الكتاب: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ابن القيم الكتاب: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المجلد الأول مقدمة ... إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان تأليف: أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد. الذى لا شريك له فى ذاته ولا صفاته ولا فى أفعاله، بل هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به أحد من خلقه فى إكثاره وإقلاله، لا يحصى أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله، الأول الذى ليس قبله شئ، والظاهر الذى ليس فوقه شئ، والباطن الذى ليس دونه شئ، ولا يحجب المخلوق عنه تستره بسر باله، الحى القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المنفرد بالبقاء، وكل مخلوق ينتهى إلى زواله، السميع الذى يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين فى سؤاله، البصير الذى يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو جباله. وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده، ومشاهدته لاختلاف أحواله، فإن أقبل إليه تلقاه، وإنما إقبال العبد عليه من إقباله، وإن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه، ولم يدعه فى إهماله، بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها، الرفيقة به فى حمله ورضاعه وفصاله، فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطع أوصاله، وإن أصر على الإعراض، ولم يتعرض لأسباب الرحمة، بل أصر على العصيان فى إدباره وإقباله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وصالح عدوه وقاطع سيده، فقد استحق الهلاك، ولا يهلك على الله إلا الشقى الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا فردا صمدا، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره: {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11] . وأشهد أن محمد عبده ورسوله القائم له بحقه، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل. وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه، وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه. فشرح له صدره، ووضح له عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، وأقسم بحياته فى كتابه المبين وقرن اسمه باسمه، فلا يذكر إلا ذكر معه، كما فى التشهد والخطب والتأذين. فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائما بأمر الله لا يرجه عنه راد، مشمرا فى مرضاة الله لا يصده عن ذلك صاد، إلى أن أشرقت الدنيا برسالته ضياء وابتهاجا، ودخل الناس فى دين الله أفواجا (أفواجا) ، وسارت دعوته مسير الشمس فى الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار، ثم استأثر الله به لينجز له ما وعده به فى كتابه المبين، بعدم أ، بلغ رسالته، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد فى الله حق جهاده، وأقام الدين، وترك أمته على البيضاء الواضحة البينة للسالكين. وقال {هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أما بعد: فإن الله سبحانه لم يخلق خلقه سدى مهملا، بل جعلهم موردا للتكليف، ومحلا للأمر والنهى، وألزمهم (فهم) ما أرشدهم إليه مجملا ومفصلا وقسمهم إلى شقى وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلا، وأعطاهم مواد العلم والعمل: من القلب، والسمع، والبصر، والجوارح، نعمة منه وتفضلا، فمن استعمل ذلك فى طاعته، وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إله ولم يبغ عنه عدولا، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك، وسلك به إلى مرضاة الله سبيلا. ومن استعمله فى إرادته وشهوته ولم يرع حق خالقه فيه يخسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزنا طويلا. فإنه لا بد من الحساب على حق هذه الأعضاء لقوله تعالى: {إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] . ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، الذى تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله، قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله". فهو ملكها، وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما كان يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شئ من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته. وهو المسؤول عنها كلها "لأن كل راع مسؤول عن رعيته" كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون. والنظر فى أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون. ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إله، وزين له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمده من أسباب الغى بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصائده ومكائده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه فى حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذى هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول فى ضمان {إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فهذه الإضافة هى القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولها يسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إخلاص العمل ودام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله من المقربين، وشمله استثناء {إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] . ولما من الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها، وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها، وما تثمر تلك الوساوس من الأعمال. وما يكتسب القلب بعدها من الأحوال. فإن العمل السيئ مصدر عن فساد قصد القلب، ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد مرضا على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نور له. وكل ذلك من انفعاله لوسوسة الشيطان، وركونه إلى عدوه الذى لا يفلح. إلى من جاهده بالعصيان: أردت أن أقيد ذلك فى هذا الكتاب، لأستذكره معترفا فيه لله بالفضل والإحسان، ولينتفع له من نظر فيه داعيا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان، وسميته " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان " ورتبته ثلاثة عشر بابا: الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت. الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب. الباب الثالث: فى انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية. الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقة مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر (وفتنة) فيه. الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره. الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه مما سواه. الباب السابع: فى أ، القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه. الباب الثامن: فى زكاة القلب. الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه. الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الباب الحادى عشر: فى علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه. الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان. الباب الثالث عشر: فى مكايد الشيطان التى يكيد بها ابن آدم. وهو الذى وضع لأجله الكتاب. وفيه فصول جمة الفوائد حسنة المقاصد. والله تعالى يجعله خالصا لوجهه، مؤمنا من الكرة الخاسرة، وينفع به مصنفه وكاتبه، والناظر فيه فى الدنيا والآخرة، إنه سميع عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الباب الأول: فى انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة. فالقلب الصحيح: هو القلب السليم الذى لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى: {يومَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليِمٍ} [الشعراء: 88-89] . والسليم هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف؛ فالسليم القلب الذى قد صارت السلامة صفة ثابتة له، كالعليم والقدير، وأيضا فإنه ضد المريض، والسقيم، والعليل. وقد اختلفت عبارات الناس فى معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذى قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله. فسلم فى محبة غير الله معه ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته فى كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التى لا تصلح إلا لله وحده. فالقلب السليم: هو الذى سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء. وخلص عمله لله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فإن أحب أَحَبَّ فى الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال من أقوال القلب، وهى العقائد، وأقوال اللسان؛ وهى الخبر عما فى القلب. وأعمال القلب، وهى الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح. فيكون الحاكم عليه فى ذلك كله دقه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولهِ} [الحجرات: 1] . أى لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أى لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه؛ هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا فى محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل؟ أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه؟. ومحل هذا السؤال: أنه، هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك؟. والثانى: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك التعبد، أى هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولى، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟. فالأول سؤال عن الإخلاص، والثانى عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما. فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثانى: بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع. فهذه حقيقة سلامة القلب الذى ضمنت له النجاة والسعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فصل فى القلب الميت والقلب الثانى: ضد هذا، وهو القلب الميت الذى لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته؛ ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالى إذا فاز بشهوته وحظه، رضى ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله: حبا، وخوفا، ورجاء، ورضا، وسخطا، وتعظيما؛ وذلا. إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه. فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه. فهو بالفكر فى تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور. ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد. الدنيا تسخطه وترضيه. والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه. فهو فى الدنيا كما قيل فى ليلى: عَدُو لِمَنْ عَادَتْ، وَسِلمٌ لأهْلِهَا ... وَمَنْ قَرَّبَتْ لَيْلَى أَحَبَّ وَأَقْرَبا فمخالطة صاحب هذا القلب سقم. ومعاشرته سم. ومجالسته هلاك. فصل فى القلب المريض والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة؛ فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له، والتوكل عليه: ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب؛ وحب العلو والفساد فى الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة. وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا، وأدناهما إليه جوارا. فالقلب الأول، حى مخبت لين واع، والثانى يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى. وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة فى قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكٍَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبى إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فىِ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ليجَعَلَ مَا يُلْقِى الشّيْطَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فِ تْنَةً لِلَّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ مَرضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإن الظّالمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أنَّهُ الحقُّ مِنْ رَبكَ فَيُؤْمنُوا به فَتخْبِتَ لَهُ قُلوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54] . فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب فى هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبا ناجيا، فالمفتونان: القلب الذى فيه مرض، والقلب القاسى. والناجى: القلب المؤمن المخبت إلى ربه. وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد. وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا آفة به، يتأتى منه ما هيئ له وخلق لأجله. وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته، وعدم التأتى لما يراد منه، كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذكر العِنِّين والعين التى لا تبصر شيئا. وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد. فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة. فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له. والقلب الميت القاسى: لا يقبله ولا ينقاد له. والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسى. وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم. فما يلقيه الشيطان فى الأسماع من الألفاظ، وفى القلوب من الشبه والشكوك: فيه فتنة لهذين القلبين، وقوة للقلب الحى السليم. لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق فى خلافه، فيخبت للحق قلبه ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له. فلا يزال القلب المفتون فى مرية من إلقاء الشيطان. وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدا. قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَعَرْضِ الْحَصِيرِ عُودًا عُودًا. فَأَىُّ قَلْبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَتْ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَعُودَ الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: قَلْبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أَسْوَد مُرْبَادًا كالكُوزِ مُجَخِّيًا. لا يَعْرِفُ مَعْروفاً وَلا يُنْكِرُ مُنْكَراً، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ، وَقَلْبٍ أَبْيَض لا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ". فشبه عرض الفتن على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير، وهى طاقاتها شيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله "كالكوز مجخيا" أى مكبوبا منكوسا، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلا والباطل حقا، الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته. والفتن التى تعرض على القلوب هى أسباب مرضها، وهى فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغى والضلال، فتن المعاصى والبدع، فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. وقد قسم الصحابة رضى الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان: "الْقلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ، فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَغْلفُ، فَذلِكَ قَلْبُ الكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، فَذلِكَ قَلْبُ المُنافِقِ، عَرَفَ ثمَّ أَنْكَرَ، وَأبْصَرَ ثُمَّ عَمِىَ، وَقَلْبُ تَمُدُّهُ مَادَّتَانِ: مَادَّةُ إِيمَانٍ، وَمَادَّةُ نِفَاقٍ، وَهُوَ لما غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا". فقوله "قلب أجرد" أى متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق. و"فيه سراج يزهر" وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الباطل وشهوات الغى، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل فى غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى، حاكيا عن اليهود: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] . وهو جمع أغلف، وهو الداخل فى غلافه، كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هى الأكنة التى ضربها الله على قلوبهم، عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله. فهى أكنة على القلوب ووقر فى الأسماع، وعمى فى الأبصار، وهى الحجاب المستور عن العيون فى قوله تعالى: {وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء: 45-46] . فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة، ولّى أصحابها على أدبارهم نفورا. وأشار بالقلب المنكوس- وهو المكبوب- إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: {فمَا لَكُمْ فِى المُنَافِقينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] . أى نكسهم وردهم فى الباطل الذى كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالى أصحابه، والحق باطلاً ويعادى أهله، فالله المستعان. وأشار بالقلب الذى له مادتان إلى القلب الذى لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذى بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب وإليه يرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الباب الثانى: فى ذكر حقيقة مرض القلب قال الله تعالى عن المنافقين {فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: 10] ، وقال تعالى {لِيَجْعَل مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] ، وقال تعالى {يَا نِساءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، أمرهن أن لا يَلنَّ فى كلامهن، كما تلين المرأة المعطية الليان فى منطقها، فيطمع الذى فى قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك فلا يخشنّ فى القول بحيث يلتحق بالفحش، بل يقلن قولا معروفا، وقال تعالى {لَئنْ لَمْ ينْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِى المَدينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بهِم} [الأحزاب: 60] ، وقال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيقُولَ الّذِينَ فى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ وَا-لْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [المدثر: 31] . أخبر الله سبحانه عن الحكمة التى جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، فذكر سبحانه خمس حكم: فتنة الكافرين. فيكون ذلك زيادة فى كفرهم وضلالهم، وقوة يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنهم، فتقوم الحجة على معاندهم، وينقاد للإيمان من يريد الله أن يهديه. وزيادة الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به. فهذه أربعة حكم: فتنة الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين، وأهل الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والخامسة: حيرة الكافر ومن فى قلبه مرض، وعمى قلبه عن المراد بذلك، فيقول: {مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهذَا مَثَلاً} [البقرة: 26] . وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفراً وجحوداً. وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا، وقلب يتيقنه، فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجب له حيرة وعمى، فلا يدرى ما يراد به. واليقين وعدم الريب فى هذا الموضع، إن رجعا إلى شىء واحد، كان ذكر عدم الريب مقررا لليقين ومؤكدا له، ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه. وإن رجعا إلى شيئين، بأن يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة الملائكة، وعدم الريب عائدًا إلى عموم ما أخبر الرسول به، لدلالة هذا الخبر الذى لا يعلم إلا من جهة الرسل على صدقه، فلا يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ظهرت فائدة ذكره. والمقصود: ذكر مرض القلب وحقيقته. وقال تعالى {يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبكُمْ وَشِفَاءٌ لما فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] . فهو شفاء لما فى الصدور من مرض الجهل والغى، فإن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى. والغى مرض شفاؤه الرشد، وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين. فقال: {والنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1،2] . ووصف رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما فقال: " عَلَيْكُمْ بِسُنّتِى وسُنَّةِ اَلْخْلَفَاءِ الرَّاشِدينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِى". وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة، وشفاء تاما لما فى الصدور، فمن استشفى به صح وبرئ من مرضه ومن لم يستشف به فهو كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ِإذَا بَلَّ مِنْ دَاءٍ بِهِ ظَنَّ أنّهُ ... نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الّذِى هُوَ قَاتِلُهْ وقال تعالى {وَنُنَزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] والأظهر أن "من" هاهنا لبيان الجنس، فالقرآن جميعه شفاء ورحمة للمؤمنين. فصل: فى أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعى لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف فى آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هى عليه، كما يدرك الحلو مرا، والخبيث طيبا، والطيب خبيثا. وأما فساد حركته الطبيعية: فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة أو الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة. وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد فى الكمية أو فى الكيفية. فالأول: إما لنقص فى المادة، فيحتاج إلى زيادتها، وإما لزيادة فيها، فيحتاج إلى نقصانها. والثانى: إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة، أو نقصانها عن القدر الطبيعى، فيداوى بمقتضى ذلك، ومدار الصحة على حفظ القوة، والحمية عن المؤذى، واستفراغ المواد الفاسدة. ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فأما حفظ القوة: فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا فى رمضان، ويقضى المسافر إذا قدم، والمريض إذا برئ، حفظاً لقوتهما عليهما، فإن الصوم يزيد المريض ضعفا، والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، والصوم يضعفها. وأما الحمية عن المؤذى: فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد فى الوضوء والغسل، إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له عن ورود المؤذى عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذى له فى باطنه. وأما استفراغ المادة الفاسدة: فإنه سبحانه أباح للمحرم الذى به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ بالحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه. وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا، فقال: والله لو سافرت إلى الغرب فى معرفة هذه الفائدة لكان سفرا قليلا، أو كما قال. وإذا عرف هذا، فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذى الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصى، وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات. ومرضه هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له، وهو الغالب، ولهذا يفسر المرض الذى يعرض له، تارة بالشك والريب، كما قال مجاهد وقتادة فى قوله تعالى: {فِى قُلُوبهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] . أى شك. وتارة بشهوة الزنا، كما فسر به قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الّذِى فِى قَلْبهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فالأول مرض الشبهة، والثانى مرض الشهوة. والصحة تحفظ بالمثل والشبه، والمرض يدفع بالضد والخلاف، وهو يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده. ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذى الصحيح: من يسير الحر، والبرد، والحركة، ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شىء: من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوى يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته. وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف، ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الباب الثالث: في انقسام أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية, وشرعية ... الباب الثالث: فى انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية، وشرعية مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه فى الحال، وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات. وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوار عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما. وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض. والنوع الثانى: مرض مؤلم له فى الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، ويدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فأمراض القلب التى تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت. وأما أمراضه التى لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهى التى توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال "شفى غيظه" فإذا استولى عليه عَدُوُّه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تعالى: {قَاتلُوهُمْ يُعَذبْهُمُ اللهُ بأَيدِيكُمْ وَيُخزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 14-15] . فأمر بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ست فوائد. فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه فى شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك يزيد مرضه، ويوجب له أمراضا أُخر أصعب من مرض العشق كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور، فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، ولم يزل، وأعقب أمراضا هى أصعب وأخطر. وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب. فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهى فى الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مرضه، لكن اشتغال القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة، التى هى شرط فى صحته وبرئه، وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الذين أفتوا بالجهل، فهلك المستفتى بفتواهم "قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العى السؤال"، فجعل الجهل مرضا وشفاءه سؤال أهل العلم. وكذلك الشاك فى الشىء المرتاب فيه، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره، وحصل له برد اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهديَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَنْ يضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كأَنماَ يَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ} [الأنعام: 125] . وسيأتى ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعلاجه، إن شاء الله تعالى. والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية. ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الباب الرابع: فى أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر وفتنة فيه أصل كل خير وسعادة للعبد، بل لكل حى ناطق: كمال حياته ونوره. فالحياة والنور مادة الخير كله، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فى النّاسِ كَمن مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] . فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوته، وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات، وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته فى نفسه، فالقلب الصحيح الحى إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه. وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هى عليه، فاستبان حُسْنَ الحسن بنوره، وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين فى مواضع من كتابه. فقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِى به مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ} [الشورى: 52] . فجمع بين الروح الذى يحصل به الحياة، والنور الذى يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذى أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضىء وتشرق به، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ ميْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فى النَّاسِ كَمَنْ مَثَلهُ فِى الظُّلمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] . أى أو من كان كافرا ميت القلب، مغموراً فى ظلمة الجهل: فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيا بعد موته، مشرقا مستنيراً بعد ظلمته؟ فجعل الكافر لانصرافه عن طاعته، وجهله بمعرفته، وتوحيده وشرائع دينه، وترك الأخذ بنصيبه من رضاه، والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته: بمنزلة الميت الذى لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام وأنعشناه به، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل فى خلاصها من سخط الله تعالى وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضىء به، فيمشى بنوره بين الناس، وهم فى سدف الظلام، كما قيل: لَيْلى بِوَجْهِكَ مُشْرِقٌ ... وَظَلامُهُ فى النَّاسِ سَارِى النَّاسُ فى سُدُفِ الظّلا ... م وَنَحْنُ فِى ضَوْءِ النّهَارِ ولهذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثلين المائى والنارى لوحيه ولعباده. أما الأول فكما قال فى سورة الرعد {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثُلهُ كَذلِكَ يَضرِبُ اللهُ الحقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزّبَدُ فيذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فضرب لوحيه المثل بالماء، لما يحصل به من الحياة، وبالنار لما يحصل بها من الإضاءة والإشراق، وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها، فواد كبير يسع ماء كثيراً، وواد صغير يسع ماء قليلا. كذلك القلوب مشبهة بالأودية، فقلب كبير يسع علما كثيراً، وقلب صغير إنما يسع بقدره. وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات، بسبب مخالطة الوحى لها، وإمارته لما فيها من ذلك، بما يحتمله السيل من الزبد. وشبه بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها، بذهاب ذلك الزبد، وإلقاء الوادى له، وإنما يستقر فيه الماء الذى به النفع. وكذلك فى المثل الذى بعده: يذهب الخبث الذى فى ذلك الجوهر، ويستقر صفوه. وأما ضرب هذين المثلين للعباد، فكما قال فى سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِروُنَ صُم بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17-18] .فهذا المثل النارى ثم قال {أَوْ كَصيبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] . فهذا المثل المائى. وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم فى كتاب المعالم وغيره. والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين. قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرٌآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيا} [يس: 69-70] . فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حى القلب، كما قال فى موضع آخر: {إِنّ فِى ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لما يُحيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هى بما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان. فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك. وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور. وهذا من أحسن التشبيه، فإن أبدانهم قبور لقلوبهم. فقد ماتت قلوبهم وقبرت فى أبدانهم. فقال الله تعالى: {إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ} [فاطر: 22] . ولقد أحسن القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَفِى الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأَهْلِه ... وَأَجْسَامُهُمْْ، قَبْلَ القُبُورِ، قُبُورُ وَأَرْوَاحُهُمْ فى وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهم ... وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ ولهذا جعل سبحانه وحيه الذى يلقيه إلى الأنبياء روحا، كما قال تعالى: {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] . فى موضعين من كتابه، وقال {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به، وهذه الحياة الطيبة هى التى خص بها سبحانه من قَبِلَ وحيه، وعمل به فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] . فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة فى الدارين، ومثله قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِروُا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبوا إِلَيْهِ يُمَتعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إلَى أَجَلٍ مُسَمى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] . ومثله قوله تعالى {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا فى هذِهِ الدُّنْيَا حسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتّقِينَ} [النحل:30] ومثله قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] . فبين سبحانه أنه يسعد المحسن بإحسانه فى الدنيا وفى الآخرة، كما أخبر أنه يشقى المسىء بإساءته فى الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى} [طه: 124] . وقال تعالى، وقد جمع بين النوعين: {فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقاً حَرَجاً كَأَنمَا يَصَّعَّد فى السَّمَاءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] . فأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج. وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] . فأهل الإيمان فى النور وانشراح الصدور، وأهل الضلال فى الظلمة وضيق الصدور. وسيأتى فى باب طهارة القلب مزيد تقرير لهذا إن شاء الله تعالى. والمقصود: أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الباب الخامس: فى أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له، مؤثرا له على غيره. لما كان فى القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب. كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم فى إدراك الحق، ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة فى طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو مُنْعَمٌ عليه. وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله فى صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال؛ لأنهم أمة جهل. واليهود أخص بالغضب؛ لأنهم أمة عناد. وهذه الأمة هم المنعم عليهم. ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود؛ لأن النصارى عبدوا بغير علم، واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه. وفى المسند والترمذى من حديث عدى بن حاتم عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ". وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى غير موضع من كتابه، فمنها قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] . فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به. ومنها قوله عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {فَالَّذِينَ آمَنُوا به وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وقال تعالى {آلم ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمٍتَّقينَ الذينَ يُؤمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَما أُنْزلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزلَ مِنْ قَبْلِكَ وبِالآخِرةِ هُمْ يُوقِنُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أُولئكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:1-5] . وقال تعالى فى وسط السورة: {وَلكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالملائِكَةِ وَالْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وَآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفَىِ الرقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاة وَآتَى الزَّكَاةَ ... إلى آخر الآية} [البقرة: 177] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِى خُسْر إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بِالحقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3] . فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذى هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة، على أن كل واحد فى خسر، إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعته. فهذا كماله فى نفسه، ثم كمل غيره بوصيته له بذلك، وأمره إياه به، وبملاك ذلك، وهو الصبر. فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك، ووصيته له بالصبر عليه، ولهذا قال الشافعى رحمه الله: لو فكر الناس فى سورة والعصر، لكفتهم. وهذا المعنى فى القرآن فى مواضع كثيرة: يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه، وأهلَ الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه، أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره. وينبغى أن يعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان فى القلب، بل إن استعمل قوته العلمية فى معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها فى معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية فى العمل به، وإلا استعملها فى ضده، فالإنسان حارث هَمَّام بالطبع، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ". فالحارث الكاسب العامل، والهمام المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة. وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادا يكون متصوَّرا لها، متميزا عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته، وأرادته ولا بد. وهذا يتبين بالباب الذى بعده. فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الباب السادس: فى أنه لا سعادة للقلب، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه. معلوم أن كل حَىّ سوى الله سبحانه: من ملك أو إنس أو جن أو حيوان، فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب. فلا بد له من أمرين: أحدهما معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذى ينتفع به ويلتذ بإدراكه، والثانى: معرفة المعين الموصل المحصل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران، أحدهما: مكروه بغيض ضار، والثانى: معين دافع له عنه، فهذه أربعة أشياء: أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود. الثانى: أمر مكروه مطلوب العدم. الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها. فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذى يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذى يراد وجهه، ويبتغى قربه، ويطلب رضاه، وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه، والتعلق به: هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه. فهو المعبود المحبوب المراد. وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له. والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ" وقال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ نَفْسِى إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إلَيْكَ، وَأَلْجأْتُ ظَهْرِى إلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إلَيْكَ". فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله، أو مفعوله الذى خلقه بمشيئته. فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك كله له، والخير كله فى يديه، لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه كل أحد من خلقه. ولهذا كان صلاح العبد وسعادته فى تحقيق معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على المطلوب. فالأول: من معنى ألوهيته، والثانى: من معنى ربوبيته، فإن الإله هو الذى تألهه القلوب: محبة، وإنابة، وإجلالا، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا ورجاء، وتوكلا. والرب تعالى هو الذى يربى عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه. وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضع من كتابه كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وقوله عن نبيه شعيب {وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وقوله {وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحِْ بحمدِهِ} [الفرقان: 58] وقوله: {وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8-9] وقوله {قُلْ هُوَ رَبّى لاَ إِلهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وقوله عن الحنفاءِ أتباع إبراهيم عليه لسلام {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر} [الممتحنة: 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة. الوجه الثانى: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم فى الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة. ولم يعطهم فى الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره. وقد جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين فى الدعاء الذى رواه النسائى والإمام أحمد، وابن حبان فى صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما علمت الحياة خيرا لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى، وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الرضى والغضب، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك فى غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". فجمع فى هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء فى الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شىء فى الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه. ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر فى الدنيا. ويفتن فى الدين قال: "فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة". ولما كان كمال العبد فى أن يكون عالما بالحق متبعا له معلماً لغيره، مرشدا له قال: "وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ". ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما فى المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى". ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير فى المشهد والمغيب، سأله خشيته فى الغيب والشهادة. ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق فى رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضاً رضاه فى الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق فى الغضب والرضى. ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق. ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده. ففى الغنى يبسط يده، وفى الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد فى الحالين، وهو التوسط الذى ليس معه إسراف ولا تقتير. ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما فى قوله "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع". ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه فى العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ". ولما كان العيش فى هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت. والمقصود: أنه جمع فى هذا الدعاء بين أطيب ما فى الدنيا، وأطيب ما فى الآخرة. فإن حاجة العباد إلى ربهم فى عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه فى خلقه لهم، ورزقه إياهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم. ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر، وأما توحيد الربوبية الذى أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام فى كتبهم، فلا يكفى وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه فى كتابه الكريم فى عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما فى الحديث الصحيح الذى رواه معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أتدرى ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"، ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن فى ذلك أعظم لذة العبد وسعادته ونعيمه، فليس فى الكائنات شىء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذى يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه. الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذى لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا فى حال، وبهذا فى حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته. وأما إلهه الحق فلا بد له منه فى كل وقت وفى كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما فى مقالات من بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التكلان. وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا فى بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هى من لوازم هذه النشأة. فأوامره سبحانه، وحقه الذى أوجبه على عباده، وشرائعه التى شرعها لهم هى قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها، وكمالها فى معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم فى الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وَبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ} [يونس: 57- 58] . قال أبو سعيد الخدرى "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف "بالإسلام الذى هداكم إليه. وبالقرآن الذى علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة" وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام". والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] . والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفا فى القرآن كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] . قيل: نعم، إنما جاء ذلك فى جانب النفى، ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط، بل سماها روحا ونورا، وشفاء وهدى ورحمة، وحياة، وعهدا، ووصية، ونحو ذلك. الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما فى صحيح مسلم عن صهيب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه" وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" فبين النبىّ عليه الصلاة والسلام أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين، فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه وتعالى فى حق الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُونَ ثُم إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجحِيمِ} [المطففين: 15-16] . فجمع عليهم نوعى العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعى النعيم: نعيم التمتع بما فى الجنة. ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة فى هذه السورة فقال فى حق الأبرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23] . ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون. {ثُمَّ إنَّهُمْ لَصالُوا الجحِيمِ} [المطففين: 16] . وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار فى أعدائهم فى الدنيا وسخروا به منهم، بضده فى القيامة، فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم، ثم قال: فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه. والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم: {إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ} [المطففين: 32] . فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق، ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك، خصوصا أو عموما. فصل: [فى أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته فى الدنيا] وكما أنه لا نسبة لنعيم ما فى الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة. فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم. الوجه الخامس: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذى يملك له ذلك كله، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَحْكِيمُ} [فاطر: 2] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُردْكَ بِخَيْر فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] . وقال تعالى عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِِّ عَنى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] وقال تعالى: {يَا أيهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] وقال تعالى: {أَمَّنْ هذَا الّذِى هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فى غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20- 21] . فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره، ويجلب له منافعه برزقه، فلا بد له من ناصر ورازق. والله وحده هو الذى ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين. ومن كمال فطنة العبد ومعرفته: أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه. ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: "أدْرِكْ لِى لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَخَفِى اللُّطْفِ، فَإنِّى أُحِبُّ ذلِكَ. قَالَ: يَا رب وَمَا لَطِيفُ الْفِطْنَةِ؟ قَالَ: إنْ وَقَعَتْ عَلَيْكَ ذُبَابَةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا أَوْقَعْتُهَا فَاسْأَلْنِى أَرْفَعْهَا. قَالَ: وَمَا خَفِىُّ اللُّطْفِ؟ قَالَ: إذَا أَتَتْكَ حَبَّةٌ فَاعْلَمْ أَنِّى أَنَا ذَكَرْتُكَ بِهَا" وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102] . فهو سبحانه وحده الذى يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله تعالى فى بعض كتبه: "بِعِزَّتى، إنّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِى، فَإِنْ كادَتْهُ السَّموَاتُ بِمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ، فَإنِّى أَجْعَلُ لَهُ مِنْ ذلِكَ مَخْرَجاً، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِى، فَإِنِّى أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ السَّمَاءِ وَأَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فى الْهَوَاءِ، ثُمَّ أكِلُهُ إلَى نَفْسِهِ، كَفِّى لِعَبْدِى مَلأى، إذَا كانَ عَبْدِى فى طَاعَتِى أعْطِيِه قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنى، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ قَبْلَ أنْ يَدْعُوَنِى، فإنِّى أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ الَّتى تَرْفُقُ بِهِ مِنْهُ". قال أحمد: وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراسانى قال: لقيت وهب بن منبه، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثنى حديثا أحفظه عنك فى مقامى هذا وأوجز، قال نعم: "أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ بِى عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِى دُونَ خَلْقِى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِنْ نِيتهِ - فَتَكِيدُهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهنَّ مَخْرَجا؛ أَمَا وَعِزَّتِى وَعَظَمَتِى لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِى بِمَخْلُوقٍ دُونى - أَعْرِفُ ذلِكَ مِن نِيَّتِهَ- إِلا قَطَعْتُ أسبابَ السَّماءِ مِنْ يدِه، وَأَسَخْتُ الأرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُم لا أُبَالِى بِأَىِّ وَادٍ هَلَكَ". وهذا الوجه أظهر للعامة من الذى قبله. ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول. وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله تعالى والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضا: محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول. ونظير ذلك: من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به، والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه، ويشتاق إليه، وفى نحو ذلك قال القائل: جَزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْعِ خَيْرًا، فَإِنَّه ... أَرَانَا عَلَى عِلاتِهِ أمَّ ثَابِتِ أَرَانَا مَصُونَاتِ اْلحِجابِ، وَلَمْ نَكُنْ ... نَرَاهنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ النَّوَاعِتِ الوجه السادس: أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعته، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب، فلا بد أن يسلبه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه، إما فى الدنيا وإما فى الآخرة، والغالب أنه يعذب به فى الدارين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفقُونَهَا فى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34- 35] . وقال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة: 55] . ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجانى، حيث قال: ينتظم قوله {فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] وهذا القول يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما. وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد فى الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فروا إلى التقديم والتأخير. وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا فى هذا التعذيب، فقال الحسن البصرى: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق فى الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه. فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا، بل على صغار منه وكره. وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم فى الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية. وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسبى أولادهم فإن هذا حكم الكافر، وهم فى الباطن كذلك. وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم، فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم، فإن الإرادة هاهنا كونية بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن. والصواب، والله أعلم، أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم فى جمعها ومقاساة أنواع المشاق فى ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه، وهو حريص بجهده على تحصيلها. والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ" وقوله: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". أى يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم، وهكذا من كانت الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره من حديث أنس رضى الله عنه: " مَنْ كانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ". ومن أبلغ العذاب فى الدنيا: تشتيت الشمل وتفرق القلوب، وكون الفقر نصب عينى العبد لا يفارقه، ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب، على أن أكثرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 لا يزال يشكو أو يصرخ منه. وفى الترمذى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَبَاركَ وَتَعَالَى: ابْنَ آدَم، تَفَرَّغْ لِعبَادَتِى أَمْلأ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لا تَفْعَلْ مَلأتُ يَدَيْكَ شُغْلا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ". وهذا أيضا من أنواع العذاب، وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب. ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضى، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما فى الحديث الصحيح عن النبى عليه الصلاة والسلام: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى لهَما ثَالِثا". وقد مثل عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب الخمر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا. وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن البصرى كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها فى كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها. هى كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه فكن فيها كالمداوى جراحه، يحتمى قليلا، مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الخداعة الختَّالة، التى قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشَغل بها لُبَّه، حتى زّلت عنها قدمه، فعظمت عليه ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت. وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغُصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 زاد، وقدم على غير مهاد. فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا تُنقِصُه عند الله جناح بعوضة، فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا. فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه". وقال الحسن أيضا: إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخُشب. فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها. وهذا باب واسع. وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم فى طلبها. ولما كانت هى أكبر هَمّ من لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه، كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده فى طلبها. وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فانٍ فى حب معشوقه، وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه، ولا يفى له ويهجره ويصل عدوه. فهو مع معشوقه فى أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلون، لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه، ولا وصال يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها، وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به، التى شغلته عن سعيه فى طلب زاده، ومصالح معاده؟، وسنعود إلى تمام الكلام فى هذا الباب فى باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى، إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لله تعالى، ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به فى الدنيا قبل يوم القيامة. كما قيل: أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فى الْهَوى مَنْ تَصْطَفِى فإذا كان يوم المعاد ولّى الحكَم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه فى الدنيا. فكان معه: إما منعما أو معذبا. ولهذا: "يُمَثَّلُ لِصاحِبِ المَالِ مَالُهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهزمَتَيه، يعنى شدقيه، يقُولُ: أنَا مَالُكَ، أَنَا كَنزُكَ، وَيُصَفّحُ لَهُ صَفَائحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنبهُ وَظَهْرُهُ". وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما فى النار، وعذب كلٌ منهما بصاحبه. قال تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إلا المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] . وأخبر سبحانه أن الذين توادوا فى الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين. فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى. ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق: "أَلَيْسَ عَدْلا مِنِّى أَنْ أُوَلّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّى فى دَارِ الدُّنْيا؟ ". وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ". وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهَ يَقُولُ يَا لَيْتَنى اتّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتّخِذْ فُلاناً خَلِيلا لَقَدْ أَضَلّنِى عَنِ الذكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءنى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29] . وقال تعالى: {اُحْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجحِيمِ وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَالَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 - 25] . قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم" وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] . فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر. والمقصود: أن من أحب شيئا سوى الله عز وجل فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 له من الألم قبل حصوله، ومن النكد فى حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما فى حصوله له من اللذة: فَمَا فى الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ تَرَاهُ بَاكِيًا فى كلِّ ... حَالٍمَخَافَةَ فُرْقةٍ، أَوْ لاشْتِياقِ فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إلَيْهِمْ ... وَيَبْكِى إِنْ دَنَوْا، حَذرَ الْفِرَاقِ فَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقى ... وَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" فذِكْره: جميع أنواع طاعته، فكل من كان فى طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه؛ فاللعنة لا تنال ذلك إلا بوجهه، وهى نائلة كل ما عداه. الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمله منه، فلا بد أن يخذل من الجهة التى قدر أن ينصر منها، ويذم من حيث قدر أن يحمد، وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81- 82] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74- 75] . أى يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَل عليهم. وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلِكنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَىْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] . أى غير تخسير، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الإسراء: 22] . فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخذلان والذم. والمقصود: أن هذين الوجهين فى المخلوق وضدهما فى الخالق سبحانه. فصلاح القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وسعادته وفلاحه فى عبادة الله تعالى والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل فى عبادة المخلوق والاستعانة به. الوجه الثامن: أن الله سبحانه غنى كريم، عزيز رحيم. فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعه إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة، ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه قوة، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ منْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {وَقُلِ الحمْدُ لِلَّهِ الّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فى اُلملْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِى مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111] . فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل، كما يوالى المخلوق المخلوق، وإنما يوالى أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم. وأما العباد فإنهم كما قال عز وجل: {وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38] . فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً. ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه. فهو فى الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه. فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه فى العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره. وهو أيضاً إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير. وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى فى الآخرة، فهو أيضاً محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم فى هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى: {إِنْ أحْسَنْتُمْ أََحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] . وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " يَا عِبَادِى: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِى، يا عِبَادِى: إِنّمَا هِىَ أَعْماَلكُم أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك. والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل منته. فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل، أو تطلب منه نفعا، أو دفعا أو تعلق قلبك به، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجه، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه. فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله تعالى، وخاف الله تعالى فيهم، ولم يخفهم مع الله تعالى، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم، ولم يرجهم مع الله، وأحبهم بِحُبِّ الله، ولم يحبهم مع الله تعالى، كما قال أولياء الله عز وجل: {إِنمَا نُطعمكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكورًا} [الإنسان: 9] . الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك، حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة. فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه، وهو الذى بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذى قدرها ويسرها وأوصلها إليك. الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حوائجهم منك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك، والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تعلق أملك ورجاءك، وخوفك بغيره؟ وجماع هذا أن تعلم: "أَنَّ الَخلْقَ كُلّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَكَ، ولَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكَ" قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَولانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 خاتمة لهذا الباب لما كان الإنسان؛ بل وكل حى متحرك بالإرادة، لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب يوصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه، وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحى مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى حصول مراده. والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه. والثانى: ما هو مراد لغيره. والمستعان قسمان؛ أحدهما: ما هو مستعان بنفسه، والثانى: ما هو تبع له وآلة. فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلة وتبعا للمستعان بنفسه. فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وينتهى إليه محبته. ولا بد له من شىء يتوصل به؛ ويستعين به فى حصول مطلوبه، والمستعان مدعو ومسئول، والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه فى رزقه ونصره ومتفعته ونفعه خضع له، وذل له، وانقاد له وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به، ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به، فاجتمع له محبته والاستعانة به. فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته، مستعان بنفسه. فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده. وكل ما سواه فإنما ينبغى أن يحب تبعا لمحبته، ويستعان به لكونه آلة وسببا. الثانى: محبوب لغيره ومستعان به أيضاً، كالمحبوب الذى هو قادر على تحصيل غرض محبه الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره الرابع: مستعان به غير محبوب فى نفسه. فإذا عرف ذلك تبين مَن أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرة على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها. والله المستعان وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الباب السابع: فى أن القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظةٌ مِن ربكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فى الصُّدُورِ} [يونس: 57] وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هى أمراض الشبهات والشهوات. والقرآن شفاء للنوعين. ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هى عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها، وإنما هى آراء وتقليد. وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا. وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها. وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها. فهى: "لَحْمُ جَمَلٍ غَثّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، ولا سَمِينٌ فَينتفلُ". وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو فى القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل: َلوْلا التَّنَافُسُ فى الدُّنْيَا لَما وُضِعَتْ ... كُتْبُ التَّنَاظُرِ، لا المُغْنى وَلا الْعُمَدُ يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا ... وَبِالذِى وَضَعُوهُ زَادَتِ العُقَدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذى وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكى يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك. ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى، والعلم واليقين من كتاب الله تعالى وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكين، الذين أخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من ميراثهم، حيث يقول: نهَايَةُ إِقدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكثَرُ سعْىِ الْعَالَمِينَ ضَلاَلُ وَأَرْوَاحُنَا فِى وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمرِنَاسِوى ... أَنْ جَمَعْنَا فِيه قِيلَ وَقَالوا لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلا، ولا تروى غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ فى الإثبات: {الرَّحمنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى} [طه: 5] ، {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وأقرأ فى النفى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} [الشورى: 11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً} [طه: 110] . ومن جرب مثل تجربتى عرف مثل معرفتى. فهذا إنشاده وألفاظه فى آخر كتبه. وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق فى علم الكلام والفلسفة، وكلام أمثاله فى مثل ذلك كثير جدا قد ذكرناه فى كتاب الصواعق وغيره. وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء "آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر المتصوفين الشطح" والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين فى هذه المطالب التى هى أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به. وجعله شفاء لما فى الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد فى الدنيا، والترغيب فى الآخرة، والأمثال والقصص التى فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه فى معاشه ومعاده ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبا للرشد، مبغضا للغى. فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التى فطر عليها، فتصلح أفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعى، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل ليس بقابل إلا اللبن. وَعَادَ الْفَتَى كَالطِّفْلِ، لَيْسَ بِقَابِلٍ ... سِوَى المَحْضِ شَيْئاً، وَاسْتَراحَتْ عَوَاذِلُهْ فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه، ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه. وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى؛ فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شىء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصله به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل. ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلا بزكاته وطهارته لم يكن بد من ذكر هذا وهذا، فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الباب الثامن: فى زكاة القلب الزكاة فى اللغة: هى النماء والزيادة فى الصلاح، وكمال الشىء، يقال: زكا الشىء إذا نما، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصى فى القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة فى البدن، وبمنزلة الدغل فى الزرع، وبمنزلة الخبث فى الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت إرادة القلب وإرادته للخير، فاستراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما، وقوى واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه فى رعيته، فسمعت له وأطاعت. فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهْمِ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أزْكَى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ} [النور: 30] . فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج. ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التى هى أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ رَأَيْتَ الَّذِى لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ ... عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذى لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذى قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب فى الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتنى. وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لفائدة الثانية فى غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة. قال أبو شجاع الكرمانى: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة" وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] . وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: {اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ} [النور: 35] . وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هى عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون. الفائدة الثالثة قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما فى الأثر: "إنَّ الّذِى يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ". ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10] . أى من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح، وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا فى طاعة الله" وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفى قلوبهم، أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما فى دعاء القنوت: "إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: {وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] . وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك. وكذلك قوله تعالى فى الاستئذان على أهل البيوت: {وَإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] . فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطَّلع عليها كان ذلك أزكى لهم، كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15] . وقال تعالى عن موسى عليه السلام فى خطابه لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] وقال تعالى {وَوَيلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} [فصلت: 6- 7] . قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هى التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذى به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه؛ وهو أصل كل زكاة ونماء، فإن التزكى- وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة- فإنما يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكى ينتظم الأمرين جمعياً. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح. هو التوحيد: والتزكية جعل الشىء زكيا، إما فى ذاته، وإما فى الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال: عدَّلته وفسَّقته، إذا جعلته كذلك فى الخارج، أو فى الاعتقاد والخبر. وعلى هذا فقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هو على غير معنى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] . أى لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون، ولهذا قال عقيب ذلك: {هُوَ أَعْلُم بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] . وكان اسم "زينب" "برة" فقال: "تُزَكِّى نَفْسهَا؟ " فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "زينب" وقال: "الله أَعْلمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ" وكذلك قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 {أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُم} [النساء: 49] . أى يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكى المزكى الشاهد، فيقول عن نفسه ما يقول المزكى فيه، كما قال الله تعالى: {بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] . أى هو الذى يجعله زاكيا، ويخبر بطاعة الله فيصير زاكياً، وهذا بخلاف قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] فإنه من باب قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] أى تعمل بطاعة الله تعالى، فتصير زاكيا، ومثله قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] . وقد اختلف فى الضمير المرفوع فى قوله: زكاها فقيل: هو الله. أى أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وخابت نفس دساها، وقيل: إن الضمير يعود على فاعل أفلح، وهو "مَن" سواء كانت موصولة أو موصوفة، فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه. والأولون يقولون "من" وإن كان لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث، مراعاة للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاة للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح، وقد وقع فى القرآن اعتبار لفظها ومعناها، فالأول كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] فأفرد الضمير، والثانى كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] . قال المرجحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا: ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الله عنها قالت: "أتيْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يقُولُ: رَبِّ أَعْطِ نَفْسِى تَقْوَاهَا، وزَكِّهَا، أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا". فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله تعالى هو الذى يزكى النفوس فتصير زاكية، فالله هو المزكى، والعبد هو المتزكى. والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل والمطاوع. قالوا: والذى جاء فى القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثانى، دون الأول. كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] ، وقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] . أى تقبل تزكية الله تعالى لك، فتتزكى؟ قالوا: وهذا هو الحق. فإنه لا يفلح إلا من زكاه الله تعالى. قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس، فإنه قال فى رواية على بن أبى طلحة وعطاء والكلبى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللهُ تَعَالَى نَفْسَه" وقال ابن زيد: "قَدْ أَفلَحَ مَنْ زَكَّى اللهُ تعالى نَفْسَهُ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 واختاره ابن جرير. قالوا: ويشهد لهذا القول أيضا قوله فى أول السورة: {فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] . قالوا: وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها. وذلك فى معنى التسوية. قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح: يقتضى أن يعود الضمير على "من" أى أفلح من زكى نفسه. هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم، بل لا يكاد يفهم غيره، كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها، وصلاة قد سعد من صلاها، وضالة قد خاب من آواها. ونظائر ذلك. قالوا: والنفس مؤنثة، فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت نفس زكاها، أو أفلحت من زكاها، لوقوع "مَن" على النفس. قالوا: وإن جاز تفريغ الفعل من التاء لأجل لفظ "من" كما تقول: قد أفلح من قامت منكن، فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس. فإذا وقع الاشتباه لم يكن بد من ذكر ما يزيله. قالوا: و "مَن" موصولة بمعنى الذى. ولو قيل: قد أفلح الذى زكاها الله لم يكن جائزا، لعود الضمير المؤنث على الذى، وهو مذكر. قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكى نفسه. ولهذا فرغ الفعل من التاء، وأتى ب "من" التى هى بمعنى "الذى" وهذا الذى عليه جمهور المفسرين، حتى أصحاب ابن عباس رضى الله عنهما. وقال قتادة: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا} [الشمس: 9] . "من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز وجل" وقال أيضا: "قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح" وقال الحسن: "قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى" قال ابن قتيبة: "يريد أفلح من زكى نفسه، أى نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة، واصطناع المعروف". {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] . أى نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصى. والفاجر أبدا خفى المكان، زَمِن المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس. فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربى ويفاع الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 لتشهر أماكنها للمعتفين. وتوقد النيران فى الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، لتخفى أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وأنشد: وَبَوَّاب بَيْتِكَ فى مَعْلَمٍ ... رَحيبِ المَباءَةِ وَالمَسْرَحِ كَفَيْتَ الْعُفَاةَ طِلابَ الْقِرَى ... وَنَبحَ الْكلابِ لِمُسْتَنْبِح فهذان قولان مشهوران فى الآية. وفيها قول ثالث: أن المعنى: خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدى، قال: ومعنى هذا: أنه أخفى نفسه فى الصالحين، يرى الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوى عليه الصالحون. وهذا- وإن كان حقا فى نفسه- لكن فى كونه هو المراد بالآية نظر، وإنما يدخل فى الآية بطريق العموم. فإن الذى يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه ونجاساته ... لباب التاسع: فى طهارة القلب من أدرانه ونجاساته هذا الباب وإن كان داخلا فيما قبله، كما بينا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة، ولكنا أفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته، وشدة الحاجة إليها، ودلالة القرآن والسنة عليها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبِّرْ وَثِياَبَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1- 4] وقال تعالى: {أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] . وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال الواحدى: اختلف المفسرون فى معناه، فروى عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما قال "يعنى من الإثم، ومما كانت الجاهلية تجيزه" وهذا قول قتادة ومجاهد، قالا: "نفسك فطهرها من الذنب" ونحوه قول الشعبى وإبراهيم والضحاك والزهرى. وعلى هذا القول: "الثياب" عبارة عن النفس، والعرب تكنى بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ: رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى ... لَها شَبهًا إلا النَّعَامَ المُنَفرَا رموها يعنى الركاب بأبدانهم. وقال عنترة: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّثِياَبَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَى بِمُحَرَّمِ يعنى نفسه. وقال فى رواية الكلبى: يعنى لا تغدر، فتكون غادرا دنس الثياب. وقال سعيد بن جبير: "كان الرجل إذا كان غادرا قيل: دنس الثياب، وخبيث الثياب" وقال عكرمة: "لا تلبس ثوبك على معصية، ولا على فُجْرة" وروى ذلك عن ابن عباس، واحتج بقول الشاعر: وَإنِّى بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ، وَلا مِنْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ وهذا المعنى أراد من قال فى هذه الآية "وعملك فأصلح" وهو قول أبى رزين ورواية منصور عن مجاهد وأبى رَوْق، وقال السُّدى: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجراً: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر: لا هُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أوْ ذَمَ حَجا فى ثِيابٍ دُسْمِ يعنى أنه متدنس بالخطايا، وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح بطهارة الثوب، قال امرؤ القيس: ثِيابُ بِنى عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ يريد أنهم لا يغدرون، بل يفون، وقال الحسن: "خُلقُك فحسنه"، وهذا قول القرطبى، وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق؛ لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 .. وروى العوفى عن ابن عباس فى هذه الآية "لا تكن ثيابك التى تلبس من مكسب غير طيب" والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحل اتخاذها منه، وروى عن سعيد بن جبير: "وقلبك ونيتك فطهر" وقال أبو العباس: الثياب اللباس. ويقال: القلب، وعلى هذا ينشد: فَسُلِّى ثِيابِى مِنْ ثِياَبِكِ تَنْسُلِى وذهب بعضهم فى تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التى لا تجوز معها الصلاة، وهو قول ابن سيرين، وابن زيد. وذكر أبو إسحاق: "وثيابك فقصر" قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه، وهذا قول طاوس. وقال ابن عرفة "معناه: نساءك طهرهن" وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] . ويكنى عنهن بالإزار، ومنه قول الشاعر: أَلا أَبْلِغْ أبَا حَفْصٍ رَسُولاً ... فِدًى لَكَ مِنْ أخِى ثِقَةٍ: إِزَارِى أى أهلى، ومنه قول البراء بن معرور للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة: "لَنَمْنَعنّكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا" أى نساءنا. قلت: الآية تعم هذا كله، وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم لبس جلود النمور والسباع بنهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك فى عدة أحاديث صحاح لا معارض لها، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن الملابسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الظاهرة تسرى إلى الباطن، ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التى تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء. والمقصود: أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها، فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأموراً به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس، فلا يتم إلا بذلك، فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا. وقوله: {أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] عقيب قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لقوم آخرين لم يأتوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] . مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك، وإلا حرفه، كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها، يردون هذه بالتأويل الذى هو تكذيب بحقائقها، وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها فى باب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته. فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله، كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوّضوا بالسماع الشيطانى عن السماع القرآنى الإيمانى. قال عثمان بن عفان رضى الله عنه: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله". فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذى لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح. ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى، وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل، المحرفين للحق، لم يحصل لها الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ولا يصح أن تفسر الإرادة هاهنا بالإرادة الدينية، وهى الأمر والمحبة، فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرا ومحبة، ولم يرده منهم كونا فأراد الطهارة لهم وأمرهم بها، ولم يرد وقوعها منهم، لما له فى ذلك من الحكمة التى فواتها أكره إليه من فوات الطهارة منهم. وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتابنا الكبير فى القدر. ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلا بد أن يناله الخزى فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه. ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من فى قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره. فإنها دار الطيبين. ولهذا يقال لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] . أى ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى: {الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شىء من الخبث. فمن تطهر فى الدنيا ولقى الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق، ومن لم يتطهر فى الدنيا فإن كانت نجاسته عينية، كالكافر، لم يدخلها بحال. وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة. والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر. وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر. فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب. ولهذا شرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه: "أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ". فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم: "الّلهُمَّ طَهِّرْنِى مِنْ خَطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ". كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله فى لفظ آخر "والماء البارد" والحار أبلغ فى الإنقاء؟. فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذى يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى فى التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. هذا معنى كلامه، وهو محتاج إلى مزيد بيان وشرح. فاعلم أن هاهنا أربعة أمور: أمران حسيان، وأمران معنويان. فالنجاسة التى تزول بالماء هى ومزيلها حسيان، وأثر الخطايا التى تزول بالتوبة والاستغفار هى ومزيلها معنويان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. فذكر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر. فتضمن كلامه الأقسام الأربعة فى غاية الاختصار، وحسن البيان. كما فى حديث الدعاء بعد الوضوء: "اللهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ". فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة. ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وتحقيقه لما يخبر به، ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوى بالأمر المحسوس. وهذا كثير فى كلامه، كقوله فى حديث على بن أبى طالب: " سَلِ اللهَ الهُدَى وَالسَّدَادَ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطّرِيقَ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم". هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته: كونه مسافرا، وقد ضل عن الطريق، ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها، فسأله أن يدله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر. وحاجة المسافر إلى الله سبحانه: إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها. وكذلك السداد، وهو إصابة القصد قولا وعملا، فمثله مثل رامى السهم، إذا وقع سهمه فى نفس الشىء الذى رماه، فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا، فهكذا المصيب للحق فى قوله وعمله بمنزلة المصيب فى رميه. وكثيرا ما يقرن فى القرآن هذا وهذا. فمنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] . أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى. فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين الزادين، ومنه قوله تعالى: {يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر والباطن، وكمال الظاهر والباطن، ومنه قوله تعالى: {فَمنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] . فنفى عنه الضلال، الذى هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذى هو عذاب البدن والروح أيضا، فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح، ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها فى حبه: {فَذلِكُنَّ الَّذِى لمُتُنَّنِى فِيه} [يوسف: 32] فأرتهن جماله الظاهر. ثم قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] . فأخبرت عن جماله الباطن بعفته، فأخبرتهن بجمال باطنه، وأرتهن جمال ظاهره. فنبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: "اللهُمَّ طَهِّرْنى مِنْ خطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ". على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا، والله تعالى أعلم. وقريب من هذا: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كان إِذَا خَرَجَ مِنَ الخلاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ". وفى هذا من السر والله أعلم، أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 على خلاصه من هذا المؤذى لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأل أن يخلصه من المؤذى الآخر ويريح قلبه منه ويخففه. وأسرار كلماته وأدعيته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوق ما يخطر بالبال. فصل فيما فى الشرك والزنا واللواطة من الخبث وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث فى كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذى وقع فى القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقوله تعالى فى حق اللوطية: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِى كانَتْ تَعْمَلُ الخبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين} [الأنبياء: 74] ، وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] . فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له، وقال تعالى فى حق الزناة: {الخبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالَخبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] . فأما نجاسة الشرك فهى نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذى لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به وخوفه ورجائه. ونجاسة الشرك عينية. ولهذا جعل سبحانه الشرك نجسا، بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجس، بالكسر، فإن النجس عين النجاسة، والنجس، بالكسر، هو المتنجس. فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نجس. والبول والخمر نجس. فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم. فإن النجَس فى اللغة والشرع هو المستقذر الذى يطلب مباعدته والبعد منه، بحيث لا يلمس ولا يشم ولا يرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فضلا أن يخالط ويلابس لقذارته، ونفرة الطباع السليمة عنه. وكلما كان الحى أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى. فالأعيان النجسة إما أن تؤذى البدن أو القلب، أو تؤذيهما معا. والنجَس قد يؤذى برائحته، وقد يؤذى بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة. والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحى ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشم رائحة النَّتْن، ويظهر ذلك كثيرا فى عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا. فإن نَتْن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره. والعرق يفيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أطيب الناس عرقا. قالت أم سليم، وقد سألها رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه وهى تلتقطه "هو من أطيب الطيب" فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد. والنفس الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له، وأشدها مقتا لديه. ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدا، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائرَة السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهمْ وَأعَد لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح: 6] . فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره فى ثلاثة مواضع من كتابه وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا، يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته؟ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يَحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] . وقال تعالى: {الحمدُ لِلّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] . أى يجعلون له عَدْلا فى العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هى التسوية التى أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا، وهم فى النار، أنها كانت ضلالا وباطلا، فيقولون لآلهتهم وهم فى النار معهم: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98] . ومعلوم أنهم ما سووهم به فى الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وأنها تحيى وتميت، وإنما سووها به فى محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام. ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا، بل قد حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم فى الشفاعة، فليس لهم من الأمر شىء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولى ولا شفيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى، ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86-87] . وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له ندا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟ فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه: من وزير، أو ظهير، أو عون. وهذا أعظم التنقيص لمن هو غنى عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أو لا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفى عبده وحده، أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به، وتكثره به من القلة، وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق. أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقا، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته، وكل هذا تنقص للربوبية، وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، من قلب المشرك، بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء، بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه- لكفى فى شناعته. فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه فى العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية. فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يعظمه بذلك. كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة. فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، أو يزعم أنها هى السنة، وإن كان مستبصرا فى بدعته فهو مشاق لله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فالمتنقصون المنقوصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه: هم أهل الشرك والبدعة ولا سيما من بَنَى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين، ولا تغنى من اليقين والعلم شيئا. فيالله للمسلمين، أى شىء فات من هذا التنقص؟. وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى، خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه نفسه من الكمال. والمقصود: أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص فى الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصا، لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا أن تنقصهم هو الكمال. ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك فى كتاب الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِنّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْىَ بغير الَحْقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . فالإثم والبغى قرينان، والشرك والبدعة قرينان. فصل وأما نجاسة الذنوب والمعاصى، فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل. ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة، كالنجاسة فى محل الاستجمار، وأسفل الخف، والحذاء، وبول الصبى الرضيع وغير ذلك، مالا يعْفَى عن المغلظة. وكذلك يعفى عن الصغائر ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذى لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك فلو لقى الموحد الذى لم يشرك بالله شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك. فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب. فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوى فلا تثبت معه، ولكن نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاء، فكلما كان الشرك فى العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام. {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعى فى مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعى فى مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضى الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق فى مرضاته ما لا ينفقه فى مرضاة الله، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه: حبا، وخضوعا، وذلا، وسمعا، وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوى شرك العبد بُلىَ بعشق الصور، وكلما قوى توحيده صرف ذلك عنه. والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لِتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فليس فى الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية فى تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال المسيح عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد فى كتاب الزهد: "لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء". ولما كانت هذا حال الزنا كان قريبا للشرك فى كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: {الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرمَ ذلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} [النور: 3] . والصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شىء، وهى مشتملة على خبر وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة، والذى أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: {الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] هل هو خبر أو نهى، أو إباحة؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزانى أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له فى نكاح المشركات والزوانى، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه. فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا، فكأنه قال: الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة. وهذا فاسد، فإنه لا فائدة فيه، ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك، فإنه من المعلوم أن الزانى لا يزنى إلا بزانية، فأى فائدة فى الإخبار بذلك؟ ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه. ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهى عناق البَغِى وصاحبها فإنه أسلم، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نكاحها فنزلت هذه الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وهذا أيضاً فاسد، فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها. وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين، ولا تناقض إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة، وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ فى هذا؟. فإن قيل: فما وجه الآية؟. قيل: وجهها، والله أعلم، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه فى سورتى النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفى عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذى شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه، لم يصح النكاح، فيكون زانيا، فظهر معنى قوله: {لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة. وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة. ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانًا دَيُّوثا زوج بغى، فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا فى سب الرجل قالوا زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك. فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية، والله الموفق. ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذى يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذى جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنا يفضى إلى اختلاط المياه، واشتباه الأنساب، فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية، حتى تتوب وتستبرأ. وأيضاً فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له، والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الاثنان المتشابهان، والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعاً وقَدَرًا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد، فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة. فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزانى البارحة، وقال: ماء الزانى لا حرمة له، فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزانى فى رحم واحد؟ والمقصود: أن الله سبحانه سمى الزوانى والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرًا لبدنه بالماء. وقول اللوطية: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] . من جنس قوله سبحانه فى أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَموا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحمِيدِ} [البروج: 8] وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59] . وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع: إنما ينقم على السنى تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشىء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة. إذَا لَمْ يَكُنْ بُد مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ ... عَلَى الحقِّ ذَاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الباب العاشر: فى علامات مرض القلب وصحته كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله فى حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذى خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته، فلو عرف العبد كل شىء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته. وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه فى مخالفة الهوى، وذلك أصعب شىء على النفس وليس لها أنفع منه. وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره: كمن دخل فى طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلى بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهى التى أهلكتهم، فالصبر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فتفرد العبد فى طريق طلبه دليل على صدق طلبه. ولقد سُئِلَ إسحاق بن راهويه عن مسألة فأجاب عنه. فقيل له: إن أخاك أحمد ابن حنبل يقول فيها بمثل ذلك. فقال: ما ظننت أن أحدا يوافقنى عليها ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة، فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس. فإذا رأى الرائى الشمس لم يحتج فى علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه. وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء به الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا" لأن الحق هو الذى كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودى: "صحبت معاذا باليمن. فما فارقته حتى واريته فى التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهى الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة. قال قلت: يا أصحاب محمد ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرنى بالجماعة وتحضنى عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الفريضة، وصل مع الجماعة وهى نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدرى ما الجماعة؟ قلت: لا: قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك" وفى طريق أخرى: "فضرب على فخذى وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة. وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل"، قال نعيم بن حماد: "يعنى إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" ذكره البيهقى وغيره. وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصرى قال: "السنة، والذى لا إله إلا هو بين الغالى والجافى، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقى: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف فى إترافهم، ولا مع أهل البدع فى بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا". وكان محمد بن أسلم الطوسى، الإمام المتفق على إمامته، مع رتبته أتبع الناس للسنة فى زمانه، حتى قال: "ما بلغنى سنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا، فما مكنت من ذلك"، فسئل بعض أهل العلم فى زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَعَلَيكُمْ بِالسَّوَادِ الأعْظَمِ". فقال: "محمد بن أسلم الطوسى هو السواد الأعظم" وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التى من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا. والمقصود: أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دوائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافى على الضار المؤذى، والقلب المريض بضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء. ومن علامات صحته أيضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كما قال النبىِّ عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر: "كُنْ فى الدُّنْيا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القبُورِ". فَحَى عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ ... فَإِنهَامَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوِّ، فَهَلْ ... تَرَىنَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟ وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه "إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل". وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها. ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، وقال آخر "إنه ليمر بى أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة فى مثل هذا إنهم لفى عيش طيب". وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته". وقال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب فى ذكر الحى الذى لا يموت، والعيش الهنى الحياة مع الله تعالى لا غير". ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟،. وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات". وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل واحد بالنظر إليه". ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر. ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْدُه وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده. ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشرب. ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا، وأن يكون فى الله. ومن علامات صحته: أنه إذا دخل فى الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه. ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله. ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره فى حق الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فهذه ست مشاهد لا يشهدها إلا القلب الحى السليم. وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذى همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] . فهو يردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه فينصبغ القلب بين يدى إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا، فيأتى بها توددا وتحببا وتقربا، كما يأتى المحب المتيم فى محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عرض له أمر من ربه أو نهى أحس من قلبه ناطقا ينطق: "لبَّيْك وسعديك، إنى سامع مطيع ممتثل، ولك على المنَّة فى ذلك، والحمد فيه عائد إليك". وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: "أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لى إن لم تصبرنى، ولا قوة لى إن لم تحملنى وتقونى، لا ملجأ لى منك إلا إليك ولا مستعان لى إلا بك، ولا انصراف لى عن بابك، ولا مذهب لى عنك". فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أهدِيَتْ إلى، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شرا صرف عنى: وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لِى فى انْصِرَافِهِ وَمَا زِلْتَ بى مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل: ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى ... إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به ... مِنِّى بِهِإنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر. سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ... وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الباب الحادى عشر: فى علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب، فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء. وأول ما تنال القلب. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبة الحاجة: "الحمدُ لله نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا". وفى المسند والترمذى من حديث حُصين بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يَا حُصَيْنُ، كَمْ تَعْبُدُ؟ قال: سَبْعَةٌ، سِتَّةٌ فى الأرْضِ وَوَاحِدٌ فى السَّماءِ، قالَ: فَمنِ الَّذِى تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قالَ: الَّذِى فى السَّماءِ. قالَ: أَسْلِمْ حَتَّى أُعَلّمَكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بهَا، فأَسْلَمَ. فَقَالَ: قُلِ: اللهُمَّ أَلْهِمْنى رُشْدِى، وَقِنِى شَرَّ نَفْسِى". وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من شرها عموما، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال. وفيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه، أى أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال. والثانى: أن المراد به عقوبات الأعمال التى تسوء صاحبها. فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها. وعلى الثانى: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها. ويدخل العمل السيئ فى شر النفس. فهل المعنى: ما يسوءنى من جزاء عملى، أو من عملى السيئ؟ وقد يترجح الأول، فإن الاستعاذة من العمل السيئ بعد وقوعه إنما هى استعاذة من جزائه وموجبه، وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه. وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها. فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها. وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم. قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم. فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحياةَ الُّدنْيَا * فَإنَّ الجحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنّ الجنَّةَ هِىَ المَأْوَى} [النازعات: 37 - 41] . فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفس عن الهوى. والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعى مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء، وقد وصف سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة. فاختلف الناس: هل النفس واحدة، وهذه أوصاف لها؟ أم للعبد ثلاث أنفس؟: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة. فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقول محققى الصوفية. والثانى قول كثير من أهل التصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين، فإنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها. فإذا اعتبرت بنفسها فهى واحدة، وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهى متعددة، وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس قائمة بذاتها مساوية للأخرى فى الحد والحقيقة، وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس، كل واحدة مستقلة بنفسها. وحيث ذكر سبحانه النفس، وأضافها إلى صاحبها، فإنما ذكرها بلفظ الإفراد، وهكذا فى سائر الأحاديث، ولم يجئ فى موضع واحد "نفوسك" و "نفوسه" ولا "أنفسك" و"أنفسه" وإنما جاءت مجموعة عند إرادة العموم، كقوله: {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] أو عند إضافتها إلى الجمع، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ". ولو كانت فى الإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه ولو فى موضع واحد. فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يقال لها عند الوفاة. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ ارْجِعِى إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةَ} [الفجر: 27-28] . قال ابن عباس: "يا أيتها النفس المطمئنة". ارجعى إلى ربك راضية مرضية يقول: المصدقة، وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله" وقال الحسن: "المطمئنة بما قال الله. والمصدقة بما قال" وقال مجاهد: "هى المنيبة المخبتة التى أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه". وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهى التى قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضى به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وإذا كانت بضد ذلك فهى أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغى، واتباع الباطل، فهى مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه. وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء، ولم يقل "آمرة" لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله، لا منها. فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت فى الأصل جاهلة ظالمة، إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها. فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة. فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات والتصورات، وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التى خلقت عليها من الجهل والظلم. وسبب الظلم: إما جهل، وإما حاجة. وهى فى الأصل جاهلة. والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله. وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك. فصل وأما اللوامة فاختلف فى اشتقاق هذه اللفظة، هل هى من التلوم، وهو التلون والتردد، أو هى من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين. قال سعيد بن جبير: "قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: هى النفس اللئوم". وقال مجاهد: "هى التى تُنَدِّم على ما فات وتلوم عليه". وقال قتادة: "هى الفاجرة" وقال عكرمة: "تلوم على الخير والشر" وقال عطاء عن ابن عباس: "كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانا، وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته". وقال الحسن: "إن المؤمن، والله، ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته؛ يستقصرها فى كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضى قدما لا يعاتب نفسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم. وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها، وأنها لا تستقر على حال واحدة. والأول أظهر، فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلومة. كما يقال: المتلونة والمترددة. ولكن هو من لوازم القول الأول، فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء ثم تلوم عليه. فالتلوم من لوازم اللوم. والنفس قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل فى اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا. والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنة وصف مدح لها. وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها. وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه. والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه. وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفى الحديث الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكَيسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" دان نفسه: أى حاسبها. وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية". وذكر أيضا عن الحسن قال: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟. والفاجر يمضى قدما قدما لا يحاسب نفسه". وقال قتادة فى قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28] . أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه. وقال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك". وقال ميمون بن مهران أيضاً: "إن التقى أشد محاسبة لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح". وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: "مكتوب فى حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن فى هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب" وقد روى هذا مرفوعًا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم. رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره. وكان الأحنف بن قيس يجىء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ويبكى. وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: "حاسب نفسك فى الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه فى الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة". وقال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشىء ويعجبه، فيقول: والله إنى لأشتهيك. وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بينى وبينك، ويفرط منه الشىء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالى ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير فى الدنيا يسعى فى فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه فى سمعه وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه فى ذلك كله". قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا". وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك فى المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس: يشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التى حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك. فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع فى الربح؟ وهذه الجوارح السبعة وهى العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرجل: هى مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها. وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر. قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحفظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] . وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فى الأرْضِ مَرَحًا إِنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلٌم إِن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبادى يَقُولُوا الّتى هِىَ أحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] . فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت فى الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت فى الخيانة حتى تُذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة فى المستقبل، ولا مطمع له فى فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه فليجتهد فى مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله. ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا. ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها: دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم. فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لا حظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا ً} [آل عمران: 30] . فصل ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده. فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر. وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهم به العبد، وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدورا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك. ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى، حتى يصير أثقل شىء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وإن وجده معانا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح. فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورا له، ولا كل ما يكون مقدورا له يكون فعله خيرا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيرا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه، وما يحجم عنه. فصل النوع الثانى: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذى ينبغي. وحق الله تعالى فى الطاعة ستة أمور قد تقدمت، وهى: الإخلاص فى العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه فيه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسه: هل وَفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها فى هذه الطاعة؟. الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به. فصل وأضر ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمُشِّى الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر فى العاقبة. وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الذنوب، وأنس بها، وعسر عليها فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد. قال ابن أبى الدنيا: حدثني رجل من قريش، ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله قال: "كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسبا لنفسه، فحسب يوما، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هى أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتى، ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفى كل يوم آلاف من الذنوب؟. ثم خرج مغشيا عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: "يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى"". وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولا على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح. ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية. ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى. ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا؟ ولم فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟ ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لم فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثانى سؤال عن المتابعة، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] وقال تعالى {فَلَنَسْئَلَنَّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبينَ} [الأعراف: 6 - 7] وقال تعالى {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهمْ} [الأحزاب: 8] . فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟. قال مقاتل: "يقول تعالى: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الله الصادقين، يعني النبيين، عن تبليغ الرسالة". وقال مجاهد: "يسأل المبلغين المؤدين عن الرسل، يعني: هل بلغوا عنهم كما يسأل الرسل، هل بلغوا عن الله تعالى؟ ". والتحقيق: أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل، والمبلغون عنهم، فيسأل الرسل عن تبليغ رسالاته ويسأل المبلغين عنهم عن تبليغ ما بلغتهم الرسل، ثم يسأل الذين بلغتهم الرسالة ماذا أجابوا المرسلين، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} [القصص: 65] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فيسأل عن المعبود وعن العبادة. وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] . قال محمد بن جرير: يقول الله تعالى: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه فى الدنيا: ماذا عملتم فيه؟ من أين دخلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟. وقال قتادة: "إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحقه". والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف فى حقه، فيسأل عن شكره. ونوع أخذ بغير حله وصرف فى غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه. فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شىء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب. وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] . يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التى تنجيه، أم من السيئات التى توبقه؟ قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد". والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. فصل وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها فى ذات الله تعالى. وقد روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس فى جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا". وقال مُطرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وقال مصرف فى دعائه بعرفة: "اللهم لا ترد الناس لأجلى". وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم". وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل". ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد: "يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إنى لأرجو لك ذلك". وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: "خرجنا فى غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت فى شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرا، أقول: تصدع الجبال منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إنى أسألك أن تجيرني من النار، ومثلى يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبى من الفترة شىء الله به عالم". وقال يونس بن عبيد: "إنى لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن فى نفسي منها واحدة". وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلى". وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: "كان راهب فى بنى إسرائيل فى صومعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 منذ ستين سنة. فأتِىَ فى منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك- ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بى أحد إلا ظننته أنه فى الجنة وأنا فى النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه". وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال: "لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا". وقال أبو حفص: "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها فى جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها". فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء؛ فهى تجري بطبعها فى ميدان المخالفة. فالنعمة التى لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتا لها. قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي: حدثنا عامر ابن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: "اللهم اغفر لى ظلمى وكفرى، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: إن الإنسان لظلوم كفار". قال: وحدثنا يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائى قال: "سألت عائشة رضى الله عنها عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالَخْيَراتِ بِإِذْنِ اللهِ} [فاطر: 32] . فقالت: يا بنى، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضي علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلى ومثلكم، فجعلت نفسها معنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا شريك عن عاصم عن أبى وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن علي أم سلمة رضي الله عنها، فقالت: "سَمِعْتُ الَّنبيَّ صلي اللهُ وسلم يقول: إِنَّ مِنْ أصْحَابى لمَنْ لا يَرَانِى بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبَدا فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحمنِ مِنْ عِنْدِهَا مَذْعُوراً، حَتَّى دَخَلَ عَلَي عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ لهُ: اسْمَعْ مَا تَقُولُ أُمُّكَ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَاهَا فَدَخَلَ عَلَيهَا فَسَأَلهَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللهِ، أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قالَتْ: لا، وَلَنْ أُبَرئَ بَعْدَكَ أَحَداً". فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك البرئ من ذلك دون سائر الصحابة. ومقت النفس فى ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه فى لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل. ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم فى يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: إن فلانا صديق". وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس: حدثنا منذر عن وهب: "أن رجلا سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة. ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه. واعترف بذنبه فأتاه آت من الله عز وجل فقال: إن مجلسك هذا أحب إلي من عملك فيما مضى من عمرك". قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، أبو هلال، عن قتادة قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: "سلونى، فإنى لين القلب، صغير عند نفسى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال "كان داود عليه السلام ينظر أغمص حلقة فى بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهرانى مساكين". وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام: "يا رب أين أبغيك؟ قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك انهدموا". وفى كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن رجلا من بنى إسرائيل تعبد ستين سنة فى طلب حاجة. فلم يظفر بها. فقال فى نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فأتى فى منامه، فقيل له: أرأيت ازدراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين". ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه. ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر فى حقي عليه". فمن أنفع ما للقلب النظر فى حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. فمن نظر فى هذا الحق الذى لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك. فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذى أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون فى حقهم على الله، ولا ينظرون فى حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. فمحاسبة النفس هو نظر العبد فى حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر فى ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه. وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجونى عن أبي الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجنى حين تناجيني بقلب وجل ولسان صادق". ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلا كائنا ما كان، ومن أدلَّ بعمله لم يصعد إلى الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: "إني لأقوم في صلاتى؛ فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى؛ فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك. فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه. فقال له: أوصنى، قال: عليك بالزهد فى الدنيا، وأن لا تنازعها أهلها، وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم، وينصحهم". ومن هاهنا أخذ الشاطبى قوله: وَقَدْ قِيلَ: كُنْ كالْكَلْبِ يُقْصِيهِ ... أَهْلُهُوَلا يَأْتلى فى نُصْحِهِمْ مُتَبَتِّلا وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار: حدثنا جعفر: حدثنا الجريرى قال: "بلغنى أن رجلاً من بني إسرائيل كانت له إلى الله عز وجل حاجة. فتعبد واجتهد، ثم طلب إلي الله تعالى حاجته، فلم ير نجاحا، فبات ليلته مزريا على نفسه. وقال: يا نفس، مالك لا [تقضى] حاجتك؟ فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم الملامة نفسه، فقال: أما والله ما من قِبَل ربى أتيت ولكن من قِبَل نفسى أتِيت، فبات ليلته مزرياً، وألزم نفسه الملامة، فقضيت حاجته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الباب الثانى عشر: فى علاج مرض القلب بالشيطان هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصروا فى هذا الباب. ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت فى قوله: {إِن النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . واللوامة فى قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ} [القيامة: 2] . وذكرت النفس المذمومة فى قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] . وأما الشيطان فذكر فى عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذى لا ينبغي غيره، فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهى مركبه وموضع شره، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس فى موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها فى خطبة الحاجة فى قوله صلى الله عليه وسلم: "وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا". كما تقدم ذلك فى الباب الذى قبله. وقد جمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين الاستعاذة من الأمرين فى الحديث الذى رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضى الله عنه: "أَنّ أَبَا بكرٍ الصِّديقَ رَضى الله عنه قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِى شْيئاً أَقولُهُ إِذا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ قُلِ: اللهُمَّ عَالمَ الْغَيَبِ وَالشّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى سُوءًا أَوْ أَجرهُ إِلَى مُسْلِمٍ، قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته، فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل. أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدرى الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل إليهما. فصل قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100] . ومعنى "استعذ بالله" امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ، والعياذ، والمعاذ؛ وغالب استعماله فى المستعاذ به، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لَقَدْ عُذْتِ بمُعَاذٍ". وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب "أطيب اللحم عوذه" أى الذى قد عاذ بالعظم واتصل به. وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجمعها "عوذ" كحمر. ومنه فى حديث الحديبية: "مَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ". والمطافيل: جمع مطفل، وهى الناقة التى معها فصيلها. قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء، أى معهم النساء وأطفالهم، ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته. أى قد خرجوا إليك بدوابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التى معها أولادها، فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفى ذلك وجوه: منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكن منه، ويؤثر فيه، كما قيل: أَتَانِى هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى ... فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَمَكّنَا فيجىء هذا الدواء الشافى إلى قلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه. ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير فى القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا، فكلما أحس بنبات الخير فى القلب سعى فى إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن. والفرق بين هذا الوجه والوجه الذى قبله، أن الاستعاذة فى الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفى الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها. وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى، وهو لعمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصل للأمرين. ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما فى حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام: "تِلْكَ المَلائِكُة". والشيطان ضد الملك وعدوه. فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاصته وملائكته، فهذه وليمة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه. ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله تعالى كلامه، والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته. والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء. فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته تعالى واستماع الرب قراءته. ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته. كما قال الشاعر فى عثمان: تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم؟ ولهذا يغلط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه عند القراءة. ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنّ شَيْطَاناً تَفَلّتَ عَلَىَّ البَارِحَةَ، فأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَىَّ صَلاتِي" الحديث. وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر. وفى مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبى الفاكه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنّ الشّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وآبَاءِ آبَائِكَ؟ فعصاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَماءَكَ؟ وَإِنَما مَثَلُ المهَاجِرِ كالفَرَسِ فى الطول فَعَصَاهُ وَهاجَر، ثُمَّ قعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالمَال فقال: تقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ المَرْأَةُ وَيُقْسَمُ المَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ". فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير. وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: "ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم" رواه ابن أبي حاتم فى تفسيره، فهو بالرصد، ولاسيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذى يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا، ثم يأخذ فى السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع فى سيره. ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدى كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم [شرع] ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة. وقد قال أحمد فى رواية حنبل: "لا يقرأ فى صلاة ولا غير صلاة، إلا استعاذ؛ لقوله عز وجل: {فَإذَا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . وقال فى رواية ابن مشيش: "كلما قرأ يستعيذ". وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي كان إذا قرأ استعاذ، يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم". وفى المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قامَ إِلَى الصَّلاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ: أعُوذُ باللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ: مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقال ابن المنذر: "جَاءَ عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ كانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ". واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي فى الجامع أنه كان يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وهو رواية عن أحمد، لظاهر الآية، وحديث ابن المنذر. وعن أحمد من رواية عبد الله: "أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ". لحديث أبى سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود فى قصة الإفك: "أَنّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار، واختاره القاضي فى المجرد وابن عقيل؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيمِ} [فصلت: 36] . ظاهره أنه يستعيذ بقوله "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وقوله فى الآية الأخرى: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36] . يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم فى جملة مستقلة بنفسها مؤكدة بحرف "إن" لأنه سبحانه هكذا ذكره. وقال إسحاق: الذى أختاره ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الّلهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِه". وقد جاء فى الحديث تفسير ذلك، قال: "وهمزه: المُؤتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر". وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ هَمَزاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] . والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة. وأصل الهمز الدفع، قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته، ولَمَزْتُهُ، ولهزته، ونهزته- إذا دفعته، والتحقيق: أنه دفع بنَخْز، وغمز يشبه الطعن، فهو دفع خاص، فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب، قال ابن عباس والحسن: "همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم" وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، وهذا قول مجاهد، وفسرت بخنقهم وهو المؤتة التى تشبه الجنون. وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا، كنظائر ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ثم قال: {وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] . قال ابن زيد: فى أموري. وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن، وقال عكرمة: عند النزع والسياق، فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم له بالهمز وقربهم ودنوهم منه. فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ بِالتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيَئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بمَا يصِفُونَ} [المؤمنون: 96] . فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتى هى أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم. ونظير هذا قوله فى سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ} [الأعراف: 199] . فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . ونظير ذلك قوله فى سورة فصلت: {وَلا تَسْتَوِى الحسَنَةُ وَلا السيَّئِّةُ ادْفَعْ بِالتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإذَا الّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ} [فصلت: 34] . فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36] وقال هاهنا: {إنه هو السميع العليم} [فصلت: 36] ، فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام فى {السميع العليم} [فصلت: 36] . وقال فى الأعراف: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . وسر ذلك- والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين، وامتاز المذكور فى سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا فى سمعه لقولهم وعلمهم به، كما جاء فى الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصاَرُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلِكنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مما تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مِنَ الخاسِرِينَ} [فصلت: 22 - 23] . فجاء التوكيد فى قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] . فى سياق هذا الإنكار: أى هو وحده الذى له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون، وحسن ذلك أيضا: أن المأمور به فى سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] . فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ. وأيضا فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] وبقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أنك تَرَى الأرْضَ خَاشِعَة} [فصلت: 39] . فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه "السميع العليم" كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة، والذى فى الأعراف فى سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها، فإنه سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف تُسَوُّونها به في العبادة، فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف، والله أعلم بأسرار كلامه. ولما كان المستعاذ منه فى سورة "حم المؤمن" هو شر مجادلة الكفار فى آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال: {إِنَّ الَّذِينَ يجادِلُونَ فِى آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرُ} [غافر: 56] . فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: {إنه هو السميع البصير} [غافر: 56] ، وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا، فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فصل فالقرآن أرشد إلى دفع هذين العدوين بأسهل الطرق بالاستعاذة والإعراض عن الجاهلين ودفع إساءتهم بالإحسان. وأخبر عن عظم حظ من لَقَّاه ذلك فإنه ينال بذلك كف شر عدوه وانقلابه صديقا، ومحبة الناس له، وثناءهم عليه، وقهر هواه، وسلامة قلبه من الغل والحقد وطمأنينة الناس- حتى عدوه- إليه. هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه، وهذا غاية الحظ عاجلاً وآجلاً، ولما كان ذلك لا ينال إلا بالصبر قال: {وما يُلَقَّاها إلا الذين صبروا} [فصلت: 35] فإن النَّزِق الطائش لا يصبر على المقابلة. ولما كان الغضب مركب الشيطان، فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التى تأمر بدفع الإساءة بالإحسان - أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه، فتُمِدّ الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذى يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل، فأبطل سلطان الشيطان: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] . قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة. والصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم: لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة. والقدرة داخلة فى مسمى السلطان، وإنما سميت الحجة سلطانا؛ لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، فقال فى سورة الحجر: {قَالَ رَبِّ بمَا أَغْوَيْتَنِى لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرْضِ وَلأغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخْلَصِينَ قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 - 42] . وقال فى سورة النحل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشرِكُونَ} [النحل: 99- 100] . فتضمن ذلك أمرين: أحدهما نفى سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص. والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلَصِينَ} [ص: 82- 83] . فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله، عز وجل، وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته وهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم. فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه فى هذا الموضع. فكيف ينفيه فى قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ وَمَا كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ} [سبأ: 20- 21] . قيل: إن كان الضمير فى قوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 21] . عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط، ويكون الاستثناء منقطعا: أى لكن امتحنّاهم بإبليس، لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها فى شك. وإن كان عائدا على ما عاد عليه فى قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ: 20] . وهو الظاهر، ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفى ويكون المعنى: وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة. قال ابن قُتيبة: "إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة قال لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا، ولأتخذن من عبادك نصيباً مفروضا وليس هو فى وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيه يتم، وإنما قال ظانا، فلما اتَّبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم، فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين، يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء". وعلى هذا فيكون السلطان هاهنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها، وهم الذين تولوه وأشركوا به فيكون السلطان ثابتا لا منفيا، فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات. فإن قيل: فما تصنع بالتي فى سورة إبراهيم. حيث يقول لأهل النار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 {وَمَا كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] . وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقرراً له، لا منكرا، فدل على أنه كذلك. قيل: هذا سؤال جيد. وجوابه: أن السلطان المنفي فى هذا الموضع: هو الحجة والبرهان، أى ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم، كما قال ابن عباس: "ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم" أى: ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى، وصدقتم مقالتي، واتبعتمونى بلا برهان ولا حجة. فأما السلطان الذي أثبته فى قوله: {إِنَّما سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] . فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال، وتمكنه منهم، بحيث يؤزُّهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه كما قال تعالى: {أَلمْ تَرَ أَنَّا أرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أزا} [مريم: 83] . قال ابن عباس: "تغريهم إغراء" وفى رواية: "تشليهم إشلاء" وفى لفظ: "تحرضهم تحريضا" وفى آخر: "تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا" وفى آخر: "توقدهم" أى تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته، قال الأخفش: "توهجهم". وحقيقة ذلك: أن "الأزَّ" هو التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز؛ لأن الماء يتحرك عند الغليان. ومنه الحديث: "لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء". قال أبو عبيدة "الأزيز" الالتهاب والحركة، كالتهاب النار فى الحطب، يقال: إزَّ قِدْرَك، أى ألْهِب تحتها بالنار، وأيزت القدر إذا اشتد غليانها، فقد حصل للأزِّ معنيان: أحدهما: التحريك، والثاني: الإيقاد والإلهاب، وهما متقاربان، فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب. فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك، ولكن ليس له على ذلك سلطان حجة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت أهواءهم وأغراضهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم، بموافقته ومتابعته فلما أعطوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بأيديهم واستأسروا له سُلِّط عليهم؛ عقوبة لهم. وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون تصدر منهم من المعصية والمخالفة التى تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا، حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا، فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه يوجب سلطانه، والجميع بقضاء مَنْ أزِمَّة الأمور بيده، ومَردها إليه، وله الحجة البالغة، فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك. {فَلِله الحمْدُ رَبِّ السَّموَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْريَاء في السَّمواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيمُ} [الجاثية: 36 - 37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم قال الله تعالى إخبارا عن عدوه إبليس، لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن يُنْظِره، فأنظره، ثم قال عدو الله: {فَبِما أغْوَيْتَنِى لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16- 17] . قال جمهور المفسرين والنحاة: حذف "على" فانتصب بالفعل. والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك. والظاهر: أن الفعل مضمر، فإن القاعد على الشىء ملازم له، فكأنه قال: لألزمنه، ولأرصدنه، ولأعوجنه، ونحو ذلك. قال ابن عباس: "دينك الواضح" وقال ابن مسعود: "هو كتاب الله" وقال جابر: "هو الإسلام" وقال مجاهد: "هو الحق". والجميع عبارات عن معنى واحد، وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى، وقد تقدم حديث سبرة بن أبى الفاكه: "إِن الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بأَطْرُقِهِ كُلِّهَا" الحديث. فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك. وقوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْديهِمْ} [الأعراف: 17] . قال ابن عباس، فى رواية عطية عنه: "مِن قِبَل الدنيا" وفى رواية علي عنه "أشككهم فى آخرتهم". وكذلك قال الحسن: "من قبل الآخرة، تكذيبا بالبعث والجنة والنار". وقال مجاهد: "من بين أيديهم من حيث يبصرون" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ومن خلفهم. قال ابن عباس: "أرغبهم فى دنياهم" وقال الحسن: "من قبل دنياهم أزينها لهم وأشَهيها لهم". وعن ابن عباس رواية أخرى: "من قبل الآخرة". وقال أبو صالح: "أشككهم فى الآخرة وأباعدها عليهم" وقال مجاهد أيضاً: "من حيث لا يبصرون". وعن أيمانهم قال ابن عباس: "أشبه عليهم أمر دينهم" وقال أبو صالح: "الحق أشككهم فيه" وعن ابن عباس أيضاً: "من قبل حسناتهم". قال الحسن: "من قبل الحسنات أثبطهم عنها". وقال أبو صالح أيضاً: "من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أُنفِّقُه عليهم وأُرَغِّبُهم فيه". وقال الحسن "وعن شمائلهمالسيئات يأمرهم بها ويحثهم عليها ويرغبهم فيها ويزينها فى أعينهم". وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ولم يقل من فوقهم؛ لأنه علم أن الله من فوقهم". قال الشعبي: "فالله عز وجل أنزل الرحمة عليهم من فوقهم". وقال قتادة: "أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك. لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله". قال الواحدي: "وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات، حسن؛ لأن العرب تقول: اجعلني فى يمينك، ولا تجعلني فى شمالك، تريد: اجعلني من المقدمين عندك، ولا تجعلني، من المؤخرين"، وأنشد لابن الدمينة: ألُبْنَى، أفِى يُمْنَى يَديْكِ جَعَلْتِنِى ... فَأَفْرَحُ، أمْ صَيَّرْتِنِى فى شِمَالِكِ؟ وروى أبو عبيد عن الأصمعى: "هو عندنا باليمين: أى بمنزلة حسنة، وبضد ذلك هو عندنا بالشمال"، وأنشد: رَأَيْتُ بَنِى الْعَلاتِ لَمَّا تَظَافَرُوا ... يَحُوزُونَ سَهْمى بَيْنَهُمْ فى الشَّمائِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أى ينزلونى بالمنزلة السيئة. وحكى الأزهرى عن بعضهم فى هذه الآية {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17] : "أى لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة {ومن خلفهم} [الأعراف: 17] بأمر البعث {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] : أى لأضلنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئا؛ لأنهما الأصل فى التصرف، فجعلتا مثلا لجميع ما يعمل بغيرهما". وقال آخرون منهم أبو إسحاق والزمخشرى، واللفظ لأبى إسحاق: ذكر هذه الوجوه للمبالغة فى التوكيد، أى: لآتينهم من جميع الجهات، والله أعلم، أتصرف لهم فى الإضلال من جميع جهاتهم. وقال الزمخشرى: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التى يأتى منها العدو فى الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِسَوْطِكَ وَأجْلِبْ عَلَيهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] . وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: "أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك". وهذا القول أعم فائدة ولا يناقض ما قاله السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين. قال شقيق: "ما من صباح إلا قعد لى الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفى، وعن يمينى، وعن شمالي، فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] . وأما من خلفي فيخوفنى الضيعة على من أخلفه، فأقرأ: {وَمَا مِنْ دَابّةٍ فى الأرْضِ إلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . ومن قبل يميني يأتيني من قبل النساء، فأقرأ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف: 128] . ومن قبل شمالى فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] . قلت: السبل التى يسلكها الإنسان أربعة لا غير، فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصدا له، فإن سلكها فى طاعة وجده عليها يُثبِّطه عنها ويقطعه، أو يعوقه ويبطئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادما ومعينا وممنيا، ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] . قال الكلبي: "ألزمناهم قرناء من الشياطين". وقال مقاتل: "هيأنا لهم قرناء من الشياطين". وقال ابن عباس: "ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة". والمعنى: زينوا لهم الدنيا حتى آثروها، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها. وقال الكلبى: "زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث، وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة". وهذا اختيار الفراء. وقال ابن زيد: "زينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم، وما يستقبلون منها". والمعنى: على هذا زينوا لهم ما عملوه فلم يتوبوا منه وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه. فقول عدو الله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْديِهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] . يتناول الدنيا والآخرة، وقوله: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] . فإن ملك الحسنات عن اليمين يستحث صاحبه على فعل الخير، فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يثبطه عنه، وإن ملك السيئات عن الشمال ينهاه عنها فيأتيه الشيطان من تلك الجهة يحرضه عليها، وهذا يفصل ما أجمله فى قوله: {فَبِعزَّتِكَ لأغْوِينَّهُمْ أَجْمَعينَ} [ص: 82] وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خسرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُوراً} [النساء: 117 - 120] . قال الضحاك: "مفروضا أى معلوما" وقال الزجاج: "أى نصيبا افترضته على نفسى" قال الفراء: "يعنى ما جعل له عليه السبيل من الناس، فهو كالمفروض". قلت: حقيقة الفرض هو التقدير. والمعنى: أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظه المقسوم، فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه، فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وأولياء الله وحزبه وخاصته. وقوله {ولأضلنهم} يعنى عن الحق {ولأمنيهم} ، قال ابن عباس: "يريد تعويق التوبة وتأخيرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقال الكلبى: "مُنَيِّهم أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث". وقال الزجاج: "أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة". وقيل: "لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع". وقيل: "أمنيهم طول البقاء فى نعيم الدنيا، فأطيل لهم الأمل فيها ليؤثروها على الآخرة". وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} [النساء: 119] . البتك: القطع وهو فى هذا الموضع: قطع آذان البحيرة، عن جميع المفسرين، ومن هاهنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذنى الطفل للحلق، ورخص بعضهم فى ذلك للأنثى، دون الذكر، لحاجتها إلى الحلية، واحتجوا بحديث أم زَرْعٍ، وفيه: "أنَاسَ مِنْ حُلِىّ أُذُنَىّ " وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ". ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك فى حق البنت وكراهته فى حق الصبي. وقوله: {وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] . قال ابن عباس: "يريد دين الله". وهو قول إبراهيم، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، والسُّدى، وسعيد بن المسيَّب، وسعيد بن جُبير. ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة؛ وهى ملَّة الإسلام؛ كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلِكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتّقُوهُ} [الروم: 30- 31] . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمجِّسَانِهِ كَما تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، فَهَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا". ثم قرأ أبو هريرة: {فِطرَتَ اللهِ الّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية، متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فجمع النبىّ عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التى خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغيروا الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة. ثم قال: {يعدهم ويمنيهم} [النساء: 120] فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا إربك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأمانى الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أن الوعد فى الخير والتمنية فى الطلب والإرادة، فيعده الباطل الذى لا حقيقة له- وهو الغرور- ويمنيه المحال الذى لا حاصل له. ومن تأمل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلقين بوعده وتمنيه وهم لا يشعرون أنه يعد الباطل، ويمنى المحال، والنفس المهينة التى لا قدر لها تغتذى بوعده وتمنيته، كما قال القائل: مُنًى إنْ تَكُنْ حَقا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى ... وَإِلا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدا فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانى الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها، كما يفرح بها النساء والصيبان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيه، فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مبطل فله نصيب من قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [النساء: 120] . ومن ذلك قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] . قيل: {يعدكم الفقر} [البقرة: 268] : يخوفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، {ويأمركم بالفحشاء} [البقرة: 268] قالوا: هى البخل فى هذا الموضع خاصة، ويذكر عن مقاتل والكلبى كل فحشاء فى القرآن فهى الزنا إلا فى هذا الموضع فإنها البخل. والصواب: أن الفحشاء على بابها، وهى كل فاحشة، فهى صفة لموصوف محذوف، فحذف موصوفها إرادة للعموم، أى بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء، ومن جملتها البخل، فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها، وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذى خوفه إياه كما ينتظر الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهى المغفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والفضل، فالمغفرة: وقاية الشر، والفضل: إعطاء الخير، وفى الحديث المشهور: "إن للمَلك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالوعد"، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] الآية. فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهاراً كله، وآخر بضده، نستعيذ بالله تعالى من شر الشيطان. فصل ومن كيده للإنسان: أنه يورده الموارد التى يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصْدِرهُ المصادر التى فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمَ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَكُمْ فَلمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنِّى أَرَى مَالا تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ الله وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] . فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر فى صورة سراقة بن مالك، وقال: أنا جار لكم من بنى كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدو الله جنود الله تعالى من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم، وأسلمهم، كما قال حسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 دَلاهُمُ بِغُرُورٍ، ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ ... إِنَّ الخبِيثَ لمنْ وَالاهُ غَرَّارُ وكذلك فعل بالراهب الذى قتل المرأة وولدها، أمره بالزنا ثم بقتلها، ثم دل أهلها عليه، وكشف أمره لهم، ثم أمره بالسجود له، فلما فعل فر عنه وتركه. وفيه أنزل الله سبحانه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنى بَرِىءٌ مِنْكَ إِنِّى أَخَافَ اللهَ رَبَّ الْعَالِمينَ} [الحشر: 16] . وهذا السياق لا يختص بالذى ذكرت عنه هذه القصة، بل هو عام فى كل من أطاع الشيطان فى أمره له بالكفر، لينصره ويقضى حاجته، فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من أوليائه جملة فى النار، ويقول لهم: {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] . فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة. وتكلم الناس فى قول عدو الله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] فقال قتادة وابن إسحاق: "صدق عدو الله فى قوله {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْن} [الأنفال: 48] وكذب فى قوله {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم. وكذلك عادة عدو الله بمن أطاعه". وقالت طائفة: "إنما خاف بطش الله تعالى به فى الدنيا، كما يخاف الكافر والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه، لا أنه خاف عقابه فى الآخرة". وهذا أصح، وهذا الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة. قال الكلبى: "خاف أن يأخذه جبريل فيعرفهم حاله فلا يطيعونه". وهذا فاسد، فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه، إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون أن الذى أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد النجعة إن أراد ذلك، وتكلف غير المراد. وقال عطاء: "إنى أخاف الله أن يهلكنى فيمن يهلك"، وهذا خوف هلاك الدنيا فلا ينفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقال الزجاج وابن الأنبارى: "ظن أن الوقت الذى أنظر إليه قد حضر". زاد ابن الأنبارى قال: "أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذى يزول معه إنظارى قد حضر فيقع بى العذاب، فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى، فقال ما قال إشفاقا على نفسه". فصل ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله سبحانه عنه بهذا فقال: {إِنَّمَا ذلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه. قال قتادة: "يعظمهم فى صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فكلما قوى إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوى خوفه منهم". ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذى يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذى هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره، فلا إله إلا الله. كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وكم جلا الباطل وأبرزه فى صورة مستحسنة، وشنع الحق وأخرجه فى صورة مستهجنة؟ وكم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين؟ فهو الذى سحر العقول حتى ألقى أربابها فى الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة، وسلك بهم فى سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك فى مهلك بعد مهلك، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، وأبرز لهم الشرك فى صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه على عرشه وتكلمه بكتبه فى قالب التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله: {عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] . والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فى قالب التقليد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدهان فى دين الله فى قالب العقل المعيشى الذى يندرج به العبد بين الناس. فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية، وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون. فصل وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة: أنه ناصح لهما، وأنه إنما يريد خلودهما فى الجنة، قال تعالى: {فَوَسْوسَ لَهُمَا الشّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَانَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشّجرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الخالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إنِّى لَكُمَا لَمِنَ النّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22] . فالوسوسة: حديث النفس والصوت الخفى، وبه سمى صوت الحلى وسواسا، ورجل موسوس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: موسوس؛ لأن نفسه توسوس إليه، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، فإنها معصية، والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما فالمعصية تبدى السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى رؤياه الزناة والزوانى عراة بادية سوآتهم، وهكذا إذا رؤى الرجل أو المرأة فى منامه مكشوف السوأة يدل على فساد فى دينه، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إِنِّى كَأَنِّى أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ ... وَلا أمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانَا فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسا ظاهرا يوارى العورة ويسترها، ولباسا باطنا من التقوى، يُجَمِّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها. ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشجَرَةِ إِلا أنْ تَكُونَا مَلَكْين} [الأعراف: 20] . أى: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا فى الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها، وهذا باب كيده الأعظم الذى يدخل منه على ابن آدم، فإنه يجرى منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذى يحبونه ويهوونه، فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدود، وهو عن طريق مقصده مصدود. فشام عدو الله الأبوين، فأحسَّ منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد فى تلك الدار فى النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وكان عبد الله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام، ويقول: لم يطمعا أن يكونا من الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك، ويدل على هذه القراءة قوله فى الآية الأخرى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] . وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب؟ وكان آدم عليه السلام أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولا سيما مما نهاه الله عز وجل عنه؟، فالجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا فى ذلك أصلاً، وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما، وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التى تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر: أم الأفراح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وسموا أخاها بلقيمة الراحة، وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة. فلما سماها شجرة الخلد قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا فى الجنة ولا تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون، ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه يموت بعد، واشتهى الخلود فى الجنة، وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه، أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعده القدر، ولما فرغ الله سبحانه من تقديره فأخذتهما سنة الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل: وَاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ ... لِيَنْفُذَ الْقَدَرُ المَحْتُومُ فى الأزَلِ إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله {أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20] . فيقال: الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله، والاعتذار عنه، وإنما يعتذر عن الأب فى كون ذلك راج عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين، وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر: ممكن، وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه فى الأمر الممكن جزم له به ولم يردده. فقال: {يَا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يْبلَى} [طه: 120] . فلم يدخل أداة الشك هاهنا كما أدخلها فى قوله: {إلا أَنْ تَكونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فتأمله، ثم قال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] . فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد: أحدها: تأكيده بالقسم. الثانى: تأكيده بإنّ. الثالث: تقديم المعمول على العامل، إيذانا بالاختصاص. أى نصيحتى مختصة بكما، وفائدتها إليكما لا إلى. الرابع: إتيانه باسم الفاعل الدال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على التجدد: أى النصح صفتى وسجيتى، ليس أمرا عارضا لى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الخامس: إتيانه بلام التأكيد فى جواب القسم. السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين، فكأنه قال لهما: الناصحون لكما فى ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معى على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به. سَعَى نَحْوَهَا حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ ... وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ، وَلَوْ شَاءَ قَلَّلا وورّث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جاءوه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} [المنافقون: 1] . فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد، وكذلك قوله سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] . ثم قال تعالى: {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] . قال أبو عبيدة: "خذلهما وخلاهما، من تدلية الدلو، وهو إرسالها فى البئر". وذكر الأزهرى لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: "أصله الرجل العطشان يتدلى فى البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور. فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدى نفعا، فيقال: دلاه، إذا أطمعه"، ومنه قول أبى جندب الهذلى: أَحُصُّ، فَلاَ أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ أحص: أى أقطع. الثانى: "فدلاهما بغرور، أى جرأهما على أكل الشجرة، وأصله: دللهما من الدلال والدالة وهى الجراءة"، قال شمر: "يقال: ما دَلَّكَ على أى ما جرأك على"، وأنشد لقيس بن زهير: أَظنُّ الْحِلْمَ دَلَّ عَلَىَّ قَوْمِى ... وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الْحَلِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قلت: أصل التدلية فى اللغة الإرسال والتعليق. يقال: دلى الشىء فى مهواة، إذا أرسله بتعليق. وتدلى الشىء بنفسه. ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] . قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها فى البئر. ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر، فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها، ودلاها يدلوها دلوا، إذا نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحم منه، ويشاركه فى الاشتقاق الأكبر الدلالة وهى التوصل إلى الشىء بإبانته وكشفه، ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يتشبه برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى هديه ودله وسمته، فالهدى الطريقة التى عليها العبد، من أخلاقه وأقواله وأعماله، والدل ما يدل من ظاهره على باطنه، والسمت هيأته ووقاره ورزانته. والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين. قال مطرف بن عبد الله: "قال لهما إنى خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعانى أرشدكما وحلف لهما، وإنما يخدع المؤمن بالله"، قال قتادة: "وكان بعض أهل العلم يقول من خادعنا بالله خدعنا"، فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم، وفى الصحيح: "أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق، فقال: سرقت؟ فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصرى". وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله، فظنه المسيح سرقة، وهذا تكلف، وإنما كان الله سبحانه وتعالى فى قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له فى اليمين بالله، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله عز وجل، وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا. فصل ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس، حتى يعلم أى القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ فى تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهون عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه ويتهاون يه. وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز بالثانى، كما قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالى بأيهما ظفر". وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل فى هذين الواديين: وادى التقصير، ووادى المجاوزة والتعدى. والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه. فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما فى أيديهم وقعدوا كَلا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم. وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم. وكذلك قصر بقوم فى حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم. وقصر بقوم فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصى والآثام. وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة. وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذى ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به. وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بنى آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص. وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى. وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة. وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهى نفس فعله لا أفعالهم. والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل البتة. وقصر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلا فى خلقه ولا بائنا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو فى كل مكان بذاته، كالهواء الذى هو داخل فى كل مكان. وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلا وأبدا قائلا: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى، ويقول لموسى {اذهب إلى فرعون} فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعاً منه، كقيام صفة الحياة به. وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يشفع أحدا فى أحد البتة، ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم. وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم. وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلوا حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها. وربما ادعوا فيهم الإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وكذلك قصر باليهود فى المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلها يعبد مع الله. وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمراً لازماً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير. وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود. وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم، وسموا أنفسهم الملامية. وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا، أو فضولا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده. وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة. فصل ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التى هى زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزبد الذى يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التى تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم فى شكهم يعمهون، وفى حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فصل ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية فى المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشْكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العريَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان والدين، كإخراج الشعرة من العجين. فصل ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم فى قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم فى أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافى عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شىء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذى جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب، فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل عن النهار، ثم أحالهم فى سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها عن الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان. فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 لهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. فصل ومن أنواع مكايده ومكره: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور، فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس فى وجهه والإعراض عنه، فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره، وطلاقة وجهه، وحسن كلامه، فيتعلق به، فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته، فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق، وطلاقة الوجه، ومن هاهنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض. وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان، وقالوا: متى كشفت للمرأة أو الصبى عن بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما. ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوى الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا ولا طلاقة، فيطمعوا فيك، ويتجرأوا عليك، وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم، وميل قلوبهم إليك، ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء، وبحسن الخلق والبشر مع أولئك، ليفتح لك باب الشر، ويغلق عنك باب الخير. فصل ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى فى إذلالها وابتذالها، كجهاد الكفار والمنافقين، وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل، وتسليط الأعداء وطعنهم فيك، فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر: أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ ... وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا تُهِينُهَا وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه. ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها فى إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوى الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيل إليك أنك تعزها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويذكرك قول الشاعر: أُهِينُ لَهُمْ نفسى لأرْفَعهَا بِهِمْ ... وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِى لا تُهِينُهَا وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده، فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه. فصل ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه فى مسجد، أو رباط، أو زاوية أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس، وسقطت من أعينهم، وذهبت هيبتك من قلوبهم، وربما ترى فى طريقك منكرا، وللعدو فى ذلك مقاصد خفية يريدها منه: منها الكبر، واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة، ومخالطة الناس تذهب ذلك. وهو يريد أن يزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجىء الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله، ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه. وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى السوق، قال بعض الحفاظ: "وَكَانَ يَشْتَرِى حَاجَتَهُ وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ". ذكره أبو الفرج بن الجوزى وغيره. وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع ويشترى. ومر عبد الله بن سلام رضى الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا، وقد أغناك الله عز وجل؟ فقال: أردت أن أدفع به الكبر، فإنى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "لا يَدْخُلُ الجنَّةَ عَبْدٌ فِى قلبه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ كِبْرٍ". وكان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة، ويقول: "افسحوا لأميركم، افسحوا لأميركم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً وهو خليفة فى حاجة له ماشيا، فأعيى، فرأى غلاماً على حمار له، فقال: يا غلام احملنى فقد أعييت، فنزل الغلام عن الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك، فركب خلف الغلام، حتى دخل المدينة والناس يرونه. فصل ومن كيده: أنه يغرى الناس بتقبيل يده، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنها، فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض، وبك يدفع البلاء عن الخلق، ظن ذلك حقا، وربما قيل له: إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى به وبحرمته، فيقضى حاجتهم، فيقع ذلك فى قلبه، ويفرح به، ويظنه حقا، وذلك كل الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه، أو قلة خضوع له، تذمر لذلك ووجد فى باطنه، وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها، وهم أقرب إلى السلامة منه. فصل ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلى والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم، دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطإ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم. فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، والعصمة إنما هى للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله عز وجل وبين خلقه، فى تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ، وليس بحجة على الخلق. وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول الشىء فيرده عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من هو دونه، فيتبين له الخطأ، فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها. وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شىء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما، ويقول: حدثنى قلبى عن ربى، ونحن أخذنا عن الحى الذى لا يموت، وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق، وأنتم اتبعتم الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذى هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء: ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق؟. وهذا غاية الجهل، فإن الذى سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن. وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعى أنه يسمع الخطاب من مرسله، فيستغنى به عن ظاهر العلم، ولعل الذى يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعتين، ومنفردتين. ومن ظن أنه يستغنى عما جاء به الرسول بما يلقى فى قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفى بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقى فى القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة، وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان. وقد سئل عبد الله بن مسعود عن مسألة المفوضة شهرا، فقال بعد الشهر: "أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، والله برىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 منه ورسوله". وكتب كاتب لعمر رضى الله عنه بين يديه: هذا ما أرى الله عمر، فقال: لا. امحه واكتب: هذا ما رأى عمر. وقال عمر رضى الله عنه أيضا: "أيها الناس اتهموا الرأى على الدين، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته". واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبر الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأبعدها من الشيطان، فكانوا أتبع الأمة للسنة، وأشدهم اتهاما لآرائهم، وهؤلاء ضد ذلك. وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شىء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليها شاهدان. قال الجنيد: قال أبو سليمان الدارانى: "ربما يقع فى قلبى النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة". وقال أبو زيد: "لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يتربع فى الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى، وحفظ الحدود". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقال أيضاً: "من ترك قراءة القرآن، ولزوم الجماعات، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادعى بهذا الشأن، فهو مدّع". وقال سرىّ السقطى: "من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط". وقال الجنيد: "مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث، ويتفقه، لا يقتدى به". وقال أبو بكر الدقاق: "من ضيع حدود الأمر والنهى فى الظاهر حرم مشاهدة القلب فى الباطن". وقال أبو الحسين النورى: "من رأيته يدعى مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعى فلا تقربه، ومن رأيته يدعى حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه". وقال أبو سعيد الخراز: "كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل". وقال الجريرى: "أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد: أن تلزم قلبك المراقبة، ويكون العلم على ظاهرك قائما". وقال أبو حفص الكبير الشأن: "من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعدوه فى ديوان الرجال". وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازى: "كان الصوفية يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم". ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: "كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس، واليوم الرجل الذى يهب من الشيطان". فصل ومن كيده: أمرهم بلزوم زى واحد، ولبسة واحدة، وهيئة ومشية معينة، وشيخ معين، وطريقة مخترعة، ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض، فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه، وربما يلزم أحدهم موضعاً معيناً للصلاة لا يصلى إلا فيه، وقد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ المَكانَ لِلصَّلاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كَمَا يُوَطِّن الْبَعِيرُ". وكذلك ترى أحدهم لا يصلى إلا على سجادة، ولم يصل رسول الله عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه، بل كان يصلى على الأرض، وربما سجد فى الطين، وكان يصلى على الحصير، فيصلى على ما اتفق بسطه، فإن لم يكن ثمة شىء صلى على الأرض. وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة، فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه، ولا مع أهل الحقائق، فصاحب الحقيقة أشد شىء عليه التعبد بالرسوم الوضعية، وهى من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله، فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره. وكان أخس أحواله الوقوف معها، ولا وقوف فى السير، بل إما تقدم وإما تأخر، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] . فلا وقوف فى الطريق إنما هو ذهاب وتقدم، أو رجوع وتأخر. ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسيرته وجده مناقضا لهدى هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة، والقباء تارة، والجبة تارة، والإزار والرداء تارة، ويركب البعير وحده، ومردفا لغيره، ويركب الفرس مسرجا وعريانا، ويركب الحمار، ويأكل ما حضر، ويجلس على الأرض تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى البساط تارة، ويمشى وحده تارة، ومع أصحابه تارة، وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه، فبين هديه وهدى هؤلاء بون بعيد. فصل ومن كيده الذى بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذى كادهم به فى أمر الطهارة والصلاة عند النية، حتى ألقاهم فى الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ولا ريب أن الشيطان هو الداعى إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقى، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن: "مَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ". فالموسوس مسىء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعدّ فيه لحدوده؟، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل هو وعائشة رضى الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال: ما يكفى هذا القدر لغسل اثنين؟ كيف والعجين يحلله الماء فيغيره؟ هذا والرشاش ينزل فى الماء فينجسه عند بعضهم، ويفسده عند آخرين، فلا تصح به الطهارة، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة، مثل ميمونة وأم سلمة، وهذا كله فى الصحيح. وثبت أيضاً فى الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال: "كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ يَتَوَضَّئُونَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ". والآنية التى كان رسول الله عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها؛ كأنبوب الحمام ونحوه، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجرى الماء من حافاتها، كما يراعيه جهال الناس ممن بلى بالوسواس فى جرن الحمام. فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى من رغب عنه فقد رغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يفيض، ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه فى استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة. قال شيخنا: "ويستحق التعزير البليغ الذى يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا فى الدين ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع". ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان. قال سعيد بن المسيب: "إنى لأستنجى من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلى". وقال الإمام أحمد: "من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء". وقال المروزى: "وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء". وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم فى الصحيح: "أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ إنَاءٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاُسْتَنْشَقَ". وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فى غسله يدخل يده فى الإناء، ويتناول الماء منه، والموسوس لا يجوز ذلك، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك. وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يأتى بمثل ما أتى به أبداً، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفَرقَ قريباً من خمسة أرطال بالدمشقى، يغمسان أيديهما فيه، ويفرغان عليهما؟ فالمسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده. قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، والعمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَالا يَرِيبُكَ" وقوله: "مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهَ" وقوله: "الإثْمُ مَا حَاكَ فى الصَّدْرِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال بعض السلف: "الإثم خَوارْ القلوب"، وقد وجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تمرة فقال: "لَوْلا أَنِّى أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأكَلْتُهَا". أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا؟ وقد أفتى مالك رحمه الله تعالى فيمن طلق امرأته وشك هل هى واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث، احتياطا للفروج. وأفتى من حلف بالطلاق: أن فى هذه اللوزة حبتين، وهو لا يعلم ذلك، فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث؛ لأنه حلف على ما لا يعلم. وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها: يطلق عليه جميع نسائه احتياطا وقطعاً للشك. وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله تعالى، والحج ماشياً، ويقع الطلاق فى جميع نسائه، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه. وهذا أحد القولين عندهم. ومذهب مالك أيضاً إنه إذا حلف ليفعلن كذا: أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته. ومذهبه أيضاً: أنه إذا قال: إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثاً: أنها تطلق فى الحال، وهذا كله احتياط. وقال الفقهاء: "من خفى عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله". وقالوا: "إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب، وشك فيها، صلى فى ثوب بعد ثوب، بعدد النجس، وزاد صلاة ليتيقن براءة ذمته". وقالوا: "إذا اشتبهت الأوانى الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم، وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة، فلا يدرى فى أى جهة، فإنه يصلى أربع صلوات عند بعض الأئمة لتبرأ ذمته بيقين". وقالوا: "من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلى خمس صلوات". وقد أمر النبى عليه الصلاة والسلام من شك فى صلاته أن يبنى على اليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره، كما إذا وقع فى الماء. وحرم أكله إذا خالط كلبه كلباً آخر، للشك فى تسمية صاحبه عليه. وهذا باب يطول تتبعه. فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر فى الشرع، وإن سميتموه وسواسا. وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه فى الطهارة حتى عمى. وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع فى العضد، وإذا غسل رجليه أشرع فى الساقين. فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى ما لا يريب، وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم، وتجنبنا محل الاشتباه، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ولا فى البدعة والجين، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال؟ حتى لا يبالى العبد بدينه، ولا يحتاط له، بل يسهل الأشياء ويمشى حالها، ولا يبالى كيف توضأ؟ ولا بأى ماء توضأ؟ ولا بأى مكان صلى؟ ولا يبالى ما أصاب ذيله وثوبه. ولا يسأل عما عهد بل يتغافل، ويحسن ظنه، فهو مهمل لدينه لا يبالى ما شك فيه. ويحمل الأمور على الطهارة، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك. فأين هذا ممن استقصى فى فعل ما أمر به، واجتهد فيه، حتى لا يخل بشىء منه، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور، وأن لا ينقص منه شيئاً؟ قالوا: وجماع ما ينكرونه علينا احتياط فى فعل مأمور، أو احتياط فى اجتناب محظور وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يفضى غالبا إلى النقص من الواجب والدخول فى المحرم، وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا فلستم بأسعد منا بالسنة، ونحن حولها ندندن، وتكميلها نريد. وقال أهل الاقتصاد والاتباع: قال الله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَمِنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتّبِعُونِى يُُحْبِبْكمُ اللهُ} [آل عمران: 31] وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {وَأنّ هذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتّبعُوهُ وَلا تَتَّبعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلّكمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وهذا الصراط المستقيم الذى وصانا باتباعه هو الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة، وإن قاله من قاله، لكن الجور قد يكون جوراً عظيما عن الصراط، وقد يكون يسيراً، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسى، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جوراً فاحشاً، وقد يجور دون ذلك، فالميزان الذى يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم، أو مجتهد متأول، أو مقلد جاهل. فمنم المستحق للعقوبة. ومنهم المغفور له. ومنهم المأجور أجراً واحداً، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم فى طاعة الله تعالى ورسوله، أو تفريطهم. ونحن نسوق من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه ما يبين أى الفريقين أولى باتباعه ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه. ونقدم قبل ذلك ذكر النهى عن الغلو، وتعدى الحدود، والإسراف، وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين. قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} [النساء: 171] وقال تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنّهُ لا يحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وقال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] . وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، غداة العقبة وهو على ناقته: "الْقُطْ لِى حصى، فَلَقَطْتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِى كَفِّهِ وَيَقُولُ: أمْثَالَ هؤُلاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ: إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ، فَإنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمُ الْغُلُوُّ فى الدِّينِ". رواه الإمام أحمد والنسائى. وقال أنس رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدُ اللهُ عَلَيْكُم، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهمْ فَشَدّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ. فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فى الصَّوامِعِ وَالدِّيارِ: رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فنهى النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد فى الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم. قال البخارى: "وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْم الإسْرَافَ فِيه- يَعْنى الوُضُوءَ- وَأَنْ يُجَاوِزوا فِعْلَ النبى صلّى اللهُ تَعَالَى علَيْهِ وَسَلّمَ"، وقَالَ ابْنُ عَمَر رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا: "إسْبَاعُ الْوُضُوءِ: الإنْقَاءُ". فالفقه كل الفقه الاقتصاد فى الدين، والاعتصام بالسنة. قال أبى بن كعب رضى الله عنه: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها. وإن اقتصادا فى سبيل وسنة خير من اجتهاد فى خلاف سبيل وسنة. فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم". قال الشيخ أبو محمد المقدسى فى كتابه ذم الوسواس: "الحمد لله الذى هدانا بنعمه، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبرسالته، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذى جعله علماً على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] ، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ} إلى قوله: {الّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبىَّ الأمِّىَّ} [الأعراف: 156-157] ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النبى الأُمِّىَّ الّذِى يُؤْمِنْ بِاللهِ وَكِلمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيمْاَنهم وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17] . وحذرناً الله عز وجل من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 سبحانه: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُو فَاتّخِذُوهُ عَدُوا} [فاطر: 6] وقال: {يَا بَنِى آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجنَّةِ} [الأعراف: 27] وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته، وقطعاً للعذر فى متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل، فقال سبحانه: {وَأَنّ هذَا صِرَاطِى مستقيماً فَاتبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل: {يس وَالْقُرْآنِ الْحكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1- 4] وقال: {وَإِنّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمً} [الحج: 67] وقال: {إِنّكَ لَتهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه فى قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان". فصل ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته. وقبلوا قوله، وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام أو صلى كصلاته، فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة. ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فى مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين، أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يده وفيه، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر. ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه، بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثم يشك: هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان فى نيته وقصده التى يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله. ومع هذا يقبل قول إبليس فى أنه ما نوى الصلاة، ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه، وجحدا ليقين نفسه، حتى تراه متلددا متحيراً، كأنه يعالج شيئاً يجتذبه، أو يجد سيئًا فى باطنه يستخرجه. كل ذلك مبالغة فى طاعة إبليس، وقبول وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية فى طاعته. ثم إنه يقبل قوله فى تعذيب نفسه ويطيعه فى الإضرار بجسده، تارة بالغوص فى الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك. وربما فتح عينيه فى الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه. قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزى عن أبى الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس فى الماء مرارا كثيرة وأشك: هل صح لى الغسل أم لا؟ فما ترى فى ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَالصَّبىِّ حَتّى يَبْلُغَ". ومن ينغمس فى الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون". قال: وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته فى النية حتى تفونه التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ثم يكذب. قلت: وحكى لى من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 دهرا طويلاً، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد ثم إنه حنث فى يمين حلفها ففرق بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها. وبلغنى عن آخر أنه كان شديد التنطع فى التلفظ بالنية والتقعر فى ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلى، أصلى، مرارا، صلاة كذا وكذا. وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاء لله. فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين. قال: ومنهم من يتوسوس فى إخراج الحرف حتى يكرره مرارا. قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكبر. قال: وقال لى إنسان منهم: قد عجزت عن قول السلام عليكم، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن، وقد استرحت. وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم فى الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم فى جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق فى اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقة عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير. {إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] . وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائنا ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان على الصراط المستقيم. ومن شك فى هذا فليس بمسلم. ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته؟ وأى شىء يبتغى العبد غير طريقته؟ ويقول لنفسه: ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هى الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فقل لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سبيله كنت قرينه، وستقولين: {يَا لَيْتَ بَيْنى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقين فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38] . ولينظر أحوال السلف فى متابعتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال: لقد تقدمنى قوم لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته. قلت: هو إبراهيم النخعى. وقال زين العابدين يوماً لابنه: "يا بنى، اتخذ لى ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإنى رأيت الذباب يسقط على الشىء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال: ما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فتركه". وكان عمر رضى الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال: "لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب، فإنه قد بلغنى أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبى: ما لك أن تنهى، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست فى زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: صدقت". ثم ليعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيهم موسوس. ولو كان الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر رضى الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم، وها أنا أذكر ما جاء فى خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلاً: الفصل الأول: فى النية فى الطهارة والصلاة النية هى القصد والعزم على فعل الشىء، ومحلها القلب، لا تعلق لها باللسان أصلاً ولذلك لم ينقل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه فى النية لفظ بحال، ولا سمعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 عنهم ذكر ذلك. وهذه العبارات التى أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركاً لأهل الوسواس، يحبسهم عندها ويعذبهم فيها، ويوقعهم فى طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه فى التلفظ بها، وليست من الصلاة في شىء، وإنما النية قصد فعل الشىء، فكل عازم على فعل فهو ناويه، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها فى حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلى فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل. ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك. ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه. وما كان هكذا فما وجه التعب فى تحصيله؟ وإن شك فى حصول نيته فهو نوع جنون. فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقينى. فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟ ومن قام ليصلى صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك فى ذلك؟ ولو دعاه داع إلى شغل فى تلك الحال لقال: إنى مشتغل أريد صلاة الظهر، ولو قال له قائل فى وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضى؟ لقال: أريد صلاة الظهر مع الإمام، فكيف يشك عاقل فى هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا؟. بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال، فإنه إذا رأى إنساناً جالساً فى الصف فى وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة. وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلى. فإن تقدم بين يدى المأمومين علم أنه يريد إمامتهم، فإن رآه فى الصف علم أنه يريد الائتمام. قال: فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال، فكيف يجهلها من نفسه، مع اطلاعه هو على باطنه؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له فى جحد العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقيناً. ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة، وعن طريق الصحابة. ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها، والموجودة لا يمكن إيجادها؛ لأن من شرط إيجاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الشىء كونه معدوما، فإن إيجاد الموجود محال، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شىء، لو وقف ألف عام. قال: ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه، حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعاً وأدركه. فمن لم يحصل النية فى الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟، ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلاً أو عسيراً، فإن كان سهلاً فكيف يعسره؟ وإن كان عسيراً فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواه؟ وكيف خفى ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم، والتابعين ومن بعدهم؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدى إلى خير؟ وكيف يقول فى صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس؟ أهى ناقصة عنده مفضولة؟ أم هى التامة الفاضلة؟ فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم؟. فإن قال: هذا مرض بليت به، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة، ونودى عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر؛ لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته، وبين لك عداوته، وأوضح لك الطريق، فمالك عذر ولا حجة فى ترك السنة والقبول من الشيطان. قلت: قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتى بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلى صلاة الظهر فريضة الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات، مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحنى جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرح بالتكبير. كأنه يكبر على العدو. ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش: هل فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئاً من ذلك، لما ظفر به، إلا أن يجاهر بالكذب البحت. فلو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فى هذا خير لسبقونا إليه، ولدلونا عليه. فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه، وإن كان الذى كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال. قال: ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله فى التحيات: إت إت، التحى التحى، وفى السلام: أس أس. وقوله فى التكبير: أكككبر ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التى هى من أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه. وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه، وتغرير الجاهل بالاقتداء به؛ فإنه يقول: لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه، وأساء الظن بما جاءت به السنة، وأنه لا يكفى وحده، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر، عقوبة له، وإقامته على الجهل، ورضاه بالخبل فى العقل، كما قال أبو حامد الغزالى وغيره: "الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خبل فى العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب". فهذه نحو خمسة عشر مفسدة فى الوسواس، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير. وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّ الشيطان قَدْ حَالَ بَيْنِى وَبَيْنَ صَلاتِى يُلَبِّسُهَا عَلَىَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى علَيْهِ وَسلّم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَاركَ ثَلاثاً، فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَنِّى". فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه، نعوذ بالله عز وجل منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فصل ومن ذلك الإسراف فى ماء الوضوء والغسل. وقد روى أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمرو: "أنّ رَسُولَ الله صلّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسّلَم مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضّأُ، فَقالَ: لا تُسْرِفْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَفِى المَاءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ". وفى جامع الترمذى من حديث أبى بن كعب: أَنّ النّبىَّ صلى اللهُ تَعَالَى عليهِ وسلّمَ قَالَ: "إِنّ لِلْوُضُوءِ شَيْطاناً يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ المَاءِ". وفى المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جَاءَ أَعْرَابِى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلّم يَسْأَلُهُ عَن الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلاثاً ثلاثاً، وَقالَ: هذا الْوُضُوءُ فَمنْ زَادَ عَلَى هذاَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدّى وَظَلَمَ". وفى كتاب الشافى لأبى بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت: قَالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله تَعَالَى عَلْيهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ مُد، والْغُسْلِ صَاعٌ. وَسَيَأْتِى قَوْمٌ يَسْتَقِلُّونَ ذلِكَ، فَأُولِئِكَ خِلافُ أَهْل سُنَّتى، وَالآخِذ بِسُنتِى فى حَضْرَةِ الْقُدُسِ مُنتَزه أَهْلِ الجنَّةِ". وفى سنن الأثرم من حديث سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال: "يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ، وَمِنَ الْغَسْلِ مِنَ الجنَابَةِ الصَّاعُ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِى، فَغَضِبَ جَابِرٌ حَتّى تَرَبّدَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَكْثَرُ شَعْراً". وقد رواه الإمام أحمد فى مسنده مرفوعاً. ولفظه عن جابر قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم: "يُجْزِئُ مِنَ الْغَسْلِ الصَّاعُ، وَمِنَ الْوُضُوءِ المُدُّ". وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها: "أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِىَ وَالنَّبىُّ صلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وسلّم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلاَثَةَ أَمْدَادٍ، أَوْ قَرِيباً مِنْ ذلِكَ". وفى سنن النسائى عن عبيد بن عمير: "أَنّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُنى أَغْتَسِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أنَا وَرَسُولُ اللهِ مِنْ هذَا، فَإِذَا تَوْرٌ مَوْضُوعٌ مِثْلُ الصَّاعِ أوْ دُونَهُ - نَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعاً، فَأَفِيضُ بِيَدَىَّ عَلَى رَأْسِى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَمَا أَنْقُضُ لِى شَعْرًا". وفى سنن أبى داود والنسائى عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "تَوَضّأَ فَأُتِىَ بمِاءٍ فِى إناء قَدْرِ ثُلُثَىِ المُدَّ". وقال عبد الرحمن بن عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "إن لى ركوة أو قدحاً، ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، أبول ثم أتوضأ منه، وأفضل منه فضلاً". قال عبد الرحمن: "فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال: وأنا يكفينى مثل ذلك". قال عبد الرحمن: "فذكرت ذلك لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال: وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، رواه الأثرم فى سننه. وقال إبراهيم النخعى: "كانوا أشد استيفاء للماء منكم، وكانوا يرون أن ربع المد يجزئ من الوضوء". وهذا مبالغة عظيمة، فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفاً بالدمشقى. وفى "الصحيحين" عن أنس قال: "كَانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلم يَتَوَضَّأُ بِالمُد، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَة أمْدَاد". وفى "صحيح مسلم" عن سفينة قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عليْهِ وَسلم يَغْسِلُهُ الصَّاعُ مِنَ الجَنَابَةِ، وَيُوَضئُهُ المُدُّ". وقال إبراهيم النخعى: "إنى لأتوضأ من كوز الحب مرتين". وتوضأ القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل. وقال محمد بن عجلان: "الفقه فى دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء". وقال الإمام أحمد: "كان يقال: من قلة فقه الرجل ولعه بالماء" وقال الميمونى: "كنت أتوضأ بماء كثير: فقال لى أحمد: يا أبا الحسن، أترضى أن تكون كذا؟ فتركته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقال عبد الله بن أحمد: "قلت لأبى: إنى لأكثر الوضوء، فنهانى عن ذلك، وقال يا بنى، يقال: إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان. قال لى ذلك غير مرة، ينهانى عن كثرة صب الماء، وقال لى: أقلل من هذا الماء يا بنى". وقال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد: نزيد على ثلاث فى الوضوء؟ فقال: لا والله إلا رجل مبتلى". وقال أسود بن سالم، الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد: "كنت مبتلى بالوضوء، فنزلت دجلة أتوضأ، فسمعت هاتفاً يقول: يا أسود، يحيى عن سعيد: الوضوء ثلاث، ما كان أكثرلم يرفع، فالتفت فلم أر أحدا". وقد روى أبو داود فى سننه من حديث عبد الله بن مُغفَّل قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "سَيَكُونُ فى هذِهِ الأُمَّةِ قَوْمَ يَعْتَدُونَ فى الطُهورِ وَالدُّعَاءِ". فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] . وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت الفرض عنه، فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء. ومن مفاسد الوسواس: أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكاً لغيره كماء الحمام، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته، ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشئ كثير جداً يتضرر به فى البرزخ ويوم القيامة. فصل ومن ذلك الوسواس فى انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. " إذَا وَجَدَ أَحَدُ كُمْ فى بَطْنِه شَيْئاً فَأَشْكلَ عَلَيْهِ: أَخْرَجَ مِنْهُ شَئْ أَمْ لا؟ فَلاَ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِد حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجَدَ رِيحاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وفى الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: "شكِىَ إِلى رَسُولِ صلى اللهُ عليه وسلَم: الرَّجُلُ يخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَجِدُ الشّئْ فى الصَّلاَةِ، قَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجَد رِيحاً". وفى المسند وسنن أبى داود عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إنَّ الشّيْطَانَ يِأْتِى أَحَدَكُمْ وَهُوَ فى الصَّلاَةِ، فَيَأخُذُ بِشَعْرَةٍ مِنْ دُبُرِهِ فَيُمِدُّهَا فَيُرَى أَنّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَلاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجَدَ رِيحاً" ولفظ أبى داود: "إِذَا أَتَى الشّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فقَالَ لَهُ: إِنّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ لَهُ: كَذَبْتَ، إِلا مَا وَجَدَ ريحِاً بِأَنْفِه أوْ سَمِعَ صَوْتاً بِأُذُنِهِ". فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فكيف إذا كان كذبه معلوماً متيقناً، كقوله للموسوس: لم تفعل كذا، وقد فعله؟ قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال، ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال: هذا من الماء الذى نضحتا، لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفى، أو الحكم بن سفيان قال: "كانَ النَّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وسلم إِذا بَالَ تَوَضأَ وينتضح". وفى رواية: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَم بَالَ ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ". وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله. وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال، قال: "ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه". وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال: "اله عنه". فأعاد عليه المسألة فقال: "أتستدره لا أب لك، أله عنه". فصل ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء: السلت، والفطر، والنحنحة، والمشى، والقفز، والحبل، والتفقد، والجور، والحشو، والعصابة، والدرجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه، على أنه قد روى فى ذلك حديث غريب لا يثبت، ففى المسند وسنن ابن ماجه عن عيسى بن يزداد عن أبيه قال: قال: رَسُولُ اللهِ تعالى عليه وسلَّم: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمْسَحْ ذَكَرَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ". وقال جابر بن زيد: "إِذَا بُلْتَ فَامْسَح أَسْفَلَ ذَكَرِكَ فإِنَّهُ يَنْقَطِعُ". رواه سعيد عنه. قالوا: ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء. قالوا: وإن احتاج إلى مشى خطوات لذلك ففعل فقد أحسن، والنحنحة ليستخرج الفضلة. وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئاً ثم يجلس بسرعة، والحبل يتخذ بعضهم حبلاً يتعلق به حتى يكاد يرتفع، ثم ينخرط منه حتى يقعد، والتفقد: يمسك الذكر ثم ينظر فى المخرج هل بقى فيه شىء أم لا. والوجور: يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء: والحشو: يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها. والعصابة: يعصبه بخرقة، والدرجة يصعد فى سلم قليلا ثم ينزل بسرعة، والمشى يمشى خطوات ثم يعيد الاستجمار. قال شيخنا: "وذلك كله وسواس وبدعة"، فراجعته فى السلت والنتر فلم يره، وقال: "لم يصح الحديث"، قال: "والبول كاللبن فى الضرع إن تركته قر وإن حلبته در". قال: "ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفى منه من لها عنه". قال: "ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه"، وقد قال اليهودى لسلمان: "لقد علمكم نبيكم كل شىء حتى الخرأة، فقال: أجل"، فأين علمنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أو شيئاً منه؟ بلى علم المستحاضة أن تتلجم، وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ، ويشد عليه خرقة. فصل ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء. فمن ذلك المشى حافياً فى الطرقات، ثم يصلى ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 سننه: عن امرأة من بنى عبد الأشهل قالت: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَناَ طَرِيقاَ إِلى المَسْجِدِ مُنْتِنَةً، فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا تَطهَّرْنَا؟ قَال: أَلَيْسَ بَعْدَهَا طَرِيقٌ أَطْيَبُ مِنْهَا؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهذِهِ بهذِهِ". وقال عبد الله بن مسعود: "كُنَّا لا نَتَوَضّأُ مِنْ مَوْطِىٍء". وعن على رضى الله عنه: أنه خاص فى طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى، ولم يغسل رجليه. وسئل ابن عباس رضى الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: "إن كانت يابسة فليس بشىء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه". وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد. فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمى من شىء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطىء الردئ، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- أو قال: النظيف- فيكون ذلك طهوراً، فدخلنا المسجد جميعاً فصلينا. وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر يمشى بمنى فى الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلى فيه، ولا يغسل قدميه". وقال عمران بن حُدير: كنت أمشى مع أبى مِجْلز إلى الجمعة، وفى الطريق عذرات يابسة، فجعل يتخطاهن ويقول: ما هذه إلا سوادات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل قدميه". وقال عاصم الأحول: "أتينا أبا العالية، فدعونا بوضوء، فقال: ما لكم؟ ألستم متوضئين؟ قلنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بلى، ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها. قال: هل وطئتم على شىء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا. فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجفّ، فينسفها الريح فى رؤوسكم ولحاكم"؟ فصل ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض مطلقاً وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة. نص عليه أحمد. واختاره المحققون من أصحابه قال أبو البركات: ورواية: "أَجْزَأَ الدَّلْكُ مُطْلَقاً". هى الصحيحة عندى لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِذَا وطِىءَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِه الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ"، وفى لفظ: " إِذَا وَطِىءَ أَحَدُكُمُ الأَذَى بخُفّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ". رواهما أبو داود. وروى أبو سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالهُمْ فلما انْصَرَفَ قَالَ: لِمَ خَلَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا، فقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتانى فَأَخْبَرَنى أَنَّ بهِماَ خَبَثاً، فإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَقلِبْ نَعْلَيهِ ثُمَّ لِيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى خَبَثاً فَلْيَمْسَحْهُ بِالأرْضِ ثُمَّ لِيُصَل فِيهِمَا". رواه الإمام أحمد. وتأويل ذلك: على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح، لوجوه: أحدها: أن ذلك لا يسمى خبثاً. الثانى: أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها. الثالث: أنه لا تخلع النعل لذلك فى الصلاة، فإنه عمل لغير حاجة، فأقل أحواله الكراهة. الرابع: أن الدارقطنى روى فى سننه فى حديث الخلع من رواية ابن عباس: أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: "إنّ جِبْرِيلَ أَتَانِى، فَأَخْبَرَنِى أَنّ فِيهِمَا دَمَ حَلَمَةٍ" والحَلَمْ كبار القراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولأنه بمحل يتكرر ملاقاة النجاسة غالبا، فأجزأ مسحه بالجامد، كمحل الاستجمار، بل أولى. فإن محل الاستجمار يلاقى النجاسة فى اليوم مرتين أو ثلاثاً. فصل وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة: "إنى أطيل ذيلى وأمشى فى المكان القذر. فقالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يطهره ما بعده" رواه أحمد وأبو داود. وقد رخص النبى عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخى ذيلها ذراعاً، ومعلوم أنه يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض. فصل ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين: الصلاة فى النعال. وهى سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، فعلا منه وأمرا. "كانَ يُصَلّى فى نَعْلَيْهِ"، متفق عليه. وعن شداد بن أوس قال: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى اللهُ تَعَالى عليه وآله وسلم: "خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فى خِفَافِهِمْ وَلا نِعَالِهمْ". رواه أبو داود. وقيل للإمام أحمد: أيصلى الرجل فى نعليه؟ فقال: إى والله. وترى أهل الوسواس إذا بلى أحدهم بصلاة الجنازة فى نعليه قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلى فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وفى حديث أبى سعيد الخدرى: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى عَلَى نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَليَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل". فصل ومن ذلك: أن سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الصلاة حيث كان، وفى أى مكان كان، سوى ما نهى عنه من المقبرة والحمام وأعطان الإبل، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "جُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُورًا، فَحَيْثُمَا أدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتىِ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل". وكان يصلى فى مرابض الغنم، وأمر بذلك، ولم يشترط حائلا. قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم، إلا الشافعي". فإنه قال: "أكره ذلك، إلا إذا كان سليماً من أبعارها". وقال: أبو هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلا تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِلِ". رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح. وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الَغْنمِ، وَلاَ تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِل، أَوْ مَبَارِكِ الإبِل". وفى المسند أيضاً، من حديث عبد الله بن المغفل قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الغنم وَلاَ تُصَلُّوا فى أَعْطَانِ الإِبِل، فإنّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّياطِينِ". وفى الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأسيد بن الحضير وذى الغرة، كلهم رووا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "صَلوا فى مَرَابِضِ الْغَنمِ". وفى بعض ألفاظ الحديث: "صَلُّوا فى مَرَابِضِ الْغَنمِ، فَإِنَّ فِيهاَ بَرَكَةً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقال: "الأرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلا المَقْبَرَةُ وَالْحَمّامُ". رواه أهل السنن كلهم، إلا النسائى. فأين هذا الهدىُ من فعل من لا يصلى إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير ويضع عليها المنديل؟ ولا يمشى على الحصير ولا على البساط، بل يمشى عليها نقرا كالعصفور. فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود: "لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة ضلالة". وقد صلى النبى عليه الصلاة والسلام على حصير قد اسودّ من طول ما لبس، فنضح له بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة، وعلى الحصى تارة، وفى الطين تارة، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه. وقال ابن عمر: "كانَتِ الكِلاَبُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فى المَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ". رواه البخارى، ولم يقل "وتبول" وهو عند أبى داود بإسناد صحيح بهذه الزيادة. فصل ومن ذلك: أن الناس فى عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يأتون المساجد حفاة فى الطين وغيره. قال يحيى بن وثاب: "قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ ثم يخرج إلى المسجد حافياً؟ قال: لا بأس به". وقال كميل بن زياد: "رأيت عليا رضى الله عنه يخوض طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه". قال إبراهيم النخعى: "كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد فيصلون". وقال يحيى بن وثاب: "كانوا يمشون فى ماء المطر وينتضح عليهم". رواها سعيد بن منصور فى سننه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقال ابن المنذر: "وطئ ابن عمر بمنى وهو حاف فى ماء وطين ثم صلى ولم يتوضأ". قال: "وممن رأى ذلك علقمة، والأسود، وعبد الله بن مغفل وسعيد بن المسيب، والشعبى، والإمام أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وأحد الوجهين للشافعية"، قال: "وهو قول عامة أهل العلم، ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة منتفية بالشرع، كما فى أطعمة الكفار وثيابهم، وثياب الفساق شربة المسكر وغيرهم". قال أبو البركات بن تيمية: "وهذا كله يقوى طهارة الأرض بالجفاف، لأن الإنسان فى العادة لا يزال يشاهد النجاسات فى بقعة من طرقاته التى يكثر فيها تردده إلى سوقه ومسجده وغيرهما، فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها للزمه تجنب ما شاهده من بقاع النجاسات بعد ذهاب أثرها، ولما جاز له التحفى بعد ذلك، وقد علم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك. ويعضده أمره عليه الصلاة والسلام بمسح النعلين بالأرض لمن أتى المسجد ورأى فيهما خبثاً، ولو تنجست الأرض بذلك نجاسة لا تطهر بالجفاف لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك، لأنه يسلكه الحافى وغيره". قلت: وهذا اختيار شيخنا رحمه الله. وقال أبو قلابة: "جفاف الأرض طهورها". فصل ومن ذلك: أن النبى عليه الصلاة والسلام سئل عن المذى، فأمر بالوضوء منه، فقال: "كَيْفَ تَرَى بمَا أَصَابَ ثَوْبى مِنْهُ؟ قَالَ: تَأْخُذُ كَفا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضحُ بِه حَيْثُ تَرَى أَنّهُ أصَابَهُ". رواه أحمد والترمذى والنسائى. فجوّز نضح ما أصابه المذى، كما أمر بنضح بول الغلام. قال شيخنا: وهذا هو الصواب، لأن هذه نجاسة يشق الأحتراز منها، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب، فهى أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الخف والحذاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فصل ومن ذلك: إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من جواز الاستجمار بالأحجار فى زمن الشتاء والصيف، مع أن المحل يعرق، فينضح على الثوب ولم يأمر بغسله من ذلك. ومن ذلك: أنه يعفى عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع، فى إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز. قال الوليد بن مسلم: "قلت للأوزاعى: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه، كالبغل والحمار والفرس؟ فقال: قد كانوا يبتلون بذلك فى مغازيهم، فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب". ومن ذلك: نص أحمد على أن الوَدْىَ يعفى عن يسيره كالمذى، وكذلك يعفى عن يسير القئ نص عليه أحمد. وقال شيخنا: "لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المِدَّة والقيح والصديد"، قال: "ولم يقم دليل على نجاسته". وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طاهر، حكاه أبو البركات. وكان ابن عمر رضى الله عنهما لا ينصرف منه فى الصلاة، وينصرف من الدم. وعن الحسن نحوه. وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب؟ فقال: "ليس بشىء، إنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح". وقال إسحاق بن راهويه: "كل ما كان سوى الدم فهو عندى مثل العرق المنتن وشبهه، ولا يوجب وضوءا". وسئل أحمد رحمه الله: الدم والقيح عندك سواء؟ فقال: "لا، الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". وقال مرة: "القيح والصديد والمِدة عندى أسهل من الدم". ومن ذلك: ما قاله أبو حنيفة: "أنه لو وقع بعر الفأر فى حنطة فطحنت، أو فى دهن مائع جاز أكله ما لم يتغير، لأنه لا يمكن صونه عنه". قال: "فلو وقع فى الماء نجسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى جواز أكل الحنطة التى أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل. قال: "لأن السلف لم يحترزوا من ذلك". وقالت عائشة رضى الله عنها: "كُنَّا نَأكُلُ اللَّحْمَ، وَالدَّمُ خُطُوطٌ عَلَى القِدْرِ". وقد أباح الله عز وجل صيد الكلب وأطلق، ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره، ولا أمر به رسوله، ولا أفتى به أحد من الصحابة. ومن ذلك: ما أفتى به عبد الله بن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب وطاووس وسالم، ومجاهد، والشعبى، وإبراهيم النخعى، والزهرى، ويحيى بن سعيد الأنصارى، والحكم، والأوزاعى، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور والإمام أحمد فى أصح الروايتين، وغيرهم: "أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالماً بها، أو كان يعلمها لكنه نسيها أو لم ينسها، لكنه عجز عن إزالتها أن صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه". فصل ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "كانَ يُصَلى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ ابْنَتِه زَيْنَبَ، فإذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا" متفق عليه. ولأبى داود: "أَنَّ ذلِكَ كانَ فى إحْدَى صَلاَتَىِ العشى". وهو دليل على جواز الصلاة فى ثياب المربية والمرضع والحائض والصبى، ما لم يتحقق نجاستها. وقال أبو هريرة: "كُنَّا مَع النَّبى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلَم فى صَلاَةِ العِشَاءِ فَلمَّا سَجَدَ وَثَبَ الَحْسَنُ وَالْحُسَينُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَلمَّا رَفعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدَه مِنْ خَلْفِه أَخْذًا رَفِيقاً وَوَضَعَهُمَا عَلَى الأرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ". رواه الإمام أحمد. وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: عن أبيه: "خَرَج عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليهِ وآله وسلم وَهُوَ حامِلٌ الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ، فَصَلّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانى صَلاَتِه سَجْدَة أَطَالهَا. فَلمَّا قضى الصَّلاَةَ قَالَ: إنَّ ابْنِى ارْتحَلَنى فَكرهْتُ أَنْ أُعْجِلَهُ". رواه أحمد والنسائى. وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها: "كانَ رَسُولُ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلَم يُصَلّى بِاللَّيْلِ وَأَنَا إِلَى جَنْبِه، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَىَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ". رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقالت: " كُنْتَ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلم نَبِيتُ فى الشَّعَارِ الوَاحِدِ، وَأَنَا طَامِثٌ- حَائِضٌ- فَإِنْ أصَابَهُ مِنى شَىْ غَسَلَ مَكَانَهُ، وَلَمَ يَعْدُهْ، وَصَلى فِيهِ" رواه أبو داود. فصل ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلبس الثياب التى نسجها المشركون ويصلى فيها. وتقدم قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وهَمّه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تصبغ بالبول، وقول أبى له: "مالك أن تنهى عنها، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لبسها، ولبست فى زمانه؟ ولو علم الله أنها حرام لبينه لرسوله. قال: صدقت". قلت: وعلى قياس ذلك: الجوخ، بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب، فتجنبه من باب الوسواس. ولما قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجابية استعار ثوباً من نصرانى فلبسه، حتى خاطوا له قميصه وغسلوه. وتوضأ من نجرة نصرانية. وصلى سلمان وأبو الدرداء رضى الله عنهما فى بيت نصرانية. فقال لها أبو الدرداء: "هل فى بيتك مكان طاهر فنصلى فيه؟ " فقالت: طهرا قلوبكما، ثم صليا اين أحببتما. فقال له سلمان: "خذها من غير فقيه". فصل ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأوانى المكشوفة ولا يسألون: هل أصابتها نجاسة، أو وردها كلب أو سبع؟ ففى الموطإ عن يحيى ابن سعيد أن عمر رضى الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو: "يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ "، فقال عمر رضى الله عنه: "لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفى سنن ابن ماجه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "سُئِلَ: أَنَتَوَضّأُ بمَا أفْضَلَتِ الُحُمرُ؟ قَالَ: نَعمْ، وَبَما أَفْضَلَتِ السبَاعُ". ومن ذلك: أنه لو سقط عليه شئ من ميزاب، لا يدرى هل هو أو بول. لم يجب عليه أن يسأل عنه. فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك. ومر عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوماً، فسقط عليه شئ من ميزاب، ومعه صاحب له، فقال: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر رضى الله عنه: "يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى"، ذكره أحمد. قال شيخنا: "وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شىء رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو. واحتج بقصة عمر رضى الله عنه فى الميزاب وهذا هو الفقه، فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هى على العفو. فما عفا الله عنه فلا ينبغى البحث عنه". فصل ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم، ولا يعيد. قال البخارى: قال الحسن رحمه الله: "مازال المسلمون يصلون فى جراحاتهم". قال: "وعصر ابن عمر رضى الله عنهما بثرة، فخرج منها دم فلم يتوضأ، وبصق ابن أبى أو فى دما ومضى فى صلاته. وصلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجرحه يثعب دما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ومن ذلك: أن المراضع مازلن من عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى الآن يصلين فى ثيابهن، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك، لأن ريق الرضيع مطهر لقمه لأجل الحاجة. كما أن ريق الهرة مطهر لفمها. وقد قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم: "إنّهَا لَيْسَتْ بِنَجِس، إِنّهَا مِنَ الطّوَّافينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ وَكَانَ يُصْغِى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ". وكذلك فعل أبو قتادة. مع العلم اليقينى أنها تأكل الفأر والحشرات، والعلم القطعى أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعاً. ومن ذلك: أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم، وقد أصابها الدم. وكانوا يمسحونها، ويجتزئون بذلك. وعلى قياس هذا: مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة، فإنه يطهرها. وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها. ومن ذلك: أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس، ثم تجففه الشمس، فينشر عليه الثوب الطاهر. فقال: لا بأس به. وهذا كقول أبى حنيفة: "إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس". وهو وجه لأصحاب أحمد، حتى إنه يجوز التيمم بها. وحديث ابن عمر رضى الله عنهما كالنص فى ذلك وهو قوله: "كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول فى المسجد ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس. ومن ذلك: أن الذى دلت عليه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآثار أصحابه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان يسيراً. وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث. وبه أفتى عطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والأوزاعى، وسفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدى، واختاره ابن المنذر. وبه قال أهل الظاهر. ونص عليه أحمد فى إحدى روايتيه. وإختاره جماعة من أصحابنا، منهم ابن عقيل فى مفرداته وشيخنا أبو العباس، وشيخه ابن أبى عمر. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "المَاء لا يُنَجسُهُ شَئ" رواه الإمام أحمد. وفى المسند والسنن عن أبى سعيد قال: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَوَضّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِىَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيضُ ولُحُومُ الكِلاَبِ وَالنَّتْنُ فَقَال: المَاءُ طَهُورٌ، لا يُنَجسُهُ شئ". قال الترمذى: "هذا حديث حسن". وقال الإمام أحمد: "حديث بئر بضاعة صحيح". وفى لفظ للإمام أحمد: "إِنّهُ يُسْتَقَىِ لَكَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِىَ بِئْر يُطْرَحُ فِيهَا حَايِضُ النسَاءِ، وَلَحْمُ الْكِلاَبِ، وَعَذَر النَّاسِ؟ فَقَالَ رَسولُ اللهِ تعالى عليهِ وَسلم: إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجسُهُ شَىْ". وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى أمامة مرفوعاً: "المَاءُ لا يُنَجسُهُ شَىْ إِلاّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، أَوْ طَعْمِهِ، أَوْ لَوْنِه". وفيها من حديث أبى سعيد الحدرى: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الّتِى بَيْنَ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السبَاعُ وَالْكِلاَبُ وَالْحُمُرُ، وَعَنِ الطّهَارَةِ بهَا؟ فَقالَ: لَها مَا حَمَلَتْ فى بُطُونهَا وَلنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ". وإن كان فى إسناد هذين الحديثين مقال. فإنا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد. وقال البخارى: قال الزهرى: "لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقال الزهرى أيضاً: "إذا ولغ الكلب فى الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم". قال سفيان: "هذا الفقه بعينه"، يقول الله تعالى: " {فَلَمْ تجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] . وهذا ماء، وفى النفس منه شىء يتوضأ به ثم يتيمم" ونص أحمد رحمه الله فى جب زيت ولغ فيه كلب، فقال: "يؤكل". فصل ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يجيب من دعاه، فيأكل من طعامه وأضافه يهودى بخبز شعير وإهالة سنخة. وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب. وشرط عمر رضى الله تعالى عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وقال: "أطعموهم مما تأكلون". وقد أحل الله عز وجل ذلك فى كتابه. ولما قدم عمر رضى الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه، فقال: "أين هو؟ " قالوا: فى الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعلى رضى الله عنه: "اذهب بالناس، فذهب على بالمسلمين". فدخلوا وأكلوا، وجعل على رضى الله عنه: ينظر إلى الصور، وقال: "ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل؟ ". وكان النبى عليه السلام يقبل ابنى ابنته فى أفواههما، ويشرب من موضع فم عائشة رضى الله عنها، ويتعرق العرق، فيضع فاه على موضع فيها، وهى حائض. وحمل أبو بكر رضى الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه. وأتى رسول الله عليه السلام بصبى، فوضعه فى حجره، فبال عليه فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله. وكان يؤتى بالصبيان فيضعهم فى حجره يبرك عليهم، ويدعو لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وهذا الذى ذكرناه قليل من كثير من السنة، ومن له اطلاع على ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لا يخفى عليه حقيقة الحال. وقد روى الإمام أحمد فى مسنده عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "بُعِثْتُ بِالْحنِيفِيَّةِ السمْحِةِ". فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة. فهى حنيفية فى التوحيد، سمحة فى العمل. وضد الأمرين: الشرك، وتحريم الحلال، وهما اللذان ذكرهما النبى صلى الله تعالى عليه وآله فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: " إِنى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ وَإِنّهُمْ أتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينْهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بى مَا لَمْ أُنَزلْ بِهِ سُلْطَاناً". فالشرك وتحريم الحلال قرينان. وهما اللذان عابهما الله تعالى فى كتابه على المشركين فى سورة الأنعام والأعراف. وقد ذم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتنطعين فى الدين، وأخبر بمهلكهم حيث يقول: "أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ، أَلا هَلَكَ المُتَنَطعُونَ". وقال ابن أبى شيبة: حدثنا أبو أسامة عن مسعر قال: "أخرج إلى معن بن عبد الرحمن كتاباً، وحلف بالله أنه خط أبيه، فإذا فيه: قال عبد الله: والله الذى لا إله غيره ما رأيت أحداً كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا رأيت بعده أحداً أشد خوفاً عليهم من أبى بكر، وإنى لأظن عمر رضى الله عنه كان أشد أهل الأرض خوفاً عليهم". وكان عليه الصلاة والسلام يبغض المتعمقين، حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال. قال: "لَوْ تَأَخّرَ الهِلالُ لَوَاصَلتُ وِصالا يَدَعُ المُتَعَمقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، كالمَنكلِ بهِمْ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا، اقتداء بنبيهم صلى الله تعالى وسلم. قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلفِينَ} [ص: 86] . وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". وقال أنس رضى الله عنه: "كنا عند عمر رضى الله عنه، فسمعته يقول: نهينا عن التكلف". وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها. من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً". وقال مالك: بلغنى أن عمر بن الخطاب كان يقول: "سُنَّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالاً". وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " يَحْمِلُ هذا العِلُمَ مِنْ كُل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ". فأخبر أن الغالبين يحرفون ما جاء به. والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه. والجاهلون يتأولونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة. فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفى عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فصل ومن ذلك الوسوسة فى مخارج الحروف والتنطع فيها. ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم: قال أبو الفرج بن الجوزى: "قد لبس إبليس على بعض المصلين فى مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد، الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة. وتارة يلبس عليه فى تحقيق التشديد فى إخراج ضاد "المغضوب" قال: "ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده. والمراد تحقيق الحرف حسب. وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة فى الحروف عن فهم التلاوة. وكل هذه الوساوس من إبليس". وقال محمد بن قتيبة فى مشكل القرآن: "وقد كان الناس يقرؤون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا فى كثير من الحروف. وذلوا فأخلواً. ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين. فلم أر فيمن تتبعت فى وجوه قراءته أكثر تخليطاً ولا أشد اضطراباً منه، لأنه يستعمل فى الحروف ما يدعه فى نظيره، ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار فى كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه فى قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه فى المد والهمز والإشباع، وإفحاشه فى الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى، وتضييقه ما فسحه الله. ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها. ففى أى موضع يستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟، وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ فى صلاته بحرفه، أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين. منهم بشر بن الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم. وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها. فإذا رأوه قد اختلف فى أم الكتاب عشرا. وفى مائة آية شهراً، وفى السبع الطوال حولا. ورأوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبين، توهموا أن ذلك لفضله فى القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت سهلة رسلة". وقال الخلال فى الجامع: عن أبى عبد الله، إنه قال: "لا أحب قراءة فلان"، يعنى هذا الذى أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يعجب من قراءته، وقال: "لا تعجبنى. فإن كان رجل يقبل منك فانهه". وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها. وقال الفضل بن زياد: "إن رجلاً قال لأبى عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام، والكسر. ليس يعرف فى لغة من لغات العرب". وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: "أكره الكسر الشديد والإضجاع". وقال فى موضع آخر: "إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به". وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: "أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ "، قال: "أكرهه أشد كراهة، إنما هى قراءة محدثة". وكرهها شديداً حتى غضب. وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: "أكرهها أشد الكراهة"، قيل له: ما تكره منها؟ قال: "هى قراءة محدثة، ما قرأ بها أحد". وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها. وقال: "كرهها ابن إدريس"، وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدى. وقال: "ما أدرى، إيش هذه القراءة؟ " ثم قال: "وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب". وقال عبد الرحمن بن مهدى "لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد. وعنه رواية أخرى: "أنه لا يعيد". والمقصود. أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو فى النطق بالحرف. ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة فى إخراج الحروف ليس من سنته. فصل فى الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواساً. قلنا: سموه ما شئتم، فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره، وما كان عليه أصحابه، أو مخالف؟ فإن زعمتم أنه موافق، فبهت وكذب صريح. فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له، فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطاً. وهذا نظير من ارتكب محظوراً وسماه بغير اسمه، كما يسمى الخمر بغير اسمها، والربا معاملة، والتحليل الذى لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله: نكاحاً، ونقر الصلاة الذى أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل، وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه: تخفيفاً. فهكذا تسمية الغلو فى الدين والتنطع: احتياطاً. وينبغى أن يعلم أن الاحتياط الذى ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه الاحتياط فى موافقة السنة، وترك مخالفتها. فالاحتياط كل الاحتياط فى ذلك، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة، بل ترك حقيقة الاحتياط فى ذلك. وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق فى موارد النزاع الذى اختلف فيه الأئمة، كطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لمكره، وطلاق السكران، والبتة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية، والطلاق المؤجل المعلوم مجئ أجله، واليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتى تقليدا بغير برهان، وقال: ذلك احتياط للفروج. فقد ترك معنى الاحتياط. فإنه يحرم الفرج على هذا، ويبيحه لغيره. فأين الاحتياط هاهنا؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتى برهان من الله ورسوله على ذلك، لكان قد عمل بالاحتياط. ونص على مثل ذلك الإمام أحمد فى طلاق السكران. فقال فى رواية أبى طالب: "والذى لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة. والذى يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها الله عليه وأحلها لغيره". فهذا خير من هذا، فلا يمكن الاحتياط فى وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة. أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه. قال شيخنا: "والاحتياط حسن، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة. فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط"، وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِه وَعِرْضِهِ" وقوله: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ" وقوله: "الإِثمُ مَا حَاكَ فى الصَّدْرِ". فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس. فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل، والحلال بالحرام، على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين، أو تتعارض الأمارتان عنده، فلا يترجح فى ظنه احداها، فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلى. ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة؟ هذا أحسن أحواله، والواضح الجلى هو اتباع طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما سنه للأمة قولا وعملا. فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح. فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك؟ إذ قد بينت بالسنة أنه تنطع وغلو، فالمصير إليه ترك للسنة، وأخذ بالبدعة، وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه، وأخذ بما يكرهه ويبغضه، ولا يتقرب به إليه البتة، فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 نفسه. فهذا هو الذى يحيك فى الصدر ويتردد فى القلب، وهو حوازّ القلوب. وأما التمرة التى ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكلها، وقال: "أَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ". فذلك من باب اتقاء الشبهات، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام، فإن التمرة كانت قد وجدها فى بيته، وكان يؤتى بتمر الصدقة، يقسمه على من تحل له الصدقة، ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله، فكان فى بيته النوعان، فلما وجد تلك التمرة لم يدر عليه الصلاة والسلام، من أى النوعين هى؟ فأمسك عن أكلها. فهذا الحديث أصل فى الورع واتقاء الشبهات، فما لأهل الوسواس وما له؟. وأما قولكم: إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا: إنها ثلاث احتياطاً، فنعم، هذا قول مالك، فكان ماذا؟ أفحجة هو على الشافعى، وأبى حنيفة وأحمد، وعلى كل من خالفه فى هذه المسألة؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله، وهذا القول مما يحتج له، لا مما يحتج به، على أن هذا ليس من باب الوسواس فى شىء وإنما حجة هذا القول: أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة. والرجعة ترفع ذلك التحريم، فهو يقول: قد تيقن سبب التحريم، وهو الطلاق، وشك فى رفعه بالرجعة، فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة، ويحتمل أن يكون ثلاثاً، فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم، وشك فيما يرفعه. والجمهور يقولون: النكاح متيقن. والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه، فإنه يحتمل أن يكون المأتى به رجعياً فلا يزيل النكاح. ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله، فقد تيقنا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله. فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن ما يرفعه. فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشك فى التحليل، قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا تجوزون وطأها، ويكون رجعة، إذا نوى به الرجعة. فإن قلتم: بل هى حرام، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء. قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فإنه إنما تيقن تحريماً يزول بالرجعة، ولم يتيقن تحريماً لا تؤثر فيه الرجعة. وليس المقصود تقرير هذه المسألة. والمقصود أنه لا راحة فى ذلك لأهل الوسواس. فصل وأما من حلف بالطلاق: أن فى هذه اللوزة حبتين، ونحو ذلك، مما لا يتيقنه الحالف، فبان كما حلف عليه. فهذا لا يحنث عند الأكثرين. وكذلك لو لم يتبين الحال استمر مجهولا. فإن النكاح ثابت بيقين، فلا يزيله بالشك. ولمالك رحمه الله أصل نازعه فيه غيره. وهو إيقاع الطلاق بالشك فى الحنث، وإيقاعه بالشك فى عدده كما تقدم. وإيقاعه بالشك فى المطلقة. كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها، ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين، طلق عليه الجميع. وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان، وهو غير متيقن له، بل هو شاك حال الحلف، فتبين أن الأمر كما حلف عليه. فإنه يحنث عنده، وتطلق امرأته. فمن حلف على رجل أنه زيد فتبين أنه غيره، أو لم يتبين: أهو المحلوف عليه أم لا، حنث عنده. وإن تبين أنه المحلوف عليه- وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته، ولا يغلب على ظنه. ولا طريق له إلى العلم به فى العادة- فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف. فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه. أما فى الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه، وأما فى الخبر فبأن يتبين كذبه. وعند مالك يحنث بأمر آخر، وهو الشك حال اليمين، سواء تبين صدقة أم لا. وأبلغ من هذا: أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر: أنه حجر، ونحو ذلك مما لا شك فيه. وعمدته فى الموضعين: أن الحالف هازل. فإن من قال: أنت طالق إذ لم تكونى امرأة، أو إن لم أكن رجلاً، لا معنى لكلامه إلا الهزل، فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه. قالوا: وإن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق، ثم ندم، فوصله بما لا يفيد ليرفعه. وأما فى القسم الأول: فأصله فيه: تغليب الحنث بالشك، كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا، فإنهم يأمرونه بفراق زوجته، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ على قولين، الأول: لابن القاسم، والثانى: لمالك. فمالك يراعى بقاء النكاح، وقد شككنا فى زواله، والأصل البقاء. وابن القاسم يقول: قد صار حل الوطء مشكوكاً فيه، فيجب عليه مفارقتها. والأكثرون يقولون: لا يجب عليه مفارقتها، ولا يستحب له، فإن قاعدة الشريعة: أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم، ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه، أو مساو له. فصل وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها، أو طلق واحدة مبهمة ولم يعينها، فقد اختلف الفقهاء فى حكم هذه المسألة على أقوال: فقال أبو حنيفة، والشافعى، والثورى، وحماد: يختار أيتهن شاء، فيوقع عليها الطلاق فى المبهمة. وأما فى المنسية. وأما فى المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن، حتى ينكشف الأمر. فإن مات الزوج قبل أن يقرع، فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة. وقال الشافعى: "يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن". وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده، بأن قال: أنت طالق، ولا يدرى من هى. طلق الجميع. وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها، وقف عنهن حتى يتذكر. فإن طال ذلك ضرب له مدة المولى. فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال: إحداكن طالق، ولم يعينها بالنية طلق الجميع. وقال أحمد: "يقرع بينهن فى الصورتين"، نص على ذلك فى رواية جماعة من أصحابه، وحكاه عن على وابن عباس. وظاهر المذهب الذى عليه جل الأصحاب: أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال صاحب المغنى: "يخرج المبهمة بالقرعة، وأما المنسية فإنه يحرم عليه الجميع. حتى يتيقن المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع، فإن مات أقرع بينهن للميراث"، قال: وقد روى إسماعيل بن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل فى المنسية لمعرفة الحل، وإنما تستعمل لمعرفة الميراث. فإنه قال: "سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق". قال: "أكره أن أقول فى الطلاق بالقرعة". قلت: "أرأيت إن مات هذا؟ "، قال: "أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال". قال: "وجماعة من روى عنه القرعة فى المطلقة المنسية إنما هو فى التوريث. وأما فى الحل فلا ينبغى أم تثبت القرعة". قال: "وهذا قول أكثر أهل العلم". واحتج الشيخ لصحة قوله: بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد، ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، فلا يرفع الطلاق عمن وقع عليها، ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة. ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه. ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر. فيجب بقاء التحريم بعد القرعة، كما كان قبلها. قال: "وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته فلم يدر، واحدة طلق أم ثلاثاً، ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التى وقعت اليمين عليها. فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم، فهاهنا أولى". قال: "وهكذا الحكم فى كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها، ثم اشتبهت بغيرها. مثل أن يرى امرأة فى روزنة، أو مولية، فيقول: أنت طالق، ولا يعلم عينها من نسائه. وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه فى مسألة الطائر وشبهها، فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة. ويؤخذ بنفقة الجميع، لأنهن محبوسات عليه، وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا. ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج، لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة. ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة". وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن: ثبت حكم الطلاق فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها. وحل للزوج مَنْ سواها. كما لو كان الطلاق فى واحدة غير معينة. وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة فى الصورتين. قلت: وهو منصوص أحمد فى رواية الجماعة. وأما رواية الشالنجى فإنه توقف، وكره أن يقول فى الطلاق بالقرعة، ولم يعين المنسية، ولا المبهمة، وأكثر نصوصه على القرعة فى الصورتين. قال فى رواية الميمونى، فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن، ولم يدر: "يقرع بينهن، وكذلك فى الأعبد. فإن أقرع بينهن، فوقعت القرعة على واحدة، ثم ذكر التى طلق رجعت هذه التى وقعت عليها القرعة. ويقع الطلاق على التى ذكر. فإن تزوجت فذاك شىء قد مر". وكذلك نقل أبو الحارث عنه فى رجل له أربع نسوة طلق إحداهن، ولم يكن له نية فى واحدة بعينها: "يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهى المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها". فنص على القرعة فى الصورتين، مسوياً بينهما. والذى أفتى به على رضى الله عنه هو فى المنسية. وبه احتج أحمد رحمه الله. قال وكيع: سمعت عبد الله قال: "سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن، لا يدرى أيتهن طلق"، فقال: قال على رضى الله عنه: "يقرع بينهن". والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين، والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعاً فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة، ولأن فى الإيقاف والإمساك حتى يتذكر، وتحريم الجميع عليه، وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعاً، ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع، ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات، لا ذوات أزوج ولا أيامى، وتركه هو معلقاً، لا ذا زوج ولا عزباً، وليس فى الشريعة نظير ذلك، بل ليس فيها وقف الأحكام، بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق. فإذا ضاقت الطرق، ولم يبق إلا القرعة، تعينت طريقاً، كما عينها الشارع فى عدة قضايا، حيث لم يكن هناك غيرها، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف، فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلى انكشاف الحال، كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التى لا تأتى بها الشريعة. وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التى لم يقع عليها الطلاق وتخطئ المطلقة. وهذا لا يضرها هاهنا، فإنها لما جهل كونها هى التى وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم، وكل ما يقدر من المفسدة فى ذلك فمثلها فى العتق سواء. وقد دلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة، وقد نص أحمد على حل البضع بالقرعة. فقال- فى رواية ابن منصور وحنبل- إذا زوجها الوليان من رجلين، ولم يعلم السابق منهما أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول. فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج فى حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة فى تحريم بضعها عنه أولى. فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية، وهو أسرع نفوذا وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة. وقول الشيخ أبى محمد، قدس الله تعالى روحه: "إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد". جوابه: بالفرق بين حالتى الدوام والابتداء، فإنه هناك شك فى هذه الأجنبية هل حصل عقد أم لا؟ والأصل فيها التحريم، فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما. وهاهنا ثبت الحل والنكاح. وحصل الشك بعده، هل ترك التحريم فى هذا أو فى هذه. فإما أن يحرما جميعاً أو يحلا جميعاً، أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم، أو يوقف الأمر أبدا، أو تستعمل القرعة، والأقسام الأربعة الأول باطلة، لا أصل لها فى السنة، ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة. وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى، إذ هناك تحريم متيقن، ونحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 نشك فى حله، وهنا حل متيقن نشك فى تحريمه بالنسبة إلى كل واحدة. قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه. فيقال: إذا جهلت المطلقة. ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة، حيث تعينت طريقاً، فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم، ولو كانت مطلقة فى نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما فى نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا. ولهذا لو نسى الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى توفى، كانت أحكامه أحكام الزوج، والنسب لاحق به، والميراث ثابت، وهى مطلقة فى نفس الأمر، ولكن ليست مطلقة فى حكم الله، كما لو طلع الهلال فى نفس الأمر ولم يره أحد من الناس، أو كان الهلال تحت الغيم، فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر، ولا يكون طالعاً فى حكم الله تعالى، وإن كان طالعاً فى نفس الأمر، ونظائر هذا كثيرة جداً. فغاية الأمر: أن هذه مطلقة فى نفس الأمر، ولا علم له بطلاقها، فلا تكون مطلقة فى الحكم، كما لو نسى طلاقها. قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر. جوابه: أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان، فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة، كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه. فإن التراب إنما يعمل عند العجز عن الماء، فإذا قدر عليه بطل حكمه. ونظائر ذلك كثيرة. منها: أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص، فإذا تبين النص، فلا اجتهاد إلا فى إبطال ما خالفه. قوله: وقد قال الخرقى فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثاً؟ يلزمه الثلاث. ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت فى تمر، فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 نها ليست التى وقعت اليمين عليها فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم فهاهنا أولى. فيقال: الخرقى نص على المسألتين مفرقاً بينهما فى مختصره، فقال: وإذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة. وقال: ما حكاه الشيخ عنه فى الموضعين. فأما من شك: هل طلق واحدة أم ثلاثاً، فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة، وهو ظاهر المذهب. والخرقى اختار الرواية الأخرى. وهى مذهب مالك، وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح منهما. وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك، وبين إخراج المنسية بالقرعة: أن المجهول فى الشرع كالمعدوم. فقد جهلنا وقوع الطلاق بأى الزوجتين، فلم يتحقق تحريم إحداهما. ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما. والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة، بخلاف من أوقع على زوجته طلاقاً قد شك فى عدده فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها؟ فألزمه بالثلاث. فظهر الفرق بينهما على هذا القول. وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال. وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت فى تمر، أكل منه واحدة. فقد قال الخرقى: إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن. وهذا يحتمل الكراهة والتحريم. ومذهب الشافعى وأبى حنيفة: أنه لا يحنث، ولا يحرم عليه وطء زوجته: هو اختيار أبى الخطاب، وهو الصحيح. وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك، هل طلق واحدة أم ثلاثاً؟ فصل وأما من حلف على يمين ثم نسيها. وقولهم: يلزمه جميع ما يحلف به، فقول شاذ جدا. وليس عن مالك، إنما قاله بعض أصحابه. وسائر أهل العلم على خلافه. وأنه لا يلزمه شىء حتى يتيقن، كما لو شك: هل حلف أو لا؟ فإن قيل: فينبغى أن يلزمه كفارة يمين، لأنها الأقل. قيل: موجب الأيمان مختلف. فما من يمين إلا وهى مشكوك فيها، هل حلف بها أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمين حسب، لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده. فصل وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا. فعند الجمهور هو على التراخى إلى آخر عمره، إلا أن يعين بنيته وقتا، فيتقيد به. فإن عزم الترك بالكلية حنث حالة عزمه، نص عليه أحمد. وقال مالك: هو على حنث حتى يفعل، فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتى بالمحلوف، عليه وهذا صحيح على أصله فى سد الذرائع، فإنه إذا كان على التراخى إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة، وصار لا فرق بين الحلف وعدمه، والحمل فى ذلك على القرينة والعرف، وإن لم تكن نية. ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة. فصل وأما تعليق الطلاق بوقت يجئ لا محالة، كرأس الشهر والسنة، وآخر النهار ونحوه. فللفقهاء فى ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنها لا تطلق بحال، وهذا مذهب ابن حزم، واختيار أبى عبد الرحمن الشافعى، وهو من أجل أصحاب الوجوه. وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط، كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء. قالوا: والطلاق لا يقع فى الحال، ولا عند مجئ الوقت. أما فى الحال فلأنه لم يوقعه منجزا، وأما عند مجئ الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ، ولم يتجدد سوى مجئ الزمان. ومجئ الزمان لا يكون طلاقاً. وقابل هذا القول آخرون، وقالوا: يقع الطلاق فى الحال، وهذا مذهب مالك، وجماعة من التابعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وحجتهم أن قالوا: لو لم يقع فى الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت، وذلك غير جائز فى الشرع، لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقاً غير مؤقت، ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه، وكذلك وطء المكاتبة. ألا ترى أنه لو عرى من الأجل، بأن يقول: إن جئتنى بألف درهم فأنت حرة، لم يمنع ذلك الوطء. قال الموقعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء، فإن الشريعة فرقت بينهما فى مواضع كثيرة، فإن ابتداء عقد النكاح فى الإحرام فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد، دون دوامه، وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه. ونظائر ذلك كثيرة جداً. قالوا: والمعنى الذى حرم لأجله نكاح المتعة: كون العقد مؤقتا من أصله، وهذا العقد مطلق، وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه، فلا يبطل، كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله، أو يفعله هو ولا بد، ولكن يجوز تخلفه. والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجئ الوقت المعلوم ثلاثاً وقع فى الحال، وإن كان رجعياً لم يقع قبل مجيئه، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، نص عليه فى رواية مهنا: "إذا قال: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر: هى طالق الساعة. كان سعيد بن المسيب والزهرى لا يوقتون فى الطلاق". قال مهنا: فقلت له: "أفتزوج هذه التى قال لها: أنت طالق ثلاثاً قبل موتى بشهر؟ "، قال "لا: ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت" هذا لفظه. وهو فى غاية الإشكال، فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزاً، فكيف يمنعها من التزويج؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقوله "يمسك عن الوطء أبدا" يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطأها، وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق. فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها. فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق، ومنعها من التزويج للخلاف فى ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق، ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص. ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثاً لم يحل وطؤها بعد الأجل. فيصير حال الوطء مؤقتاً، وإن كان رجعياً جاز له وطؤها بعد الأجل. فلا يصير الحال مؤقتا، وهذا أفقه من القول الأول. والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجئ الأجل، وهو قول الجمهور. وإنما تنازعوا، هل هو مطلق فى الحال، ومجئ الوقت شرط لنفوذ الطلاق، كما لو وكله فى الحال. وقال: لا تتصرف إلى رأس الشهر فمجئ رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه، لا بحصول الوكالة، بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك. وهذا يفرق الشافعى بينهما. فيصحح الأولى ويبطل الثانية، أو يقال: ليس مطلقاً فى الحال. وإنما هو مطلق عند مجئ الأجل، فيقدر حينئذ أنه قال: أنت طالق. فيكون حصول الشرط وتقدير حصول: أنت طالق معاً. فعلى التقدير الأول: السبب تقدم، وتأخر شرط تأثيره، وعلى التقدير الثانى: نفس السبب تأخر تقدير إلى مجئ الوقت. وكأنه قال إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك: أنت طالق فإذا جاء رأس الشهر قدر قائلاً لذلك اللفظ المتقدم. فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة. فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافاً إلى الشرط، وقيل تحققه لم يكن المعلق عليه علة، بخلاف الوجوب. فإنه ثابت قبل مجئ الشرط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق، والشرط الدخول، وتأثيره فى امتناع وجود العلة قبله، فإذا وجد وجدت. وأصحاب الشافعى يقولون: أثر الشرط فى تراخى الحكم، والعلة قد وجدت، وإنما تراخى تأثيرها إلى وقت مجئ الشرط، فالمتقدم عله قد تأخر تأثيرها إلى مجئ الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فصل وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعى ومالك، فى إحدى الروايتين عنه: أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا؟ وجب عليه أن يتوضأ احتياطاً، ولا يدخل فى الصلاة بطهارة مشكوك فيها فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء. وقد قال الجمهور، منهم الشافعى، وأحمد، وأبو حنيفة، وأصحابهم، ومالك فى الرواية الأخرى عنه: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلى بذلك الوضوء الذى تيقنه وشك فى انتقاضه. واحتجوا بما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فى بَطْنِهِ شَيْئاً فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَىْ أمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً". وهذا يعم المصلى وغيره. وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابته فى ذمته بيقين، وهو يشك فى براءة الذمة منها بهذا الوضوء، فإنه على تقدير بقائه هى صحيحة، وعلى تقدير انتقاضه باطلة، فلم يتيقن براءة ذمته، ولأنه شك فى شرط الصلاة: هل هو ثابت أم لا؟ فلا يدخل فيها بالشك. والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك فى بطلانها فلا يلتفت إلى الشك، ولا يزيل اليقين به، كما لو شك: هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة؟ فإنه لا يجب عليه غسله، وقد دخل فى الصلاة بالشك. ففرقوا بينهما بفرقين. أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط. ولهذا لا يجب نيته، وإنما هو مانع، والأصل عدمه، بخلاف الوضوء، فإنه شرط، وقد شك فى ثبوته، فأين هذا من هذا؟. الثانى: أنه قد كان قبل الوضوء محدثاً، وهو الأصل فيه. فإذا شك فى بقائه كان ذلك رجوعاً إلى الأصل. وليس الأصل فيه النجاسة، حتى نقول: إذا شك فى حصولها رجعنا إلى أصل النجاسة، فهنا يرجع إلى أصل الطهارة، وهناك يرجع إلى أصل الحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة، فصارت هى الأصل، فإذا شككنا فى الحدث رجعنا إليه، فأين هذا من الوسواس المذموم شرعاً، وعقلاً وعرفاً؟. فصل وأما قولكم: إن من خفى عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله: فليس هذا من باب الوسواس، وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به. فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه. فصل وأما مسألة الثياب التى اشتبه الطاهر منها بالنجس، فهذه مسألة نزاع. فذهب مالك، فى رواية عنه، وأحمد: إلى أنه يصلى فى ثوب بعد ثوب، حتى يتيقن أنه صلى فى ثوب طاهر. وقال الجمهور، ومنهم أبو حنيفة، والشافعى، ومالك، فى الرواية الأخرى: إنه يتحرى فيصلى فى واحد منها صلاة واحدة، كما يتحرى فى القبلة. وقال المزنى وأبو ثور: "بل يصلى عرياناً ولا يصلى فى شىء منها، لأن الثوب النجس فى الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن السترة بثوب طاهر، فيسقط فرض السترة"، وهذا أضعف الأقوال. والقول بالتحرى هو الراجح الظاهر، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل. وهو اختيار شيخنا. وابن عقيل يفصل، فيقول: "إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل عمل باليقين". قال شيخنا: "اجتناب النجاسة من باب المحظورات، فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه، لم يحكم ببطلان صلاته بالشك، فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شك فيها فى هذا الثوب، فيصلى فيه، كما لو استعار ثوباً أو اشتراه ولا يعلم حاله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقول أبى ثور فى غاية الفساد. فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته عرياناً، بادى السوءة للناظرين. وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم. فصل وأما مسألة اشتباه الأوانى فكذلك ليست من باب الوسواس. وقد اختلف فيها الفقهاء اختلافاً متبايناً. فقال أحمد: "يتيمم ويتركها، وقال مرة يريقها ويتيمم، ليكون عادماً للماء الطهور بيقين". وقال أبو حنيفة: "إن كان عدد الأوانى الطاهرة أكثر، تحرى، وإن تساوت أو كثرت النجسة، لم يتحر". وهذا اختيار أبى بكر وابن شاقلاً والنجاد من أصحاب أحمد. وقال الشافعى وبعض المالكية: "يتحرى بكل حال". وقال عبد الملك بن الماجشون: "يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلى". وقال محمد بن مسلمة من المالكية: "يتوضأ من أحدها ويصلى، ثم يغسل ما أصابه منه، ثم يتوضأ من الآخر ويصلى". وقالت طائفة- منهم شيخنا- يتوضأ من أيها شاء، بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فتستحيل المسألة، وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها. فصل وأما إذا اشتبهت عليه القبلة، فالذى عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلى صلاة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وشذ بعض الناس فقال: يصلى أربع صلوات إلى أربع جهات، وهذا قول شاذ مخالف للسنة، وإنما التزمه قائله فى مسألة اشتباه الثياب، وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات عند المضايق، طرداً لدليل المستدل مما لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها. ونظيره: التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة، لما ألزمهم أصحاب أبى حنيفة بذلك، قال بعضهم: نقول به. ونظيره: إدراك الجمعة والجماعة بإدراك تكبيرة مع الإمام، لما ألزمت الحنفية من نازعها فى ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم، وقال: نقول به. فصل وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها، فاختلف الفقهاء فى هذه المسألة على أقوال. أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات. نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة وإسحاق، لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك. القول الثانى: أنه يصلى رباعية ينوى بها ما عليه. ويجلس عقيب الثانية والثالثة والربعة. وهذا قول الأوزاعى، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن مقاتل من الحنفية، بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبى صلى الله تعالى وآله عليه وسلم، وبدون السلام، وأن نية الفرضية تكفى من غير تعيين، كما فى الزكاة، ولا يضر جلوسه عقيب الثالثة، إن كانت المنسية رباعية، لأنه زيادة من جنس الصلاة، لا على وجه العمد. القول الثالث: أنه يجزيه أن يصلى فجراً، ومغربا ورباعية ينوى ما عليه. وهذا قول سفيان الثورى، ومحمد بن الحسن. ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفى من غير تعيين. وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبى يُسأل: ما تقول فى رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعينها، فصلى ركعتين وجلس وتشهد، ونوى بها الغداة ولم يسلم، ثم قام فأتى بركعه وجلس وتشهد ونوى بها المغرب، وقام ولم يسلم، وأتى برابعة ثم جلس، فتشهد ونوى بها ظهراً أو عصراً أو عشاء الآخرة ثم سلم؟ فقال له أبى: "هذا يجزيه، ويقضى عنه على مذهب العراقيين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لأنهم اعتمدوا فى التشهد على خبر ابن مسعود: "إذَا قُلْتَ هذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ". وأما على مذهب صاحبنا أبى عبد الله الشافعى، ومذهبنا: لا يجزئ عنه، لأنا نذهب إلى قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ". ونذهب إلى الصلاة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيها"، وهذا لفظه. قال أبو البركات: "هذا من أحمد يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه، لتعذر التحليل المعتبر لا لفوات نية التعيين، فإذا قضى ثلاثاً كما قال الثورى- اندفع المفسد- وبكل حال فليس فى هذا راحة للموسوسين". فصل وأما من شك فى صلاته، فإنه يبنى على اليقين، لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك. وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء؟ وتحريم أكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 إذا خالط كلابه كلبا من غيره، فهو الذى أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لأنه قد شك فى سبب الحل، والأصل فى الحيوان التحريم. فلا يستباح بالشك فى شرط حله، بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل. فإنه لا يحرم بالشك فى سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاماً، أو ثوباً لا يعلم حاله، جاز شربه وأكله ولبسه. وإن شك هل تنجس أم لا؟ فإن الشرط متى سبق اعتباره، أو كان الأصل عدم المانع، لم يلتفت إلى ذلك. فالأول: كما إذا أتى بلحم لا يعلم: هل سمى عليه ذابحه أم لا؟. وهل ذكاه فى الحلق واللبة، واستوفى شروط الذكاة أم لا؟ لم يحرم أكله، لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت عائشة رضى الله عنها: " يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ نَاساً مِنَ الأعْرَابَ يَأْتُونَنَا بِالّلحْمِ، لا نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا". مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى. والثانى كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس. فإن الأصل فيها الطهارة، وقد شك فى وجود المتنجس، فلا يلتفت إليه. فصل وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر، وأبى هريرة رضى الله عنهما فشئ تفردا به، دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول: "إن بى وسواساً فلا تقتدوا بى". وظاهر مذهب الشافعى وأحمد: أن غسل داخل العينين فى الوضوء لا يستحب، وإن أمن الضرر. لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله قط، ولا أمر به، وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان، وعلى، وعبد الله بن زيد، والربُّيع بنت معوذ وغيرهم، فلم يقل أحد منهم إنه غسل داخل عينيه. وفى وجوبه فى الجنابة روايتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يجب، وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة، وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقالت الشافعية والحنفية: يجب، لأن إصابة النجاسة لهما تندر، فلا يشق غسلهما منها. وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، فأوجب غسلهما فى الوضوء. وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرّج عليه. والصحيح أنه لا يجب غسلهما فى وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة. وأما فعل أبى هريرة رضى الله عنه فهو شئ تأوله، وخالفه فيه غيره، ينكرونه عليه، وهذه المسألة تلقب بمسألة إطالة الغرة، وإن كانت الغرة فى الوجه خاصة. وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد. إحداهما: يستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة والشافعى، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره. والثانية: لا يستحب، وهى مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبى العباس. فالمستحبون يحتجون بحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ تَعَالى عَليْه وَآلِه وَسَلَّمَ: "أَنْتُمُ الْغُرُّ المُحَجَّلونَ يوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غرَّته وَتَحْجِيلَهُ" متفق عليه، ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. قال النافون للاستحباب: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إنّ الله حَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا". والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين، فلا ينبغى تعديهما، ولأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداهما، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته، ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة، والعبادات مبناها على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ، وإلى الكتف. وهذا مما لا يعلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة واحدة، ولأن هذا من الغلو، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "إياكمْ وَالْغُلُوَّ فى الدَّينِ". ولأنه تعمق، وهو منهى عنه، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة، فكره مجاوزته كالوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وأما الحديث فراويه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه نعيم المجمر. وقد قال: "لا أدرى قوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو من قول أبى هريرة رضى الله عنه؟ "، روى ذلك عنه الإمام أحمد فى المسند. وأما حديث الحلية، فالحليه المزينة ما كان فى محله، فإذا جاوز محله لم تكن زينة. فصل وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق، وإلى آخره. فلعمر الله إنهما لطرفاً إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين فى غير موضع. كقوله: {وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وَقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذَّرْ تبذيرا} [الإسراء: 26] . وقوله: {وَالَّذِينَ إذَا أَنْفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . وقوله {وَكُلُوا وَاشْرِبوا ولا تسرفوا إِنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] فدين الله بين الغالى فيه والجافى عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط. والآفات إنما ينتظرون إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها. قال الشاعر: كانَتْ هِىَ الوَسَطُ المَحْمِى، فَاكْتَنَفَتْ ... بهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا فصل ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر فيها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا، وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعبدت مع الله تعالى. وكان أول هذا الداء العظيم فى قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم فى كتابه، حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَب إنهم عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا وَمَكرُوا مَكْرًا كبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 21-24] . قال ابن جرير: "وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بنى آدم. وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورّناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: "كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام". حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فى هذه الآية قال: "كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان ودّ لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل. وكان يغوث لبنى غطيف من مراد. وكان يعوق لهمدان. وكان نسر لذى الكلاع من حمير". وقال الوالبى، عن ابن عباس: "هذه أصنام كانت تعبد فى زمان نوح عليه السلام". وقال البخارى: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس: "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير لآل ذى الكلاع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انْصُبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسى العلم، عبدت". وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضى الله عنها: "أَنَّ أُمَّ سَلمَةَ رَضىَ اللهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالى عليهِ وَآلِه وَسلمَ كَنِيسَة رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لهَا: مَارِيَة. فَذَ كَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسَلّم: أُولِئكَ قَوْمٌ إذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئكَ شِرَارُ الْخَلقِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى". وفى لفظ آخر فى الصحيحين: "أنَّ أُمَّ حَبيبَةَ وَأُمَّ سَلمَةَ ذَكَرَتَا كنَيِسَةً رَأَيْنَهَا". فجمع فى هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أفَرَأيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] . قال: "كان يلت لهم السويق. فمات، فعكفوا على قبره". وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: "كان يلت السويق للحاج". فقد رأيت أن سبب عبادة وَدّ ويغوث ويعوق ونسراً واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قال شيخنا: "وهذه العلة التى لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هى التى أوقعت كثيراً من الأمم إما فى الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذى يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 لا يفعلونها فى بيوت الله، ولا وقت السحر. منهم من يسجد لها. وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه فى المساجد. فلأجل هذه المفسدة حسم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة فى المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس. فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد المصلى ما قصده المشركون، سدا للذريعة". قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة فى تلك البقعة، فهذا عين المخادعة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه. فقد صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة. والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله والنهى عنه. ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال: سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَآله وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ". وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه. وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم قالَ: " قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ". وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ". فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه. وقولها: "خشى" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره. وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ". وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ" رواه الإمام أحمد. وعن ابن عباس قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عَليْه وسَلمَ زَائرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر. وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه. فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه. وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إِلا الْمَقبَرَةَ وَالْحَمامَ". رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة، وصححه أبو حاتم بن حبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلى وبين القبلة. فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا". وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه: منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة. ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون. ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور. ومنها: أن موضع مسجده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً: ولم ينقل ذلك التراب، بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه، كما ثبت فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال: "لَمّا قَدِمَ النبىُّ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلم المدِينَة فَنزَلَ بأَعْلَى المدِينَةِ فى حَىّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فأَقَامَ النّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ فيهِمْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى مَلاء بَنىِ النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلدِى السُّيُوفَ، وَكَأَنى أَنْظُرُ إِلى النَّبى صلّى اللهُ عليْه وسلّم عَلَى رَاحِلَتهِ، وأبو بكر رِدفَهُ، ومَلأُ بَنِى النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حتى أَلْقَى بِفناءِ أبي أَيُّوبَ. وكان يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّىَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلّى فى مَرَابضِ الْغَنمِ، وَأنّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فأَرْسَلَ إِلى مَلإٍ بَنى النَّجّارِ، فَقَالَ: يَا بنِى النجّارِ، ثَامِنُونى بحَائِطِكُمْ هذَا. قَالُوا: لا واللهِ، مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إلى اللهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فكَانَ فيه ما أقُولُ لكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ. وفيه خَرِبٌ. وفيه نخْل. فأمَرَ النّبىُّ صَلّى اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَاله وسلّم بِقُبُورِ المشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخْرِبِ فَسُويَتْ. وَبالنَّخْلِ فَقُطِعَ. فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجّعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ. وهم يَرْيَجِزُونَ، وذكر الحديث". ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها فى المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة؟ ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم. ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً. ومنها: أنه قرن فى اللعن بين متخذى المساجد عليها وموقدي السرج عليها. فهما فى اللعنة قرينان. وفى ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها. ولهذا قرن بينهما. فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالي عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] . ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم التى أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم. فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم. قال الشافعى: "أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم فى كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال- بعد أن ذكر حديث أبى سعيد أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "جعلت لى الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام" وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نهى عن الصلاة فى سبع مواطن، وذكر منها المقبرة" قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة فى المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فصل ومن ذلك اتخاذها عيداً. والعيد: ما يعتاد مجيئه وقصده: من مكان وزمان. فأما الزمان، فكقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأيَّامُ مِنًى، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ". رواه أبو داود وغيرهُ. وأما المكان، فكما روى أبو داود فى سننه أن رجلا قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فقالَ: أَبِها وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ المُشْرِكِينَ، أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْياَدِهِمْ؟ قالَ: لا. قال: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" وكقوله: "لا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا". والعيد: مأخوذ من المعاودة، والاعتياد، فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذى بقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة، أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء، ومثابة، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فاتخاذ القبور عيداً هو من أعياد المشركين التى كانوا عليها قبل الإسلام، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى سيد القبور، منبها به على غيره. فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرنى ابن أبى ذئب عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيداً، وَصَلُّوا عَلَىَّ فإِنَّ صلاَتَكُمْ تَبْلُغُنىِ حَيْثُ كَنْتُمْ". صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير. وقال أبو يعلى الموصلى، فى مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا زيد ابن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم، من ولد ذى الجناحين، حدثنا على بن عمر عن أبيه عن على بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى عن جدى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى مختاراته. وقال سعيد بن منصور فى السنن: حدثنا حبان بن على، حدثنى محمد بن عجلان عن أبى سعيد مولى المُهْرى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى". وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرنى سهيل بن أبى سهيل قال: رآنى الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عند القبر، فنادانى، وهو فى بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالى رأتيك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله به، وذلك يقتضى ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: "ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره أولى بالنهى كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله "ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً" أى لا تعطلوها من الصلاة فيها، والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور. فأمر بتحرى النافلة فى البيوت، ونهى عن تحرى العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم، ثم إنه عقب النهى عن اتخاذه عيداً بقوله: "وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم" يشير بذلك إلى أن ما ينالنى منكم من الصلاة والسلام تحصل مع قربكم من قبرى وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً". وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذى إنما يكون فى العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذى يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت. وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التدليس والتلبيس، بعد التناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر ملازمة إتيانه بقوله: "لا تجعلوا عيداً" فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان. فإن لم يكن هذا تنقيصاً فليس للتنقيص حقيقة فينا، كمن يرمى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه برئ، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة، بعد الشرك، أسهل إثما، وأخف عقوبة من تعاطى مثل ذلك فى دينه وسنته. وهكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 غيرت ديانات الرسل. ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ. قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك. فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها واتيانها، ولا تجعل كالعيد الذى يجئ من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشى أن يتخذ مسجداً"؟ وكيف يقول: "لا تجعلوا قبرى عيداً، وصلوا على حيثما كنتم"؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟ وهذا أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين رضى الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، واستدل بالحديث. وهو الذى رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده على رضى الله عنه، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن، شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً. قال شيخنا: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرب النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط. فصل ثم إن فى اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التى لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من فى قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك. وَلكِنْ مَا لِجُرْحٍ بمَيتٍ إِيَلامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامهاً، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الْديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التى كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا فى الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدى ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوى الفاقات، ومعافاة أولى العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذى جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا فى التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التى يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه فى السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين. وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام. هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم. إذ هى فوق ما يخطر بالبال، أو يدور فى الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام فى قوم نوح، كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يئول إليه، وأحكم فى نهيه عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى فى اتباعه وطاعته، والشر والضلال فى معصيته ومخالفته. ورأيت لأبى الوفاء بن عقيل فى ذلك فصلاً حسناً، فذكرته بلفظه، قال: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندى كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاى افعل بى كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور. وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ويتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء. ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر، أو محمد وعلى، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر". انتهى. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى القبور، وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً. فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن تتخذ أعياداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها، كما روى مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى قال: قال على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بن أبى طالب رضى الله عنه: "أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عليهِ رَسُولُ صلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وَسلّم أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ، وَلا قَبْرًا مُشْرِفاً إِلا سَوَّيْتَهُ". وفى صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شُفَى قال: "كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس. فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون فى مخالفة هذين الحديثين. ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب". ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم فى صحيحه عن جابر قال: " نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِنَاءٌ". ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود والترمذى فى سننهما عن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى أنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا". قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره. ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه" وهؤلاء لا يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص. ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بأجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره. وأوصى الأسود بن يزيد: "أن لا تجعلوا على قبرى آجرا". وقال إبراهيم النخعى: "كانوا يكرهون الأجر على قبورهم". وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: "أن لا تضربوا على قبرى فسطاطاً". وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطاً. والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب. مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليها وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 محادون لما جاء به. وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها. وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسى: "ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبى صلى الله تعالى عليه من فعله. ولأن فيه تضييعا للمال فى غير فائدة، وإفراطاً فى تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر. ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا" متفق عليه. وقالت عائشة: "إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لئلا يتخذ مسجداً" لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها. وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها، والصلاة عندها". انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم فى ذلك كتاباً وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاه منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول فى دين عباد الأصنام. فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقصده من النهى عما تقدم ذكره فى القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن فى ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره. فمنها: تعظيمها المواقع فى الافتتان بها. ومنها: اتخاذها عيدا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها. وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف، وإلى غير ذلك. ومنها: الدخول فى لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، ومنها: الشرك الأكبر الذى يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم بما يفعل عند قبورهم. ويكرهونه غاية الكراهة. كما أن المسيح يكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ما يفعله النصارى عند قبره. وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرءون منهم. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتمْ عِبَادِى هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياَءَ وَلكِنْ مَتَّعْتهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُورًا} [الفرقان: 17-18] . قال الله للمشركين {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً} [الفرقان: 19] الآية، وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمىَ إِلهَينْ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍ} [المائدة: 116] الآية، وقال تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءٍ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ، أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِم مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41] . ومنها: مشابهة اليهود والنصارى فى اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير، والإثم العظيم. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله. فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه فى المساجد. ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه.، ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد. ودين الله الذى بعث به رسوله بضد ذلك. ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين، عمروا المشاهد، وأخربوا المساجد. ومنها: أن الذى شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند زيارة القبور: إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له. فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين وجعلواً المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاورا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له. فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التى شرعها الله تعالي على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التى شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك. قالت عائشة رضى الله عنها: "كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله تعالى عليهِ وَآلهِ وَسلم كُلّمَا كانَ لَيْلَتُهَا مِنْهُ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ الّليْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ الّلهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقيع الغَرْقَدِ" رواه مسلم. وفى صحيحه عنها أيضاً: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنّ رَبّكَ يأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: قُولِى: السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الديَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدَمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخَرِينَ، وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ". وفى صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ يُعَلمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلامُ عَلَى أهل الديَارِ". وفى لفظ: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية". وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كُنْتَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَمنْ أرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ، وَلا تَقُولُوا هُجْرًا" رواه أحمد والنسائى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور، سدا للذريعة، فلما تمكن التوحيد فى قلوبهم أذن لهم فى زيارتها على الوجه الذى شرعه ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذى يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "زُورُوا القُبُورَ، فَإِنّهَا تذكرُ المَوْتَ ". وعن على بن طالب رضى الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنى كُنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنّهَا تُذكرُكُمُ الآخِرَةَ" رواه الإمام أحمد. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ تَعالى عليهِ وآلهِ وسلمَ بِقُبُورِ المَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَنَحْنُ بِالأَثَرِ" رواه أحمد، والترمذى وحَسَّنه. وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزوروا القُبُورَ، فَإِنّهَا تُزَهدُ فى الدُّنْيَا، وَتُذَكرُ الآخِرَةَ" رواه ابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن أبى سعيد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كٌنْتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزَورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً". فهذه الزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟. وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك". ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضى الله عنه يسلم على النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو". ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وفى الترمذى وغيره مرفوعاً. "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ". فجرد السلف العبادة الله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من السلام على أصحابها والاستغفار لهم، والترحم عليهم. وبالجملة. فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له. ولهذا شرع فى الصلاة عليه من الدعاء له، وجوباً واستحباباً، ما لم يشرع مثله فى الدعاء للحى. قال عوف بن مالك: "صَلّى رسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وسّلَم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِه وَهُوَ يَقُولُ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحمهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسعْ مَدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقهِ مِنَ الْخَطَايَا كما نَقّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أهْلِه، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ. وَأَدْخِلْهُ الجنة، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، أوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. حتى تمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا المَيتُ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله تَعَالَى عليهِ وآلهِ وسلم عَلَى ذلِكَ المَيتِ" رواه مسلم. وقال أبو هريرة رضى الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول فى صلاته على الجنازة: "الّلهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا وَأنْتَ هَدَيْتَهَا لِلإِسْلاَمِ، وَأنْتَ قَبَضْتَ روُحَهَا وَأنْتَ أعْلَمُ بِسِرهَا وَعَلانِيَتِهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ" رواه الإمام أحمد. وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الميت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ". وقالت عائشة، وأنس عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا مِنْ مَيتٍ يُصَلى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إلاّ شفعوا فِيهِ". رواه مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم. فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له والاستغفار، والشفاعة فيه. ومعلوم أنه فى قبره أشد حاجة منه على نعشه. فإنه حينئذ معرَّض للسؤال وغيره. وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ". فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، لا نشفع به. فبعد الدفن أولى وأحرى. فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذى قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به. وقصدوا بالزيارة التى شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إحساناً إلى الميت وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذى هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه فى المساجد، وأوقات الأسحار. ومن المحال أن يكون دعاء الموتى، أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهذه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم. فليوقفوا على أثر واحد: أو حرف واحد مى ذلك، بلى، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التى خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد، كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد فى ذلك عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة. وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها. وقد ذكرنا إنكار عمر رضى الله عنه على أنس رضى الله عنه صلاته عند القبر. وقوله له: القبر، القبر. وقد ذكر محمد بن إسحاق فى مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبى خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا فى بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية. فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبى العالية: ما كان فيه؟ قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم. وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس لا ينبشونه، فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: مُذْ كم وجدتموه مات؟ قال: مذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شىء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع" ففى هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد. فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التى خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استشفى به، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله، بل على نقل ما هو دونه. وحينئذ، فلا يخلو، إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه فى غير تلك البقعة، أولا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملاً؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين فى كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً. فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير. فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال: "صليت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ بِأَصْحابَ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] . ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: "أين يذهب هؤلاء؟ "، فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فهم يصلون فيه، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا. كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعاً. فمن أدركته الصلاة منكم فى هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض، ولا يتعمدها"، وكذلك أرسل عمر رضى الله تعالى عنه أيضاً فقطع الشجرة التى بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. بل قد أنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها. فروى البخارى فى صحيحة عن أبى واقد الليثى قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "اللهُ أَكْبَرُ، هذَا كما قَالَتْ بَنُو إِسْرَائيلَ: {اجْعَلَ لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبْلَكُمْ". فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها. فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده؟ فأى نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون. قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قِبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها. ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم فى هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شىء والسلف على شىء، كما قيل: سَارَتْ مُشَرقَة وَسِرْتُ مُغَرباً ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرقٍ وَمُغَربِ والأمر والله أعظم مما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقد ذكر البخارى فى الصحيح عن أم الدرداء رضى الله عنها قالت: "دخل على أبو الدرداء مغضباً، فقلت له: مالك؟ "، فقال: "والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، إلا أنهم يصلون جميعا". وروى مالك فى الموطأ عن عمه أبى سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: "ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، يعنى الصحابة رضى الله عنهم". وقال الزهرى: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكى، فقلت له: ما يبكيك؟ "، فقال: "ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت". ذكره البخارى. وفى لفظ آخر: "ما كنت أعرف شيئاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلا قد أنكرته اليوم". وقال الحسن البصرى: "سأل رجل أبا الدرداء رضى الله عنه فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين أظهرنا، هل كان ينكر شيئاً مما نحن عليه؟ فغضب، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ ". وقال المبارك بن فضالة: "صلى الحسن الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: "تلوموننى على البكاء، ولو أن رجلاً من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئاً مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه". وهذه هى الفتنة العظمى التى قال فيها عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجرى على الناس، يتخذونها سنة إذا غيرت قيل: غيرت السنة، أو هذا منكر". وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا التفات إليه. فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبى الدرداء وأنس كما تقدم. وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنى محمد بن عبيد بن ميمون، حدثنى عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بن إسحاق الجعفرى قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان فى المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: "أرأيت إن كثر الجهال، حتى يكونواً هم الحكام، فهم الحجة على السنة؟ "، فقال ربيعة: "أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء". فصل ومن أعظم مكايده: ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام، التى هى من عمله، وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك، وعلق الفلاح باجتنابه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخْمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . فالأنصاب: كل ما نصب يعبد من دون الله: من حجر، أو شجر، أو وثن، أو قبر. وهى جمع، واحدها نصب، كطنب وأطناب. قال مجاهد: وقتادة، وابن جريج: "كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا: وليست بأصنام، إنما الصنم ما يصور وينقش". وقال ابن عباس: "هى الأصنام التى يعبدونها من دون الله تعالى". وقال الزجاج: "حجارة كانت لهم يعبدونها، وهى الأوثان". وقال الفراء: "هى الآلهة التى كانت تعبد، من أحجار وغيرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وأصل اللفظة: الشئ المنصوب الذى يقصده من رآه، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] . قال ابن عباس: إلى غاية، أو علم يسرعون. وهو قول أكثر المفسرين. وقال الحسن: "يعنى إلى أنصابهم، أيهم يستلمها أوّلا". قال الزجاج: "وهذا على قراءة من قرأ "نصب" بضمتين، كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . قال: ومعناه: أصنام لهم". والمقصود: أن النصب كل شئ نصب من خشبة، أو حجر، أو علم. والإيفاض الإسراع. وأما الأزلام. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: "هى قداح كانوا يستقسمون بها الأمور. أى يطلبون بها علم ما قسم لهم". وقال سعيد بن جبير: "كانت لهم حصيات إذا أراد أحدهم أن يغزو، أو يجلس استقم بها". وقال أيضاً: "هى القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية فى أمورهم. أحدهما عليه مكتوب: أمرنى ربى، والآخر: نهانى. فإذا أرادوا أمرا ضربوا بها، فإن خرج الذى عليه أمرنى فعلوا ما هموا به. وإن خرج الذى عليه نهانى تركوه". وقال أبو عبيد: "الاستقسام: طلب القسمة". وقال المبرد: "الاستقسام: أخذ كل واحد قسمه". وقيل: الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح، كقسم اليمين. وقال الأزهرى: "وأن تستقسموا بالأزلام: أى تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين". وقال أبو إسحاق الزجاج وغيره: "الاستقسام بالأزلام حرام". ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وذلك دخول فى علم الله عز وجل الذى هو غيب عنا. فهو حرام كالأزلام التى ذكرها الله تعالى. والمقصود: أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام. فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهن، وطلب علم ما استأثر الله به. هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا، والذى جاء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطالهما، وكسر الأنصاب والأزلام. فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين: من شجرة، أو عمود أو وثن، أو قبر أو خشبة، أو غير ذلك. والواجب هدم ذلك كله، ومحو أثره كما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليا رضى الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض. كما روى مسلم فى صحيحه عن أبى الهياج الأسدى. قال: قال لى على رضى الله عنه: "أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ تعالِى عليه وآله وسلم؟ أَنْ لا أَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إِلا سَوَّيْتُهُ". وعمى الصحابة بأمر عمر رضى الله عنه قبر دانيال، وأخفوه عن الناس. ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التى بايع تحتها رسول الله صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وآله وسلم أصحابه أرسل فقطعها. رواه ابن وصاح فى كتابه فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: "أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقطع الشجرة التى بويع تحتها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة". قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: "أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر رضى الله عنه". فإذا كان هذا فعل عمر رضى الله عنه بالشجرة التى ذكرها الله تعالى فى القرآن، وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان، التى قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البلية بها؟. وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هدم مسجد الضرار. ففى هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور. فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها، حتى تسوى بالأرض، وهى أولى بالهدم من مسجد الضرار. وكذلك القباب التى على القبور يجب هدمها كلها، لأنها أسست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم. فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم. وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً. وقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بهدم القبور المشرفة كما تقدم. فهدم القباب والبناء والمساجد التى بنيت عليها أولى وأحرى، لأنه لعن متخذى المساجد عليها ونهى عن البناء عليها فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله ونهى عنه. والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما. فهو أشد غيرة وأسرع تغييراً. وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، وطفيه. فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قال الإمام أبو بكر الطرطوشى: "انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهى ذات أنواط، فاقطعوها". وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبى شامة فى كتاب الحوادث والبدع: "ومن هذا القسم ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكى لهم حاك أنه رأى فى منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله، وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن فى قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهى من بين عيون، وشجر وحائط، وحجر. وفى مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة. كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، فى نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط التى فى الحديث"، ثم ساق حديث أبى واقد: "أَنّهُمْ مَرُّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ تَعَالَى عليهِ وآلهِ وَسلم بِشَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ خَضْرَاءَ يقالُ لهَا: ذَات أَنْوَاطٍ، فقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كَما لَهُمْ ذَات أَنْواطٍ. فقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إٍلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة. قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية: "أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح، أو ولد، قال: امضوا بى إلى العافية، فيعرف فيها الفتنة، فخرج فى السحر فهدمها، وأذن للصبح عليها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قال: اللهم إنى هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن". وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلق، والنصب الذى كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنصب الذى كان تحت الطاحون الذى عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم فى نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه النصب الذى كان عند الرحبة يسرج عنده، ويتبرك به المشركون. وكان عموداً طويلاً على رأسه حجر كالكرة. وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير، يعبده المشركون يسر الله كسره. فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، أى تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب، ويستلمونه. ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذى أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى، كما ذكر الأزرقى فى كتاب تاريخ مكة عن قتادة فى قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125] . قال: "إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق". وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أنصاب القبور، وهى أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين، وقد تقدم. ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحى إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته، واتخاذه عيدا، وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه. فيسعى الجاهلون المشركون فى قتله وعقوبته ويكفرونه. وذنبه عند أهل الإشراك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، والدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأن لا يعبد إلا الله. فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر. ويسرى ذلك فى نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه، وإن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجاً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فصل ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهى عن اتخاذ القبور أوثانا وأعياداً وأنصابا، والنهى عن اتخاذها مساجد، أو بناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم، ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه. فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى عليهما السلام، والرافضة مع على رضى الله عنه. فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه. وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هى باتباع ما دعو إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعياداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم، فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأى تعظيم لهم واحترام فى هذا؟. وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التى يكرهها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفاً بما اشتملت عليه من الكلام الطيب والعمل الصالح، مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو فى بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك. ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه، وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطانى الذى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق فى القلب. وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بكليته، وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه، لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات، التى هى وساوس النفوس وتخيلاتها. ومن بعد عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه: أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور. وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أى شئ استحسنه ملكه واستعبده. فالمعرض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره عبدُ الصُّورَ، شاء أم أبى، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. فصل فإن قيل: فما الذى أوقع عباد القبور فى الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟ قيل: أوقعهم فى ذلك أمور: منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك. ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم. ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التى هى مناقضة لدين الإسلام. وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال. والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته الفتنة بكل طريق كما تقدم. ومنها: حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلانى فى شدة فخلص منها. وفلاناً دعاه به فى حاجة فقضيت له. وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شىء كثير يطول ذكره. وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات. والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترتاق مجرب. والشيطان له تلطف فى الدعوة فيدعوهم أولا إلى الدعاء، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه، لا لأجل القبر. فإنه لو دعاه كذلك فى الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا فى إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر، ولو كان كافراً. وقد قال تعالى: {كُلاَّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ ربك ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] وقد قال الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيُر} [البقرة: 126] . فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه، ولا محباً له، ولا راضياً بفعله فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه، أو يشترط فى دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه. فيظن أن عمله صالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مرضى لله، ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له فى الخيرات. وقد قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَاذُكروا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُل شَىءٍ} [الأنعام: 44] . فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعى. وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فيقضى حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده. والمقصود: أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه فى بيته ومسجده وأوقات الأسحار. فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى، من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذى قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك. فقال أبو الحسين القدورى فى شرح كتاب الكرخى: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: "لا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به. قال: وأكره أن يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك. وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام". قال أبو الحسين: "أما المسألة بغير الله فمنكرة فى قولهم، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وأما قوله: بمعقد العز من عرشك، فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف". وقال: "وروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا بذلك، قال: ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التى خلق بها العرش، مع عظمته. فكأنه سأله بأوصافه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقال ابن بلدجى فى شرح المختار: "ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول فى دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك. وعن أبى يوسف جوازه". وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا، هو عند محمد حرام. وعند أبى حنيفة وأبى يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب. وفى فتاوى أبى محمد بن عبد السلام: "أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشىء من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف فى نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لاعتقاده أن ذلك جاء فى حديث، وأنه لم يعرف صحة الحديث". فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ فى تعظيمة واحترامه، وأنجع فى قضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله. ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده. ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا قدس الله روحه: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، ابعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتثمل لهم الشيطان فى صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام. وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً. وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله". والمرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به. وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين. الثالثة: أن يسأله نفسه. الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء فى المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين. وهى محرمة، وما علمت فى ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب. والحكاية المنقولة عن الشافعى أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبى حنيفة، من الكذب الظاهر. فصل فى الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ الآخِرَةَ". الثانى: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحى مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحى فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى. لأنه قد صار فى دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحى بمن يزوره ويهدى له. ولهذا شرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط. ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعواً بهم، ولا يصلى عندهم. الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور. وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قالوا: الميت المعظم الذى لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به. وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابى وغيرهما. وصرح بها عباد الكواكب فى عبادتها. وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذى أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. وهو الذى قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه. فوقف المشركون فى طريقه وناقضوه فى قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى شق، وهؤلاء فى شق. وهذا الذى ذكره هؤلاء المشركون فى زيارة القبور هو الشفاعة التى ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذى بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم. وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قال تعالى: {أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43-44] . فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذى يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة فى الحقيقة إنما هى له، والذى يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التى أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهى التى أبطلها الله سبحانه فى كتابه، بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفَاعَةٌ} [البقرة: 123] وقوله {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنُفْقِوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه وَلا خُلّةُ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ} [الأنعام: 51] وقال: {اللهُ الّذِى خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْضَ بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم اُسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] . فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] . وقال: {مَنْ ذَا الّذِى يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه. والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور. فالشفاعة التى أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتى أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذى لا يشفع ولا يتقدم بين يدى مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع فى فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لَمِنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِى لَهُ قَوْلاً} [طه: 109] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شىء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم فى الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولى. والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذى لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم فى الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضى. فأما الغنى الذى غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من فى السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته. لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة. قال تعالي: {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخلق ما يشاء وَاللهُ عَلَى كَل شَىءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17] ، وقال سبحانه فى سيدة آى القرآن: آية الكرسى: {لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال: {قل لله الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 44] . فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التى نفاها الله سبحانه فى القرآن هى هذه الشفاعة الشركية التى يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هى المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة فى الحقيقة هى منه، فإنه الذى أذن، والذى قبل، والذى رضى عن المشفوع والذى وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله. فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذى يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذى يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟} ، إلى قوله: {قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 43-44] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع. وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التى تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده فى أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فى أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذى عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذى يوجب الرد، وبين الشفاعة التى تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هى سعى فى سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذى يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذى يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه فى أكثر أموره، وهو فى الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده. فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فماله مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فصل ومن مكايد عدو الله ومصايده، التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50] . ولقد أحسن القائل: تُلِىَ الكتَابُ، فأطْرَقُوا، لا خِيفَةً ... لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سْاهٍ لاهِى وأتَى الغِنَاءُ، فكالحَميرِتَنَاهَقُوا ... وَاللهِ مَا رَقَصُوا لأجْلِ اللهِ دُفِ وَمِزْمَارٌ، وَنغْمَةُ شَاذِنٍ ... فمتَى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهى؟ ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لَمَّا رَأوْا ... تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِى سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقاً، إِذْحَوَى ... زَجْرًا وتخْوِيفاً مَنَاهِى وَرَأَوْهُ أَعْظمْ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ ... شهَوَاتِها، ياذبحها المُتَناهِى وَأتى السماعُ مُوافِقاًأَغْرَاضَها ... فَلأَجْلَ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ أيْنَ المُسَاعِدُلِلْهَوَىِ مِنْ قاطعٍ ... أَسْبَابَهُ، عِنْدَ الجَهُولِ السّاهى؟ إنْ لَمْ يَكُنْ خَمَر الجُسُومِ، فإنَّهُ ... خَمْرُ العُقولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِى فانظْر إِلى النّشْوان عِنْدَ شَرَابَه ... وانْظُرْ إلى النَّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِى وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ ... مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 واحكم فأىَّ الخمرتين أحق بالتحريم، والتأثيم عند الله؟ وقال آخر: برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ ... يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا وكم قلْتُ يَاقَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى ... شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة ... إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم ... لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا ... رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى ... وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من، جميع طوائف الملة. قال الإمام أبو بكر الطرطوشى فى خطبة كتابه، فى تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتى المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغناً أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم فى حب الأغانى واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذى يقربهم إلى الله وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِين نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِه جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبه أهل الباطل، بالحجج التى تضمنها كتاب الله، وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم فى أقاصى الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين فى بدعتها. والله ولى التوفيق. ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه، وقال: "إذا اشترى جارية فوجدها مغنية له أن يردها بالعيب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق". قال: "وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب"، وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبى، وغيرهم، لا اختلاف بينهم فى ذلك، ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة فى المنع منه. قلت: مذهب أبى حنيفة فى ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهى كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا فى ذلك حديثاً لا يصح رفعه. قالوا: ويجب عليه أن يجتهد فى أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان فى جواره وقال أبو يوسف، فى دار يسمع منها صوت المعازف والملاهى: "أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض"، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض". قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه وضربه سياطاً، وإن شاء أزعجه عن داره. وأما الشافعى: فقال فى كتاب "أدب القضاء": "إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه فهو سفيه تردّ شهادته". وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضى أبى الطيب الطبرى، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ. قال الشيخ أبو إسحاق فى "التنبيه": "ولا تصح الإجارة على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافاً". وقال فى "المهذب": "ولا يجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم". فقد تضمن كلام الشيخ أمورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة. الثانى: أن الاستئجار عليها باطل. الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضاً عن الميتة والدم. الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغنى، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله فى مقابلة محرم. وأن بذله فى ذلك كبذله فى مقابلة الدم والميتة. الخامس: أن الزمر حرام. وإذا كان الزمر، الذى هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغى لمن شم رائحة العلم أن يتوقف فى تحريم ذلك. فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربى الخمور. وكذلك قال أبو زكريا النووى في "روضته". القسم الثانى: أن يغنى ببعض آلات الغناء، بما هو فى شعار شاربى الخمر، وهو مطرب كالطنبور، والعود والصنبح، وسائر المعازف، والأوتار. يحرم استعماله، واستماعه. قال: وفى اليراع وجهان، صحح البغوى التحريم. ثم ذكر عن الغزالى الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو الشَّبَّابة. وقد صنف أبو القاسم الدولعى كتاباً فى تحريم اليراع. وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذى جمع الدف والشبابة. والغناء. فقال فى فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد- ممن يعتد بقوله فى الإجماع والاختلاف- أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعى إنما نقل فى الشبابة منفردة، والدف منفرداً، فمن لا يحصل، أو لا يتأمل، ربما اعتقد خلافاً بين الشافعيين فى هذا السماع الجامع هذه الملاهى، وذلك وهم بين من الصائر إليه، تنادى عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه، ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق أو كاد. قال: وقولهم فى السماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المذكور: إنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم، فعليه ما فى قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . وأطال الكلام فى الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم: المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه. والشافعى وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه: من أغلظ الناس قولاً فى ذلك. وقد تواتر عن الشافعى أنه قال: "خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن". فإذا كان هذا قوله فى التغبير، وتعليله: أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد فى الدنيا، يغنى به مغنّ فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخذة على توقيع غنائه- فليت شعرى ما يقول فى سماع التغبير عنده كتفلة فى بحر. قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل. قال سفيان بن عيينة: "كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين. فصل وأما مذهب الإمام أحمد؛ فقال عبد الله ابنه: "سألت أبى عن الغناء؟ فقال: الغناء ينبت النفاق فى القلب، لا يعجبنى"، ثم ذكر قول مالك: "إنما يفعله عندنا الفساق". قال عبد الله: وسمعت أبى يقول: سمعت يحيى القطان يقول: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة فى النبيذ، وأهل المدينة فى السماع، وأهل مكة فى المتعة، لكان فاسقاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قال أحمد: وقال سليمان التيمى: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله". ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها وعنه فى كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان. ونص فى أيتام ورثوا، جارية مغنية، وأرادوا بيعها، فقال: "لا تباع إلا على أنها ساذجة؛ فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفاً أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوى ألفين؛ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة". ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. فصل وأما سماعه من المرأة الأجنبية، أو الأمرد فمن. أعظم المحرمات، وأشدها فساداً للدين. قال الشافعى رحمه الله: "وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته"، وأغلظ القول فيه. وقال: "هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا". قال القاضى أبو الطيب: "وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقاً". قال: وكان الشافعى يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: "وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن". قال: "وأما العود والطنبور وسائر الملاهى فحرام، ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما". قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن. فإنه قال: "وما خالف فى الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجى حكى عنه: أنه كان لا يرى به بأساً، والثانى: عبيد الله بن الحسن العنبرى، قاضى البصرة، وهو مطعون فيه". قال أبو بكر الطرطوشى: "وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وطاعة، ورأت إعلانه فى المساجد والجوامع، وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة. وليس فى الأمة من رأى هذا الرأى". قلت: ومن أعظم المنكرات: تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله فى المسجد الأقصى، عشية عرفة. ويقيمونه أيضاً فى، مسجد الخيف أيام منى. وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفى مراراً، ورأيتهم يقيمون بالمسجد الحرام نفسه والناس فى الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم. ورأيتهم يقيمون بعرفات، والناس فى الدعاء، والتضرع، والابتهال والضجيج إلى الله، وهم فى هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء. فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح فى عدالة من أقرهم ومنصبه الدينى. وما أحسن ما قال بعض العلماء وقد شاهد هذا وأفعالهم: أَلا قُلْ لَهُمْ قَوْلَ عَبْدٍ نَصُوحٍ ... وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمعْ: مَتَى عَلِمَ الناسُ فى دِينِنا ... بأَنّ الغِنَا سُنَّةٌ تُتّبَع؟ وأَنْ يأكلَ المَرْءُ أَكْلَ الحِما ... رِ وَيَرْقُصَ فى الجَمْعِ حَتَّى يقَعْ؟ وقَالُوا: سَكِرْنَا بِحُبَّ الإِلهِ ... وَمَا أسْكَرَ القَوْمَ إلا القِصَعْ كَذَاكَ البَهَائمِ إِنْ أُشْبِعَت ... يُرَقَّصُهَا رِيُّها والشَّبُعْ ويَسْكِرُهُ النَّاىُ، ثُمَّ الغِنا ... ويس لَوْ تُلِيَتْ ما انْصَدَعْ فيَا لَلْعقُولِ، وَيَا لِلنُّهَى ... أَلا مُنْكِرٌ مِنْكُم لِلبِدَعْ تُهَانُ مَسَاجِدُنَا بَالسّما ... عِ وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ البِيَعْ وقال آخر، وأحسن ما شاء: ذَهَبَ الرَّجَالُ وحال دُونَ مجَالِهمْ ... زُمَرَّ مِنَ الأوبْاَشِ وَالأَنذَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 زَعَمُوا بأَنّهُمُ عَلَى آثَارِهِمْ ... سَارُوا، ولكِنْ سِيَرةَ البَطّالِ لَبِسُوا الدُّلُوقَ مُرقَّعاً، وَتَقَشّفُوا ... كَتَقَشُّفِ الأَقْطَابِ وَالأَبْدَالِ قَطَعُوا طَرِيقَ السَّالِكِينَ، وَغَوَّرُوا ... سُبُل الْهُدَى، بجَهَالةٍ وَضَلالِ عَمَروُا ظَوَاهِرَهُمْ بأَثوَابِ التٍّقَى ... وَحَشَوْا بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الأدْغالِ إِنْ قُلتَ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ ... هَمزُوكَ هَمْزَ المُنْكِر المُتَغَالى أَوْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ، والأُولى ... تَبِعُوهُمُ فى القَوْلِ وَالأَعْمَالِ أوْ قُلْتَ: قَالَ الآلُ، آلُ المُصْطَفى ... صَلّى عَليهِ اللهُ، أَفْضَلِ آلِ أوْ قُلْتَ: قَالَ الشّافِعِىُّ، وأحمد ... وأَبو حَنِيفَةَ، وَالإِمَامُ العَالِى أَوْ قُلْتَ: قَالَ صِحَابُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ... فَالكُلُّ عِنْدَهُمُ كَشِبْهِ خَيَالِ وَيَقُولُ: قَلْبى قَالَ لِى، عَنَ سِرَّهِ، ... عَنْ سر سرى، عَنْ صَفَا أَحْوَالِى عَنْ حَضْرَتى، عَنِ فِكْرَت عَنْ خَلْوَتى ... عَنْ شَاهِدِى عَنْ وَارِدِى عَنْ حَالِى عَنْ صَفْوِ وَقْتى، عَنْ حَقِيقِة مَشهدى ... عَنْ سِرَ ذَاتى، عَنْ صِفَاتِ فِعَالِى دَعْوَى، إذَا حقَّقْتَهَا، أَلْفَيْتَهَا ... أَلْقَابَ زُورٍ، لُفَّفَتْ بِمُحالِ تَركُوا الحَقَائِقَ وَالشّرائِعَ، وَاقْتدَوْا ... بِظَوَاهِرِ الجُهَّالِ وَالضُّلالِ جَعَلُوا المِراد فَتْحاً، وألُفَاظَ الخَنَا ... شَطْحاً، وَصَالُوا صَوْلَةَ الإِدْلال نَبِذُوا كِتَابَ اللهِ خَلْفَ ظُهُورِهْم ... نَبْذَ المُسَافرِ فَضْلَةَ الأَكّالِ جَعَلُوا السَّماعَ مَطِيّة لِهَوَاهُمُوَ ... غَلَوْا فَقَالُوا فيهِ كُلَّ مُحَالِ هُوَ طَاعَةٌ، هُوَ قُرْبةٌ، هُوَ سُنةٌ ... صَدَقُوا لِذَاكَ الشَّيْخِ ذِى الإضلالِ شَيْخٌ قَديِمٌ، صَادَهُمْ بَتَحَيل ... حَتَّى أَجَابُوا دَعوةَ المُحْتَالِ وَرَأَوْا سَمَاعَ الشعر أنْفَعَ للفَتى ... مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعٍ لَهُمْ بِتوِالِ هَجَرُوا لَهُ القُرْآنَ وَالأَخْبَارَ وَالآ ... ـثارَ، إٍذْ شهِدَتْ لَهُمْ بِضَلالِ تَاللهِ مَا ظَفِرَ العَدُوُّ بِمثْلِهَا ... مِنْ مِثْلهِمْ، وَاخَيْبَةَ الآمالِ نَصَبَ الحِبَال لَهُمْ، فَلمْ يَقَعُوا بهَا ... فأَتى بِذَا الشّرَكِ المُحِيطِ الغالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فإذا هموا وَسَطِ العَرِينَ مُمَزَّقىال ... آثْوابِ، والأدْيَانِ، والأحْوَالِ لا يَسْمَعُونَ سِوَى الّذِى يَهْوُونهُ ... شُغُلا بِهِ عنْ سائرِ الأشْغَالِ ودُعُوا إِلى ذاتِ الْيَمينِ فأَعْرَضُوا ... عَنْهَا، وسَارَ القَوْمُ ذاتَ شِمَالِ خَرُّوا عَلَى القرآنِ عِنْدَ سَمَاعه ... صُمَّا، وعَميَاناً ذَوِى إِهمَالِ وإذَا تلاَ القَارِى عَلَيْهِمْ سُورَةً ... فأطَالهَا، عَدُّوهُ فى الأثْقَالِ وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَطَلتَ، وَلَيسَ ذَا ... عَشْرٌ، فَخَفَّفْ، أَنْتَ ذُو إِملالِ هذَا، وَكَمْ لَغْو، وَكم صَخَبٍ، وَكَم ... ضَحِكٍ بِلاَ أَدَبٍ، وَلا إجْمَالِ حَتَّى إذَا قَامَ السَّماعُ لَدَيْهِمُ ... خَشَعَتْ لهُ الأصْواتُ بالإجْلالِ وَامْتَدَّتِ الأعْنَاقُ، تَسْمعُ وَحْىَ ذَاِ ... كَ الشّيخِ مِنْ مُتَرنَمَّ قَوَّالِ وَتحَرَّكَتْ تِلكَ الرُّءُوسُ، وهَزَّهَا ... طَرَبٌ، وأشْوَاقٌ لِنَيْلِ وِصَالِ فَهُنَالِكَ الأشْوَاقُ وَالأشْجَانُ وال ... أَحوَالُ، لا أهلاً بِذِى الأحوَالِ تَالله لو كانت صحاة أبصروا ... ماذا دهاهمْ من قبيحِ فِعَالِ لكنما سُكْرُ السَّماع أَشدُّ مِنْ ... سُكرِ المدامِ، وذا بلا إشكالِ فإذا هُمَا اجتمعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً ... نالتْ من الخسرانِ كل منَالِ يَا أمَّةً لَعبتْ بدين نبيها ... كتلاعب الصبيان فى الأوحالِ أشمتوا أَهْلَ الكتابِ بدينكمْ ... والله لن يرضوا بذى الأفعالِ كم ذا نعير منهم بقريقكم ... سِرا وجهرا عندَ كل جدالِ قالوا لنا: دين عبادة أهله ... هذا السماع، فذاك دين محالِ بل لا تجئُ شريعة بجوازه ... فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤالِ لو قلتموا فسق، ومعصية، وتزْ ... بين من الشيطان للأنذالِ كنا شهدنا أنَّ ذا دين أتى ... بالحق، دين الرسل، لا بضلالِ والله منهم قدسمعنا ذاإلى اللآ ... ذان من أفواههم بمقال ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَتمَامُ ذَاكَ الْقَوْلِ بالْحِيَلِ الّتى ... فَسَخَتْ عقُودَ الدينِ فَسْخَ فِصَالِ جَعَلَتْه كالثَّوْبِ المُهَلْهَلِ نَسْجُهُ ... فِيهِ تُفَصّلُهُ مِنْ الأوصَالِ مَا شئت مِنْ مَكْرِ وَمِنْ ... خِدَع وَمنْحِيَلٍ، وَتَلْبِيسٍ بِلاَ إقلالِ فَاحَتلْ عَلَى إسْقَاطِ كُلِّ فَرِيضةٍ ... وَعَلَى حَرَامِ اللهِ بِالإِحْلالِ واحتَلْ عَلَى المَظْلُومِ يُقْلَبُ ظالمًا ... وَعَلَى الظَّلوم، بِضد تِلكَ الَحالِ وَاقلِبْ، وَحَولْ، فَالتَّحَيُّل كُلُّهُ ... فى الْقَلْبِ، وَالتَّحْوِيلُ ذُو إِعمالِ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ ذَا ظَفِرْتَ بِكُلِّ ما ... تَبْغِى مِنَ الأفْعَالِ وَالأَقوَالِ وَاحْتَلْ عَلَى شُرْبِ المُدَامِ وسَمها ... غَيْرَ اُسْمِهَا، وَاللَّفْظُ ذُو إجْمَالِ وَاحْتَلْ عَلَى أكْلِ الربَا واهْجُرْ شَنا ... عَةَ لَفْظهِ، وَاحْتَلْ عَلَى الأبْدالِ وَاحْتَلْ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَلا تَقُلْ ... هذَا زِناً، وَانْكَحْ رَخِىَّ البَالِ وَاحْتَلْ عَلَى حَل العقُودِ وفَسْخِهَا ... بَعْدَ اللزُومِ، وَذَاكَ ذُو إِشْكَالِ إِلا عَلَى المُحْتَالِ، فَهْوَ طِبِيبُهَا ... يَا مِحْنَةَ الأَدْيَانِ بِالمُحْتَالِ وَاحْتَلْ عَلَى نَقْضِ الْوُقُوفِ، وَعَوْدِهاَ ... طَلْقاً، ولا تَسْتَحِى مِنْ إِبطَالِ فَكر، وقَدر، ثُمَّ فَصلْ بَعدَ ذَا ... فإِذَا غُلِبْتَ فَلِجَّ فى الإِشْكالِ واحتل على الميراث، فانزعه من ... الورَّاث، ثم أبلَع جميع المالِ قد أثبتوا نسباً وحصراً فيكم ... حتى تحوز الإرث للأموالِ واعمد إلى تلك الشهادة واجعل ... الإبطال هَّمك تحظَ بالأبطالِ فالحصر إثبات، ونفىٌ، غير معـ ... لوم، وهذا موضع الإشكالِ واحْتَلْ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ، فإِنهُ ... رِزْقٌ هَنِى مِنْ ضَعِيفِ الحالِ لا سَوْطَهُ تخْشَى، وَلا مِنْ سَيْفه ... والقَولُ قولُكَ فى ذهابِ المالِ وَاحْتَلْ عَلَى أَكْلِ الوُقُوفِ فإِنهَا ... مِثْلُ السَّوَائِبِ رَبّةِ الإِهمالِ فَأَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ هِى بَاطِلٌ ... فى الأَصَلِ، لَمْ تحْتَجْ إلى إِبْطَالِ فالمَالُ مَالٌ ضَائِع، أَرْباَبهُ ... هَلَكُوا فَخُذْ مِنْهُ بِلا مِكْيَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وإذَا تَصِحُّ بحُكْمَ قاضٍ عَادِ ... لٍفَشُرُوطُهَا صَارَتْ إِلى اضْمِحْلاَلِ قد عَطّلَ النَّاسُ الشُّرُوطَ، وَأَهْملوا ... مَقْصُودَهَا، فَالكُلُّ فى إهْمال وَتَمامُ ذَاكَ قُضَاتُنَا، وشُهُودُنا ... فَاسْأَلْ بهِمْ ذَا خبْرَةٍ بالحَالِ أمَّا الشُّهودُ فَهُمْ عُدُول عن طري ... قِ العَدْلَ فى الأَقوَال والأفعالِ زُورًا وتَنْميقاً وكِتْمَانّا، وَتَلْ ... بيساً، وَإِسْرَافاً بِأَخْذِ نَوَالِ يَنْسَى شَهَادَتَهُ، وَيَحْلِفْ إنهُ ... ناس لهَا، والقَلْبُ ذو إِغْفالِ فإِذَا رَأَى المنقُوشَ، قال: ذَكَرْتُهَا ... يَا لَلمْذَكرِ، جِئْتَ بالآمالِ ويقُول قَائِلُهُمْ: أَخوضُ النَّارَ فى ... نِزْرٍ يَسِيرٍ؟ ذاكَ عَيْنَ خَبَالِ ثَقلْ لَى المِيزَانَ، إِنَى خَائِضٌ ... لِلمْنَكِبَيْنِ، أُجَرُّ بالأغْلالِ أَمَّا القُضَاةُ فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنُهمُ ... مَا قَدْ سَمِعْتَ، فَلا تَفُهْ بمَقَالِ ماذا تقول لمن يقول: حكمت أنـ ... ك فاسق، أو كافر فى الحالِ؟ فإِذَا اسْتَغَثْتَ أُغِثْتَ بالجَلْدِ الَّذِى ... قَدْ طَرَّقُوهُ كِمَثْلِ طَرْقِ نِعَالِ فَيَقُولُ طَقْ، فَتَقُولُ: قَطْ، فَتَعَارَضَا ... وَيكُونُ قَوْلُ الْجَلدِ ذَا إِعْمالِ فأجَارَكَ الرَّحْمنُ ضَرْبٍ، وَمنْ ... عَرْضٍ، وَمِنْ كَذِبٍ وَسُوءِ مَقَالِ هذَا وَنِسْبَةُ ذَاكَ أَجْمَعِهِ إِلى ... دِينِ الرَّسولِ، وَذَا مِنَ الأَهْوَالِ حَاشَا رَسُولُ اللهِ يَحْكُمُ بالهوَى ... والْجَهْلِ، تِلْكَ حُكُومَةُ الضّلالِ وَاللهِ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا ... لاجْتَثَّهَا بالنَّقْضِ وَالإِبطَالِ إِلا الَّتى مِنْهَا يُوافِقُ حُكْمَه ... فَهُوَ الَّذِى يَلقَاهُ بالإِقبال أَحْكَامُه عَدْلٌ، وحَق كُلُّهَا ... فى رَحْمَةٍ، ومَصالِحٍ، وحَلالِ شَهِدَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ قاطبة بَما ... فى حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَكَمالِ فإِذَا أتَتْ أَحْكَامُهُ أَلْفَيْتَهَا ... وَفْقَ العقولِ، تُزِيلُ كُلَّ عِقَالِ حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُونَ لِحُكْمِه ... مَا بَعْدَ هذَا الحْق غَيْرُ ضَلالِ للهِ أَحْكامُ الرَّسُولِ وَعَدْلَهُا ... بَيْنَ العِبَادِ وَنَورُهَا المُتَلالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كَانَتْ بهَا فى الأرْضِ أعْظَمُ رَحمَةٍ ... والنَّاسُ فى سَعْدٍ وَفى إِقبَالِ أَحْكامُهُمْ تجْرِى عَلَى وَجْهِ السَّدَ ... ادِ، وَحَالُهُمْ فى ذَاكَ أحْسَنْ حَالِ أَمْناً، وعزا فى هُدًى، وَتَرَاحُمٍ ... وَتَوَاصُلٍ، وَمَحَبّةٍ، وَجلالِ فَتَغَيَّرَتْ أَوْضَاعُهَا، حَتَّى غَدَتْ ... مَنْكُورةً، بِتَلوُّثِ الأعمالِ فَتَغَيَّرَتْ أَعمالُهُمْ وَتَبدَّلَتْ ... أَحْوَالُهُمْ بالنَّقْصِ بَعْدَ كمَالِ لَوْ كانَ دِينُ اللهِ فيهِمْ قائماً ... لَرَأَيْتَهُمْ فى أَحْسَنِ الأحْوَالِ وإِذا هُمُوا حَكَمُوا بحُكْمٍ جَائرٍ ... حَكَمُوا لمُنْكِرِهِ بِكُل وَبَالِ قُالوا: أتُنْكِرُ حُكمَ شَرْعِ مُحَمدٍ؟ ... حَاشَا لِذَا الشّرْعِ الشَّرِيفِ العَالِى عَجَّتْ فُرُوجُ النَّاسِ، ثُمَّ حُقُوقُهُم ... للهِ بِالبُكُرَاتِ والآصَالِ كمْ تُسْتَحَلُّ بكل حُكْمٍ بَاطِلٍ ... لا يَرْتَضِيهِ رَبُّنَا المُتَعَالِى والكلُّ فى قَعْرِ الجَحِيمِ، سِوَى الَّذِى ... يَقْضِى بِدينِ اللهِ، لا لِنَوَالِ أَوَ مَا سَمِعْتَ بأَنّ ثُلْثَيْهِمْ غَدا ... فى النَّار، فى ذَاكَ الزَّمَانِ الَخْالى؟ وَزَمَانُنَا هذَا، فَرَبُّكَ عَالِمٌ ... هَلْ فيهِ ذَاكَ الثُّلْثُ، أَمْ هُوَ خَالِى؟ يا بَاغِىَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَهِ الآمَالِ انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى ... كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِى واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهمْ سِوَى ... سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه ... وَبِهِ اقْتَدوْا فى سَائرِ الأحوالِ نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى ... فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ مآلِ القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ ... النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ منكر ... وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيهمْ ... وَسِوَاهُمُ بِالضِّدَّ فى ذِى الحْالِ مَا شَانَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْص، وَلا ... فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا، وَلم يَتَكَلّفُوا ... فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ وَسوَاهم بالضد فى الأَمْرَيْنِ، قد ... تَرَكُوا الْهُدَى، وَدَعَوْا لكل ضْلالِ فَهُمُ الأدِلةُ لِلْحَيارَى، مَنْ يَسرْ ... بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْش مِنْ إضْلالِ وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً ... وعُلوَّ مَنْزِلةً، وبُعْدَ مَنالِ يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً، نُطْقُهمْ ... بالَحْق، لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال حِلماً، وَعِلْمًا، مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ ... ونَصِيحَةٍ، مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ ... بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ ... مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ ... يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ ... وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى ولَقدْ أَبَانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ ... فى سُورَةِ الفَتْحِ المبِينِ العَالِى وَبِرَابِع السبع الطوَالِ صِفَاتهُم ... قَوْمٌ يحُبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ وَبَرَاءَةٍ، والْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ ... وَبِهَلْ أَتَى، وَبسُورَةِ الأنفالِ فصل هذا السماع الشيطانى المضادّ للسماع الرحمانى، له فى الشرع بضعة عشر اسما: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق فى القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود: أسْمَاؤْهُ دَلّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ ... تَبَّا لِذى الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ فنذكر مخازى هذه الأسماء، ووقوعها عليه فى كلام الله عز وجل وكلام رْسوله والصحابة ليعلم أصحابه وأهله بما به ظفروا، وأى تجارة رابحة خسروا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فدع صاحب المزمار والدف والغنا ... وما اختاره الله عن طاعة الله مذهبا ودعه يعش في غيه وضلاله ... على تاتنا يحيا ويبعث أشيبا وفي تنتنا يوم المعاد نجاته ... إلى الجنة الحمراء يدعى مقربا سيعلم يوم العرض أي بضاعة ... أضاع، وعند الوزن ما خف أو ربا ويعلم ما قد كان فيه حياته ... إذا حصلت أعماله كلها هبا دعاه الهدى والغي من ذا يجيبه؟ ... فقال لداعي الغي: أهلاً ومرحبا وأعرض عن داعي الهدى، قائلاً له ... هواي إلى صوت المعارف قد صبا يراع، ودف بالصنوج، وشاهد ... وصوت مغن، صوته يقنص الظبا إذا ما تغني فالظباء تجيبه ... إلى أن تراها حوله تشبه الدبا فما شئت من صيد بغير تطارد ... ووصل حبيب كان بالهجر عذبا فيا آمري بالرشد، لو كنت حاضراً ... لكان توالي اللهو عندك أقربا فصل فالاسم الأول: اللهو، ولهو الحديث: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الَحْدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيِتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَليْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6 7] . قال الواحدى وغيره: أكثر المفسرين: على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس فى رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود، فى رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة. وروى ثور بن أبى فاختة عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِى الَجْارِيَةَ تُغَنِّيهِ لِيْلاً وَنهَارًا"} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقال ابن أبى نجيح عن مجاهد: "هو اشتراء المغنى والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل" وهذا قول مكحول. وهذا اختيار أبى إسحاق أيضاً. قال: أكثر ما جاء فى التفسير: أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء، لأنه يلهى عن ذكر الله تعالى. قال الواحدى: قال أهل المعانى: ويدخل فى هذا كل من اختار اللهو، والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر فى الاستبدال، والاختيار، وهو كثير فى القرآن. قال: ويدل على هذا: ما قاله قتادة فى هذه الآية "لعله أن لا يكون أنفق مالاً" قال: "وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق". قال الواحدى: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء، ثم ذكر كلام الشافعى فى رد الشهادة بإعلان الغناء. قال: وأما غناء القينات: فذلك أشد ما فى الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى قَيْنَةٍ صُبَّ فى أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". الآنك: الرصاص المذاب. وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ففى "مسند الإمام أحمد"، "ومسند عبد الله بن الزبير الحميدى"، "وجامع الترمذى" من حديث أبى أمامة، والسياق للترمذى: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَبِيعُوا الْقينَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فى تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثمَنُهُنَّ حَرَامٌ". فى مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6] . وهذا الحديث وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 مداره على عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد الإلهانى عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلى ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله، ويكفى تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود. قال أبو الصهباء: "سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث} [لقمان: 6] فقال: والله الذى لا إله غيره هو الغناء -يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر رضى الله عنهما أيضاً أنه: [الغناء] . قال الحاكم أبو عبد الله فى التفسير، من كتاب المستدرك: "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند. وقال فى موضع آخر من كتابه: "هو عندنا فى حكم المرفوع". وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة. وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل. ولا تعارض بين تفسير "لهو الحديث" بالغناء، وتفسيره: بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث، ولهذا قال ابن عباس: "لهو الحديث: الباطل والغناء". فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. والغناء أشد لهواً، وأعظم ضرراً من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه. إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، وإذا تليى عليه القرآن ولى مستكبراً كأن لم يسمعه، كأن فى أذنيه وقراً، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. يوضحه: أنك لا تجد أحداً عنى بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنى ويستقصر نوبته، وأقل ما فى هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه والكلام فى هذا مع من فى قلبه بعض حياة يحس بها. فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لهم فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] . فصل الاسم الثانى والثالث: الزور، واللغو. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِالَّلغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] . قال محمد بن الحنفية: "الزور هاهنا الغناء"، وقاله ليث عن مجاهد، وقال الكلبى: لا يحضرون مجالس الباطل. واللغو فى اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه. ويدخل فى هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قال الزجاج: "لا يجالسون أهل المعاصى، ولا يمالئونهم عليها، ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله". وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: مر بلهو فأعرض عنه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيماً ". وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه نقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللغو أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] . وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصاً، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغواً فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم". وتأمل كيف قال سبحانه {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . ولم يقل: بالزور، لأن يشهدون بمعنى: يحضرون. فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به، وفعله؟. والغناء من أعظم الزور. والزور: يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها كما فى حديث معاوية لما أخذ قصة من شعر يوصل به، فقال: "هذا الزور" فالزور: القول، والفعل، والمحل. وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزور بالفتح، ومنه: زرت فلانا، إذا ملت إليه، وعدلت إليه، فالزور: ميل عن الحق الثابت إلى الباطل الذى لا حقيقة له قولاً وفعلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فصل الاسم الرابع: الباطل. والباطل: ضد الحق، يراد به المعدوم الذى لا وجود له، والموجود الذى مضرة وجوده أكثر من منفعته. فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل، ومن الثانى قوله: السحر باطل، والكفر باطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] . فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع فيه، فالكفر والفسوق والعصيان والسحر، والغناء، واستماع الملاهى: كله من النوع الثانى. قال ابن وهب: أخبرنى سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: "كيف ترى فى الغناء، قال: فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفت أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال له القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: فى النار، قال: فهو ذاك". وقال رجل لابن عباس رضى الله عنهما: "ما تقول فى الغناء، أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حراماً إلا ما فى كتاب الله. فقال: أفحلال هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك". فهذا جواب ابن عباس رضى الله عنهما عن غناء الأعراب، الذى ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات. [فإن غناء القوم لم يكن فيه شىء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا] أعظم قول. فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته. فمن أبطل الباطل أن تأتى شريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذى هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو أفضل من التخلى لنوافل العبادة، فلو كان نكاح التحليل جائزاً فى الشرع لكان أفضل من قيام الليل، وصيام التطوع، فضلاً أن يلعن فاعله. فصل وأما اسم المكاء والتصدية. فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] . قال ابن عباس، وابن عمر، وعطية، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة: "المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق". وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا، يمكو، مكاء، إذا جمع يديه ثم صفر فيهما، ومنه: مكت است الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت. ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرغاء، والعواء، والثغاء. قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة، إلا حرفين: النداء، والغناء. وأما التصدية: فهى فى اللغة: التصفيق، يقال: صدى يصدى تصدية، إذا صفق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم: ِإذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ ... صَلاتُكُمُ التَّصَدِّى وَالمُكاءُ وهكذا الأشباه يكون المسلمون فى الصلوات الفرض والتطوع، وهم فى الصفير والتصفيق. قال ابن عباس رضى الله عنهما: "كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويصفرون ويصفقون". وقال مجاهد: "كانوا يعارضون النبى صلى الله عليه وسلم فى الطواف ويصفرون ويصفقون، يخلطون عليه صلاته وطوافه"، ونحو ذلك عن مقاتل. ولا ريب أنهم كانوا يفعلوا هذا وهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول، وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثانى. قال ابن عرفة، وابن الأنبارى: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التى أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته، فجعل جفائى صلتى، أى أقام الجفاء مقام الصلة. والمقصود: أن المصفقين والصفارين فى يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم فى جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال [وقت الحاجة إليه] فى الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصى قولاً وفعلاً؟. فصل وإنما تسميته رقية الزنى: فهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه، فليس فى رقى الزنى أنجع منه، وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض. قال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض: "الغناء رقية الزنى". قال: إبراهيم بن محمد المروزى عن أبى عثمان الليثى قال: قال يزيد بن الوليد: "يا بنى أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد فى الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى". قال: وأخبرنى محمد بن الفضل الأزدى قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عنى، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعنى ابنته، فإن كففته وإلا خرجت عنك. ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: "كنا فى عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجئ بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة. ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة، ولا تحل، فخل" [سبيلهم قال:] فخلى سبيلهم". قال: وأخبرنى الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "جاوروا الحطيئة قوماً من بنى كلاب، فمشى ذو النهى منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم، إنكم قد رميتم بداهية، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظن فيحقِّق، ولا يستأنى فيتثبت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو فى فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب، فنأتيه، وعما تكره، فنزدجر عنه، فقال: جنبونى ندى مجلسكم، ولا تسمعونى أغانى شبيبتكم. فإن الغناء رقية الزنى". فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان، الذى هابت العرب هجاه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟ ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهو أعلم بالإثم الذى يستحقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطى الليان. وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأنجشة حادية: "يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَك رِفْقاً بِالْقَوَارِيرِ": يعنى النساء. فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء. فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من ذى غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشاياً، وكم من معافى تعرّض له فأمسى، وقد حلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا، وكم جرّع من غصة وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة كما قيل: فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ ... لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا فى الزَّوَايَا وَحاذِرْ إذا شُغِفْت بِه سِهَاماً ... مُرَيشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْباً كَئِيباً ... يقلب بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا وَيُصُبِحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرا ... عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْداً لِلصّبايَا وَيُعْطِى مَنْ بهِ يُغنِى غِنَاءً ... وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا فصل وأما تسميته: مُنبت النفاق. فقال على بن الجعد: حدثنا [محمد بن] طلحة عن سعيد بن كعب المروزى عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء الزرع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود: "الغناء ينبت النفاق فى القلب". وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعاً رواه ابن أبى الدنيا فى "كتاب ذم الملاهى". قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمى بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيخ عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فى القَلْبِ كما يُنْبِتُ المَاءُ البَقْلَ". وقد تابع حرمى بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم. قال أبو الحسين بن المنادى فى كتاب "أحكام الملاهى": حدثنا محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوراق، حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث. فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفى رفعه نظر، والموقوف أصح. فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق فى القلب من بين سائر المعاصى؟ قيل: هذا من أدل شئ على فقه الصحابة فى أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمدوى من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التى ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء، وكثرة المرَضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن فى السلف، والعدول عن الدواء النافع الذى ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد المرض وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، قام كل جهول يطبب الناس. فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير فى صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهى القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغى، وينهى عن اتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفى تهييجهما على القبائح فرساً رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وخليفته، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذى لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التى لا تفسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل فى مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة، والرعونة، والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن. فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقَلَّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بينى وبين قرآن عدوك فى صدر واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول: أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا ... عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ؟ وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَانى ... فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى ... سُرُورًا، وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِى إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ ... أَجابَ الّلهْوُ: حَىَّ عَلَى السَّماحِ وَلَمْ نْملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئاً ... أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ المِلاَحِ وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق فى قوم، والعناد فى قوم، والتكذيب فى قوم، والفجور فى قوم، والرعونة فى قوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقاً فما للنفاق حقيقة. وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان، كما سيأتى، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن فى قلب أبدا. وأيضاً فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً، فإنه يظهر الرغبة فى الله والدار الآخرة وقلبه يغلى بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق. وأيضاً فإن الإيمان قول وعمل: قول الحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاق: قول الباطل، وعمل البغى، هذا ينبت على الغناء. وأيضاً، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه. وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق. وأيضاً، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك. وأيضا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث [يظن] أنه يصلحه. والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات، قال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب". وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهى، التى بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغنى عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغانى، واللهج بها ينبت النفاق فى القلب كما ينبت العشب على الماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق. وبالجملة. فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها وبالله التوفيق. فصل وأما تسميته قرآن الشيطان. فمأثور عن التابعين، وقد روى فى حديث مرفوع، قال قتادة: "لما أهبط إبليس قال: يا رب لعنتنى، فما عملى؟ قال: السحر، قال فما قرآنى؟ قال: الشعر، قال: فما كتابى؟ قال: الوشم، قال: فما طعامى؟ قال: كل ميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابى؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنى؟ قال: الأسواق، قال فما صوتى؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدى؟ قال: النساء". هذا والمعروف فى هذا وقفه، وقد رواه الطبرانى فى "معجمه" من حديث أبى أمامة مرفوعاً إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقال ابن أبى الدنيا فى كتاب "مكايد الشيطان وحيله" حدثنا أبو بكر التميمى، حدثنا ابن أبى مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: "إِنّ إِبْليسَ لَمّا أُنْزِلَ إِلَى الأَرْضِ قالَ: يا رب، أَنْزَلْتَنِى إِلى الأَرْضِ، وَجَعَلتَنى رَجِيمِاً، فَاجْعَلْ لِى بَيْتاً، قالَ: الْحَمَّامُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَجْلِساَ، قالَ: الأَسْوَاقُ وَمَجَامِعُ الطُّرُقَاتِ، قالَ: فاجْعَلْ لى طَعاماً، قالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، قالَ: فاجْعَلْ لى شَرَاباً، قالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ، قالَ: فاجْعَلْ لى مُؤَذِّناً، قالَ: المِزْمَارُ، قالَ: فاجْعَلْ لى قُرْآناً، قَالَ: الشَّعْرُ، قالَ: فاجْعَلْ لى كِتَاباً، قالَ: الوَشْمُ، قالَ: فَاجْعلْ لى حَدِيثاً، قالَ: الْكَذِبُ، قالَ: فاجْعَلْ لِى رُسُلاً، قالَ الْكَهَنَةُ، قالَ: فَاجْعَلْ لِى مَصَايِدَ، قالَ: النِّسَاءُ". وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شواهد من السنة، أو من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَمَا كَفَرَ سُليمْاَنُ وَلكِنَّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] . وأما كونه الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود فى "سننه" من حديث جبير بن مطعم: "أنّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يُصَلّى، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، الْحْمدُ للهِ كَثِيراً، الْحمْدُ للهِ كَثِيراً، الْحْمدُ للهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ثلاثاً أَعوذُ باللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيم: مِنْ نَفْخِهِ، وَنَفْثِه، وَهَمْزِهِ"، قالَ: نَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الكِبْرُ، وَهَمْزُهُ: المُوتَهُ. ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان. وأخبر أنه لا ينبغى له، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ} [يس: 69] . وأما كون الوشم كتابه، فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الواشمة والمستوشمة" فلعن الكاتبة والمكتوب عليها. وأما كون الميته ومتروك التسمية طعامه، فإن الشيطان يستحلّ الطعام، إذا لم يذكر عليه اسم الله، ويشارك آكله، والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى، فهى وكلّ طعام إذا لم يذكر عليه اسم الله عز وجل من طعامه، ولهذا لما سأل الجنُّ الذين آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الزاد، قال: "لَكمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ". فلم يبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية. وأما كون المسكر شرابه. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَملِ الشَّيْطَان} [المائدة: 90] . فهو يشرب من الشراب الذى عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم فى عمله. فيشاركهم فى عمله وشربه، وإثمه، وعقوبته. وأما كون الأسواق مجلسه ففى الحديث الآخر: "أَنّهُ يَرْكُزُ رَايَتَهُ بِالسُّوقِ" ولهذا يحضره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش. وكثير من عمله، وفى صفة النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الكتب المتقدمة: "أَنّهُ لَيْسَ صَخّابًا بالأَسْوَاقِ". وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة، وفى حديث أبى سعيد: "الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إٍلا المَقْبَرَةُ والْحَمَّامُ". ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤسس على النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها. وأما كون المزمار مؤذنّه، ففى غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية صلاته، فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإمام ومأموم. فالمؤذن المزمار، والإمام المغنى، والمأموم الحاضرون. وأما كون الكذب حديثه، فهو الكاذب، الآمر بالكذب، المزين له، فكل كذب يقع فى العالم فهو تعليمه وحديثه. وأما كون الكهنة رسله، فلأن المشركين يهرعون إليهم، ويفزعون إليهم فى أمورهم العظام، ويصدقونهم، ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيبات التى لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبه، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بَما يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدِ". فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع فى العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يبعد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقدر قربه من الكاهن، ويكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقوله: اجعل لى مصايد، قال: مصايدك النساء، فالنساء أعظم شبكة له، يصطاد بهن الرجال، كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى الفصل الذى بعد هذا. والمقصود أن: الغناء المحرم قرآن الشيطان. ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة وآلات الملاهى والمعازف، وأن يكون من امرأة جملية، أو صبى جميل. ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه، تعويضا به عن القرآن المجيد. فصل وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر. فهى تسمية الصادق المصدوق، الذى لا ينطق عن الهوى. فروى الترمذى من حديث ابن أبى ليلى عن عطاء عن جابر رضى الله عنه قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وَآلهِ وسلمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ إِلى النَّخْلِ، فإِذَا ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَوَضَعَهُ فى حِجْرِهِ، ففاضت عَيْنَاهُ، فقَالَ عبد الرحمن: أَتَبْكِى، وَأَنْتَ تَنْهَى النَّاسَ؟ قالَ: إِنِّى لَمْ أَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ، وَإنمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أحْمقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةٍ: لْهَوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقَّ جُيُوبٍ، وَرَنّةٍ وَهذَا هُوَ رَحْمَةٌ، وَمَنْ لا يَرْحَمُ لا يرحم لَوْلا أَنّهُ أَمْرٌ حَق، وَوَعْدٌ صِدْقٌ، وَأنّ آخِرَناَ سَيَلْحَقُ أوَّلَنَا، لَحَزِنّا عَلَيْكَ حُزْناً هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذَا، وَإِنّا بِكَ لمَحْزُونُونَ، تَبْكِى الْعَيْنُ وَيَحزَنُ الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ". قال الترمذى: هذا حديث حسن. فانظر إلى هذا النهى المؤكد، بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وقد أقر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان فى الحديث الصحيح، كما سيأتى، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهى أبدا. وقد اختلف فى قوله "لا تفعل" وقوله "نهيت عن كذا" أيهما أبلغ فى "التحريم"؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والصواب بلا ريب: أن صيغة "نهيت" أبلغ فى التحريم، لأن "لا تفعل" يحتمل النهى وغيره، بخلاف الفعل لصريح. فكيف يستجيز العارف إباحة ما نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وسماه صوتا أحمق فاجراً، ومزمور الشيطان، وجعله والنياحة التى لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهى عنهما مخرجاً واحداً، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا. وقال الحسن: "صوتان ملعونان: مزمار عند نغمة، ورنة عند مصيبة". وقال أبو بكر الهذلى: "قلت للحسن: أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم؟ قال: لا، ولكن هاهنا خمش وجوه، وشق جيوب، ونتف أشعار، ولطم خدود، ومزامير شيطان، صوتان قبيحان فاحشان: عند نغمة إن حدثت، وعند مصيبة إن نزلت، ذكر الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالهِمْ حَق مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25] . وجعلتم أنتم فى أموالكم حقاً معلوماً للمغنية عند النغمة، والنائحة عند المصيبة. فصل وأما تسميته صوت الشيطان. فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتُ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} [الإسراء: 63-64] . قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا أبى أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: "كل داع إلى معصية". ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعى إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به. قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى. أخبرنا يحيى بن المغيرة. أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اُسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: "استزل منهم من استطعت قال: "وصوته الغناء، والباطل". وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال: "صوته المزامير". ثم روى بإسناده عن الحسن البصرى قال: "صوته هو الدف". وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، ومصوت بيراع أو مزمار، أو دف حرام، أو طبل، فذلك صوت الشيطان، وكل ساع فى معصية الله على قدميه فهو من رجله، وكل راكب فى معصية الله فهو من خيالته، كذلك قال السلف، كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: "رجله كل رجل مشت فى معصية الله". وقال مجاهد: "كل رجل يقاتل فى غير طاعة الله فهو من رجله". وقال قتادة: "إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس". فصل وأما تسميته مزمور الشيطان. ففى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها قالت: "دَخَلَ عَلَىَّ النَّبىُّ صَلى اللهُ عَليهِ وآله وسلمَ وَعِنْدِى جَارِيتَانِ تُغَنِّياَنِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ، فَانْتَهَرَنِى، وَقَالَ: مِزْمَارُ الشّيْطَانِ عِنْدَ النَّبىَّ صَلّى اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ؟ فأَقْبََلَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "دَعْهُمَا"، فَلمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فخرجن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فلم ينكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أبى بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما، لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب، الذى قيل فى يوم حرب بعاث من الشجاعة، والحرب، وكان اليوم يوم عيد، فتوسع حزب الشيطان فى ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية، أو صبى أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغنى بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمور، مع آلات اللهو التى حرمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى عدة أحاديث، كما سيأتى. مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التى لا يستحلها أحد من أهل الأوثان، فضلاً عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوها فى الشجاعة ونحوها وفى يوم عيد، بغير شبابة ولا دف، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح، لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل. نعم، نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان فى بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرم وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فصل وأما تسميته بالسمود. فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59-61] . قال عكرمة عن ابن عباس "السمود: الغناء فى لغة حمير". يقال: اسمُدى لنا، أى غنى لنا، وقال أبو زبيد: وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ ... لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ قال أبو عبيدة: "المسمود: الذى غنى له"، وقال عكرمة: "كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، فنزلت هذه الآية". وهذا لا يناقض ما قيل فى هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشئ، قال المبرد: هو الاشتغال عن الشئ بهمّ أو فرح يتشاغل به، وأنشد: رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ ... بمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودَا وقال ابن الأنبارى: السامد اللاهى، والسامد الساهى، والسامد المتكبر، والسامد القائم. وقال ابن عباس فى الآية: "وأنتم مستكبرون". وقال الضحاك: "أشرون بطرون"، وقال مجاهد: "غضاب مبرطمون"، وقال غيره: "لاهون غافلون معرضون". فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه. فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء. فصل فى بيان تحريم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف وسيأتى الأحاديث فى ذلك. عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: حدثنى أبو عامر، أو أبو مالك الأشعرى رضى الله عنهما أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والْحَرِيرَ وَالْخمَرَ وَالمَعَازِفَ". هذا حديث صحيح، أخرجه البخارى فى "صحيحه" محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه"، وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابى حدثنى عبد الرحمن بن غنم الأشعرى حدثنى أبو عامر، أو أبو مالك الأشعرى والله ما كذبنى أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتى أقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والْحَرِيرَ وَالْخَمرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقَوُلُوا اُرْجعْ إِلَيْنَا غَداً، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ تَعَالى وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخنازير إِلى يوْمِ الْقِيَامَةِ". ولم يصنع من قدح فى صحة هذا الحديث شيئاً، كابن حزم، نصرة لمذهبه الباطل فى إباحة الملاهى، وزعم أنه منقطع، لأن البخارى لم يصل سنده به. وجواب هذا الوهم من وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أحدها: أن البخارى قد لقى هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال "قال هشام" فهو بمنزلة قوله "عن هشام". الثانى: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا، وقد صح عنه أنه حدث به. وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته. فالبخارى أبعد خلق الله من التدليس. الثالث: أنه أدخله فى كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك. الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإذا توقف فى الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: "ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر عنه"، نحو ذلك: فإذا قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فقد جزم وقطع بإضافته إليه. الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً فالحديث صحيح متصل عند غيره. قال أبو داود فى كتاب اللباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال: سمعت عبد الرحمن ابن غنم الأشعرى قال حدثنا أبو عامر أو أبو مالك، فذكره مختصراً. ورواه أبو بكر الإسماعيلى فى كتابه الصحيح مسنداً، فقال: أبو عامر ولم يشك. ووجه الدلالة منه: أن المعازف هى آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة فى ذلك. ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخزّ. فإن كان بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام. وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير، غير الذى صح عن الصحابة رضى الله عنهم لبسه. إذ الخز نوعان أحدهما: من حرير. والثانى: من صوف. وقد روى هذا الحديث بالوجهين. وقال ابن ماجه فى "سننه": حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبى مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعرى عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى الْخمْرَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالمَعَازِفِ وَالمُغَنَيِّاَتِ، يَخْسِفُ اللهُ بِهمُ الأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وخنازير". وهذا إسناد صحيح. وقد توعد مستحلى المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير. وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط فى الذم والوعيد. وفى الباب عن سهل بن سعد الساعدى، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبى هريرة، وأبى أمامة الباهلى، وعائشة أم المؤمنين، وعلى بن أبى طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغازى بن ربيعة رضى الله عنهم. ونحن نسوقها لتقربّها عيون أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان. فأما حديث سهل بن سعد، فقال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الهيثم بن خارجة حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبى حازم عن سهل بن سعد الساعدى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَكُونُ فِى أُمَّتِى خَسْفٌ وَقَذْفٌُ وَمَسْخٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتِ المَعَازفُ والْقَيْنَاتُ وَاسْتُحِلَّتِ الخْمرَةُ". وأما حديث عمران بن حصين فرواه الترمذى من حديث الأعمش عن هلال ابن يساف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى قذف وخسف ومسخ، فقال رجل من المسلمين: متى ذاك، يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان، والمعازف، وشربت الخمور" قال الترمذى: هذا حديث غريب. وأما حديث عبد الله بن عمرو، فروى أحمد فى "مسنده" وأبو داود عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنّ اللهَ تَعَالى حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِى الْخْمرَ وَالمَيْسِرَ والْكُوبَةَ وَالْغُبَيرَاءَ وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". وفى لفظ آخر لأحمد: "إن الله حرم على أمتى الخمر والميسر والمزِر والكوبة والقِنِّين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأما حديث ابن عباس ففى المسند أيضاً: عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام" والكوبة الطبل. قاله سفيان وقيل: البربط، والقنين: هو الطنبور بالحبشية، والتقنين: الضرب به، قاله ابن الأعرابى. وأما حديث أبى هريرة رضى الله عنه. فرواه الترمذى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِذَا اتُّخِذَ الْفَئُْ دُوَلاً، وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً، والزَّكَاةُ مَغْرَماً، وَتُعُلَّمَ الْعِلْمُ لِغَيْر الدِّين، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وأَدْنَى صَدِيقَهُ، وأُقْصَى أبَاهُ، وظَهَرَتِ الأصْوَاتُ فى المسَاجدِ، وسَادَ الْقَبيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكانَ زَعِيمَ الْقَوْمِ أَرْذَلُهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ، وشُرِبَتِ الْخَمْرُ، وَلَعَنَ آخِرُ هذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلهَا، فَلْيَرْ تَقِبُوا عِنْدَ ذلِكَ رِيحاً حَمْرَاءَ، وَزَلْزَلَةً وَخَسْفاً، وَمَسْخاً، وَقَذفاً، وآيَاتٍ تتابع كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ". قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب. وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمى حدثنا سليمان بن سالم أبو داود حدثنا حسان بن أبى سنان عن رجل عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ فى آخِر الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ يَشْهَدُونَ أَنْ لا إِلُهَ إِلا اللهُ، وَأَنّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، وَيصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَيَحجُّونَ، قِيلَ: فَمَا بَالُهُمْ؟ قَالَ: اتَّخَذُوا المَعَازِفَ وَالدُّفُوفَ والْقَيْنَاتِ، فَبَاتُوا عَلَى شُرْبهِمْ وَلهْوِهِمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُسِخُواَ قِرَدَةً وخَنَازِيرَ". وأما حديث أبى أمامة الباهلى فهو فى "مسند" أحمد والترمذى عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "تبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وخَنَازِيرَ، وَيُبْعَثُ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَائهِمْ رِيحٌ، فَيَنْسِفُهُمْ كما نَسَفَ مَنْ كان قَبْلَكمْ، بِاسْتِحْلالَهمُ الْخَمْرَ، وَضَرْبهِمْ بِالدُّفُوفِ، وَاتِّخَاذِهمُ الْقَيْنَاتِ". فى إسناده فرقد السبخى، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 من كبار الصالحين. ولكنه ليس بقوى فى الحديث، وقال الترمذى: تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس. وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمى حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا فرقد السبخى حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب قال: وحدثنى عاصم بن عمرو البجلى عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يَبِتِ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ، وَشُرْبٍ وَلهْوٍ، فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةْ وَخَنَازِيرَ، وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ: خُسِفَ الَّليْلَهَ بِدَارِ فُلاَنٍ، خُسِفَ الَّليْلَةَ بِبَنى فُلاَنٍ، وَلُيْرسَلَنَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّماءِ كما أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، على قبائل فيها، وعَلَى دُورٍ فِيهَا، وَلَيُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ الرِّيحُ الْعَقِيمُ الّتِى أَهْلَكَتْ عَادًا، بِشُرْبهِمْ الْخَمر، وَأَكْلِهمْ الرِّبَا، وَاتِّخاذِهِمُ القَيْنَاتِ، وَقَطِيعَتِهُمُ الرَّحِمَ". وفى "مسند" أحمد من حديث عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِى رَحْمَةً وَهُدىً لِلْعَالمِينَ، وَأَمَرَنى أنْ أَمْحَقَ المَزَامِيرَ وَالْكِبَارَاتِ يَعْنِى البَرَابِطَ، وَالمَعَازِفَ وَالأَوْثَانَ، الّتِى كانَتْ تُعْبَدُ فى الْجَاهِلِيَّةِ". قال البخارى: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلى بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ثقة. وفى الترمذى و"مسند" أحمد بهذا الإسناد بعينه: أن النبى صلى الله تعالي عليه وآله وسلم قال: "لا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ، وَلا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلا تُعَلّمُوهُنَّ، وَلا خَيْرَ فى تَجِارَةٍ فِيهِنَّ، وَثمَنُهُنَّ حَرَامٌ". وفى مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ... الآية} [لقمان: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وأما حديث عائشة رضى عنها فقال ابن أبى الدنيا: حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى خسف ومسخ وقذف، قالت عائشة: يا رسول الله، وهم يقولون لا إله إلا الله؟ فقال: إذا ظهرت القينات، وظهر الزنى، وشربت الخمر، ولبس الحرير، كان ذا عند ذا". وقال ابن أبى الدنيا أيضاً: حدثنا محمد بن ناصح حدثنا بقية بن الوليد عن يزيد ابن عبد الله الجهنى حدثنى أبو العلاء عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة رضى الله عنها ورجل معه، فقال لها الرجل: "يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنى، وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله فى سمائه، فقال: تزلزلى [بهم] ، فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم، قال قلت: يا أم المؤمنين، أعذاب لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين، ونكال وعذاب وسخط على الكافرين"، قال أنس: "ما سمعت حدثياً بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنا أشد به فرحاً منى بهذا الحديث". وأما حديث على فقال ابن أبى الدنيا أيضاً: حدثنا الربيع بن تغلب حدثنا فرج ابن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن على عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا عَمِلَتُ أُمَّتِى خَمْسَ عَشْرَةَ خصلَةً حَلَّ بهَا الْبَلاَءُ، قِيلَ: يَا رَسُول اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قالَ: إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوَلا، وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً، وَالزَّكاةُ مِغْرَماً، وَأَطَاع الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَق أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ فى المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الَحْرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقِيَانُ، وَلَعَنَ آخِرُ هذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذلِكَ رِيحاً حَمْراءَ وَخَسْفاً وَمَسْخاً". حدثنا عبد الجبار بن عاصم قال: حدثنا أبو طالب قال حدثنا إسماعيل ابن عياش عن عبد الرحمن التميمى عن عباد بن أبى على عن على رضى الله عنه رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: " تمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير، ويخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم، بأنهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير واتخذوا القيان، وضربوا بالدفوف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وأما حديث أنس رضى الله عنه فقال ابن أبى الدنيا: حدثنا أبو عمرو هارون ابن عمر القرشى حدثنا الخصيب بن كثير عن أبى بكر الهذلى عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليكونن فى هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، ذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف". قال: وأخبرنا أبو إسحاق الأزدى حدثنا إسماعيل بن أبى أويس حدثنى عبد الرحمن [بن زيد] بن أسلم عن أحد ولد أنس بن مالك، وعن غيره، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أَرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". وأما حديث عبد الرحمن بن سابط فقال ابن أبى الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا جرير، عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يكون فى أمتى خسف وقذف ومسخ، قالوا: فمتى ذاك، يا رسول الله؟ قال: إذا أظهرت المعازف، واستحلوا الخمور". وأما حديث الغازى بن ربيعة. فقال ابن أبى الدنيا حدثنا: عبد الجبار بن عاصم حدثنا إسمعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد عن أبى العباس الهمدانى عن عمارة بن راشد عن الغازى بن ربيعة رفع الحديث قال: "ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير، بشربهم الخمر، وضربهم بالبرابط والقيان". قال ابن أبى الدنيا: وحدثنا عبد الجبار بن عاصم قال حدثنى المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "ليستحلن ناس من أمتى الحرير والخمر والمعازف، وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير". قال ابن أبى الدنيا: حدثنا هارون بن عبيد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلى قال: قلت لفرقد السبخى: أخبرنى يا أبا يعقوب، من تلك الغرائب التى قرأت فى التوراة، فقال: "يا أبا شيبان، والله ما أكذب على ربى، مرتين أو ثلاثاً، لقد قرأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فى التوراة: ليكونن مسخ وخسف وقذف فى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى أهل القبلة، قال: قلت، يا أبا يعقوب ما أعمالهم؟ قال: باتخاذهم القينات، وضربهم بالدفوف، ولباسهم الحرير والذهب، ولئن بقيت حتى ترى أعمالاً ثلاثة، فاستيقن واستعد واحذر. قال قلت: ما هى؟ قال: إذا تكافأ الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ورغبت العرب فى ابنه العجم، فعند ذلك. قلت له: العرب خاصة؟ قال: لا؛ بل أهل القبلة، ثم قال: والله ليقذفن رجال من السماء بحجارة يشدخون بها فى طرقهم وقبائلهم. كما فعل بقوم لوط، وليمسخن آخرون قردة وخنازير، كما فعل ببنى إسرائيل وليخسفن بقوم كما خسف بقارون". وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ فى هذه الأمة، وهو مقيد فى أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشرَّاب الخمر، وفى بعضها مطلق. قال سالم بن أبى الجعد: "ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم، فيطلبون إليه حاجتهم، فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا، وليمرن الرجل على الرجل، حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا". وقال أبو هريرة رضى الله عنه: "لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه". وقال عبد الرحمن بن غنم: "سيكون حيان متجاورين، فيشق بينهما نهر، فيستقيان منه، قبسهم واحد، يقبس بعضهم من بعض، فيصبحان يوماً من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حى". وقال عبد الرحمن بن غنم أيضاً: "يوشك أن يقعد اثنان على رحا يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقال مالك بن دينار: "بلغنى أن ريحا تكون فى آخر الزمان وظُلَم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا". قال بعض أهل العلم: إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغاً تاما، صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك: من القردة، والخنازير، وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفياً ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة، كما قلب الهيئة الباطنة، ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التى تخلقوا بأخلاقها فى الباطن، فقل أن ترى محتالاً مكاراً مخادعاً ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد، وقل ترى رافضيا إلا وعلى وجهه مسخة خنزير، وقل أن ترى شرها نهما، نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط، فإذا استحكمت الصفات المذمومة فى النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة، ولهذا خوف النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من سابق الإمام فى الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار، لمشابهته للحمار فى الباطن، فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يسلم قبله، فهو شبه الحمار فى البلادة، وعدم الفطنة. إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا فى هذه الأحاديث، فهم أسرع الناس مسخاً قردة وخنازير، لمشابهتهم لهم فى الباطن، وعقوبات الرب تعالى نعوذ بالله منها جارية على وفق حكمته وعدله. وقد ذكرنا شبه المغذين والمفتونين بالسماع الشيطانى، ونقضناها نقضا وإبطالا فى كتابنا الكبير فى السماع، وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وذكرنا الشبهة التى دخلت على كثير من العباد فى حضوره حتى عدوه من القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى فى ذلك الكتاب، وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة فى كونه من مكايد الشيطان، وبالله التوفيق. فصل ومن مكايده التى بلغ فيها مرادة: مكيدة التحليل، الذى لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله، وشبهه بالتيس المستعار، وعظم بسببه العار والشنار، وعير المسلمين به الكفار، وحصل بسببه من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات، وضاقت به ذرعا النفوس الأبيات، ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت: لو كان هذا نكاحاً صحيحاً لم يلعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنة مقرب غير ملعون، والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتيس المستعار، وسماه السلف بمسمار النار، فلو شاهدت الحرائر المصونات، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرة الشاة إلى شفرة الجازر، وتقول: يا ليتنى قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتخفى والكتمان، فلا جهاز ينقل، ولا فراش إلى بيت الزوج يحول، ولا صواحب يهدينها إليه، ولا مصلحات يجلينها عليه، ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر، ولا وليمة ولا نثار، ولا دف إعلان ولا شعار، والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطلق والولى واقفان على الباب، دنا ليطهرها بمائه النجس الحرام، ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا قضيا عرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التى ذكرها الله تعالى فى التنزيل. فإنها لا تحصل باللعن الصريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائر الصحيح. فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفاً وتعجيلاً، وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلاً. فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق؟ حتى إذا طهرها وطيبها، وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها. قال لها: اعترفى بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتى المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها: هل كان ذاك؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجراً، وقد أرهقوهما من أمرهما عسراً هذا، وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها فى عقدين، ويجمع ماءه فى أكثر من أربع وفى رحم أختين، وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق بما رواه عبد الله ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال: (لَعَنَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ". رواه الحاكم فى الصحيح والترمذى وقال: حديث حسن صحيح، قال: والعمل عليه عند أهل العلم. منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضى الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين. ورواه الإمام أحمد فى "مسنده"، والنسائى فى "سننه" بإسناد صحيح، ولفظهما "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وَسلمَ الْوَاشِمَةَ والمُؤْتَشِمَةَ، وَالوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولَةَ، وَالمُحَلِّلَ وَالمُحَلِّلَ لَهُ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ". وفى "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائى" أيضاً: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "آكِلُ الرِّبَا ومُوكِلُهُ وشَاهِدُهُ وكَاتِبُهُ، إِذَا عَلِمُوا بِهِ، والوَاصِلَةُ وَالمُسْتَوْصِلَةُ، وَلاوِى الصَّدَقةِ والمُعْتَدِى فِيهَا، والمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أعْرَابِيا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، والمحلل وَالمُحَلِّلُ لَه: مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليهِ وسلمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه لعن المحلل له"، رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائى. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات، وثقهم ابن معين وغيره. وقال الترمذى فى كتاب "العلل": سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة. وقال أبو عبد الله بن ماجه فى سننه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له". وعن ابن عباس أيضاً قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنِ المُحَلَّلِ؟ فقَال: لا، إِلا نِكاحَ رَغْبَةٍ، لا نِكاحَ دِلْسَةٍ وَلا اسْتِهْزَاءً بِكِتَابِ اللهِ، ثمَّ تَذوقُ العُسَيْلَةَ". رواه أبو إسحاق الجوزجانى فى كتاب المترجم قال: أخبرنى إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى جبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه، وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيراً من الحفاظ يضعفه والشافعى حسن الرأى فيه، ويحتج بحديثه. وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَلا أخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هُوَ المُحَلِّلُ. لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمَحَلَّلَ لَهُ". رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثقون، لم يجرح واحد منهم. وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية، بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئاً من ماله فتزوجها ليحلها له، فقال لا، ثم ذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فَقَالَ: "لا، حَتَّى يَنْكِحَ مُرْتَغِباً لِنَفْسِه، فإذَا فَعَلَ ذلِكَ لَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى يَذُوقُ العُسَيْلَةَ". ورواه أبو بكر بن أبى شيبة فى المصنف بإسناد جيد. وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتى، وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة، ومثل هذا حجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 باتفاق الأئمة، وهو والذى قبله نص فى التحليل المنوى، وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: "أن رجلاً له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، لم يأمرنى، ولم يعلم؟ قال: لا. إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً" ذكره شيخ الإسلام فى إبطال التحليل. فصل وأما الآثار عن الصحابة. ففى كتاب "المصنف" لابن أبى شيبة، و"سنن" الأثرم، و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: "لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما". ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: "لا أوتى بمحلل ولا محللاً إلا رجمتهما" وهو صحيح عن عمر. وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهرى عن عبد الملك بن المغيرة قال: "سئل ابن عمر رضى الله تعالى عنهما عن تحليل المرأة لزوجها؟ فقال: ذاك السفاح"، ورواه ابن أبى شيبة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثورى عبد الله بن شريك العامرى، قال: سمعت ابن عمر رضى الله تعالى عنهما: "سئل عن رجل طلق ابنة عم له، ثم رغب فيها وندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: كلاهما زان، وإن مكث عشرين سنة، أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له". قال وأنبأنا معمر والثورى عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضى الله عنهما وسأله رجل فقال: "إن عمى طلق امرأته ثلاثاً؟ فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجاً، قال: كيف ترى فى رجل يحللها؟ قال: من يخادع الله يخدعه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وعن سليمان بن يسار قال: "رفع إلى عثمان رضى الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة". رواه أبو إسحق الجورجانى فى "كتاب المترجم"، وذكره ابن المنذر عنه فى كتاب الأوسط". وفى "المهذب" لأبى إسحق الشيرازى، عن أبى مرزوق التجيبى: "أن رجلاً أتى عثمان رضى الله عنه فقال: إن جارى طلق امرأته فى غضبه، ولقى شدة، فأردت أن أحتسب نفسى ومالى، فأتزوجها" ثم أبنى بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان رضى الله عنه: لا تنكحها إلا نكاح رغبة". وذكر أبو بكر الطرطوشى فى خلافه عن يزيد بن أبى حبيب عن على بن أبى طالب رضى الله عنه فى المحلل: "لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله"، وعلى رضى الله عنه هو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أنه لعن المحلل"، فقد جعل هذا من التحليل. وروى ابن أبى شيبة فى "مصنفه" عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل له"، وهو ممن روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن المحلل. وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة، فكيف بما اتفقا عليه وتراضياً وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة؟ وذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل له". وروى الجوزجانى بإسناد جيد عن ابن عمر رضى الله عنهما: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال: لعن الله الحال والمحلل له". قال شيخ الإسلام: وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضى الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه فهى مبينة أن هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعلم بمراده ومقصوده. لاسيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر. هذا مع أنه لم يعلم أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرق بين تحليل وتحليل، ولا رخصوا فى شىء من أنواعه، مع أن المطلقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ثلاثاً مثل امرأة رفاعة القرظى قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة: وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك. ولو كان التحليل جائزاً لدلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها، لو كان التحليل جائزاً. قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط فى العقد كثير جدا ليس هذا موضع ذكرها، انتهى. ذكر الآثار عن التابعين قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة قال: "إذا نوى الناكح، أو المنكح، أو المرأة، أو أحد منهم التحليل. فلا يصلح". أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "المحلل عامداً، هل عليه عقوبة؟ قال: ما علمت، وإنى لأرى أن يعاقب" قال: وكلهم إن تمالئووا على ذلك مستوون، وإن أعظموا الصداق". أخبرنا معمر عن قتادة قال: "إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقربها إذا كان نكاحه على وجه التحليل". أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: "فطلق المحلل، فراجعها زوجها؟ قال: يفرق بينهما". أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول، فى رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها؟ فقال الحسن: "اتق الله، ولا تكن مسمار نار فى حدود الله". قال ابن المنذر: وقال إبراهيم النخعى: "إذا كان نية أحد الثلاثة: الزوج الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة: أنه محلل، فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 [قال: وقال الحسن البصرى: "إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد"] . قال: وقال بكر بن عبد الله المزنى فى الحال والمحلل له: "أولئك كانوا يسمون فى الجاهلية: التيس المستعار". قال: وقال عبد الله بن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230] . قال: "إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة" ورواه ابن أبى حاتم فى التفسير عنه. وقال هشيم: أخبرنا سيار عن الشعبى: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثاً قبل ذلك: أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال: لا، حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه" أى تقيم معه، رواه الجوزجانى. وروى عن النفيلى، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبى غنية، حدثنا عبد الملك عن عطاء: "فى الرجل يطلق المرأة، فينطلق الرجل الذى يتحزن له، فيتزوجها من غير مؤامرة منه، فقال: إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها، فقد حلت له". وقال سعيد بن المسيب: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة، قال: إن كان إنما نكحها ليحلها، فلا يصلح ذلك لهما، ولا تحل له" رواه حرب فى مسائله. وعنه أيضاً قال: "إن الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنى أقول: إذا تزوجها تزويجا صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول" رواه سعيد ابن منصور عنه. فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين، وهم: الحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبى رباح وإبراهيم النخعى. وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: "فى رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول، وهو لا يعلم، قال لا يصلح ذلك، إذا كان تزوجها ليحلها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ذكر الاثار عن تابعى التابعين ومن بعدهم قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وقال مالك رحمة الله: "يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخاً بغير طلاق". وقال سفيان الثورى: "إذا تزوجها، وهو يريد أن يحلها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبنى إلا أن يفارق، ويستقبل نكاحاً جديداً". قال أحمد بن حنبل: "جيد". وقال إسحاق: "لا يحل له أن يمسكها، لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح". وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعى. وقال الجوزجانى: حدثنا إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل تزوج المرأة وفى نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك؟ فقال: "هو محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون". قال الجوزجانى: وبه قال أيوب. وقال ابن أبى شيبة: "لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول". قال الجوزجانى: وأقول: إن الإسلام دين الله الذى اختاره واصطفاه، وطهره، حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه، وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين، على ما تقدم فيه من النهى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولعنه عليه، ثم ساق الأحاديث المرفوعة فى ذلك والآثار. فصل ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . والذى أنزلت عليه هذه الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 هو الذى لعن المحلل والمحلل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى: فلم يجعلوه زوجاً وأبطلوا نكاحه، ولعنوه. وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سماه "محللاً" فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللاً. فيقال: هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن من فعل السنة التى جاء بها، وفعل ما هو جائز صحيح فى شريعته، وإنما سماه محللاً لأنه أحل ما حرم الله، فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق، حتى تنكح زوجاً غيره، والنكاح اسم فى كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذى يتعارفه الناس بينهم نكاحاً، وهو الذى شرع إعلانه، والضرب عليه بالدفوف، والوليمة فيه، وجعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودة ورحمة، وجرت العادة فيه بضد ما جرت به فى نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة ولا كسوة، ولا سكنى، ولا إعطاء مهر، ولا تحصل نسب ولا صهر، ولا قصد المقام مع الزوجة، وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب، ولهذا شبهه به النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثم لعنه، فعلم قطعاً [لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور فى القرآن، ولا نكاحه هو النكاح المذكور فى القرآن، وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا] ليس بنكاح، ولا المحلل بزوج، وأن هذا منكر قبيح تعير به المرأة والزوج، والمحلل والولى، فكيف يدخل هذا فى النكاح الذى شرعه الله ورسوله، وأحبه، وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه؟ وتأمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا جُنَاحِ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] . أى فإن طلقها هذا الثانى، فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أى ترجع إليه بعقد جديد، فأتى بحرق "إن" الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم، والتحليل الذى يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهى طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها فى وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلواً الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه، والله سبحانه أنه شرع النكاح للوصلة الدائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وللاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سبباً لا نقطاعه، ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى وطئ كان وطؤه سبباً لانقطاع النكاح، وهذا ضد شرع الله. وأيضا. فإن الله سبحانه جعل نكاح الثانى وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه. فهذا زوج، وهذا زوج، وهذا نكاح، وهذا نكاح، وكذلك الطلاق، ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه، ولا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب، قاصد للنكاح. باذل للمهر، ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح، والمحلل برئ من ذلك كله، غير ملتزم لشئ منه. وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرّم نكاح المُتْعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة، وأن يقيم معها زماناً، وهو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذى ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزُو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم. وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه: أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعاً فى أول الإسلام، ونكاح التحليل لمُ يشرع فى زمن من الأزمان. الثانى: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن فى الصحابة محلل قط. الثالث: أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس، وإن قيل: إنه رجع عنه، وأباحه عبد الله بن مسعود. ففى "الصحيحين" عنه قال: "كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم، وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِى؟ فَنَهانَا عَنْ ذلِكَ، ثُمَّ رَخّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثّوْبِ إِلى أَجَلٍ". ثم قرأ عبد الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طيِّبَاتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] . وَفتْوَى ابن عباس بها مشهورة. قال عُروة: "قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم، كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفُ جافٍ، فلعمرى لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فقال له ابن الزبير: فجرّبْ نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك". فهذا قول ابن مسعود وابن عباس فى المتعة، وذاك قولهما وروايتهما فى نكاح التحليل. الرابع: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يجئ عنه فى لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد، وجاء عنه فى لعن المحلل والمحلل له، وعن الصحابة: ما قد تقدم. الخامس: أن المستمتع له غرض صحيح فى المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح. فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس. فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولى، وإنما هو كما قال الحسن: "مسمار نار فى حدود الله" وهذه التسمية مطابقة للمعنى. قال شيخ الإسلام: يريد الحسن: أن المسمار هو الذى يثبت الشئ المسمور، فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها، وقد حرمها الله عليه. السادس: أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهراً وباطنا، والمحلل ماكر مخادع، متخذ آيات الله هزواً. ولذلك جاء فى وعيده ولعنه ما لم يجئ فى وعيد المستمتع مثله، ولا قريب منه. السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سر النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه حلها له، ولا يطؤها حراماً، والمحلل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلها لغيره، ولهذا سمى محللاً، فأين من يريد أن يحُل له وَطء امرأة يخاف أن يطأهاً حراماً إلى من لا يريد ذلك، وإنما يريد بنكاحها أن يحُل وطأها لغيره؟ فهذا ضد شرع الله ودنيه، وضد ما وُضع له النكاح. الثامن: أن الفِطَر السليمة والقلوب التى لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيراً من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول، ولو نفرت منه لم يُبَح فى أول الإسلام. التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والسكنى، وإجارة العبد للخدمة مدة، ونحو ذلك، مما للباذل فيه غرض صحيح. ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح، الذى شرع بوصف الدوام والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل، فإنه لا يشبه شيئاً من ذلك، ولهذا شبهه الصحابة رضى الله عنهم بالسفاح، وشبهوه باستعارة التيس للضراب. العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب، كالبيع والإجارة، والهبة والنكاح، مفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرَّقبة، والاجارة سبباً لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سبباً لملك البضع وحل الوطء. والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله تعالى ودينه، فإنه جعل نكاحه سبباً لتمليك المطلق- البضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع، وحله له، ولا له غرض فى ذلك، ولا دخل عليه. وإنما قصد به أمراً آخر لم يشرع له ذلك السبب، ولم يجعل طريقاً له. الحادى عشر: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطنا، وهو فى الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويسمى المهر، ويشهد على رضى المرأة، وفى الباطن بخلاف ذلك، لا يريد أن يكون زوجاً، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن، وأنه مريد لذلك. والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو، والمطلق: أن الأمر كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هى امرأته على الحقيقة. الثانى عشر: أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطون فى أنكحتهم أموراً منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل، ولا يفعلونه. ففى "صحيح البخارى" عن عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها أخبرته: "أن النكاح فى الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليَّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها". و"نكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته، إذا طهرت من طمثها: أرسلى إلى فلان، فاستبضعى منه، فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، الذى تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 رغبة فى نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط مادون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليالى بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذى كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، ولا تمنع من جاءها، وهن البغايا. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذى يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله تعالي عليه وآله وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم. ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذى أشارت إليه عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقره ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به. فصل وسبب هذا كله: معصية الله ورسوله، وطاعة الشيطان فى إيقاع الطلاق على غير الوجه الذى شرعه الله، والله سبحانه يبغض الطلاق فى الأصل، كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَى الله تَعَالَى الطَّلاقُ". وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا بَالُ قَوْمٍ يلْعَبُونَ بحُدُودِ اللهِ يَقُولُ: قدْ طَلَّقْتُكِ، قدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلّقْتُكِ". وفى "صحيح" مسلم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِىءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فيقَولُ: مَا صَنَعْتُ شَيئاً، قالَ: وَيَجِىء أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِه، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، أَوْ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ، ويَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ أَنْتَ". فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيراَ ما يندم المطلق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى منها وطره، ولابد له من المرأة، فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس. إحداها: التحيل على عدم وقوع الطلاق، وهو نوعان، تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح، فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك، أو إذا وقع عليك طلاقى، فأنت طالق قبله ثلاثا، فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا، لا مطلقاً ولا مقيدا عن المسرحين، فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل فى عنق الزوج، لا سبيل له إلى طلاقها أبدا. الحيلة الثانية: التحيل على عدم وقوع الطلاق، يكون النكاح فاسداً، فلا يقع فيه الطلاق، ويتحيلون لبيان فساده من وجوه: منها: أن عدالة الولى شرط فى صحته، فإذا كان فى الولى ما يقدح فى عدالته، فالنكاح باطل، فلا يقع فيه الطلاق، والقوادح كثيرة، فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحاً. ومنها: أن عدالة الشهود شرط، والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير، أو استناده إلى مسند حرير، أو جلوسه تحت حركاة حرير، أو تجمره بمجمرة فضة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك. فيا للعجب، يكون الوطء حلالا، والنسب لاحقاً، والنكاح صحيحاً حتى يقع الطلاق، فحينئذ يطلب وجوه إفساده. الحيلة الثالثة: التحيل بالمخالعة، حتى يفعل المحلوف عليه، فإذا فعله تزوجها بعقد جديد. الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس فى الرأس، وحنث، ولابد، اشترى غلاماً دون البلوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك، فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق، فإن عجزوا عن ذلك وآعوزهم انتقلوا إلى: الحيلة الخامسة: وهى استكراء التيس الملعون المستعار لينزوا عليها ويحلها بزعمه، فهذه خمس حيل للخاصة. وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأى طريق اتفق 0 قالوا: المقصود هو الرجوع، والحيلة مقصودة لغيرها، وأعيان الحيل ليست مقصودة، فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى. إحداها: أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله، فيطأها، وهى قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج، ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة. فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود، فما كان أقل فساداً كان أقرب إلى المقصود. الحيلة الثانية: أن تكون حاملاً فتلد ذكراً، وكأنهم قاسوا الذكر الذى شقها خارجاً على الذكر الذى يشقها داخلاً، وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود. الحيلة الثالثة: أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها، وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه. الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه، فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج، ولا أدرى من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك، وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن، وأن السفر قطع حكم ما مضى رأساً. الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عرفات، فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم، وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فصل واعلم أن من اتقى الله فى طلاقة، فطلق كما أمره الله ورسوله، وشرعه له. أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] . فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذى شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. فإن بدا له أن يمسكها فى العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن تستقبل عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة بزوج ولا تحليل. ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: "عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً". وقال سعيد بن جبير: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفا، فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر، اتخذت آيات الله هزوا". وقال مجاهد: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. فسكت، حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّق اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] ، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ذكره أبو داود. وقد روى النسائى عن محمود بن لبيد قال: " أُخْبِرَ رسُولُ الله صلى اللهُ عليه وَسلم عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرأَتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعاً، فقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَاب اللهِ وَأَنَآ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا أَقْتُلهُ؟ ". وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن، فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلاً. قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، والمرتان فى لغة العرب، بل وسائر لغات الناس إنما تكون لما يأتى مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 آخره، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك، كقوله تعالى: {سَنُعذَبُهُمْ مَرَّتَينِ} [التوبة: 101] وقوله: {أَولاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلَم مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] . ثم فسرها بالأوقات الثلاثة، وشواهد هذا أكثر من أن تحصى. ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فهذه هى المرة الثالثة. فهذا هو الطلاق الذى شرعه الله سبحانه مرة بعد مرة، فهذا شرعه من حيث العدد. وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة، وقد فسره النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأن يطلقها طاهراً من غير جماع، فلم يشرع جمع ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق فى حيض، ولا فى طهر وطئها فيه، وكان المطلق فى زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كله وزمن أبى بكر كله، وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما، إذا طلق ثلاثاً يحسب له واحدة، وفى ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم فى "صحيحه"، والثانى: رواه الإمام أحمد فى "مسنده". فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كانَ الطّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ وأبى بكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَر: طَلاَقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فى أَمْرِ كانَتْ لَهُمْ أنَاةٌ، فَلَوْ أمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ". وفى "صحيحه" أيضاً عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "هَاتِ مِنْ هُنَيَّاتِكَ: ألَمْ يَكُنِ الطّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تعَالَى علَيْهِ وآله وسلّمَ، وَأبى بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فقَالَ: قَدْ كانَ ذلِكَ فَلَمَّا كَانَ فى عَهْدِ عُمر تَتَايعَ النَّاسُ فى الطلاقِ، فأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ". وفى لفظ لأبى داود: "أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدرا من إمارة عمر رضى الله عنهما؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم، وأبى بكر، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجرهن عليهم"، هكذا فى هذه الرواية: "قبل أن يدخل بها" وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخلق من السلف، جعلوا الثلاث واحدة فى غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: "قبل الدخول" ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئاً. وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر: طاوس وهو أجل من روى عنه، وأبو الصهباء العدوى، وأبو الجوزاء. وحديثه عند الحاكم فى "المستدرك". ولفظه: "أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كنّ يرددن على عهد رسول الله عليه الصلاة السلام إلى واحدة؟ قال: نعم"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه. ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس فى شئ منها "قبل الدخول" وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبى الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه. ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة فى حق مطلق قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس، وقال: "كانوا يجعلونها واحدة"، فقال له ابن عباس "نعم" أى الأمر على ما قلت. وهذا لا مفهوم له فإن التقييد فى الجواب وقع فى مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه. نعم. لو لم يكن السؤال مقيداً فقيد المسئول الجواب، كان مفهومه معتبراً، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت فى سمن، فقال: "إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فى السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلهَا وَكُلُوهُ". لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة. وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقاً فى أحد الحديثين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وذكر بعض أفرادهن فى الحديث الآخر، لا تعارض بينهما. وأما الحديث الآخر: فقال أبو داود فى "سننه": حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنى بعض بنى أبى رافع- مولى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ- أبُوُ رُكانَةَ وَإِخْوَتِهِ- أُمَّ رُكانَة وَنَكَحَ امْرَأةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى الّنبىِّ صَلّى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم، فقَالَتْ: مَا يُغنى عَنِّى إِلا كما تُغْنِى هذِه الشعرةُ- لِشعرةٍ أخذَتها منْ رَأَسها- فَفرقْ بْينَىِ وَبَيَنْهُ، فَأَخَذَتِ النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ حَمِيّةٌ، فَدَعَا بِرُكانَة وَإخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لُجُلَسَائِه: "أَتَرَوْنَ فُلاناً يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وكَذَا؟ مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ، وَفُلاناً يشبه مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالُوا: نَعمْ، فقَالَ النّبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "طَلِّقْهَا"، فَفعَلَ، فقَالَ: رَاجِعِ امْرَأتَكَ أُمَّ رُكَانَة، فَقَالَ: إِنِّى طَلّقْتُهَا ثَلاثاَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا، وَتَلا: {يَأَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَطَلَقُوهُنَّ لِعدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ... الآية} [الطلاق: 1] ". فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا، وتلا الآية التى هى وما بعدها صريحة فى كون الطلاق الذى شرعه الله لعباده هو الطلاق الذى يكون للعدة، فإذا شارفت انقضاءها، فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير، فلعل المطلق أن يندم، فيكون له سبيل إلى الرجعة، وهو قوله تعالى: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بعد ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] . فأمره بالمراجعة، وتلاوته الآية كاف فى الاستدلال على ما كان عليه الحال. فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بنى [أبى] رافع، والمجهول لا تقوم به حجة. فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإمام أحمد قد قال فى "المسند": حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبى عن محمد بن إسحق قال: حدثنى داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 "طلق ركانة بن عبد يزيد- أخو المطلب- امرأته ثلاثاً فى مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كيف طلقتها؟ " قال: طلقتها ثلاثاً قال: "فى مجلس واحد؟ " قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، قال: فراجعها" قال: "وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر". ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى فى "مختاراته" التى هى أصح من "صحيح الحاكم". فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبى الصهباء، وأبى الجوزاء عن ابن عباس، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس. فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان يقيده على العلم، وكان طاوس خاصاً عنده يجتمع به كثيراً، ويدخل عليه مع الخاصة. وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحق، لما صح عنده هذا الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول: "جَهِلَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إِلَيْهَا". فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به. وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما: موافقة عمر رضى الله عنه تأديبا وتعزيرا للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه. وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس- وحسبك بهذا السند صحة وجلالة- "إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهى واحدة" ذكره أبو داود في "السنن". الوجه الثانى: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن الكذب مشهوراً فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها. الوجه الثالث: أن روايته لم يعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين، وحديث أبى الصهباء، فهب أن وجود روايته وعدمها سواء، ففى حديث داود كفاية، وقد زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله "حدثنى به" وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه فى حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها، وأخذوا به وعملوا بموجبه، مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة فى منع بيع الرطب بالتمر له: والقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس ومصالح بنى آدم. أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرجعة فى كل طلاق، إلا طلاق غير المدخول بها، والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين، وليس فى القرآن طلاق بائن قط، إلا فى هذين الموضعين وأحدهما بائن غير محرم، والثانى بائن محرم، وقال تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأما القياس، فإن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6] ، ثم قال: {وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبع شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 8] ، فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إنى صادق، أو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إنه كاذب، كانت شهادة واحدة، ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله، أنت طالق ثلاثاً ثلاث تطليقات؟ وأى قياس أصح من هذا؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه، ولهذا لو قال المقر بالزنى: إنى أقر بالزنى أربع مرات، كان ذلك مرة واحدة، وقد قال الصحابة لماعز: "إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فلو قال: أقر به أربع مرات، كانت مرة واحدة. فهكذا الطلاق سواء. فهذا القياس، وتلك الآثار، وذاك ظاهر القرآن. وأما أقوال الصحابة: فيكفى كون ذلك على عهد الصديق، ومعه جميع الصحابة، لم يختلف عليه منهم أحد، ولا حكى في زمانه القولان، حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم وإنما حدث الخلاف فى زمن عمر رضى الله عنه، واستمر الخلاف فى المسألة إلى وقتنا هذا، كما سنذكره. قالوا: فقد صح بلا شك أنهم كانوا فى زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر مدة خلافته كلها، وصدراً من خلافة عمر رضى الله عنهما يوقعون على من طلق ثلاثاً واحدة. قالوا: فنحن أحق بدعوى الإجماع منكم، لأنه لا يعرف فى عهد الصديق أحد رد ذلك ولا خالفه، فإن كان إجماع فهو من جانبنا أظهر ممن يدعيه من نصف خلافة عمر رضى الله عنه، وهلم جرا، فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائما، وذكره أهل العلم فى مصنفاتهم قديما وحدثنا. فممن ذكر الخلاف فى ذلك: داود، وأصحابه، واختاروا أن الثلاث واحدة. وممن حكى الخلاف: الطحاوى فى كتابه "اختلاف العلماء"، وفى كتاب "تهذيب الآثار"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وأبو بكر الرازى فى كتاب "أحكام القرآن"، وحكاه ابن المنذر، وحكاه ابن جرير، وحكاه المؤرخ فى "تفسيره"، وحكى حجة القولين، ثم قال: وهى مسألة خلاف بين العلماء، وحكاه محمد بن نصر المروزى، واختار القول بالثلاث: أنها واحدة في حق البكر، ثلاث فى "حق" المدخول بها، وحكاه من المتأخرين المازرى فى كتاب "المَعْلَم"، وحكاه عن محمد بن مقاتل من أصحاب أبى حنيفة، وهو من أجل أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبى حنيفة. فهو أحد القولين فى مذهب أبى حنيفة. وحكاه التلمسانى فى "شرح التفريع فى مذهب مالك"، قولاً فى مذهبه، بل رواية عن مالك، وحكاه غيره قولاً فى المذهب، فهو أحد القولين فى مذهب مالك، وأبى حنيفة، وحكاه شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد، وهو اختياره، وأسوأ أحواله أن يكون لبعض أصحاب الوجوه فى مذهبه، كالقاضى وأبى الخطاب وهو أجل من ذلك، فهو قول فى مذهب، أحمد بلا شك. وأما التابعون فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار، يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهى واحدة. قال: واختلف فى هذا الباب عن الحسن، فروى عنه أنه ثلاث، وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، وقال: واحدة بائنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقال محمد بن نصر فى كتاب "اختلاف العلماء": أجمع أهل العلم أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقة، ولم يدخل، بها أنها بانت منه، وليس عليها عدة، واختلفوا فى غير المدخول بها، إذا طلقها الزوج ثلاثا بلفظ واحد، فقال الأوزاعى، ومالك، وأهل المدينة: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وروى عن ابن عباس وغير واحد من التابعين أنهم قالوا: "إذا طلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة". وأكثر أهل الحديث على القول الأول. قال: وكان إسحق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس: "كانَ الطَّلاقُ الثّلاثُ عَلَى عَهْدِ رسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلّم وَأبى بكرٍ وعُمَر رَضى اللهُ عَنهُمْ يُجْعَلُ وَاحِدَةً"، عَلَى هذَا: قلت: هذا تأويل إسحاق، وأما أبو داود فجعله منسوخاً، فقال فى كتاب "السنن": باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، ثم ساق حديث ابن عباس رضى الله عنهما: "أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . ثم ذكر فى أثناء الباب حديث أبى الصهباء، وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتا، لما كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها، وهذا وهم؛ لوجهين: أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ، كما كان فى أول الإسلام. الثانى: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكون الثلاث واحدة قد عمل به فى خلافة الصديق كلها، وأول خلافة عمر رضى الله عنه، فمن المستحيل أن ينسخ بعد ذلك. وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شيئاً ثم يفتى بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضى الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتى بخلافه، أو يكون ذلك منسوخاً، استدلاًلاً بفتيا ابن عباس، وهذا المسلك ضعيف جداً لوجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أحدها: أن حديث عكرمة عن ابن عباس فى رد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم امرأة ركانة عليه بعد الطلاق الثلاث. يبطل هذا التأويل رأساً. الثانى: أن هذا لو كان صحيحاً لقال ابن عباس لأبى الصهباء: ما أدرى، أبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو لم يبلغه؟ فلما أقره على ذلك كان إقراره دليلا على أنه مما بلغه. الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحا، لم يقل عمر: "إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة"، بل كان الواجب أن يبين السنة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى خلاف ذلك، وأن هذا العمل من الناس خلاف دين الإسلام، وشرع محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا يقول: "فلو أنا أمضيناه عليهم" فإن هذا إنما يكون إمضاء من الله تعالى ورسوله، لا من عمر. الرابع: أنه من الممتنع، والمستحيل أن يكون خيار الخلق يطلقون فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعهد خليفته من بعده، ويراجعون على خلاف دينه، فيطلقون طلاقاً محرماً، ويراجعون رجعة محرمة، ولا يعلمون بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو بين أظهرهم. ثم حديث ابن عباس الذى رواه أحمد يرد ذلك، ثم يرده فتوى ابن عباس فى إحدى الروايتين عنه، وهى ثابته عنه بأصح الإسناد كما أن الرواية الأخرى ثابته عنه. وكيف يستمر جهل أخيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومدة حياة الصديق كلها، وشطراً من خلافة عمر رضى الله عنهما، ثم ظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان؟ وكيف يصح قول عمر رضى الله عنه: "إن الناس قد استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة"؟ وكيف يصح قوله: "فلو أنا أمضيناه عليهم"؟ فهذا المسلك كما ترى. وأما الإمام أحمد فإنما رده بفتوى ابن عباس بخلافه، وهو راوى الحديثين. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر، وعمر رضى الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة" بأى شىء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه. وكذلك نقل عنه ابن منصور وهذا المسلك إنما يجىء على إحدى الروايتين: أن الصحابى إذا عمل بخلاف الحديث لم يحتج به، واتبع عمل الصحابى والمشهور عنه: أن العبرة بما رواه الصحابى لا بقوله، إذا خالف الحديث، ولهذا أخذ برواية ابن عباس فى حديث بريرة، وأن بيع الأمة لا يكون طلاقا لها، لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيرها ولو انفسخ ببيعها لم يخيرها، مع أن مذهب ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها، واحتج بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيَمْانُكُمْ} [النساء: 24] . فأباح وطء مملوكته المزوجة ولو كان النكاح باقيا لم ينفسخ، لم يبح له وطأها. والجمهور وأحمد معهم خالفوه فى ذلك، وقالوا: لا يكون بيعها طلاقاً. واحتجوا بحديث بريرة، وتركوا رأيه لروايته، فإن روايته معصومة ورأيه غير معصوم. والمشهور من مذهب الشافعى: أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبى حنيفة عكس ذلك، وعن أحمد روايتان. فهذا المسلك فى رد الحديث لا يقوى. وسلك آخرون فى رد الحديث مسلكاً آخر. فقالوا: هو حديث مضطرب، لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخارى، وترجم فى "صحيحه" على خلافه، فقال: "باب جواز الطلاق الثلاث فى كلمة، لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ثم ذكر حديث اللعان، وفيه: "فَطَلّقَهَا ثَلاثاً قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَه رسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" ولم يغير عليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو لا يقر على باطل". قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس، تارة عن طاوس عن أبى الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبى الجوزاء عن ابن عباس، فهذا اضطرابه من جهة السند. وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: "ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ " وتارة يقول: "ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى بكر، وصدرا من خلافة عمر واحدة؟ " فهذا يخالف اللفظ الآخر. وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح فى هذا الحديث، ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأى شىء ترده؟ قال: "برواية الناس عن ابن عباس خلافه" ولم يرده بتضعيف، ولا قدح فى صحته، وكيف يتهيأ القدح فى صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ؟ حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار. وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاووس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق، ولا ابن جريج، ولا عبد الله بن طاووس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخارى له لا يوهنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التى تركها البخارى، لئلا يطول كتابه، فإنه سماه: "الجامع المختصر الصحيح" مثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم. وأما رواية من رواه عن أبى الجوزاء فإن كانت محفوظة فهى مما يزيد الحديث قوة، وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهى وهم فى الكنية، انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبى مليكة من أبى الصهباء، إلى أبى الجوزاء، فإنه كان سىء الحفظ، والحفاظ قالوا: "أبو الصهباء" وهذا لا يوهن الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وهذه الطريق عند الحاكم فى "المستدرك". وأما رواية من رواه، مقيداً "قبل الدخول"، فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين، على أنها عند أبى داود عن أيوب عن غير واحد، ورواية الأطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح. وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صريح فى كون الثلاث واحدة فى حق المدخول بها. وعامة ما يقدر فى حديث أبى الصهباء: أن قوله "قبل الدخول" زيادة من ثقة، فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت فى حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت فى حكم الثيب أيضاً، فأحد الحديثين يقوى الآخر، ويشهد بصحته. وبالله التوفيق. وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله: فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاووس وحده. قالوا: فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم، الذى الحاجة إليه شديدة جداً؟ فكيف خفى هذا على جميع الصحابة، وعرفه ابن عباس وحده؟ وخفى على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاووس وحده؟ وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأمة الثقات بمثل هذا. فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، لم يروه غيره، وقبلته الأمة كلهم، فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاووس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة؟، ولا نعلم أحداً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابى واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم فى ذلك أقوال، لا يعرف لها قائل من الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قد تفرد الزهرى بنحو ستين سنة، لم يردها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده. هذا، مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضى الله عنهما حديث ركانة، وهو موافق لحديث طاووس عنه، فإن قدح فى عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه. فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله؟ أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشاذ: أن يخالف الثقات فيما رووه، فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حدثيا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن الاصطلاح موجباً لرده ولا مسوغاً له. قال الشافعى رحمه الله: "وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروى خلاف ما رواه الثقات"، قاله فى مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوى به. ثم إن هذا القول لا يمكن أحداً من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم. والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيراً من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها، لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يعد. ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدى شيئاً استروح إلى تأويله. فقال: معنى الحديث: أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وعمر واحدة، ولا يوقعون الثلاث، فلما كان فى أثناء خلافة عمر رضى الله عنه أوقعوا الثلاث، وأكثروا من ذلك، فأمضاه عليهم عمر رضى الله عنه. كما أوقعوه، فقوله: "كانت الثلاث على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام واحدة" أى فى التطليق، وإيقاع المطلقين: لا فى حكم الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجاب به، وبه يزول كل إشكال. ولعمر الله، لو سكت هذا كان خيراً له وأستر، فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل فى الحديث. وسياقه يبين بطلانه بياناً ظاهراً لا إشكال فيه، وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم، مخلدين إلى حضيض التقليد، فروج عليهم مثل هذا، وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث، ولم يعن بطرقه، فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبى الصهباء لابن عباس: "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأبى، وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنهما؟ " فأقر ابن عباس بذلك، وقال: "نعم". وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واحدة، فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن، وحديث محمود بن لبيد: "أن رجلاً طلق امرأته على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً، فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقال: أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " ثم زاد هذا القائل فى الحديث زيادة من عنده، فقال: "وأمضاه عليه، ولم يرده". وهذه اللفظة موضوعة لا تروى فى شىء من طرق هذا الحديث ألبته، وليست فى شىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 من كتب الحديث، وإنما هى من كيس هذا القائل، حمله عليها فرط التقليد. ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك، من إمضاء أو رد إلى واحدة. والمقصود: أن هذا القائل تناقص، وتأول الحديث تأويلا بطلانه من سياقه. ومن بعض ألفاظه: "أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر رضى الله عنهما يرد إلى الواحدة"، وهذا موافق للفظ الآخر: "كان إذا طلق امرأته ثلاثاً جعلوها واحدة"، وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى، يفسر بعضها بعضا. فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها، والواضح مشكلاً وكيف يصنع بقوله: "فلو أمضيناه عليهم"؟ فإن هذا يدل على أنه رَأْىٌ من عمر رضى الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه، وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم، وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذى شرعه، وتعديهم حدوده، ومن كمال علمه رضى الله عنه أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه، وراعى حدوده، وهؤلاء لم يتقوه فى الطلاق، ولم يراعوا حدوده، فلا يستحقون المخرج الذى ضمنه لمن اتقاه. ولو كان الثلاث تقع ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو دينه الذى بعثه الله تعالى به، لم يضف عمر رضى الله عنه إمضاءه إلى نفسه، ولا كان يصح هذا القول منه، وهو بمنزلة أن يقول فى الزنى، وقتل النفس، وقذف المحصنات: لو حرمناه عليهم. [فحرمه عليهم] ، وبمنزلة أن يقول فى وجوب الظهر والعصر، ووجوب صوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة: فلو فرضناه عليهم، ففرضه عليهم. فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التى كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة فى المسألة، وقوى جانبها عنده، فإنه يرى أن الحديث لا يرد يمثل هذه الأشياء. وقد سلك أبو عبد الرحمن النسائى فى "سننه" فى الحديث مسلكاً آخر، فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه قال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضى الله عنهما فقال: "يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى عليه وآله وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأبى بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم" وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة، وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون أخر. وكأنه لما أشكل عليه وجه الحديث حمله على ماذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وصدراً من خلافة عمر رضى الله عنهما، ثم يتغير فى خلافة عمر رضى الله عنه، ويمضى الثلاث بعد ذلك علي المطلق. فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة. وسلك آخرون فى الحديث مسلكاً آخر، وقالوا: هذا حديث يخالف أصول الشرع، فلا يلتفت إليه. قالوا: لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه، فإن قلنا بقول الشافعى ومن وافقه: أن جمع الثلاث جائز، فقد فعل ما أبيح له فيصح، وإن قلنا: جمع الثلاث حرام، وهو طلاق بدْعىُّ، فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له، فإذا جمعها فقد جمعها ما فُسح له فى تفريقه، فلزمه حكمه كما لو فرقه. قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه، فهذا قياس الأصول، فلا نبطله بخبر الواحد. قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص، فضلاً عن أن يقدم على النص، وهو قياس مخالف لأصول الشرع، ولغة العرب، وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وعمل الصحابة فى عهد الصديق. فأما مخالفته لأصول الشرع، فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقاً يملك فيه الرجعة ويكون مخيراً فيه بين الإمساك بالمعروف، وبين التسريح بالإحسان، ما لم يكن بعوض أو يستوفى فيه العدد. والقرآن قد بين ذلك كله: فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة، ولا عدة عليها، وبين أن المفتدية تملك نفسها، ولا رجعة لزوجها عليها، وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه، وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة، وهو مخير بين الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان. وهذا كتاب الله عز وجل قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها، وجعل سبحانه أحكامها من لوازمها التى لا تنفك عنها. فلا يجوز أن تتغير أحكامها البته، فكما لا يجوز فى الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب فيه العدة، ولا فى الطلقة المسبوقة بطلقتين أن تثبت فيها الرجعة، وأن تباح بغير زوج وإصابة، ولا فى طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة، فكذلك لا يجوز فى النوع الآخر من الطلاق أن يتغير حكمه، فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة، فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذى حكم به فيه. وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة. ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك، فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة، إلا الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع، والطلقة الثالثة. فبيننا وبينكم كتاب الله، فإن كان فيه شىء غير هذا فأوجدونا إياه. ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعى فى تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث، وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد. واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . قالوا: ولا يعقل فى لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة. فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُوِلهِ وَتَعْمَلْ صَالحِاً نُؤْتِهاَ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] . وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ".فأجابهم الآخرون بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة، والأعيان تارة. وأكثر ما تستعمل فى الأفعال. وأما الأعيان فكقوله فى الحديث: "انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الله تعالى عليه وآله وسلم مَرّتَيْن ِ". أى شقتين وفلقتين. ولما خفى هذا على من لم يحط به علماً زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة فى زمانين. وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة، ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله "مرتين" المرة الزمانية. إذا عرف هذا فقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وقوله "يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ". أى ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفاً. وهذا يمكن اجتماع المرتين منه فى زمان واحد. وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما فى زمن واحد، فإنهما مثلان، واجتماع المثلين محال. وهو نظير اجتماع حرفين فى آن واحد من متعلم واحد، وهذا مستحيل قطعاً فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق فى إيقاع واحد. ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤد للواجب عليه، وإنما يستحب له رمى حصاة واحدة، فهى رمية لا سبع رميات واتفقوا كلهم على أنه لو قال فى اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أنى صادق، كانت شهادة واحدة. وفى الحديث الصحيح: "مَنْ قَالَ فى يَوْمٍ سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدَ الْبَحْرِ". فلو قال: سبحان الله وبحمده مائه مرة، هذا اللفظ، لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة. وكذلك قوله: "تُسَبِّحُونَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاثاَ وَثَلاَثِينَ، وَتحْمَدُونَ ثَلاثاً وَثَلاثِين، وَتُكَبِّرُونَ أَرْبَعاً وَثلاثِينَ". لو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، لم يكن مسبحاً هذا العدد حتى يأتى به واحدة بعد واحدة. ونظائر ذلك فى الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر. قالوا: فقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . إما أن يكون خبراً فى معنى الأمر، أى إذا طلقتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فطلقوا مرتين. وإما أن يكون خبراً عن حكمه الشرعى الدينى، أى الطلاق الذى شرعته لكم، وشرعت فيه الرجعة: مرتان. وعلى التقديرين: إما أن يكون ذلك مرة بعد مرة، فلا يكون موقعاً للطلاق الذى شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة، ولا يكون موقعاً للمشروع بقوله: أنت طالق ثلاثاً، ولا مرتين. قالوا: ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع فى مرتين، فلو شرع جمع الطلاق فى دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحاً، ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة بجمعه. وهذا خلال ظاهر القرآن، وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان. وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك. قالوا: ويدل عليه أن الطلاق اسم محلى باللام، وليست للعهد بل للعموم، فالمراد بالآية: كل الطلاق مرتان. والمرة الثالثة التى تحرمها عليه، وتسقط رجعته. وهذا صريح فى أن الطلاق المشروع هو المتفرق، لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم. قالوا: ويدل عليه قول تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْساَنٍ} [البقرة: 229] . فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها، فإنه لا يبقى بعدها إمساك. قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . و"إذا" من أدوات العموم، كأنه قال: أى طلاق وقع منكم فى أى وقت فحكمه هذا، إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقى ما عدها داخلاً فى لفظ الآية نصاً أو ظاهراً. قالواً: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] . فهذا عام فى كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين، فالقرآن يقتضى أن ترجع إلى زوجها إذا أرادت فى كل طلاق ماعدا الثالثة. قالوا: ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتّقُوا اللهَ رَبَّكُمُ لا تُخْرِجُوهنَّ مِنْ بُيُوتهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعَدَ ذلِكَ أمَراً * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1-2] . ووجه الأستدلال بالآية من وجوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أى لاستقبال عدتها. فتطلق طلاقاً يعقبه شروعها فى العدة، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما طلق امرأته فى حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيراً للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق فى قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى فى ذلك الطهر، لأنه غير مطلق للعدة. فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة. ثم قال الإمام أحمد فى ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك. فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة. وقال فى رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية فى الطهر الثانى، ويطلقها الثالثة فى الطهر الثالث، وهو قول أبى حنيفة فيكون مطلقاً للعدة أيضا لأنها تبتنى على ما مضى. والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد، لأن الطلاق البائن لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة، فلا يكون مأذوناً فيه. فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى، لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعاً قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها. وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما فى القراءة الأخرى التى تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن فى قُبُلِ عدِّتهن. قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فإن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف فى الأطهار من لا يجوزّ الجمع فى الطهر الواحد. وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه. ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وإن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] . فما أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم، وهذا فهم من دعاً له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ الدِّينِ، وَيُعَلّمَهُ التَّأْوِيلَ". وهو من أحسن الفهوم كما تقرر. الوجه الثانى من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] . وهذا إنما هو فى الطلاق الرجعى. فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم الصحيحة التى لا مطعن فى صحتها، الصريحة التى لا شبهة فى دلالتها. فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال: لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقاً له فلها عليه حقوق الزوجية، فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن. الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] . فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالماً. الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أمْراً} [الطلاق: 1] . وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر هاهنا هو الرجعة. قالوا "وأىّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ ". الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُن لعِدَّتهِنَّ} [الطلاق: 1] . كما تقدم وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الطلاق الطلاق فى طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقاً فى غير قبل العدة، فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى. قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد فى وقوعه ومفارقة حبيبته. وقد وقت للعدة أجلاً لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة فى حال حيضها، لأنه وقت نفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد فى إمساكها لقضاء وطره. فإذا طلقها فى هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما فى الطلاق فى الحيض من تطويل العدة، وعقيب الجماع من طلاق مَن لعلها. قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها فى هذه الحال إلا لحاجته إليه. فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا فى هذه الحال أو فى حال استبانة حملها، لأن إقدامه أيضاً على طلاقها فى هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق. وقد أكد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق فى الطهر الذى يلى الحيضة التى طلق فيها، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها. وفى ذلك عدة حكم: منها: أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهى فى حكم القرء الواحد، فإذا طلقها فى ذلك الطهر فكأنه طلقها فى الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشىء الواحد. الثانية: أنه لو أذن له فى طلاقها فى ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق، وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد الله تعالى فى شرعه ودينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الثالثة: أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما فى نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صلحت الحال بينهما، وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتاً إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذى هو أبعد شىء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقاً بحيث لا يكون له سبباً إليها؟ وكيف يجتمع فى حكمة الشارع وحكمة هذا وهذا؟. فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هى بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهى الواحدة. قالوا: فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم، وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا، وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التى ذكرناها. وقولكم: إن المطلق ثلاثاً قد جمع ما فسح له فى تفريقه: هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقاً لا مجموعاً، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف: "رجل أخطأ السنة، فيرد إليها" فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة. ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقاً فأراد أن يجمعه كرمى الجمار الذى إنما شرع له مفرقاً، واللعان الذى شرع كذلك، وأيمان القسامة التى شرعت كذلك. ونظير قياسكم هذا: أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها فى وقت واحد، لأنه جمع ما أمر بتفريقه. على أن هذا قد فهمه كثير من العوام، يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع فى وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فصل فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له فسادها. فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دالة على خلافه، وذكروا أحاديث. منها: ما فى الصحيحين عن فاطمة بنت قيس: "أَنَّ أبَا حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ طَلّقَهَا الْبَتّة، وَهُوَ غَائِبٌ. فأَرْسَلَ إِليْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَجَاءَتْ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذلِكَ. فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ". وقد جاء تفسير هذه "البتة" فى الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة. فقد أجاز عليه الثلاث، وأسقط بذلك نفقتها وسكناها. وفى المسند "أن هذه الثلاث كانت جميعاً" فروى من حديث الشعبى: "أَنّ فَاطِمَةَ خَاصَمَتْ أخَا زَوْجِهَا إلى النَّبىَّ صلى اللهُ تعالى عليه وسلَم لَمَّا أَخْرَجَهَا مِنَ الدَّارِ، وَمَنَعَهَا النَّفَقَةَ. فَقَال: مَالَكَ وَلابْنَةِ قَيْسٍ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنّ أخِى طَلّقَهَا ثَلاثاً جَميعاً" وذكر الحديث. ومنها ما فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: "أَنَّ رَجُلاَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثلاثاً. فَتَزَوَّجَتْ، فَطُلِّقَتْ، فَسُئِلَ النَّبىُّ صلى اللهُ تعالى عليّ وآله وسلم: أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كما ذَاقَ الأوَّلُ". ووجه الدليل: أنه لم يستفصل، هل طلقها ثلاثاً مجموعة أو متفرقة؟ ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال. ومنها: ما اعتمد عليه الشافعى فى قصة الملاعنة: "أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلانىَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيْقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفى صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا. قَالَ سَهْلٌ فَتلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فَلمَّا فَرَغَاً مِنْ تَلاعُنِهمَا قَالَ عُوَيَمرٌ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أمْسَكْتُهَا، فَطَلّقَهَا ثلاثاً قَبْلَ أَنْ يأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكانَتْ تِلْكَ سَنَّةُ المتلاعِنَينِ" متفق عَلَى صحته. قال الشافعى: فقد أقره رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الطلاق ثلاثاً ولو كان حراماً لما أقره عليه. ومنها: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد قال "أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: أيلعب بكتاب الله. وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ " ولم يقل: إنه لم يقع عليه إلا واحدة، بل الظاهر أنه أجازها عليه، إذ لو كانت زوجته ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك، لأنه إنما طلقها ثلاثاً يعتقد لزومها، فلو لم يلزمه لقال له: هى زوجتك بعد، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه عن ركانة: "أنه طلق امرأته البتة. فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: ما أردت؟ قال: واحدة. قال: الله ما أردت بها إلا واحدة؟ قال: الله ما أردت بها إلا واحدة" ورواه الترمذى وفيه "فقال: يا رسول الله، إنى طلقت امرأتى ألبتة، فقال: ما أردت بها؟ فقلت: واحدة قال: والله؟ قلت: والله، قال: فهو ما أردت" قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وقال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن على بن محمد الطنافسى يقول: ما أشرف هذا الحديث، قال أبو عبد الله بن ماجه: "أبو عبيد" تركه ناجية، وأحمد جبن عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ووجه الدلالة: أنه حلفه "ما أراد بها إلا واحدة" وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك، ولو كانت واحدة مطلقاً لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر، وإذا كان هذا فى الكناية، فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث؟. ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث حماد بن زيد: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "يَا مُعَاذُ، مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أوْ ثلاثاً أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ". ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "طَلّقَ بَعْضَ آبَائى امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَانَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلُفاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فقَالَ: إِنّ أبَاكُمْ لَم يَتّقِ اللهَ فَيَجْعَلْ لَهُ مخرجاً بانت منه بِثلاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّة، وَتِسْعُمائَةٍ وَسَبْعَةٌ وتِسْعُونَ إِثْمٌ فى عُنُقِهٍ". ومنها: ما رواه الدارقطنى أيضاً من حديث زاذان عن على رضى الله عنه قال: "سَمِعَ النَّبىُّ صلى الله تعَالى عليه وآله وسلم رَجُلاً طَلّقَ الْبَتَّةَ فغَضِبَ وقَالَ: أتَتّخِذُونَ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا، أوْ دِينَ اللهِ هُزُواً وَلِعباً؟ مَنْ طَلّقَ الْبَتَّةَ أْلْزَمْنَاهُ ثلاثاً، لا تحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ". ومنها: ما رواه الدارقطنى من حديث الحسن البصرى قال: حدثنا عبد الله بن عمر "أنه طلق امرأته وهى حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: يا ابن عمر، ما هكذا أمرك الله تعالى. إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق عند ذلك أو أمسك. فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً، أكان يحل لى أن أراجعها؟ قال: لا. كانت تبين منك، تكون معصية". ومنها: ما رواه أبو داود والنسائى عن حماد بن زيد قال "قلت لأيوب: هل علمت أحداً قال فى "أمرك بيدك" إنها ثلاث غير الحسن؟ قال: لا. ثم قال: اللهم غفراً إلا ما حدثنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ثلاث". فلقيت كثيراً، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته: فقال: نسى. ورواه الترمذى وقال: لا نعرفه إلا من حديث سلمان بن حرب عن حماد بن زيد. وحسبك بسليمان بن حرب، وحماد بن زيد، ثقتين ثبتين. ومنها: ما رواه البيهقى من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثاً. ثم قال: لولا أنى سمعت جدى أو حدثنى أبى أنه سمع جدى يقول: "أيُّمَا رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً عِنْدَ الأَقْرَاءِ، أَوْ ثَلاثاً مُبْهَمَة لَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيرَهُ لَرَاجَعْتُهَا". رواه من حديث محمد بن حميد: حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبى قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد، وهذا مرفوع. قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر، وعامتها أصح من حديث أبى الصهباء، وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس. فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد، فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض، وإن كان الحديث الفرد متأخراً. كما قدم فى إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها متعددة، وحديث بريدة فى إباحتها فرد وهو متأخر، فإنه قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكمْ عَنْ الانْتِباذِ فى الأَوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا فِيماَ بَدَا لَكُمْ، غَيْرَ أن لا تَشْرَبُوا مُسْكِراً". مع أنه حديث صحيح. رواه مسلم، ولا يعرف له علة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فصل قال الآخرون: هذه الأحاديث التى ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا، هى بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها. وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة، لا يصح شئ منها. ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزال الإشكال. أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا فى هذه المسألة قد خالفوه ولم يأخذوا به. فأوجبوا للمبتوته النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به، وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه. وأما الشافعى ومالك فأوجبوا لها السكنى. والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به. فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظاً، بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا فى جمع الثلاث. فأما أن يكون حجة لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل. هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 المحتج به. ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به. فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث، هكذا جاء مصرحاً به فى الصحيح. فروى مسلم فى صحيحه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "أنا أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبى ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله مالك نفقة إلا أن تكونى حاملاً. فأتت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فَذَكَرْتْ لَهُ قَوْلَهُمَا فَقاَلَ: لا نَفَقَةَ لَكِ" وسَاق الحديث بطوله. فهذا المفسر يبين ذلك المجمل، وهو قوله "طلقها ثلاثاً". وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبى سلمة عن فاطمة بنت قيس: أنها أخبرته "أنها كانت تحت أبى حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات" وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج وشعيب بن أبى حمزة، كلهم عن الزهرى. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الزهرى عن عبيد الله قال: "أَرْسَلَ مَرْوَانْ إلَى فَاطِمَةَ فَسأَلهَا فَأَخْبَرَتْهُ أنّهَا كانَتْ عِنْدَ أبى حَفْصِ ابْنِ المُغِيرَةِ، وَكَانَ النَّبىُّ صلى الله تعالَى عليه وآله وسلم أمَّرَ عَلِىَّ بْنَ أبى طَالِبٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ، فَخَرَجَ مَعَهُ زَوْجُها فَبَعَثَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانتْ بَقِيتْ لهَا". وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب. كذلك ذكره أبو داود فى طريق أخرى. فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس. قالوا: ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئاً منه إذ كان صحيحاً صريحاً لا مطعن فيه ولا معارض له. فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار. وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ "طلقها ثلاثاً" و "طلقها ألبتة" و "طلقها آخر ثلاث تطليقات" و "أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها" و "طلقها ثلاثاً جميعاً". هذه جملة ألفاظ الحديث، وبالله التوفيق. فأما اللفظ الخامس وهو قوله "طلقها ثلاثاً جميعاً" هذه القصة عن الشعبى. ولم يقل ذلك عن الشعبى غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبى. فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله "ثلاثاً جميعاً" وعلى تقدير صحته فالمراد به: أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال طلقها ثلاثا جميعاً. فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع فى الآن الواحد لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ من فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] . فالمراد حصول الإيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم فى آن واحد، سابقهم ولاحقهم. فصل وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضى الله عنها: "أنّ رَجُلاً طلق امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، فَسُئِلَ النّبىُّ صلّى الله تَعالى عليهِ وآلِه وسلَم: هل تحل لِلأَوَّلِ؟ فقال: لا" الحديث. هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثاً بفم واحد، فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه. وقولكم: "ولم يستفصل" جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلوما، وأن الثلاث إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 تكون ثلاثاً، واحدة بعد واحدة، وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا. فخرج الكلام على المفهوم المتعارف من لغة القوم. فصل وأما ما اعتمد عليه الشافعى من طلاق الملاعن ثلاثاً بحضرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم ينكره، فلا دليل فيه. لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا، فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذى هو مقصود اللعان إلا تأكيداً وقوة، وهذا جواب شيخنا رحمه الله. وقال ابن المنذر: وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث، وأنه بدعة ثم قال: وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث فى مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلانى. فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبية، علم الزوج الذى طلق ذلك أو لم يعلم. لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة، فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعان الزوج وحده، انتهى. وحينئذ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعى، أو بالتعانهما كما يقوله أحمد، أو يقف على تفريق الحاكم. فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذى وقع منه لغو لم يفد شيئاً ألبتة، بل هو طلاق فى أجنبية. وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا. فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذى هو موجب اللعان ومقصود الشارع. فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق؟. فصل وأما حديث محمود بن لبيد فى قصة المطلق ثلاثاً، فالاحتجاج به على الجواز من باب قلب الحقائق، والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة. والاستدلال به على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الوقوع من باب التكهن والخرِصْ، والزيادة فى الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشئ من وجوه الدلالات ألبتة، ولكن المقلد لا يبالى بنصرة تقليده بما اتفق له، وكيف يظن برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره فى شرعه وحكمه ونفذه؟ وقد جعله مستهزئاً بكتاب الله تعالى؟ وهذا صريح فى أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله فى أحكامه. فصل وأما حديث ركانة "أنه طلق امرأته البتة، وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استحلفه ما أراد بها إلا واحدة" فحديث لا يصح. قال أبو الفرح بن الجوزى فى كتاب العلل له: قال أحمد: حديث ركانة ليس بشىء. وقال الخلال فى كتاب العلل عن الأثرم: قلت لأبى عبد الله: حديث ركانة فى "البتة" فضعفه وقال "ذاك جعله بنيته". وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخارى، وأبى عبيد، وغيرهم ضعفوا حديث ركانة "البتة" وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل، لا تعرف عدالتهم وضبطهم، قال: وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت. وقال أيضاً: حديث ركانة فى ألبتة ليس بشئ، لأن ابن إسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً" وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاث، طلق البتة". فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث "البتة" أصح من حديث ابن جريج "أن ركانة طلق امرأته ثلاثا" لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، يعني وهم الذين رووا حديث "البتة". فقال شيخنا في الجواب: أبو داود إنما رجح حديث "البتة" على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال: حدثنا أحمد ابن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنى بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا" الحديث، ولم يرو الحديث الذى رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد: حدثني أبى عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "طلق ركانة ابن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد" فلهذا رجح أبو داود حديث "البتة" على حديث ابن جريج. ولم يتعرض لهذا الحديث، ولا رواه فى سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين. وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبى الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج، مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها، أفادت العلم بأنها أقوى من حديث "البتة" بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب فى ذلك. فكيف يقدم الحديث الضعيف الذى ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فصل وأما حديث معاذ بن جبل، فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل. والدارقطنى إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به. وفى إسناده: إسماعيل ابن أمية الذارع، يرويه عن حماد. قال الدارقطنى بعد روايته: إسماعيل ابن أمية ضعيف متروك الحديث فصل وأما حديث عبادة بن الصامت الذى رواه الدارقطنى. فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقى. فصل وأما حديث زاذان عن على رضى الله عنه. فيرويه إسماعيل بن أمية القرشى. قال الدارقطنى: إسماعيل بن أمية هذا كوفى ضعيف. قلت: وفى إسناده مجاهيل وضعفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فصل وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطنى: حدثنا على بن محمد بن عبيد الحافظ: حدثنا محمد بن شاذان الجوهرى: حدثنا يعلى بن منصور: حدثنا شعيب بن رزيق: أن عطاء الخرسانى حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر، فذكره. وشعيب وثقه الدارقطنى. وقال أبو الفتح الأزدى فيه لين. وقال البيهقى، وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه، انتهى. ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحيح ولا السنن. فصل وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبى سلمة عن أبى هريرة فقد أنكره كثير لما سئل عنه، ومثل هذا بعيد أن ينسى. وقد أعل البيهقى هذا الحديث، وقال: كثير لم يثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 من معرفته ما يوجب الاحتجاج به، قال: وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق فى أحكامه" وابن حزم فى كتابه. فصل وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازى. قال أبو زرعة الرازى: كذاب، وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكونى، سلمة بن الفضل. قال أبو حاتم: منكر الحديث، وإن كان رواته شتى، فقد ضعفه إسحاق بن راهويه وغيره. فصل فما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر، وظنوا أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته. فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث، وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعى رحمه الله الإجماع أكبر من الخبر المنفرد. وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم. قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك. فثبت فى صحيح مسلم أن عمر رضى الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن شقيق سمع أنساً يقول: قال عمر فى الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، قال: هى ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وكان إذا أتى به أوجعه. وروى البيهقى من حديث ابن أبى ليلى عن على رضى الله عنه فيمن طلق ثلاثاً قبل الدخول، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على: لا تحل له حتى تنكح غيره. وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن بعض أصحابه قال: جاء رجل إلى على رضى الله عنه. فقال: طلقت امرأتى ألفاً؟ فقال: ثلاث تحرمها عليك، واقسم سائرها بين نسائك. وقال علقمة بن قيس: أتى رجل ابن مسعود رضى الله عنه، فقال: إن رجلاً طلق امرأته البارحة مائة؟ قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم. قال: تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم، قال هو كما قلت. وأتاه رجل، فقال: إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم، فقال له مثل ذلك، ثم قال: قد بين الله سبحانه أمر الطلاق. فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له. ومن لبس جعلنا عليه لبسه. والله لا تلبسون إلا على أنفسكم، ونتحمله عنكم؟ هو كما تقولون. وروى مالك فى الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البُكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتى. فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك. فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك. قال: إنما كان طلاقى إياها واحدة. فقال ابن عباس: إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. وفى الموطأ أيضاً فى هذه القصة: أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير. فقال: إن هذا الأمر مالنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبى هريرة، فإنى تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبى هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحد تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير. وفى الموطأ أيضا: عن النعمان بن أبى عياش عن عطاء بن يسار قال "جاء رجل يستفتى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء فقلت إنما طلاق البكر واحدة. فقال لى عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما أنت قاص. الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره". وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وروى البيهقى من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة عن طارق بن عبد الرحمن سمعت قيس بن أبى عاصم قال: سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: ثلاثة تحرم، وسبع وتسعون فضل". وروى البيهقى عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن، فلما قتل على رضى الله عنه قالت: لنهنئك الخلافة قال: بقتل على تظهرين الشماتة؟ اذهبى فأنت طالق: يعنى ثلاثاً، فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها، فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة، فقالت لما جاءها الرسول: متاع قليل من حبيب مفارق. فلما بلغه قولها بكى، وقال: لولا أنى سمعت جدى، أو حدثنى أبى أنه سمع جدى يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثاً عند الأقراء، أو ثلاثة مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لراجعتها. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن على رضى الله عنه أنه قال فى الحرام، والبتة، والبائن، والخلية، والبرية: ثلاثاً، ثلاثاً. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 شعبة: فلقيت عطاء فقلت: من حدثك عن على؟ قال أبو البخترى قال أحمد: وأنا أهابها، لا أحب فيها لأنه يروى عن عامة الناس أنها ثلاث: على، وزيد، وابن عمر، وعامة التابعين. وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبى رباح، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبى عياش وغيرهم: أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة. قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأىّ شئ تردّ حديث ابن عباس "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر وعمر رضى عنهما طلاق الثلاث واحدة" بأى شئ تدفعه؟ قال "برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه" ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، وإلى هذا نذهب. وذكر البيهقى أن رجلاً أتى عمران بن حصين وهو فى المسجد فقال: رجل طلق امرأته ثلاثاً فى مجلس، فقال: أثم بربه، وحرمت عليه امرأته. فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبى موسى، يريد بذلك عيبه، فقال: ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا؟ فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبى نجيد. قالوا: فهذا عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، والحسن بن على رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا، ولهذا حكاه غير واحد، منهم أبو بكر بن العربى، وأبو بكر الرازى، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 قال فى رواية الأثرم وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يرد إلى السنة، إنه ليس بشىء. وقال: هذا مذهب الرافضة. وظاهر هذا أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة. قال الآخرون: قد عرفتم ما فى دعوى الإجماع الذى لم يعلم فيه مخالف: أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف، وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة، هذا إذا لم يعلم مخالف، فكيف إذا علم المخالف؟ وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله، ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى، عاص لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، متعرض للحوق الوعيد به. فإن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اُللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] . فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعاً ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله. والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا، وبيان هذا من وجوه: أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن كرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قال أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهى واحدة وهذا الإسناد على شرط البخارى. وقال عبد الرزاق. أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهرى بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثاً؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوساً وهو فى المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهرى، قال: فرأيت طاوساً رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة. أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرنى حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ولم يجمع كنّ ثلاثاً، قال: فأخبرت طاوساً فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فقوله "إذا طلق ثلاثاً ولم يجمع كن ثلاثاً" أى إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. وهذا هو الذى حلف عليه طاووس: أن ابن عباس كان يجعله واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك. الوجه الثانى: أن هذا مذهب طاوس "، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن بن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقاً ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها. وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا إسماعيل بن عليه عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة. الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبى رباح قال ابن أبى شيبة: حدثنا محمد بن بشر: حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها فهى واحدة. الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم. الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد فى رواية الأثرم ولفظه، حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً، فجعلها النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واحدة. قال أبو عبد الله: وكان هذا مذهب ابن إسحاق يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة. الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه فى البكر. قال محمد بن نصر المروزى فى كتاب "اختلاف العلماء" له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة. وتأول حديث طاووس عن ابن عباس "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر وعمر يجعل واحدة": على هذا. قال: فإن قال لها ولم يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان، وأصحاب الرأى والشافعى، وأحمد، وأبا عبيدة، قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشىء. لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها. وقال مالك وربيعة، وأهل المدينة والأوزاعى، وابن أبى ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات أنت طالق، نسقاً متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية. فصار فى وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم. أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ. والثانى: أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ. والثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهى ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهى واحدة. الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار فى الطلاق قبل الدخول. قال ابن المنذر فى كتابه الأوسط: وكان سعيد بن جبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثاً فهى واحدة. الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبى عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، وإنما هو مذهب سعيد بن جبير. الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصرى الذى استقر عليه. قال ابن المنذر: واختلف فى هذا الباب عن الحسن. فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وذكر قتادة وحميد ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك فقال: واحدة بائنة. وهذا الذى ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق فى المصنف فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثاً، فقال الحسن: وما بعد الثلاث فقلت صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع، فقال: واحد تبينها ويحطها، قاله حياته. الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن [النعمان] بن أبى عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يطلق البكر ثلاثاً، فقال إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله ابن عمرو بن العاص: أنت قاص، الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره مالك: فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه. الوجه الحادى عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبى يوسف عنه. الوجه الثانى عشر: أنه مذهب محمد بن مقاتل الرازى، حكاه عنه المازرى فى كتابه "المعلم بفوائد مسلم" قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، عباد بن العوام، ووكيع بن الجراح وأبى عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد والبخارى فى صحيحه، وكان ثقة. الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية منهم التلمسانى صاحب شرح الخلاف، وعزاها إلى ابن أبى زيد أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا فى مذهب مالك وجعله شاذاً. الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكى حكاه فى كتاب "الوثائق" وهو مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثاً: كذب، لأنه لم يطلق ثلاثاً، ولم يطلق إلا واحدة. كما لو قال: حلفت ثلاثاً كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث. الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن على بن عبد الله بن إبراهيم اللخمى المشطى، صاحب كتاب الوثائق الكبير الذى لم يصنف فى الوثائق مثله حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد بانت منه، قال "البتة" أو لم يقل. قال: وقال بعض الموثقين، يريد المصنفين فى الوثائق: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذى لا شك فيه، قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس. قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة وأحاديث مسطورة أضربنا عنها واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 عكرمة عن ابن عباس "أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاثاً فى مجلس واحد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إنما هى واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فار تجعها"، ثم ذكر حديث أبى الصهباء، وذكر بعض تأويلاته التى ذكرناها. الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوى حكى القولين فى كتابه "تهذيب الآثار" فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثاً معاً، ثم ذكر حديث أبى الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً معاً فقد وقعت عليها واحدة إذا كانت فى وقت سنة، وذلك أن تكون طاهراً فى غير جماع، واحتجوا فى ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر رجلاً أن يطلق امرأته فى وقت فطلقها فى غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع؟ إذ كان قد خالف ما أمر به. ثم ذكر حجج الآخرين والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين فى إنصاف مخالفيهم والبحث معهم،. ولم يسلك طريق جاهل ظالم متعد يبرك على ركبتيه، ويفجر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق، ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجرى معه فى ميدانه، والله سبحانه عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل. الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبى البركات: أنه كان يفتى بذلك أحيانا سراً، وقال فى بعض مصنفاته: هذا قول بعض أصحاب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد. قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبى حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبى حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم. الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفى فى وثائقه وقد ذكر الخلاف فى المسألة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ثم قال: ومن بعض حججهم أيضاً فى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . وإذا جمع الإنسان ذلك فى كلمة واحدة وكان ما زاد عليها لغواً، كما جعل مالك رحمه الله رمى السبع الجمرات فى مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقى، ومحمد بن عبد السلام الخشنى، وابن زنباع مع غيرهم من نظرائهم، هذا لفظه. الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى صاحب كتاب "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام" ذكر الخلاف بين السلف والخلف فى هذه المسألة حتى ذكر الخلاف فيها فى مذهب مالك نفسه. وذكر من كان يفتى بها من المالكية. والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جداً، ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر فى العلم باعه وطال فى الجهل والظلم ذراعه، يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة جهلاً منه وظلماً ويحق له وهو الدعى فى العلم وليس منه أقرب رحماً. قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة. فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذى ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها فى حيض أو نفاس، أو ثلاثاً فى كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق. فقال على بن أبى طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. وقال: قوله "ثلاثاً" لا معنى له: لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله فى "ثلاث" إذا كان مخبراً عما مضى فيقول طلقت ثلاثاً، بخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه فى ثلاثة أوقات كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذباً. وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثاً يردد الحلف، كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثاً، لم يكن حلف إلا يمينا واحدة. فالطلاق مثله. ومثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، روينا ذلك كله عن ابن وضاح. وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن بقى بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشنى فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق فى كتابه لفظ الطلاق، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان} [البقرة: 229] . يريد أكثر الطلاق الذى يمكن بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة فى العدة، ومعنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضى عدتها، وفى ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] . يريد الندم على الفرقة والرغبة فى المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن، لأنه ترك المندوحة التى وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقاً. فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد فتدبره. وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك. من ذلك: قول الرجل: مالى صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه. هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدى يجعل هؤلاء كلهم كفاراً مباحة دماؤهم؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى، أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضى به المقلدون، وردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله. وَتِلْكَ شَكاةٌُ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود، وأصحابه. وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس وراء ظهورهم، فلم يعبئوا به شيئاً، وخالفهم أبو محمد بن حزم فى ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها. فهذه عشرون وجها فى إثبات النزاع فى هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذى لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن على وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بن عوف وابن عباس. ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلى وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة. ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نعد ما حكى عنهم فى الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه فى مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق. فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم، فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين، وثانى الخلفاء الراشدين المحدث الملهم، الذى أمرنا باتباع سنته والاقتداء به؟ أفتظنون به أنه كان يرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة؟ مع أنه أيسر على الأمة وأسهل، وأبعد من الحرج، ثم يعمد إلى مخالفة ذلك برأيه ويلزم الأمة بالثلاث من قبل نفسه، فيضيق عليهم ما وسعه الله تعالى ويعسر ما سهله ويسد ما فتحه ويحرج ما فسحه، ثم يتابعه على ذلك أكابر الصحابة، ويوافقونه ولا يخالفونه؟، ثم هب أنهم خافوا منه في حياته، وكلا، فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك. وكان إذا بينت له المرأة ما خفى عليه من الحق رجع إليه. وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق، وأن يمسكوا عنه خوفاً من عمر رضى الله عنه. فقد دار الأمر بين القدح فى عمر رضى الله عنه والصحابة معه، وبين رد تلك الأحاديث إما لضعفها وإما لنسخها وخفى علينا الناسخ، وإما بتأويلها وحملها على محمل يصح. ولا ريب أن هذا أولى لتوفية حق الصحابة الذين هم أعلم بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من جميع من بعدهم؟ قيل: لعمر الله، وإن هذا لسؤال يورد أمثاله أهل العلم، وإنه ليحتاج إلى جواب شاف كاف، فيقول: الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومن وافقه. وطائفة اعتذرت عن عمر رضى الله عنه ولم ترد الأحاديث. فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر فى المرة الرابعة. وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدى العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية. وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب. وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وعزر بالعقوبات المالية فى عدة مواضع. وعزر من مثل بعبده بإخراجه عنه وإعتاقه عليه. وعزر بتضعيف الغرم على سارق مالاً قطع فيه، وكاتم الضالة. وعزر بالهجر ومنع قربان النساء. ولم يعرف أنه عزر بدرة، ولا حبس، ولا سوط، وإنما حبس فى تهمة، ليتبين حال المتهم. وكذلك أصحابه تنوعوا فى التعزيرات بعده. فكان عمر رضى الله عنه يحلق الرأس وينفي ويضرب، ويحرق حوانيت الخمارين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 والقرية التى تباع فيها الخمر وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية. وكان له رضى الله تعالى عنه فى التعزير اجتهاد وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة، وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتابعوا فيها. فمن ذلك: أنهم لما زادوا فى شرب الخمر وتتابعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، جعله عمر رضى الله عنه ثمانين ونفى فيه. ومن ذلك: اتخاذه درة يضرب بها من يستحق الضرب. ومن ذلك: اتخاذه داراً للسجن. ومن ذلك: ضربه لنوائح حتى بدا شعرها. وهذا باب واسع اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التى لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدماً. ومن ذلك: أنه رضى الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، رأى إلزامهم بها عقوبة لهم، ليكفوا عنها. وذلك إما من التعزير العارض الذى يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب فى الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس، وينفى عن الوطن، وكما منع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه. وإما ظناً أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك فى متعة الحج، إما مطلقاً، وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وإما لقيام مانع قام فى زمنه منع من جعل الثلاث واحدة كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بنى تغلب وغير ذلك. فهذا وجه ثالث: فإن الحكم ينتفى لانتفاء شروطه، أو لوجود مانعه. والإلزام بالفرقة فسخاً أو طلاقاً لمن لم يقم بالواجب مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن تارة يكون حقاً للمرأة، كما فى العنة والإيلاء والعجز عن النفقة والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك. وتارة يكون حقاً للزوج، كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه أو كماله. وتارة يكون حقاً لله تعالى كما فى تفريق الحكمين بين الزوجين عند من يجعلهما وكيلين، وهو الصواب وكما فى وقوع الطلاق بالمولى إذا لم يفئ فى مدة التربص عند كثير من السلف والخلف وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: إنهما إذا تطاوعا على الإتيان فى الدبر فرق بينهما. وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قاله أحمد رحمه الله وغيره. واحتجوا بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "أمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ، لَمّا أَمَرَهُ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فالإلزام إما من الشارع، وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد. وأصل هذا: أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضى عدوه إبليس حيث يفرح بذلك، ويلتزم من يكون على يديه من أولاده ويدنيه منه، ومفارقة طاعته بالنكاح الذى هو واجب أو مستحب، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق. وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحة فيه، شرعه على وجه تحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه. فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة. فشرع له أن يطلقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضى عدتها، فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة، كان له سبيل إلى لم الشعث وإعادة الفراش، كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه تركها فنكحت من شاءت. وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار. فهذا هو الذى شرعه وأذن فيه. ولم يأذن فى إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضى بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقى له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه عقوبة له، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبته تصير إلى غيره فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق. فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثاً بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم وبغضه له. فوافقه أمير المؤمنين فى عقوبته لمن طلق ثلاثاً جميعاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذى يترتب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قيل: نعم لعمر الله، قد كان يمكنه ذلك ولذلك ندم عليه فى آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلى فى مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى: حدثنا صالح ابن مالك: حدثنا خالد بن يزيد بن أبى مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما ندمت على شىء ندامتى على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالى، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح. ومن المعلوم أنه رضى الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعى، الذى أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جوازه. ولا الطلاق المحرم الذى أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق فى الحيض، وفى الطهر المجامع فيه. ولا الطلاق قبل الدخول الذى قال الله تعالى فيه: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَّلْقتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] . هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضى الله عنه أراده: فتعين قطعاً أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا فى شئ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ وهذا كالصريح فى أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى فى التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ. فأمضاه عمر رضى الله عنه عليه، فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه. وهذا مذهب الأكثرين: مالك، وأحمد، وأبى حنيفة رحمهم الله. فرأى عمر رضى الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به. فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عُدوله إلى تحريم الثلاث الذى يدفع المفسدة من أصلها. واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر فى زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبى بكر، وأول خلافة عمر رضى الله عنهما أولى من ذلك كله. ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة ولا يصلح الناس سواه، ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لابد لهم منهما: إما الدخول فيما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله وتابع عليه اللعنة، وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والذى شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأتى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده، الراغبين عن تقواه وطاعته أبواب اليسر والفرج السهولة. فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله، كما قال تعالى فى السورة التى بين فيها الطلاق، وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] وقال فيها {وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاَتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] . فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقاً أن لا يجعل الله له مخرجاً وأن لا يجعل له من أمره يسراً. وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس، وابن مسعود، لمن طلق ثلاثاً جميعاً: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً. وقال شعبة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: عصيت ربك: وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً. {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] . وقال الأعمش: عن مالك بن الحارث عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجاً، فاندمه الله تعالى، أطاع الشيطان فقال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال من يخادع الله يخدعه. والله تعالى قد جرت سنته فى خلقه بأن يحرم الطيبات شرعاً وقدرَاً على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره، وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله، واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه، كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. فهذا نهاية إقدام الناس فى باب الطلاق. يبقى أن يقال: فإذا خفى على أكثر الناس حكم الطلاق، ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلاً، وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لكونهم لم يتعلموا دينهم الذى أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم كيف يطلقون؟ وماذا أبيح لهم من الطلاق؟ وماذا يحرم عليهم منه؟ أم يقال لا يستحقون العقوبة، لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعاً ولا قدراً إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها، والتعزيرات ملحقة بالحدود. فهذا موضع نظر واجتهاد، وقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ". فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلاً، ثم علم به فندم وتاب، فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذى جعله الله تعالى لمن اتقاه، ويجعل له من أمره يسراً. والمقصود: أن الناس لابد لهم فى باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها. أحدها: باب العلم والاعتدال الذى بعث الله تعالى به رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم. والثانى: باب الآصار والأغلال، الذى فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه. والثالث: باب المكر والاحتيال الذى فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى، واتخاذ آياته هزواً ما فيه، ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم. فصل ومن مكايده التى كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذى يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته فى أمره ونهيه، وهى من الرأى الباطل الذى اتفق السلف على ذمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فإن الرأى رأيان: رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذى اعتبره السلف، وعملوا به. ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذى ذموه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. وقال الإمام أحمد رحمة الله: لا يجوز شئ من الحيل فى إبطال حق مسلم. وقال الميمونى: قلت لأبى عبد الله: من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. قلت: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولا فى شئ اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم. فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرعه الله له وجاء عن السلف فى معانى الأسماء التى علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة.. وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها. وغرض الإمام أحمد بهذا: الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التى شرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التى تسلك لإبطال مقصوده. فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن فى النوع الثانى. قال شيخنا: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه: الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8-9] وقال تعالى: {إِنَّ الُمْنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهٌمْ} [النساء: 142] . وقال فى أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62] . فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفى المخدوع شر من خدعه. والمخادعة: هى الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ فى اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفاً للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أى مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه: "الحرب خدعة" وسوق خادعة، أى متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعاً. فلما كان القائل "آمنت" مظهراً لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعاً، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعاً، كان المتكلم بلفظ "بعت" و "اشتريت" و "طلقت" و "نكحت" و"خالعت" و "آجرت"، و "ساقيت" و "أو صيت" غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعاً، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعاً. ذاك مخادع فى أصل الإيمان، وهذا مخادع فى أعماله وشرائعه. قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق فى آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق فى أصل الدين. يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما "أنه جاءه رجل فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه". وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العينة، يعنى بيع الحريرة؟ فقال: إن الله تعالى لا يخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بمُطَين فى كتاب البيوع له. وعن ابن عباس: أنه سئل عن العِينة، يعنى بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله، رواه الحافظ أبو محمد النخشى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعاً لله، وهم المرجوع إليهم فى هذا الشأن والمعوّل عليهم فى فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا فى المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة. قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة. وقال أيوب السختيانى فى المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عياناً كان أهون علىّ. وقال شريك بن عبد الله القاضى فى كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة. وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنهم يريدون سلمه، وهم يقصدون بذلك المكُر به من حيث لا يشعر. فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه. كما أن المحلل والمرابى يظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا الطلاق بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد، من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعاً أو عرفاً خديعة. قال: وتلخيص ذلك أن مخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله. بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم، وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم. وبيان الثانى: أن ابن عباس وأنساً وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى، وهم أعلم بكتاب الله تعالى. الثانى: أن المخادعة إظهار شئ من الخير وإبطان خلافه كما تقدم. الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غيره، سمى مخادعا لله تعالى، وكذلك المرابى. فإن النفاق والربى من باب واحد. فإذا كان هذا الذى أظهر قولاً غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه، وهذا الذى أظهر فعلاً غير معتقد ولا مريد لما شرع له مخادعاً. فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذى شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذى شرع له. وإذا كان مشاركاً لهما فى المعنى الذى سميا به مخادعين وجب أن يشركهما فى اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الوجه الثانى: أن الله تعالى ذم المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التى جعل الشارع لها حقائق ومقاصد مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التى يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التى بين المتعاقدين وهو يريد بها حقائقها المقومة لها، ولا مقاصدها التى جعلت هذه الألفاظ محصلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرها ويسئ عشرتها ولا حاجة فى نكاحها، أو ينكحها ليحلها لمطلقها، لا ليتخذها زوجاً، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعاً جائزاً ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزواً. يوضحه: الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته؟ طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟ " فجعل المتكلم بهذه العقود غير مريد لحقائقها وما شرعت له مستهزئاً بآيات الله تعالى، متلاعباً بحدوده. ورواه ابن بطة بإسناد جيد، ولفظة "خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك". الوجه الرابع: ما رواه النسائى عن محمود بن لبيد "أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " الحديث، وقد تقدم. فجعله لاعباً بكتاب الله، مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق وأراد غير ما أراد الله تعالى به، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلق طلاقاً يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقاً لا يملك فيه ردها. وأيضاً فإن المرتين والمرات فى لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم: لما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات فى مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى وما دل عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذى رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع؟. الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم ما بلاهم به فى سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ن وهم قوم كان للمساكين حق فى أموالهم، إذا جذوا نهاراً، بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر فأرادوا أن يجدوا ليلا ليسقط ذلك الحق لئلا يأتيهم مسكين وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهم نائمون فأصبحت كالصريم. وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين بأن يصرموها مصبحين قبل مجئ المساكين، فكان فى ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده. الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر [الأعراف: 163 167] عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها، ليس المحتال على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه. ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا والله أعلم مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفى بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له فى الحد والحقيقة. فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين فى بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردة، يشبهونهم فى بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقاً، يوضحه: الوجه السابع: أن بنى إسرائيل كانوا أكلى الربا وأموال الناس بالباطل كما قصه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 تعالى فى كتابه، وذلك أعظم من أكل الصيد الحرام فى يوم بعينه، ولذلك كان الربا والظلم حراماً فى شريعتنا والصيد يوم السبت غير محرم فيها ثم أن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة وإن كانوا عوقبوا بجنس آخر كعقوبات أمثالهم من العصاة. فيشبه، والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً إذ هم بمنزلة المنافقين ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد الحرام عالما بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته. ويترتب على ذلك من خشية الله تعالى ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يقضى به إلى خير ورحمة. ومن أكله مستحلاً له بنوع احتيال تأول فيه، فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد فى حل الحرام، وذلك قد يفضى به إلى شر طويل. وقد جاء ذكر المسخ فى عدة أحاديث قد تقدم بعضها فى هذا الكتاب كقوله فى حديث أبى مالك الأشعرى، الذى رواه البخارى فى صحيحه: "وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يوْمِ الْقِيَامَةِ". وقوله فى حديث أنس: "لَيَبِيتَنَّ رِجَالٌ عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَعَزْفٍ، فَيُصْبِحُونَ عَلَى أرَائِكِهمْ مَمْسُوخِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". وفى حديث أبى أمامة أيضا: "يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هذِهِ الامَّةِ عَلَى طعْمٍ وَشرْبٍ وَلَهْوٍ فَيٍُصْبِحُونَ وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ". وفى حديث عمران بن حصين: "يَكُونَ فى أُمَّتِى قَذْفٌ وَمَسْخٌ وَخَسْفٌ". وكذلك فى حديث سهل بن سعد وكذلك فى حديث على بن أبى طالب، وقوله: " فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وخسفاً، ومسخاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وفى حديثه الآخر: "يمسخ طائفة من أمتى قردة وطائفة خنازير". وفى حديث أنس رضى الله عنه "ليكونن فى هذه الأمة خسف وقذف ومسخ". وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه "يمسخ قوم من هذه الأمة فى آخر الزمان قردة وخنازير. قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون. قالوا: فما بالهم لله؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، القينات، فباتوا على شربهم ولهوهم. فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير". وفى حديث جبير بن نفير: ليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف. فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرجف، والقذف، والمسخ، والصواعق. وقال سالم بن أبى الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قرداً أو خنزيراً، وليمرن الرجل على الرجل فى حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قرداً أو خنزيراً. وقال أبو هريرة: لا تقوم الساعة حتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيمسخ أحدهما قرداً أو خنزيراً. فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى إلى شأنه ذلك حتى يقضى شهوته، وحتى يمشى الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذى نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضى لشأنه ذلك، حتى يقضى شهوته منه. وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: "يُوشِكُ أَنْ يْقعُدَ أُثْنَانِ عَلَى ثِفَالِ رَحىً يَطْحَنَانِ، فَيُمْسَخُ أحَدُهُمَا وَالآخَرُ يَنْظُرُ". وقال مالك بن دينار: بلغنى أن ريحاً تكون فى آخر الزمان، وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخوا. وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها ابن أبى الدنيا فى كتاب ذم الملاهى. فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع فى هذه الأمة ولا بد وهو فى طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه. فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه. والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم. ومن لم يمسخ منهم فى الدنيا مسخ فى قبره أو يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وَقد جاءَ فى حديثٍ الله أَعلم بحَالهِ: "يُحشَرُ أكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فى صَوَرِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلابِ مِنْ أَجْلِ حِيَلهِمْ عَلَى الرِّبَا كمَا مُسِخَ أصحاب دَاوُدَ لاحْتِيَالِهمْ عَلَى أخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ". وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء فى أحاديث كثيرة. قال شيخنا: وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة. فإنهم لو استحلوها مع اعتقد أن الرسول حرمها كانوا كفار ولم يكونوا من أمته. ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصى، مع اعترافهم بأنها معصية، ولما قيل فيهم: يستحلون. فإن المستحل للشئ هو الذى يفعله معتقداً حله. فيشبه أن يكون استحلالهم للخمر، يعنى أنهم يسمونها بغير اسمها، كما جاء فى الحديث. فيشربون الأنبذة المحرمة، ولا يسمونه خمراً. واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة. وهذا لا يحرم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال فى بعض الصور كحال الجرب وحال الحكة. فيقيسون عليه سائر الأحوال ويقولون: لا فرق بين حال وحال. وهذه التأويلات ونحوها واقعة فى الطوائف الثلاثة الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله: وَهَلْ أَفسدَ الدِّينَ إِلا الملُو ... كُ وَأحبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا ومعلوم أنها لا تغنى عن أصحابها من الله شيئاً بعد أن بلغ الرسول وبين تحريم هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الأشياء بيانا قاطعاً للعذر مقيما للحجة. والحديث الذى رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ليشربن ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله تعالى بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير". الوجه الثامن: أن النبى صلى الله تعالى وآله وسلم قال: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" الحديث. وهو أصل فى إبطال الحيل وبه احتج البخارى على ذلك. فإن من أراد أن يعامل رجلاً معاملة يعطيه فيها ألفاً بألف وخمسمائة إلى أجل فأقرضه تسعمائة، وباعه ثوباً بستمائة يساوى مائة، إنما نوى بإقراض التسعمائة تحصيل الربح الزائد. وإنما نوى بالستمائة التى أظهر أنها ثمن الثوب الربا. والله يعلم ذلك من جذر قلبه وهو يعلمه، ومن عامله يعلمه، ومن أطلع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة من إعطاء الألف حالة، وأخذ الألف والخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللاً لهذا المحرم. الوجه التاسع: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "البَيِّعَانِ بِالخْيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلا أنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ. وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِلهُ". رواه أحمد وأهل السنن، وحسنه الترمذى. وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل. ووجه ذلك: أن الشارع أثبت الخيار إلى حين التفرق الذى يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما. فحرم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يقصد المفارق منع الآخر من الاستقالة وهى طلب الفسخ، سواء كان العقد جائزا أو لازماً، لأنه قصد بالتفرق غير ما جعل التفرق فى العرف له. فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرق لذلك. وإنما جعل التفرق لذهاب كل منهما فى حاجته ومصلحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الوجه العاشر: ما روى محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكبَتِ الْيَهُودُ، وَتَسْتَحِلُّواً مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ". رواه أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام حدثنا الحسن بن الصباح الزعفرانى حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذى. وهو نص فى تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل. وإنما ذكر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدنى الحيل تنبيها على أن مثل هذا المحرم العظيم الذى قد توعد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه. فمن أسهل الحيل على من أراد فعله: أن يعطيه مثلاً ألفاً إلا درهماً باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوى درهماً بخمسمائة. وكذلك المطلق ثلاثاً: من أسهل الأشياء عليه أن يعطى بعض السفهاء عشرة دراهم مثلاً. ويستعيره لينزو على مطلقته فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعى. فإنه يصعب معه عودها حلالاً إذ من الممكن أن لا يطلق بل أن يموت المطلق أولا قبله ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا احتالواً فى الاصطياد يوم السبت، بأن حفرواً خنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز. لأن فعل الاصطياد لم يوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام لأن المقصود هو الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة. ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم، تأولواً أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب، فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا فى أن الله تعالى إذا حرم الانتفاع بشئ فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البدل يسد مسده. فلا فرق بين حال جامده وودكه، فلو كان ثمنه حلالاً لم يكن فى تحريمه كثير أمر، وهذا هو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الوجه الحادى عشر: وهو ما روى ابن عباس قال: "بَلَغَ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ أنّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً. فقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاناً، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالَى عَليْهِ وآله وسّلمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، حُرّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا" متفق عليه. قال الخطابى: "جملوها" معناه: أذابوها حتى تصير ودكا فيزول عنها اسم الشحم يقال: جملت الشحم، وأجملته، واجتملته. والجميل: الشحم المذاب. وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "إِنّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمرِ وَالمَيْتَةِ، وَالْخَنْزِيرِ، وَالأَصّنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ فإِنّهَا يُطْلَى بهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِح بهَا النّاسُ؟ فَقَالَ: لا، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثمَنَهُ" رواه البخارى وأصله متفق عليه. قال الإمام أحمد، فى رواية صالح، وأبى الحارث فى أصحاب الحيل: عمدواً إلى السنن، فاحتالوا فى نقضها، فالشئ الذى قيل إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه. ثم احتج بهذا الحديث، وحديث: "لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ". قال الخطابى قد ذكر حديث الشحوم: فى هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئة وتبديل اسمه، وقد مثلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تقرب مال اليتيم، فباعه وأخذ ثمنه فأكله وقال: لم آكل نفس مال اليتيم. أو اشترى شيئاً فى ذمته ونقده وقال: هذا قد ملكته وصار عوضه دينا فى ذمتى، فإنما أكلت ما هو ملكى باطناً وظاهراً. ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نبيها نبههم على ما لعنت به اليهود، وكان السابقون منها فقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرت الشريعة بتحريم المحرمات: من الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها وإن تبدلت صورها، وبتحريم أثمانها، لطرَّق الشيطان لأهل الحيل ما طرق لهم فى الأثمان ونحوها. إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى. الوجه الثانى عشر: أن باب الحيل المحرمة مداره على تسمية الشئ بغير اسمه، على تغيير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة. فإن المحلل مثلا غير اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلل إلى الزوج، وغير مسمى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقة حقيقة التحليل. ومعلوم قطعاً أن لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذى اللعنة من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله. فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم ولا لمجرد الصورة. وكذلك المفسدة العظيمة التى اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد يعلمها من قلوبهما عالم السرائر فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذى لا قصد لهما فيه ألبتة وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وأىّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار ودكا وباعوه وأكلواً ثمنه وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمن، فلم نأكل شحماً. وكذلك من استحل الخمر باسم النبيذ كما فى حديث أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "ليشربنّ ناس من أمتى الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير". وإنما أتى هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود فى استحلال بيع الشحم بعد جمله، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أو أوقعوها به يوم السبت فى الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحة لنفس الشحم بل الذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 يستحل الشراب المسكر، زاعما أنه ليس خمراً مع علمه أن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصوده وعمله عمله أفسد تأويلا. فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر كما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من وجوه أخرى. منها: ما رواه النسائى عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" وإسناده صحيح. ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت يرفعه: "يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها" ورواه الإمام أحمد، ولفظه: "ليستحلنّ طائفة من أمتى الخمر". ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضاً من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تذهب الليالى والأيام حتى تشرب طائفة من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها". فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالاً لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه. وكذلك شبهتهم فى استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير أبيح للنساء وأبيح للضرورة، وفى الحرب. وقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتِى أخْرَجَ لِعبَادِهِ} [الأعراف: 32] . والمعازف قد أبيح بعضها فى العرس ونحوه، وأبيح الحداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل. فإذا كان من عقوبة هؤلاء: أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم، وفعلهم أقبح؟ فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون،. إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضواً عن مقصود الشارع وحكمته فى تحريم هذه الأشياء. ولذلك مسخواً قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذى استحلواً به المحارم، وخسف ببعضهم كما خسف بقارون، لأن فى الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما فى الزينة التى خرج فيها قارون على قومه، فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 العقوبتين، وما هى من الظالمين ببعيد وقد جاء ذكر المسخ والخسف فى عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها. فصل وقد أخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر. فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ". يعنى العينة، وهذا وإن كان مرسلاً فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهى الأحاديث الدالة على تحريم العينة. فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعاً، وفى هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه. ومن المعلوم أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة فى الحيل الربوية كقيامها فى صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، وإنما توسلاً إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التى حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة. منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربى صريحاً، لأنه واثق بصورة العقد واسمه. ومنها: أنه يطالبه مطالبه معتقد حل تلك الزيادة وطيبها بخلاف مطالبه المربى صريحا. ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة. والنفوس أرغب شئ فى التجارة، فهو فى ذلك بمنزلة من أحب امرأة حباً شديداً ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه. فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته، فصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 يأتيها آمنا. وهما يعلمان فى الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان بها إلى الغرض. ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التى حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم. والدين اللازم الذى لا ينفك عنه. وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع فى الواقع. فالربا أخو القمار الذى يجعل المقمور سليبا حزينا محسوراً. فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد تحريمه، وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حرم التفرق فى الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهماً بدرهم إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافاً مضاعفة؟ ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم. فإن ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له، فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذى بتغيير صورته، مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه، ازداد المريض بتناوله مرضاً إلى مرضه، وترامى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه. وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورتها وأسمائها، والوجدان شاهد بذلك. فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحومها لأجل أسمائها وصورها. ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها، ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا لم نأكله. وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد. فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة فى المفسدة التى حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يحرم الشئ لمفسدة ويبيحه لأعظم منها. ولهذا قال أيوب السختيانى: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون. وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ". وقال بشر بن السرى وهو من شيوخ الإمام أحمد: نظرت فى العلم، فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت فى الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنة والنار، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير. ونظرت فى الرأى فإذا فيه المكر والخديعة، والتشاح، واستقصاء الحق والمماراة فى الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطيعة الأرحام، والتجرؤ على الحرام. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الحيل فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. والرأى الذى اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله هو الذى اتفق السلف على ذمه وعيبه. فروى حرب عن الشعبى قال: قال ابن مسعود رضى الله عنه: إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت، ولا تقيسواً شيئاً بشئ فتزل قدم بعد ثبوتها. وعن الشعبى عن مسروق قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذى بعده شر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 منه، لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام وينثلم. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم وأصحاب الرأى، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم. فعارضوها برأيهم، فإياكم وإياهم. وقال أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد: لا يجوز شئ من الحيل. وفى رواية صالح ابنه: الحيل لا نراها. وقال فى رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمر فى حديث: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ وَلا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقَيلَهُ" قال فيه إبطال الحِيل. وقال فى رواية أبى الحارث: هذه الحيل التى وضعها هؤلاء، احتالوا فى الشئ الذى قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها" فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم. وقد لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له. وقال فى رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] ، وقَالَ تعَالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] . وقال فى رواية أبى طالب فى التحيل لإسقاط العدة "سبحان الله، ما أعجب هذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العدة من الحمل، فليس من امرأة تطلق، أو يموت زوجها، إلا تعتد من أجل الحمل، ففرج يوطأ، ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملا، كيف يصنع؟ يطؤها رجل اليوم، ويطؤها الآخر غداً؟ هذا نقض لكتاب الله والسنة، قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ تَحِيضَ" فلا يدرى هى حامل أم لا؟ سبحان الله ما أَسْمجَ هذا. وقال فى رواية حبيش بن سندى فى الرجل يشترى الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها: أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب وقال: هذا أخبث قول. وقال فى رواية الميمونى: إذا حلف على شئ ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه. وقال فى رواية الميمونى، فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها: هل يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. فقال له الميمونى: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولاً اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون فى رجل حلف على امرأته، وهى على درجة: إن صعدت أو نزلت فأنت طالق. قالوا: تحمل حملاً ولا تنزل. فقال: هذا الحنث بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحنث. وذكر لأحمد: أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارتددت عن الإسلام بنت منه، ففعلت، فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علمه أو رضى به فهو كافر. وكذلك قال عبد الله بن المبارك ثم قال: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم. وقال يزيد بن هارون: أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قبيحاً. أفتواً رجلاً حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجوه فبذلت له مالاً كثيراً فى طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يباشرها. وذكرت الحيلة عند شريك، فقال: من يخادع الله يخدعه. وقال النضر بن شميل: فى كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر. وقال حفص بن غياث: ينبغى أن يكتب عليه: كتاب الفجور. وقال عبد الله بن المبارك فى قصة بنت أبى روح حيث أمرت بالارتداد فى أيام أبى غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن: فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده، أو فى بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر. وقال أيوب السختيانى: ويل لهم، من يخدعون؟ يعنى أصحاب الحيل. وقال بعض أصحاب الحيل: ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالاً. وقال زاذان. قال على رضى الله عنه، يعنى وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله، وتحرمون أشياء قد حللها الله. قلت: ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها، وسدت عليهم الطرق التى فتحوها للتحيل الباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه، ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل. ومن ذلك: بطلان وصية الموصى له بمال إذا قتل الموصى. ومن ذلك: بطلان تدبير المدَبَّر إذا قتل سيده ليعجل العتق. ومن ذلك: تحريم المنكوحة فى عدتها على الزوج، تحريما مؤبداً، عند عمر ابن الخطاب، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لما احتال على وطئها بصورة العقد المحرم. ومن ذلك: ما لو احتال المريض على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها ترثه مادامت فى العدة، عند طائفة، وعند آخرين ترثه وإن انقضت عدتها، ما لم تتزوج، وعند طائفة: ترث وإن تزوجت. ومن ذلك: بطلان إقرار المريض لوارثه بمال لأنه يتخذه حيلة على الوصية له. ونظائر ذلك كثيرة: فالمحتال بالباطل معامل بنقبض قصده شرعاً وقدراً. وقد شاهد الناس عيانا أنه من عاش بالمَكْرِمَاتَ بالفقر. ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بحرمانهم الثمرة كلها. وعاقب من احتال على الصيد المحرم بأن مسخهم قردة وخنازير. وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله. كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبى الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . فلا بد أن يمحق مال المرابى ولو بلغ ما بلغ. وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه. وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه، وإحراق متاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وجعل عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده، وتغريمه نظيره. وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق. وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته. وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفى من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفاً. وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة. وشرع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عقوبة من اطلع فى بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه، إفساداً للعضو الذى خانه، وأولجه بيته بغير إذنه، واطلع به على حرمته. وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه المقصوده وإن نال بعضه، فالذى ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته: {وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] . وعاقب من حرص على الولاية، والإمارة والقضاء، بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إِنَّا لا نُوَلّى عَمَلَنَا هذَا مَنْ سَأَلهُ". ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام: بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمله. وعاقب من اتخذ معه إلها آخر، ينتصر به، ويتعزز به: بأن جعله عليه ضدا يذل به، ويخذل به. كما قال تعالى: {وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا} [مريم: 81-82] وقال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مْحُضَرُونَ} [يس: 74-75] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقال تعالى {لا تَجْعَل مَعَ اللهِ إلهَا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولا} [الإسراء: 22] . ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح. وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا. وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوى غيهم وفقيرهم فى الحاجة. وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم، ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى حديث على رضى الله عنه الذى رواه الترمذى وغيره، وذكر القرآن: "مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الُهْدَى فى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ". فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا، فجزاؤه أن يقصمه الله، أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه أن يضله الله. وهذا باب واسع جدا عظيم النفع. لمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً، دنيا وآخره. وقد اطردت سنته الكونية سبحانه فى عباده، بأن من مكر بالباطل مكربه، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع. قال الله تعالى: {إِنّ المُنَافِقينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال تعالى {وَلا يَحِيقُُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه} [فاطر: 43] . فلا تجد ما كراً إلا وهو ممكور به، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع، ولا محتالا إلا وهو محتال عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فصل وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها. فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك. فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه. فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟ فنهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا، على وجه المقابلة. وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن: "مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ". ولما جاءت صفية رضى الله تعالى عنها تزوره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال: "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. إنى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فى قُلُوبِكُمَا شَراً". فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية. وأمسك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة، لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: "إِنّ مُحَّمداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ". وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة، لئلا تفضى مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها. ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ فى الأوعية التى لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسماً للمادة وسدا للذريعة. وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة، حسماً للمادة وسدا للذريعة. ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور. ومنعهن من التسبيح فى الصلاة لنائبة تنوب، بل جعل لهن التصفيق. ومنع المعتدة من الوفاة، من الزينة والطيب والحلى. ومنع الرجل من التصريح بخطبتها فى العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضاءها. ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها. ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله. ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها. كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثاناً. وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده، بل على من قصد خلافه، سدا للذريعة. ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هذين الوقتين وقته سجود الكفار للشمس. ففى الصلاة نوع تشبه بهم فى الظاهر. وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة فى الباطن، وأكد كذلك بالنهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة فى هذا المقصود، وحماية لجانب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك بكل ممكن. ومنع من التفرق فى الصرف قبل التقابض، وكذلك الربوى إذا بيع بربوى آخر، من غير جنسه، سدا لذريعة النَّساء، الذى هو صلب الربا ومعظمه، بل منع من بيع الدرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 بالدرهمين نقداً سداً لذريعة ربا النَّساء، كما علل بذلك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه، وهذا أحسن العلل فى تحريم ربا الفضل. وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح فى السلف، بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع. ومنع البائع أن يشترى السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به، وهى مسألة العينة وإن لم يقصد الربا، لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقداً. وحرم جمع الشرطين فى البيع، لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة. ومنع من القرض الذى يجر النفع وجعله ربا. ومنع المقرض من قبول هدية المقترض، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض. ففى سنن ابن ماجه عن يحيى بن أبى إسحاق الهنائى. قال سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال، فيهدى إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضاً فأَهْدَى إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابّةِ فَلا يَرْكَبَنّهَا، وَلا يَقْبَلهُ إلا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذلِكَ". وروى البخارى فى تاريخه عن يزيد بن أبى يحيى الهنائى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلا يأْخُذْ هَدِيّةً". وفى صحيح البخارى عن أبى بردة عن أبى موسى قال: "قَدِمْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ فقَالَ لى: إِنّكَ بأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَق فأَهْدَى إِلَيْكَ حمل تبن أو حْمِل شَعِيرٍ، أوْ حُمِلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنّهُ رِباً". وروى سعيد بن منصور فى سننه هذا المعنى عن أبى بن كعب. وجاء عن ابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو رضى الله عنهم نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة فى القرض الذى موجبه رد المثل. ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فلو كان الدينان حالين لم يمتنع، لأنهما يسقطان جميعاً من ذمتيهما، وفى الصورة المنهى عنها ذريعة إلى تضاعف الدين فى ذمة كل واحد منهما فى مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا [النسيئة] بعينها. ونهى الله سبحانه وتعالى النَّساء أنْ {يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيْعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينتِهِنَّ} [النور: 31] . فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذى هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه. وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التى هى ذريعة إلى مواقعة المحظور. وحرم التجارة فى الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها، فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها، ولهذا لما نزلت الآيات فى تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وقرن بها تحريم التجارة فى الخمر، فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال. والخمر ذريعة إلى إفساد العقول. فجمع بين تحريم التجارة فى هذا وهذا. ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة فى الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب. ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار فى مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فإنه إذا أشبه الهدى الهدى أشبه القلب القلب. وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْىَ الْكفَّارِ". وفى المسند مرفوعاً: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". وحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم. وبهذه العلة بعينها علل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ذلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكمْ". وأمر بالتسوية بين الأولاد فى العطية، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغى الشهادة عليه. وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم، كما هو المشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التى لا معارض لها بالمنع منه، لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضى تحريمه. ومنع من نكاح الأمة، لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها يملك اليمين لزوال هذه المفسدة. ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن، وقصر الرجال على الأربع، فسحة لهم فى التخلص من الزنا، وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى. ومنع من عقد النكاح فى حال العدة وحال الإحرام، وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل، لكون العقد ذريعة إلى الوطء، والنفوس لا تصبر غالباً مع قوة الداعى. وشرط فى النكاح شروطاً زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما. واشتراط الولى، ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف، والصوت، والوليمة وأوجب فيه المهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وسر ذلك: أن فى ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما فى الأثر: "إِنّ الزَّانِيَةَ هِىَ الّتِى تُزَوِّجُ نَفْسَهَا". فإِنه لا تشاء زانية تقول: زوجتك نفسى بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت. ومعلوم قطعاً أن مفسدة الرنا لا تنتفى بقولها: أنكحتك نفسى، أو زوجتك نفسى. أو أبحتك منى كذا وكذا. فلو انتفت مفسدة الزنا بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل. فعظم الشارع أمر هذا العقد. وسد الذريعة إلى مشابهته للزنا بكل طريق. ثم أكد ذلك، بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاماً من المصاهرة وحرمتها، ومن التوارث. ولهذا كان الراجح فى الدليل: أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية. ولا يثبت به النسب، ولا العدة على الصحيح. وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها، ولا يقع فيه طلاق، ولا ظهار، ولا إيلاء. ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها. فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها. فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب. وجمع بينهما فى قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] . فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر. وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له. وليس المقصود استيفاء أدلة المسألة من الجانبين، وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سد الذرائع. ومن ذلك: نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تقام الحدود فى دار الحرب. وأن تقطع الأيدى فى الغزو، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار. ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب، وخاف على نفسه الزنا عزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عن امرأته، نص عليه أحمد، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافراً. ومن ذلك: أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضى المساواة، لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء، وتعاون الجماعة على قتل المعصوم. ومن ذلك: أن السكران لو قتل اقتص منه، وإن كان فى هذه الحالة لا قصد له. لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص. ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله. ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] . مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة، لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا. ومن ذلك: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة، أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يصمد له صمداً سداً لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى. ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يصلواً جلوساً إذا صلى إمامهم جالساً، سدا لذريعة التشبه بفارس والروم فى قيامهم على ملوكهم وهم قعود. ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله: عن ذلك: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ُائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة. ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه، ويقيم عذره، مع أن ذلك أيضاً ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته، فإن النفوس لا تقتصر فى الاستيفاء غالبا على قدر الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشترى سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان. وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر. فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو. فإنه يأخذه بالثمن الذى يأخذه به الأجنبى، ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة، ولا تسقط بالاحتيال. فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التى شرعت لها بالنقض والإبطال. ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو، ولا الظنين فى تهمة أو قرابة. ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصى فيما هو وصى فيه، ولا الولد على ضرة أمه، ولا يحكم القاضى بعلمه. كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد. ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع فى الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة. ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر بقطع الشجرة التى كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال، سدا لذريعة الشرك والفتنة. ونهى عن تعمد الصلاة فى الأمكنة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينزل بها فى سفره وقال "أتريدون أن تتخدوا آثار أنبيائكم مساجد؟ من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فلا". ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضى الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم فى القرآن. ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم. ومن ذلك: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر الذى أرسل معه بهدية إذا عطب شئ منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذى قلده به بدمه، ويخلى بينه وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه، أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر فى علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره. فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه. ومن ذلك: نهيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الذرائع التى توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: "إذَا بُويِعَ لخِليَفَتْينِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا". سدا لذريعة الفتنة والفرقة. ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم، والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة فى بقايا تلك الشرور إلى الآن. ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب، لئلا تفضى مشابهتهم للمسلمين فى ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين فى الإكرام والاحترام ففى إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة. ومن ذلك: منعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من بيع القلادة التى فيها خرز وذهب بذهب، لئلا يتخذ ذريعة إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه. ولو لم يكن فى هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود، سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعى، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعى إليها وتقاضى الطباع لها. وبالجملة، فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها. ففتح باب الذرائع فى النوع الأول كسد باب الذرائع فى النوع الثانى، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم تناقض. وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التى جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها. والتذرع إلى حصول المفاسد التى قصدت دفعها. وإذا كان الشئ الذى قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره. وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم فى الشرع ومقاصده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن، والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع فى البيع والصرف والنكاح وغيرها، شروطاً سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا، وكمل بها مقصود العقود، ولم يمكن المحتال الخروج منها فى الظاهر. ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشئ الذى سد الشارع الذريعة إليه، لم يبق لتلك الشروط التى أتى بها فائدة ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 قال: واعتبر هذا بالشفعة، فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه، والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها، إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة، وليس فى هذا التكميل ضرر على البائع، لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشترى، شريكاً كان أو أجنبياً، فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع، مضاد له فى حكمه. فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التى ظاهرها مكر وخداع، وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه، وتفويت نفس مقصود الشارع. والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع فى فعله، وأنه مكنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بين لمن تأمله. قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل، وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى، وأليم عقابه. ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك فى كل حيلة بحسبها. فلا يخلو الاحتيال: إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر، فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا، كما في العينة حكم بفساد العقدين، ويرد إلى الأول رأس ماله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا، لا يحل الانتفاع به، بل يجب رده إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة، أو شراكه أو مساقاة، أو مزارعة، وقرض، حكم بفسادهما، فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذى جعلاه قرضاً، والعقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. وكذلك إن كان نكاحاً تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد، أو وقف فاسد، مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به، فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبتها إياه، فانفسخ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان فى جميع الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وإن كان الاحتيال من واحد، فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه. فإن كانت عقداً كان فاسداً، مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة فى شئ من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة فى الباطن فقط. وإن كانت حيلة لا يستقل بها، مثل أن ينوى التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضراراً بها، أو يهب ماله إضراراً للورثة ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة، فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوب له، والموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك فى الباطن. فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه. وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذى لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر كثيرة فى الشريعة. وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث. فإنه إنما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البضع. وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى غرض له مثل أن يسافر فى الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر. قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يجزه، وعليه إعادة الصلاة أبدا. وإنما تثبت الرخصة فى حق من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما. فيمسح عليهما لمشقة النزع. وخالفهم باقى الفقهاء فى ذلك، والمنع جار على أصول من راعى المقاصد. قال شيخنا: وإن كان يفضى إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه، لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها، أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم، فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها، لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا. والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن نجاسات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب. قلت: هذا كان قول الشيخ أولاً ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة. وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة. لينفسخ نكاحها. فإن فسخ النكاح هاهنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد، بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم، فهو بمنزلة أن يلقى فى مائعه ما ينجسه. قال: وإن كانت الحيلة فعلا يفضى إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلاً ليتزوج امرأته، أو يزوجها غيره. فهاهنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به. فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها، أو قتل بحق أو فى سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها، فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع، من غير أن يطرح فيها شيئاً. والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى. وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال تحرم عليه مع حلها لغيره. ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام، فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال. ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث، ولا يمنعه غيره من الورثة. لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل. وكونه يقتله ليتزوجها، فهذا أقل. فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلاً حرمت عليه امرأته، كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه، فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده. وأكثر ما يقال فى رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل، كذبح الصيد، وتحليل الخمر، والتذكية فى غير المحل. أما المحرم لحق الآدمى، كذبح المغصوب، فإنه بفيد الحل. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل، فحصل الحل صمنا وتبعاً. ويمكن أن يقال فى جواب هذا: إن قتل الآدمى حرام لحق الله تعالى وحق الآدمى. ولهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرم لمحض حق الآدمى. ولهذا لو أباحه حل، فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح. وقد اختلف فى الذبح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء فى ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكى. وفيه حديث رافع بن خديج فى ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر فى المرأة التى أضافت النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها، فقال: "أَطعْمِوُهَا الأُسَارَى". وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها: لا يحل أكلها، يعنى له، قلت لأبى: فإن ردها على صاحبها؟ قال: تؤكل. فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له فى الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. فهذا القول الذى دل عليه الحديث فى الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى. هذا كله كلام شيخنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وبعد، فالتحريم مطرد على قواعد أحمد، ومالك من وجوه متعددة. منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار، وقاتل مورثه، وقاتل الموصى، والمدبر إذا قتل سيده. ومنها: سد الذرائع. ومنها: تحريم الحيل. ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا، والله تعالى أعلم. قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال. فالأقوال: يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة، وفاسدة أخرى. ثم ما ثبت حكمه، منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح. ومنه مالا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق. فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم، أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذى يبطل مقصود المحتال، بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فى طلاق الفار. وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر للقصر والفطر. وإن اقتضت تحريماً على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حلاً عاماً إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب. وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس أن لا يحل له أيضاً وإن حل لغيره. وقد دخل فى القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة، فهى لا تمشى غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الردة، أو يقول: بأنها لا تقتل، فالواجب فى مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح، وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما. وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل، غير مرتدة من حيث فساد النكاح، حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها فى حالة الردة، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت، لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتدت لفسخ النكاح، لم يقبل هذا، فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ، ولأنها متهمة فى ذلك، ولأن الأصل أنها مرتدة فى جميع الأحكام. فصل وقد استدل البخارى فى صحيحه على بطلان الحيل بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةَ". فإن هذا النهى يعم ما قبل الحول وما بعده. واحتج بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الطاعون: "إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". وهذا من دقة فقهه رحمه الله، فإنه إذا كان قد نهى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرار من قدر الله تعالي إذا نزل بالعبد، رضا بقضاء الله تعالى وتسليماً لحكمه، فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟. واحتج بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ". فدل على أن الشئ الذى هو فى نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرماً. واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للمحلل، وبقوله "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل". واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله "فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه". واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختيانى، وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى. وقد قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] . قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة فى التصرف والعادات، كما هى معتبرة فى القربات والعبادات، فيجعل الفعل حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وصحيحاً من وجه، فاسداً من وجه، كما أن القصد والنية فى العبادات تجعلها كذلك. وشواهد هذه القاعدة كثير ة جداً فى الكتاب والسنة. فمنها: قوله تعالى فى آية الرجعة: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] . وذلك نص فى أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار، فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة. ومنها: قوله تعالى فى آية الخلع: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَّمِا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيماَ حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، وأن النكاح الثانى إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، فإنه شرط فى الخلع عدم خوف إقامة حدوده، وشرط فى العود ظن إقامة حدوده. ومنها: قوله تعالى فى آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مضُار} [النساء: 12] . فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة، فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراماً، وكان للورثة إبطالها، وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار فى هذه الآية دون التى قبلها. لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين، والإخوة. والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته، ولا يكاد يضار والديه وولده. والضرار نوعان: جنف، وإثم. فإنه قد يقصد الضرار، وهو الإثم، وقد يضار من غير قصد، وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فللوارث رد هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصى أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية. وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصى أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحاً لا مفسدا. وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم، ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به، فإن الشارع قد رده وأبطله. فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه، فإن ذلك مضادة له ومناقضة. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنةٍ} [النساء: 19] . فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدى نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النَّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبعَضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] . فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئاً مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل. ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أى وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه. ثم قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] [الزمر: 26] . ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل، لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره. قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية. فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كَنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلا المَسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيُعونَ حِيَلة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97-99] . ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار، وهو حرام. فعلم أن الحيلة التى تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها. وعامة الحيل التى تنكرونها علينا هى من هذا الباب. فإنها حيل تخلص من الحرام، ولهذا سمى بعض من صنف فى ذلك كتابه: "المخارج الحرام والتخلص من الآثام" واعتبر هذا بحيلة العينة، فإنها تخلص من الربا المحرم. وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو حرام. وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذى هو حرام أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام. وكذلك هبة الرجل ماله قبل الحول لولده أو امرأته، يخلصه من إثم منع الزكاة، كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلص. فالحيل تخلص من الحرج وتخلص من الإثم. والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا، وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه، وفتح طريقه. ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك. كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله. فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال، فعل المحلوف عليه، فأى شئ أفضل من تخليصه من هذا وهذا؟ وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشد من موته، فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها، ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه، وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء العدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] . قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شئ فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا؟ وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبى الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة. فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أَمتَه. وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشئ قبلته وأدخلته. وإن لم يأتها بشئ طردته وأغلقت بابها عنه. لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذى له منا نكفر به. إن أقامنى الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثاً، وهو الحزمة من الشئ، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة. وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شئ وهذا أصلنا فى باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلاً. قالوا: وقد أرشد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم، ثم يشترى بتلك الدراهم تمراً. وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: "جَاءَ بِلالٌ إلى النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسَلمَ بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآلهِ وسلمَ: مِنْ أيْنَ هذَا؟ قَالَ: كانَ عِنْدَنَا تمْرٌ رديء فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لنُطْعِمَ النّبَّى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فَقَالَ لَهُ النّبُّى صلى اللهُ تعَالى عليه وآله وسَلم عِنْدَ ذلِكَ: أوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَن تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" متفق عليه. وفى لفظ آخر: "بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اُشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً". والجمع والجنيب نوعان من التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وفى لفظ لمسلم: "بِعْهُ بِسِلْعَةٍ، ثُمّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِكَ أَىَّ التَّمْرِ شِئتَ". فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاع بها تمراً. وهذا ضرب من الحيلة. ولم يفرق بين بيعه ممن يشترى منه التمر، أو من غيره. وقد جاء قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تَجَارَة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنكُمْ} [البقرة: 282] . وهذا إرشاد إلى حيلة العِينة وما يشبهها. فإن السلعة تدور بين المتعاقدين، للتخلص من الربا. قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذى يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهى حيلة فى الأقوال، كما أن تلك حيلة فى الأعمال. فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: إن فى معاريض الكلام ما يغنى الرجل عن الكذب. وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما يسرنى بمعاريض الكلام حمر النعم. وقال الزهرى عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبى معيط، وكانت من المهاجرات الأول: "لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآلهِ وسلمَ يُرَخِّصُ فى شَئْ مَّمِا يَقُولُ النَّاسُ إِنّهُ كَذِبٌ إِلا فى ثَلاثٍ: الرَّجُل يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالَّرجُلِ يَكْذِبُ لامْرَأَتِه، وَالْكَذِبِ فى الْحَرْبِ". ومعنى الكذب فى ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب. وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طليعة للمشركين، وهو فى نفر من أصحابه فقال المشركون: "مًمَّنْ أَنْتُمْ؟ فقَالَ النَّبُى صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ: نَحْنَ مِنْ مَاءٍ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، لَعَلّهُمْ منهم، وَانْصَرَفُوا". وأراد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله "نحن من ماء" قوله تعالى: {خُلقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] . ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته. فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها فى عنقك. فقال ما فعلت؟ فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن. فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 شَهِدْتُ بأَنّ وَعْدَ اللهِ حَق ... وَأَنّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرينَا وَأنَّ الْعَرْش فَوْقَ المَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَتَحْمِلُهُ مَلائِكَةٌ شِدَادٌ ... مَلائِكَةُ الإلهِ مُسَوَّمِينَا فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه. قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة. ويذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟. ودعى أبو هريرة رضى الله عنه إلى طعام فقال: "إنى صائم ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إنى صائم. فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صِيامَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهرِ". وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شئ معه، قال: أعطيك فى أحد اليومين إن شاء الله تعالى. فيظن أنه أراد يومه والذى يليه، وإنما أراد يومى الدنيا والآخرة. وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلاناً أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل والله ما أبصر إلا ما سددنى غيرى، يعنى إلا ما أبصرك ربك. وقال حماد عن إبراهيم فى رجل أخذه رجل، فقال: إن لى معك حقاً. فقال: لا. فقال: احلف بالمشى إلى بيت الله، فقال احلف بالمشى إلى بيت الله واعن مسجد حَيِّك. وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلاً كان يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يقيمها. وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه: فيسأله عنه، فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيئ، يعنى ب"ما": الذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وقال عقبة بن المعيرة: كنا نأتى إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم ولا فى أى موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون أى موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صدقتم. وجاءه رجل فقال: إنى اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها، ويريدون أن يحلفونى أنها الدابة التى اعترضت عليها؟ فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكناً. ثم احلف أنها الدابة التى اعترضت عليها. وقال أبو عوانة عن أبى مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه فى جارية له، وبيده مروحة، فقال: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها. قال: أما رأيتمونى أشير إلى المروحة؟ إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها، وأنا أعنى المروحة. وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبى: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول فى الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شئ يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل فى حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال فى باطل حتى يموهه، أو يحتال فى شئ حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل الذى قلنا فلا بأس بذلك. وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسى، ضرسى. ووجه الرشيد إلى شريك رجلاً ليحضره، فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره، ففعل. فحبسه الرشيد، ثم أرسل إليه رسولاً آخر فأحضره، وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله. فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول فى اليوم الذى أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثانى، فصدقه، وأمر بإطلاق الرجل. وأحضر الثورى إلى مجلس المهدى فأراد أن يقوم فمنع، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد، فقال المهدى: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 إنه عاد فأخذ نعله. قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل. فأبعد الناس عن القول بها مالك، وأحمد، وقد سئل أحمد عن المروزى وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمد إصبعه فى كفه، وقال: ليس المروزى هاهنا. وماذا يصنع المروزى هاهنا؟،. وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق ليطأن امرأته فى نهار رمضان، فقال يسافر بها ويطؤها فى السفر. وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبى حكيم: حكى أن رجلاً سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر فى رمضان؟ فقال له: اذهب إلى بشر ابن الوليد، فاسأله ثم ائتنى فأخبرنى، فذهب فسأله، فقال له بشر: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السحر، فكل، واحتج بقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ المبَارَكِ" فاستحسنه أحمد. قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارق ووضع الصواع فى رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك توصلاً إلى أخذ أخيه وجعله عنده. وأجزه الله سبحانه أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف، ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذى رفع به درجات من يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه. فوق كل ذى علم عليم. فصل قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع: نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى. ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه. وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع. فإن الحيلة لا تذم مطلقاً، ولا تحمد مطلقاً، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب فى العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة. وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف فى تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه. فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهى من ذوات الواو، وأصلها "حولة" فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد. قال فى المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى. فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمراً يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه. فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقاً ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسناً كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحاً كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقاً كانت الحيلة عليه كذلك. ولما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محَاَرِمَ اللهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيلِ". صارت فى عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التى تستحل بها المحارم كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهى مما يستحل بها المحارم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم. ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة" وقوله فى الحديث الذى رواه الترمذى وغيره: "كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ فى خِدْعَةِ حَرْبٍ. ومن النوع المذموم قوله فى حديث عياض بن جمار، الذى رواه مسلم فى صحيحه: "أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِكَ". وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62] . ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى قتلا، وقتل خالد بن سفيان الهذلى. ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبى معبد الخزاعى لأبى سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، وردهم من فورهم. ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعى ليهود بنى قريظة، ولكفار قريش والأحزاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 حتى ألقى الخلْف بينهم، وكان سبب تفرقهم ورجوعهم. ونظائر ذلك كثيرة. وكذلك المكر، ينقسم إلى محمود ومذموم. فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده. فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلة لهم بفعلهم، وجزاء لهم بجنس عملهم. قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون} [النمل: 50] . وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين. قال تعالى: {وَأُمْلِى لَهُمْ إٍنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [الأعراف: 183] وقال تعالى: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] وقال تعالى {إنَّهُمْ يَكِيدُونّ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15-16] . فصل إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولاً أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره، أو إبطال حيلة محرمة. وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له. فيصير مخادعاً لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كائداً لدينه، ماكراً بشرعه، فإن مقصوده حصول الشئ الذى حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذى أوجبه بتلك الحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وهذا ضد الذى قبله. فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى. ودفع معصيته، وإبطال الظلم وإزالة المنكر. فهذا لون، وذاك لون آخر. ومثال ذلك: التأويل فى اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه، ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده، ثم حلف على إنكاره متأولا، فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمستحلف فى ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين. وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويخلصه من الإثم، وتكون اليمين على نيته. فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة، أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهى اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق، أو طالق عند الولادة أو طالق من غيرى ونحو ذلك. أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق، فتأول أنه عتيق أو كريم، من قولهم: فرس عتيق. أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه، فتأول ظهر أمه بمركوبها، فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول: إنه مظاهر من امرأته، تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين، أو جبتين من عند امرأته. وإن استحلفه بالحرام، تأول أن الحرام الذى حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه، فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول: الحرام يلزمنى من زوجتى، أو أن تكون على حراماً، قيد ذلك بنية: إذا أحرمت، أو صامت، أو قامت إلى الصلاة، ونحو ذلك. وإن استحلفه بأن كل ماله، أو كل ما يملكه صدقة، تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه. وإن قال له: قل: وإن جميع ما أملكه: من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين، تأول الفعل المضارع بما يملكه فى المستقبل، بعد كذا وكذا سنة. فإن ضيق عليه، وقال قل: جميع ما هو جار فى ملكى الآن، نوى إضافة الملك إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الآن، لا إلى نفسه، والآن لا يملك شيئاً، فإن قال: مما هو فى ملكى فى هذا الوقت يكون وقفاً، أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر، والعرب تسمى سوار العاج وقفاً. وإن استحلفه بالمشى إلى بيت الله، نوى مسجداً من مساجد المسلمين. فإن قال قل: على الحج إلى بيت الله، نوى بالحج القصد إلى المسجد. فإن قال: إلى البيت العتيق، نوى المسجد القديم، فإن قال: البيت الحرام، نوى الحرام هدمه واتخاذه دار أو حماماً ونحو ذلك. وإن استحلفه بالأمانة، نوى بها الوديعة، أو اللقطة، ونحو ذلك. وإن استحلفه بصوم سنة، نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما. هذا كله فى المحلوف به. وأما المحلوف عليه، فيجرى هذا المجرى. فإذا استحلفه: ما رأيت فلانا، نوى ما ضربت رئته. أو ما كلمته، نوى ما جرحته. أو ما عاشرته ولا خالطته، نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية. أو ما بايعته ولا شاريته، نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين، ولا شاريته من المشاراة، وهى اللجاج أو الغضب، تقول: شرى، على مثال علم، إذا لج أو استشاط غضباً. وإن استحلفه لص أنه لا يدل عليه، ولا يعلم به ولا يخبر به أحداً، نوى أنه لا يفعل ذلك مادام معه. وإن ضيق عليه وقال: ما عاش، أو ما بقى، أو مادام فى هذه البلدة، نوى قطع الظرف عما قبله، وأن لا يكون متعلقاً به، أو نوى بما: الذى، أى لا أدل عليك الذى عاش أو بقى بعد أخذك. وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله. وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة، نوى أن لا يتزوجها نكاحاً فاسداً. وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا، أو لا يشتريه، أو لا يؤجره، ونحو ذلك. وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة، قيد الدخول بنوع معين بالنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وكذلك لو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان؟ نوى مكانه الخاص من داره، أو بلده أو سوقه. ولو استحلفه: أنه ليس عنده فى داره، نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار. فإن ضيق عليه، وقال: الآن، نوى أنه ليس حاضراً معه الآن، وقد بر وصدق. وإن استحلفه ليس لى به علم، نوى أنه ليس لى علم بسره وما ينطوى عليه، وما يضمره، أو ليس لى علم به على جهة التفصيل، فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده. فصل وللمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما: مخرج بالتأويل حال الحلف. فإن فاته فله مخرج يتخلص به بعده إن أمكنه، كما إذا استحلفه قطاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحداً. فالحيلة فى ذلك أن يجمع الوالى المتهمين، ثم يسأله عن واحد واحد، فيبرئ البرئ، ويسكت عن المتهم، وهذا المخرج أضيق من الأول. فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه، ولا يطالبه بحقه، فحلف ولم يتأول أحال عليه بذلك الحق من يطالبه به، ولم يحنث فى يمينه. وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئاً، فله أن يملكه زوجته أو ولده، فإذا باعه بعد فلك كان قد بر فى يمينه، ويمنع من تسليمه مَن مَلَّكه إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 المجلد الثاني الثالث عشر (تابع) ... فصل وللحيل التى يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة: المثال الأول: إن استأجر منه أرضاً أو بستاناً أو دارا سنين، ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان، بنوع من أنواع المكر والغدر، ولو لم يكن إلا بأن يدعى أن أجرة المثل فى هذه الحال أكثر مما سمى. فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يسمى لكل سنة أجراً معلوماً، ويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة، وأقلها للسنين الأول، فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك. وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره فى المستقبل جعل معظم الأجرة فى السنين الأول، وأقلها فى الأواخر. المثال الثانى: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر، فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة، ولا من إخراجها. فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة. فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة، ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا. فإن كان قد أجرها من الزوج، وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له، وأنها فى يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا، وإن كفل المرأة وقت العقد أنها تردّ إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك. المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه فى الأجرة، ويفسخ عقده، إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك، أو يتحيل عليه، حتى يبطل عقده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فالحيلة فى أمنه وتخليصه: أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه، ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه، ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذى وقع عليه العقد. فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى. هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها، وعدم فسخها للزيادة. المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره مالا يملك، فيأبى المالك ويفسخ العقد، ويرجع عليه بالأجرة. فالحيلة فى تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة، وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى. المثال الخامس: أن يخاف فَلَس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة. فالحيلة فى فسخه: أن يشهد عليه فى العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ. ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك. فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر، أو السنة، ويكون حدوث الفلس عيبا فى الذمة يتمكن به من الفسخ. كما يكون حدوث العيب فى العين المستأجرة مسوّغاً للفسخ. وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطاً معلوماً. ولا يعين مقدار المدة، بل يقول آجرتك كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا، تقوم لى بالأجرة فى أول الشهر أو السنة، فإن أفلس قبل مضى شئ من المدة ملك المؤجر الفسخ. وإن أفلس بعد مضى شئ منها، فهل يملك الفسخ؟ على وجهين: أحدهما: لا يملكه. لأن مضى بعضها كتلف بعض المبيع، وهو يمنع الرجوع. والثانى: يملكه. وهو قول القاضى. وهو الصحيح، لأنَّ المنافع إنما تملك شيئاً فشيئاً بخلاف الأعيان فإنها تملك فى آن واحد. فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع. المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها، فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق فى ذلك. فالحيلة فى ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الدار إلى عمارته من أجرتها، ويقدر لذلك قدراً معلوما. فيقول، مثلا: بمائة فما دونها، أو يقول: من عشرة إلى مائة. فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها، أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها، وأنه غير متبرع به، وحسب له من الأجرة. وكذلك إذا استأجر منه دابة، واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك. فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار، أو الدابة ما تحتاج إليه، فادعى قدراً وأنكره المؤجر. فالقول قول المؤجر. والحيلة فى قبول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة، ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعها إليه، ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه، فالقول حينئذ قوله لأنه أمين. فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذى قبضه ويقول إنه تلف، وهو أمانة، فلا يلزمنى ضمانه، فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه، ويجعله فى ذمته، ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك. المثال السابع: إذا آجره دابة، أو داراً مدة معلومة، وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة. فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعدها لكل يوم دينار أو نحوه، فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة. المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل، لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئاً لنفسه من دين الغير بفعله. وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برئ منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا، والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك، لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه، فكما قام مقامه فى التصرف قام مقامه فى الإبراء. فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه، وإنما برئ بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل. المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة. فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا، فقالوا: لا يصح العقد. لأنا لا نعلم على أى المسافتين وقع العقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قالوا: والحيلة فى تصحيحه: أن يسمى للمكان الأقرب أجرة، ثم يسمى منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى. فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة، ومن الرملة إلى مصر بمائة. لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى، ويكون قد أقام فى المكان الأقرب. فالحيلة فى تخلصه: أن يشترط عليه الخيار فى العقد الثانى. إن شاء أمضاه، وإنْ شاء فسخه. ويصح اشتراط الخيار فى عقد الإجارة، إذا كانت على مدة لا تلى العقد. والقياس يقتضى صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة. وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان. ولا غرر فى ذلك، ولا جهالة. وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب رومياً. فلك درهم، وإن خطته فارسياً، فلك نصف درهم، إنما يقع على وجه واحد. وكذلك قطع المسافة، فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة، فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة. فإنه إذا أخذه لا يدرى بأى الثمنين أخذ. فيقع التنازع، ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما. بخلاف عقد الإجارة، فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا، فيجب أجرة عمله. المثال العاشر: إذا زرع أرضه. ثم أراد أن يؤجرها، والزرع قائم لم يجز، لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض. طريق تصحيحها: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة. ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة. فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة، فالحيلة: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإذا تم العقد اشترى منه الزرع، فعاد الزرع إلى ملكه، وصحت الإجارة. المثال الحادى عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر. لم يصح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 لأن الخراج تابع لرقبة الأرض، فهو على مالكها، لا على المنتفع بها: من مستأجر، أو مستعير. وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها، ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض فى الخراج كل سنة كذا وكذا. وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح. وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى، ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة، ويوكله فى إنفاقه عليها. والقياس يقتضى صحة العقد بدون ذلك، فإنَّا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته، كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه. فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها، وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة، يجوز أن يكون بعض الأجرة، والبعض الآخر شيئاً مسمى. المثال الثانى عشر: لا تجوز إجارة الأشجار، لأن المقصود منها الفواكه. وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها. قالوا: والحيلة فى جوازه: أن يؤجره الأرض، ويساقيه على الشجر بجزء معلوم. قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه، بل الصواب جواز إجارة الشجر. كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بحديقة أسيد بن حضير. فإنه أجرها سنين، وقضى بها دينه. قال: وإجارة الأرض لأجل ثمنها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها. فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقى والإصلاح، والذيار فى الكرم، حتى تحصل الثمرة. كما يقوم على الأرض بالحرث والسقى والبذر، حتى يحصل المَغَل. فثمرة الشجر تجرى مجرى مغل الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر. وهو ملك المستأجر، والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه فى الأرض. وسقيه، والقيام عليه. بخلاف استئجار الشجر، فإن الثمرة من الشجرة، وهى ملك المؤجر. والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا لا تأثير له فى صحة العقد وبطلانه. وإنما هو فرق عديم التأثير. الثانى: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذى ينبته الله سبحانه وتعالى، بدون بذر من المستأجر، فهو نظير ثمرة الشجر. الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقى والخدمة، والقيام على الشجرة، فهى متولدة من عمل المستأجر، ومن الشجرة. فللمستأجر سعى وعمل فى حصولها. الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده. بل من البذر: والتراب، والماء، والهواء. فحصول الزرع من التراب الذى هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة. والبذر فى الأرض قائم مقام السقى للشجرة. فهذا أودع فى أرض المؤجر عينا جامدة. وهذا أودع فى شجرة عينا مائعة، ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله، كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله. وهذا من أصح قياس على وجه الأرض. وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعانى المؤثرة فى الأحكام، ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضى الله عنه، فهو إجماع منهم. ثم إن هذه الحيلة التى ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم، أو وقفاً، فإن المؤجر ليس له أن يحابى فى المساقاة حينئذ، ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق فى إجارة الأرض، فإنه إذا أربحه فى عقد لم يجز له أن يخسره فى عقد آخر، ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد فى عقد، بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء، بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا، فإن هذا لا يصح. فعلى ما فعله الصحابة - وهو مقتضى القياس الصحيح - لا يحتاج إلى هذه الحيلة، وبالله التوفيق. المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا، وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هى وأجرتها، فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع، وأنه ضامن لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 غرمه المشترى من ذلك، ويصح ضمان الدرك، حتى عند من يبطل ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، للحاجة إلى ذلك، فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى، فإن خاف أن يظهر الاستحقاق على وارثه بعد موته، ضمن الدرك ورثة البائع، أو ورثة من يخاف استحقاقه إن أمكنه. فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة، وهى أجرة المثل لمدة استيلائه على العين، وهذا قول ضعيف جدا. فإن المشترى إنما دخل على أن يستوفى المنفعة بلا عوض، والعوض الذى بذله فى مقابلة العين لا للانتفاع، فإلزامه بالأجرة إلزام ما لم يلتزمه، وكذلك نقول فى المستعير إذا استحقت العين، لم يلزمه عوض المنفعة، لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجاناً بلا عوض، بخلاف المستأجر، فإنه التزم الانتفاع بالعوض، ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذى دخل عليه. وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها، ثم استحقت، لم يلزمه المهر، لأنه دخل على أن يطأها مجاناً، بخلاف الزوج، فإنه دخل على أن الوطء فى مقابلة المهر، ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى، وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور، لأنه معذور، غير ملتزم للضمان، وهو محسن غير ظالم، فما عليه من سبيل، وهذا هو الصواب. فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانه خاصة، ولا يرجع عليه بما التزم غرامته. فإذا غرم المودع أو المُتَّهِب قيمة العين والمنفعة، رجع على الغار بهما، وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين، دون قيمة المنفعة، إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى، حيث لم يلتزم ضمانه، وإذا ضمن وهو مشتر، أو مستعير قيمة العين والمنفعة، رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين، لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى. والمقصود: أن هذا المشترى متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع. فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار، أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة، ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة، فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة، طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة. المثال الرابع عشر: إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشترى له جارية معينة، ثم خاف الموكل أن تعجب وكيله فيتزوجها، أو يشتريها لنفسه. فطريق التخلص من ذلك فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الجارية: أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهى حرة. ويصح هذا التعليق والعتق، وأما الزوجة: فمن صحيح هذا التعليق فيها، كمالك، وأبى حنيفة، نفعه. وأما على قول الشافعى وأحمد، فإنه لا ينفعه. فطريق التخلص: أن يشهد عليه أنها لا تحل له، وأن بينهما سبباً يقتضى تحريمها عليه، وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلاً. فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى، فالحيلة: أن يعزل نفسه عن الوكالة، ثم يعقد عليها لنفسه، ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلاً لنفسه عن الوكالة. فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفى يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه فى غيبة الموكل، فأراد التخلص من ذلك. فالطريق فى ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه، فإنه إذا اشترها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه فى غيبة موكله، وهو ممتنع. فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلاً. المثال الخامس عشر: إذا وكله فى بيع جارية، ووكله آخر فى شرائها. فإن قلنا: الوكيل يتولى طرفى العقد. جاز أن يكون بائعاً مشتريا لهما. وإن منعنا ذلك، فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه، ثم يشتريها لموكله. فإن خاف أن لا يفى له المشترى الذى توثق منه، فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار. فإن وفى له بالبيع، وإلا كان متمكنا من الفسخ. المثال السادس عشر: لا يملك خلع ابنته بصداقها. فإن ظهرت المصلحة فى ذلك لها. فالطريق: أن يتملكه عليها، ثم يخلعها من زوجها به، فيكون قد اختلعها بماله. والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل إذا ظهرت المصلحة فى افتدائها من الزوج بصداقها جاز بذلك. وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها، وربما كان هذا خيرا لها. المثال السابع عشر: إذا وكله أن يشترى له متاعاً فاشتراه، ثم أراد أن يبعث به إليه. فخاف أن يهلك، فيضمنه الوكيل. فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيل أن يعمل فى ذلك برأيه، ويفوض إليه ذلك. فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يُسْلِم وعنده خمر، أو خنازير، وأراد أن لا يتلف عليه، فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام. ثم يسلم، ويكون له المطالبة بالثمن، سواء أسلم المشترى أو بقى على كفره. نص على هذا أحمد فى مجوسى باع مجوسياً خمراً، ثم أسلما، يأخذ الثمن الذى قد وجب له يوم باعه. المثال التاسع عشر: إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر، فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلاً. فالحيلة: أن يلقى فيه أولا ما يمنع تخمره، فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته. ولم يجز له حبسه حتى يتخلل، فإن فعل لم يطهر، لأن حبسه معصية، وعوده خلاً نعمة، فلا تستباح بالمعصية. المثال العشرون: إذا كان له على رجل دين مؤجل، وأراد رب الدين السفر وخاف أن يَتْوى ماله، أو احتاج إليه، ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول. فأراد أن يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه. فقد اختلف السلف والخلف فى هذه المسألة. فأجازها ابن عباس، وحرّمها ابن عمرْ. وعن أحمد فيها روايتان. أشهرهما عنه: المنع، وهى اختيار جمهور أصحابه، والثانية: الجواز، حكاها ابن موسى. وهى اختيار شيخنا. وحكى ابن عبد البر فى الاستذكار ذلك عن الشافعى قولا. وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول، ولا يحكونه، وأظن أن هذا - إن صح عن الشافعى- فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط، بل لو عجل له بعض دينه، وذلك جائز، فأبرأه من الباقى، حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل، ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم، صح عنده. لأن الشرط المؤثر فى مذهبه: هو الشرط المقارن، لا السابق، وقد صرح بذلك بعض أصحابه. والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز، ومرادهم الشرط المقارن. وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط، ولا بدونه، سدا للذريعة. وأما أحمد فيجوزه فى دين الكتابة، وفى غيره عنه روايتان. واحتج المانعون بالآثار والمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 أما الآثار: ففى سنن البيهقى عن المقداد بن الأسود قال: "أسلفت رجلاً مائة دينار، ثم خرج سهمى فى بعث بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فقلت له: عجل تسعين ديناراً، وأحط عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: فقال: أكلت ربا، مقداد، وأطعمته" وفى سنده ضعف. وصح عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه: "قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحبه، ويعجل له الآخر. فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه". وصح عن أبى المنهال أنه سأل ابن عمر رضى الله عنهما رضى الله عنهما. فقال: لرجل على دين، فقال لى: عجل لى لأضع عنك، قال: فنهانى عنه، وقال: نهى أمير المؤمنين - يعنى عمر- أن يبيع العين بالدين. وقال أبو صالح مولى السفاح، واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا، على أن أضع عنهم، وينقدونى، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت. فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تؤكله. رواه مالك فى الموطأ. وأما المعنى: فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقى، فقد باع الأجل بالقدر الذى أسقطه وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذى يزيده، إذا حل عليه الدين، فقال: زدنى فى الدين وأزيدك فى المدة، فأى فرق بين أن تقول: حط من الأجل، وأحط من الدين، أو تقول: زد فى الأجل، وأزيد فى الدين؟ قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضى أم تربى؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده فى حقه وأخر عنه فى الأجل. رواه مالك. وهذا الربا مجمع على تحريمه، وبطلانه، وتحريمه معلوم من دين الإسلام، كما يعلم تحريم الزنى، واللواطة، والسرقة. قالوا: فنقص الأجل فى مقابلة نقص العوض، كزيادته فى مقابلة زيادته، فكما أن هذا رباً، فكذلك الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 قال المبيحون: صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: "أعجل لك وتضع عنى" وهو الذى روى: "أَنّ رَسُولَ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسَلم: لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِى النَّضِيرِ مِنَ المَدِينَةِ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّكَ أَمَرْتَ بِإخْرَاجِهِمْ، وَلَهُمْ عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ النَّبُّى صلّى اللهُ تَعَالَى علْيهِ وآلهِ وَسلَمَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا". قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد. قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقى، وإسناده ثقات: وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجى، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعى واحتج به. وقال البيهقى: باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله، فوضع عنه، طيبة به أنفسهما. وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط، بل هذا عجل، وهذا وضع، ولا محذور فى ذلك. قالوا: وهذا ضد الربا، فإن ذلك يتضمن الزيادة فى الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لا حق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى. قالوا: ولأن مقابلة الأجل بالزيادة فى الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفى الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له. قالوا: والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمى الغريم المدين: أسيراً ففى براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر، وهذا لازم لمن قال: يجوز ذلك فى دين الكتابة. وهو قول أحمد، وأبى حنيفة، فإن المكاتب مع سيده كالأجنبى فى باب المعاملات، ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين، ولا يبايعه بالربا، فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته، ويضع عنه باقيها، لما له فى ذلك من مصلحة تعجيل العتق، وبراءة ذمته من الدين، لم يمنع ذلك فى غيره من الديون. ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل فى المسألة وقال: لا يجوز فى دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز فى ثمن المبيع والأجرة، وعوض الخلع، والصداق، لكان له وجه، فإنه فى القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 باقيه، خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة، فوفاه تسعين، بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة، فهو كالمربى سواء فى اختصاصه بالمنفعة، دون الآخر، وأما فى البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد، وجعل العوض حالاً أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل، لكن تحيلا عليه، والعبرة فى العقود بمقاصدها لا بصورها. فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه. فتلخص فى المسألة أربعة مذاهب: المنع مطلقاً، بشرط، وبدونه، فى دين الكتابة وغيره، كقول مالك. وجوازه فى دين الكتابة، دون غيره، كالمشهور من مذهب أحمد وأبى حنيفة. وجوازه فى الموضعين. كقول ابن عباس، وأحمد فى الرواية الأخرى. وجوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن، كقول أصحاب الشافعى، والله أعلم. المثال الحادى والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه فى شهر كذا من سنة كذا، فإن لم يفعل فعليه مائتان، فقال القاضى أبو يعلى: هو جائز، وقد أبطله قوم آخرون. والحيلة فى جوازه على مذهب الجميع: أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بَتا، ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة، يؤديها إليه فى شهر كذا، على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما. المثال الثانى والعشرون: إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه فى سنتين، فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى، فهى كتابة فاسدة، ذكره القاضى، لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك. والحيلة فى جوازه: أن يكاتبه على ألفى درهم، ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه فى سنتين. فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون قد علق الفسخ بخطر، فيجوز. وتكون كالمسألة التى قبلها. المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله، أو تأجيل بعضه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 لم يلزمه التأجيل. فإن الحال لا يتأجل. والصحيح: أنه يتأجل، كما يتأجل بدل القرض. وإن كان النزاع فى الصورتين. فمذهب أهل المدينة فى ذلك هو الراجح. وطريق الحيلة فى صحة التأجيل ولزومه: أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذى اتفقا عليه، وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق. فإذا فعل هذا من رجوعه فى التأجيل. المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارا بألف، فجاء الشفيع يطلب الشفعة، فصالحه المشترى على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك، لأن الشفيع صالح على بعض حقه، كما أنه صالح من ألف على خمسمائة. فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقُوَّم البيت ثم تخرج حصته من الثمن، جاز أيضاً، لأن حصته معلومة فى أثناء الحال. فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح. كما إذا اشترى شقصاً وسيفاً: فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن، وإن كانت مجهولة حال العقد، لأن مآلها إلى العلم. وقال القاضى وغيره من أصحابنا: لا يجوز، لأنه صالحه على شئ مجهول. ثم قال: والحيلة فى تصحيح ذلك: أن يشترى الشفيع هذا البيت من المشترى بثمن مسمى، ثم يسلم الشفيع للمشترى ما بقى من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت تسليم للشفعة. فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته فى الباقى. فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة، بل يصبر حتى يبتدئ المشترى، فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا، فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به، ولا يكون مسلماً للشفعة فى باقى الدار وليس فى هذه الحيلة إبطال حق غيره، وإنما فيها التوصل إلى حقه. المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليق الوكالة على الشرط. كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط. وقد صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تعليق الإمارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 بالشرط وهى وكالة وتفويض، وتولية، ولا محذور فى تعليق الوكالة بالشرط البتة. والحيلة فى تصحيحها: أن ينجز الوكالة ويعلق الإذن فى التصرف بالشرط وهذا فى الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط، فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه، والتوكل وسيلة وطريق إلى ذلك، فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط، فالوسيلة أولى بالجواز. المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبراء بالشرط. ويصح، وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا: لا يصح. قالوا: فإذا قال: إن مت فأنت فى حل مما لى عليك. فإن علق ذلك بموت نفسه صح، لأنه وصية. وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح. لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة. فيقال: أولا، الحكم فى الأصل غير ثابت بالنص، ولا بالإجماع، فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه علق الهبة بالشرط فى حديث جابر لما قال: "لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لأعْطَيْتُكَ هكَذَا، وَهكَذَا، ثمَّ هكَذَا" - ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ. وأنجز ذلك له الصديق رضى الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فإن قيل: كان ذلك وعداً؟. قلنا: نعم، والهبة المعلقة بالشرط وعد. وكذلك فعل النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما بعث إلى النجاشى بهدية من مسك، وقال لأم سلمة: "إِنِّى قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِى حُلَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَأَوَاقِى مِنْ مِسْكٍ، وَلا أَرَى النَّجَاشِى لا قَدْ مَاتَ، وَلا أرَى هَدِيَّتِى إِلا مَرْدُودَةً فإن رُدَّتْ عَلَى فَهِى لَكِ" وذكر الحديث، رواه أحمد. فالصحيح: صحة تعليق الهبة بالشرط، عملا بهذين الحديثين. وأيضاً. فالوصية تمليك، وهى فى الحقيقة تعليق للتمليك بالموت، فإنه إذا قال: إن مت من مرضى هذا فقد أوصيت لفلان بكذا، فهذا تمليك معلق بالموت. وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط. نص عليه فى رواية الميمونى فى تعليقه بالموت. وسائر التعليق فى معناه، ولا فرق البتة. ولهذا طرده أبو الخطاب. وقال: لا يصح تعليقه بالموت. والصواب طرد النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره. وهو أحد الوجهين فى مذهب أحمد. وهو مذهب مالك. ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته. وإنما عدم الصحة قول القاضى وأصحابه. وفى المسألة وجه ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط، وهذا اختيار الشيخ موفق الدين. وفرق بأن تعليقه بالموت وصية، والوصية أوسع من التصرف فى الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحمل والصحيح: الصحة مطلقاً. ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث، ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون، بطنا بعد بطن، وأن كونه وقفا على البطن الثانى مشروط بانقضاء البطن الأول. وقد قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ". والقياس الصحيح: يقتضى صحة تعليقه، فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك، ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة، اتفاقاً، وكذلك إذا كان على آدمى معين، فى أقوى الوجهين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وما ذاك إلا لشبهه بالعتق. والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله، فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب. ويقال ثانياً: لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء، بل القياس الصحيح يقتضى صحة تعليقه، لأنه إسقاط محض، ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرئ، ولا رضاه، فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك. وعلى هذا، فيستغنى بالصحة فى ذلك كله عن الحيلة. فإن احتاج إلى التعليق، وخاف أن ينقض عليه، فالحيلة: أن يقول: لا شئ لى عليه بعد هذا الشهر أو العام، أو لا شئ لى عليه عند قدوم زيد، أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا، أو عام كذا، أو عند قدوم زيد بسبب كذا، أو من دين كذا، فهى دعوى باطلة، أو يقول: كل دعوى أدعيها فى تركته بعد موته: من دين كذا أو ثمن كذا، فهى دعوى باطلة. وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شئ من ذلك. المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة، ملكت الفسخ، فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ، لأن عليها فى ذلك منة، كما أراد قضاء دين عن الغير، فامتنع ربه من قبوله، لم يجبر على ذلك. وطريق الحيلة فى إبطال حقها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير، فتصح الحوالة، وتلزم على أصلنا، إذا كان المحال عليه غنيا. وطريق صحة الحوالة: أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهراً، أو نحو ذلك، ثم يحيلها الزوج عليه، فإن لم يمكنه الإجبار على القبول، لعدم من يرى ذلك، وكل الزوج الملتزم لنفقتها فى الإنفاق عليها، والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه، أو بوكيله. وهكذا العمل فى مسألة أداء الدين عن الغريم سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التى لا يملكها بعقد المضاربة، فخلط المال بغيره، أو استبراء به بأكثر من رأس المال، والاستدانة على مال المضاربة، أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعاً، أو إيداعاً، أو السفر به. فطريق التخلص من ضمانه فى هذا كله: أن يشهد على رب المال أنه قال له: اعمل برأيك، أو ما تراه مصلحة. المثال التاسع والعشرون: إذا كان لكل من الرجلين عروض، وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان، ففى ذلك روايتان: إحداهما: تصح الشركة. وتقوم العروض عند العقد، ويكون قيمتها هو رأس المال. فيقسم الربح على حسبه، أو على ما شرطاه. وإذا أرادا الفسخ رجع كل منهما إلى قيمة عروضه، واقتسما الربح على ما شرطاه، وهذا القول هو الصحيح. والرواية الثانية: لا تصح إلا على النقدين، لأنهما إذا تفاسخا الشركة، وأراد كل منهما الرجوع إلى رأس ماله، ويقتسما الربح، لم يعلم ما مقدار رأس مال كل منهما إلا بالتقويم، وقد تزيد قيمة العروض وتنقص قبل العمل، فلا يستقر رأس المال. وأيضاً فمقتضى عقد الشركة: أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر، وهذه الشركة تفضى إلى ذلك، لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم تزد قيمة عروضه. وهذا إنما يصح فى المقومات كالرقيق، والحيوان، ونحوهما. فأما المثليات، فإن ذلك منتف فيها، ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض: جوازها بالمثليات. فالصحيح: الجواز فى الموضعين. لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين، وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران، فهما فى هذا الجواز مستويان. فتجويز ربح أحدهما دون الآخر فى مقابلة عكسه، فقد استويا فى رجاء الغنم وخوف الغرم، وهذا هو العدل، كالمضاربة، فإنه يجوز أن يربحاً، وأن يخسراً، وكذلك المساقاة والمزارعة. وطريق الحيلة فى تصحيح هذه المشاركة، عند من لا يجوزها بالعروض: أن يبيع كل منهما بعض عروضه ببعض عروض صاحبه، فإذا كان عَرضَ أحدهما يساوى خمسة آلاف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وعرض الآخر يساوى ألفا، فيشترى صاحب العرض الذى قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذى يساوى ألفا بسدس عرضه الذى يساوى خمسة آلاف، فإذا فعلا ذلك صارا شريكين، فتصير للذى يساوى متاعه ألفا سدس جميع المتاع. وللآخر خمسة أسداسه. أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى، ثم يتقابضان فيصير مشتركاً بينهما، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه فى التصرف، فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد، وعلى قدر رءوس أموالهما عند الشافعى، والخسران على قدر المال اتفاقاً. المثال الثلاثون: إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فالنكاح صحيح. والشرط لازم. هذا إجماع الصحابة رضى الله عنهم، فإنه صح عن عمر، وسعد، ومعاوية، ولا مخالف لهم من الصحابة. وإليه ذهب عامة التابعين وقال به أحمد. وخالف فى ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط ولم يوجبوا الوفاء به. فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك، ولم يكن عندها حاكم يرى صحة ذلك ولزومه، فالحيلة لها فى حصول مقصودها: أن تمتنع من الإذن، إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها، أو نقلها من دارها، أو تزوج عليها فهى طالق، أو لها الخيار فى المقام معه، أو الفسخ. فإن لم تثق به أن يفعل ذلك، فإنها تطلب مهراً كثيراً جداً، إن لم يفعل، وتطلب ما دونه إن فعل، فإن شرط لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى، وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى، وجعلته حالاً، ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه، أو يشرط لها ما سألته. فإن قيل: فعلى أى المهرين يقع العقد؟ قيل: يقع على المهر الزائد، لتتمكن من إلزامه بالشرط. فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت، ويستقر عليه المهر الزائد، فالحيلة: أن يشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئاً من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى، وأنها متى ادعت به فدعواها باطلة، فيستوثق منها بذلك، ويكتب هو الشرط، ولها أن تطالب بالصداق الزائد، إذا لم يف لها بالشرط، لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهراً إلا فى مقابلة منفعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 أخرى تسلم لها، وهى المقام فى دارها، أو بلدها، أو يكون الزوج لها وحدها، وهذا جار مجرى بعض صداقها. فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى. المثال الحادى والثلاثون: إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح، فإن حضره الموت فخاف هو، أو المرأة، أن ترث جزءا منه، فينفسخ النكاح. فالحيلة فى بقائه: أن يبيع العبد من أجنبى، فإن شاء قبض ثمنه، وإن شاء جعله دينا فى ذمته، يكون حكمه حكم سائر ديونه، فإذا ورثت نصيبها من ثمنه، لم ينفسخ نكاحها. وإن باع العبد من أجنبى قبل العقد، ثم زوجه الابنة، أمن هذا المحذور أيضاً. وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه، وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته، فينفسخ النكاح، باعها من أجنبى، ثم زوجها الابن، أو يبيعها من الأجنبى بعد العقد. المثال الثانى والثلاثون: إذا أحاله بدينه، وخاف المحتال أن يبور ماله عند المحال عليه، وأراد التوثق لماله. فالحيلة فى ذلك، أن يقول: لا تحلنى بالمال، لكن وكلنى فى المطالبة به، واجعل ما أقبضه فى ذمتى قرصاً، فييرآن جميعاً بالمقاصة. فإن خاف المحيل أن يهلك المال فى يد الوكيل قبل اقتراضه، فيرجع عليه بالدين. فالحيلة له: أن يقول للمحال عليه: اضمن عنى هذا الدين لهذا الطالب، فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه. فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا، فالمحيل ضامن لهذا المال، ويصح تعليق الضمان بالشرط. فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال، وأخذه بالمال. المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبداً، فخاف أن يموت العبد، فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن. فالحيلة فى تخليصه من هذا المحذور: أن يشترى العبد منه بدينه، ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله فى البيع. وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم، وإن تلف العبد كان من ضمان البائع، ورجع المشترى إلى دينه الذى هو ثمنه. المثال الرابع والثلاثون: إذا كان له عليه دين، فرهنه به رهنا، ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فالحيلة فيه: أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن. فإذا استحقه عليه طالبه بالمال، أو يضمنه درك الرهن، أو يشهد عليه أنه لا حق له فيه. ومتى ادعى فيه حقاً فدعواه باطلة. المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة، وخمسون بغير وثيقة، وجحده الغريم القدر الذى بغير وثيقة. فالحيلة له فى تخليص ماله: أن يوكل رجلاً غريباً بقبض المال الذى بالوثيقة. ويشهد على وكالته علانية، ثم يشهد شهودا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة، ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال، ويثبت شهود وكالته. فإذا قبض الخمسين ديناراً دفعها إلى مستحقها وغاب، ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين. فإن قال: دفعتها إلى وكيلك. أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة، فيلزمه الحاكم بالمال، ويقول له: اتْبَعِ القابض، فخذ مالك منه. فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئاً خشية مثل هذا. ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله، فتبطل هذه الحيلة. المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموت، ولبعض ورثته عليه دين، وأراد تخليص ذمته. فإن أقر له به، لم يصح إقراره، وإن وصى له به، كانت وصية لوارث. فالحيلة فى خلاصه: أن يواطئه على أن يأتى بمن يثق به، فيقر له بذلك الدين، فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه، فإن خاف الأجنبى أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت، ولم تبرئه منه، ولا من شئ منه لم يجز له أن يحلف على ذلك. وانتقلنا إلى حيلة أخرى، وهى أن يقول له المريض: بع دارك، أو عبدك من وارثى، بالمال الذى له على فيفعل. فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح، فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة، فقبضه، ثم باعه من الوارث بالدين على الميت. المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمة، حيث يجوز له نكاح الإماء، وخاف أن يسترق سيدها ولده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فالحيلة فى ذلك: أن يسأل سيد الأمة أن يقول: كل ولد تلده منك فهو حر. فإذا قال فما ولدته منه فهم أحرار. المثال الثامن والثلاثون: إذا قال لامرأته: إن سألتنى الخلع، فأنت طالق ثلاثاً إن لم أخلعك. وقالت المرأة: كل مملوك لها حر، إن لم أسألك الخلع اليوم. فسئل أبو حنيفة عنها فقال للمرأة: سليه الخلع، فقالت: أسألك أن تخلعنى. فقال للزوج: قل خلعتك على ألف درهم، فقال ذلك. فقال أبو حنيفة للمرأة قولى: لا أقبل. فقالت: لا أقبل، فقال أبو حنيفة: قومى مع زوجك، فقد بر كل منكما فى يمينه. المثال التاسع والثلاثون: سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجاً أختين، فزفت امرأة كل واحد منهما إلى الآخر، فوطئها، ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا، فقيل له: ما الحيلة فى ذلك؟ فقال: أكل منهما راض بالتى دخل بها؟ قالوا: نعم، فقال: ليطلق كل واحد منهما امرأته طلقة، ففعلا، فقال: ليتزوج كل منهما المرأة التى وطئها، فطابت أنفسهما. المثال الأربعون: إذا كان لرجل على رجل مال وللذى عليه المال عقار، فأراد أن يجعل عقاره فى يد غريمه يستغله، ويقبض غلته من دينه جاز ذلك، لأنه توكيل له فيه، فإن خاف الغريم أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة. فالحيلة: أن يسترهنه منه ويستديم قبضه، ثم يأذن له فى قبض أجرته من دينه، ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصاً. وله حيلة أخرى: أن يستأجره منه بمقدار دينه، فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصاً. المثال الحادى والأربعون: إذا كان له جارية فأراد وطأها، وخاف أن تحبل منه فتصير أم ولد، لا يمكنه بيعها. فالحيلة: أن يبيعها لأبيه، أو أخيه، أو أخته، فإذا ملكها سأله أن يزوجه إياها فيطأها بالنكاح، ويكون ولده منها أحرارا يعتقون على البائع بالرحم، وهذا إذا كان ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 يجوز له نكاح الإماء، بأن لا يكون تحته حرة عند أبى حنيفة. أو يكون خائفاً للعنت عادماً لطَوْل حرة، عند الجمهور. المثال الثانى والأربعون: إذا بانت منه امرأته ببينونة صغرى، وأراد أن يجدد نكاحها فخاف إن أعلمها لم تتزوج به، فله فى ذلك حيل: إحداها: أن يقول: قد حلفت بيمين، ثم استفتيت، فقيل لى: جدد نكاحك، فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح، وإلا لم يضرك. فإن كان لها ولى جدد نكاحها، وإلا فالحاكم أو نائبه. ومنها: أن يظهر أنه يريد سفراً، وأنه يريد أن يجعل لها شيئاً من ماله، وأن الاحتياط أن يجعله صداقاً بعقد يظهره. ومنها: أن يظهر مرضاً، وأنه يريد أن يقر لها بمال، أو يوصى لها به، وأن ذلك لا يتم. والأحوط أن أظهر عقد نكاح وأجعل ذلك صداقاً فيه. فإن قيل: إذا بانت منه ملكت نفسها، ولم يصح نكاحها إلا برضاها، ولعلها لو علمت الحال لم ترض بالنكاح الثانى. قيل: رضاها بتجديد العقد للغرض الذى يريده يتضمن رضاها بالنكاح، وهى لو هزلت بالإذن صح إذنها وصح النكاح، مع أنها لم تقصده كما لو هزل الزوج بالقبول صح نكاحه، وهاهنا قد قصدت بقاء النكاح، ورضيت به، فهو أولى بالصحة. فإن قيل: فالرجل قاصد إلى النكاح، والمرأة غير قاصدة له؟ قيل: بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها، فلم تخرج بذلك عن القصد والرضا. ولو قال رجل لرجل، هزلاً ومزاحاً: زوجنى ابنتك على مائة درهم، أو قال: زوجنى موليتك، وهى تسمع، فقال له، مزاحاً وهزلاً: قد زوجتكها. انعقد النكاح وحل له وطؤها لحديث أبى هريرة الذى رواه أهل السنن عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 جِد، وَهَزْلهُنَّ جد: النَّكَاحُ، وَالطّلاقُ، وَالرَّجْعَةَ". المثال الثالث والأربعون: إذا كان الرجل حسن التصرف فى ماله، غير مبذر له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فرفع إلى الحاكم وشهد عليه أنه مبذر، فخاف أن يحجر عليه. فقال: إن حجرت على فعبيدى أحرار، ومالى صدقة على المساكين لم يملك القاضى أن يحجر عليه بعد ذلك، لأنه إنما يحجر عليه صيانة لماله، وفى الحجر عليه إتلاف ماله، فهو يعود على مقصود الحجر بالإبطال. المثال الرابع والأربعون: يصح الصلح عندنا، وعند أبى حنيفة، ومالك، على الإنكار، فإذا ادعى عليه شيئاً فأنكره ثم صالحه على بعضه جاز. والشافعى لا يصحح هذا الصلح، لأنه لم يثبت عنده شئ، فبأى طريق يأخذ ما صالحه عليه؟ بخلاف الصلح على الإقرار، فإنه إذا أقر له بالدين والعين، فصالحه على بعضه، كان قد وهبه، أو أبرأه من البعض الآخر. والجمهور يقولون: قد دل الكتاب والسنة والقياس على صحة هذا الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس. وأخبر أن الصلح خير وقال: {إِنَّمَا الُمْؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكمْ} [الحجرات: 10] . وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الصُّلْحُ بَيْنَ الُمْسْلِمينَ جَائزٌ، إِلا صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلالاً". وأما القياس: فإن المدعى عليه يفتدى مطالبته باليمين وإقامة البينة، وتوابع ذلك: بشيء من ماله يبذله، ليتخلص من الدعوى ولوازمها. وذلك غرض صحيح، مقصود عند العقلاء. وغاية ما يُقَدَّر أن يكون المدعى كاذباً، فهو يتخلص من تحليفه له، وتعريضه للنكول، فيقضى عليه به، أو ترد اليمين، بل عند الخِرَقى: لا يصح الصلح إلا على الإنكار، ولا يصح مع الإقرار، قال: لأنه يكون هضما للحق. فإذا صالحه مع الإنكار، فخاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل الصلح، فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يصالح أجنبى عن المنكر على مال، ويقر الأجنبى لهذا المدعى بما ادعاه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 غريمه، ثم يصالحه من دعواه على مال، ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه، ولا وكالته، إن كان المدعى دينا، لأنه يقول: إن كان كاذباً فقد استنقذته من هذه الدعوى، وذلك بمنزلة فكاك الأسير، وإن كان صادقاً فقد قضيت عنه بعض دينه، وأبرأه المدعى من باقيه، وذلك لا يفتقر إلى إذنه. وإن كان المدعى عينا، لم يصح حتى يقول: قد وكلنى المنكر. لأنه يقول: قد اشتريت له هذه العين المدعاة بالمال الذى أصالحك عليه، فإن لم يعترف أنه وكله، وإلا لم يصح. فإن لم يعترف بوكالته، فطريق الصحة: أن يصالح الأجنبى لنفسه، فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة. فإن اعترف بها المدعى باطنا، صار هو الخصم فيها. وإن لم يعترف بها له لم يسعه أن يخاصم فيها المدعى عليه، ويكون اعترافه له بها ظاهراً حيلة على تصحيح الصلح. وعلى هذا، فإن كان المدعى دار خلفها الميت لابنه وامرأته، فادعاها رجل فصالحاه من دعواه على مال، فإن كان صلحاً على الإنكار فالدار بينهما على ثمانية أسهم، على المرأة الثمن، وعلى الابن سبعة أثمان. وإن كان على الإقرار، فالمال بينهما نصفان والدار لهما نصفان. فإذا أراد لزوم الصلح على الإنكار، صالح عنهما أجنبى على الإقرار فلزم الصلح، وكان المال بينهما على سبعة أثمان، وكذلك الدار، فإنهما لم يقرا له بالدار وإقرار الأجنبى لا يلزمهما حكمه. المثال الخامس والأربعون: إذا ادعى عليه أرضا فى يده، أو داراً أو بستانا. فصالحه على عشرة أذرع، أو أقل، أو أكثر، جاز، وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو أخرى، جاز، لأنه يقول: قد أخذت بعض حقى وأسقطت البعض. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم حنفى، لا يرى جواز ذلك بناء على أنه لا يجوز بيع ذراع، ولا عشرة، من أرض أو دار. فطريق الجواز: أن يذرع الدار التى صالحه على هذا القدر منها، ثم ينسبه إلى المجموع، فما أخرجته النسبة أوقع الصلح عليه، ويصح ذلك ويلزم. المثال السادس والأربعون: إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مدة معينة، أو ما عاش، جاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ذلك. فإذا أراد الوارث أن يشترى من الموصى له خدمة العبد لم يصح، لأن الحق الموصى له به إنما هو فى المنافع، وبيع المنافع لا يجوز. والحيلة فى الجواز: أن يصالحه الوارث من وصيته على مال معين، فيجوز ذلك. وكذلك لو أوصى له بحمل شاته أو أمته، أو بما يحمل شجره عاماً. فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح، وله أن يصالحه عليه، فإن الصلح - وإن كان فيه شائبة من البيع - فهو أوسع منه. المثال السابع والأربعون: لو شجه رجل، فعفا المشجوج عن الشجة، وما يحدث منها ثم مات منها، لم يلزم الشاج شيئاً، ولو قال: عفوت عن هذه الجراحة، أو الشجة، ولم يقل: وما يحدث منها، فكذلك فى إحدى الروايتين، وفى الأخرى: تضمن بقسطها من الدية. ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، فلا شئ له فى السراية، رواية واحدة. وعند أبى حنيفة له المطالبة بالدية فى ذلك كله، إلا إذا قال: عفوت عنها، وعما يحدث منها. فالحيلة فى تخلص المعفو عنه: أن يشهد على المجنى عليه: أنه عفا عن هذه الجناية أو الشجة وما يحدث منها، فيتخلص عند الجميع. المثال الثامن والأربعون: إذا مات وترك زوجة وورثة، فأرادت الزوجة أن يصالحها الورثة عن حقها نظرنا فى التركة، وفى الذى وقع عليه الصلح، فإن كان فى التركة أثمان: ذهب وفضة، فصالحتهم على شئ من الأثمان لم يصح، لإفضائه إلى الربا. لأن صلحها بيع نصيبها منهم. وإن صالحتهم على عرض أو عقار، أو كان فى التركة دراهم، فصالحتهم بدنانير، أو بالعكس جاز. ولا تضر جهالة حقها، لأن عقد الصلح أوسع من البيع كما تقدم. فإن كان فى التركة ديون لم يصح، لأن بيع الدين من غير الذى هو فى ذمته لا يصح. ويحتمل أن يقول بصحته، كما يصح عن المجهول، وإن لم يصح بنفسه. فالحيلة فى صلحها عن الدين أيضاً: أن يعجل لها حصتها من الدين، يقرضها الورثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ذلك، وتوكلهم فى اقتضائه، ثم تصالحهم من الأعيان، على ما اتفقوا عليه، لأنهم إذا أقرضوها حصتها من الدين ثم وكلتهم بقبض حصتها من الدين، فإذا قبضوا حصتها من الدين فقد حصل فى أيديهم بمالها من جنس مالهم عليها فيتقاصان. ويكون عقد الصلح قد وقع على العروض والمتاع خاصة. فإن لم تطب أنفسهم أن يقرضوها قدر حصتها من الدين، وأحبت تعجيل الصلح صالحتهم عن حقها من المتاع والعروض، دون الديون. وكلما قبض من الدين شئ أخذت حقهاً منه، فإن تعسر ذلك، وشق عليها، وأحبت الخلاص. حاسبوها فى الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها، وأقرت أن الدين حق للورثة دونها، من ثمن متاع باعه الميت لهم. فإن أرادوا قسمة الدين فى الذمم. فالمشهور: أنه لا يصح لأن الذمم لا تتكافأ، وفيه رواية أخرى تجوز قسمته، وهى الصحيحة. فإن قد تكون مصلحة الورثة والغرماء فى ذلك، وتفاوت الذمم لا يمنع القسمة، فإن التفاوت فى المحل، والمقسوم واحد متماثل، وإن اختلفت محاله. وإذا كان الغرماء كلهم موسرين أو معسرين، أو بعضهم موسراً، وبعضهم معسراً، فأخذ كل من الورثة موسراً ومعسراً، كان هذا عدلاً غير ممتنع وقد تراضوا به فلا وجه لبطلانه، وبالله التوفيق. المثال التاسع والأربعون: إذا كان لرجل على رجل دين، فقال: تصدق به عنى ففعل لم يبرأ، وكانت الصدقة عن المخرج ودينه باقياً، قاله أصحابنا لأنه لم يتعين، ولأنه لا يكون مبرئا لنفسه بفعله. قالواً: وطريق الصحة أن يقول: تصدق عنى بكذا، بقدر دينه، ويكون ذلك إقراضاً منه. فإذا فعل ثبت له فى ذمته ذلك القدر، وعليه له مثله، فيتقاصان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وكذلك لو قال له: ضارب بالمال الذى عليك والربح بيننا، لم يصح. والحيلة فى صحته: أن يقول: أذنت لك فى دفعه إلى ابنك، أو زوجتك وديعة ثم وكلتك فى أخذه والمضاربة به. والظاهر: أنه لا يحتاج إلى شئ من ذلك. ويكفى قبضه من نفسه لرب الناس. وإذا تصدق عنه بالذى قال، كان عن الآمر. هذا هو الصحيح، وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة، فإذا عينه بالنية تعين، وكان قابضاً من نفسه لموكله، وأى محذور فى ذلك؟. المثال الخمسون: يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا، وكذلك الدابة بعلفها وكذلك المرضعة، وهو مذهب مالك، وقال الشافعى: لا يجوز فيهما، وجوزه أبو حنيفة فى الظئر خاصة. فإذا عقد الإجارة كذلك، ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانها، فيلزمه بأجرة مثله، فالحيلة فى تصحيح ذلك: أن يستأجر بنقد معلوم، يكون بقدر الطعام والكسوة، ثم يشهد عليه أنه وكله فى إنفاق ذلك على نفسه وكسوته، وكذلك فى الدابة. المثال الحادى والخمسون: يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره المؤجر، كما يجوز لغيره. وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة. فالحيلة فى لزومها: أن يؤجر ذلك لأجنبى غير المؤجر، ثم يؤجره إياها الأجنبى. المثال الثانى والخمسون: إذا كفل اثنان واحدا، فسلمه أحدهما برئ الآخر، كما لو ضمنا دينا، فقضاه أحدهما، فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك، ويلزم الآخر بتسليمه. فالحيلة فى خلاصه: أن يكفلا هذا المكفول به، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعاً بريئان، أو يشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه فى دفع المكفول به إلى الطالب، والتبرى إليه منه، فيبرآن على قول الجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 المثال الثالث والخمسون: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب عندنا، كما يصح ضمان الدرك، فإذا قال: ما أعطيت لفلان فأنا ضامن له، صح ولزمه. وقال الشافعى: لا يصح. فالحلية فى صحته، لئلا يبطل ذلك حاكم يرى بطلانه: أن يقول: ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف، فأنا ضامن له. فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز، واستويا فى الغرم. فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثين، جاز ذلك لأن المال إنما يجب على كل منها بالتزامه، فإذا التزماه على هذا الوجه صح. فان أراد أحد الضامنين أن يضمن الآخر ما لزمه من هذا الضمان، فيصير ضامناً، جاز ذلك أيضاً، لأن المال قد ثبت فى ذمة كل واحد منهما، فإذا ضمنه أحدهما جاز كما يجوز فى الأصل. المثال الرابع والخمسون: إذا اشترك رجلان شركة عنان، فسافر أحدهما بالمال بإذن شريكه، فخاف أن يموت المقيم، فيشترى بالمال بعد موته متاعاً، فيضمن، لأنه قد انتقل إلى الورثة، وبطلت الشركة. فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يشهد على شريكه المقيم أن حصته فى المال الذى بينه وبينه لولده الصغار، وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه، وأمره أن يشترى بها ما أحب فى حياته وبعد وفاته، فإن كان ولده كباراً أشهد على نفسه أن هذا المال لهم ثم يأمر ولده الكبار هذا الشريك أن يعمل لهم فى مالهم هذا بما يرى، ويشترى لهم ما أحب. المثال الخامس والخمسون: إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلا، فتزوجها أحدهما على نصيبه فى المال عليها صح النكاح، وبرئت ذمة المرأة من ذلك المقدار، ولم يلزم الزوج أن يضمن لصاحبه شيئاً منه، لأنه لم يقبض شيئاً من نصيبه، ولم يحصل فى ضمانه، فجرى مجرى إبرائها له منه. وبعض الفقهاء يضمنه نصيب شريكه من المهر، ويجعله كالمقبوض، لأنه عاوض عليه بالبضع، فهو كما لو اشترى منها به سلعة، فإنها تكون بينهما، وهاهنا تعذرت مشاركته فى البضع، فيشاركه فى بدله وهو المهر، فكأنها وفته نصيبه من الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وطريق الحيلة فى تخليصه من ذلك: أن يهب لها نصيبه مما عليها، ثم يتزوجها بعد ذلك على خمسمائة فى ذمته، ثم تهب له المرأة مالها عليه من الصداق، فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئاً، لأنه متبرع. فإن خاف أن يهبها أو يبرئها فتغدر به، ولا تتزوج به، فالحيلة له: أن يشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ، مادامت أجنبية منه، وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئاً من ذلك المال. وأكثر ما فيه: أنه يسميها زوجة قبل العقد برئت من الدين. فإن خاف أن لا تبرئه من الصداق، وتطالبه به، ويسقط حقه من المال الذى عليها، فالحيلة له: أن يشهد عليها فى العقد: أنه برئ إليها من الصداق، وأنها لا تستحق المطالبة به. المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشترى جارية، وعرض له آخر يريد شراءها. فاستحلف أحدهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهى بينه وبينه نصفين، فأراد أن يشتريها وتكون له. تأول فى يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه فهى بينه وبينه. فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده. فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها، بطلت هذه الحيلة، فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه، ويؤدى هو عنه الثمن. ثم يزوجه إياها. فإذا أراد بيعها استبرأها، ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه. المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عرض من العروض، فاشتراه منهما أجنبى بمائه درهم وقبضه. ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه، على أن يضمن له الدرك من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه جميع الثمن الذى وقع العقد عليه فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال، وذلك لم يوجد، فلا يكون مضمونا عليه. فالحلية للمشترى: أن يكون بريئا. وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذى صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشترى نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشترى إليه نصيب صاحبه، فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ما قبضه منه، ويبرئه هو من نصيبه، لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه، فإذا قبضه كان مضمونا عليه، لأنه قبض دين الغير بغير أمره. المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين موسرين، فأراد كل منهما عتق نصيبه، وأن لا يغرم لشريكه شيئاً. فالحيلة: أن يوكلا رجلاً فيعتقه عنهما، ويكون ولاؤه بينهما. المثال التاسع والخمسون: إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل، ثم بداله فى تزويجه. فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به، ثم يزوجه المشترى، فإذا تم العقد أقاله فى البيع. ولا بأس هذه الحيلة، فإنها لا تتضمن إبطال حق، ولا تحليل محرم. وذلك غير ممتنع على أصلنا، لأن الصفة، وهى عقد النكاح قد وجدت فى حال زوال ملكه. فلا يتعلق بها حنث، ولا يحنث أيضاً باستدامة التزويج بعد ملكهما. لأن التزويج عبارة عن العقد، وقد انقضى، وإنما بقى حكمه. ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج. لم يحنث، وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار، فباعه. ودخلها ثم ملكه. فإن دخلها حنث، لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية، ولو دخلها فى حال زوال ملكه وهو داخل فيها حنث، لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثانى فيحنث به، كما لو كان موجودا فى الملك الأول. وقد قال أحمد فى رواية مهنا، فى رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنت كذا وكذا. فإذا هى قد رهنته قبل يمينه، فقال: أخاف أن يكون حنث. قال القاضى: وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته. وهذا تأويل منه لكلام أحمد: فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه، كالدخول. المثال الستون: إذا كان له عليه مال، فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه، وهو يخرج من ثلثه. فخاف أن تكتم الورثة ماله، ويقولوا: لم يدع إلا الدين الذى على هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فالحلية فى خلاصه: أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذى على غريمه، فيملكه إياه، ثم يستوفيه منه، ويشهد على ذلك، وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبداً، وله مال يخرج من ثلثه، ويملكه ماله، فخاف أن يقول الورثة: لم يخلف الميت شيئاً غير هذا العبد وماله. فالحيلة: أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به، ويقبض الثمن، فيهبه للمشترى ثم يعتقه المشترى. فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله، ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره، فلا نجيز له ما صنع من ذلك. فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه، ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود. ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه فى السر، فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة، فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه، وهبه مالا فى السر، وأقبضه إياه، فيشترى به العبد نفسه من سيده. فإن لم يرد السيد عتقه، وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة. فالحيلة فى ذلك: أن يقبض وارثه ماله فى السر، ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك، ويقبض الثمن بمحضر من الشهود، فيتخلص من اعتراض الورثة. المثال الحادى والستون: إذا أوصى إلى رجل، فخاف أن لا يقبل، فقال: إن لم يقبل فلان وصيتى فهى لفلان. صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الصحيحة الصريحة، التى لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط. فتعليق الوصية أولى، لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية. وبعض الفقهاء يبطل ذلك. فالحيلة فى ذلك: أن يشهد المريض أنهما جميعاً وصياه، فإن لم يقبل أحدهما، وقبل الآخر، فالذى قبل منهما وصى وحده. فإن قبلا جميعا، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه، لأنه رضى بتصرف كل واحد منهما، قاله القاضى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف، ويقول: قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصى واحد. فالحيلة فى الجواز: أن يقول: أو صيت إليهما على الاجتماع والانفراد. المثال الثانى والستون: إذا تصرف الوصى وباع واشترى وأنفق على اليتيم. فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حاسب عماله، كما ثبت فى صحيح البخارى: "أنّهُ بَعَثَ ابْنَ الُّلتْبِيَّةِ عَامِلاً عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ". فإن أراد الوصى أن يتخلص من ذلك. فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذى يتولى بيع التركة، وقبض الدين والإنفاق، ولا يشهد على نفسه بوصول شئ من ذلك إليه، فإذا سأله الحاكم، قال: لم يصل إلى شئ من التركة، ولا تصرفت فيها. فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره، وصرف بأمره. فحلفه الحاكم إنه لم يقبض، ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق. فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن، وسعه أن يتأول فى يمينه. وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله. المثال الثالث والستون: يصح وقف الإنسان على نفسه، على أصح الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثنى الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله. وغيرنا ينازعنا فى ذلك، فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه. فالحيلة له: أن يملكه لولده أو زوجته، أو أجنبى يقفه عليه، ويشترط له النظر فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغَلَّته، أو بالإنفاق عليه، فيصح حينئذ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل. المثال الرابع والستون: إذا اشترى جارية وقبضها، فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها، فأراد ردها. فصالحه البائع على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذى اشتراها به. فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن هذا الصلح فى معنى البيع، وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو كمسألة العينة، فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشترى جاز ذلك، لأن مقدار الحط يكون بإزاء العيب الذى حدث عند المشترى، فلا يؤدى إلى مسألة العينة. والحيلة فى جواز ذلك، فى الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة: أن يخرج الجارية من ملكه، فيبيعها لرجل بالثمن الذى يأخذها به البائع، فيصالح الذى فى يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذى وقع عليه العقد، ويجعل هذا الثمن الذى يأخذ به الجارية قضاء عن مشترى الجارية، لأن المشترى الثانى متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذى اشتريت به، فهو عقد جرى بينهما مبتدأ، من غير بناء أحد العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائع من هذا الثانى حصل ثمنها فى ذمته له، وله هو على المشترى الأول ثمنها، فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشترى الأول، فيتقاصان. المثال الخامس والستون: الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده، حيا كان المضمون عنه أو ميتا. وفيه رواية أخرى: أنه يبرئ ذمة الميت دون الحى، وهى مذهب أبى حنيفة. وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحى والميت، كالحوالة، وهو مذهب داود. فإذا أراد الضامن أن يكون مراجعه مبرئاً لذمة المضمون عنه، فالحيلة فى ذلك: أن يقول: لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له، ويصح تعليق الضمان بالشرط فى أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحت البراءة، ولزم الدين الضامن وحده. فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له فى ذمة الضامن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فالحيلة له: أن يكتب ضمانه ضماناً مطلقاً، ويشهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصيل، فيحصل مقصودهما. المثال السادس والستون: الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا فى صورة واحدة، وهى: أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلساً. وعند أبى حنيفة: إذا قرر المال على المحال عليه [بأن جحده حقه، إذ قرار المحال على المحال عليه] . فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلساً رجع على المحيل. وعند مالك: إن ظن ملاءته، فبان مفلساً، رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع. فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه، وأنه إن تقرر ماله على المحال عليه رجع على المحيل. فالحيلة له فى ذلك: أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء. فيقول للمحيل: أحلنى على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين، فيجيبه إلى ذلك. فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له فى استيفائه. فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال فى يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل فى قبضه. فالحيلة أن يقول له: ما قبضته فهو قرض فى ذمتك، فيثبت فى ذمته نظير ماله عليه، فيتقاصان. فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قبض محض، فهى وكالة، وحوالة استيفاء، وهى التى تنقل الحق، وحوالة إقراض. فالأولى لا تثبت المقبوض فى ذمة المحال، والثانية تجعل حقه فى ذمة المحال عليه، والثالثة تثبت المأخوذ فى ذمته بحكم الاقتراض. المثال السابع والستون: إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء. وعن مالك روايتان، إحداهما: كذلك. والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل. فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول: إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له. ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول، ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك. فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت لك ما يتقرر لك على فلان، أو يعجز عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا تقرر المال على الأصيل، أو عجز عنه. المثال الثامن والستون: إذا بذت عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمنى منك لا تقولين لى شيئاً إلا قلت لك مثله، فقالت: أنت طالق ثلاثاً، فقال بعضهم: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً بفتح التاء، ولا تطلق، لأن الخطاب لا يصلح لها، وهذا ضعيف جداً، لأن قوله: أنت طالق إما أن يعنيها به، أو يعنى غيرها، فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح لتاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنت أيها الشخص، أو الإنسان. ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون باراً فى يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يبر لزمه مثله فى الطلاق وإن قال: يبر، كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقاً لها. وأجود من هذا، أن يكون قوله على التراخى، ما لم يقيده بالفور، بلفظه أو نيته. وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن فعلت لما لا تقدر هى عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه، وفى هذا ضعف لا يخفى، لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهى زيادة فى اللفظ ونقصان فى المعنى، فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق، وصار كله كلاماً واحدا، وهى لم تعلق كلامها، وإنما نجزته. فالمماثلة تقتضى تنجيزا مثله. وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذى صدر منها فى يمينه، لأنه لم يرده قطعاً، ولا خطر بباله، فيمينه لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعرف، والعرف فى مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب، وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد، فى اعتبارهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 عرف الحالف ونيته وسبب يمينه، والله أعلم. المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها. ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة، والعلف عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون. وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا. لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظئر للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع فى استخلافه وحدوثه شيئاً بعد شئ ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصل بعلفه وخدمته، فهو كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر، فهذا من أصح القياس. وأيضاً فإنه يجوز أن يقفها، فينتفع الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو فى منفعة الموقوف مع بقاء عينه. وأيضاً فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها. وهى باقية على ملك المانح. فتجرى منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، فإذا كان اللبن يجرى مجرى المنفعة فى الوقف والعارية، جرى مجراها فى الإجارة. وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أرْضعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فسمى ما تأخذه المرضعة فى مقابلة اللبن أجرا، ولم يسمه ثمنا. وأيضاً فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها، والماء لم يحصل بعمله، فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى. وأيضاً: فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز، لأنه معلوم بالعرف. وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان. وقياس المنع على تحريم بيع اللبن فى الضرع قياس فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره، وما يتحصل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز. والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئاً بعد شئ، فاللبن فى ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا، فهذا القول هو الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد. فالحيلة فى لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدراهم مسماة، ثم يأذن له فى علفه بها، ويبيحه اللبن. وهذه الحيلة تتأتى فى إجارة البقرة، والناقة، والجاموس، إذ يمكن الحرث عليها وركوبها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها، فالطريق فى ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة، ويوكله فى النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها ويبيحه اللبن. المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة، فما زاد فلك. فنص أحمد على صحته، تبعاً لعبد الله بن عباس، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم. ووجه الخلاف. أن فى هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد، ومن رجح جانب الإجازة أو المضاربة أبطله، لأن الأجرة والربح الذى جعل له مجهول. والصحيح: الجواز لأن العشرة تجرى مجرى رأس المال فى المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كله له، كان بمنزلة الإبضاع، إذا دفع إليه مالاً يضارب به، وقال: ما ربحت فهو لك، فليس العقد من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه. فالحيلة فى ذلك: أن يقول: وكلتك فى بيعه بعشرة، فإن بعته بأكثر فلا حق لى فى الزيادة، فيصح هذا. وتكون الزيادة للوكيل. المثال الحادى والسبعون: قال الإمام أحمد، فى رواية مهنا: "لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه، وهو أحب إلى من المقاطعة" يعنى أن يقاطعه على كيل معين، أو دراهم أو عروض. وكذلك نص فى رواية الأثرم وغيره، فى رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين: "أن ذلك جائز". وقال أحمد أيضاً: "لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع"، لحديث جابر: "أَنَّ النَّبَّى صلّى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 تعالى عليه وآله وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشّطْرِ". ونقل عنه أبو داود فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: "أرجو أن لا يكون به بأس". وقال فى رواية إسحاق بن إبراهيم: "إذا كان على النصف والربع فهو جائز". ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه: "أنه جائز". ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز. ونص فى رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز. وقال فى "المغنى": وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها. وحكى عن ابن عقيل المنع منه. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطّحَّانِ". قال الشيخ: وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته. وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل. وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، والسمك بينهما نصفين. قال فى "المغنى": فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمك بينهما شركة. وقال ابن عقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها. ولو كان له على رجل مال، فقال لرجل: اقبضه منه، ولك ربعه، أو ثلثه، أو ما اقتضيته منه فلك منه الربع أو الثلث، فهو جائز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وكذلك لو غصبت منه عين، فقال لرجل: خلصها لى، ولك نصفها، جاز أيضاً. ولو غرق متاعه فى البحر، فقال لرجل: ما خلصته منه، فلك نصفه، أو ربعه، جاز. ولو أبق عبده، فقال لرجل، أو قال: من رده على فله فيه نصفه، أو ربعه، أو شردت دابته فقال ذلك، صح ذلك كله. قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لى هذا الزيتون بالسدس، أو الربع. أو اعصره بالثلث، أو الربع، أو اكسر هذا الحطب بالربع، أو اخبز هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك. فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله، وهو أحب من المقاطعة فى بعض الصور. ولم يجوز الشافعى وأبو حنيفة شيئاً من ذلك. وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعى ولك نصفه، فذلك جائز، وإن قال: احصد اليوم، فما حصدت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وفى العينية أنه يجوز. فإن قال: القط زيتونى فما لقطت فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سحنون أنه لا يجوز. ولو قال: انقض زيتونى، فما نقضت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب. فإن قال: اقبض لى المائة دينار التى على فلان، ولك عشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وهب. وعند أشهب لا يجوز. فلو قال: اقبض دينى الذى على فلان، ولك من كل عشرة واحد، ولم يبين قدر الدين، لم يجز عند ابن وهب. وأجازه ابن القاسم وأصبغ. والذين منعوا الجواز فى ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول، والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك. فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر. وقد دلت السنة على جواز ذلك، كما فى المسند والسنن عن رويفع بن ثابت، قال: "أنْ كانَ أَحَدُنَا فى زَمَنِ رَسُولِ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أنّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصفُ، وَإَنْ كانَ أَحَدُنَا لَيَطيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرَّيشُ وللآخَرِ القِدْح". وأصل هذا كله: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وأجمع المسلمون على جواز المضاربة. وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه. فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها. فهذا محض القياس، وموجب الأدلة. وليس مع المانعين حجة، سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول. وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة. واستثنى قوم بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره. وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤاجرة، لأنه فى الإجارة يحصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 على سلامة العوض قطعاً، والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر. وقاعدة العدل فى المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان فى الرجاء والخوف. وهذا حاصل فى المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك، فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما، وإن تلفت عليهما، وهذا من أحسن العدل. واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبى سعيد الذى رواه الدارقطنى: "نُهِى عَنْ قَفِيزَ الطّحَّانِ" وهذا الحديث لا يصح. وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع. وحمله بعض أصحابنا على أن المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها، لأن ماعداه مجهول، فهو كبيعها إلا قفيزا منها، فأما إذا كانت معلومة القفزان، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها، صح حبا ودقيقاً. أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة. وأما إذا كان دقيقاً شاركه فى ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى. فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعروض؟ قيل: بل أصح الروايتين صحتها، وإن قلنا بالرواية الأخرى، فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض، لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف فى رقبة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا. فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا، أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجاً يتضمن محذورين. أحدهما: أن يكون طحن قدر الأجرة ونسجه مستحقاً على العامل بحكم الإجارة، ومستحقاً له بحكم كونه أجرة، وذلك متناقض. فإن كونه مستحقاً عليه يقتضى مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقاً له يقتضى مطالبة المؤجر به. الثانى: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه، وذلك ممتنع. قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة، وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سلم أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 من باب المؤاجرة فلا تناقض فى ذلك، فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه مستحق له بغير الجهة التى يستحق بها عليه، فأى محذور فى ذلك؟ وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضاً، فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين، وهذا أمر متصور شرعاً وحساً. فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق. وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك، إلا إذا خيف غدر أحدهما، وإبطاله للعقد، والرجوع إلى أجرة المثل. فالحيلة فى التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب، أو نصفه. ويقول: انسج لى باقيه بهذا القدر، فيصيران شريكين فى الغزل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه. والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فهلا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار فى العقود إلا بمقاصدها وحقائقها [ومعانيها] ، دون صورها وألفاظها؟ وبالله التوفيق. المثال الثانى والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه، وله هو دين على آخر. فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذى له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارى عنه غريمه، فيتعذر عليه الحوالة والوكالة. فالحيلة له فى اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله، فيقول: وكلتك فى اقتضاء دينى الذى على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصاً مما لى عليه، وأجزت أمرك فى ذلك. فيقبل الوكيل، ويشهد عليه شهودا، ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود، أو غيرهم أن فلاناً وكلنى بقبض ماله على فلان، وأن أجعله قصاصاً بما لفلان على، وأجاز أمرى فى ذلك، وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك، واشهدوا أنى قد جعلت الألف درهم التى لفلان على قصاصاً بالألف التى لفلان موكلى عليه، فتصير الألف قصاصاً، ويتحول ما كان للرجل المتوارى على هذا الوكيل للرجل الذى وكله. المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذى عليه المال. وأراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكم عليه فى حال غيبته مع بقائه على حجته فى أصح المذهبين. وهو قول أحمد فى الصحيح عنه، ومالك، والشافعى. وعند أبى حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب. فإذا لم يكن فى الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه. فالحيلة له: أن يجئ برجل، فيضمن لهذا الرجل الذى له المال جميع ماله على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ويشهد على ذلك، ثم يقدمه إلى القاضى، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان، ولا أدرى كم له عليه. ولا أدرى: له عليه مال، أم لا؟ فإن القاضى يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضى بمحضر من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجب ضمانه، ويجعل القاضى هذا الضمين بالمال خصماً على الغائب، لأنه قد ضمن ما عليه. ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه. ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع. المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعاً له، ويقر له فى السر بعينه. ويجحده فى العلانية، ويريد تخليص ماله منه. فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به، ويشهد له على ذلك ببينة عادلة. ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب. ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقنوا بذلك عند الأداء، فإذا أشهد الغاصب بالبيع فى الوقت المعين جاء الذى باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له لسبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذى دفعه إليه فُيسلَّم العين للمغصوب منه. وكذلك لو أقربها المغصوب منه لرجل يثق به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق. فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 هذه السلعة، خشية هذا الصنيع، ولكن آمر من يبتاعها منك لى، فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته. فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به، ولا يكتب فى كتاب هذا الشراء الثانى قبض المشترى، فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجل الذى كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشترى لها أولا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذى دفعه إليه. المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالاً وأجله. لزم تأجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقول فى مذهب أحمد. والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعى، وأبى حنيفة، ويدل على التأجيل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَالاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3] وقوله {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] . وقوله صَلى اللهُ تعالى عَلَيه وسلم: "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ" وقوله: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ" وقوله: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لواء عِنْدَ اُسْتِهِ يَوْمَ القيامة بِقَدْرِ غُدْرَتِهِ" وقوله: "لا تَغْدِرُوا" وقوله: "إنّ الْغَدْر لا يصْلُحُ". وقوله فى صفة المنافق: "إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ". وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح، وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل. وعلى القول الأخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل. فالحيلة فيه: أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب، ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل. فإن الحوالة تنقل الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول، لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل، ولا على المحال عليه الثانى. المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين، وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه. فالقول قول المرتهن فى قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته هذا قول مالك: وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد: القول قول الراهن، وقول مالك هو الراجح. وهو اختيار شيخنا، لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق، والشهود التى تشهد به، وقائما مقامه. فلو لم يقبل قول المرتهن فى ذلك بطلت الوثيقة من الرهن، وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شئ، فلم يكن فى الرهن فائدة. والله سبحانه وتعالى قد قال فى آية المداينة [البقرة: 282] التى أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود، أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب. ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى، وأمر من عليه الحق أن يملل، ويتقى ربه فلا يبخس من الحق شيئاً. فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه، أو عدم استطاعته، فوليه مأمور بالإملاء عنه. فأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين. فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذى لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة. ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق، سآمة ومللا. وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقوم للشهادة. فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها. وفى ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه. وإلا لم يكن بالتعليل بقوله {وأقوم للشهادة} [البقرة: 282] فائدة. وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الريب. ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 إذا كان بيعاً حاضراً فيه التقايض من الجانبين، يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه. ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك. ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا، إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملاً وأداء، أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق، أو بكتم الشاهد بعض الشهادة، أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيراً يضر بصاحب الحق، أو يمطلاه، ونحو ذلك، أو هو نهى لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد، بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما. ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله. فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود. ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود، وهو السفر فى الغالب، فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهَانٌ مَقبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود، شاهدة مخبرة بالحق، كما يخبر به الكتاب والشهود. وهذا، والله أعلم، سر تقييد الرهن بالسفر، لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذى ينطق بالحق غالباً، فقام الرهن مقامه، وناب منابه، وأكد ذلك بكونه مقبوضاً للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده. فلا أحسن من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذى لو أخذ به الناس لم يضع فى الأكثر حق أحد، ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان. فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد فى معاشهم ومعادهم. والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن فى قدر الدين لم يكن وثيقة ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 حافظاً لدينه، ولا بدلا من الكتاب الشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه، ومن يجعل القول قول الراهن، فإنه يصدقه على ذلك ويقبل قوله فى رهن الربع والضيعة على هذا القدر. فالذى نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة. فإذا أراد الرجل حفظ حقه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب. فالحيلة فى قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويشهد الراهن أن الباقى من قيمته أمانة عنده، أو قرض فى ذمته يطالبه به متى شاء، فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه، ويأمن ظلم الآخر له، والله أعلم. المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وفى يده رهن بالألف، فطالب صاحب الدين الغريم بالألف، وقدمه إلى الحاكم، وقال: لى على هذا ألف درهم، وخاف أن يقول: وله عندى رهن بالألف وهو كذا وكذا. فيقول الغريم: ماله على هذه الألف التى يدعيها، ولا شئ منها، وهذا الذى ادعى أنه لى رهن فى يده هو لى، كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وديعة، أو عارية، فيأخذه منه ويبطل حقه. فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يدعى بالألف، فيسأل الحاكم المطلوب عن المال، فإما أن يقر به، وإما أن ينكره، فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بيع فى وفائه. وإن أنكره وقال: ليس له على شئ، ولى عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة. فليقل صاحب الحق للقاضى: سله عن هذا الذى يدعى على: على أى وجه هو عندى؟ أعارية، أم غصب أم وديعة، أم رهن؟ فإن ادعى أنه فى يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه، وكان صادقاً، وإن ادعى أنه فى يده على وجه الرهن، قال للقاضى: سله: على كم هو رهن؟ فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين، وطالب بحقه. وإن جحد بعضه حلف على نفى ما ادعاه، وكان صادقاً. المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها، أو أجره دارا ولم يتسلمها، أو زوِّجه ابنته ولم يسلِّمها إليه. ثم ادعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه، أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود، وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فالحيلة فى تخلصه: أن يقول فى الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إلى، أو نكاح امرأة لم تسلمها إلى، أو كانت المرأة هى التى ادَّعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمى إلى نفسك فيه، ولم تمكنينى من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به. وإن كان غير ذلك فلا أقر به. وهذا جواب صحيح يتخلص به. فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فله على ألف. قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط فى الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله على ألف، فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان على بما ادعاه صدقته، صح التعليق. فإذا شهد به عليه فلان كان مقراً به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما فى تعليق الطلاق والعتاق والخلع. وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه، وكان إقراراً ناجزاً. وهذا ضعيف جداً، فإن الكلام بآخره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة، فإن ذلك يغير الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص. والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة. وقد جاء تأخير الشرط فى القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار. كقوله تعالى، حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْناَ فِى مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] . وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له على ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح، وجها واحداً. وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له على ألف مؤجلة، صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلاً. وقيل: القول قول خصمه فى حلوله، وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لحلوله وهذا ظاهر البطلان، فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقاً، كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وكذلك لو قال: له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو أجرة عن دار لم أتسلمها، أو قال: هلك قبل التمكن من قبضه، على أصح الوجهين، لأنه إنما أقر به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقاً. وكذا لو قال: كان له على ألف فقصيته، لم يلزمه، لأنه إنما أقر به فى الماضى، لا فى الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض فى نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له على ألف لا تلزمنى. والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان. وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه، فلا يقبل منه إلا ببينة. وهذا قول الأئمة الثلاثة. وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب. وعلى هذا، فإذا قال: له على ألف قضيته إياه. ففيه ثلاث روايات منصوصات. إحداهن: أنه غير مقر، كما لو قال: كان له على. والثانية: أنه مقر مدع للقضاء، فلا يقبل منه إلا ببينة. والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينة. بل يكون مكذبا لها، وعلى هذا إذا قال: كان له على، ولم يزد على هذا فهو مقر. وخرج أنه غير مقر من نصه، على أنه إذا قال: كان له على وقضيته: أنه غير مقر، وهو تخريج فى غاية الصحة، فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته. فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضى، لا عن الحال، فلا يلزم بكونه فى ذمته فى الحال، وهو لم يقربه. والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلوماً، فالحيلة فى تخلصه، أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا، فأنا غير مقر به، وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به، كان جواباً صحيحاً، ولم يكن مقراً على الإطلاق. المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يجبر على تسليمه إلى المشترى، ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا فى المبتدئ بالتسليم، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وإن كان ديناً أجبر البائع على التسليم، ثم يجبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المشترى على دفع الثمن. فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه فى ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن كان غائباً عن البلد فوق مسافة القصر، ثبت للبائع الفسخ. وإن كان دونها، فهل يحجر عليه، أو يثبت للبائع الفسخ؟ على وجهين. وإن كان المشترى معسراً، فللبائع الفسخ والرجوع فى عين ماله. هذا منصوص أحمد، والشافعى. وللشافعية وجه: أنه تباع السلعة، ويقضى دينه من ثمنها. فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شئ استقر فى ذمته. والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو موجب العدل، وإلا ففى تمكين المشترى من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع، فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاماً أو شراباً فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه. وعلى هذا، لو دفع الثمن إلا درهما منه، فله حبس المبيع كله على باقى الثمن، كما نقول فى الرهن. وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن، لأن كل جزء من المبيع فى مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلم بعض الثمن ملك تسليم ما يقابله. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين. وإنما هو وثيقة، فملك حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين. والأول هو الصحيح، لأنه إنما رضى بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن، ولم يرض بإخراجه، ولا إخراج شئ منه ببعض الثمن. فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم، ثم يحال على تقاضى المشترى. فالحيلة له فى الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضمين فى عقد البيع، ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه فى أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى. فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى. وأيضاً. فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبى قبل القبض، فجوازه من البائع أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 لأن المشترى يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها مالا يملكه مع الأجنبى، ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبى. فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فتنافى الأمران، حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة. وهذا بخلاف رهنه من أجنبى قبل القبض. فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبى ومضمونا له من البائع، ولا تنافى بين أن يكون مضمونا له من شخص، ومضمونا عليه لغيره. كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر، صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثانى، ومضمونة له من المؤجر الأول. وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشترى بيعها، وهى مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشترى الثانى. فإن قيل: هذا هو الفرق الذى بنى عليه هذا القول، ولكن يقال: أى محذور فى ذلك، وأن يكون مضمونا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك، فإنه مضمون له من جهة كونه مشترياً، فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه، ومضموناً عليه من جهة كونه راهنا، فإذا تلف تلف من ضمانه، حتى لو اتحدت الجهة لم يكن فى ذلك محذور بحيث يكون مضموناً له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأى محذرو فى ذلك؟ فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمن ضمان من يكون؟ فالبائع يقول للمشترى: يتلف من ضمانك، لأنه رهن. والمشترى يقول: يتلف من ضمانك، لأنه مبيع لم يقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر. قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع، لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن، لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه، فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه، كما لو حبس من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم، فإنه إنما احتاط لنفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 بعقد الرهن، والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن فى مقابلته، فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذى أخذه فى مقابلة الرهن. فإن أراد الحيلة فى تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرضه للبطلان. فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، تم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشترى، ولا يسقط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشترى، أو يؤخر فكاك الرهن، كتب كتاباً وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له فى بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقى منه فهو أمانة فى يده. فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط. كتب فى الكتاب: أنه قد وكله الآن، ويعلق تصرفه فيه بالبيع بمجيء الوقت فيعلق التصرف، وينجز التوكيل. فإن خاف أن يعز له الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه. فالحيلة له: أن يوكل وكالة دورية، عند من يرى ذلك، فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته، وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنى متى عزلته فلا حق لى عنده ولا دعوى، وما ادّعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواى باطلة، والله أعلم. المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينفق عليها، ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة، والحس والعرف يكذبها، لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه برد الجواب، فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة. وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدَّعى دَعْوًى كَاذِبَةًَ لِيَتَكثَّرِ بهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلا قِلةً". وفى الصحيح أيضاً عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". فلا يجوز لأحد. حاكم ولا غيره، أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففى سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة. ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هى التى كانت تنفق على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلها، مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها؟ ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذى كان ينفق عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك. فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك؟ وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل، والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد؟. ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشترى لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدى هو لخدمتها، وشراء حوائجها، فيكون هو العانى الأسير المملوك، وهى المالكة الحاكمة عليه. وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة، والمعاشرة بالمعروف. فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة، وأبعدها من المعروف. ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل، وتشرب، وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك!!. فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكن الزوج أحداً يدخل عليها، وهى فى منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: من الذى كان يقوم لك بذلك؟ فمتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك. ومتى تركه كان تاركاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 للحق؟ فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذى كنت أطعم نفسى وأكسوها فى هذه المدة، كان كذبها معلوماً، ولم يقبل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهى تدعى أنها هى التى قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها، وهو ويدعى أنه هو الذى فعل هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل. أما الظاهر: فلا يمكن عاقلاً أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهوراً قريبا من القطع بل يقطع به فى حق أكثر الناس. وأما الأصل: فهو أيضاً من جانب الزوج. فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها، وهى تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبى، وهو يدعى أنه هو الذى قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهى تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك. وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة. وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة، فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل. ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين. فيقول: وصل إلى الدين الذى لى، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أداه عنك. فهل يقبل قوله هاهنا أحد؟ ويقال: الأصل بقاء الدين فى ذمته؟. وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء، فإنها مقرة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكذبها الحس، ومدعية أن وصول ذلك إلى لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعاً. ولهذا لا يقبلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحق الذى ندين الله به، ولا نعتقد سواه. وأى قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهى لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة، فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التى ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه. فيؤخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ذلك كله منه، ويحبس على الباقى، ويجعل دينا مستقراً فى ذمته، تطالبه به متى شاءت. وهى تعلم كذب دعواها، ووليها يعلم ذلك، وجيرانها والله وملائكته، والذى يساعدها ويخاصم عنها. ولما علم فقهاء العراق، كأبى حنيفة وأصحابه، ما فى ذلك من الشر والفساد، والضرر الذى لا تأتى به شريعة. أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضى الزمان. فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك. كما يقوله منازعوهم فى نفقة القريب، فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشموهم رائحة الحياة، ونفسوا عنهم بعض الكرب. ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشراً بالمدينة، فما ألزم زوجاً قط بنفقة وكسوة ماضية، ولا ادعتها عنده امرأة. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك. ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتهن، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن فى الأسواق والطرقات. والأزواج فى الحبوس، وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن. فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره. وبالجملة فالدعوى، إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها. ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزاً لدار، متصرفا فيها مدة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف فى الدار قرابة، ولا شركة فى ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم فى إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريّاً عن ذلك كله، ثم جاء بعد طول هذه المدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بذلك بينة. فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينة، وتقر الدار بيد حائزها. قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة، غير مسموعة قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] . وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف فى الدعاوى وغيرها. قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين، أو شاهد ويمين، أو مجرد النكول، أو الرد. وأيضاً، فإن البينة على المدعى، والبينة هى كل ما يبين الحق، والعرف والعادة والظاهر القوى الذى إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع، يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة فى إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحد، ولا هى ممن تخرج تشترى لها ما تأكل وتلبس. فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذى عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها، واجتياح ماله كله، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينا ذا متربة، وجعله أسيراً لها، ينافى ما ادعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون، بل وغير المسلمين، قبيحاً. وأيضاً: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه فى ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه، كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] . قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذى خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك فى كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم، كما جعل ولى الطفل قواماً عليه والقوام على غيره أمين عليه. ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 البلوغ فى عدم إيصال النفقة إليهما، فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء، ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواماً على المرأة. فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج، كانت هى القوامة. وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية، حتى فى مالها، فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف فى ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سوى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانية عند الزوج، والعانى: هو الأسير، وهو نوع من الرق، فقال فى المرأة: "تُطْعِمُهَا مِمَّا تَأْكُلُ، وَتَكْسُوهَا مِمَّا تَلبَسُ". وكذلك قال فى الرقيق سواء، فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه، وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاماً وإداما، ولا دراهم أصلا، وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة، ولا إجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم، لا أصل له من كتاب، ولا سنة، ولا قول صحابى ولا تابعى، ولا أحد من الأئمة الأربعة. فإن الناس لهم قولان، منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعى، ومنهم من يردها إلى العرف، وهم الجمهور، ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة. ثم أن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب، أو الواجب بالعرف، ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله. فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشترى لها طعاماً وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان، وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها. وبالجملة: فمبنى الحكم فى الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة. أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهراً فهو بينة، وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص، وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق. فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه، حيث لا بينة ولا إقرار، ولا نكول، ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية. فإذا كان فى جانب المدعى بينة شرعية قدم، لقوة الظن فى جانبه بالبينة. وكذلك إذا كان فى جانبه قرينة ظاهرةٌ، كاللوث قدم جانبه. ولذلك قدم جانبه فى اللعان، إذا نكلت المرأة، فإنها ترجم بأيمانه. لقوة الظن فى جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التى تزف إلى الزوج ليلة العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هى امرأته التى وقع عليها العقد، اكتفاء بالظن الغالب، بالقطع المستفاد من شاهد الحال. وكذلك يجوز الأكل من الهدْى المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحد عنده، اكتفاء بشاهدِ الحال. وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبى ويخرجه من البيت: من كِسرةٍ ونحوها، اعتماداً على شاهدِ الحال. وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال فى بيع المحقَّرات بالمعاطاة. وهو عمل الأمة قديماً وحديثا. واكتفى الشارع بسكوت البكر فى الاستئذان، وجعله دليلاً على رضاها، اكتفاء بشاهد الحال. واكتفت الأمة فى الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل، لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهراً. واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله، اعتماداً على شاهد الحال والظن الغالب. واكتفى الشارعُ بقول الخارص. الواحد فى محل الظن، والخرْصِ، نظراً إلى الظن المستفاد من خرصه. واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل، اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم. وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين فى جزاء الصيد. واكتفى بواحد فى الخرْص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 واكتفى بواحد فى رؤية هلال رمضان. واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين. واكتفت بقول المؤذن الواحد. وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير، وميل طبعه إلى من ادعاه، من رجلين أو أكثر، اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان فى آخر رتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف. وكذلك الاعتماد فى وجوب دفع اللقطة، أو جوازه، على الظن المستفاد من وصف الواصف لها. وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة. والقبلة، والاعتماد على قول الكيال والوزان. وقال كثير من الفقهاء: يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين، إلا أن يعدلا، إذ الغالب من المستورين العدالة. فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم يمثل هذا الظن. وقالوا: تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره، اعتماداً على ظن الرشد والاختيار. وقالوا: إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعى، أو بين ملكه وبين موات، اختص به المدعى، لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما. وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالاً بدواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه، إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال. والثانية: التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه فى ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر فى الملك الأخر اشتراكاً فيه: لتساويهما فى الدلالتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وقالوا: إن الأبواب المشرعة فى الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك فى الدرب إلى حد كل باب منها، فيكون الأول شريكاً من أول الدرب إلى بابه، والثانى شريكاً إلى بابه، والذى فى آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولاً واحداً، وإلى آخر الدرب على الصحيح، وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق، وأنه بحق. وقالوا: إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتماداً على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات، والجداول الجارية فى ملك الغير، دالة على اختصاصها بأرباب المياه، بناء على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق. ومن ذلك: دلالة الأيدى على الاستحقاق، اعتمادا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وضع الأيدى عدوانا وظلماً، ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه، إلى يد مستأجره، كالأراضى والدواب، والحوانيت، والرباع، والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتم اليد، وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن جوابه مشكل جداً، ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها. ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها. ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة فى الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة. قالوا: لأن وازع المقر طبعى، ووازع الشهود شرعى، والوازع الطبعى أقوى من الوازع الشرعى، ولذلك يقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر: لقيام الوازع الطبعى. ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه، لكونه فرعه. ولما كان الوازع الشرعى عاماً بالنسبة إلى جميع الناس، كان حجة عامة: فإن خوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الله يزع الشاهد عن الكذب فى حق كل أحد. فكان قوله حجة عامة لكل أحد. ولما كان وازع الكذب مختصاً بالمقر قصر عليه، فهو خاص قوى، والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدى وإلى ما ذكرناه من الدلالات. ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحاب واطراد العادة، أو كثرة وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال. ولا يقع فى الظنون تعارض، وإنما يقع فى أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسباب الظنون، فإن حصل الشك لم يحكم بشئ، وإن وجد الظن فى أحد الطرفين، حكم به، والحكم للراجح. لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه. فإذا تعارض سببا ظن- وكان كل واحد منهما مكذباً للآخر- تساقطاً: كتعارض البينتين والأمارتين، وإن لم يكن كل واحد منهما مكذباً للآخر عمل بهما، على حسب الإمكان، كدابة عليها راكبان، وعبد ممسك بيديه اثنان، ودار فيها ساكنان، وخشبة لها حاملان، وجدار متصل بملكين، ونظائر هذا. فإن كان أحدهما أرجح من الآخر، عمل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية، ومع اليد، يقدم عليهما، لرجحانه. ولما كانت اليد لها مراتب فى القوة والضعف. كانت يد اللابس لثيابه، وعمامته، وخفه، ومنطقته، ونعله: أقوى من يد الجالس على البساط، والراكب على الدابة، ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدى، ويد من هو داخل الحمام والخان، أضعف من هذا كله- قدم أقوى الأيدى على أضعفها. فلو كان فى الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذى عليهما، جعلت الدار بينهما، لاستوائهما فى اليد. وكان القول قول كل منهما فى لباسه المختص به، لقوة يده بالقرب والاتصال. ولو تنازع الراكب والسائق والقائد، قدمت يد الراكب. وكذلك قال الجمهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ولو تنازع الزوجان فى متاع البيت، أو الصانعان فى حانوت، كان القول قول من يدعى منهما ما يصلح له وحده، لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به. وكذلك لو رأينا رجلا شريفاً حاسر الرأس، وأمامه داعر على رأسه عمامة، وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب. فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه. وكذلك فقيه له كتب فى داره. وامرأته غير معروفة بشئ من ذلك البتة. فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه فى غاية البعد. وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟. ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التى هى أقوى منها بمراتب كثيرة. بل تكاد تقرب من القطع. كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين، ويبيح شتمهما وضربهما. وهل تقديم قول المدعى فى القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث؟ وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصلية لقوته. وقد حكى الله سبحانه فى كتابه عن الشاهد الذى شهد من أهل امرأة العزيز. وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام. وكذب المرأة بقوله: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28] . وسمى الله سبحانه ذلك أية، وهى أبلغ من البينة، فقال: {ثُمَّ بِدِا لهَمُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ليسجُنَنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] . وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به. ومن هذا: حكم نبى الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذى تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقصتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائتونى بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبى الله، هو ابنها. فقضى به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 للصغرى، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحاً منها إلى راحة التسلى والتأسى بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطب نفس الصغرى بذلك، بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحاً إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيا، وإن اتصل إلى الأخرى. وتأمل حكم سليمان به للصغرى، وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه، وبطلانه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم به على المقر، وكان وجوده كعدمه. وهذا هو الحق الذى لا يجوز الحكم بغيره. وكذلك إذا غلط المقر، أو أخطأ أو نسى، أو أقر بما لا يعرف مضمونه. لم يؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقر مكرها. والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين، لكون الحلف لم يقصد موجبها. وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئ والناسى والجاهل والمكره، لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به. والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعى عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها، أو مدة مقامها عنده، إذا تبين كذب المرأة فى دعواها، لم يجز للحاكم سماعها فضلاً عن مطالبته برد الجواب. فله طرق فى التخلص من هذه الدعوى. أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف، ومشاهدة الجيران؟. الثانى: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها، ويكسوها فى هذه المدة؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فإن ادعت أن غيره كان يؤدى ذلك عنه، لم تسمع دعواها، وكانت الدعوى لذلك الغير. ولا يقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه. وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه. وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسى. قال الزوج: سلها: هل كانت هى التى كانت تدخل وتخرج تشترى الطعام والإدام؟ فإن قالت: نعم، ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار. وإن قالت: كنت أوكل غيرى فى ذلك، ألزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها. وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان. فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، فليعدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصل، فتحتاج هى إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق. وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك. فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره، جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه فى منزله. فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها فى مدة النشوز. وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مكنته فالقول قوله، لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله. فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار. ومتى أحس بالشر والمكر احتال، بأن يخبئ شاهدى عدل، بحيث يسمعان كلامها، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالا، أو ترضى به، ويتلطف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه فى حل حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتى بغتة، ونحو ذلك من الكلام. وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة، وأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى. ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك، ويكتمه منها. فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكى، أو حنفى بادر إلى ذلك. وبالجملة فالحازم من يستعد لحيلهن، ويعد لها حيلا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا فى تعليمه، فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدى. والله الموفق للصواب. وإنما أطلنا الكلام فى هذا المثال، لشدة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها، وجعل القول قولها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهى تحتمل أكثر من ذلك. فصل والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها، مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهله للأمة عن الدخول فى الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع، والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، بما هو أنفع لنا منه من الحق، والمباح النافع. فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام. وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار. وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع، والتسرَّى بما شئنا من الإماء، عن الزنا والفواحش. وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن، عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين. وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة: من الكتان، والقطن، والصوف، عن الملابس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 المحرمة من الحرير والذهب. وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن. وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام، طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التى هى توحيد وتفويض واستعانة وتوكل. وأغنانا عن طلب التنافس فى الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس فى الآخرة، وما أعد لنا فيها، وأباح الحسد فى ذلك. وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها. وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته، وهما القرآن والإيمان، عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع، والعقار، والأثمان، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفخر والخيلاء لهم، عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم، فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن رآه يتبختر بين الصفين: "إِنّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ إِلا فى مِثْلِ هذَا المَوْطِنِ". وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التى تأثيرها فى الغضب على أعدائه ونصرة دينه، عن الفروسية الشيطانية التى يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف، عن الخلوة البدعية التى يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال. فلا تشتد حاجة الأمة إلى شئ إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يقتضى إباحته وتوسعته، بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه، ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التى أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة، التى باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية، التى الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل. ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التى تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه. وندب إليها، لما فيها من التوسعة، والفرج للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنّةِ إلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إلا هَالِكٌ". فهلا ندب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها، كما حض على إصلاح ذات البين؟ بل لم يزل يحذر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل. ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التى رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها. ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة فى غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية. فهذا مما تصان عنه الشرائع، فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها، بل تقوى وتشتد مفاسدها. فصل إذا عرف هذا. فالطرق التى تتضمن نفع المسلمين، والذب عن الدين، ونصر المظلومين، وإغاثة الملهوفين، ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق، من أنفع الطرق، وأجلها علماً وعملاً وتعليما. فيجوز للرجل أن يظهر قولاً أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل، من حيلة محرمة، أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله. فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة، أو واجبة. وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له، فيصير مخادعاً له، فهذا مخادع لله ورسوله، وذلك مخادع للكفار والفجار، والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال. فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، فأين من قصده إظهار دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك؟. إذا عرف هذا، فنقول: الحيل أقسام: أحدها: الطرق الخفية التى يتوصل بها إلى ما هو محرم فى نفسه، فمتى كان المقصود بها محرماً فى نفسه، فهى حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم. وذلك كالتحيل على هلاك النفوس. وأخذ الأموال المعصومة، وفساد ذات البين، وحيل الشياطين على إغواء بنى آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل فى الخصومات الدينية والدنيوية. فكل ما هو محرم فى نفسه، فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما، وأكبر عقوبة، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس. ومن هذا: رأى مالك ومن وافقه: أن القاتل غيلة يقتل، وإن قتل من لا يكافئه، لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه. ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير: قطع يد الزُّغلى، لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحرز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقوله قوى جداً. ومن هذا رأى الأمام أحمد قطع يد جاحد العارية، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذى ائتمنه. والعمدة فى ذلك على السنة الصحيحة التى لا معارض لها. والقصد: أن التوصل إلى الحرام حرام، سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر. وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين: أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص، والظلمة والخونة. والثانى: ما لا يظهر ذلك فيه، بل يظهر المحتال أن قصده الخير، ومقصوده الظلم والبغى، مثل إقرار المريض لوارث لا شئ له عنده، قصداً لتخصيصه بالمقرَّ به، أو إقراره بوارث، وهو غير وارث، إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة، وتعليمه لمن يفعله حرام، والشهادة عليه حرام، إذا علم الشاهد صورة الحال. والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين. إذا علم صورة الحال، فهذه الحيلة فى نفسها محرمة، لأنها كذب وزور، والمقصود بها محرم، لكونه ظلما وعدواناً. ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء فى إقرار المريض لوارث، هل هو باطل، سدا للذريعة، وردا للإقرار الذى صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه، لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم، فيرد للتهمة، كالشهادة على غيره، أو هو مقبول، إحسانا للظن بالمقر، ولا سيما عند الخاتمة؟. ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج، مع إمساكه بالمعروف، بإنكارها الإذن للولى، أو إساءة عشرة الزوج، ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 واحتيال البائع على فسخ البيع، بدعواه أنه كان محجوراً عليه. واحتيال المشترى على الفسخ بأنه لم ير المبيع. واحتيال المؤجر على المستأجر فى فسخ الإجارة. أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره. واحتيال الراهن على المرتهن فى فسخ الرهن، بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن، أو كان رهنه عند زوجته، أو أمته، ونحو ذلك. فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم، وهو من أقبح المحرمات، وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام، وأنه فى نفسه معصية، لتضمنه الكذب والزور. ومن جهة تضمنه إبطال الحق، وإثبات الباطل. القسم الثالث: ما هو مباح فى نفسه، لكن بقصد المحرم صار حراماً، كالسفر لقطع الطريق، ونحو ذلك، فهاهنا المقصود حرام، والوسيلة فى نفسها غير محرمة، لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما. القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل، لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة. مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه، ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه. فهذا محرم أيضاً، وهو عند الله تعالى عظيم، لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وشهادة الزور من الكبائر. وقد حملهما على ذلك. وكذلك لو كان له عند رجل دين فيجحده إياه. وله عنده وديعة فجحد الوديعة، وحلف أنه لم يودعه، أو كان له على رجل دين لا بينة له به. ودين آخر به بينه، لكنه اقتضاه منه، فيدعى هذا الدين. ويقيم به بينة. وينكر الاستيفاء. أو يكون قد اشترى منه شيئاً، فظهر به عيب تلف المبيع به، فادعى عليه بثمنه، فأنكر أصل العقد. وأنه لم يشتر منه شيئاً، أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة. فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا، فجحد نكاحها بالكلية. فهذا حرام أيضاً لأنه كذب. ولاسيما إن حلف عليه. ولكن لو تأول فى يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة ربا، فقبض رأس ماله، ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة، هل يسوغُ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها؟. قيل: يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها، وأن دعواها دعوى باطلة، فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل فى اليمين، لأنه مظلوم، ولا يسوغُ له الإنكارُ والحلف من غير تأويل، لأنه كذب صريح. فليس له أن يقابل الفجور بمثله، كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه، أو يقذف من قذفه، أو يَفجُر بزوجةِ من فَجَر بزوجته، أو بابنة من فَجر بابْنته. فإن قيل: فما تقولون فى مسألة الظفر؟ هل هى من هذا الباب، أو من القصاص المباح؟. قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال: أحدها: أنها من هذا الباب، وأنه ليس له أن يخون من خانه. ولا يجحد من جحده. ولا يغصب من غصبه. وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك. والثانى: يجوز له أن يَسْتَوْفى قدر حقه، إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه. وفى غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفى ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشافعى. والثالث: يجوز له أن يستوفى قدر حقه، إذا ظفر بجنس ماله. وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبى حنيفة. والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذا إحدى الروايتين عن مالك. والخامس: أنه إن كان سبب الحق ظاهراً، كالنكاح، والقرابة، وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهند. "أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبى سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِى بَنِيهَا". وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يُضيَفِّوه أن يُعْقِبَهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 فى مالهم بمثل قِراه كما فى الصحيحين عن عُقْبة بن عامر قال: "قُلْتُ لِلنَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم: إنّكَ تَبْعَثَنُا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لا يُقْرُونَا فمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمِرُوا لَكُمْ بَما يَنْبَغِى لِضيَّفِ فَاقْبَلْوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيُفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُمْ". وفى المسند من حديث المقْدام أبى كريمة أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يُقْرُوهُ فله أَنْ يُعْقِبَهُمْ بمِثْلِ قِرَاهُ". وفى المسند لأحمد أيضاً من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فأَصْبَحَ الضّيْفُ مَحْرُوماً، فَلهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِ". وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهراً، لم يكن له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان فى الباطن آخذا حقه. كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التى تُسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم. وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى أبو داود فى سننه من حديث يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقه أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذى ذهبوا به منك، قال: لا حَدّثَنى أَبى أَنّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ يَقُولُ: " أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ اُئْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وهذا، وإن كان فى حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر، وهو حديث طلْق بن غنام: أخبرنا شريك وقيس عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" وقيس هو ابن الربيع، وشريك ثقة، وقد قوى حديثه بمتابعة قيس له، وإن كان فيه ضعف. وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبى التياح عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نحوه، وأيوب بن سويد - وإن كان فيه ضعف - فحديثه يصلح للاستشهاد به. وله شاهد آخر، وإن كان فيه ضعف، فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه. رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبى حفص الدمشقى عن مكحول: أن رجلا قال لأبى أمامة الباهلى: "الرَّجُلُ أَسْتَوْدِعُهُ الوَدِيعَةَ، أَوْ يَكُونُ لِى عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجْحَدُنِى، ثُمَّ يَسْتَوْدِعُنِى أو يَكُونَ لَهُ عِنْدِى الشيء، أَفأَجْحَدُهُ؟ فَقَالَ: لا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يقُولُ: أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وله شاهد آخر مرسل. قال يحيى بن أيوب: عن ابن جريج عن الحسن عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ". وله شاهد. آخر. وهو ما رواه الترمذى من حديث مالك بن نضله قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الرَّجُلُ أَمُرُّ بهِ فَلا يُقْرِينِى، وَلا يُضَيِّفُنِى. فَيَمُرُّ بى، أفأَجْزيهِ؟ قَالَ: لا، أَقْرِهِ". قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح. وله شاهد آخر. وهو ما رواه أبو داود من حديث بِشر بن الخصاصية، قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أهْلَ الصّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لا". وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضاً: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا جِيرَاناً لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذّةً، وَلا فَاذّةً إلا أَخَذُوهَا فإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَئ أَنأْخُذُهُ؟ فَقَالَ: أَدِّ الأمَانَة إلى مَنِ ائْتَمَنكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك". ذكره شيخنا فى كتاب إبطال التحليل. فهذه الآثار، مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها، يشد بعضها بعضاً، ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ فى الموضعين اللذين أباح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيهما الأخذ لظهور سبب الحق، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسر الشكوى فى ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به والذين جوزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة، لم يكن ذلك خيانة، فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه، وهذا ضعيف جداً، فإنه يبطل فائدة الحديث. فإنه قال: "ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ" فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص، بعد صحته. فإن قيل: فهلا جعلتموه مستوفياً لحقه بنفسه، إذ عجز عن استيفائه بالحاكم، كالمغصوب ماله. إذا رآه فى يد الغاصب، وقدر على أخذه منه قهراً؟ فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله، وهو يشاهده فى يد الظالم المعتدى؟ ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه؟. وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها، وعقد عليها ظاهراً، بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه، خشية التهمة؟ وهذا لا تقولونه أنتم، ولا أحد من أهل العلم. ولهذا قال الشافعى، وقد ذكر حديث هِنْدٍ: وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سراً، فقد دل أن ذلك ليس بخيانة. إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فالجواب: أنا نقول، يجوز له أن يستوفى قدر حقه، لكن بطريق مباح، فأما بخيانة وطريق محرمة فلا. وقولكم: ليس ذلك بخيانة قلنا: بل هو خيانة حقيقة، ولغة، وشرعاً، وقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيانة، وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة، لا خيانة ابتداء، فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له، فإن تساوت الخيانتان قدراً وصفة فقد يتساقط إثمهما، والمطالبة فى الآخرة، أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقى لأحدهما فضل رجع به، فهذا فى أحكام الثواب والعقاب. وأما فى أحكام الدنيا فليس كذلك، لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر، وأما السرائر فإلى الله، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وأله وسلم: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَّى، وَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَقْضِى بِنَحْوِ مِا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَمنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيء مِنْ حَقَّ أَخِيهِ فَلا يأّخُذْهُ، فَإِنَما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". فأخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه يحكم بينهم بالظاهر، وأعلم المبطل فى نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به، وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار، فإذا كان الحق مع هذا الخصم فى الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به، ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى، فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه، ويستوفى لنفسه بطريق محرمة باطلة، لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقاً فى نفس الأمر؟. وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم، فخلصها منه قهراً، فإنه قد تعين حقه فى هذا العين، بخلاف صاحب الدين، فإن حقه لم يتعين فى تلك العين التى يريد أن يستوفى منها، ولأنه لا يتكتم بذلك، ولا يستخفى به، كما يفعل الخائن، بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه، ويستعين عليه بالناس، فلا ينسب إلى خيانة، والأول متكتم مستخف، متصور بصورة خائن وسارق. فإلحاق أحدهما بالآخر باطل، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فصل القسم الخامس من الحيل. أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتى بسبب نصبه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه. فهذه هى الحيل المحرمة التى ذمها السلف، وحرموا فعلها وتعليمها. وهذا حرام من جهتين: من جهة غايته، ومن جهة سببه. أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه. وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هزواً، وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، ولا قصده به الشارع، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع فى الغاية والحكمة والسبب جميعا. وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالاً من كثير من أصحاب هذا القسم، فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام، وإثم، ومعصية، ونحن أصحاب تحيل بالباطل، عصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه. وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذى جاءت به الشريعة، وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه، وإسقاط ما أوجبه، فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟. ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها، فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التى شرعت لها، بل لا غرض له فى مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهى عنه صرفاً، فأخرجه فى قالب الشرع. كما أخرجت الجهمية التعطيل فى قالب التنزيه. وأخرج المنافقون النفاق فى قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان فى قالب السياسة وعقوبة الجناة. وأخرج المكاسون أكل المكوس فى قالب إعانة المجاهدين، وسد الثغور، وعمارة الحصون. وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح فى سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأوليائه وأنصاره، فى قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم. وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم فى قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك. وأخرجت الاتحادية أعظم الكفر والإلحاد فى قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق، ومخلوق ولا رب وعبد، بل الوجود كله واحد، وهو حقيقة الرب. وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات: أفعالها، وأعيانها، فى قالب العدل، وقالوا: لو كان الرب قادراً على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقدر فى قالب العدل. وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه فى قالب التوحيد، وقالوا: لو كان له سبحانه سمع وبصر، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به لم يكن واحداً وكان آلهة متعددة. وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان فى قالب الرجاء وحسن الظن بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنب المعاصى والشهوات إزراء بعفو الله تعالى، وإساءة للظن به، ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو. وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف فى قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم فى قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وأخرج المشركون شركهم فى قالب التعظيم لله، وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء، وآلهة تقربهم إليه. فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه فى قالب حق. والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل فى القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها. فصل وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع: أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام فى الحال. كالحيل الربوية، وحيلة التحليل. الثانى: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولا بد، كما إذا علق طلاقها بشرط محقق، تعليقاً يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة، حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك. الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب فى الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده، فيصير معسراً، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له سوى الفطر، ونحو ذلك. الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب. فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضى الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك. وهذا النوع ضربان: أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه. والثانى: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه. أو انعقاد سببه. كالاحتيال على إسقاط الشفعة التى شرعت دفعاً للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده. الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم. وله صور كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 منها: أن يجحده دينه، كما جحده. ومنها: أن يخونه فى وديعته، كما خانه. ومنها: أن يغشه فى بيع معيب، كما غشه هو فى بيع معيب. ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله. ومنها: أن يستعمله بأجره دون أجرة مثله ظلما وعدواناً، أو غروراً وخداعاً. أو غبنا، فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته. وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان، ونظار الوقوف، والعمال، وجباة الفيء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم. فإن كان المال مشتركاً بين المسلمين رتعوا وربعوا، ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شئ منه. ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال. ويسعى فى السدس، تكملة للثلثين كما قيل فى بعضهم: لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ ... وَفى سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا مِنَ القَوْمِ لا تُثْنِيهُمُ عَنْ مُرَادِهِمْ ... عُقُوَبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا فصل وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التى تخلص من الظلم والبغى والعدوان، والحيل التى يحتال بها على إباحة الحرام، وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة. وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه، وهو المقصود الذى اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه، ومن شاهدهما يعلمه. وكذلك تمليك ماله لولده عند قرب الحول، فراراً من الزكاة، لا يخلص من الإثم، بل يغمسه فيه، لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه، ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب، وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوب، وليس له أن يمنع الواجب. وهكذا القول فى التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع، فإنه يمنع وجوب الاستحقاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ولا يمنع الحق الذى وجب بالبيع فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها. وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن فى مكان لا يبلغه النداء أولا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع فى يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه. وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب ما لا يجب فيه الإنفاق. ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك. فهذا سر الفرق اعتمده أصحاب الحيل. وأما المانعون فيجيبون عن ذلك: بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا، لئلا يحضرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب. فإن الله سبحانه إنما أوجبها فى أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة، ورحمة للمساكين، وسدا لفاقتهم. فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال. وبأن الشارع لوجوّز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه، لم يكن فى الإيجاب فائدة، إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده. وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف، فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق، ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقى من الحول يوم، أو ساعة، فالإسقاط هاهنا فى حكم الإسقاط بعد الحول سواء، ومفسدته كمفسدته، فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذى قد صح ووجد. وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعاً موقعه، ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضى الحول. وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذى يجب فيه الزكاة، فرارا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشْقص فراراً من أخذ الشفيع له أوترك التزوج فرار أمن وجوب الإنفاق ونحو ذلك، فإن هذا لم ينعقد فى حقه السبب. بل ترك ما يفضى إلى الإيجاب، ولم يتسبب إليه، وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب. واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها. وأيضاً، فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله، وإسقاط للسببيه بالتحيل، وليس ذلك للمكلف، فإن الله سبحانه هو الذى جعل هذا سببا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهراً وباطنا، أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب. وأيضاً، فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب. ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعاً. وأيضاً فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه، فإن الفارّ من الشيء فار من أسبابه، وهذا أحرص شئ على الملك الذى هو سبب وجوب الحق عليه، ومن حرصه عليه: تحيلَ على ترك الإخراج حرصاً وشحاً. فهو فار من أداء الواجب، ظاناً أنه يفر من وجوبه عليه. والأول حاصل له دون الثانى. ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود، فإن المحتال على المحرمات، وإسقاط الواجبات، مقصوده فاسد، ووسيلته باطلة. فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرم. فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة، والمصاهرة والنسل، وغض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 البصر، وحفظ الفرج، والتمتع والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النكاح، والمحلل لم يتوسل به إلى شئ من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى، فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له، فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له، ولم يتوسل به إلى ما شرع له. فكان القصد محرماً، والوسيلة باطلة. وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشترى بالعين والبائع بالثمن، فتوسل به المرابى إلى محض الربا، وأتى به لغير مقصوده. فإنه لا غرض له فى تملك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوسل إليه بالبيع. وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعاً للضرر عن الشريك. فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذى لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلته باطلة، ومقصوده محرماً. وكذلك الزكاة. فرضها رحمة منه بالمساكين، وطهرة للأغنياء، فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له، من بيع، أو هبة. وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرضه. فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة. وكذلك بيع الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل، لما يفضى إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما. فاشتراط قطعه خداع محض. وكذلك سائر الحيل التى تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال، غاياتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها. وكذلك الفدية والخلع التى شرعها الله ليخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث فى اليمين، وبقاء النكاح. والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح. حيث يكون قطعه مصلحة لهما. وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التى يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله وإقامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 دينه، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل. والحيل التى يتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التى جعلت موصلة إليها شئ، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التى جعلت لغيرها شئ آخر. فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه. فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هى الطرق التى لا خداع فى وسائلها، ولا تحريم فى مقاصدها، وبالله التوفيق. فصل [الرد على أقوال من يجيز الحيل] وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر، أو ليقتلن هذا الرجل، أو نحو ذلك - كان فى الحيلة تخليصه من هذه المفسدة. ومن مفسدة وقوع الطلاق. فيقال: نعم والله، قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التى هى خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها. الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال، ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف، كقوله "الطلاق يلزمنى لأفعلن" أو بصيغة التعليق المقصود كقوله "إن طلعت الشمس، أو إن حضت، أو إن جاء رأس الشهر، فأنت طالق" أو التعليق المقصود به اليمين، من الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله "إن لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا، فامرأتى طالق" وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعى، الذين جالسوه، أو من هو من أجلهم: أبى عبد الرحمن. وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعى، وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح، ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفى. الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، فى الحلف بالعتق الذى هو قربه إلى الله تعالى، بل من أحب القرب إلى الله، ويسرى فى ملك الغير، فما يقول هؤلاء فى الحلف بالطلاق الذى هو أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟. والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته. فقالوا لها كفرى عن يمينك، وخلى بين الرجل وبين امرأته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وهؤلاء الصحابة أفقه فى دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة فى الحلف بالعتق ويرونه يمينا. ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا،. ويلزمون الحانث بوقوعه، فإنه لا يجد فقيه شم رائحة بين البابين والتعليقين فرقاً بوجه من الوجوه. وإنما لم يأخذ به أحمد، لأنه لم يصلح عنده إلا من طريق سليمان التيمى، واعتقد أنه تفرد به. وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصارى، وأشعث الحمرانى، ولهذا لما ثبت عند أبى ثور قال به، وظن الإجماع فى الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به. الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئاً، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة. أما طاوس فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئاً. وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره فى باب يمين المكره، فحمله على الحلف بالطلاق مكرها، وهذا فاسد، فإن الحجة ليست فى الترجمة. وإنما الاعتبار بما يروى فى أثناء الترجمة، ولا سيما المتقدمين، كابن أبى شيبة، وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم، فإنهم يذكرون فى أثناء الترجمة آثاراً لا تطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوع تعلق، وهذا فى كتبهم - لمن تأمله - أكثر وأشهر من أن يخفى، وهو فى صحيح البخارى وغيره، وفى كتب الفقهاء وسائر المصنفين. ثم لو فهم عبد الرزاق هذا، وأنه فى يمين المكره، لم تكن الحجة فى فهمه، بل الأخذ بروايته، وأى فائدة فى تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأى يمين كانت، فيمينه ليست بشيء. وأما عكرمة، فقال سنيد بن داود فى تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبى عن عاصم الأحول عن عكرمة: فى رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتى طالق، قال "لا يجلد غلامه، ولا يطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان". فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس، فيمن قالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لى حر، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس فى الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها - تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه فى هذا الباب. فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة فى الحلف بالتعليقات. كالحج، والصوم، والصدقة، والهدى، والمشى إلى مكة حافياً، ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة - تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة فى ذلك. فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذى يستوفى فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار. فإذا ارتفعت درجة أخرى، ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تبين لك الراجح من المرجوح. ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان، ومن يقول: حكمت وثبت عندى، فالله المستعان. الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته "إن خرجت من الدار، أو كلمت رجلاً، أو فعلت كذا فأنت طالق" فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث لزمه الطلاق. وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبد العزيز، ومحله من الفقه، والعلم غير خاف. ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها، لم يقع به الطلاق، معاقبة لها بنقيض قصدها، وهذا جار على أصول مالك وأحمد، ومن وافقهما فى معاقبة الفار من التوريث والزكاة، وقاتل مورثه، والموصى له، ومن دبَّره بنقيض قصده، وهذا هو الفقه، لا سيما وهو لم يرد طلاقها، إنما أراد حضها، أو منعها، وأن لا تتعرض لما يؤذيه، فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أداه؟ وهو لم يملكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا ملكها الله إياه بالفسخ، فكيف تكون الفرقة إليها، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها؟ وأى شئ أحسن من هذا الفقه، وأطرد على قواعد الشريعة؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الطريق الخامسة: طريق من يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء، والحلف يصيغه الالتزام. فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق. والثانى: كقوله: الطلاق يلزمنى، أوْ لى لازم، أو على الطلاق إن فعلت، أو إن لم أفعل. فلا يلزمه الطلاق فى هذا القسم، إذا حنث دون الأول. وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعى، وهو المنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه، ذكره صاحب الذخيرة، وأبو الليث فى فتاويه. قