخلافة لخدمة السنة. وهذا المنقول عنه هو ما عليه السلف الصالح، والآثار المروية عنهم كثيرة جداً في هذه المسألة فمنها: قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ"1.   1 الإبانة لابن بطة 2/246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر"1. وقول الأوزاعي لمخلد بن الحسين: "يا أبا محمد إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فلا تظنن غيره ولا تقولن غيره، فإن محمدا إنما كان مبلغا عن ربه"2. ومنها رسالة أسد بن موسى، قال ابن وضاح وكتب أسد بن موسى إلى أسد بن الفرات رسالة وفيها: ... وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك، إن حدث بك حدث فيكونوا أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم فأحْيِ كتاب الله وسنة رسوله فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ... "3. ويكفي في بيان حرص عمر على العمل بالسنة قوله: "لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقا".   1 جامع بيان العلم وفضله 2/196، والفقيه والمتفقه 1/145. 2 الفقيه والمتفقه 1/149. 3 ما جاء في البدع لابن وضاح القرطبي ص36 تحقيق بدر البدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ومن تتبع سيرة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في حرصهم على لزوم السنة والذب عنها والدفاع عنها لوجد بغيته المقصودة وما أثر عن عمر في هذا المبحث يشفي الغليل وينير السبيل والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الأمر بالتمسك بما عليه الفطرة ... المبحث الخامس: الآثار عن عمر في الأمر بالتمسك بما تدل عليه الفطرة. 225/1- ابن سعد: قال: أخبرنا قبيصة بن عقبة، قال: أخبرنا سفيان، عن جعفر بن برقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي في الكُتّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك1. التعليق: إن هذا الأثر الوارد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يُلْمَحُ منه أنه يرى أن العباد مخلوقون على الدين القويم، وأن الانحراف عنه طارئ وحادث، وهذا ما دل عليه القرآن الكريم. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} 2.   1 ابن سعد في الطبقات 5/374. والدارمي في السنن 1/703، وابن بطة في الإبانة 1/343، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم 250، وابن الجوزي سيرة عمر ص86، وأبو حفص الملاء 1/35، الفريابي في القدر ص218، وقد صحح إسناد هذا الأثر النووي، في تهذيب الأسماء واللغات 2/22. 2 الآية 30 من سورة الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 ودلت عليه السنة الصحيحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء1 هل تحسون فيها من جدعاء"2 ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه -: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم3. فالفطرة السليمة تقر بخالقها وتحبه وتتذلل له وتخلص له الدين وفيها قوة موجبة لذلك، وكذلك تقر بشرعه وتؤثر هذا الشرع على غيره. فهي تعرف هذا الشرع وتشعر به مجملا ومفصلا بعض التفصيل، فجاءت   1 جمعاء: أي سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء كاملتها فلا جدع ولا كي. النهاية في غريب الحديث، والأثر 1/296 طبعة دار الفكر تحقيق طه أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناسي. 2 جدعاء: أي مقطوعة الأطراف أو واحدها. ومعنى الحديث أن المولود يولد في نوع من الجبلة وهي فطرة الله تعالى وكونه متهيئا لقبول الحق طبعا وطوعا لو خلته شياطين الإنس والجن وما يختار لم يختر غيرها فضرب لذلك بالجمعاء والجدعاء مثلا. يعني إن البهيمة تولد مجتمعة الخلق سوية الأطراف سليمة من الجدع لولا تعرض الناس إليها لبقيت كما ولدت سليمة. النهاية في غريب الحديث والأثر 1/247. 3 البخاري مع الفتح3/219، رقم (1358) ، ومسلم 6/157-158رقم (2658) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه، وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتضائها أثرها1. ولا شك أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يُلَمِّح بقوله: الزم دين الصبي الذي في الكُتّاب والأعرابي والْهَ عمّا سوى ذلك تلك الفطرة السليمة التي لم تدنسها الأهواء ويؤيد ذلك ما مثل به رحمه الله تعالى من دين الصبي الذي بدأ يتعلم في الكتاب وهو بلا شك على فطرته السليمة, فلو سئل مثلا عن علو الله تبارك وتعالى لأجاب بالإثبات, وكذلك الأعرابي السليم الفطرة, فلو سئل عن ربه لأجاب بأنه تعالى عال على خلقه, فأمر رحمه الله تعالى من سأله عن الأهواء بأن يلتزم الفطرة، وأن لا يتدخل في متاهات أهل الأهواء الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. والذي نَلْمَحُهُ عن أثر عمر هنا هو أرجح الأقوال في معنى الفطرة المقصودة في قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فقد اختلف العلماء في المراد بالفطرة في هذه الآية إلى عدة أقوال2، ذكرها الإمام ابن   1 انظر شفاء العليل ص629- 630. 2 انظر هذه الأقوال بتوسع في عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان عرضا ونقدا تأليف سليمان صالح الغصن ط. دار العاصمة. ص426- 448. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 عبد البر في التمهيد1، كما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتلميذه ابن القيم2، ثم رجح شيخ الإسلام وابن القيم القول بأن الفطرة هي الدين الذي ولد عليه الإنسان وهو دين الإسلام الحنيف، ولا يعني هذا أن الطفل يولد وهو عارف بالدين وإنما المقصود أن الطفل يولد على نوع من الجبلة ويكون متهيئا لقبول الحق طبعا وطوعا لو خلته شياطين الإنس والجن وما يختار لم يختر غير الإسلام، وهذا ما يلمح عن أثر عمر رحمه الله تعالى بقوله" الزم دين الصبي الذي في الكُّتاب والأعرابي". لأن الصبي والأعرابي بعيدان عن تنطع أهل الأهواء متمسكان بما ولدا عليه من الفطرة السليمة. وقد بدأ الصبي يتعلم، وهو أمر ينمي فطرته ويرشدها. ولا شك أن الأدلة السابقة من الكتاب والسنة وهذا الأثر الوارد عن عمر رحمه الله كل ذلك يعتبر ردًا على المتكلمين ومن انتحل مذهبهم في معرفة الله وأن أول واجب على المسلم هو النظر، قال الإيجي: " النظر في معرفة الله تعالى واجب إجماعا"3، أو أن أول ما أوجب الله على المسلم   1 انظر التمهيد 18/94. 2 انظر درء تعارض العقل والنقل 8/367، وشفاء العليل من ص559- 600. 3 المواقف في علم الكلام لعضد الدين القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي ص28 طبعة عالم الكتب بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 هو: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى"1، أو القصد إلى النظر الصحيح2، أو أن أول الواجبات هو الشك لأن النظر بعده"3، إلى ما هنالك من سفسطة أهل الكلام، ولا يعني هذا أن السلف الصالح يحرمون النظر مطلقًا وإنما يجيزون النظر في الشيء الذي لا يحصل العلم به إلا بالنظر. فيجب النظر في مسائل النزاع التي لا يعلم الحق فيها إلا بالنظر فإذا أراد معرفة الحق فيها وجب عليه النظر. فالنظر يجب في حال دون حال وفي شخص دون شخص. فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال لا من اللوازم العامة4. فالعلم بمعرفة الله ضروري، ولو كان نظريا لكان على الرسل أول ما يدعون إلى النظر،   1 انظر شرح الأصول الخمسة ص39 لعبد الجبار الهمداني تعليق أحمد بن الحسين بن أبي هاشم تحقيق وتقديم الدكتور عبد الكريم عثمان طبعة مكتبة وهبة ط. الثانية 1408هـ. 2 انظر الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني ص25 تحقيق أسعد تميم طبعة مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى عام 1405هـ بيروت لبنان. 3 انظر شرح المقاصد لمسعود بن عمر بن عبد الله الشهير بسعد الدين التفتازاني ص270 تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عميرة طبعة عالم الكتب الطبعة الأولى عام 1409هـ. 4 انظر مجموعة الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/347- 349. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 وهذا مما علم فساده من دين الإسلام فإن كل كافر إذا أراد الدخول في دين الإسلام أول ما يؤمن بالشهادة فلو قال: أنا أقر بالخالق لم يكن بذلك مسلما، ولو قال: أنا أعرف الله أنه رب العالمين ورازقهم ومدبرهم لم يصر بذلك مسلما، فمعرفة الله فطرية حاصلة لجمهور الخلق1. والمقصود أن معرفة الله تعالى فطرية بدليل قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} حيث فسرت الفطرة بالدين في الآية وكذلك في الحديث حيث قال عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه" ولم يقل عليه الصلاة يمسلمانه لأن الطفل مولود على الإسلام، والمتكلمون أو جبوا النظر والاستدلال بطريق خاص وضعوه ومنعوا حصول المعرفة للخالق سبحانه وتعالى قبل النظر في الآيات الكونية والنفسية، ومن باب أولى لا يكون فيها ميل إلى عبادة الله عز وجل أو محبته أو تعظيمه. فالقلوب ليست مفطورة على المعرفة وإنما المعرفة تنشأ بالاستدلال، وهذا الخلط والبعد عن الصواب ناتج عن عدم إدراكهم أن المعرفة ثابتة في القلوب، وأنها مما فطر عليها الخلق وأن البحث عنها إنما هو من باب تحصيل الحاصل وأن الأنبياء إنماجاءوا بدعوة الناس إلى العبادة، ولم يدعوهم إلى المعرفة ولا إلى وسائلها   1 مجموعة الرسائل الكبرى 2/348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 أو مقدماتها، وأن ما كان من ذلك فإنما لزيادة المعرفة، وتوضيحها لا إلى تحصيلها وتأسيسها. والسلف الصالح مجمعون على أن العباد مفطورون على معرفة خالقهم وأن إتمام معرفتهم أو تصحيحها لا يحتاج إلى غير طرق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهو ما جاءوا بتقريره وتأكيده1.   1 انظر: فطرية المعرفة وموقف المتكلمين منها للدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ص202-203 الطبعة الأولى عام 1415هـ طبعة دار طيبة الرياض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 المبحث السادس: الآثار عن عمر في التمسك بأخبار الآحاد في العقيدة . 226/1- أبو زرعة قال: وحدثني عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث، عن أبي سلام، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى صاحب دمشق، أن سل أبا سلام عما سمع من ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحوض، فإن كان يثبته فاحمله على مركبة من البريد1. 227/2- وقال: أخبرني يحيى بن صالح الوحاظي قال: حدثنا محمد بن مهاجر، عن العباس بن سالم، عن أبي سلاَّم أنه دخل على عمر بن عبد العزيز فقال: لقد شققت عليَّ يا أمير المؤمنين، قال: ما أردت ذاك، ولكن أحببت أن تشافهني بحديث ثوبان في الحوض2. 228/3- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من   1 أبو زرعة في التاريخ ص164. 2 المصدر السابق ص164. وقد تقدم في الإيمان بالحوض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا1. قال عبد الله بن عبد الحكم فسمعت مالكا يقول وأعجبني عزم عمر في ذلك. التعليق: يتبين مما أثر عن عمر رحمه الله تعالى فيما تقدم من الآثار أخذه بأخبار الآحاد في العقيدة، حيث اكتفى بخبر أبي سلام فقط، مع أنه وحده. كما تبين آنفاً، وكما تبين أيضا في تلك الآثار منهج أهل السنة والجماعة في التثبت في الأحاديث. ويتضح في الأثر الثالث منها تمسكه رحمه الله بأخبار الآحاد في العقيدة وذلك في قوله: "سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله" فلم يفرق رحمه الله تعالى بين السنة الآحادية، وغيرها من السنن كما لم يفرق بين هذه السنن سواء كانت في باب الاعتقاد أو العبادات أو المعاملات وإنما بين أن الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا النظر في أمر خالفها، وبين أن الأخذ بها هو سبيل المؤمنين من حاد عنه تولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، ولا شك أن الأخذ بأخبار الآحاد   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 في العقيدة هو مذهب السلف الصالح حيث تلقوا أحاديث الصفات والعقائد ودوّنوها في مؤلفاتهم موقنين بصحتها، عالمين يقينا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بها كما جاء بالصلاة والزكاة، والتوحيد كصنيع الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه1، وغيره من أئمة السلف، وذلك لأن الذين نقلوا هذه الأحاديث الآحادية في العقيدة هم الذين نقلوا لنا جميع علوم الشريعة فيلزم من رد بعض أخبارهم وقبول البعض التفريق بين متماثلين، وإلحاق الطعن بالصحابة والسلف وعدم الثقة بأخبارهم مع ما عرف من ورعهم وتثبتهم، وتحريهم للصدق، إلى غير ذلك مما ينافي سوء الظن بهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرا من أهل الكلام أو   1 انظر البخاري مع الفتح 13/231- 244 وأخبار الآحاد في الحديث النبوي حجيتها مفادها والعمل بموجبها للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء بالمملكة ص124 ط. دار عالم الفوائد عام 1416هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك وهو قول الأشعرية ... "1. وخبر الواحد الذي نقصده ضمن كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى السابق هو خبر الواحد الصحيح المحفوف بالقرائن وهو يفيد العلم بلا شك عند عامة السلف. قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله تعالى:" إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلىالله عليه وسلم ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم. هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية، والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول"2. وقد استدل المثبتون لأخبار الآحاد في العقيدة بأدلة كثيرة جدا منها: 1- أننا نعلم يقينا أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يبعث أفرادا من الصحابة إلى مختلف البلاد ليعلموا الناس دينهم كما أرسل عليا، ومعاذا، وأبا موسى إلى اليمن في نوبات مختلفة. ونعلم يقينا أيضا أن أهم شيء في الدين إنما   1 مجموع الفتاوى 13/351، 352. 2 نقله عنه السيوطي في صون المنطق ص160- 161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 هو العقيدة فهي أول شيء كان أولئك الرسل يدعون الناس إليه، وقد كان كل منهم أرسل منفردا فلو كانت أخبار الآحاد لا تثبت بها العقائد لكان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضعه وحاشاه، فظهر بطلان هذا القول وثبت وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد1. 2- أن القول بعدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة مخالف لجميع أدلة الكتاب والسنة التي نحتج بها نحن، والقائلون بعدم كون السنة الآحادية ليست حجة في العقيدة، وذلك لعمومها وشمولها لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه سواء كان عقيدة أو حكما فتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد تخصيص بدون مخصص وذلك باطل، وما لزم منه باطل فهو باطل2. 3- قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 3، أي لا تتبعه ولا تعمل به، ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يقْفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون بها الأمور الغيبية والحقائق الاعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة، بل يثبتون بها لله تعالى الصفات فلو   1 انظر وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للألباني ط. دار العلم ص10- 12. 2 انظر المصدر السابق ص8، وانظر الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للألباني ص45 ط. الدار السلفية، ط. الثالثة عام 1400هـ. 3 الآية 36 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 كانت لا تفيد علما ولا تثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قَفَوْا ما ليس لهم به علم، وهذا مما لا يقوله مسلم1. وقد ذكر العلماء قديما وحديثا حججا كثيرة في الأخذ والاحتجاج بأخبار الآحاد في العقيدة منهم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، وفضيلة الشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر وغيرهم كثير.   1 الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام ص50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 المبحث السابع: الآثار عن عمر في الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين . 229/1- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا جعفر ابن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عرعرة بن البرنْد، عن حاجب بن خليف البرجمي، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه1. 230/2- ابن عبد الحكم قال: وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: من عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أما بعد: فقد ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني، ولا إرادة يعلم الله ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا، فاكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب في أهل القبلة وأهل العهد، فإني سائر بسيرته، إن أعانني الله على ذلك والسلام2.   1 أبو نعيم في الحلية 5/298، وابن رجب في جامع العلوم والحكم ص288، وقد تقدم الأثر مع ترجمة لرجال سنده برقم 111. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص107، وأبو نعيم في الحلية 5/ ص284، وابن الجوزي سيرة عمر ص108، والآجري أخبار أبي حفص ص70-71، وأبو حفص الملاَّء 1/395- 396 مع بعض الاختلاف في الألفاظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 231/3- عبد الرزاق قال: عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن عون بن عبد الله، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز أعدلان عندك عمر وابن عمر؟ قال: قلت نعم. قال: إنهما لم يكونا يكبران هذا التكبير1. 232/4- أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني آدم حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، قال الزهري، فكان رأي عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان (عن أبيه) : ليس على المجنون ولا السكران طلاق، فقال عمر: تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده وردَّ إليه امرأته2. 233/5- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة   1 عبد الرزاق في المصنف 2/66. 2 أبو زرعة في التاريخ 1/509، وانظر ابن أبي شيبة في المصنف 4/31، والبخاري مع الفتح 9/391، وآدم هو آدم بن أبي إياس: عبد الرحمن العسقلاني ثقة عابد مات سنة 21هـ تقريب ص86. وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري، ثقة فاضل مات سنة 58هـ. تقريب ص493. والزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري القرشي أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه مات سنة 25هـ. تقريب ص506. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولىّ وأصلاه جهنم وساءت مصيرا1. التعليق: إن الآثار الواردة عن عمر في هذا المبحث تبين اعتصامه رحمه الله بسنة الخلفاء الراشدين وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وبسنتهم عند حدوث الاختلاف فقال: "اتقوا الله وعليكم بالسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 2.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 115. 2 الحديث أخرجه الترمذي 5/44، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة في المقدمة 1/15-16، والدارمي 1/44-45، وابن أبي عاصم في السنة ص29، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني ط المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة عام 1413هـ وصححه الألباني وقال: إسناده صحيح رجاله ثقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر ... "1. هذا وقد اختلف العلماء في اجتماع الخلفاء الأربعة هل هو إجماع أو حجة مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد2، وهذا فيما يتعلق بالأحكام. أما العقائد فيتضح من الآثار السابقة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه يرى وجوب الأخذ بسنة الخلفاء الراشدين ويحرم الخروج عما أجمعوا عليه، ولا ريب أنه يقصد بسنتهم ما يتعلق بالاعتقاد لأنه أصل الدين، "ولأن الصحابة قد تنازعوا في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموا   1 سنن الترمذي 5/610، ومسند أحمد 5/385، وانظر جامع العلوم والحكم ص287، وابن ماجة في المقدمة 1/37، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/200. 2 انظر ابن القيم إعلام الموقعين 4/118- 156 فقد فصّل في هذه المسألة بما فيه الكفاية. وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 أدلتها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحد، لم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه"1. ولذا يرى عمر إجماعهم حجة وهو الحق، فهم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة. أما ما يتعلق بالأحكام فيظهر مما أثر عن عمر أنه كان يعتصم بسنتهم كذلك، ويرجع إلى أقوالهم عند النزاع، وهذا ما دل عليه الحديث الشريف: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ... " فعض عمر على سننهم بالنواجذ، وأخذ بها في الحكم على أهل القبلة وأهل العهد، كما أخذ بها في العبادات، والمعاملات، وقد أولى الخليفة الأول والثاني أبابكر وعمر جل اهتمامه، وعدَّ الأخذ بسنتهم أخذًا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخذ بسنة الخليفة الثالث فور سماعه وطبَّق تلك السنة، واعتصم بسنة الخليفة الرابع في معاملة الخوارج حيث ناظرهم وكتب إليهم فلما   1 انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 1/49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 تمادوا حاربهم، وقضى على أموالهم وذراريهم وأسراهم بقضاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه1، بل يرى عمر أن من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم فهو خارج عن سبيل المؤمنين، وهو من الفرقة الهالكة، وكل ما سنه الخلفاء الراشدون فإنه من سنته صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما سنوه بأمره ولا يكون في الدين واجبا إلا ما أوجبه ولا حراما إلا ما حرمه ولا مستحبا إلا ما استحبه ولا مكروها إلا ما كرهه ولا مباحا إلا ما أباحه2. واتباع سنة الخلفاء الراشدين في العقائد والأحكام هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3.   1 انظر معاملته مع الخوارج في طبقات ابن سعد 5/357- 358. 2 انظر مجموع الفتاوى 1/282. 3 الآية 115 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 الفصل الثاني: الآثار عن عمر في التحذير من الأهواء والبدع . تمهيد: البدعة لغة: بدع الشي يبدعه بدعا، وابتدأه: أنشأه وبدأه، وبدع الركية: استنبطها وأحدثها. وركي بديع: حديثه الحفر. والبدع: الشيء الذي يكون أوّلاً، وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 1 أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل. والبدعة: الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال2. إذا: فالبدعة لغة تطلق على الأمر المخترع على غير مثال سابق، وأما تعريف البدعة اصطلاحا: فهي: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه3. والبدع على قسمين:   1 الآية 9 من سورة الأحقاف. 2 لسان العرب 1/341-342 وانظر معجم مقاييس اللغة 1/209- 210. 3 الاعتصام 1/36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 القسم الأول: بدعة حقيقية وهي ما استحدث في الدين أصلا ووصفا وذلك كالطواف حول القبور، وإسراجها ونحو ذلك. القسم الثاني: بدعة إضافية وهي ما استحدث في الدين بوصفه دون أصله وذلك كالذكر الجماعي بصوت واحد فإن أصل مشروعية الذكر جاء الشرع بها ولكنه على هذه الصفة لم يرد شرعا1. والبدع بنوعيها مذمومة شرعا قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" 3 وقد حذر صلى الله عليه وسلم من البدع لخطرها على الدين فقال: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 4. وأوضح أن المبتدع مغير للدين محروم من الشرب من حوضه فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول: ربي أصحابي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"5.   1 انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص360. 2 مسلم 4/379 رقم 1718. 3 الحديث أخرجه الترمذي 5/44، وأبو داود 5/13-15، والدارمي 1/44-45، وأحمد 4/126- 127. 4 سنن الترمذي 5/44 وقال حسن صحيح. 5 البخاري مع الفتح 11/463 رقم 6575. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 والبدعة ناقضة لركنية المتابعة في العمل لكونها مخالفة للسنة النبوية المطهرة، فيكون العمل الذي فقد هذا الشرط مردودا على صاحبه كما تكمن خطورة الابتداع في كونه استدراكا على الشريعة وافتياتا عليها ومخالفة صريحة لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حث أمته على التمسك بسنته وحذرهم من الإحداث والابتداع في الدين. ومن خطورة الابتداع في الدين أيضا كونه اتباعا للهوى ومعاندة للشرع فلذا نرى السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من اتباع الهوى لأنه يجر إلى البدع1 هذا وقد أثرت عن عمر بن عبد العزيز آثار في النهي عن اتباع الهوى والابتداع في الدين. والتحذير من اتباع أهل الأهواء، فمن ذلك ما رواه: 234/1- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا ابن المبارك، أخبرني الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة2.   1 انظر: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص63 تأليف د. إبراهيم البريكان ط. دار السنة الخبر عام 1415هـ. 2 الزهد وزوائده ص408،وقد سبق تخريجه برقم207. وداود بن عمرو ثقة انظر تقريب التهذيب ص199. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 235/2- ابن سعد قال: حدثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن جعفر بن برقان قال: إن عمر بن عبد العزيز قال لرجل، وسأله عن الأهواء فقال: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب، والأعرابي واله عما سوى ذلك1. 236/3- البلاذري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: أمت كل بدعة وأحي كل سنة من سنن الإسلام وشريعة من شرائعه ولا تأخذنك في الله لومة لائم2. 237/4- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: ... فمن كان سائلا عن الذي في نفسي، وعن بغيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذي في نفسي وبغيتي منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله، وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد ... "3. 238/5- الآجري قال: وحدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، قال: نا أبو موسى محمد بن المثنى قال: نا مؤمل بن إسماعيل، قال: نا سفيان الثوري، قال: حدثني شيخ، قال مؤمل: زعموا   1 ابن سعد الطبقات 5/374،، وقد تقدم تخريجه برقم 225. 2 البلاذرى كتاب جمل من أنساب الأشراف8 /156. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 أنه أبو رجاء الخراساني أن عدي بن أرطأة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن قبلنا قوما يقولون: لا قدر فاكتب إلى برأيك ... فكتب عمر: أما بعد: " ... فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعده مما قد جرت سنته، وكفوا مؤنته، ... "1. 239/6- ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز قال: " ... والله لولا أن أنعش سنة، أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقا"2. 240/7- عبد الرزاق الصنعاني قال: أخبرنا معمر بن راشد أن عمر ابن عبد العزيز قال: قد أفلح من عصم من الهوى، والغضب، والطمع3. 241/8- الإمام الشافعي قال: سمعت عبد الله بن مؤمل المخزومي يحدث عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عمر بن عبد العزيز قال: لم   1 الآجرى في الشريعة 1/443- 444، وأبو نعيم في الحلية 5/338، وسنن أبي داود 4/202- 203، وقد تقدم في الإيمان بالقدر بسند آخر. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص42،وأبو نعيم في الحلية 5/297، والفسوي المعرفة والتاريخ 1/574، وابن سعد في الطبقات 5/343، وابن الجوزي سيرة عمر ص72. وابن عساكر تاريخ دمشق 45/199. 3 عبد الرزاق في المصنف 11/126،وابن كثير البداية والنهاية5./236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا1. 242/9- الخطيب البغدادي قال: أخبرنا التنوخي، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البهلول التنوخي حدثني أبي حدثنا أبو الحسن المثنى بن جامع، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا فرج بن فضالة، عن كليب بن ميمون، عن ميمون بن مهران، قال: أوصاني عمر بن عبد العزيز فقال: يا ميمون لا تخل بامرأة لا تحل لك وإن أقرأتها القرآن، ولا تتبع السلطان وإن رأيت أنك تأمره بمعروف وتنهاه عن منكر، ولا تجالس ذا هوى فيلقي في نفسك شيئا يسخط الله به عليك2.   1 الإمام الشافعي في السنن له 2/52 تحقيق الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر، ط. دار القبلة للثقافة جدة عام 1409هـ قال: والأثر أسنده ابن ماجة 1/21، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال المحقق إسناده ضعيف، وله شاهد عن عروة بن الزبير، أما سند الشافعي ففيه شيخه مؤمل ضعيف، لكن الأثر بإسناده وشاهده يتقوى. انظر حاشية السنن للشافعي 2/52، وقد ذكر هذا الأثر أيضا السيوطي في صون المنطق والكلام ص37، عن عمر بن عبد العزيز به. 2 الخطيب البغدادي تاريخ بغداد 13/173، وانظر ابن الجوزي سيرة عمر ص259وفي الأثر فرج بن فضالة التنوخي ضعيف. انظر تقريب التهذيب ص444. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 التعليق: يظهر من الآثار السابقة المأثورة عن عمر النهي عن اتباع الهوى والابتداع في الدين وهو ما جاءت النصوص الصحيحة وأقوال السلف بالنهي عنه قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} 1. وقال عز وجل مبينا أن اتباع الهوى ضد اتباع النص فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 2. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"3. ومن أقوال السلف ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة4. وعن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله5.   1 سورة الشورى آية:15. 2 سورة القصص آية 50. 3 صحيح مسلم 2/592. 4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/214. 5 المصدر السابق 1/123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 فهذه النصوص من الكتاب والسنة وأئمة السلف تحذرنا من اتباع الهوى والابتداع في الدين، ويظهر فيما سبق من الآثار المنقولة عن عمر ابن عبد العزيز رحمه الله الحرص الشديد في رد البدع والأهواء المضلة، فالتناجي في أمور الدين خارج جماعة المسلمين سمة من سمات أهل البدع ولله در عمر فقد وُفِّق في هذه الجملة المأثورة التي تعد كأنها من الإلهام. "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة" وهذه السمة سمة بارزة لأهل الأهواء والبدع في كل الأزمان والأوقات، وكما علم أن الأهواء المضلة مردودة بالكتاب والسنة فقد بين عمر رحمه الله تعالى أنها مردودة بالفطر السليمة التي لم تدنس بأفكار المنحرفين فقد أجاب من سأله عن شيء من الأهواء بقوله "عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سوى ذلك". هذا ولأصحاب الديانات الأخرى كاليهود، والنصارى، وغيرهم، ممن بدلوا دينهم، وحرفوا كتبهم أراء فاسدة متأصلة في نفوسهم، ولهؤلاء يد في ترويج البدع والأهواء، والآراء الباطلة التي ورثوها عن آبائهم فوُجِد في كثير منهم بعد دخولهم في الإسلام واندماجهم في المسلمين، آراء ضارة على الإسلام والمسلمين فكان عمر رحمه الله يحذر من ذلك بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا" وهذا صحيح فإن ابن سبأ يهودي وهو رأس الروافض وهو السبب في خروج الخوارج كما أن كثيرا من زعماء الفرق الضالة كالجهمية، والمعتزلة، والمرجئة من أبناء الديانات الأخرى المندمجين في المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات الإسلامية. وهذه الآثار المروية عن عمر يظهر منها أن عمر قد أدى ما عليه من النصيحة لدين الله بهذه العبارات الرائعة التي يحذر فيها من اتباع الهوى وإحداث البدع التي أساس كل الشرور، والخروج عن الدين الصحيح ولقد أكثر العلماء فيما كتبوه محذرين عن البدع ومضارها الكثيرة على الفرد والمجتمع، مثل ما كتبه الملطي في كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، وابن وضاح القرطبي في كتابه كتاب فيه ما جاء في البدع، وكتاب الحوادث والبدع للطرطوشي وكتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامه، والاعتصام للشاطبي، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي وفي عصرنا وجدت مؤلفات عدة ورسائل جامعية عالجت موضوع البدعة وأحكامها1.   1 مثل: البدعة وأحكامها للدكتور سعيد بن ناصر، وموقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي. وتنبيه أولى الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لشيخنا الدكتور صالح بن سعد السحيمي حفظه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 الفصل الثالث: الآثار عن عمر في بيان سمات أهل الأهواء والبدع . تمهيد: كان عمر على جانب من الذكاء والفطنة، وكان له فراسة قلما تخطئ وقد أثر عنه مواقف كثيرة في هذا المجال وقد ورد "اتقوا فراسة المؤمن"1، وقد شابه في هذا جده الأعلى عمر بن الخطاب رضي اله عنه وفيما يتعلق بأهل الأهواء والبدع وردت له بعض المواقف التي سنذكر أهمها فيما يلي: 246/1- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا عبد الله حدثنا بيان، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا بشر بن الحارث، قال: سمعت عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عمن حدثه قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما انتجى قوم في دينهم دون جماعتهم إلا كانوا على تأسيس ضلالة2.   1 سنن الترمذي 5/278-279 وضعفه الألباني. انظر ضعيف سنن الترمذي ص387. 2 الزهد وزوائده ص410، وقد تقدم بسند آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 247/2- وحدثنا عبد الله، حدثنا داود بن عمر، وحدثنا ابن المبارك، أخبرني الأوزاعي، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة1. 248/3- وحدثنا عبد الله حدثني حسين بن الجنيد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن عثمان، قال سمعت عمر بن عبد العزيز قال: " انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 23. 249/4- ابن عبد الحكم في رسالة عمر إلى الخوارج وفيها ... وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه ونحن ندعوكم إليهما ... "4. 250/5- ابن عبد الحكم قال: قال عمر: " ... فمن كان سائلا عن الذي في نفسي. وعن بغيتي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإن الذي في نفسي وبغيتي   1 نفس المصدر ص408. 2 الآية 7 من سورة آل عمران. 3 الزهد وزوائد هـ ص412 وقد تقدم في الإيمان بالقرآن. 4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد1. 251/6- ابن عبد الحكم أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد رسالة وفيها ... وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضائه فإنه قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2،3. 252/7- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز:" سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا4.   1 المصدر السابق ص71. 2 الآية 118- 119 سورة هود. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص74، والقدر للفريابي ص70. 4 المصدر السابق ص40. وقد مر برقم 115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 253/8- ابن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز من جعله دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل1. 254/9- ابن عبد الحكم قال: وقال عثمان بن كثير بن دينار2، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله وفيها ... وقد ذلت ألسنة كثير من الناس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 3،4. التعليق: يتبين من الآثار السابقة المأثورة عن عمر رحمه الله تعالى أن لأهل البدع والأهواء علامات عدة وسمات بينة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبينها صلى الله عليه وسلم في سنته، وحذر منها السلف الصالح رحمهم الله، وقد   1 ابن سعد في الطبقات 5/371. والفريابي في القدر ص218. وسيأتي برقم 256، و324. 2 عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم أبو عمرو الحمصي ثقة عابد من التاسعة. تقريب ص383. مات سنة 209هـ. 3 الآية 105 من سورة المائدة. 4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص143، وأبو حفص الملاَّء 1/296. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 حظي عمر بن عبد العزيز رحمه الله ببيان جملة من هذه العلامات، وهو من توفيق الله له فمن علامات أهل البدع التي أثرت عن عمر رحمه الله أنهم يحبون السرية بتعاليمهم والتخفي بها عن العامة، خوفا أن تنكشف تلك الأسرار، ولا يريدون إظهارها إلا في الوقت الذي يشاءون، إذ إنهم لو كانوا يعتقدون أنهم على صواب، لما تستروا عليها، وهذا طريق إلى التفريق بين كلمة المسلمين الذي هو إحدى سمات أهل البدع -وقد حذر عمر من هذا المسلك فقال: "إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة، قال أحد العلماء المعاصرين: وكل أمر في الدين يسر به أصحابه من دون بقية المؤمنين، وبمعزل عن أهل العلم، والفقه في الدين فإنه ينتهي بأصحابه إلى الأهواء، من حيث لا يشعرون، والتاريخ شاهد بذلك. فإن البدع إنما ابتدأت همسا، وأحيانا بقصد الغيرة على الدين والنصح للإسلام ثم يؤول إلى العزلة عن الجماعة وتنافر القلوب، وغرس الغل على المخالفين، وهكذا يحدث الافتراق. كما يحصل في عصرنا هذا لدى بعض المنتسبين إلى الحركات الإسلامية المعاصرة هداهم الله وبصرنا وإياهم الحق1. ومن المعلوم أن الخروج عن الجماعة واستحداث الفرقة سمة من سمات أهل البدع. وقد حذرنا الله   1 الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام ص168-169، تأليف الدكتور ناصر عبد الكريم العقل ط. دار الرياض طبعة الثانية عام 1417هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 تبارك وتعالى من الفرقة، وأمرنا بلزوم الجماعة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... } 1،وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ... } 2. وأمر صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وحذر من الفرقة فقال: " ... إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا فعليكم بسنتي ... "3، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صفات الفرقة الناجية وهي التي خلا أصحابها من الافتراق، والاختلاف، وأن غيرها من الفرق الباقية، من فرق الاختلاف والتفرق، فقال: "وصفت الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم". "وأما الفرق الأخرى، فإنهم أهل الشذوذ، والتفرق، والبدع، والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق   1 الآية 159 من سورة الأنعام. 2 الآية 103 من سورة آل عمران. 3 الحديث تقدم تخريجه 634. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 مفارقة الكتاب والسنة، والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"1. ومن علامات أهل البدع المأثورة عن عمر بن عبد العزيز اتباع المتشابه وهو مطية يركبها أهل البدع وذلك بتقليب الأدلة وتفسيرها بما يوافق هواهم مدعين أن تلك النصوص تؤيدهم فيما يذهبون إليه في باطلهم. وهو مسلك يخالف ما عليه أهل الحق في موقفهم من النصوص المتشابهة والمحكمة. قال عمر: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن أهل البدع يتصفون باتباع المتشابه في قوله: { ... فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} 2. وروى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ   1 الفتاوى 3/345-346. 2 الآية 7 من سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2. ومما أثر عن عمر بن عبد العزيز من سمات أهل البدع اتباع الهوى حيث قال: وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضائه فإنه قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . واتباع الهوى من أبرز سمات أهل البدع. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك   1 الآية 7 من سورة آل عمران. 2 البخاري مع الفتح 8/209، رقم (4547) ، وقد تكلمنا عن معنى المحكم والمتشابه في مبحث الإيمان بالقرآن. 3 الآية 23 من سورة الجاثية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 الأهواء كما تجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"1. فالهوى لازم لأهل البدع ولا ينفك عنهم بحال من الأحوال كما هو المشاهد والملموس عن كثب نسأل الله تعالى السلامة والثبات على الحق. ومن علامات أهل البدع الواردة عن عمر سمة معارضة السنة بالقرآن وهذه صفة من صفات الخوارج وغيرهم من أهل البدع، والأهواء فيبين عمر رحمه الله تعالى معرضا بهؤلاء بأن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده يعتبر الأخذ به اعتصاما بكتاب الله وأنه لا يسوغ لأحد تبديل تلك السنن أو تغييرها أو النظر في أمر خالفها. ولا شك أن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته فهو مثل ما حرمه الله في كتابه قال عليه السلام: "ليوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا   1 رواه أبو داود بهذااللفظ4 /198 وأحمد في المسند4 /102 وروى ابن ماجة جزءا منه2 / 1321 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/127. الكلب: الذي يكلب بلحوم الناس، يأخذه شبه جنون فإذا عقر إنسانا كلب، فيقال رجل كلب، ورجال كلبي انظر معجم مقاييس اللغة 5/133. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مثل ما حرم الله"1. فالزعم بأن الاكتفاء بالقرآن هو المطلوب من المسلم سمة تميز بها أهل الأهواء والبدع من الخوارج ومن شايعهم في القديم والحديث: ومن علامات أهل البدع التي نوه بها عمر بن عبد العزيز الخصومات في الدين لتأييد الباطل والجدل العقيم الذي لا فائدة من ورائه ترجى. فحذر عمر من هذه الخصلة وبين أنها سمة من سمات أهل البدع فقال: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل وفي روية أكثر الشك وكأني به رحمه الله تعالى يحذر جهمًا رأس الجهمية فيما وقع فيه، ذكر الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية أنه بلغه أن جهما عدو الله كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناسا من المشركين يقال السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك. قال: لا. قالوا:   1 الحديث رواه أبو داود 5/160-12، وابن ماجة في المقدمة 1/9-10، وأحمد 2/367، و4/131-132، و6/8، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/339. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة. قال: لا. قالوا: فوجدت له حسا. قال: لا. فوجدت له مجسا. قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا في بعض خلقه تكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة من الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال: ألست تزعم أن فيك روحا. قال: نعم. فقال: هل رأيت روحك. قال: لا. قال: فسمعت كلامه. قال: لا. قال: فوجدت له حسا. قال: لا. قال: فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 3، فبنى أصل كلامه على هذه الآيات   1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 الآية 3 من سورة الأنعام. 3 الآية 103 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً وكان من المشبهة. فأضل بكلامه بشرا كثيرا ... "1. وما وقع جهم فيما وقع فيه إلا بسبب الخصومة فيما لا علم له به فضل وأضل والخصومات في الدين، وفي القرآن، مذمومة في الجملة. وقد تجوز بشروط ستذكر فيما يأتي وقد حذر السلف الصالح من الخصومات، قال معاوية بن قرة وكان أبوه ممن أتى النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال2. قال رجل للحكم ابن عتيبة ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات3. ومن هنا فإنه يجب على المسلم أن لا يسترسل في النظر في شبهات أهل الأهواء ومجادلاتهم لئلا يعلق بذهنه شيء من ذلك، وقد كان السلف يحذرون من مجالسة أصحاب البدع، ولا يكلمونهم بل ولا يردون السلام عليهم خصوصا من عرف منهم بعناده واستكباره عن الحق، وهذا هو الطريق الأسلم لأن ما تحرره أصحاب الشبهات إنما هو   1 الرد على الجهمية للإمام احمد ص102-104 تحقيق عبد الرحمن عميرة ط. 2 المصدر نفسه ص69. 3 المصدر نفسه ص69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 رجم بالغيب، وتجاوز لحدود العقل، والله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1. ومن سمات أهل البدع الواردة عن عمر التأويل الفاسد لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي لا توافق أهواءهم، ولا شك أن التأويل مسلك خطير ركبه الباطنية والمتصوفة، والزنادقة، وأهل الكلام، وهو موروث عن اليهود حيث أمروا بأن يقولوا حطة فقالوا حنطة. والتأويل الفاسد هو الذي أفسد الدين، والدنيا وهو الذي ركبه اليهود والنصارى، وحرفوا به نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله، أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد2.   1 الآية 36 من سورة الإسراء. 2 انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/208- 209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 الفصل الرابع: الآثار عن عمر في النهي عن الخصومات في الدين وحثه على الجدال بالتي هي أحسن . تمهيد: الجدال والمراء، والخصومة كلمات مترادفة1، ومن علماء اللغة من يرى أن الخصومة أعم من الجدال والمراء2. والجدل محركة اللدد في الخصومة: والقدرة عليها3. قال ابن فارس: "جدل" الجيم والدال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة، ومراجعة الكلام"4. والجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل، من آكد الواجبات قام به الأنبياء، والمرسلون. وقد ورد لفظ الجدال وما تصرف منه في القرآن "29مرة" وبلفظ "الحجة" وما تصرف منها "27" مرة وبلفظ "السلطان" "33" مرة، وبلفظ "البرهان" "8" مرات كما يوجد في السنة القولية والفعلية،   1 انظر النهاية في غريب الحديث 1/248. 2 انظر: القاموس المحيط ص1424- 1425. 3 المصدر السابق ص1261. 4 معجم مقاييس اللغة 1/433. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 والتقريرية في عامة أبواب التوحيد، والشريعة، وقائع كثيرة يرد بها النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس حقا1، وقد يذم الجدال إذا كان عن جهل أو كان لرد الحق أو لنصرة الباطل، أو كان فيما نهى الله ورسوله عنه، كالجدال في المتشابه أو الحق بعد ما تبين، وقد كان السلف الصالح يمنعون من الجدال المذموم ويقومون بالجدال بالتي هي أحسن وهذا ما أثر عن عمر بن عبد العزيز حيث منع كما سيأتي من الجدال المذموم. وناظر وجادل بالتي هي أحسن، وهاكم تلك الآثار الواردة عنه في ذلك. 256/1- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حماد ابن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"2.   1 انظر: الرد على المخالف ص25-26 للشيخ الدكتور بكر أبو زيد ضمن مجلد الردود ط. دار العاصمة ط. الأولى 1414هـ. 2 ابن أبي الدنيا كتاب الصمت وآداب اللسان ص116، وأخرج الأثر ابن سعد في الطبقات 5/371، وأحمد في الزهد ص302، واللالكائي في السنة 1/144، والدارمي في السنن 1/91، والفريابي في القدر ورقة أ/64. وقال محقق كتاب الصمت رجاله ثقات الحاشية ص116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 257/2- ابن أبي الدنيا أيضا قال: حدثني علي بن الحسين عن إبراهيم بن مهدي، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا سمعت المراء فأقصر1. 258/3- ابن الجوزي قال: حدثنا بشر بن عبد الله بن بشار أن عمر ابن عبد العزيز قال: "احذروا المراء فإنه لا تؤمن فتنة ولا تفهم حكمته"2. 259/4- عبد الرزاق قال: وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز قال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب، والطمع3. 260/5- ابن عبد الحكم قال: وقال ميمون بن مهران: سألني عمر ابن عبد العزيز على فريضة فأجبته فيها فضرب على فخذي ثم قال: ويحك يا ميمون بن مهران، إني وجدت لقيا الرجال تلقيحا لألبابهم4.   1 كتاب الصمت وآداب اللسان ص101، وقال محقق الكتاب رجال الأثر موثقون. انظر ص101. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص293، وانظر أبو نعيم في الحلية 5/325، وبشر بن عبد الله بن يسار كما في التقريب صدوق، كان من حرس عمر بن عبد العزيز. انظر التقريب ص123. 3 عبد الرزاق في المصنف 11/126، وابن الجوزي سيرة عمر ص291. 4 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص109- 110، وابن الجوزي ص295، و296، وأبو نعيم في الحلية 5/340، وابن أبي الدنيا رسالة العقل وفضله ص24، ط. مؤسسة الكتب الثقافية تحقيق يسرى عبد الغني عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 261/6- ابن عبد الحكم أيضا قال: بعث عمر بن عبد العزيز محمد ابن الزبير الحنظلي1 إلى شوذب الحروري2، وأصحابه حين خرجوا بالجزيرة3، قال: فكتب معنا إليهم كتابا، فأتيناهم فأبلغناهم رسالته وكتابه، فبعثوا معنا رجلين منهم أحدهما من بني شيبان والآخر في حبشية، وهو أشد الرجلين حجة ولسانا. فقدمنا بهما إلى عمر بن عبد العزيز وهو بخناصره فصعدنا إليه في غرفة فيها ابنه عبد الملك وكاتبه مزاحم، فأعلمناه مكانهما فقال: ابحثوهما إن لا يكون معهما حديدة، ثم أدخلوهما ففعلنا، فلما دخلا، قالا: السلام عليكم ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ فقال الذي في حبشية: والله ما نقمنا عليك في سيرتك فإنك لتجرى العدل والإحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قال: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك   1 محمد بن الزبير الحنظلي البصري متروك من السادسة. مدس، تقريب التهذيب ص478. 2 شوذب هو بسطام اليشكري خرج سنة 100هـ في ثمانين رجلا. انظر تاريخ ابن الأثير 4/115. 3 الجزيرة: هي التي بين دجلة والفرات، وتشتمل على ديار بكر ومضر. انظر معجم البلدان 2/134. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال، فابرأ منهم والعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق. قال: فتكلم عمر عند ذلك فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغه علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبابكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تقولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلى. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء، وسبي الذراري، وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمان أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا آمنا، ولم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله ابن وهب الراسبي1 استعرضوا الناس فقتلوهم، وعرضوا لعبد الله بن   1 عبد الله بن وهب الراسبي أحد رؤساء الخوارج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 خباب1 صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حيا من العرب يقال لهم بنوا قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء، والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الأقط وهي تفور بهم قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحد أم اثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبابكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة وأهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج، والأموال. ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن أهل فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم إنكم قوم جهال. أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم ويأمن 1 عبد الله بن خباب كان عاملا لعلي رضي الله عنه حليف بني زهرة. يقال: له رؤية. كان ثقة من كبار التابعين قتله الحرورية سنة 38هـ. تقريب التهذيب ص301. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قالا: ما نحن كذلك. قال: بلى، تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الذي في حبشية: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني برئ ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم1.   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص112- 115، وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر فقد رواه بسندين له وقال محقق الكتاب حاكما على السندين بأنهما لا بأس بهما 2/965-967. وقد أخرج الأثر أيضا المسعودي في مروج الذهب 2/175- 178، وابن الجوزي ص 98-99، وأبو حفص الملاَّء 2/500-503. وابن عبد ربه في العقد الفريد 2/339-395، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4/155-156. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 262/7- ابن عبد الحكم قال: ودخل رجلان من الخوارج على عمر ابن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، فقال وعليكما السلام يا إنسانان. قالا: طاعة الله أحق ما اتبعت. قال: من جهل ذلك ضل. قالا: الأموال لا تكون دولة بين الأغنياء. قال: قد حرموها. قالا: مال الله يقسم على أهله. قال: الله بين في كتابه تفصيل ذلك. قالا: تقام الصلاة لوقتها. قال: هو من حقها. قالا: إقامة الصفوف في الصلوات. قال: هو من تمام السنة. قالا: إنما بعثنا إليك. قال: بلغا ولا تهابا. قالا: ضع الحق بين الناس. قال: الله أمر به قبلكما. قالا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق إن لم تبتغوا بها باطلا. قالا: ائتمن الأمناء. قال: هم أعواني. قالا: احذر الخيانة. قال: السارق محذور، قالا: فالخمر ولحم الخنزير. قال: أهل الشرك أحق به. قالا: فمن دخل في الإسلام فقد أمن. قال: لولا الإسلام ما أمنا. قالا: أهل عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقتهم. قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 1، قالا: خرب الكنائس.   1 الآية 286 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 قال: هي من صلاح رعيتي. قالا: ذكرنا بالقرآن. قال: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} 1، قالا: تردنا على دواب البريد. قال: لا هو من مال الله لا نطيبه لكما. قالا: فليس معنا نفقة. قال: أنتما إذن إبنا سبيل علي نفقتكما2. 263/8- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا محمد بن سلمة، أنبانا خصيف، قال: قال عمر رضي الله عنه لغيلان: ألست تقر بالعلم؟ قال: بلى. قال: فما تريد مع أن الله عز وجل يقول: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 3. 264/9- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد يعني ابن سلمة، حدثنا أبو جعفر الخطمي، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك ياغيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم   1 الآية 281 من سورة البقرة. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص147 ولم أجد هذه المناظرة في مصدر آخر. 3 عبد الله في السنة 2/428- 429، وسيأتي تخريجه والآيات 160-161-162- من سورة الصافات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 أقل. قال: ما تقول في العلم؟ قال: قد نفذ العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت ويحك ياغيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت. وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر. ثم قال: تقرأ ياسين قال: نعم. قال: إقرأ يس والقرآن الحكيم: فقرأ يس والقرآن الحكيم إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 2، قال: قال عمر رحمه الله: قل: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني   1 الآيات من 1-7 من سورة يس. 2 الآيتان 8-9 من سورة يس. 3 الآيتان 9-10 من سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً قال: اذهب. فلما تولى قال: اللهم إن كان كاذبا فيما قال فأذقه حر السلاح ... 1. التعليق: يتبين من الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا الفصل نهيه عن المراء العقيم، وحثه وقيامه بالجدال بالتي هي أحسن. وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة وهو ما فهمه السلف الصالح من النصوص، فالجدال والمراء في حد ذاته قد يكون بحق، وقد يكون بغير حق، وقد يكون مرغبا فيه، وقد يكون منهيا عنه. فمن الأدلة على جواز الجدال بالحق قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2، وقوله عز وجل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 3. ومن الأدلة على الجدال الممنوع قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... } 4.   1 عبد الله في السنة 2/429، والآجري في الشريعة 1/438-439 وقال محقق كتاب الشريعة إسناده حسن. 2 الآية 46 من سورة العنكبوت. 3 الآية 125 من سورة النحل. 4 الآية 4 من سورة غافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 وعلى هذه النصوص النيرة تنزل الآثار الواردة عن عمر في منع الجدال والخصومة والقيام به، والحث عليه، فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحق وكان جدالا بغير علم كان مذموما منهيا عنه1. قال ابن عبد البر بعد ذكره مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج: "هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال، وهو القائل: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل، فلما اضطر وعرف الفلج في قوله ورجى أن يهدي الله به لزمه البيان وجادل وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله2. وعلى ضوء ما تقرر ذكره تحمل النصوص العامة في الكتاب والسنة وأقوال السلف في النهي عن الجدال مثل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} 3. وقال عز وجل: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 4.   1 انظر الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص235، والنووي على صحيح مسلم 6/167. 2 جامع بيان العلم وفضله 2/967. 3 سورة غافر آية 4. 4 سورة الشورى آية 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" 1. وفي صحيح الجامع قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"2. ومن أقوال السلف قول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: "أدركنا الناس وهم على الجملة يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون"3. وعن الإمام أحمد قال: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال في الدين4. فظهر من خلال ما سبق ذم الجدال والخصومات بوجه عام، إلا أنه مخصوص وليس على عمومه على الإطلاق، لأن الأمر قد جاء بإباحة   1 البخاري مع الفتح 8/88، رقم (4523) ، ومسلم 6/167، برقم (2668) . 2 الحديث رواه الترمذى 5/379 وقال هذا حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 5/252 وابن ماجة في المقدمة 1/19 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 1477، و5509. 3 ابن بطة: الإبانة الكبرى 2/529 تحقيق رضا نعسان معطى ط. دار الراية. 4 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 1/176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 بعض صور المجادلة والثناء عليها، وعلى أهلها في بعض النصوص من الكتاب والسنة وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز كما تقدم من نقل بعض الآثار عنه فمن نصوص القرآن التي تأمر بالجدال بالتي هي أحسن قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1. وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى عن بعض صور محاجة إبراهيم عليه السلام ومناظرته لقومه على سبيل التقرير له والثناء عليه بها كما في قوله جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 2. وورد في القرآن الكريم ذكر محاجة إبراهيم لأبيه وقومه كما في سورة الأنبياء3، ومحاجة موسى عليه السلام لفرعون كما في سورة الشعراء4، وغيرها، والآيات في قصص مناظرات أنبياء الله لأقوامهم ومحاجاتهم لهم   1 سورة النحل آية 125. 2 الآية 158 من سورة البقرة. 3 انظر الآيات 52-56، و63- 67 من سورة الأنبياء. 4 انظر الآيات 23-30 من سورة الشعراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 كثيرة. وفي السنة حديث محاجاة موسى لآدم الثابت في الصحيحين1 وقد وقعت المناظرات بين السلف أنفسهم في كثير من المسائل والأحكام كمناظرة علي وابن عباس للخوارج، ومناظرة الأوزاعي قدريا طلب المناظرة2، ومناظرة الإمام أحمد للجهمية3. والذي يتلخص من كلام أهل العلم في الفرق بين الجدال المأمور به والمنهي عنه أن الجدال المأمور به هو الذي يقصد به إثبات الحق أو دفع الباطل أو للتعليم والاستيضاح فيما يشكل على الإنسان من المسائل. وأما الجدال المذموم فهي ما كانت لرد الحق أو لنصرة الباطل أو كانت فيما نهى الله ورسوله عن المجادلة فيه، كالمجادلة في المتشابه وفي الحق بعد ما تبين أو كانت لحظ النفس كإظهار العلم والفطنة والذكاء مراءاة للناس وطلبا لثنائهم أو لغير ذلك من المقاصد المذمومة كالعناد والتعصب للرأي4.   1 البخاري مع الفتح 11/505 رقم 6614. 2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/794-795. 3 انظر الرد على الجهمية والزنادقة ص114-129. 4 انظر: موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع 2/603 تأليف الدكتور إبراهيم الرحيلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 والمهم أن الآثار المنقولة عن عمر بن عبد العزيز في النهي عن المراء والجدال والأخرى التي تفيد إباحته بل تصرح بجوازه وقيامه بمناظرة الخوارج والقدرية وغيرهم إنما هي في ضوء ما صرحت به نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف رحمهم الله تعالى. فقد كان عمر حاكما عالما عاملا بما علم فجمع بين النصوص وتوسط في الأمور كلها ومنع من الخصومات في الدين إذا كان ذلك يؤدي إلى نصرة الباطل وإظهاره في صورة تحببه إلى النفوس والقلوب وجادل بالعلم على بصيرة من أمره فلم يترك لمبطل سبيلا ولا لمؤوّل طريقا فجمع بين الحسنيين، وقد تبين من خلال الآثار المنقولة عنه أن الجدال والمراء ليس مذموما على الإطلاق، وإنما الممنوع منه ما تقدم بيانه، والمحمود منه ما قام به هو من مجادلة الخوارج وغيرهم كالشيعة والقدرية. وقد بين علماء السلف في مؤلفاتهم في القديم والحديث هذه المسألة واستوفوا الحجج ووجهوا ما استشكل من الأدلة مثل ما قام به ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله 1، والخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه2، وشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة والفتاوى وغيرها. ومن المعاصرين الشيخ الدكتور بكر أبو زيد في كتابه "الرد على   1 في باب إتيان المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة 2/953-974. 2 في باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة وإبطاله ص230-235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 المخالف"، والدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في كتابه "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" وغيرهم كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 الفصل الخامس: موقفه من الخوارج المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه ... تمهيد: قبل الدخول في ذكر الآثار عن عمر بن عبد العزيز في موقفه من الخوارج، أرى أنه من المناسب تعريف الخوارج وذكر أهم فرقهم وما ورد في ذمهم من الأحاديث ثم بعد ذلك ذكر الآثار عن عمر إن شاء الله تعالى. تعريف بالخوارج: اختلف العلماء في تعريف الخوارج فعرفهم أبو الحسن الأشعري تعريفا خاصا حيث بين أن اسم الخارجي يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين وأن ذلك هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم. فقال رحمه الله: "والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي بن أبي طالب لما حكم"1 وأما الشهرستاني فعرفهم تعريفا عاما فاعتبر الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجا في أي زمان فقال: "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان"2.   1 مقالات الإسلاميين 1/207 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. 2 الملل والنحل 1/114. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 وقال الحافظ ابن حجر معرفا الخوارج: والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرأوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة1. فالخوارج إذًا هم أولئك الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم ويلحق بهم كل من خرج على أئمة المسلمين الشرعيين، وكفرهم بالمعاصي. ولهم عدة ألقاب غير لقب الخوارج، كالحرورية، والشراة، والمارقة، والمحكمة، وهم يرضون بعض هذه الألقاب باعتبار ويرفضونها باعتبار آخر. وأما بداية انتشارهم وظهورهم فقد كانت بعد حصول الاتفاق على التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما سنة سبع وثلاثين كما حكى ذلك الطبري2 وغيره من المؤرخين. ومن أهم فرق الخوارج المحكمة الأولى الذين انفصلوا عن جيش علي رضي الله عنه وهم الذين أعلنوا شعار: لا حكم إلا لله. قال أبو الحسين الملطي واصفا ما بلغوا إليه من ظلم وإجرام، فأما الفرقة الأولى من الخوارج، فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم في الأسواق فيجتمع الناس في غفلة فينادون: لا حكم إلا لله، ويضعون سيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا   1 هدي الساري مقدمة البخاري مع الفتح ص459. 2 انظر الطبري تاريخ الأمم والملوك 5/57، وابن كثير البداية والنهاية 7/312. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 يزالون يقتلون حتى يقتلوا. وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع حتى يقتل أو يقتل فكان الناس منهم على وجل وفتنة1. ومن فرقهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق الحنفي. قال الأشعري: وهو أول من أحدث الخلاف بينهم2، ومن غرائب هذه الفرقة كونهم يرون قتل الأطفال لأن حكمهم حكم آبائهم بزعمهم متأولين قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 3. ومن فرقهم النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي ومن عقائدهم العذر بالجهل في الأحكام4، فمن استحل شيئا عن طريق الاجتهاد مما لعله محرم فمعذور5. ومن فرق الخوارج فيما يذكره علماء الفرق الإباضية ولهم وجود وامتداد إلى الآن في عمان وزنجبار، وفي المغرب الإسلامي، ومن فرق الخوارج الصفرية، وهم أتباع عبد الله بن صفار التميمي على الأرجح.   1 التنبيه والرد على أهل الأهواء ص62. 2 مقالات الإسلاميين 1/168. 3 الآية 27 من سورة نوح. 4 مقالات الإسلاميين 1/174- 175. 5 المصدر السابق 1/174- 175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 هذه هي أهم فرق الخوارج. قال الأشعري: وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة، والإباضية، والصفرية، والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية، والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية1. وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج المارقة وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل فمن هذه الأحاديث ما ورد في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم -أو حناجرهم- يمرقون من الدين مروق السهم من الرميَّة فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء"2. وفي الصحيح أيضا عن سهل بن حنيف قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية"3.   1 المصدر السابق 1/183. 2 البخاري مع الفتح 12/283، برقم (6931) ، ومسلم بشرح النووي 3/134، رقم (1065) . 3 البخاري مع الفتح 12/290، برقم (6932) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وروى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"1. ففي هذه الأحاديث الثلاثة وغيرها مما لم نذكره ذم واضح لفرقة الخوارج فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم طائفة مارقة وأنهم يبالغون في الصلاة وقراءة القرآن لكنهم لا يقومون بحقوق الإسلام بل يمرقون منه وأنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عند ما يقرؤون القرآن يظنونه لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم وهو عليهم2. هذا وكان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مواقف مشهورة وأقوال مأثورة في التعامل مع الخوارج ومناظرتهم ودحض شبههم بالحجة وآرائهم بالدليل وإيضاح الحق لهم بدليله حبا منه للسنة واتباعا للسلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.   1 البخاري مع الفتح 12/283، (6930) . 2 انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة للدكتور ناصر بن علي الشيخ 3/1181، ط. مكتبة الرشد الرياض الطبعة الثانية عام 1415هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 المبحث الأول: موقفه من خروج الخوارج عليه 265/1- ابن عبد البر قال: حدثنا نعيم، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير، حدثنا هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج: إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحدا، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا، وإن كان رأيهم القتال فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة1. 266/2- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ... ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا2. 267/3- ابن عبد الحكم أيضا قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج رسالة وفيها ... أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم   1 ابن عبد البر في التمهيد 23/336، وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75 مع بعض الاختلاف في اللفظ، وابن الجوزي سيرة عمر ص99، وقد تقدم. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة فإنه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1، فهذا النصح إن أحببتم وإن تستغشوني فقديما ما استغش الناصحون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته2. التعليق: يتبين من الآثار السابقة منهج عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج، فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، وإنما كتب إليهم وحذرهم من الخروج عن الجماعة الذين هم أهل الحق وقد أمر الله تبارك وتعالى بالاجتماع ونهى عن التفرق وأمر بلزوم الجماعة ونهى عن الخروج عنها وجعل إجماع هذه الأمة حجة فإذا اجتمعوا على أمير وجب طاعته وحرم الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية ولم يظهر كفرا بواحا، وحذر نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الأئمة وأمر بطاعتهم في المنشط والمكره في غير معصية الله تعالى. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآى من أميره شيئا يكرهه   1 الآية 83 من سورة القصص. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص75، وابن الجوزي سيرة عمر ص99-100 باختلاف ألفاظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية"1. وقد نهى السلف الصالح عن الخروج على أئمة الجور فقد سئل الحسن البصري عن قتال الحجاج بعد أن ذكروا له ظلمه وسفكه للدماء وأخذه للأموال. فقال: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين2. وخطب في الناس قائلا: "ياأيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع"3. والآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز هنا تبين منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارج الذين هم من أوائل الفرق ظهورا في الإسلام فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، ولم يرسل عليهم الحملة تلو الحملة. وإنما عاملهم معاملة أتاحت لهم الفرصة في الرجوع إلى الحق مستنا بسنن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في معاملة   1 البخاري مع الفتح 13/121، برقم (7143) . 2 ابن سعد الطبقات 7/120. 3 المصدر السابق 7/121. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الخوارج حين خرجوا عليه. وهذا التصرف من عمر رحمه الله تعالى هو ما تدل عليه الأحاديث الصحيحة روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"1. قال النووي في الحديث الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدراً2، وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا"3. قال الحافظ ابن حجر: "في الحديث دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتله وقتاله ... والوعيد المذكور لا يتناول من قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما"4.   1 صحيح مسلم بشرح النووي 4/550، رقم (1852) . 2 المصدر السابق 5/550. 3 البخاري مع الفتح 13/23، برقم (7070) . 4 انظر البخاري مع الفتح 13/24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 إذا فتصرف عمر رحمه الله إزاء الخوارج تصرف بالحق مستنده النصوص الصحيحة وأعمال سلف الأمة وبعد أن حذر الخوارج من الخروج عليه اتبع خطوة أخرى وهي طلب المناظرة والمحاججة حتى لا يضيع فرصة لحقن دماء المسلمين وهذا هو مضمون المبحث التالي إن شاء الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 المبحث الثاني: الآثار عن عمر في مناظرة الخوارج . ذكرنا فيما سبق موقف عمر من الخوارج الخارجين عليه عموما ويتبين من هذا المبحث موقفه من الذين كتبوا إليه وكتب إليهم طالبا المناظرة معهم، إذا كانوا مستعدين لذلك، وقد وجد من بعضهم آذانا صاغية حسب الروايات التي بلغتنا وفي هذا ما يرويه ابن عبد الحكم وغيره مما يأتي: 267/1- ابن عبد الحكم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى هذه العصابة، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله فإنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} 1. أمابعد: فقد بلغني كتابكم والذي كتبتم فيه إلى يحيى بن يحيى، وسليمان بن داود، والذي أتى إليهما وإن الله تبارك وتعالى يقول:   1 الآيتان 2-3 من سورة الطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2. وقال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} 3. وإني أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأدعوكم أن تدعوا ما كانت تهراق عليه الدماء قبل يومكم هذا في غير قوة ولا تشنيع. وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه ونحن ندعوكم إليهما. هذه نصيحة منا نصحنا لكم فإن تقبلوها فذلك بغيتنا، وإن تردوها على من جاء بها فقديما ما استغش الناصحون، ثم لم نر ذلك وضع شيئا من حق الله، وقد قال العبد الصالح لقومه: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ   1 الآية 7 من سورة الصف. 2 الآيتان 125 من سورة النحل. 3 الآية 35 من سورة محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} 1، وقال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2،3. 268/2- البلاذرى: قال كتب عمر كتابا إلى الخوارج فلما قرأوها قالوا: نوجه رجلين يكلمانه فان أجابنا فذاك وإن أبى كان الله من ورائه فأرسلوا مولى لبنى شيبان يقال له عاصم ورجلا من بنى يشكر من أنفسهم فلما دخلا عليه قالا: السلام عليكم وجلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ فقال عاصم وكان حبشيا: ما نقمنا عليك في سيرتك لتحري العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضى من المسلمين ومشورة أم ابتززتم إمرتهم؟ قال ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم على مشيئتهم وعهد إلي رجل عهدا لم أساله الله قط لا في سر ولا علانية فقمت به ولم ينكره علي أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فأنزلوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق وزغت عنه فلا طاعة لي   1 الآية 3 من سورة هود. 2 الآية 108 من سورة يوسف. 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص79-80. وابن الجوزي سيرة عمر ص99 ببعض اختلاف في اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 عليكم قالا: بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قال: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فابرأ منهم والعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق قال: فتكلم عمر عند ذلك فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغه علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبابكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلى. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء، وسبي الذراري، وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأؤن من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا آمنا، ولم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 عبد الله بن وهب الراسبي1 استعرضوا الناس فقتلوهم، وعرضوا لعبد الله ابن خباب2 صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حيا من العرب يقال لهم بنوا قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء، والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الأقط وهي تفور بهم قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحدا أم اثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبابكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة وأهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج، والأموال. ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن أهل فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحك إنكم قوم جهال. أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من   1 تقدم ترجمته أثر رقم 261. 2 تقدم ترجمته أثر رقم 261. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قالا: ما نحن كذلك. قال: بلى، تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الحبشي: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني برئ ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم1.   1 البلاذرى:كتاب جمل من أنساب الأشراف 8 /211 - 215 وانظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر ص112- 115 باختلاف ألفاظ، وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر فقد رواه بسندين له وقال محقق الكتاب حاكما على السندين بأنهما لا بأس بهما باختصار ألفاظ مما هنا 2/965-967. وقد أخرج الأثر أيضا المسعودي في مروج الذهب 2/175- 178، وابن الجوزي سيرة عمر ص98-99، وأبو حفص الملاَّء 2/500-503. وقد تقدم تخريج طرف منه برقم 261. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 269/3- ابن عبد الحكم قال: ودخل رجلان من الخوارج على عمر ابن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، قال: وعليكما السلام يا إنسانان. قالا: ... وقد تقدم برقم (262) . 270/4- ابن الجوزي قال: حدثنا أرطأة بن المنذر قال: سمعت أبا عون يقول: دخل ناس من الحرورية على عمر بن عبد العزيز فذاكروه شيئا، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي. فخرجوا على ذلك فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبداً1.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص81 ولم أجد هذه المحاورة في مصدر آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 271/5- ابن الجوزي أيضا قال: وعن الوليد بن مسلم قال: قال الأوزاعي: لما استخلف عمر بن عبد العزيز كتب إليه رجل من الشراة يقال له عمرو بأبيات: قل للمولى على الإسلام مؤتنفا ... وقد يرى أنه رث القوى واهي إذ رابه معشر عدوه مأكلة ... بنخوة الملك والإسراف والباه إنا شرينا بدين الله أنفسنا ... نبغي بذاك إليه أعظم الجاه ينهىالولاةبحدالسيف عن سرف ... كفى بذاك لهم عن زاجر ناهي وإن قصدت سبيل الحق يا عمرا ... آخاك في الله أمثالي وأشباهي وإن لحقت بقوم كنت واعظهم ... في جور سيرتهم فالحكم لله قال: فأجابه عمر بن عبد العزيز: ياأيها الرجل المهدي نصيحته ... إن المحاسن والتوفيق بالله إن كان أمر من السلطان تنكره ... فماعرى الدين والإسلام بالواهي هذا الكتاب كتاب الله نقرؤه ... مصدق الوحي فينا آمر ناهي فقد يزل الذي يبقى الهدى رهقا ... عند الشريعة وهو العالم الواهي الملك ياعمرو ملك الله خالقنا ... والحكم ياعمرو مردود إلى الله قال: فأتاه فبايعه ولم يخرج عليه1.   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص282-283، ولم أجد هذا الأبْيات في مصدر آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 272/6- ابن جرير الطبري قال: وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى1، أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب واسمه بِسطام من بني يشكر فكان مخرجه بجوخَى2 في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة. فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا صليبا حازما فوجهه إليهم، ووجه معه جندا. وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخْرجه، فقدم كتاب عمر عليه. وقد قدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه، ولا يهيجه فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني. فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك، فلم يحرك بسطام شيئا وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين   1 معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي مولاهم. صدوق إخباري وقد رمي برأي الخوارج. تقريب ص541. 2 جوخي -بضم والكسر وقد يفتح- اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد بالجانب الشرقي منه. انظر معجم البلدان 2/179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 يدارسانك ويناظرانك. قال أبو عبيدة: الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر مخدوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر -قال: فيقال: أرسل نفرا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين، فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أدَّيت الأمانة إلى من ائتمن قال: أنظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثا حتى مات1. 273/7- روى البلاذري فقال: كتب عمر إلى الخوارج فقال: إلى العصاة الذين خرجوا بزعمهم التماس الحق أما بعد: فإن الله تعالى لم يلبس على العباد أمورهم، ولم يتركهم سدى، ولم يجعلهم في عمياء، فبعث إليهم النذر، وأرسل إليهم الكتب، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وأنزل عليه كتابا حفيظا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قد علم ما تأتون وما تتقون فأوصيكم بتقوى الله وشكر نعمه والاعتصام بحبله والتوكل عليه فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا   1 ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري 5/555-556. وفي الأثر زيادات يشك في صحتها لكون أبي عبيدة يرى رأي الخوارج. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 ويرزقه. وقد بلغني كتابكم وما دعوتموني إليه ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام وقد خاب من دعى إلى الحق فلم يجب وذكرتم نعم الله على عباده وما أمرهم به من الطاعة فلله الحجة البالغة وسألتموني أن أحكم بالعدل وأقوم بالقسط وفي الحق مقنع وفوز نجاة لمن عمل به ولكل نبأ مستقر فلكم الذي سألتم وبالله التوفيق، وسألتموني رد من كان في صدر هذه الأمة من الأئمة إلا ما كان من حكم أبي بكر وعمر وعلي قبل الحكمين ومن كان بعدهم من الأئمة كانوا أقرب عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والله يشهد على أحكامهم ويعلمها، وسألتموني الإذن لكم في قدوم طائفة منكم علي فمن أحب ذلك فليقدم علي آمنا لا أحجبه ولا أبسط إليه يدا وأني أدعوكم إلى الله تعالى ورسوله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنابة إلى أمر الله تعالى فأذكركم أن لا تخالفوا أمر الله تعالى وكتابه وسنة نبيه فقد بين لكم الهدي وأراكم البينات، فاقبلوا أمر الله وإياكم والبدع، والغلو في الدين، والسؤال عما كفيتموه. فقد سبق فيه من الله تعالى ما قد سمعتموه من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 1، فهذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة فإن تقبلوا يقبل الله تعالى منكم وإن تعرضوا فإن الله أمامكم ومن ورائكم فمن   1 الآية 101 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 ذا يعجز الله وشر الدواب عند الله الصم، البكم، وقلتم لا حكم إلا لله، فالحكم لله العظيم، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1،2. التعليق: يتضح من الآثار السابقة مناظرات عمر بن عبد العزيز مع الخوارج، وقد سلك معهم في هذه المناظرات السابقة المسلك الصحيح الذي تبعه سلفنا الصالح كابن عباس، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيرهما من أئمة السلف حين ناظروا الخوارج3، وبينوا لهم شبههم التي تعلقوا بها، ويبدو من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز قد طمع في رجوع هؤلاء الخوارج وقد دحض شبههم التي يظنونها أدلة ولاشك " أن الخوارج إنما أتاهم الخطأ والغلط من سوء فهمهم للقرآن ومقصودهم اتباع القرآن ظاهرا وباطنا، ولكنهم كما قال عمر رحمه الله قوم جهال يردون من الناس ما قبله الرسول منهم، ويأمن عندهم الخائف الكافر، ويخاف عندهم   1 الآية 50 من سورة المائدة. 2 البلاذرى: كتاب جمل من أنساب الأشراف 8/212-215، والعيون والحدائق لمؤلف مجهول ص41-42 من خلافة الوليد بن عبد الملك إلى خلافة المعتصم "ط" مكتبة المثنى ببغداد. 3 انظر: مناظراتهم هذه في: البداية والنهاية 4/305-308، و 311-317. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 المؤمن، وقد بينوا في المناظرة ضيق أفقهم حيث أوجبوا لعن أهل الذنوب ثم حصروا الموالاة والمعاداة عليه، وقد دحض عمر هذه الشبهة، ثم بين لهم المنهج الصحيح الذي كان يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن فعل ذلك حقن دمه، وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين، ومن أبى ذلك جاهده؟ فهذا هو المنهج الصحيح في دعوة الناس إلى الإسلام، وليس اللعن، والبراءة لكل من ارتكب كبيرة سواء كان خطئا أو عمدا، ولذا اقتنع الحبشي وقال: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأنني بريء ممن خالفك. ويتبين من المناظرات بَيْن عمر والخوارج أنه لم يترك لهم شبهة إلا كسرها وبين زيفها، وكشف عوارها، ويبدو أن بعض الخوارج يحملون قلوبا عميا، وآذانا صما، ونفوسا شريرة، أبعدتهم عن الحق، وصدتهم عن الهدى، وظنوا أن ما معهم هو الحق، وتأولوا القرآن على ما تميله نفوسهم، وقد بذل عمر جهده في مناظرتهم. هذا وقد بين عمر رحمه الله تعالى في مناظرته للخوارج عدة سمات اتصفوا بها ومنها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 1- الجهل: قال عمر ويحكم إنكم قوم جهال، وهذه سمة للخوارج بلا شك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه عن الخوارج: "فهم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل"1. 2- ومن سماتهم تضليلهم لأئمة الهدى وجماعة المسلمين ولعل عمر يقصدهم بقوله سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله ... " قال شيخ الإسلام واصفا صفاتهم: "فهؤلاء أصل ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجيين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها2. 3- ومن علامات الخوارج التكفير بالمعاصي وإلحاق أهلها المسلمين بالكفار في الأحكام، والدار، والمعاملة، والقتال، واستحلال دماء المسلمين بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- ومن سماتهم قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان كما وصفهم بذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.   1 منهاج السنة 3/464. 2 الفتاوى 28/497. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 المبحث الثالث: الآثار عن عمر في الحكم على الخوارج رأينا فيما سبق موقفه من مناظرة الخوارج، وسيتبين مما يأتي موقفه من الحكم عليهم. وقد اتسم موقفه في المناظرة ببيان الحق بدليله مع إحساس العزة من نفسه من غير كبر. وقد حكم على الخوارج بعد ما يئس من رجوعهم إلى الحق، والانضمام إلى أهله، بعد ما استعمل كل ما عنده من وسيلة شرعية لإقناعهم وهذا ما سيتبين بالآثار التالية.   273/1- ابن الجوزي قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: بلغني أن ناسا من الحرورية جمعوا بناحية من الموصل فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أعلمه بذلك فكتب إلي يأمرني أن أرسل إلي منهم رجالا من أهل الجدل وأعطهم رهنا وخذ منهم رهنا واحملهم على مراكب البريد إلي. ففعلت ذلك، فقدموا عليه، فلم يدع لهم حجة إلا كسرها فقالوا لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم وتتبرأ منهم. فقال عمر: إن الله لم يجعلني لعانا، ولكن إن أبقى أنا وأنتم فسوف أحملكم وإياهم على المحجة البيضاء. فأبوا أن يقبلوا ذلك منه فقال لهم عمر: إنه لا يسعكم في دينكم إلا الصدق. منذ كم دنتم بهذا الدين؟ قالوا: منذ كذا وكذا سنة. قال: فهل لعنتم فرعون وتبرأتم منه. قالوا: لا. قال: فكيف وسعكم تركه؟ ألا يسعني ترك أهل بيتي وقد كان فيهم المحسن والمسيء، والمصيب، والمخطئ؟ قالوا: قد بلغنا ما هاهنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 فكتب إلي عمر: أن خذ من في أيديهم من رهنك، يعني ودع من في يدك من رهنهم، وإن كان رأي القوم أن يسيحوا في البلاد على غير فساد على أهل الذمة ولا تناول أحد من الأمة فليذهبوا حيث شاءوا، وإن هم تناولوا أحدا من المسلمين وأهل الذمة فحاكمهم إلى الله1. قال ابن الجوزي: وكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العصابة الذين خرجوا: أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإن الله يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... بِالْمُهْتَدِينَ} 2، وإني أذكركم الله أن تفعلوا كفعل كبرائكم {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 3   1 ابن الجوزي سيرة عمر ص98-99، وابن عبد البر في التمهيد 23/336. 2 الآية 125 من سورة النحل. 3 الآية 47 من سورة الأنفال وأولها (ولا تكونوا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 أفبذنبي تخرجون من دينكم وتسفكون الدماء وتنتهكون المحارم؟ ولو كانت ذنوب أبي بكر وعمر مخرجة رعيتهما من دينهم كانت لهما ذنوب، فقد كانت آباؤكم في جماعتهم، فلم ينزعوا فما ينزعكم على المسلمين، وأنتم بضعة وأربعون رجلا!! وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي فوليتم عما أدعوكم إليه من الحق لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة، فهذا النصح فإن استغششتموني فقديما ما استغش الناصحون. قال ابن الجوزي: فأبوا إلا القتال وحلقوا رؤوسهم، وساروا إلى يحيى ابن يحيى. فأتاهم كتاب عمر، ويحيى بن يحيى مواقعهم للقتال: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يحيى بن يحيى أما بعد: فإني ذكرت آية في كتاب الله {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1، وإن من العدوان قتل النساء، والصبيان، فلا تقتلن امرأة ولا صبيا، ولا تقتلن أسيرا، ولا تطلبن هاربا ولا تجهزن على جريح إن شاء الله2. 274/2- ابن سعد: قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: خرجت حرورية بالعراق في خلافة   1 الآية 190 من سورة البقرة، و87 من سورة المائدة. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص98- 100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 عمر بن عبد العزيز وأنا يومئذ بالعراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد عامل العراق، فلما انتهى أمرهم إلى عمر كتب إلى عبد الحميد يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلما أعذر في دعائهم كتب إليه أن قاتلهم فإن الله وله الحمد لم يجعل لهم سلفا يحتجون به علينا. فبعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فلما بلغ ذلك عمر بعث إليهم مسلمة بن عبد الملك من أهل الشام وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت إليك مسلمة ابن عبد الملك فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام فلم ينشبوا أن أظهره الله عليهم"1. 275/3- ابن سعد أيضا قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحميد بن عمران، عن عبد الله بن عتبة، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الخوارج الذين خرجوا عليه فكلمتهم فقلت: ما الذي تنقمون عليه؟ قالوا: ما ننقم عليه إلا أنه لا يلعن من كان قبله من أهل بيته، فهذه مداهنة منه. قال: فكف عمر عن قتالهم حتى أخذوا الأموال   1 ابن سعد الطبقات 5/358، وفي الأثر محمد بن عمر شيخ ابن سعد، وهو على سعة علمه متروك. انظر تقريب التهذيب ص498 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 وقطعوا السبيل فكتب إليه عبد الحميد بذلك فكتب إليه عمر: أما إذا أخذوا الأموال وأخافوا السبيل فقاتلهم فإنهم رجس1. 276/4- أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن عون بن عبد الله، قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يدعى الخوارج2. 277/5- أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني خازم بن حسين، قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في الخوارج، فإن أظفرك الله بهم وأدالك عليهم فرد ما أصبت من متاعهم إلى أهليهم3. 278/6- أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الملك بن محمد، عن أبي بكر بن حزم، عن المنذر بن عبيد، قال: حضرت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد: ومن أخذت من أسراء الخوارج فاحبسه حتى يحدث خيرا، قال: فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة4.   1 المصدر السابق 5/358، وفي الأثر أيضا محمد بن عمر متروك. 2 المصدر نفسه 5/358، في الأثر شيخ المصنف وكذا الأثرين التاليين. 3 المصدر نفسه 5/358. 4 المصدر نفسه 5/358. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 279/7- ابن أبي شيبة قال: حدثنا جرير، عن مغيرة1، قال: خاصم عمر بن عبد العزيز الخوارج فرجع من رجع منهم، وأبت طائفة أن يرجعوا فأرسل عمر رجلا على خيل وأمره أن ينزل حيث يرحلون ولا يحركهم ولا يهيجهم، فإن قتلوا وأفسدوا في الأرض فاسط عليهم وقاتلهم، وإن هم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض فدعهم يسيرون2. 280/8- ابن أبي شيبة أيضا قال: حدثنا حميد، عن حسن، عن أبيه، قال: أشهد أن كتاب عمر بن عبد العزيز قرئ علينا: إن سفكوا الدم الحرام وقطعوا السبيل فتبرأ في كتابه من الحرورية وأمر بقتالهم3؟ 281/9- الملطى قال: وقال مزاحم بن زفر: كنا بسمرقند وعليها محمد بن المهلب، فخرج علينا يوم الجمعة رجل حروري فضرب رجلا من بني عجل بالسيف فأخذ، فدعا محمد بن المهلب الضحاك بن مزاحم فسأله، فقال: أرى أن تحبسه حتى ينظر ما يصنع المضروب ثم تقصه منه. فحبسه وكاتب إلى يزيد المهلب، فكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك   1 مغيرة هو: مغيرة بن مقسم، إمام ثقة، روى عن جرير وغيره. انظر ميزان الاعتدال 4/165. 2 ابن أبى شيبة المصنف 8/735. 3 المصدر السابق 8/736. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 فوافق الكتاب موت سليمان بن عبد الملك واستخلاف عمر بن عبد العزيز، فعرض عليه الكتاب فكتب: أما بعد: فانظر الحروري فإن المضرب مات من ضربته فدعه لأوليائه يقتلونه، وإن كان بريئا فقصه منه، ثم احبسه محبسا قريبا من أهله حتى يموت من هواه الخبيث1. 282/10- الملطي أيضا: قال: قال حسان بن فروخ: سألني عمر بن عبد العزيز عما تقول الأزارقة فأخبرته فقال: ما يقولون في الرجم؟ فقلت يكفرون به فقال الله أكبر كفروا بالله وبرسوله2. التعليق: يظهر من خلال هذه الآثار السابقة حرص عمر بن عبد العزيز على حقن دماء المسلمين وحبه للتمسك بالكتاب والسنة وآثار السلف الصالح مستنيرا بما أخذوا به من السنة في معاملة الخوارج من مناظرة ومحاجة كما فعل أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فحين خرج عليه الخوارج أرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فناظرهم ورجع منهم طائفة ثم بين لهم بأن لا يسفكوا دما وأن لا يخيفوا آمنا فما استفادوا من ذلك   1 الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص193- 194.وأبو حفص الملاء 1/313. 2 نفس المصدر ص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 فسفكوا الدماء وخوَّفوا الآمنين فعند ذلك حاربهم1، وهذا ما فعله عمر ابن عبد العزيز فقد تبع هذا المنهج الذي سار عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما بالغ في الإعذار والإنذار قدر الاستطاعة وهدى الله تعالى من أراد له الهداية لم يتوان عن محاربتهم لأنهم رجس. والآثار التي حذر فيها الخوارج من الخروج على الأئمة توقف الناس أمام الحق الذي يراه عمر وهو أنه ليس لكل أحد أن يقول في كتاب الله بما يريد ادعاء بالحكم بكتاب الله - وهي صفة للخوارج والمنحرفين الذين يدعون الأخذ بكتاب الله ويخالفون ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده - بل يعتبر عمر هنا أن الأخذ بتلك السنن هو الاعتصام بكتاب الله وهو القوة على دين الله وأنه لا يسوغ لأحد تبديلها وتغييرها أو النظر في أمر خالفها ... 2. فعمر سيأخذ بالسنن التي أمر بها الكتاب والسنة وعمل بها الخلفاء الراشدون ليقطع بهذا لكل من تسول له نفسه الخروج عن هذه السنن سواء كان من الخوارج الجهلة الذين ضلوا الطريق أو غيرهم. فاجتهد رحمه الله أن يرد الخوارج إلى الحق والصواب بالحجة والإقناع لعلمه بأنه لا يحل دم امرئ مسلم بغير حق. فما تخرج عليه فرقة من فرق   1 انظر العقد الفريد 4/383. 2 انظر قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز ص115- 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 الخوارج حتى يكتب إلى ولاته الكتب محذرا فيها من البدء بالعدوان وأن لا يحركوهم حتى يسفكوا دما ويفسدوا في الأرض، كما يكتب إلى الخوارج أيضا ليرسلوا إليه من يناظره ويجادله ويناقشه في الوصول إلى الحق، فلما أعذرهم وتبين للناس ضيق أفقهم في الجدال وتعصبهم المقيت، وأبوا إلا القتال وحلقوا رؤوسهم وتمادوا ومع ذلك فلم يأمر بقتالهم إلا بعد أن سفكوا الدم وأخذوا الأموال وقطعوا السبيل، فحينذاك أمر بقتالهم، ولكنه مع ذلك لا ينسى أنهم مسلمون، وإن كانوا معتدين، فيكتب إلى واليه بحكم البغاة أن لا يقتل أسيرا ولا يجهز على جريح ولا يقتل النساء والصبيان. وهذه هي سنة رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معاملة الخوارج. روى البيهقي في معرفة السنن والآثار عن الشافعي قال: بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بينا هو يخطب إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد لا حكم إلا لله. فقال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث. لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بالقتال1.   1 معرفة السنن والآثار للبيهقي 6/287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 وزاد الحافظ ابن حجر في الفتح: ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا1. وروى البيهقي أن عليا رضي الله عنه كان لا يأخذ سلبا وإن كان يباشر القتال بنفسه وأنه كان لا يجهز على جريح، ولا يقتل مدبرا، وأمر أصحابه بأن لا يتبعوا مدبرا، ولا يحهزوا على جريح، ولا يغنموا مالا، وذلك لأن أموالهم لا تغنم، لأن الله تعالى إنما جعل الغنيمة في أموال الكافرين ولم يجعلها في أموال المصلين ولا يحل مال المسلم إلا بطيب نفس منه لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"2. وهذا هو الذي فعله عمر مع الخوارج كما سبق رسمه في الآثار. هذا, ولعل الحكم على الخوارج يختلف باختلاف جرمهم وشناعة أقوالهم فمن أنكر منهم شيئا معلوما من الدين بالضرورة كالأزارقة الذين أنكروا الرجم فقد أثر عن عمر تكفيرهم. هذا وللعلماء قولان بالنسبة للحكم على الخوارج: 1- أنهم كفار. 2- أنهم فساق مبتدعون بغاة.   1 البخاري مع الفتح 12/284. 2 معرفة السنن والآثار 6/282. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة التي تصفهم بأوصاف تصدق على بعض فرقهم كإنكارهم بعض الأمور المعروفة من الدين بالضرورة فلذا كفر عمر بن عبد العزيز الأزارقة حين أنكروا الرجم ووصف من خرج عن طريقة السلف بالدخول في النار. أما الذين فسقوهم فاستندوا على أن الحكم بالكفر على أحد غير هين لكثرة النصوص التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من تكفيره بعد إقامة الحجة عليه، وهذا ما نلاحظه عند عمر بن عبد العزيز في تعامله معهم حيث لم يعاملهم معاملة الكفار كما سبق نقله عنه. ولاشك أن الصحيح في ذلك أن يقال في حق كل فرقة ما تستحقه من الحكم حسب قربها أو بعدها عن الدين وهذا ما فعله عمر رحمه الله تعالى فلم يطلق على الخوارج حكما حتى ناقشهم وجادلهم وبين لهم الحق ولم يكفرهم إلا بعد صدور أقوال الكفر منهم رحمه الله رحمة واسعة. والخلاصة: أن موقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من الخوارج كان قويا وحازما مع الحرص على تطبيق السنة كما كان يناظرهم ويعلمهم، ويقاتلهم إذا حدث منهم قتال أو بغى أو قطعوا السبيل. وتعرضوا لمصالح المسلمين كما سبق بيانه في الآثار. ورغم شدته وموقفه من الخوارج، وقتاله إياهم إلا أنه لا يكفرهم إلا إذا أنكروا أمرًا معلوما من الدين بالضرورة كإنكار الرجم وهذا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 موقف السلف الصالح جميعا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالا للأمة وتكفيرا لها ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين ... "1.   1 الفتاوى 7/217-218. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 الفصل السادس: موقفه من الشيعة تمهيد: كلمة الشيعة في اللغة يراد بها: الاتباع، والأنصار، والأعوان، والخاصة1. وفي الاصطلاح هو اسم لكل من فضل عليًّا على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعا ورأى أن أهل بيته أحق بالخلافة2. وقد ظهر الشيعة بعد معركة صفين حين انشق الخوارج وتحزبوا في النهروان فظهر في مقابلهم اتباع وأنصار علي رضي الله عنه حيث بدأت فكرة التشيع تشتد شيئاً فشيئًا. وللشيعة أسماء عدة كالرافضة والزيدية إضافة إلى الاسم العلم لهم، الشيعة. هذا بغض النظر عن صدق هذا الاسم عليهم أو عدم صدقه لأنه لا تأثير للأسماء في الحقيقة والواقع. والشيعة فرق عديدة منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدعونه ويدعون التشيع، ومنهم دون ذلك ومؤسس مذهبهم هذا هو عبد الله بن سبأ كان يهوديا من اليمن فادعى الإسلام. وأهم فرقهم هي: الكيسانية، والسبئية، والزيدية، والرافضة.   1 انظر تهذيب اللغة 3/61، وتاج العروس 5/405. 2 انظر مقالات الإسلاميين ص/65 والملل والنحل 144 - 145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 والأخيرة هذه - هي الواجهة البارزة في عصرنا الحاضر للتشيع، ومن الطبيعي جدا أن يحصل الخلاف بين الشيعة شأنهم شأن بقية الفرق أهل الأهواء فما داموا قد خرجوا عن النهج الذي ارتضاه الله لعباده، واستندوا إلى عقولهم وأهوائهم فلا بد أن نتوقع الخلاف خصوصا حينما يكون الخلاف مرادا لذاته. وقد علم عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فرق الشيعة - كما سيأتي - وقام بزجرهم بخطبه ورسائله محذرا عن الفرقة، والخروج عما كان عليه الصحابة وآمرا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الجماعة، وترك الابتداع في الدين الذي هو أبرز سمات شعار فرقة الشيعة الرافضة إلى أن أتاه أجله فرحمه الله رحمة واسعة. 283/1- الذهبي قال: قال الزبير بن بكار: قال عمر بن عبد العزيز: إني لأعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كُثَير1، فمن أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبيا يؤمن بالرجعة2.   1 هو أبو صخر كثير بن عبد الرحمن الخزاعي من فحول الشعراء كان شيعيا خشبيا يقول بالتناسخ ويؤمن بالرجعة تيم بعزة وشبب بها توفى سنة 107 انظر سير أعلام النبلاء /5/152. 2 الذهبي تاريخ الإسلام 7/229، تحقيق الدكتور عبد السلام تدمري ط. دار الكتاب العربي، والأغاني ج 9 / 19 وابن عساكر 50/109-110.والخشبية اسم لفرقة من الشيعة سموا بذلك لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب. انظر منهاج السنة ج 1/36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 284/2- ابن عبد ربه في العقد الفريد: قال أتى عمر بن عبد العزيز كتاب من عامله على الكوفة يخبره بسوء طاعة أهلها فوقع عليها عمر "لا تطلب طاعة من خذل عليا رضى الله عنه وكان إماما مرضيا"1. 285/3- قال الأزدي: قرأت في التاريخ، أن عمر بن عبد العزيز قال: قد ناظرت الناس وكلمتهم وإني لأحب أن أكلم الشيعة فشخص إليه أبو جعفر محمد بن علي ومعه زرارة بن أعين2، فقال: أخبرني عن مقعدك هذا الذي قعدته أبإرث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فبوصية منه. قال: لا. فبإجماع من المسلمين أو لأحد ولاية منك. قال: لا. فلما نهض أبو جعفر قال له زرارة ما تقول فيه، قال: هو خير ممن كان قبله وفلان خير منه3.   1 ابن عبد ربه في العقد الفريد /4 /198 وانظر: ابن عساكر تاريخ دمشق ج 4/56-66. 2 زرارة بن أعين: اسمه عبد ربه وزرارة لقبه وهو شيباني كوفي يترفض قال سفيان الثوري: لم ير أبا جعفر وقيل روى عنه مات سنة 150 انظر: الضعفاء الكبير للعقيلي/2/96-97 ولسان الميزان2 /551. 3 الأزدي: تاريخ الموصل ص5. تحقيق د. علي حبيبة القاهرة 1387هـ ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر ثقة فاضل. تقريب 497 مات سنة بضع عشرة. وذكر ابن عساكر أن عمر بن عبد العزيز أوفده إليه حين تولى الخلافة يستشيره في بعض أموره انظر: ابن عساكر تاريخ دمشق54 /268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 286/4- ابن عبد البر قال: حدثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن الفضل، نا محمد بن جرير، نا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثني عبد الله ابن يوسف، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن طلحة بن أشعث، قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال: أقرئهم ولا تستقرئهم وحدثهم ولا تسمع منهم، وعلمهم ولا تتعلم منهم1. 287/5- الدارمي قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، قال: قال عمر بن عبد العزيز إذا رأيت قوما ينتاجون بأمر دون عامتهم فهم على تأسيس الضلالة2. التعليق: إن مما أنعم الله به على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بُعد النظر، والإصابة في القول، فأقواله رحمه الله تعالى تنم عن هبة خصه الله بها، فقوله إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة، يُعتبر قاعدة تدلنا على أخص سمة يتميز بها أهل الأهواء والبدع، وهي التناجي في أمور الدين بخفية، والخروج عن جماعة المسلمين الذين هم سلف هذه الأمة. وقد حاز الشيعة قصب السبق في هذا الجانب حيث وجد عندهم من البدع ما لم يوجد عند غيرهم من الفرق المنتسبة   1 ابن عبد البر: جامع بيان العلم 2/1097، وقال المحقق: إسناده ضعيف. 2 الدارمي في السنن 1/91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 إلى الإسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء - يشير إلى الروافض - جمعوا هذه الثلاثة1 وزادوا عليها فإنهم خارجون عن الطاعة يقتلون المؤمن، والمعاهد، ولا يرون لأحد من ولاة المسلمين طاعة، سواء كان عدلاً أو فاسقاً إلا لمن لا وجود له وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب، وهي العصبية للدين الفاسد فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين من أولياء الله مستقدمهم ومستأخرهم وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر ... وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها، بل أعظم أصولهم عند التكفير، واللعن، والسب لخيار ولاة الأمور كالخلفاء الراشدين، والعلماء المسلمين، ومشايخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن بالله ورسوله2. ولكون الشيعة يؤمنون بالإمام المعصوم وبأن عليًّا رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص نراهم عندما ناظروا عمر بن عبد العزيز - إن صحت ثبوت تلك المناظرة - أصروا على مبادئهم وهي الإشارة بأن الولاية لا   1 يشير إلى ما سيأتي رحمه الله. 2 الفتاوى 28/487- 489. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 تنال إلا بإرث من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بوصية منه، أو بإجماع المسلمين. وهذه الدعاوي كلها من اختلاق وافتراء عبد الله بن سبأ اليهودي. قال أبو الحسن الأشعري في المقالات: وأجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه باسمه، وأظهر ذلك، وأعلنه. وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وأنها قرابة، وأنه جائز للإمام في حال التقية أن يقول إنه ليس بإمام وأبطلوا جميعا الاجتهاد في الأحكام، وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس. وزعموا أن عليا رضوان الله عليه كان مصيبا في جميع أحواله، وأنه لم يخطئ في شيء من أمور الدين إلا الكاملية أصحاب أبي كامل فإنهم أكفروا الناس بترك الاقتداء به وأكفروا عليّا بترك الطلب ... "1. وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعرف معتقدات هذه الفرقة الضالة، التي تكتم عقيدتها بالتقية، حيث تتظاهر بأنها تنقاد للأئمة وتؤدي الواجبات في الظاهر، بينما تعتقد في الباطن خلاف ذلك ومن العجيب أن يوجد بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن من يرى أن هناك من يرجع من الأموات قبل يوم القيامة كما هو معتقد فرقة من فرق الغلاة الشيعة الذين يرون أنه لا يجوز القتال بالسيوف وغيرها من الأسلحة الفتاكة إلا مع   1 انظر المقالات 1/89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 وجود الإمام المعصوم. أما في حال غيبته فيقتصرون على القتال بالخشب فقط. ومن خلال أفراد هذه الفرقة عرف عمر بن عبد العزيز أن من تحبه من بني هاشم فهو فاسد لأن أفرادها وعوامها لا يحبون إلا من يوافقهم في ضلالاتهم وأهوائهم، وأما من تكرهه من بني هاشم فهو صالح لأنه لا يمكن للمسلم العاقل أن يعتقد مثل هذه الاعتقادات الباطلة، وقد بين الأشعري رحمه الله أن هذا المعتقد كان يقول به عبد الله بن سبأ مؤسس معتقد الغلاة فقال رحمه الله الصنف الرابع عشر من أصناف الغالية وهم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وذكروا عنه أنه قال لعلي رضي الله تعالى عنه: أنت أنت! والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا ... "1. ومعرفة عمر بن عبد العزيز بعقيدة كُثيرِّ الشاعر يؤيدها ما يروى أن كثيرا عزة له أبيات يثبت فيها عقيدته الفاسدة في الغلو في أهل البيت مثل قوله: 1- ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء 2- علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء 3- فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء.   1 المصدر السابق 1/92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 4- وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء 5- تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء1 ومثل قوله: 1- إلا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما 2- أضر بمعشر والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما. 3- وعادوا فيك أهل الأرض طرا ... مقامك عندهم ستين عاما 4- وما ذاق ابن خولة طعم موت ... ولا وارت له أرض عظاما 5- لقد أمسى بمجرى شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكلاما 6- وإن له لرزقا كل يوم ... وأشربة يعل بها الطعاما قال الذهبي - رحمه الله - قال الزبير بن بكار عن كُثير: كان شيعيا يقول بتناسخ الأرواح ويقرأ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 3 قال: وكان خشبيا يؤمن بالرجعة، يعني رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا4. ولم يهتم عمر رحمه الله تعالى بالرد على ما كان يراه كُثَير وغيره من الشيعة كما اهتم بالرد على القدرية والخوارج لأن القول بالرجعة لا يقر   1 الفرق بين الفرق ص28، وديوانه ص18-19.وابن عساكر54 /322. 2 الفرق بين الفرق ص29، وديوانه ص254، وقيل إن الأبيات للسيد الحميري. انظر الأغاني 8/30. 3 سورة الانفطار الآية 8. 4 تاريخ الإسلام 7/227. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 به جميع العقلاء، ويؤمن المسلمون برجعة واحدة تكون في يوم القيامة حين يجمع الخالق الخلائق لفصل القضاء كما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة فلتفاهة هذا القول ولكون العقل السليم يمج مثل هذه الترهات ولدلالة الكتاب والسنة على بطلان هذه الدعوى، لم يهتم عمر رحمه الله تعالى بالرد على هؤلاء. قال تعالى ردا على من تمنى الرجعة إلى الدنيا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 1، ومدلول هذه الآية هو اعتقاد جميع المسلمين ولم يقل بخلاف هذا أحد لا سلف الأمة ولا أحد من أهل البيت الذين يزعم الشيعة أنهم له تبع. وقد ورد في السنة المطهرة ما يوضح معنى هذه الآية ويوضح صراحة أنه لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت: فعن طلحة بن خراش قال: سمعت جابرا يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جابر، ما لي أراك منكسرا؟ " فقلت: يارسول الله استشهد أبي قتل يوم أحد، وترك عيالا ودينا، قال: "أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ " قال: قلت بلى يارسول الله. قال: "ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك وكلمه كفافا2 فقال:   1 الآية 99- 100 المؤمنون. 2 أي مواجهة بغير حجاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 ياعبدي تمن علي أعطك، قال: يارب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون"1، فالحديث صريح في منع القول بوقوع الرجعة فضلا عن أن تكون عقيدة إسلامية يجب اعتقادها. وكذلك لم يرد على كثير كونه خشبيا والسبب في هذه التسمية أن هذه الفرقة كما قيل كانوا يقاتلون بالخشب ولا يجيزون القتال بالسيف وغيره إلا تحت راية إمام معصوم من آل البيت كما سبق بيانه2. هذا وللمخالطة والمجالسة تأثير قوي يعرفه كل عاقل وقد كان في زمان عمر شيعة وهم كذبة أصحاب خرافة ودجل كما رأينا فيما سبق فلم ير عمر أن يؤخذ عنهم العلم ويتلمذ عليهم خوفا من تأثير بدعتهم وتمويههم على من تتلمذ عندهم وإنما أمر أن يفتح عليهم ما يكرهونه من العلم الصحيح المبني على الكتاب والسنة حرصا منه على هداية هذه الفرقة الضالة وقطعا للعذر عليهم وقياما بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله فرحمه الله رحمة واسعة. مع سعة معرفته بمبادئ الشيعة الضالة التي كانت منتشرة في عهده وقبل عهده ولهذا كان رحمه الله يعالج هذا الجانب ما استطاع إليه سبيلا. مثله مثل غيره من علماء السلف في ذلك الوقت.   1 رواه الترمذى 5 /230 -231 وقال حسن غريب من هذا الوجه وابن ماجة في المقدمة 1 /68 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/38. 2 الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4/ 185. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 الفصل السابع: موقفه من القدرية المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك ... تمهيد: مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون. وهم متفقون على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده، ووعيده، الذي نطق به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله بل لله الحجة البالغة على عباده. وهم متفقون أيضا على أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله1. فليست مشيئتهم مستقلة بل مقيدة بمشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا تشَاؤُونَ إلاَّ أَن يَّشَاءَ اللهُ} . وقد انحرف عن هذا المذهب السليم والمعتقد الصحيح القدرية والجبرية، وقد عاصر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى القدرية الغلاة فسلك معهم منهج الكتاب والسنة فناظرهم وكتب إليهم مبينا لهم المذهب الصحيح بتأن وروية، واستدلال بآي الكتاب العزيز فجاءت الآثار الواردة عنه نبراسا مضيئا لمن يريد اتباع السلف الصالح، وهذه الآثار الواردة عنه تعتبر مناظرة وردا على القدرية بأصنافها2، وعلى الجبرية كذلك. والمكذبون بالقدر يعتمدون على شبه واهية، وبعضهم لم يعلم الحقيقة من خبث هذا المذهب الفاسد، وقد كان بدايتهم منذ عهد أواخر   1 انظر مجموع الفتاوى 8/449- 450، و458- 459. 2 قسم شيخ الإسلام ابن تيمية القدرية إلى ثلاثة أصناف: أ- قدرية إبليسية، ب- قدرية مشركة، ج- قدرية مجوسية. انظر التدمرية ص91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 الصحابة رضي الله عنهم، فتبرأ منهم ابن عمر وغيره من الصحابة، وقد امتد بقاؤهم إلى عهد عمر بن عبد العزيز وكانوا بداية المعتزلة ومن أشهر هؤلاء المكذبين بالقدر غيلان بن مسلم الدمشقي كان أصله قبطيا فأسلم أجداده وكانوا من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه1، وكان غيلان قدريا مرجئا جامعا بين السيئتين كتب إلى عمر بن عبد العزيز رسالة كما ذكر صاحب المنية والأمل2 وستأتي، فولاّه عمر دار الضرب بدمشق واستمر فيها إلى أن عرف عمر بمذهبه فناداه وحبسه، وناظره فتاب ثم ناداه فناظره فتاب وهكذا تكررت المناظرات بينهما إلى أن أوصى عمر إلى أمراء أجناده بتنفيذ حكم الله فيه، ولكن توفي عمر قبل أن تصل هذه الوصية إليهم كما ناظر عمر غيره ممن وفد عليه كما سيأتي بيانه خلال الآثار القادمة، وقد كان غيلان من بلغاء الكتاب، وقد نافق عمر حين ناظره - ولعله لم يستطع أن يتخلص من سلطان عقائده الموروثة فقد كان القبط من أهل الكتاب النصارى، وكان النصارى مختلفين في القدر فمنهم من كان يرى أن الإنسان حر مختار في عمله، ومنهم فئة جبرية، ترى أن كل   1 انظر المنية والأمل ص15. 2 المصدر السابق ص15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 شيء مقدور على الإنسان حتى في أعماله الاختيارية1، ولعل عمر يقصد غيلان وغيره بقوله: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا". وقد أورد اللالكائي بسنده عن الأوزاعي أن أول من نطق في القدر سَوْسَنْ بالعراق كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد، وأخذ غيلان القدري عن معبد2. وكان غيلان متلوِّناً في دينه متهماً فيه، فقد روى ابن عساكر عن يحيى بن مسلم قال: أتيت بيت المقدس للصلاة فيه فلقيت رجلا فقال: هل لك في إخوان لك؟ قلت: نعم. قال فبت الليلة، فإذا أصبحت لقيتك، فلما أصبح لقيني فقال: هل رأيت الليلة في منامك شيئاً. قلت: لا، إلا خيرا، قال: فصنع بي ذلك ثلاث ليال ثم قال: انطلق فانطلقت معه حتى أدخلني سربا فيه غيلان والحارث الكذاب في أصحاب له ورجل يقول لغيلان: يا أبا مروان ما فعلت الصحيفة التي كنا نقرأها بالأمس. قال: عرج بها إلى السماء، فأحكمت ثم أهبطت. فقلت: إنا لله   1 انظر: القضاء والقدر لأبي الوفاء محمد درويش ص10. ط. دار القاسم ط. الأولى عام 1416هـ. 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/827. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 ما كنت أرى أني أبقى حتى أسمع بهذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم1 وفيما يلي الآثار الواردة عن عمر في الرد على القدرية ومنهجه في ذلك. 288/1- الآجري: قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: أخبرنا علي بن ثابت، عن عمر بن ذر، قال: "جلسنا إلى عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه فتكلم منا متكلم فعظم الله عز وجل وذكر بآياته فلما فرغ تكلم عمر بن عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه وشهد شهادة الحق، وقال للمتكلم: إن الله عز وجل كما ذكرت وعظمت ولكن الله عز وجل لو أراد أن لا يعصى ما خلق إبليس وقد بين ذلك في آية من القرآن علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2، قال: ومعنا رجل يرى رأي القدرية، فنفعه الله عز وجل بقول عمر بن عبد العزيز ورجع عما كان يقول فكان أشد الناس بعد ذلك على القدرية3.   1 انظر تاريخ دمشق 48/191. 2 الآيات 161- 163 من سورة الصافات. 3 الآجرى في الشريعة 1/442، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده لا بأس به ورواه ابن بطة في الإبانة 2/238، والملطى: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص181 والفريابى في القدر مخطوط ورقة "أ" 55.وابن عساكر45/14-15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 289/2- الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا ابن إدريس، عن عمر بن ذرّ قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز خمسة، موسى بن أبي كثير، ودثار النهدي، ويزيد الفقير، والصلب بن بهرام، وعمر بن ذر، فقال إن كان أمركم واحدا فليتكلم متكلمكم، فتكلم موسى بن أبي كثير وكان أخوف ما يتخوف عليه أن يكون عرض بشيء من أمر القدر. قال: فعرض له عمر بن عبد العزيز فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: لو أراد الله عز وجل أن لا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله عز وجل علمه من علمه وجهله من جهله ثم تلا هذه الآية {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1، ثم: لو أراد الله عز وجل حمل خلقه من حقه على قدر عظمته لم يطق ذلك أرض ولا سماء لا ماء ولا جبل ولكنه رضي من عباده بالتخفيف2. 287 /3- ابن جرير الطبري قال: حدثنا بن حميد ثنا يعقوب عن جعفر عن العشرة الذين دخلوا على عمر بن عبد العزيز وكانوا متكلمين   1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات. 2 الآجري في الشريعة 1/441- 442، وقال المحقق: إسناده صحيح، والفريابى في القدر ورقة ب54.وابن عساكر ج 15/45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 كلهم ثم إن عمر بن عبد العزيز تكلم بشيء فظننا أنه تكلم بشيء رد به ما كان في أيدينا فقال لنا هل تعرفون تفسير هذه الآية؟ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1 قال: إنكم والآلهة التي تعبدونها لستم با لذي تفتنون عليها إلا من قضيت عليه أنه يصلى الجحيم2. 288/4 - الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الحمصي قال: حدثنا محمد بن حمير عن محمد بن مهاجر، عن أخيه عمرو بن مهاجر، قال: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان بن مسلم يقول في القدر فبعث إليه فحجبه أياما ثم أدخله عليه فقال: غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه أن لا يقول شيئا، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 3، قال: إقرأ   1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات. 2 ابن جرير في التفسير 23 /70. 3 الآيات 1-3 من سورة الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما} 1، ثم قال: ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالا فهديتني ... "2. 289/5- اللالكائي قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: ثنا أحمد بن محمد بن زياد، قال: ثنا عبد الله بن روح، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا حيان ابن عبيد الله التميمي، عن أبيه، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقد أدخل عليه غيلان. فقال ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك. ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك، أيا غيلان أحقا ما أبلغ عنك؟ فسكت. فقال: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن هات فأسكت قليلا. فقال عمر: ويحك فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس.   1 الآيات 30-31 من سورة الإنسان. 2 الآجري في الشريعة 1/438، والفريابى في القدر ورقة أ/51، وابن بطة في الإبانة 2/236، وابن عساكر في تاريخ دمشق 48/196، وقال محقق كتاب الشريعة: رجاله ثقات وهو صحيح أو حسن. انظر الشريعة 1/438 الحاشية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 فتكلم بلسان ذلق فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل ولم يكلف نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، ولم يكلف المسافر صلاة المقيم، ولم يكلف الله المريض عمل الصحيح، ولم يكلف الفقير مثل صدقة الغني، ولم يكلف الناس إلا ما جعل إليه السبيل، وأعطاهم المشيئة فقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} 1، وقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2. فلما فرغ من كلام كثير قال له في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3. أنت تزعم يا غيلان - ذكر كلاما كثيرا سقط من الكتاب -.   1 الآية 29 سورة الكهف. 2 الآية 40 سورة فصلت. 3 الآيات من 1-10 من سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 فأسكت غيلان لا يجيبه. وجعل عمر يسأله وغيلان يرفع بصره إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة وانتفخت أوداجه1. فقال: ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان؟ فقال غيلان: استغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين ادع الله لي بالمغفرة. فقال: اللهم إن كان عبدك صادقا فوفقه وسدده وإن كان كاذبا أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن أنصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به2.   1 الأوداج: عروق تكتنف الحلقوم. اللسان 2/397. 2 اللالكائى: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/791-792. وهذا الأثر مما تفرد به اللالكائي. والحسن بن عثمان بن بكر بن جابر، أبو محمد العطار كان ثقة صالحا دينا. انظر تاريخ بغداد 7/365. وأحمد بن محمد بن زياد بن أيوب أبو علي وثقه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ، ومحمد بن الحسين بن بكير. انظر تاريخ بغداد 5/9-10، وعبد الله روح بن عبد الله سمع شبابة بن سوار قال الدارقطني لا بأس به. انظر تاريخ بغداد 9/454ن وشبابة بن سوار الفزاري أبو عمرو ثقة كان يرى الإرجاء وقيل رجع عنه. انظر تاريخ بغداد 9/295- 299ن وحيان بن عبد الله التميمي يحتمل أنه حيان بن عبيد الله بن زهير أبو زهير العدوي. قال البخاري روى عن أبيه وعنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم "وهما دون شبابة في الحفظ قال أبو حاتم صدوق وذكره ابن حبان في الثقات انظر التاريخ الكبير 3/58، والجرح والتعديل 3/246، والثقات 6/230، وأبوه لم أهتد إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 290/6- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن عمرو الليثي أن الزهري حدثه قال: "دعا عمر بن عبد العزيز غيلان فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر، فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال يا غيلان، إقرأ أول "يس" فقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1، فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول فقال عمر: اللهم إن كان صادقا فثبته وإن كان كاذبا فاجعله آية للمؤمنين"2. 291/7- الفريابي: قال: حدثنا جعفر، نا هشام بن عمار، ثنا معاوية ابن يحيى، ثنا عمرو بن مهاجر، قال استأذن غيلان على عمر بن عبد العزيز فأذن له فقال ويحك يا غيلان ما الذي بلغني عنك إنك تقول. قال:   1 الآيات 1-10 سورة يس. 2 الآجري في الشريعة 1/439، والفريابي في القدر ورقة أ/51، وابن بطة في الإبانة 2/235، وتاريخ ابن عساكر 48/197 و 198، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 إنما أقول بقول الله {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ... وَإِمَّا كَفُوراً} 1 فقال عمر أتم السورة، ويحك أما تسمع الله يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ويحك يا غيلان أما تعلم أن الله قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك ... الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2، فقال غيلان: يا أمير المؤمنين لقد جئتك جاهلا فعلمتني وأعمى فبصرتني، وضالا فهديتني. فقال: اخرج فلا يبلغني أنك تتكلم في شيء من هذا3. 292/9- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي محمد بن يوسف قال: حدثنا عبد الرحمن بن خلف قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن أبي جعفر، عن محمد بن كعب أو غيره، أن عمر بن عبد العزيز قيل له: "إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا فقال: يا غيلان: ما تقول في القدر فتعوذ   1 الآيات 1-3 من سورة الإنسان. 2 الآيات 30-32 من سورة البقرة. 3 الفريابى في القدر ورقة ب/56، والمطبوع ص198، وحسن إسناده المحقق. وتاريخ ابن عساكر 48/194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ... إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 1. قال: فقال عمر: القول فيه طويل عريض ما تقول في العلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن، قال: "أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك"2. 293/10- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا مؤمل، نا حماد - يعني ابن سلمة - حدثنا أبو جعفر الحظمي، قال شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك ياغيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم أقل. قال: ما تقول في العلم. قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت، وإنك أن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ثم قال تقرأ يس؟ قال: نعم. فقال: إقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} فقرأ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا   1 الآيات 1- 3 من سورة الإنسان. 2 ابن بطة في الإبانة 2/236-237، وتاريخ ابن عساكر 48/194، ولم يتبين الراوي عن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 يُؤْمِنُونَ} قال: قف، كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين، قال: زد فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1، قال كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط وإني لأعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا. قال: اذهب ... "2. 294 /11- عبد الله بن الإمام أحمد أيضا قال: حدثني أبي، نا محمد ابن سلمة، أنبأنا خصيف، قال: قال عمر رحمه الله لغيلان ألست تقر بالعلم؟ قال: بلى. قال: فما تريد مع أن الله عز وجل يقول: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 3،4.   1 الآيات من 1-10 سورة يس. 2 عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/429، والفريابي في القدر ورقة أ/51، والملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص177- 178، وتاريخ ابن عساكر 48/208. 3 الآيتان من 161- 163 سورة الصافات. 4 عبد الله في السنة 2/428-429 والفريابي في القدر ورقة ب/58، وقال محقق كتاب السنة في سنده خصيف بن عبد الرحمن صدوق سيئ الحفظ. انظر تقريب التهذيب ص193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 295/12- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الهيثم بن عمران، قال: سمعت عمرو بن مهاجر، قال: أقبل غيلان وهو مولى لآل عثمان وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز فبلغه أنهما ينطقان بالقدر فدعاهما فقال: أعلم الله نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ ياأمير المؤمنين. قال: ففيم الكلام؟ فخرجا فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد1 أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟ قال عمرو: فأومأت إليهما برأسي: قولا نعم، فقال: نعم. فأمر بإخراجهما وبالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما قالا فمات عمر رحمه الله قبل أن ينفذ تلك الكتب2. 296/12- ابن عبد البر قال: ورُوي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري: إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدر، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمر فطالب نفسك من حيث يطالب ربك. والسلام3.   1 في الشريعة "قد اشرق" والتصحيح من كتاب القدر للفريابي. 2 الآجري في الشريعة 1/443، والفريابي في القدر ورقة ب/56. 3 ابن عبد البر في التمهيد 18/18، وابن بطال في شرح البخاري ج 10 ص 301-302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 297-13- ابن سعد قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال حدثني الحارث بن عبيد قال حدثنا مطر الوراق عن رجاء بن حيوة قال: قال عمر بن عبد العزيز لمكحول إياك أن تقول في القدر ما يقول هؤلاء يعنى غيلان وأصحابه.1. 298/14- ابن بطة قال حدثني أبو صالح قال حدثنا أبوا لأحوص قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد يا أمير المؤمنين فهل رأيت عليما حكيما أمر قوما بشيء ثم حال بينهم وبينه ويعذبهم عليه قال: فكتب إليه عمر أما بعد: فهل رأيت قادرا قاهرا يعلم ما يكون خلف لنفسه عدوا وهو يقدر على هلاكه قال: فبطلت الرسالة الأولى. 2. 299/15- عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال حوثرة وحدثنا حماد بن سلمة عن أبى جعفر الخطمي قال قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا فمر به فقال: أخبرني عن العلم؟ فقال سبحان الله قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وإلى ما هي صائرة فقال   1 ابن سعد في الطبقات 5/386. 2 ابن بطة فىالإبانة2/279 رقم1911. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 عمر بن عبد العزيز: والذي نفسي بيده لو قلت غير هذا لضربت عنقك اذهب الآن فاجهد جهدك،1. 300/16- أبو نعيم قال: حدثنا أبي، وأبو محمد بن حيان، قالا: ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا موسى بن عامر، ثنا الوليد بن مسلم، قال: قال عبد الله بن العلاء: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب في الجمع بخطبة واحدة يرددها، يفتتحها بسبع كلمات: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ... ". وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ثم يوصي بتقوى الله ويتكلم، ثم يختم خطبته الأخيرة بقراءة هؤلاء الآيات {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِم ... } 2 إلى تمام العشر. قال عبد الله بن العلاء: لم يدع قراءة ذلك مدة مقامي قبله"3.   1 عبد الله في السنة 2 /386. 2 الآية 53 من سورة الزمر. 3 أبو نعيم في الحلية 5/302، وأبو حفص الملاء 2/449، وابن الجوزي سيرة عمر ص249. وإبراهيم بن محمد الحسن البخاري روى عن أبيه روى عنه خالد بن أحمد أبو الهيثم البخاري لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح ولا تعديل: انظر الجرح والتعديل 2/130. وموسى بن عامر المري أبو عامر الدمشقي صاحب الوليد بن مسلم صدوق صحيح الكتب. انظر ميزان الاعتدال 4/209. وعبد الله بن العلاء بن زبر أبو زبر الشامي الدمشقي روى عن عمر بن عبد العزيز، قال عنه يحيى بن معين: ليس به بأس. انظر الجرح والتعديل 5/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 301/ 17- الفريابي قال: ثنا أبو مروان عبد الملك بن حبيب المصيصي، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا وكان في أول ما كتب: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة1. 302-/18 - عبد الرزاق في المصنف قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: إن   1 الفريابي في القدر ورقة ب66، ومن طريقه اللالكائي في السنة 2/752، وعبد الملك بن حبيب المصيصي أبو مروان البزار مقبول مات في حدود الأربعين. تقريب التهذيب ص362. وأبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحارث ... الإمام ثقة حافظ له تصانيف مات سنة خمس وثمانين وقيل بعدها. تقريب ص92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلى بها1. 303/19- الآجري قال: حدثنا أبو شعيب عبد الله بن حسن الحراني، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروى، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الوليد، قال: خرج عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة فخطب كما كان يخطب ثم قال: أيها الناس من عمل منكم خيرا فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله، فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم2. 304/20 الفريابي قال: ثنا محمد بن مصغي، ثنا بقية، ثنا المسعودي، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز بلغه عن رجل له سرق3 أنه قارف السرقة. قال: فقال عمر: من خلقه الله لأمر فهو أهل لما خلقه الله له"4.   1 عبد الرزاق في المصنف 11/122، واللالكائي 2/753، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 2/425، وصحح إسناده محقق كتاب السنة. 2 الآجري في الشريعة 1/441، وابن بطة في الإبانة 2/237، وابن عساكر 1/32، وقال محقق كتاب الشريعة إسناده محتمل للتقوية. 3 هكذا في المخطوطة ولعله زيادة. 4 الفريابي في القدر ورقة أ69. ومحمد بن مصغى بن بهلول الحمصي القرشي صدوق له أوهام، وكان يدلس مات سنة أربع وأربعين. تقريب ص507. وبقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو محمد، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء مات سنة سبع وتسعين. انظر تقريب التهذيب ص126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 305/21- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا أبو المنذر عنبسة بن يحيى المروزي ... حدثنا أبو داود الحفري عن أبي رجاء قال: كتب عامل لعمر بن عبد العزيز إليه يسأله عن القدر فكتب، أما بعد: ... وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ... "1. التعليق: إن القول بالقدر بدعة حدثت في أواخر عهد الصحابة كما تقدم في التمهيد، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى له مواقف مشرقة في بيان المعتقد الصحيح في مسألة الإيمان بالقدر، وجهود عظيمة وحرص شديد في رد بدع القائلين بالقدر. والآثار التي مر نقلها تدل على سيرته مع القدرية، وتبين أنه حين تولى الخلافة جاءته وفود كثيرة تهنئه وتخطب أمامه، وقد عَرَّض رجل من ضمن هؤلاء في خطبته بشيء من القول بالقدر، فبين له عمر بأن لله سبحانه وتعالى إرادتان هما:   1 الآجري في الشريعة 1/445. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 1- إرادة كونية قدرية لا تتخلف ومثالها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 1 فقال عمر: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس ثم استشهد بالآيات {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2 وهذه الإرادة ترادف المشيئة. 2- وإرادة دينية شرعية ومثالها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ... } 4 ثم بين لهم عمر أن هذا الذي ذكره موجود في القرآن الكريم علمه من علمه وجهله من جهله، والعذر بالجهل مع قيام الحجة ووضوحه لا يفيد من يتمسك به، والتكاليف التي فرضها الله على العباد خفيفة عليهم لأن الله لو كلف خلقه على قدر عظمته لم يطق ذلك سماء ولا أرض ولا ماء ولا جبل، ولكنه خفف عنهم ورضي بذلك فرضاه بمعنى الإرادة   1 الآية 16 من سورة الإسراء. 2 الآيات من 161- 163 من سورة الصافات. 3 الآية 185 من سورة البقرة. 4 الآية 125 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 الدينية التي يدل عليها قول الحق تبارك وتعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1. فدين الله يسر لا عسر فيه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهذا الذي أثر عن عمر رحمه الله هو الحق الذي دل عليه الكتاب وسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإرادة على نوعين: أحدهما: الإرادة الكونية، الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجا} 2، وقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم} 3، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 4، وقال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} 5   1 الآية 185 من سورة البقرة. 2 الآية 125 من سورة الأنعام. 3 الآية 34 من سورة هود. 4 الآية 253 من سورة البقرة. 5 الآية 39 من سورة الكهف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وأمثال ذلك وهذه الإرادة مدلول اللام في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 1. قال السلف: خلق فريقا للاختلاف، وفريقا للرحمة، ولما كانت الرحمة هنا الإرادة. وهناك إرادة كونية وقع المراد بها فقوم اختلفوا وقوم رحموا. وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية: وهي محبة المراد ورضاه، ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاؤهم بالحسنى كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 3، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ   1 الآية 119 من سورة هود. 2 الآية 185 من سورة البقرة. 3 الآية 6 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} 1. فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة ... 2. فحينما بين عمر لهؤلاء الحق الذي يدل عليه القرآن نفع الله به ذلك الرجل الذي كان يرى رأي القدرية وتاب من هذه البدعة وأصبح شديدا على من يقول بالقدر، وقد ناظر عمر غيلان الذي اشتهر بالقول بالقدر كما في الآثار السابقة. وقبل ذكر المناظرات التي جرت بين غيلان القدري وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نشير إلى أن غيلان كان قد كتب إلى عمر رسالة رواها صاحب المنية والأمل نوردها هنا ليتضح مدى جهود عمر في الرد على القدرية، ولنظهر مضمون ما كان يدعو إليه غيلان الضال. قال صاحب المنية والأمل: ... كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز كتابا قال فيه: "أبصرت يا عمر وما كدت ونظرت وما كدت أعلم يا عمر أنك أدركت من الإسلام خلقاً باليا ورسْمًا عافيا، فيا ميت بين الأموات لا ترى أثرا فتتبع ولا تسمع صوتا فتنتفع طفا أمر السنة وظهرت البدعة أخيف العالم فلا يتكلم ولا يعطى الجاهل فيسأل. وربما نجت الأمة بالإمام وربما هلكت بالإمام فانظر أي الإمامين أنت فإنه تعالى يقول: {وَ   1 الآيات 26- 28 من سورة النساء. 2 الفتاوى 8/188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} 1. فهذا إمام هدى ومن اتبعه شريكان وأما الآخر فقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} 2، ولن تجد داعيا يقول تعالوا إلى النار إذًا لا يتبعه أحد ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله فهل وجدت ياعمر حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه أم هل وجدت رشيدا يدعو إلى الهدى ثم يضل عنه، أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة أو يعذبهم على الطاعة، أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم، وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم كفى ببيان هذا بيانا وبالعمى عنه عمى ... " في كلام كثير 3. وهذه الرسالة من غيلان إلى عمر تبين الأفكار التي كان يقول بها القدرية وهي باختصار كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:   1 الآية 73 من سورة الأنبياء. 2 الآية 41 من سورة القصص. 3 المنية والأمل ص15-16 وهو شرح كتاب الملل والنحل لأحمد بن يحيى المرتضى اعتنى بتصحيحه توماارنلد طبعة دار صادر بيروت ومطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن سنة 1316هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 "وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين الله وأمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد. وكانوا يقولون: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة وهو تعالى لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد"1. ويبدو أن غيلان قد أصر على أفكاره الخاطئة، وقد ناظره عمر واستتابه فيما كان يذهب إليه من القول بالقدر عدة مرات، والنصوص التي بين أيدينا لا تفيدنا الترتيب الزمني على وجه الدقة واليقين، وذلك لاختلافها في الألفاظ والمدلولات، ولعل عمر لما سمع وتأكد من إنكار غيلان القدر، حجبه وحبسه في السجن أياما، ثم أمر بإدخاله عليه ليرى ما موقفه مما نسب إليه، فاستفسره بقوله: "غيلان ما هذا الذي بلغني عنك، وكان صاحب حرس عمر يعلم ما يكنه غيلان من القول بالقدر، فأشار عليه بأن لا يقول شيئا ولكنه أصر على القول بما كان يدعو إليه فقال   1 مجموع الفتاوى 13/36- 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 بكل جرأة: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ... } الآيات مستدلا بها على أن الإنسان هو الذي إذا شاء اهتدى وإذا شاء ضل، فألجمه عمر جوابا بقوله إقرأ آخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1. وبعد هذا الجواب المفحم، والحجة الدامغة، لا مفر لغيلان إلا النفاق، وإظهار التوبة والإصرار على القول بالقدر، فقال له عمر ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالا فهديتني، وكأن عمر يحس بأن هذه الكلمات المعسولة لا تنم عن الواقع بشيء فعلق على عبارات غيلان بقوله: اللهم إن كان عبدك صادقا وإلا فاصلبه2. ولكن لم ينته غيلان عن قوله، ولعل المعاملة الحسنة التي لقيها من عمر شجعته على القول بالقدر فيدخل على عمر مرة أخرى فيوبخه عمر بقوله ويحك ياغيلان أراني أبلغ عنك ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك، أيا غيلان   1 الآيتان 30- 31 من سورة الإنسان. 2 انظر الشريعة ص209. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 أحقا ما أبلغ عنك؟ قال الراوي فسكت لأنه كان يعرف ما حصل له في المرة السابقة ولكن عمر رحمه الله يطمئنه حبا له في الهداية والاستقامة فقال له: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن، هات. فأسكت غيلان قليلا ثم رد ما كان قد كتبه إلى عمر سابقا من أن الله لا يوصف إلا بالعدل ولا يكلف نفسا إلا وسعها وإلا ما آتاها وأن العباد لهم مشيئة مستقلة لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} 1،ولأن الله يقول: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} 2، فتركه عمر حتى انتهى ثم أمره بقراءة بداية سورة يس الآيات التي تبين مشيئة الله وقدرته النافذة وأن كل شيء لا يخرج عن قدرته وإرادته ومشيئته حتى وصل إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3، وبعد قراءة هذه الآيات التي تدل على أن الله هو الهادي وهو المضل إذا شاء وليس للعباد مشيئة مستقلة خارجة عن مشيئة الله.. ولا شك أن الحق يزهق الباطل فيسكت غيلان بخبث ولكن عمر يلح عليه لإظهار   1 الآية 29 من سورة الكهف. 2 الآية 40 من سورة فصلت. 3 الآيات 1-10 من سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 الحجة قائلا: "ياغيلان ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك الأمان وانتهت هذه الجلسة بإظهار التوبة من غيلان ولكنه لا ينتهي عن القول بالقدر فيدعوه عمر موبخا ومنذرا فيتظاهر بالتوبة ثم يدعوه مرة أخرى فيسأله بقوله ما تقول في العلم. فيجيب غيلان: قد نفذ العلم. فيحذره عمر بقوله: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت، ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر. وفي مرض موته يكتب إلى أمراء الأجناد بخلاف ما أقربه غيلان عنده ولكن تلك الكتب لم تنفذ حتى مات رحمه الله رحمة واسعة. ويتبين من الآثار السابقة أيضاً منهج عمر بن عبد العزيز في الرد على القدرية وذلك بسؤالهم عن علم الله فإذا أقروا به خصموا وإن حجدوه كفروا. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وقد قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا فقد كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه"1. ولعل عمر بن عبد العزيز أول من نهج هذا النهج في سؤال القدرية عن العلم، ثم صار هذا المنهج منهجا لأهل السنة والجماعة بعده وقد استدل رحمه الله في ردوده على غيلان بآيات صريحة في الرد على المكذبين بالقدر وهي قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 2. قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآيات يقول تعالى: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي بمضلين أحدا إلا من سبق في علمي أنه صال الجحيم3. وقد بيّن عمر رحمه الله في خطبه ورسائله أن الله تبارك وتعالى هو الهادي وهو المضل. وهذا ما جاء في الكتاب العزيز. قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. وغيرها من الآيات وقد كانت القدرية تنكر أن يكون الله تعالى هو الهادي وهو الفاتن وإنما العبد   1 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص30. 2 الآيات 161-163 من سورة الصافات. 3 جامع البيان للطبري 23/109. 4 الآية 39 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 هو الذي يهدي نفسه إذا شاء ويضلها إذا شاء فلعل رسائل عمر وخطبه في الجمع من الردود على هؤلاء المبتدعة، وسواء قصدهم عمر بخطبه أو ألقاها بدون قصد الرد عليهم تبقى ردوداً قوية على كل من انحرف في باب القدر عن منهج الكتاب والسنة، وذلك أن تحقيق الحق إبطال للباطل فإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وقد بين عمر أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى مقدرة له مكتوبة على عباده وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ... "2. وقد كانت القدرية تقول إن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يكتبها في اللوح المحفوظ، وإن الأمر أنف أي مستأنف لم يعلمه الله قبل وقوعه فرد عليهم عمر بما سبق سطره مما أثر عنه حيث بين لعامله ولرعيته أن أعمال العباد مخلوقة مقدرة مكتوبة عليهم وهي من الابتلاء على العباد، فمن حاد عن ذلك وزعم أن أعماله خارجة عن مشيئة الله غير مقدرة له فقد ضل عن الرشد، وتاه عن السبيل. وقد بين عمر أيضا أن العبد إذا أذنب فعليه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يحتج على الله بالقدر ولا يقول أي ذنب لي وقد قدر علي هذا   1 الآية 96 من سورة الصافات. 2 رواه مسلم برقم 2655. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 الذنب، بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره، ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه1. كما رد عمر على القدرية القائلين بأن العبد له مشيئة مستقلة يستطيع بها رد علم الله فبين أن العبد له قدرة ومشيئة، ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى ومن المهم هنا أن نذكر أن ردود عمر على القدرية ردود على الجبرية كذلك، وذلك ببيانه أن الإيمان بالقدر يجعل الإنسان متوسطا في أموره فلا يزعم أن أموره كلها بيده ولا يجعلها كلها مسلوبة عنه فهو يطلب ويهرب، ويعبد، ويدعو، وهو بالقدر موقن.   1 انظر مجموع الفتاوى 8/237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 المبحث الثاني: رد عمر على القدرية في رسالته المشهورة 309/1- قال أبو نعيم الحافظ حدثنا أبو حامد بن جبلة1، ثنا محمد ابن إسحاق السراج2، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام3، ثنا محمد بن بكر البرساني4، ثنا سليم بن نفيع القرشي5، عن خلف أبي الفضل القرشي6، عن كتاب عمر بن عبد العزيز إلى النفر الذين كتبوا إلي بما لم يكن لهم بحق في رد كتاب الله تعالى وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه   1 أبو حامد هو أحمد بن محمد عبد الله بن جبلة سمع منه أبو نعيم فأكثر وهو نيسابوري توفي عام 374هـ وقد سمع من السراج، وابن خزيمة وطبقتهم. انظر: التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة 1/157 ط. دار الحديث. وتاريخ الإسلام للذهبي 26/552. 2 والسراج هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي مولاهم ثقة ثبت توفي 313هـ انظر تاريخ بغداد 1/252. 3 أبو الأشعث هو أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي، ثقة توفي عام 253 هـ. تاريخ بغداد 5/162- 166. 4 هو محمد بكر البرساني البصري وثقه يحيى بن معين مات عام 203هـ. انظر تاريخ بغداد 2/92- 93. 5 سليم بن نفيع القرشي لم أجده بعد طول بحث. 6 خلف أبي الفضل القرشي قال الذهبي في المقتنى في سرد الكنى عنه: سليم بن نفيع انظر المقتنى 2/14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 السابق الذي لا حد له إلا إليه، وليس لشيء منه مخرج، وطعنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته. أما بعد: فإنكم كتبتم إلي بما كنتم تسترون منه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من التكذيب بالقدر وقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وسيقبض العلم قبضا سريعا1، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو يعظ الناس -: "إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، قد تبينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، فمن رغب عن أنباء النبوة، وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى، ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى"2.   1 أخرج هذا الأثر اللالكائي عن الزهري: بلغنا عن رجال من أهل العلم انهم كانوا يقولون: ... انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/106، رقم الأثر 136- و137 ورقم 15 ص62 منه. 2 ذكر هذا الأثر الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه تحت عنوان باب تعظيم السنن والحث على التمسك بها والتسليم لها والانقياد إليها وترك الاعتراض عنها بسنده عن الأوزاعي أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: ... انظر الفقيه والمتفقه 1/148 وانظر السنة لمحمد بن نصر المر وز ي ص31 فقد ذكر هذا الأثر معزوا إلى عمر بن عبد العزيز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 وإنكم ذكرتم أنه بلغكم أني أقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، فأنكرتم ذلك علي وقلتم: إنه ليس يكون ذلك من الله في علم حتى يكون ذاك من الخلق عملا، فكيف ذلك كما قلتم؟ والله تعالى يقول: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 1، يعني عائدين في الكفر، وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2، فزعمتم بجهلكم في قول الله تعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 3، أن المشيئة في أي ذلك أحببتم فعلتم من ضلالة أو هدى. والله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، فبمشيئة الله لهم شاءوا ولو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئا قولا ولا عملا، لأن الله لم يملك العباد ما بيده، ولم يفوض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدي الناس جميعا، فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعا فما ضل منهم إلا من كان في علم الله   1 الآية 15 من سورة الدخان. 2 الآية 28 من سورة الأنعام. 3 الآية 29 من سورة الكهف. 4 الآية 29 من سورة التكوير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 ضالا. وزعمتم بجهلكم أن علم الله ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي صدهم عما تركوه من طاعته ولكنه بزعمكم كما علم الله أنهم سيعملون بمعصيته كذلك علم أنهم سيستطيعون تركها فجعلتم علم الله لغوا، تقولون لو شاء العبد لعمل بطاعة الله وإن كان في علم الله أنه غير عامل بها، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم الله أنه غير تارك لها، فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علما، وإن شئتم رددتموه وكان جهلا، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علما ليس في علم الله وقطعتم به علم الله عنكم، وهذا ما كان ابن عباس يعده للتوحيد نقضا وكان يقول: إن الله لم يجعل فضله ورحمته هملا بغير قسم منه ولا اختيار، ولم يبعث رسله بإبطال ما كان في سابق علمه1. فأنتم تقرون في العلم بأمر وتنقضونه في آخر والله تعالى يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 2، فالخلق   1 قول ابن عباس رضي الله عنهما أورده اللالكائي بسنده عن الزهري، عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها. انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/742 رقم الأثر 1224، وانظر: السنة لعبد الله 2/422. 2 الآية 255 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 صائرون إلى علم الله تعالى ونازلون عليه وليس بينه شيء هو كائن حجاب تحجبه عنه ولا يحول دونه إنه عليم حكيم. وقلتم لو شاء الله لم يفرض بعمل بغير ما أخبر الله في كتابه عن قوم ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وأنه قال: { ... سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1، فأخبر أنهم عاملون قبل أن يعملوا، وأخبر أنه معذبهم قبل أن يخلقوا. وتقولون أنتم: إنهم لو شاءوا خرجوا من علم الله في عذابه إلى ما لم يعلم من رحمته لهم، ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب الله برد، ولقد سمى الله تعالى رجالا من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه فما استطاع آباؤهم لتلك الأسماء تغييرا، وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلا، فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} 2.   1 الآية 48 من سورة هود، ونص الآية: {سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفي آية أخرى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} لقمان آية رقم 24. 2 الآيتان 44- 45 من سورة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحدا1 إبطال علمه في شيء من ذلك، فهو مسمى لهم بوحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو أن يشرك في خلقه أحدا، أو يدخل في رحمته من قد أخرجه منها أو يخرج منها من قد أدخله فيها، ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليما وعلى كل شيء شهيدا، قبل أن يخلق شيئا، وبعد ما خلق لم ينقص علمه في بدئهم، ولم يزد بعد أعمالهم، ولا بجوائحه2 التي قطع بها دابر ظلمهم ولا يملك إبليس هدي نفسه ولا ضلالة غيره، وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم الله في خلقه وإهمال عبادته وكتاب الله قائم ينقض بدعتكم وإفراط قذفكم، ولقد علمتم أن الله بعث رسوله والناس يومئذ أهل شرك فمن أراد الله له الهدى لم تَحُلْ ضلالته التي كان فيها دون إرادة الله له، ومن لم يرد الله له الهدى تركه في الكفر ضالا، فكانت ضلالته أولى به من هداه فزعمتم أن الله أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية وأن الله خلو من أن يكون يختص أحدا برحمته، ويحجز أحدا عن معصيته، وزعمتم أن الشيء الذي بقدر إنما هو عندكم اليسر والرخاء، والنعمة، وأخرجتم منه   1 هكذا في المخطوط والمطبوع، ولعله: أحدٌ. 2 تصحيح من المخطوط وفي المطبوعة بحوائجه وهو خطأ. انظر: 5/348 الحلية، والجوائح: المصائب.\ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 الأعمال وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وأنكم الذين هديتم أنفسكم من دون الله. وأنكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من الله ولا إذن منه. فمن زعم ذلك فقد غلا في القول لأنه لو كان شيء لم يسبق في علم الله وقدره لكان لله في ملكه شريك ينفذ مشيئته في الخلق من دون الله والله سبحانه وتعالى يقول: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1، وهم له قبل ذلك كارهون {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 2، وهم له قبل ذلك محبون، وما كانوا على شيء من ذلك لأنفسهم بقادرين ثم أخبر بما سبق لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه والمغفرة له ولأصحابه فقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 3، وقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} 4، فلولا علمه ما   1 الآية 7 من سورة الحجرات وذكر السيوطي في الإكليل في استنباط التنزيل أن ابن أبي حاتم ذكر هذه الآية بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه احتج بها في الرد على القدرية. انظر: الإكليل ص241 ط. دار الكتب العلمية الطبعة الثانية عام 1405هـ. وقد راجعت تفسير ابن أبي حاتم المطبوع فلم أجد ما ذكره السيوطي. 2 الآية 7 من سورة الحجرات. 3 الآية 29 من سورة الفتح. 4 الآية 2 من سورة الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 غفرها الله له قبل أن يعملها، وفضلا سبق لهم من الله قبل أن يخلقوا ورضوانا عنهم قبل أن يؤمنوا، ثم أخبر بما هم عاملون آمنون قبل أن يعملوا وقال: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} 1، فتقولون أنتم إنهم قد كانوا ملكوا رد ما أخبر الله عنهم أنهم عاملون، وأن إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله: فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولا، ولا يكون لوحي الله فيما اختار تصديقا، بل لله الحجة البالغة. وفي قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2، فسبق لهم العفو من الله فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم وقلتم: لو شاءوا خرجوا من علم الله في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا فمن زعم ذلك فقد غلا وكذب، ولقد ذكر الله بشرا كثيرا، وهم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} 3، وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ   1 الآية 29 من سورة الفتح. 2 الآية 68 من سورة الأنفال. 3 الآية 3 من سورة الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} 1، فسبقت لهم الرحمة من الله قبل أن يخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا لهم، ولقد علم العالمون بالله أن الله لا يشاء أمرا فتَحُول مشيئة غيره دون بلاغ ما شاء. ولقد شاء لقوم الهدى فلم يُضِلّهم أحد. وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا وقال لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2، وموسى في سابق علمه أنه يكون لفرعون عدوا وحزنا فقال تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 3، فتقولون أنتم لو شاء فرعون كان لموسى وليا وناصرا والله تعالى يقول: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 4، وقلتم لو شاء فرعون لامتنع من الغرق والله تعالى يقول: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} 5، مثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين، كما   1 الآية 10 من سورة الحشر. 2 الآية 43-44 من سورة طه. 3 الآية 6 من سورة القصص. 4 الآية 8 من سورة القصص. 5 الآية 24 من سورة الدخان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 1، فصار إلى ذلك بالمعصية التي ابتلى بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون مذموما مدحورا وصار إلى ذلك لما ابتلي به من السجود لآدم فتلقى آدم التوبة فرحم، وتلقى إبليس اللعنة فغوى ثم أهبط آدم إلى ما خلق له من الأرض مرحوما متوبا عليه وأهبط إبليس بنظرته مدحورا مذموما مسخوطا عليه، وقلتم أنتم أن إبليس وأولياءه من الجن قد كانوا ملكوا رد علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 2، حتى لا ينفذ علم إلا بعد مشيئتهم فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في رد علم الله؟؟؟ فإن الله عز وجل لم يشهدكم خلق أنفسكم فكيف يحيط جهلكم بعلمه، وعلم الله ليس بمقصر عن شيء هو كائن، ولا يسبق علمه في شيء فيقدر أحد على رده، فلو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شيء إلى شيء هو كائن لكانت مواقعكم عنده، ولقد علمت الملائكة قبل خلق آدم ما هو كائن من العباد في الأرض من الفساد وسفك الدماء، فيها وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء. وما قالوا تخرصا   1 الآية 30 من سورة البقرة. 2 الآية 84- 85 من سورة ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 إلا بتعليم الحكيم لهم، فظن ذلك منهم وقد أنطقهم به فأنكرتم أن الله أزاغ قوما قبل أن يزيغوا وأضل قوما قبل أن يضلوا وهذا فيما لا يشك فيه المؤمنون بالله أن الله قد عرف قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم، وبرهم من فاجرهم، وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافرا أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمنا والله تعالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1، فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبدا إلا بإذن الله ثم آخرون اتخذوا من بعد الهدى عجلا جسداً فضلوا به فعفى عنهم، لعلهم يشكرون فصاروا من أمة قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ثم ضلت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يرحموا فصاروا في علمه إلى صيحة واحدة فإذا هم خامدون، فنفذوا إلى ما سبق لهم أن صالحا رسولهم وأن الناقة فتنة لهم وأنه مميتهم كفارا فعقروها، وكان إبليس فيما كانت فيه الملائكة من التسبيح والعبادة ابتلي فعصى فلم يرحم، وابتلى آدم فعصى فرحم، وهم آدم بالخطيئة فنسي، وهم يوسف بالخطيئة فعصم، فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تغني شيئا فيما كان من ذلك حتى لا   1 الآية 122 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 يكون؟ أو تغني فيما لم يكن حتى يكون؟ فتعرف لكم بذلك حجة، بل الله أعز مما تصفون وأقدر وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وإنما علمه بزعمكم حافظ وأن المشيئة في الأعمال إليكم إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة ثم جعلتم بجهلكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به أهل السنة وهو مصدق للكتاب المنزل أنه من ذنب مضاه1، ذنبا خبيثا في قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عمر: "رأيت ما نعمل أشيء قد فرغ منه؟ أم شيء نأتنفه" فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء قد فرغ منه"2. فطعنتم بالتكذيب له، وتعليم من الله في علمه إذ قلتم إن كنا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر، والجبر3 عندكم الحيف، فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفا وقد جاء الخبر: "إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يده فكتب   1 لم يتبين لي المعنى ولعله يعني "مضى منه وانتهى". 2 الحديث رواه ابن وهب في كتاب القدر له وصححه المحقق للكتاب انظر ص111 القدر لابن وهب تحقيق الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن العثيم ط. دار السلطان للنشر والتوزيع واللالكائي 4/600، وعبد الرزاق في المصنف 11/111، والترمذي بلفظ آخر 3/196. 3 الجبر: قد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل في إطلاق هذه اللفظة فأجاد فأفاد 1/66-72 فارجع إليه فإنه مفيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 أهل الجنة وما هم عاملون وكتب أهل النار وما هم عاملون"1، وقال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا آراءكم على دينكم فوالذي نفسي بيده لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهل بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا2. ثم أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حق على تأويل باطل تدعون الناس إلى رد علم الله فقلتم الحسنة من الله والسيئة من أنفسنا، وقال أئمتكم وهم أهل السنة: الحسنة من الله في علم قد سبق، والسيئة من أنفسنا في علم قد سبق، فقلتم لا يكون ذلك حتى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيئات من أنفسنا، وهذا رد للكتاب منكم ونقض للدين، وقد قال ابن عباس حين نجم القول بالقدر هذا أول شرك هذه الأمة، والله ما ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا3. فأنتم تزعمون بجهلكم أن من كان في علم الله ضالا   1 الحديث أو الأثر رواه ابن وهب في كتاب القدر عن أبي قلابة بلفظ مقارب. انظر القدر لابن وهب ص82. ورواه عبد الله بن الإمام في السنة 2/423 بنفس اللفظ الموجود هنا والآجري في الشريعة ص200. 2 الأثر رواه البخاري مع الفتح 6/281 برقم (3181) . 3 الأثر رواه اللالكائي 4/691. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 فاهتدى فهو بما ملك من ذلك حتى كان في هداه ما لم يكن الله علمه فيه، وأن من شرح صدره للإسلام فهو بما فوض إليه قبل أن يشرحه الله له، وأنه إن كان مؤمنا فكفر فهو مما شاء لنفسه وملك من ذلك لها وكانت مشيئته في كفره أنفذ من مشيئة الله في إيمانه بل أشهد أنه من عمل حسنة فبغير معونة كانت من نفسه عليها وأن من عمل سيئة فبغير حجة كانت له فيها وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأن لو أراد الله أن يهدي الناس جميعا لنفذ أمره فيمن ضل حتى يكون مهتديا، فقلتم بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنات إليكم وتفويض السيئات ألقي عنكم سابق علمه في أعمالكم، وجعل مشيئته تبعا لمشيئتكم، ويحكم فوالله ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما آتاهم بقوة حتى نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، فهل رأيتموه أمضى مشيئته لمن كان في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف إلى الإسلام كرها بموضع علمه بذلك فيه أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبوا أن يؤمنوا حتى أظلهم العذاب فآمنوا وقبل منهم ورد على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} 1، أي   1 الآية 84- 85 من سورة غافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 علم الله الذي قد خلا في خلقه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} وذلك كان موقفهم عنده أن يهلكوا بغير قبول، بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان، والخير والشر، بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء في طغيانهم يعمهون، كذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 1، وقال عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 2 أي أن الإيمان والإسلام بيدك وأن عبادة من عبد الأصنام بيدك فأنكرتم ذلك وجعلتموه ملكا بأيديكم دون مشيئة الله عز وجل. وقلتم في القتل إنه بغير أجل، وقد سماه الله لكم في كتابه فقال ليحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} 3، فلم يمت يحيى إلا بالقتل وهو موت كما مات من قتل منهم شهيدا أو قتل عمدا أو قتل خطأ كمن مات بمرض أو فجأة، كل ذلك موت بأجل توفاه، ورزق استكمله وأثر بلغه، ومضجع برز إليه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاََّ بِإِذْنِ اللَّهِ   1 الآية 35 من سورة إبراهيم. 2 الآية 128 من سورة البقرة. 3 الآية 15 من سورة مريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 1، ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته ولا موضع قدم إلا وطأته، ولا مثقال حبة من رزق إلا استكملته، ولا مضجع بحيث كان إلا برزت إليه، يصدق ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} 2، فأخبر الله سبحانه بعذابهم بالقتل في الدنيا، والآخرة بالنار، وهم أحياء بمكة. وتقولون أنتم أنهم قد كانوا ملكوا رد علم الله في العذابين اللذين أخبر الله ورسوله أنهما نازلان بهم وقال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْي} 3، يعني القتل يوم بدر {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} 4، فانظروا إلى ما أرداكم فيه رأيكم، وكتابا سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بنى الإسلام على ثلاثة أعمال، الجهاد ماض منذ يوم بعث الله رسوله إلى يوم القيامة فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجال لا   1 الآية 145 من سورة آل عمران. 2 الآية 12 من سورة آل عمران. 3 الآية 9 من سورة الحج. 4 الآية 9 من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 ينقض ذلك جور جائر، ولا عدل من عدل"1، والثانية: أهل التوحيد لا تكفروهم ولا تشهدوا عليهم بشرك، والثالثة: المقادير كلها خيرها وشرها من قدر الله فنقضتم من الإسلام جهاده، ونقضتم شهادتكم على أمتكم بالكفر، وبرئتم منهم ببدعتكم، وكذبتم بالمقادير كلها والآجال والأعمال والأرزاق، فما بقيت في أيديكم خصلة ينبني الإسلام عليها إلا نقضتموها وخرجتم منها2. التعليق: إن هذه الرسالة المروية عن عمر تُفَصّل الرد على القدرية الذين كتبوا إليه برد علم الله السابق والتكذيب بأقداره النافذة وقد بين رحمه الله تعالى ضلال القدرية في فهم علم الله السابق وفي فهم الهداية والإضلال، وفي أفعال العباد، وفي فهم المشيئة وهي بلا شك رسالة بليغة وافية بالمقصود يظهر منها منهج السلف الصالح في بيان الحق بدليله مع الاعتماد على الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح وهي دليل على ما أعطاه الله لعمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى من قوة البيان, والصدع بالحق، والإصابة   1 الحديث، رواه أبو داود في سننه في باب دوام الجهاد وصححه الألباني. انظر سنن أبي داود 2/471. 2 أبو نعيم في الحلية 5/346- 353، وابن الجوزي سيرة عمر 88- 89، وهذه الرسالة رواها أبو نعيم من تاريخ السراج وهو مفقود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 في القول، وهذه الرسالة وإن كان سندها إلى عمر بن عبد العزيز لا يصل إلى درجة الصحة لكن معناها صحيح ثابت وهى رسالة مشهورة عنه ذكرها عنه غير واحد من أهل العلم ومنهم أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي قال في كتابه أصول الدين: "ومن أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز وله رسالة بليغة في الرد على القدرية"1. وقال ابن الجوزي واصفا هذه الرسالة التي نحن بصدد التعليق عليها "وهذه رسالة مروية عن عمر بن عبد العزيز في الأول، وجدت أكثر كلماتها لم تضبطها النقلة على الصحة، فانتقيت منها كلمات صالحة"2، ثم ذكر جزءا مما أورده أبو نعيم3 رحمه الله تعالى. وكذلك ذكرها الدكتور محمود الطحان من المعاصرين ضمن الرسائل التي وردبها الخطيب البغدادي مدينة دمشق حين خرج إليها في بحثه   1 انظر: كتاب أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ص307 ط. دار المدينة للطباعة والنشر بيروت عن طبعة مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط. الأولى عام 1346هـ 1927م. 2 ابن الجوزي سيرة عمر ص88. 3 انظر ابن الجوزي سيرة عمر ص88- 89. وقد تقدم إثبات كلامه في الإيمان بالقدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 "الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث" برقم (142) وهو ضمن مجموعة تحت رقم (18) موجودة بالمكتبة الظاهرية1. ثم إن أكثر المسائل الموجودة في هذه الرسالة قد جاءت عن عمر بطرق مسندة صحيحة مما يعضدها ويقويها ويوثقها، وتُفَصل هذه الرسالة الرد على القدرية في نفيهم علم الله السابق حيث بين عمر رحمه الله تعالى في مقدمة الرسالة أن هؤلاء المكذبين بالقدر لا يعذرون بجهلهم بذلك لأن عمر بن الخطاب يقول: إنه لا عذر لأحد عند الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، قد تبينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر2، ثم ذكر بعد المقدمة نص السؤال الذي وجهته إليه القدرية في نفي علم الله السابق، وهو أن عمر كما بلغهم يقول: إن الله قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، فأنكروا ذلك عليه وقالوا لا يعلم الله أعمال العباد إلا بعد وقوعها، فرد عليهم عمر بأن الله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون مستدلا بآيات من القرآن الكريم وتحتوي الرسالة كذلك على بيان عمر ضلال القدرية في فهم   1 انظر: الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث ص288 ط. دار القرآن الكريم ط. الأولى 1401هـ تأليف د. محمود الطحان. 2 انظر حول مسألة العذر بالجهل رسالة "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه" تأليف عبد الرزاق بن طاهر بن أحمد معاش ط. دار الوطن ط"1" عام 1417هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 المشيئة حيث توهموا بأن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله تعالى فرد عليهم بأن مشيئة العباد تابعة لمشيئة الله بدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. وقد رد على هؤلاء القدرية في جوانب متعددة تتعلق بضلالهم في فهم علم الله تعالى حيث جعلوا علم الله لغوا لأنهم جعلوا أنفسهم هي الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وجعلوا نعمة الله الدينية على المؤمن والكافر سواء، وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين، وليس بيد الله هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2، وأن علمه تعالى لا يتعلق بهداية ضال ولا إضلال مهتد3. وقد أكثر رحمه الله تعالى في الرد على المكذبين بالقدر بآيات كثيرة ولوضوح هذه الرسالة وبلاغتها وسلاسة أسلوبها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وقوة ما فيها من الحجج المقنعة في الرد على المكذبين بعلم الله السابق وصفت واشتهرت بأنها رسالة بليغة في الرد على القدرية، وقد اشتملت على إيضاح مسائل كثيرة لها صلة بالانحراف في باب القدر،   1 الآية 29 من سورة التكوير. 2 الآية رقم 6 من سورة الفاتحة. 3 انظر مجموع الفتاوى 8/444. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 كنفي الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى وأزلية الأسماء الحسنى وعلم الله بأهل الجنة وأهل النار واستخراج ذرية آدم من ظهره قبل خلقهم وتقسيمهم إلى قسمين قسم إلى الجنة وقسم إلى النار، وكتابة ذلك كله. كما بين فيها ردهم ونفيهم للأحاديث الصحيحة إذا لم توافق مذهبهم وتأويلهم إياها تأويلا باطلا. وبين عمر كذلك ضلال القدرية في فهم الاستطاعة حيث جعلوا الاستطاعة قبل الفعل وهي صالحة للضدين عندهم، ولا تقارن الفعل أبدا. ومن المهم إيضاح الصحيح من مسألة الاستطاعة لصلتها بمحتويات الرسالة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ... وفصل الخطاب، أن الاستطاعة جاءت في كتاب الله على نوعين: 1- الاستطاعة المشترطة للفعل، وهي مناط الأمر والنهي كقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 2، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ   1 الآية 97 من سورة آل عمران. 2 الآية 16 من سورة التغابن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 الْمُؤْمِنَاتِ} 1. وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} 2، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين} 3، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"4. فإن الاستطاعة في هذه النصوص لو كانت لا توجد إلا مع الفعل لوجب ألا يجب الحج إلا على من حج، ولا يجب صيام شهرين إلا على من صام، ولا القيام في الصلاة إلا على من قام، وكان المعنى: على الذين يصومون الشهر طعام مسكين، والآية إنما أنزلت لما كانوا مخيرين بين الصيام، والإطعام في شهر رمضان5. 2- الاستطاعة التي يكون معها الفعل، قد يقال هي المقترنة بالفعل الموجبة له - وهي النوع الثاني- وقد ذكروا فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ   1 الآية 35 من سورة النساء. 2 الآية 4 من سورة المجادلة. 3 الآية 184 من سورة البقرة. 4 الحديث رواه البخاري 2/587، برقم 1117. 5 مجموع الفتاوى 8/290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} 1، وقوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 2. ونحو ذلك قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 3. فإن الاستطاعة المنفية هنا -سواء كان نفيها خبرا أو ابتداء- ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي والوعد والوعيد، والحمد، والذم، والثواب والعقاب، ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون، موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية هنا ليست المشروطة في الأمر والنهي المذكورة في قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 4. فاعتقدت القدرية أن الاستطاعة المشترطة للفعل تكفي في حصول الفعل، وأن العبد يحدث مشيئته وهو مستغن عن الله حين الفعل فأخطأوا   1 الآية 101 من سورة الكهف. 2 الآية 20 من سورة هود. 3 الآيتان 8-9 من سورة يس. 4 مجموع الفتاوى 8/291، والآية 16 من سورة التغابن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 خطأً قبيحا، فإن العبد له مشيئة وهي تابعة لمشيئة الله تعالى كما ذكر الله في عدة مواضع من كتابه. قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، وقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّه} 2، وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. والواقع أن الخطأ في هذه المسألة ناشئ عن عدم التفريق بين الاستطاعتين فالاستطاعة المشترطة للفعل هي الاستطاعة الشرعية وهي التي عليها مناط الأمر والنهي، والثواب، والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عرف الناس4. أما الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له فهي الاستطاعة الكونية، وهي التي عليها مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل5، فعدم تفريقهم بين هاتين الاستطاعتين أوقعهم فيما وقعوا فيه فجعلوا الاستطاعة   1 الآيتان 55- 56 من سورة المدثر. 2 الآيتان 29-30 من سورة الإنسان. 3 الآيتان 28- 29 من سورة التكوير. 4 انظر مجموع الفتاوى 8/372- 373. 5 انظر: مجموع الفتاوى 8/373. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 قبل الفعل وجعلوها صالحة للضدين، ولا تقارن الفعل أبدا1. وبين عمر كذلك ضلال القدرية في فهم الآجال والأرزاق حيث قالوا إن المقتول لم يمت بأجله، وأن الله تعالى وقت لهم الأرزاق والآجال لوقت معلوم فمن قتل قتيلا فقد أعجله عن أجله ورزقه لغير أجله، وبقي له من الرزق ما لم يستوفه ولم يستكمله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا2. فرد عليهم عمر بقوله: " وقلتم في القتل إنه بغير أجل، وقد سماه لكم في كتابه فقال ليحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} 3، فلم يمت يحيى إلا بالقتل وهو موت كما مات من قتل منهم شهيدا، أو قتل عمدا، أو قتل خطأً كمن مات بمرض أو فجأة كل ذلك بأجل توفاه، ورزق استكمله، وأثر بلغه، ومضجع برز إليه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 4، ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته، ولا موضع قدم   1 انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص186. 2 انظر المصدر السابق ص186. 3 الآية 15 من سورة مريم. 4 الآية 145 من سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 المبحث الثالث: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الحكم على القدرية 310/1- مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك1، أنه قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت: رأيي أن تستتيبهم فإن قبلوا وإلا عرضتهم على السيف فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي. قال مالك: وذلك رأيي2. 311/2- الآجري قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إسحاق بن موسى3، حدثنا أبو ضمرة أنيس بن عياض4، قال: حدثني أبو سهيل   1 هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي التميمي أبو سهيل المدني ثقة من الرابعة مات سنة 140هـ، ع. انظر التقريب ص558. 2 الإمام مالك في الموطأ 3/93 وانظر الآجري في الشريعة 1/437، وابن بطة في الإبانة 2/233، والفريابي في القدر ورقة ب/ 50، واللالكائي 2/686، وعبد الله في السنة 2/431، وابن أبي عاصم في السنة ص88، وصححه الشيخ الألباني. 3 هو إسحاق بن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي أبو موسى المدني قاضي نيسابور ثقة متقن مات سنة 244 من العاشرة م ت س ق. التقريب ص103. 4 أنيس بن عياض وقيل أنس بن عياض بن ضمرة أو عبد الرحمن الليثي أبو ضمرة المدني ثقة من الثامنة مات سنة مائتين وله تسعون عاما. ع تقريب ص115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 نافع بن مالك بن أبي عامر أنه قال: "قال لي عمر بن عبد العزيز من فيه إلى أذني: ما تقول في الذين يقولون: لا قدر؟ قلت: أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال عمر: ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة لكفت: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1،2. 312/3- الآجري أيضا قال: أخبرنا الفريابي، قال: حدثنا إسحاق بن سيار النصيبي3، قال: حدثنا عبد الله بن صالح4، حدثني معاوية5-يعني   1 الآيات 161-163 من سورة الصافات. 2 الآجري في الشريعة 1/431، وعبد الله في السنة 2/431، وابن بطة في الإبانة 2/223، والفريابي في القدر ص180-181، وقال محقق الكتاب: إسناده صحيح. 3 إسحاق بن سيار بن محمد بن مسلم النصيبي أبو يعقوب كان صدوقا ثقة. الجرح والتعديل 2/223. 4 عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني أبو صالح المصري كاتب الليث صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة من العاشرة مات سنة 222 وله 85 سنة. خت دت ق. التقريب ص308، وانظر الجرح والتعديل 5/86 وما بعدها. 5 معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي أبو عمرو وأبو عبد الرحمن قاضي الأندلس صدوق له أوهام من السابعة مات سنة 58 وقيل بعد السبعين ومائة. رم4. التقريب ص538، وانظر الجرح والتعديل 8/382. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 ابن صالح، عن حكيم بن عمير1، قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: "إن قوما ينكرون القدر شيئا فقال عمر: "بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا". فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين، لقد اتخذوه دينا يدعون إليه الناس ففزع لها عمر فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم سلاًّ، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار2. 313/4- الآجري في الشريعة في جواب عمر لعامله: "كتبت تسألني عن الحكم فيهم، فمن أتيت به منهم فأوجعه ضربا واستودعه الحبس، فإن تاب من رأيه السوء وإلا فاضرب عنقه"3. 314/5- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا ابن عرفة، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن حكيم بن عمر، قال: قال عمر   1 حكيم بن عمير بن الأحوص أبو الأحوص الحمصي صدوق يهم من الثالثة. د ق. التقريب ص177، وانظر الجرح والتعديل 3/206. 2 الآجري في الشريعة 1/440، وابن بطة في الإبانة 2/239، والفريابى في القدر ص53، وقال محقق كتاب الشريعة الأثر صحيح بالسند الذي يأتي بعده. انظر الشريعة 1/440. 3 الآجري في الشريعة 1/445، وهذه الزيادة مما انفرد به الآجري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 ابن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كَفُّوا وإلا سُلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا1. 315/6- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، نا إسماعيل، حدثني أبو محزوم، عن سيار، قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في أصحاب القدر: "فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين"2. 315/7- ابن الجوزي قال: حدثنا يوسف بن أسباط، عن سفيان الثوري، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة -وكان عامله في البصرة-: "أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاستتب القدرية مما دخلوا فيه فإن تابوا فخل سبيلهم وإلا فانفهم من ديار المسلمين"3. 317/8- ابن سعد: قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل نافع بن مالك، قال: تلا عمر بن عبد   1 ابن بطة في الإبانة 2/234، والفريابى في القدر ورقة أ/53، والآجري في الشريعة 440، وقال محقق الشريعة: أثر حكيم بن عمر صحيح بما بعده. 2 عبد الله في السنة 2/430، وانظر ابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686، وابن الجوزي سيرة عمر ص85. 3 ابن الجوزي سيرة عمر ص85، وانظر عبد الله في السنة 2/430، وابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 العزيز: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1. فقال لي يا أبا سهيل ما تركت هذه الآية للقدرية حجة، الرأي فيهم ما هو؟ قال: قلت: "أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال: ذاك الرأي ذاك الرأي"2. 318/9- ابن بطة قال: حدثنا أبو علي محمد بن يوسف، قال: حدثنا عبد الرحمن بن خلف، قال: نا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن أبي جعفر، عن محمد بن كعب أو غيره أن عمر بن عبد العزيز قيل له: "إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا". فقال: "يا غيلان: ما تقول في القدر فتعوذ، ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ... } حتى قرأ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 3. قال: فقال عمر: القول فيه   1 الآيات 161- 163 من سورة الصافات. 2 ابن سعد في الطبقات 5/384. والفريابى في القدر ص180. قال محقق كتاب القدر: إسناد الأثر حسن. وابن الجوزي سيرة عمر ص85، وانظر عبد الله في السنة 2/430، وابن بطة في الإبانة 2/237، واللالكائي 2/686. 3 سورة الإنسان الآيات 1-3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 طويل عريض، ما تقول في العلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن. قال: أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك"1. التعليق: الحكم على أهل الأهواء والبدع يتوقف على البدعة التي ارتكبوها فإن كانت بدعة مكفرة يكفر صاحبها إذا استوفى جميع الشروط، وعدمت الموانع، وإن كانت بدعة مفسقة يفسق صاحبها ويعزر بحبس أو نفي حتى يموت من هواه الخبيث، والآثار التي نقلت عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث توضح الحكم على القدرية الذين كانوا ينكرون علم الله السابق لخلقه كما تبين ذلك فيما سبق. وقد سلك عمر رحمه الله تعالى في الحكم على هؤلاء المبتدعة طريق الحق الذي تدل عليه النصوص الصحيحة وما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم. ففي الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"2. قال النووي: فأما قوله: "والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي   1 ابن بطة في الإبانة 2/236-237. 2 البخاري مع الفتح 12/201، برقم (6878) ومسلم 4/316، برقم (1676) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي، أو غيرهما. وكذا الخوارج1. وقد جاءت نصوص كثيرة تخص القدرية بالذم والتهديد والتخويف. فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا مكذب بقدر ولا مدمن خمر"2. وروى ابن أبي عاصم في السنة وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى إن مرضوا فلا تعودوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم"3.   1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 4/318. 2 كتاب السنة لابن أبي عاصم ص141 والحديث حسنه الألباني وأخرجه أحمد 6/441. 3 كتاب السنة لابن أبي عاصم ص144، والحديث حسنه الشيخ الألباني. انظر ظلال الجنة في تخريج السنة في حاشية السنة ص144 للشيخ الألباني ط. المكتب الإسلامي عام 1413هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 وعن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: الاستسقاء بالأنواء، وحيف السلطان، والتكذيب بالقدر"1. وهذه النصوص الصحيحة التي تقدمت وغيرها تدل على أن المكذبين بالقدر على خطر عظيم. وهناك نصوص كثيرة يذكرها علماء الفرق في ذم القدرية بخصوصهم، وبيان الحكم عليهم، إلا أنها نصوص لم تسلم من القدح فلو صحت لكانت كافية في الحكم عليهم، ولضعفها وكلام العلماء حولها لا أرى التطويل بذكرها هنا. وقد صرحت الأحاديث التي تقدمت بذم القدرية حيث صرحت بأنهم لا يدخلون الجنة وأنهم مجوس هذه الأمة لا يسلم عليهم ولا يعاد مرضاهم ولا يصلى على موتاهم وقد خاف صلى الله عليه وسلم من هذه البدعة وحذر منها حيث قال: "أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: ... " ومنها: "والتكذيب بالقدر" ولما كانت بدعة القدرية من أبين البدع إلا أن مدارك الناس تختلف في فهم أحكام الله تعالى وللإعذار إلى القدرية وغيرهم حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن يسأل غيره في الحكم فيهم - وعمر بلا شك من مجتهدي العلماء - ولكن حبا في الإعذار سأل نافع بن مالك عم الإمام مالك بن أنس فأفتاه بأن   1 السنة لابن أبي عاصم ص142، والحديث صححه الألباني. انظر ظلال الجنة ص142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 يستتيبهم فإن تابوا وإلا أقيم عليهم الحد. كما كتب إلى عماله بأن يسيروا على هذا المنهج حيث أمرهم بأن يبينوا للقدرية خطأهم برفق حتى يرجعوا كما نوَّع العقوبات التي أمر بإنزالها عليهم إذا لم يتوبوا بعد البيان، فأمر بسل ألسنتهم من أقفيتهم، أو نفيهم من ديار المسلمين، وبين عمر أن إنكار القدر ضلال وجهل عظيم لأنه لو لم تكن إلا هذه الآية -يشير بها إلى آية سورة الصافات- لكفت ثم قرأ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 1. كما استتاب غيلان عدة مرات كما مر في مبحث مناظرته للقدرية -وكان منهجه في استتابه غيلان سؤاله عن علم الله، وكان غيلان يجيب بإثبات علم الله وقد بيَّن عمر لغيلان أنه لولا إقراره بالعلم لضرب عنقه كما بين له أن الإقرار بالعلم إقرار بلازمه وهو مشيئة الله لأعمال العباد كلها وخلقه لها، وأن إنكار علم الله كفر، يدخل من قال به في عداد المرتدين كما أمر عمر بضرب المكذبين بالقدر وحبسهم وقد حبس غيلان عدة أيام ثم أدخله عليه كما سبق، وهذه العقوبات التي حكم بها عمر على المكذبين بالقدر. بعد إقامة الحجة عليهم كما هو واضح، هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معاملة أئمة المسلمين للمبتدعة والحكم عليهم   1 الآيات 161-163 من سورة الصافات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 "العقوبة قبل الحجة ليست مشروعة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، ولهذا قال الفقهاء إن الإمام يراسل المبتدعة فإن ذكروا شبهة بينها، وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل عليّ ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب"2. وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن القدرية الذين ينكرون علم الله السابق كفار، فقال في بيان ذلك، "وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها: فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار. وهذا العلم والكتاب: هو القدر الذي ينكره غالية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار كفرهم الأئمة كالشافعي، وأحمد وغيرهما3.   1 الآية 15 من سورة الإسراء. 2 مجموع الفتاوى 30/240. 3 مجموع الفتاوى 2/152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 وقال رحمه الله في موضع آخر: "ولم يكفر أحمد الخوارج والقدرية إذا أقروا بالعلم وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة، لكن حُكِي عنه في تكفيرهم روايتان1. وقال ابن رجب: "وقد قال كثير من أئمة السلف ناظِروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء. وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام"2. وقد بين العلماء أن القدرية النفاة لعلم الله السابق قد انقرضوا لشدة ما أنكر عليهم السلف وأفتوا بقتلهم إن لم يرجعوا ونتيجة لهذا الإنكار الشديد من جانب السلف، ولقباحة ورداءة هذا المعتقد أيضا تراجع تراجعا سريعا، حتى لم يعد له وجود، وأيضا لا يخفى ما يترتب على هذا   1 مجموع الفتاوى 7/507. 2 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص30- 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 الفصل الثامن: الآثار عن عمر في الرد على فرق مختلفة : المبحث الأول: الآثار عن عمر في الرد على المرجئة تمهيد في تعريف المرجئة لغة واصطلاحاً: الإرجاء يطلق على عدة معان منها: الأمل، والناحية، والتأخير، وقد يهمز وقد لا يهمز. قال ابن فارس: رجى: الراء والجيم والحرف المعتل أصلان متباينان يدل أحدهما على الأمل، والآخر على ناحية الشيء1. فالأول: الرجاء، وهو الأمل، يقال: رجوت الأمر أرجوه، رجاءً2. وأما الثاني: فهو الرجا مقصور، الناحية من البئر، وكل ناحية رجا. قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} 3. وأما المهموز فإنه يدل على التأخير، يقال: أرجأت الشيء: أخرته ... ومنه سميت المرجئة4، هذا في اللغة. وأما تعريف الإرجاء في الاصطلاح فقد اختلف العلماء في ذلك نوجز كلامهم فيما يلي: 1- الإرجاء في الاصطلاح مأخوذ من معناه اللغوي -أي بمعنى التأخير والإمهال، وهو إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله منزلة ثانية بالنسبة   1 معجم مقاييس اللغة 2/494. 2 المصدر السابق 2/494. 3 الآية 17 من سورة الحاقة. 4 انظر معجم مقاييس اللغة 2/495. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 للإيمان، لا أنه جزء منه، وأن الإيمان يتناول الأعمال على سبيل المجاز - لو سلمنا بوجوده - بينما هو حقيقة في مجرد التصديق، وقد يطلق وصف الإرجاء على القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ويشمل جميع من أخر العمل عن النية والتصديق1. 2- وذهب آخرون إلى أن الإرجاء يراد به تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضى عليه بحكم ما2. 3- وبعضهم ربط الإرجاء بما جرى في شأن علي رضي الله عنه من تأخيره في المفاضلة بين الصحابة إلى الدرجة الرابعة3، ولا شك أن هذا الترتيب هو الصواب كما سبق بيانه - أو إرجاء أمر علي وعثمان إلى الله تعالى حيث لا يشهدون عليهما بإيمان، ولا غيره". "والواقع أن إطلاق اسم الإرجاء على كل من يقول عن الإيمان أنه قول أو تصديق بلا عمل، أو القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا   1 انظر: الملل والنحل للشهرستاني ص137، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص57، والفرق بين الفرق ص151. 2 الملل والنحل ص137. 3 المصدر السابق ص137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 تنفع مع الكفر طاعة هو الأغلب في عرف العلماء حينما يطلقون حكم الإرجاء على أحد بل هو المقصود بالإرجاء"1. هذا وقد جاءت عن عمر بن عبد العزيز آثار خاصة تدل على زيادة الإيمان وإدخال الأعمال فيه. والمرجئة لا يرون هذا فهذه الآثار تعتبر ردا عليهم، لاسيما وأن أهل العلم قد ذكروا هذه الآثار في معرض ردودهم على المرجئة. كما وردعنه - رحمه الله تعالى - التحذير عن البدع كلها ولا بدعة أظهر من بدعة الإرجاء. وهاهي الآثار الواردة عنه في هذا المبحث. 319/1- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: "إن للإسلام حدودا وشرائع، وسننا فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فإن أَعِش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص2.   1 انظر: فرق معاصرة لشيخنا الدكتور غالب بن علي العواجي 2/747، وانظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص57، والفرق بين الفرق ص151. 2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40 وقد تقدم تخريجه برقم 180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 320/2- محمد بن نصر المر وزي قال: حدثنا أبو حفص الباهلي, ثنا شريح بن النعمان ثنا المعافى, ثنا الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا عذ ر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى1. 321/3- ابن سعد قال: أخبرنا سعيد بن عارم عن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: "فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرا2. التعليق: يتبين من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان حريصا على رد البدع كلها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يضحي بأعضائه كلها، وقد بين في تلك الآثار القول الصحيح في الإيمان وأنه يشمل العبادات كلها. وأولى عناية خاصة بشعبه، ووعد بأنه إن عاش فسيحمل رعيته عليها، ففي هذا المأثور عنه بيان للقول الصحيح في الإيمان كما أن فيه الرد على بدعة الإرجاء, لأن إحقاق الحق إبطال للباطل, وهذا المأثور عنه هو الحق الثابت عنه في مسألة الإيمان.   1 محمد بن نصر المروزي في السنة31 ط مؤسسة الكتب الثقافية ط الأولى عام1408 هـ. 2 ابن سعد في الطبقات5/343وقدتقدم تخريجه برقم223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلا إليه عون بن عبد الله وموسى بن أبى كثير وعمر بن حمزة وفى بعض المراجع عمر بن ذر فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شئ منه1 فهذا لا يثبت عنه لما يلي: - لأن ابن سعد رواه بدون سند فهو إذا منقطع. - ولأنه استعمل فيه صيغة التمريض " زعموا". - وأيضا إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته متهمون بالإرجاء. هذا وعلى فرض تسليم تلك الرواية فقد ثبت في كتب التراجم أن عون بن عبد الله قد تاب عن الإرجاء. وقد روى ذلك اللالكائي بسنده عن نوفل الهذلي عن أبيه قال: "كان عون بن عبد الله بن مسعود من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئا ثم رجع فأنشد يقول: لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من أهل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا2   1 ابن سعد الطبقات 6 /339 والذهبي: سير أعلام النبلاء 5 /104. 2 اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 5/1077 وابن عساكر47/65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 فثبت أن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قد رجع عن القول بالإرجاء ولعل قوله بالإرجاء كان قبل اتصاله بعمر رحمه الله تعالى اتصالا وثيقا وكونه من المقربين عنده. وأما "عمر بن حمزة "- وعند الذهبي في السير - "عمر بن ذر القاص" فقد كان ثقة بليغا إلا أنه كان يرى الإرجاء وكان لين القول فيه.1. وأما "موسى بن أبي كثير الوشاء أبو الصباح الكوفي" ,فهو صدوق لكن ذكر في ترجمته أنه يروي عن المشاهير المناكير فلما كثر ذلك بطل الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات، ولا ريب أن الادعاء السابق في كون عمر بن عبد العزيز قد وافقهم في الإرجاء ولم يخالفهم في شيء من ذلك، مما خالف فيه الثقات فيبطل الاحتجاج بتلك الدعوى. قال يحيى بن معين: كان موسى بن أبى كثير مرجئا.2. فظهر بما تقدم أن عون بن عبد الله قد رجع عن الإرجاء. وأن عمر بن ذر كان إرجاؤه خفيفا, وقد كان في بدء الأمر يراد به بعض إطلاقاته, وأما موسى بن أبي كثير فلا يسلم له زعمه, ولا شك أن عمر رحمه الله من السلف الصالح، والمرجئة بخلاف هذا الوصف بعد أن خرجوا عن الحق. هم ومن سار على طريقتهم في مفهوم الإيمان مثل المعتزلة،   1 ابن عساكر19 /45. 2 الذهبي: ميزان الاعتدال4/218. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 والخوارج الذين يرون أن العمل جزء لا يتجزأ من حقيقة الإيمان بحيث إذا ذهب بعضه ذهب كله. وقد تقدم ذكر بعض الردود على هذه الرواية الموجودة عند ابن سعد في مبحث زيادة الإيمان ونقصانه بما أغنى عن إعادته هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 المبحث الثاني: الآثار عن عمر في الرد على الجهمية . تمهيد: الجهمية: نسبة إلى الجهم بن صفوان، لأنه هو الذي أظهر هذا المذهب ودعا إليه وجادل من أجله، وتوسع في مسائله، وأصلُه، من مدينة بلخ ثم انتقل منها إلى سمرقند وترمذ، ثم انتقل إلى الكوفة، ثم رجع إلى خراسان، وفي الكوفة التقى بشيخه الجعد بن درهم، وقد خرج على بني أمية فأسر ثم قتل، وهو من كبار المعطلة. وملخص ما كان يدعو إليه: أنه كان ينكر أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة ولا يسمى الله باسم من الأسماء التي يسمى بها خلقه وكان يقول: لا أقول إن الله شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء1. ويسمى الله تعالى باسم المحيي والمميت، والموجد، والفاعل، والخالق، لأن هذه الصفات لا تطلق على العبيد. ويسميه القادر لأن العبد عنده ليس بقادر، ولا فاعل بناءً على مذهبه في أفعال العباد، إذ كان رأس الجهمية الجبرية2. أما الصفات فينفيها جميعا لأن إثباتها يقتضي التشبيه بزعمه.   1 الأشعري: مقالات الإسلاميين ص259. 2 انظر: الملل والنحل ص86، ودرء التعارض 1/276. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 والإيمان عنده: المعرفة بالله فقط. والكفر هو: الجهل فقط1، وزعم أن الجنة والنار تفنيان وهذه الأقاويل كلها ظاهرة البطلان. هذا وما يأتي من الآثار عن عمر تعتبر ردودا عامة على الجهمية وقد أوردها علماء السلف ضمن ردودهم عليهم كالإمام أحمد، والدارمي، وغيرهما من علماء السلف وهي كما يلي: 322/1- الفريابي قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، ثنا سفيان عن جعفر بن برقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن بعض الأهواء فقال: انظر دين الأعرابي والغلام في الكتاب فاتبعه واله عما سوى ذلك2. 323/2- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن   1 مقالات الإسلاميين ص338. 2 الفريابي في القدر لوحة أ 63. ومعاوية بن هشام القصار أبو الحسن الكوفي، ويقال معاوية بن أبي العباس صدوق له أوهام. تقريب التهذيب ص538،وقد تقدم الأثر في باب التمسك بما تدل عليه الفطرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. قال عبد الله بن عبد الحكم فسمعت مالكا يقول: وأعجبني عزم عمر في ذلك1. 324/3- ابن أبي الدنيا قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حماد ابن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: من جعل دينه غرضا2 للخصومات أكثر التنقل3،4. 325/4- اللالكائي قال: وذكر عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أحمد ابن عمرو بن عيسى قال: ثنا عيسى بن عمرو البصري، قال: ثنا سليمان ابن عيسى الشجري، قال: ثنا سهل الحنفي، عن مقاتل بن حيان، قال:   1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40، وقد تقدم تخريجه برقم 115. 2 الغرض: الهدف الذي يرمى إليه. انظر المعجم الوسيط ص977. 3 عند الفريابي "أكثر الشك" وعند اللالكائي: "يكثر التحول". 4 ابن أبى الدنيا: كتاب الصمت ص116، وقال المحقق رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في الزهد ص423، وابن سعد في الطبقات 5/371، واللالكائي 1/144، والفريابي في القدر لوحة أ 63، والآجري في الشريعة 1/189، وابن بطة في الإبانة 2/503-504، والدارمي في السنن 1/91، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله رقم "1770" وذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية ص69. وقد تقدم في فصل النهي عن الخصومات في الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل بلخ1، فقال: كم بينك وبين النهر؟ قلت: كذا وكذا فرسخا. فقال: هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم؟ قلت: لا. قال: سيظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يهلك خلقا من هذه الأمة، يدخلهم الله وإياه النار مع الداخلين2. التعليق: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث آثار عامة أوردها علماء السلف في ردهم على الجهمية، ولاشك أنها تعتبر ردا على جميع المبتدعة، وذلك في أمره رحمه الله بالتمسك بما تدل عليه الفطرة من إثبات ما للخالق من صفات الكمال ونعوت الجلال، كإثبات الفوقية والعلو، وغير ذلك مما تدل عليه الفطرة السليمة. وكذلك أمره بالنهي عن   1 بلخ: - بفتح الباء وسكون اللام- مدينة مشهورة بخراسان. انظر معجم البلدان 1/479. 2 اللالكائى شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/425، وقال محقق الكتاب: ويبدو على ظاهر الرواية الوضع لأن عمر توفي قبل خروج الجهم بحوالي ثلاثين سنة تقريبا والغيب لا يعلمه إلا الله، وقد تقدم الأثر في مبحث الحكم على المعين بالجنة أو النار. وعبد الرحمن هو عبد الرحمن بن أبي حاتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 الخصومات في الدين بغير علم، ولم يقع جهم فيما وقع فيه إلا بسبب الخصومات فيما لا علم له به، فضل وأضل. وقد تقدم شيء من ذلك في بيان سمات أهل البدع، وقد كان السلف الصالح يستدلون بما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الخلفاء الراشدين من بعده في ردهم على الجهمية مثلما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتوى الحموية حيث ذكر أن أبا القاسم الأزجي روى بإسناده عن مطرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع1 أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز ويذكر الأثر الثاني من المبحث السابق: "سن رسول الله وولاة الأمر من بعده ... " وقال الشاطبي رحمه الله متحدثا عن هذا الأثر: "إنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة منها قطع مادة الابتداع جملة. ومنها المدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها ومنها أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله فقد جمع كلام عمر أصولا حسنة وفوا ئد مهمة2. وقد أورد الإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية" أثر عمر بن عبد العزيز "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"3.   1 الفتوى الحموية ص24 ط. السلفية. 2 انظر: الاعتصام 68-69. 3 الرد على الجهمية للإمام أحمد ص69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 وأما الأثر الأخير وهو ما ذكره اللالكائي من سؤال عمر بن عبد العزيز عن خروج جهم بن صفوان فإن محقق كتاب السنة للالكائي قد بين ضعفه1، والأثر على ضعفه لا يتفق أيضا مع عقيدة أهل السنة والجماعة حيث ذكر فيها الإخبار بالمغيبات، والحكم على المعين بالنار، وقد سبق بيان موقف أهل السنة والجماعة في مسألة الحكم على المعين بالجنة أو النار، حيث تبين أن الصواب في ذلك هو إيكال علم الخلق إلى الخالق. ومذهب الجهمية يعرف قبحه كل من سلمت فطرته، ولا يحتاج إلى حشد الأدلة الضعيفة ومنها تلك الرواية. ومن المهم الإشارة إلى أن علماء السلف رحمهم الله تعالى أطلقوا على كل من ينكر أسماء الله تعالى وصفاته لقب الجهمية سواء أنكرها كلها أو أنكر بعضها أو أنكر الصفات وأثبت الأسماء كالمعتزلة، فالسلف رحمهم الله تعالى أطلقوا هذا الاسم على هؤلاء لخروجهم عما دل عليه الكتاب والسنة وفهمه السلف الصالح منهما.   1 انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/425 حيث قال حفظه الله يبدو على ظاهر الرواية الوضع لأن عمر توفي قبل خروج الجهم بحوالي ثلاثين سنة والغيب لا يعلمه إلا الله، وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 المبحث الثالث: موقف عمر بن عبد العزيز ممن يُزهّد في العلم الشرعي من الفرق الضالة. 326/1- ابن عبد البر قال: حدثنا عبد الوارث، نا قاسم، نا أحمد بن زهير، نا أبو الفتح البخاري نصر بن المغيرة، قال: قال سفيان بن عيينة، قال عمر بن عبد العزيز: "من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح1. 327/2- الدارمي قال: أخبرنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة إنه من تعبد بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، ومن جعل دينه غرضا للخصومة كثر تنقله"2.   1 ابن عبد البر: جامع بيان العلم 1/131، وقال محقق الكتاب رجاله ثقات وهو منقطع بين ابن عيينة وعمر بن عبد العزيز، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه 1/19، وله شاهد من كلام ضرار بن عمرو أخرجه الخطيب بإسناد حسن 1/119. 2 الدارمي في السنن 1/91. مروان بن محمد الطاطرى شامي روى عن سعيد بن عبد العزيز ومالك بن أنس ثقة. انظر الجرح والتعديل 8/275، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي أبو محمد روى عن الزهري ومكحول وروى عنه الثوري والوليد بن مسلم ثقة. انظر الجرح والتعديل 4/42-43، وتقريب التهذيب ص238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 328/3- قال البخاري رحمه الله تعالى باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولتفشوا العلم. ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا ثم قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار بذلك -يعني حديث عمر بن عبد العزيز إلى قوله ذهاب العلماء 1. التعليق: العلم الشرعي المستمد من الكتاب والسنة فضله عظيم وخطبه ومنزلته رفيعة وقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بطلب الاستزادة منه قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 2،وأهل العلم هم ورثة الأنبياء وأعلام الأمة وهم شهداء الله في الأرض ودرجاتهم رفيعة عالية قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 3، والعلم والعمل قرينان لكن لا بد أن يتقدم   1 البخاري مع الفتح 1/194.ومحمد بن نصر المروزي في السنة ص 31. 2 الآية 114 من سورة طه. 3 الآية 11 من سورة المجادلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 العلم على العمل. وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بابا بعنوان: باب العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 1، فبدأ بالعلم2، قال الحافظ: قال ابن المنير: أراد البخاري به أن العلم شرط في صحة القول والعمل فلا يعتبران إلا به. فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: "أن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه3، والجهل بعلم الكتاب والسنة خطره عظيم وضرره كثير، وكثرة الجهل بعلم الشريعة من علامات الساعة ولهذا أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بتدوين الحديث النبوي وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ فقط. فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان واليا للمسلمين على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطا له وإبقاء4. وحذر من عبادة الله تعالى بالجهل الذي هو سبب هلاك الأمم الماضية وهذه الأمة. فسجل كلمته المشهورة المأثورة من تعبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح فالذي يعبد الله تعالى وهو   1 الآية 19 من سورة محمد. 2 البخاري مع الفتح 1/159. 3 المصدر السابق 1/160. 4 انظر المصدر السابق 1/194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 جاهل بعلم الكتاب والسنة لا شك أنه يقع في الخرافات التي تحل في النفوس محل العلم والاعتقاد الصحيح فيضعف نور الإيمان وتنتشر الخرافات ويقوي أمر التحزب الباطل وقد عاب الله تعالى في كتابه الكريم الجهل وأخبر أن سبب ترك الناس لدين الله وتفرقهم فيه إنما هو الجهل. قال تعالى في شأن موسى وقومه حين وصل بهم الجهل إلى أن طلبوا من موسى أن ينصب لهم إلها قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1، وآيات كثيرة في القرآن الكريم فيها ذم الجهل والدعوة إلى العلم والمعرفة وكذا في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الجهل والتحذير منه. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"2. وقد نشأ عن الجهل الغلو في تعظيم بعض المخلوقين تعظيما خارجا عن هدي الإسلام كما نرى في الصوفية حيث جعلوا مرتبة أوليائهم فوق مرتبة الأنبياء وقدَّسوهم ونسجوا أساطير من صنع خيالهم حول هؤلاء الأولياء الأبدال بزعمهم. وإذا شئت أن تأكد من هذا فراجع طبقات   1 الأعراف/ 138. 2 البخاري مع الفتح 1/194، رقم (100) ، ومسلم 1/170، برقم (2673) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 الصوفية للشعراني، ورماح حزب الرحيم المعوجة للفوتى، وجواهر المعاني لعلي خرازم، وغيرها لترى العجب العجاب، ولتعرف مدى خطر التعبد بغير علم كيف يجر المسلم إلى الإلحاد والشرك والكفر وقد ذكر ابن الجوزي في تلبيس إبليس أن الصوفية ينكرون على من تشاغل بالعلم فقال: "لما انقسم هؤلاء بين متكاسل عن طلب العلم وبين ظان أن العلم هو ما يقع في النفوس من ثمرات التعبد وسموا ذلك العلم: العلم الباطن نهوا عن التشاغل بالعلم الظاهر ثم روى رحمه الله بسنده عن جعفر الخلدي قال: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا لقد مضيت إلى عباس الدوري وأنا حدث فكتبت عنه مجلسا واحدا وخرجت من عنده فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فقال: إيش هذا معك؟ فأريته إياه فقال ويحك تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق، ثم خرق الأوراق فدخل كلامه في قلبي فلم أعد إلى عباس، ثم روى أيضا عن الحسين بن أحمد الصفار قال: كان بيدي محبرة فقال الشبلي غيب سوادك عني يكفيني سواد قلبي1. هذا وبعض المتصوفة في العصر الحديث يشنعون على طلاب العلم ولا سيما الذين يعتنون بالمسائل وأدلتها من الكتاب والسنة بل يحاربون ذلك ويسمون هذا العلم شغبا وجدلا وخصاما. ويقولون: إن العلم كهذا   1 تلبيس إبليس ص399. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 يصرف الإنسان عن العمل ويقولون: إن إبليس كان علمه من هذا القبيل أي من قبيل المسائل والأدلة ويجعلون قول إبليس {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 1، من قبيل العلم بالمسائل، مع أنه ليس إلا معارضة النص بالقياس. ويقولون: إن إبليس كان أعلم من في الأرض بل حتى ممن في عالم الملكوت وزيادة عليه فقد كان معلم الملكوت ولكن علمه وكثرة علمه هذا أداه إلى الضلال مع أن الله جل وعلا يقول في إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2، فهم يضللون العلم بالمسائل والعلم بالأدلة وأهلها3. وقد عد السيوطي رحمه الله تعالى الاشتغال بنوافل العبادات مع الجهل وترك حمل العلم من البدع4. ولا شك أن العلم الشرعي هو العلم الذي تعبدنا الله به لأنه هو المأخوذ عن الله عز وجل وعن أنبيائه ورسله ومن المعلوم أن الله تعالى لا يقبل أي عمل إلا إذا كان موافقا لما أمر به لأن العلم إذا لم يكن شرعيا   1 الآية رقم 12 من سورة الأعراف. 2 الآية رقم 34 من سورة البقرة. 3 انظر القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ ص199-200. 4 الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع ص84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 من الله تعالى كان وضعيا من استحسانات البشر ومفاهيمهم القاصرة وما يذكر من تزهيد أقطاب التصوف وغيرهم عن العلم الشرعي فإنما هو دليل على تلاعب الشيطان بهم. واتباعهم لهوى أنفسهم يتمثل هذا في قولهم يعيبون على أهل الشريعة: "أخذتم علمكم ميتا عن ميت حدثني فلان أين هو؟ قالوا: مات. عن فلان أين هو؟ قالوا: مات. فعلمنا عن الحي القيوم يقول أحدنا: حدثني قلبي عن ربي" 1 وغير ذلك من عباراتهم التي يعيبون بها العلوم الشرعية والذين يسمون أصحابها بأصحاب القراطيس. تنفيرا عنهم وترغيبا فيما ابتدعوه في الدين بجهلهم الذي يزعمون أنه يعتمدون فيه على العلم اللدني الذي يتباهون بحصولهم عليه كذبا وافتراء وزخرفا من القول غرورا.   1 انظر الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية4 – 5 /265. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 الفصل التاسع: موقفه من أهل الذمة تمهيد: قد سبق أن ذكرنا موقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من أهل الأهواء والبدع، وسنذكر الآن موقفه من أهل الذمة وهم:- أهل الأديان الأخرى غير الإسلام المعاهدين على دفع الجزية للمسلمين. أما موقفه من أهل الحرب؛ فقد كان متبعا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج خلفائه الراشدين حيث كتب إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع فارس والروم، ووعدهم عمر بأن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وكانت سيرته قد بلغتهم فأسلم "جيشبة بن زاهر" والملوك، وتسموا له بأسماء العرب ... وبقي ملوك السند مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد بن عبد الملك ... 1. كما كتب إلى ملك الروم قيصر يدعوه إلى الإسلام2. أما ما يخص أهل الذمة الموجودين تحت سلطته فيتضح موقفه منهم فيما أثر عنه من الآثار الآتية:   1 انظر:ابن الأثير الكامل في التاريخ 4/160، ط. دار الكتاب العربي بيروت ط. السادسة عام 1406هـ. 2 انظر: ابن عساكر تاريخ دمشق ج33 ص 419 وابن كثير البداية والنهاية ج 5 ص230. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 329/1- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن القاسم، عن عياش بن سليم، عن عمر بن عبد العزيز في الذمي يوصي بالكنيسة يوقف وقفا من ماله للنصارى أو لليهود. قال: يجوز ذلك1. 330/2- وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني سويد، عن حصين، عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: إن أسلم والجزية في كفة الميزان فلا تؤخذ منه2. 331/3- وقال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عمر بن محمد، عن عمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، في الذمي يسلم قبل السنة بيوم، قال: لا تؤخذ منه الجزية3. 332/4- أبو عبيد القاسم بن سلاَّم قال: حدثني سعيد بن أبي مريم، عن عبد الله بن عمر العمري، عن سهيل بن أبي صالح، عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن - وهو بالعراق - أن أخرج للناس أعطياتهم فكتب إليه عبد الحميد إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه: أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، قال قد قضيت   1 ابن سعد الطبقات 5/356، وفي إسناد الأثر شيخ المصنف متروك. 2 المصدر السابق 5/356. 3 المصدر السابق 5/356. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 عنهم وبقي في بيت المال مال فكتب إليه أن زوج كل شاب يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين1. 333/5- وقال: حدثنا حفص بن غياث، عن أبي بن عبد الله، قال: أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز: "لا تهدموا كنيسة ولا بيت نار، صولحوا عليه، ولا تحدثوا كنيسة ولا بيت نار، ولا تحدوا شفرة، على رأس بهيمة، ولا تجمعوا بين صلاتين إلا من عذر"2. 334/6- ابن عبد الحكم قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أما بعد: فإن المشركين نجس حين جعلهم الله جند الشيطان، وجعلهم {الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ   1 أبو عبيد في الأموال ص265، وفي الأثر عبد الله بن عمر العمري ضعيف عابد. تقريب التهذيب ص314. والرجل الأنصاري لم اهتد إليه، وقد أخرج الأثر ابن عساكر 45/213، عن طريق أبي عبيد به. 2 أبو عبيد في الأموال ص103-104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 صُنْعاً} 1، فأولئك لعمري ممن تجب عليهم باجتهادهم لعنة الله ولعنة اللاعنين. وإن المسلمين كانوا فيما مضى إذا قدموا بلدة فيها أهل الشرك يستعينون بهم لعلمهم بالجباية، والكتابة، والتدبير، فكانت لهم في ذلك مدة فقد قضاها الله بأمير المؤمنين فلا أعلم كاتبا، ولا عاملا، في شيء من عملك على غير دين الإسلام إلا عزلته واستبدل مكانه رجلا مسلما، فإن محق أعمالهم محق أديانهم. فإن أولى بهم إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله بها من الذل والصغار، فافعل ذلك واكتب إلي كيف فعلت. وانظر فلا يركبن نصراني على سرج وليركبوا بالأكف، ولا تركبن امرأة من نسائهم راحلة، وليكن مركبها على إكاف2 ولا يفحجوا على الدواب، وليدخلوا أرجلهم من جانب واحد، وتقدم في ذلك إلى عمالك حيث كانوا، واكتب إليهم كتابا في ذلك بالتشديد واكفنيه، ولا قوة إلا بالله3.   1 الآيتان 103-104 من سورة الكهف. 2 إكاف: البرذعة وهو الذي يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسرج للفرس. المعجم الوسيط ص (48) . 3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص140، وأبو حفص الملاء 1/404-405، وأبو يوسف في الخراج ص127، وأبو نعيم في الحلية 5/325. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 335/7- ابن عبد الحكم قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: أن لا يمشين نصراني إلا مفروق الناصية، ولا يلبس قباء1، ولا يمشي إلا بزنار2 من جلود، ولا يلبس طيلسانا3، ولا سراويل ذات خدمة، ولا نعلا لها عذبة4، ولا يوجدن في بيته سلاح إلا انتهب5. 336/8- أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد ابن إسحاق، ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أن عمر كتب: أن امنعوا اليهود، والنصارى من دخول مساجد المسلمين، واتبع نهيه قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 6 .... "7 337/9- أبو يوسف القاضي قال: حدثني عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله:   1 ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق به. المعجم الوسيط (713) . 2 الزنار: حزام يشده النصراني على وسطه، المعجم الوسيط ص (403) . 3 الطيلسان: ضرب من الأوشحة، يلبس على الكتف أو يحيط بالبدن خالٍ عن التفصيل والخياطة. المعجم الوسيط ص (561) . 4 هو: جعل شراك النعل من خلفها، انظر المعجم الوسيط ص (589) . 5 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص140. 6 الآية 28 من سورة التوبة. 7 أبو نعيم في الحلية 5/325-326. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 أما بعد: فلا تدعن صليبا ظاهرا، إلا كسر، ومحق، ولا يركبن يهودي ولا نصراني على سرج، وليركب على إكاف، ولا تركبن امرأة من نسائهم على رحالة، وليكن ركوبها على إكاف، وتقدم في ذلك تقدما بليغا، وامنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء، ولا ثوب خز ولا عصب، وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم، وتركوا المناطق على أوساطهم، واتخذوا الجمام والوفر1، وتركوا التقصيص، ولعمري لئن كان يصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك لضعف، وعجز، ومصانعة، وإنهم حين يراجعون ذلك ليعلموا ما أنت فانظر كل شيء نهيت عنه فاحسم عنه من فعله والسلام2. التعليق: هذه الآثار تدل على مدى سعة فكر عمر بن عبد العزيز وفقهه وعلى التسامح الذي أشاعه بين الناس من ناحية موقفه من أهل الذمة حيث أنه   1 هو الشعر المجتمع على الرأس، أو ما جاوز شحمة الأذن، المعجم الوسيط ص (1046) . 2 أبو يوسف في الخراج ص 27-28. وأبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة المتوفى 183هـ انظر مقدمة كتاب الخراج ط. دار المعرفة بيروت. وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي صدوق يخطئ ورمي بالقدر. تقريب ص337، وأبوه ثابت بن ثوبان العنسي، ثقة. تقريب ص132. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 كان يعاملهم بالرفق، وعدم إرهاقهم بما يشق عليهم ترغيبا لهم في الإسلام، وكذلك أيضا قد عف عن ما في أيديهم. وكان همه الإسلام أولا، لا الجزية، وإثراء بيت المال، فقد أمر عماله أن يضعوا الجزية عن الذمي إذا أسلم حتى ولو كانت تلك الجزية في الميزان، وقد عوضه الله بخير عميم فامتلأت خزائنه بالمال لحسن نيته حيث كان ينفق المال بسخاء للمحتاجين، على اختلافهم فيساعد من يحتاج من المزارعين الذميين ما يتقوون به على الاستفادة من أراضيهم، وغير ذلك من الأعمال التي تذكر له تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه رضي الله عنهم، وهذا دلالة على أن من ترك شيئاً لله عوضه الله بخير منه. ولهذا أصبح عمر رحمه الله مثال الحاكم العابد، والزاهد، العفيف. وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بأن نعامل أهل الكتاب معاملة حسنة لا سيما الذين لم يقاتلونا في الدين فقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1.   1 الآية 8 من سورة الممتحنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 فهذه الآية تأمرنا بالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، واكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة1. وأما ما يخص أهل الذمة القادرين على أداء الجزية فقد أمرهم بأن لا يتشبهوا بالمسلمين في اللباس، والمركب، والهيئة، ويؤخذ عليهم عهدا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الرمانة من خشب، وبأن يجعلوا شراك نعالهم مثنية، ولا يحذوا على حذو المسلمين، وتمنع نساؤهم من ركوب الرحائل، ويمنعوا من أن يحدثوا بناء بيعة أو كنيسة في المدينة إلا ما كانوا صولحوا عليه، وصاروا ذمة، وهي بيعة لهم أو كنيسة. فما كان كذلك تركت لهم ولم تهدم، وكذلك بيوت النيران، ويتركون يسكنون في أمصار المسلمين وأسواقهم يبيعون، ويشترون، ولا يبيعون خمرا ولا خنزيرا، ولا يظهرون الصلبان في الأمصار2، وهذا ما أمر به عمر رحمه الله تعالى تأسيا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ويبدو من الآثار الواردة عن عمر أنه وجد أن أهل الذمة في زمنه قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: 1- قسم قد حُمِّلوا ما لا يطيقون دفعه من قبل بعض العمال فأزال عنهم هذا الظلم   1 انظر القرافى: في الفروق 3/15. 2 انظر أبو يوسف في الخراج ص127. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 2- وقسم قد خرجوا عن الحدود المرسومة لهم بعهودهم فتطاولوا على المسلمين، وتلبسوا بحالات تشبهوا فيها بالمسلمين في أزيائهم ومراكبهم، فرأى عمر أن في ذلك خروجا منهم عن مكانتهم بحسب الشروط الواردة في عهودهم. 3- وقسم قد وَلّوا مناصب هامة في جبابة الزكاة، والفيء، والمواريث، فرأى عمر أن هذا خروج عن العهد الذي عليهم وهو دفع الجزية عن يد وهم صاغرون. فأعادهم إلى عهدهم ومكانهم. فعمر رحمه الله تعالى يعزل من لا يثق في عقيدته، وقد كانت معاملته مع أهل الذمة مضرب المثل في العدالة. وقد تقدم في فضائله شيء من ذلك. ولم يأمر أهل الذمة بأن يلبسوا لباسا خاصا إلا لحرصه عليهم من أن يصيبهم مكروه ولو خطئا، لأن المسلمين مطالبون بفرائض وواجبات عليهم أن يؤدوها، ولم يكن هناك ما يحدد الهوية فإن لم يتميز الأشخاص بملابسهم وهيآتهم لوقع اللبس، كمن يقف مثلا خارج المسجد والصلاة تصلى وهو يلبس ملابس المسلمين فلا شك أن ذلك يوجب المساءلة والاتهام أما إذا كان يلبس ملابس أهل الذمة فلا يتهم1 ويمكن أن يكون ذلك من باب التصغير لهم والتحقير لعلهم يسلمون أو يبقوا مكسورين والله أعلم.   1 انظر: البورنو قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز ص552. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه 1- وبعد: فقد تناولنا من خلال التمهيد والأبواب الثلاثة المتقدمة الآثار الواردة عن عمر في العقيدة، فكان التمهيد مخصصا بالتعريفات؛ تعريف مفردات عنوان الرسالة، وتعريف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وتبين منها أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- قد ولد بالمدينة النبوية عام 61هـ ونشأ وتربى فيها وأخذ عن علمائها وفقهائها السبعة وبذل جهداً كبيراً في تدوين السنة وإحيائها، وإماتة البدع، ومحو آثارها. وقد أُمِّر على المدينة، وحمدت سيرته، وجعل بطانته العلماء الأبرار ثم نحي عنها وسافر إلى الشام ثم ولي الخلافة وكان رحمه الله تعالى صاحب فضائل جمة، ومناقب مشهورة، وتوجد مبالغات في بعض ما ينسب له من الفضائل. وقد تأثر بجده عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقتدى بسيرته في الحكم، ويكاد علماء السلف يجمعون على أنه هو المجدد للقرن الأول، وقد سخر ولايته لخدمة السنة، والعقيدة الصحيحة، وبذل جهداً كبيراً وكتب رسائل عديدة طويلة كتبها إلى عماله في ذلك، وقد كانت وفاته خسارة فادحة للمسلمين في عام 101هـ في أخريات رجب عن أربعين عاما على أصح الأقوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 2- وكان رحمه الله على طريقة السلف الصالح في الحرص على الدعاء والاهتمام بآدابه، وشروطه والنهي عن الابتداع فيه، وكان يرى جواز التبرك بمقتنيات الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. 3- وتبين من خلال الآثار المنقولة عنه حرصه الشديد على إظهار الشكر لله تعالى وتوسطه بين الخوف والرجاء، وكان ينهى عن التطير ويأمر بالتوكل ويأخذ بالأسباب المباحة كما كان ينهى عن اتخاذ القبور مساجد. ويأمر بقتل الساحر إذا ثبت سحره. 4- إن عمر رحمه الله تعالى كان على منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأنها توقيفية، وأزلية. 5- وكان عمر رحمه الله تعالى على طريقة السلف في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم وفضائل أصحابه، وحقوق أهل بيته. 6- وتبين من خلال الآثار الواردة عنه الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وأنهما على الروح، والجسد معاً. كما تبين منها الإيمان بالمعاد، والحوض، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة. 7- وكان يحرص على إيضاح مسائل الإيمان بالقدر وذكر أركانه، ويزجر عن الخوض فيه بالعقل المجرد، ويحث على التسليم لما قضى الله وقدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 8- وقد تبين من تلك الآثار موقف عمر من زيادة الإيمان ونقصانه، وكونه يشمل الأعمال، والأقوال، والاعتقادات، وموقفه من مرتكب الكبيرة، وتكفير المعين، ولعنه، والحكم عليه أوله بالجنة أو النار، وبيان بعض نوا قض الإيمان كالردة، وإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة وغيرهما. وأنه كان في كل ذلك على نهج السلف. 9- وتبين أن الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الجماعة، وتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والحض على لزوم السنة، والذب عنها والتمسك بما تدل عليه أخبار الآحاد، وما تدل عليه الفطرة من منهج عمر في العقيدة. 10- إن عمر كان يعتصم بسنة الخلفاء الراشدين، ويحذر من الأهواء كلها والبدع، وكان يبين سمات أهلها، ويحذر الناس من الاتصاف بها، ويحذر من الخصومات إذا كانت عن جهل أو في ما نهى الله ورسوله عنه أو كانت بباطل، ويحث على الجدال بالتي هي أحسن؛ كما جاء في القرآن، وقد كان رحمه الله تعالى مجتهدا في إيضاح الحق، عالماً، عاملاً. وله مواقف مشهورة ومشكورة تجاه أهل الأهواء والبدع. 11- إن موقف عمر رحمه الله تعالى من أهل البدع من الخوارج، والشيعة، والقدرية، والجهمية، والمرجئة وغيرهم من أهل الأهواء والبدع هو موقف السلف الصالح حيث ناظر الخوارج، وبين لهم خطأهم ثم حاربهم، وحذر الناس من مبادئ الشيعة، كما ناظر القدرية وسألهم عن علم الله تعالى فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا به كفروا، ثم بين له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 خطأهم في فهم النصوص. ثم حكم عليهم، كما حكم على غيرهم من فرق الضلال، كالذين يعبدون الله بغير علم من الفرق الضالة. 12- إن موقفه من أهل الذمة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وعمل به السلف الصالح من الإحسان إليهم، وعدم إرهاقهم عنتا، وتسليفهم ما يحتاجون إليه من مال، وإنفاذ ما تصدقوا به على ذويهم، وحثهم على الدخول في الإسلام ماديا، ومعنويا، وغير ذلك من الإحسان إليهم. وأن هذا كان له تأثير عظيم في نفوس أهل الذمة ودخولهم في الإسلام. هذا ما تيسر التنبيه عليه حيث اكتفيت بذكر أهم ما ينبغي الوقوف عليه من الآثار الواردة عن هذا الخليفة العابد، الزاهد، وأرجو الله عز وجل أن أكون قد أسهمت إسهاما نافعا في بيان هذا الجانب من حياة عمر بن عبد العزيز. والكمال لله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع المصادر المخطوطة القدر للفريابي مخطوط بالجامعة الإسلامية برقم (2570) . تاريخ دمشق لابن عساكر مخطوط بالجامعة الإسلامية جـ 13، وجـ 19. المصادر المطبوعة الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء إعداد الدكتور جمال بادي بن أحمد بشير ط. دار الوطن الرياض ط. الأولى عام 1416هـ. آداب الشافعي ومناقبه للإمام الجليل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ط. الثانية عام 1413هـ - 1993م. أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز رحمه الله وسيرته للآجري تحقيق الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان، الطبعة الثانية عام 1412هـ - 1982م. أخبار الآحاد في الحديث النبوي حجيتها مفادها والعمل بموجبها للشيخ عبد الرحمن بن جبرين ط. دار عالم الفوائد عام 1416هـ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني تحقيق د/منيع عبد الحليم محمود ط. دار التراث العربي القاهرة. عام 1974م. الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم للنووي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الأسماء الحسنى معانيها وآثارها رسالة دكتوراه لم تنشر بعد للدكتور رفيع اوَّنْلا النجيري حفظه الله. أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ط. دار المدينة للطباعة والنشر بيروت وطبعة مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية باستانبول ط, الأولى عام 1346هـ 1928م استانبول. الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني تحقيق إبراهيم الأبياري ط. دار الشعب مصر عام 1389هـ - 1969م. الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا ط. دار الكتب العلمية ط. الأولى عام 1408هـ 1988م بيروت لبنان. الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام مسيرة ركب الشيطان النشأة والأسباب تأليف د/ناصر عبد الكريم العقل ط. دار الوطن الرياض ط. الثانية عام 1417 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة لابن بطة العكبري تحقيق ودراسة رضا بن نعسان معطي ط. دار الراية الرياض ط. الثانية عام 1994م - 1415هـ. الإبانة لابن بطة كتاب القدر الثاني تحقيق ودراسة د/عثمان عبد الله الأثيوبي ط. دار الراية الرياض عام 1415هـ. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل تأليف محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي ط. الأولى عام 1399هـ - 1979م بيروت ودمشق. الاعتصام للشاطبي ضبطه وصححه الأستاذ أحمد عبد الشافي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الثانية عام 1411هـ - 1991م. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية ط. دار المعرفة بيروت لبنان. الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للباقلاني تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ط. عالم الكتب بيروت عام 1407هـ - 1986م. ط. الأولى. الإيمان أركانه، حقيقته، نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين ط. الأولى عام 1398هـ. الإيمان بالقضاء والقدر تأليف محمد بن إبراهيم الحمد ط. دار الوطن ط. الثانية عام 1416هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي بيروت لبنان عام ط. الثانية عام 1408هـ - 1988م. اشتقاق أسماء الله الحسنى لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي تحقيق الدكتور عبد الحسين المبارك ط. مؤسسة الرسالة بيروت ط. الثانية عام 1406هـ - 1986م. الاعتصام للشاطبي ط. دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان. الاعتقاد على مذهب السلف وأهل السنة والجماعة للبيهقي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1406هـ - 1986م. الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1403هـ - 1983م. الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي تحقيق سيف الدين أحمد الكاتب ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الثانية عام 1405هـ - 1985م. باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل لأحمد بن يحيى بن المرتضى اعتنى بتصحيحه توماارنلد ط. دار صادر بيروت عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن عام 1316هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير الدمشقي تأليف أحمد محمد شاكر ط. دار الفكر. بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ضبط نصه وخرج آياته أحمد عبد السلام مكتبة الباز ط. الأولى عام 1414هـ 1994م دار الكتب العلمية بيروت لبنان. البداية والنهاية لابن كثير ط. الأولى عام 1351هـ - 1933م ط. دار الفكر العربي الجزرة جـ، م، ع. البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة لأبي الوليد ابن رشد القرطبي وضمنه المستخرجة من الاسمعة المعروفة بالعتبية لمحمد العتبي القرطبي تحقيق الدكتور محمد حجي ط. دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان عام 1408هـ - 1988م. ط. الثانية. البيهقي وموقفه من الإلهيات للشيخ الدكتور أحمد بن عطية الغامدي ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية عام 1402هـ - 1982م ط. الثانية. تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ط. دار الكتاب العربي بيروت لبنان عن طبعة كردستان العلمية عام 1326هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 تاج العروس من جواهر القاموس تأليف السيد محمد مرتضى الزبيدي تحقيق عبد الستار أحمد فراج بإشراف إبراهيم الترزي ط. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان عام 1385هـ - 1965م. تاريخ أبي زرعة الدمشقي تحقيق شكر الله نعمة الله القوجاني مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. تاريخ أبي زرعة الدمشقي وضع حواشيه خليل المنصور ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1417هـ - 1996م ط. الأولى. تاريخ الإسلام للذهبي تحقيق د/بشار عواد معروف والشيخ شعيب الأرناؤوط ود/ مهدي عباس ط. مؤسسة الرسالة ط. الأولى عام 1408هـ - 1988م. تاريخ الخلفاء للسيوطي تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط. الأولى مطبعة السعادة بمصر عام 1371هـ - 1952م. تاريخ الخلفاء للسيوطي ط. مطبعة الفجالة الجديدة الرابعة عام 1389هـ. تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط. دار المعارف بمصر عام 1964م. تاريخ الموصل للشيخ أبي زكريا يزيد بن محمد الأزدي تحقيق د/ علي حبيبة ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر القاهرة عام 1387هـ - 1967م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 تاريخ اليعقوبي ط. دار صادر بيروت لبنان عام 1379هـ - 1960م. تاريخ بغداد أو مدينة السلام للحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان. تاريخ خليفة بن خياط العصفري ط. مكتبة دار الكتب العلمية تحقيق د/ مصطفى نجيب ود/ حكمت فواز. تاريخ داريا للقاضي عبد الجبار الخولاني حققه وقدم له سعيد الأفغاني ط. دار الفكر دمشق تصوير عام 1404هـ - 1984م. تاريخ قضاة مصر ومعه تسمية قضاتها لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي المصري ط. مؤسسة الكتب الثقافية بيروت ط. الأولى عام 1407هـ - 1987م. تاريخ مدينة دمشق تصنيف الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي المعروف بابن عساكر دراسة وتحقيق محب الدين أبي سعيد عمر غرامة العمروي ط. دار الفكر ط. الأولى عام 1417هـ - 1996م. التبرك أنواعه وأحكامه تأليف الدكتور ناصر عبد الرحمن بن محمد الجديع الناشر مكتبة الرشد الرياض عام 1415هـ - 1995م الطبعة الثالثة. التبرك المشروع والممنوع للدكتور علي بن نفيع العلياني ط دار الوطن للنشر الرياض ط. الأولى عام 1411هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 التجانية لعلي بن محمد الدخيل الله ط. دار طيبة الرياض عام 1401هـ. تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان لمرعي الحنبلي المقدسي تحقيق د/سليمان صالح الخزي، ط. الأولى مطبعة المدني القاهرة عام 1409هـ - 1989م. التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار لابن رجب الحنبلي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1405هـ - 1983م ط. الأولى تذكرة الحفاظ للذهبي ط. دار إحياء التراث العربي. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الثانية عام 1407م - 1987م. تفسير أسماء الله الحسنى إملاء أبي إسحاق إبراهيم السري الزجاج تحقيق أحمد يوسف الدقاق ط. دار الثقافية العربية دمشق ط. الخامسة 1412هـ - 1992م. تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ط. دار المكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1412هـ - 1992م. تفسير القرآن الجليل للنسفي ط. المكتبة الأموية -دمشق- مكتبة الغزالي – حماة - مؤسسة الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي ط. مكتبة دار التراث القاهرة 22 شارع الجمهورية. التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي ط. دار إحياء التراث العربي بيروت. تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني قدم له دراسة وافية وقابله محمد عوامة ط. دار الرشيد سوريا حلب ط. الرابعة عام 1412هـ - 1992م التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد لابن نقطة ط. دار الحديث عام 1407هـ 1986م بيروت لبنان. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح ط. دار الفكر. تلبيس إبليس لابن الجوزي دراسة وتحقيق الدكتور السيد الجميلي ط. دار الريان للتراث ودار المعارف. التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة للسيوطي ط. دار الثقة للنشر والتوزيع عام 1410هـ 1990م. مكة المكرمة تحقيق عبد الحميد شاحونة. تنبيه أولى الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار تأليف الشيخ الدكتور صالح بن سعد السحيمي ط. الأولى عام 1410هـ - 1989م الناشر دار ابن حزم الرياض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي تحقيق يمان بن سعد الدين المياديني ط. رمادي للنشر ط. الأولى عام 1414هـ - 1994م الدمام. تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك للسيوطي ط. المكتبة الثقافية بيروت لبنان عام 1984م. تهذيب الأسماء واللغات للنووي طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان. تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق وتعليق مصطفى عبد القادر عطا ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1415هـ - 1994م. تهذيب الكمال في أسماء الرجال لجمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي تحقيق بشار عواد معروف ط. مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ط. الثانية عام 1403هـ - 1983م. تهذيب اللغة للأزهري محمد بن أحمد ط. دار الكتاب العربي عام 1967م. توحيد الألوهية أساس الإسلام للشيخ حامد عبد القادر الأحمدي مطبوع على الآلة الكاتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ط. المكتب الإسلامي بيروت عام 1390هـ - 1970م. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي بتحقيق وشرح أحمد شاكر ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي تحقيق الدكتور يوسف البقاعي ط. المكتبة العصرية صيدا بيروت ط. الأولى عام 1416هـ - 1995م. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ط. دار الكتب المصرية القاهرة عام 1372هـ- 1952م. الجرح والتعديل لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عن طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند الطبعة الأولى. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن قيم الجوزية ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى 1405هـ - 1985م. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه تأليف عبد الرزاق بن طاهر ط. دار الوطن الرياض ط. الأولى عام 1417هـ - 1996م. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المسمى الداء والدواء لابن قيم الجوزية ط دار الفكر بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني تأليف علي حرازم برادة مطبعة الحلبي عام 1963م. حجة القراءات لأبي زرعة عبد الرحمن بن زنجلة تحقيق وتعليق سعيد الأفغاني ط. الثانية عام 1399هـ 1979م مؤسسة الرسالة بيروت. الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة لقوام السنة إسماعيل ابن محمد التيمي الأصبهاني تحقيق الشيخ الدكتور محمد ربيع المدخلي ومحمد محمود أبو رحيم ط. دار الراية الرياض ط. الأولى عام 1411هـ - 1990م. الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط. الدار السلفية. حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا دراسة وتحقيق عبد الحميد شانوحة ط. مؤسسة الكتب الثقافية ط. الأولى عام 1413هـ - 1993م بيروت. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ط. دار الكتاب العربي ط. الرابعة عام 1405هـ - 1985م. الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار للشيخ الدكتور غالب بن علي العواجي ط. دار لينة دمنهور مصر عام 1417هـ - 1997م. ط. الأولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز تأليف عبد الرحمن الشرقاوي ط. دار الكتاب العربي بيروت ط. الأولى عام 1407هـ - 1987م. الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز تأليف عبد العزيز سيد الأهل ط. دار العلم للملايين بيروت ط. السادسة 1979م. درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط. الأولى عام 1399هـ - 1979م. الدرر السنية في الأجوبة النجدية -جمعها عبد الرحمن بن قاسم العاصمي القحطاني النجدي/ الطبعة الثانية عام 1385هـ - 1965م المكتب الإسلامي بيروت لبنان. الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية تأليف جيلان بن خضر العروسي ط. مكتبة الرشد الرياض عام 1414هـ - 1993م. الدين الخالص تأليف السيد محمد صديق حسن خان القنوجي / مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر القاهرة. ذم الدنيا لابن أبي الدنيا دراسة وتحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا مؤسسة الكتب الثقافية بيروت عام ط. الأولى عام1413هـ - 1993م. ذم الملاهي لابن أبي الدنيا تحقيق ودراسة عبد المنعم سليم ط. الأولى عام 1416هـ ط. مكتبة ابن تيمية القاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 الرد على الجهمية تأليف عثمان بن سعيد الدارمي تحقيق بدر البدر ط. الدار السلفية ط. الأولى عام 1405هـ - 1985م الصفاة الكويت. الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عميرة ط. دار اللواء ط. الثانية عام 1402هـ - 1982م الرياض. الرد على المخالف ضمن مجلد الردود للشيخ الدكتور بكر عبد الله أبو زيد ط. دار العاصمة للنشر والتوزيع الرياض عام 1414هـ. الرضا عن الله بقضائه والتسليم بأمره تأليف أبي بكر عبد الله بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا دراسة وتحقيق عبد القادر عطا ط. مؤسسة الكتب الثقافية بيروت ط. الأولى عام1413هـ - 1993م. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا تحقيق محمد خير رمضان يوسف ط. مكتبة العبيكان الرياض عام 1415هـ - 1994م ط. الأولى. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا تحقيق وتعليق مسعد عبد الحميد محمد السعدني ط. مكتبة القرآن القاهرة. رماح حزب الرحيم علي نحور حزب الرجيم لعمر بن سعيد الفوتى القاهرة مطبعة الحلبي عام 1963م بحاشية جواهر المعاني. الروح لابن القيم ط. دار الكتاب العربي تحقيق ودراسة الدكتور السيد الجميلي ط. الثالثة عام 1408هـ 1988م بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 الزهد للإمام أحمد بن حنبل دراسة وتحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول ط. دار الكتاب العربي ط. الأولى عام 1406هـ - 1986م. بيروت لبنان. الزهد لهناد بن السرى الكوفي حققه وخرج أحاديثه عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي ط. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي ط. الأولى عام 1406هـ - 1985م الكويت. الزهر النضر في نبإ الخضر لابن حجر الحافظ شرحه وعلق عليه سمير حسين حلبي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1408هـ - 1988م ط. الأولى. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه بقلم الشيخ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد ط. مكتبة دار العلم والكتاب ط. الأولى 1416هـ - 1996م الرياض. سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط. الأولى المكتب الإسلامي بيروت. السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل تحقيق ودراسة الدكتور محمد سعيد سالم القحطاني ط. رمادي للنشر الدمام ط. الثالثة عام 1416هـ - 1995م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 سنن أبي داود للحافظ المصنف أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ط. دار الحديث حمص سورية ط. الأولى عام 1389هـ - 1969م اعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس. سنن أبي داود تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط. المكتبة العصرية صيدا بيروت. سنن ابن ماجة للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ط. دار الريان للتراث حقق نصوصه ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي. سنن الدارمي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. سنن النسائي للحافظ أحمد بن شعيب النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي ط. دار الفكر ط. الأولى عام 1348هـ - 1930م. السنن للشافعي تحقيق الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر ط. دار القبلة للثقافة جدة عام 1409هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي ط. مؤسسة الرسالة بيروت ط. السابعة عام 1410هـ - 1990م. سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه تأليف أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم، تحقيق أحمد عبيد ط. دار عالم الكتب ط. السادسة عام 1404هـ - 1994م. وطبعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 مكتبة وهبة عام 1373هـ - 1954م وط. دار الفضيلة بمراجعة وتعليق أحمد عبد التواب عوض. سيرة عمر بن عبد العزيز لعبد الرحمن بن الجوزي ط. مكتبة دار التراث تحقيق أحمد شوحان سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ضبطه وشرحه وعلق عليه الأستاذ نعيم زرزور ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1404هـ - 1984م. شأن الدعاء لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي الحافظ تحقيق أحمد يوسف الدقاق ط. دار الثقافية العربية دمشق الطبعة الثالثة عام 1412هـ - 1992م. شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني ط. الرابعة 1415هـ. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ط. دار طيبة الرياض ط. الثالثة عام 1415هـ - 1994م. شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار الهمذاني تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان الناشر مكتبة وهبة عام 1384هـ - 1965م. شرح السنة لمحي السنة البغوي تحقيق شعيب الأرناؤوط ط. المكتب الإسلامي بيروت ط. الأولى عام 1390هـ - 1971م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق: حسين محمد مخلوف الناشر: دار الكتب الإسلامية. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي الدمشقي تحقيق الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة ط. السادسة عام 1414هـ - 1994م. بيروت. شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية تأليف الشيخ الدكتور صالح بن فوزان عبد الله الفوزان ط. مكتبة المعارف الطبعة السادسة عام 1413هـ - 1993م. شرح المقاصد لمسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني تحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن عميرة ط. دار عالم الكتب بيروت ط. الأولى عام 1409هـ - 1989م. شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني المسماة تحفة المريد لإبراهيم بن محمد البيجوري ط. دار الكتب العملية ط. الأولى 1403هـ - 1983م بيروت لبنان. شرح حديث النزول لشيخ الإسلام ابن تيمية منشورات المكتب الإسلامي ط. السادسة عام 1402هـ - 1982م. شرح ديوان كثير عزة تحقيق الدكتور رحاب عكاوي ط. دار الفكر العربي بيروت ط. الأولى عام 1996م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 الشريعة للآجري تحقيق الوليد بن محمد بن نبيه سيف النصر، طبعة مؤسسة قرطبة الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. الشريعة للآجري تحقيق محمد حامد الفقي الطبعة الأولى 1369هـ - 1950م. مطبعة السنة المحمدية بمصر. شعب الإيمان للإمام البيهقي تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول ط. دار الكتب العلمية ط. الأولى عام 1410هـ - 1990م. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم ط. دار التراث القاهرة. الشكر لابن أبي الدنيا عبد الله بن محمد القرشي تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول. الشمائل المحمدية للترمذي تعليق وإشراف عزت عبيد الدعاس ط. دار الحديث بيروت لبنان ط. الثالثة عام 1408هـ - 1988م. الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد عام 1398هـ - 1978م. بيروت لبنان. الصحاح تاج اللغة العربية تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري تحقيق أحمد عبد الغفور عطا ط. دار العلم للملايين بيروت لبنان عام 1399هـ - 1979م ط. الثالثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 صحيح الجامع الصغير محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي. صحيح سنن أبي داود باختصار السند صحح أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت ط. الأولى عام 1409هـ - 1989م. صحيح سنن ابن ماجة باختصار السند تأليف محمد ناصر الدين الألباني ط. الثالثة ط. المكتب الإسلامي بيروت عام 1408هـ - 1988م. صحيح سنن الترمذي باختصار السند بقلم محمد ناصر دالين الألباني ط. المكتب الإسلامي بيروت لبنان عام 1408هـ - 1988م. صحيح سنن النسائي باختصار السند صحح أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي ط. الأولى عام1409هـ -1989م. صحيح مسلم بشرح النووي ط. دار الخير إعداد مجموعة أساتذة مختصين بإشراف علي عبد الحميد أبو الخير ط. الأولى عام 1414هـ - 1994م دار الخير دمشق وبيروت. الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه للشيخ الدكتور محمد أمان الجامي ط. الجامعة الإسلامية عام 1413هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو. ط الأولى ط. عيسى البابي الحلبي وشركاه عام 1384هـ - 1965م. الطبقات الكبرى لابن سعد القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم، دراسة وتحقيق زياد محمد منصور ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية ط. الأولى 1403هـ - 1983م. الطبقات الكبرى لابن سعد ط. دار الفكر ودار صادر بيروت. العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ط. دار الوطن ط. الأولى عام 1417هـ - 1997م الرياض. العقد الفريد تأليف أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي شرحه وضبطه ورتب فهارسه، أحمد أمين، إبراهيم الابياري، عبد السلام هارون قدم له الدكتور عمر عبد السلام تدمري طبعة دار الكتاب العربي بيروت. العقوبات لابن أبي الدنيا تحقيق محمد خير رمضان يوسف ط. دار ابن حزم بيروت لبنان عام 1416هـ - 1996م ط. الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (تأليف الدكتور ناصر بن علي عائض حسن الشيخ ط. مكتبة الرشد ط. الثانية عام 1415هـ - 1995م. عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان عرضا ونقدا تأليف سليمان بن صالح عبد العزيز الغصن ط. دار العاصمة الرياض ط. الأولى عام 1416هـ - 1996م. عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني حققها وخرج أحاديثها نبيل بن سابق السبكي ط. الأولى عام 1413هـ دار طيبة الرياض. العقيدة في الله للدكتور عمر سليمان الأشقر ط. مكتبة الفلاح ط. الخامسة عام 1984م الكويت. العلو للعلي الغفار للذهبي ضبط وتقديم وتحليل عبد الرحمن محمد عثمان ط. دار الفكر ط. الثانية عام 1388هـ - 1968م. عمر بن عبد العزيز تأليف أحمد الحناوي ط. دار الصحابة للتراث بطنطا ط. الأولى عام 1410هـ - 1990م. عمر بن عبد العزيز تأليف أحمد زكي صفوت ط. دار المعارف بمصر ط. الثالثة عام 1966م القاهرة. عمر بن عبد العزيز تأليف محمود زيدان ومراجعة أحمد حطيط ط. دار الفكر اللباني، ط. الأولى عام 1992م بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 عمر بن عبد العزيز وتجربته الرائدة في الإصلاح إعداد مركز البحوث بالمجموعة الإعلامية إشراف نبيل بدران ط. طائر العلم للنشر والتوزيع ط. الأولى عام 1415هـ - 1994م. عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم تأليف ماجدة فيصل زكريا ط. مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة. عوارف المعارف لعمر بن سعيد محمد السهروردي بيروت ط. دار الكتاب العربي ط. الثانية عام 1403هـ. عون المعبود شرح سنن أبي داود ضبط وتحقيق عبد الرحمان عثمان الناشر المكتبة السلفية بالمدنية النبوية ط. الثانية عام 1388هـ - 1968م. فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ط. دار المعرفة بيروت لبنان. فتح البيان في مقاصد القرآن تأليف محمد صديق خان مطبعة العاصمة القاهرة. الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومعه كتاب بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني كلاهما تأليف أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي ط. الأولى دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بتحقيق محمد حامد الفقي ط. مكتبة السنة المحمدية ط. السابعة عام 1377هـ - 1957م. فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي تحقيق وتعليق الشيخ علي حسن ط. إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس الهند ط. الأولى عام 1407هـ - 1987م. الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ط. الرابعة عام 1401هـ المطبعة السلفية القاهرة. الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1405هـ - 1985م. فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام ومدى موقف الإسلام منها إعداد الشيخ الدكتور غالب بن علي العواجي ط. دار لينة مصر عام 1414هـ الفروق لشهاب الدين القرافي المالكي ط. دار عالم الكتب بيروت. الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري ط. دار المعرفة بيروت لبنان عام 1406هـ - 1986م. فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الإمام إسماعيل بن إسحاق الجهضمي تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي بيروت ط. الثالثة عام 1397هـ - 1977م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 فطرية المعرفة وموقف المتكلمين منها للدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ط. الأولى ط. دار طيبة الرياض عام 1415هـ. الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1400هـ - 1980م ط. الثانية. قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز تأليف محمد صدقي البورنو الغزي ط. مكتبة المعارف الرياض ط. الأولى عام 1413هـ - 1992م. قصر الأمل لابن أبي الدنيا تحقيق محمد خير رمضان يوسف ط. دار ابن حزم ط. الأولى عام 1416هـ - 1995م بيروت لبنان. القضاء والقدر تأليف أبي الوفاء محمد درويش ط. دار القاسم ط. الأولى عام 1416هـ - 1995 م الرياض. القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه تأليف الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود ط. دار النشر الدولي الرياض ط. الأولى عام 1414هـ - 1994م. القضاء والقدر والرد على من يحتج بالقدر للبيهقي تحقيق أبي الفداء الأثري ط. مكتبة السنة ط. الأولى عام 1409هـ - 1989م مصر. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى للشيخ محمد الصالح العثيمين ط. دار عالم الكتب ط. الأولى عام 1406هـ - 1986م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ تأليف الشيخ حمود بن عبد الله بن حمود التويجري ط. دار الصميعي ط. الأولى عام 1414هـ الرياض. كتاب إخبار وحكايات تأليف أبي الحسن محمد بن الفيض الغساني عني بتحقيقه إبراهيم صالح ط. دار البشائر ط. الأولى عام 1994م. كتاب الأزمنة والأمكنة لأحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني ضبطه وخرج أحاديثه خليل المنصور ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1417هـ - 1996م. كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ط. دار الكتب العلمية عام 1405هـ - 1984م بيروت لبنان. كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلاّم تحقيق وتعليق محمد خليل هراس ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1406هـ 1986م ط. الأولى. كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين عبد الملك الجويني تحقيق أسعد تميم ط. مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان عام 1405هـ - 1985م الأولى. كتاب الإيمان لابن أبي شيبة تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي ط. الثانية عام 1403هـ - 1983م بيروت لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمالاته ودرجاته لأبي عبيد القاسم بن سلام تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ط. المكتب الإسلامي بيروت ط. الثانية عام 1413هـ - 1983م. كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل للحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن خزيمة راجعه وعلق عليه محمد خليل هراس ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1398هـ - 1978م. كتاب الثقات للحافظ محمد بن حبان البستي التميمي ط. مؤسسة الكتب الثقافية ط. الأولى عام 1393هـ - 1973م حيدر آباد الدكن الهند. كتاب الجامع لابن أبي زيد القيرواني تحقيق محمد أبو الاجفان وعثمان بطيخ ط. مؤسسة الرسالة ومؤسسة الكتب العتيقة تونس ط. الثالثة عام 1406هـ - 1985م. بيروت وتونس الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع تأليف الإمام أبي حفص عمر بن محمد الخضر المعروف بالملاّء تحقيق وتعليق الشيخ الدكتور صدقي البورنو ط. مؤسسة الرسالة بيروت ط. الأولى عام 1416هـ - 1996م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 كتاب الحوادث والبدع لابي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي طبعه وعلق عليه على بن حسن بن علي عبد الحميد الحلبي الأثري ط. دار ابن الجوزي الدمام ط. الثانية عام 1417هـ - 1996م. كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ط. دار المعرفة بيروت لبنان عن طبعة بولاق عام 1302هـ. كتاب السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة بقلم محمد ناصر الدين الألباني الطبعة الثانية ط. المكتب الإسلامي عام 1413هـ - 1993م بيروت. كتاب القدر للفريابي تحقيق عبد الله بن أحمد المنصور الطبعة الأولى عام 1418هـ 1997م مطبعة أضواء السلف الرياض. كتاب القدر وما ورد في ذلك من الآثار لعبد الله بن وهب القرشي تحقيق ودراسة وتخريج د/ عبد العزيز عبد الرحمن العثيم ط. دار السلطان للنشر والتوزيع ط. الأولى عام 1406هـ - 1986م. كتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا تحقيق محمد خير رمضان يوسف ط. دار ابن حزم بيروت لبنان ط. الأولى عام 1417هـ - 1997م. كتاب المنامات لابن أبي الدنيا دراسة وتحقيق عبد القادر أحمد عطا ط. مؤسسة الكتب الثقافية بيروت ط. الأولى عام 1413هـ - 1993م. كتاب الورع لابن أبي الدنيا تحقيق وتعليق محمد حمد الحمود ط. الدار السلفية ط. الأولى عام 1988م - 1408هـ الكويت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني تحقيق عماد الدين حيدر ط. مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان ط. الثالثة عام 1414هـ - 1993م. كتاب جمل من أنساب الأشراف صنفه الإمام أحمد بن يحيى البلاذري تحقيق د/ سهيل زكار، ود/ رياض زركلي ط. دار الفكر ط. الأولى عام 1417هـ - 1996م بيروت لبنان. الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري ط. دار المعرفة بيروت لبنان بدون تاريخ الطبع. لسان العرب لابن منظور محمد بن مكرم الأفريقي المصري ط. دار صادر بيروت لبنان. لسان الميزان للحافظ ابن حجر ط. دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي بيروت لبنان ط. الأولى عام 1416هـ - 1995م، ومنشورات الأعلمي للمطبوعات الثانية عام 1971م 1390هـ. لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة لعبد الملك الجويني إمام الحرمين تقديم وتحقيق د/فوقية حسين محمود ط. دار عالم الكتب د. الثانية عام 1407هـ - 1987م. اللمع لأبي نصر السراج الطوسي تحقيق عبد الحليم محمود وغيره القاهرة دار الكتب الحديثة عام 1960م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 لوامع الأنوار البهية وسواطع الاسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية تأليف العلامة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني ط. المكتب الإسلامي بيروت عام ط. الثانية عام 1405هـ - 1985م. ما جاء في البدع لمحمد بن وضاح القرطبي تحقيق بدر البدر ط. دار الصميعي الرياض ط. الأولى عام 1416هـ - 1996م. متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار المعتزلي الهمذاني تحقيق الدكتور عدنان زرزور دار التراث عام 1969م القاهرة. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي الطبعة الثانية 1967م - دار الكتاب العربي- لبنان. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي وساعد ابنه محمد وفقه الله. مجموعة الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ط. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1403هـ - 1983م. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي ط. دار الفكر بيروت عام 1391هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز لابن عطية القاضي عبد الحق الأندلسي تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1413هـ - 1993م ط. الأولى. المحلى بالآثار لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي ط. إدارة الطباعة المنيرية بتحقيق محمد منير الدمشقي عام 1352هـ مصر. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم واختصار محمد الموصلي ط. دار الندوة الجديدة بيروت لبنان عام 1984م - 1405هـ. مدارج السالكين لابن القيم ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الثانية عام 1408هـ - 1988م. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة تأليف الدكتور إبراهيم بن محمد البريكان ط. دار السنة الخبر ط. الثالثة عام 1415هـ - 1994م. مروج الذهب ومعادن الجوهر لعلي بن الحسين المسعودي ط. دار الكتاب اللبناني بيروت لبنان ط. الأولى عام 1402هـ - 1982م. المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين تأليف الدكتور محمد العروسي عبد القادر ط. دار حافظ للنشر والتوزيع جدة ط. الأولى عام 1410هـ - 1990م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة تأليف الدكتور عبد الإله بن سلمان بن سالم الأحمدي ط. دار طيبة ط. الثانية عام 1416هـ - 1995م. مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر المروزي ط. المكتب الإسلامي. مسند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز للباغندي أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي خرج أحاديثه وعلق عليه محمد عوَّامة ط. مكتبة دار الدعوة سورية حلب، عام 1397هـ الطبعة الأولى. مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ط. المكتب الإسلامي ط. الثانية عام 1398هـ - 1978م. مشاهير علماء الأمصار لابن حبان البستي عني بتصحيحه فلايشهر ط. دار الكتب العلمية. المصنف في الأحاديث والآثار للحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام ط. دار الفكر ط. الأولى عام 1409هـ - 1989م. المصنف للحافظ الكبير عبد الرزاق بن همام الصنعاني تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي منشورات المجلس العلمي 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان لعبد الرحمن بن محمد الأنصاري الأسيدي الدباغ تصحيح وتعليق إبراهيم شبوح ط. الثانية عام 1388هـ مطبعة السنة المحمدية مصر. معجم البلدان لياقوت الحموي ط. دار الفكر ودار صادر بيروت ط. الثانية عام 1995م. المعجم الكبير للطبراني تحقيق حمدي عبد المجيد ط. الأولى 1980م مطبعة الوطن العربي - بغداد. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين مكتبة بريل ليدن عام 1936م. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وضعه محمد فؤاد عبد الباقي ط. دار الفكر عام 1407هـ - 1987م. معجم المناهي اللفظية للشيخ الدكتور بكر عبد الله أبو زيد ط. دار ابن الجوزي الدمام عام 1410هـ. المعجم الوسيط قام بإخراجه إبراهيم مصطفى وحامد عبد القادر، وأحمد حسن الزيادة، ومحمد علي النجار، ط. دار الدعوة استانبول تركيا عام 1410هـ - 1989م. معجم مقاييس اللغة لابن الحسين أحمد بن فارس بن زكريا تحقيق عبد السلام محمد هارون طبعة دار الجيل بيروت الطبعة الأولى عام 1411هـ - 1991م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعي للبيهقي تحقيق سيد كسروى حسن ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1412هـ - 1992م. معرفة السنن والآثار لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي دارالوعي ط. الأولى القاهرة عام 1412هـ - 1991م. المعرفة والتاريخ للبسوي تحقيق الدكتور أكرم العمري ط. مكتبة الدار بالمدينة ط. الأولى عام 1410هـ. مفتاح دار السعادة تأليف ابن قيم الجوزية شمس الدين ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. مفردات القرآن للراغب الأصفهاني تحقيق نديم مرعشلي ط. دار الفكر- دار الكتاب العربي بيروت عام 1392هـ. مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط. الثانية عام 1389هـ - 1969م. المقتنى في سرد الكنى للذهبي تحقيق محمد صالح عبد العزيز المراد ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع، تأليف الدكتور ناصر عبد الكريم العقل ط. دار الوطن ط. الثانية عام 1415هـ الرياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 مقدمة ابن خلدون للعلامة عبد الرحمن بن خلدون ط. مكتبة دار الباز ودار الكتب العلمية عام 1413هـ - 1993م بيروت لبنان. المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي حامد الغزالي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا تحقيق مجدي السيد إبراهيم ط. مكتبة القرآن القاهرة عام 1990م. ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز ط. مؤسسة الرسالة ط. السابعة عام 1405هـ - 1985م بيروت لبنان. الملل والنحل لمحمد عبد الكريم الشهرستاني صححه وعلق عليه الأستاذ أحمد فهمي محمد ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان عام 1410هـ - 1990م ط. الأولى. مناقب الشافعي للبيهقي أحمد بن الحسين ط. دار التراث عام 1391هـ. منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى تأليف خالد عبد اللطيف بن محمد نور ط. مكتبة الغرباء الأثرية المدينة النبوية ط. الأولى عام 1416هـ - 1995م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان للشيخ الدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي ط. الأولى عام 1405هـ - 1984م. منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ط. دار الفتح، الشارقة ط. الأولى عام 1414هـ - 1994م الإمارات العربية المتحدة. المواقف في علم الكلام لعبد الرحمن الإيجي ط. دار عالم الكتب بيروت لبنان. موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع تأليف الشيخ الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي ط. مكتبة الغرباء الأثرية ط. الأولى عام 1415هـ المدينة النبوية. ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي تحقيق علي محمد البجاوي ط. دار الفكر نصب الراية لأحاديث الهداية للإمام الحافظ عبد الله بن يوسف الزيلعي ط. الثانية ط. المكتب الإسلامي دمشق وبيروت عام 1393هـ. النكت على ابن الصلاح لابن حجر تحقيق فضيلة الشيخ الدكتور ربيع المدخلي ط. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية ط. الأولى عام 1404هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير تحقيق محمود محمد الطناجي ط. الأولى عام 1393هـ - 1963م ط. دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه. نواقض الإيمان القولية والعملية تأليف الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف ط. دار الوطن الرياض ط. الثانية عام 1415هـ. هواتف الجان لابن أبي الدنيا تحقيق محمد الزغلي ط. المكتب الإسلامي ط, الأولى عام 1416هـ - 1995م. اليوم الآخر الجنة والنار للدكتور عمر سليمان الأشقر ط. دار النفائس الأردن ط. السادسة عام 1415هـ - 1995م. اليوم الآخر القيامة الكبرى للدكتور عمر سليمان الأشقر ط. دار النفائس الأردن ط. السادسة عام 1415هـ - 1995م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945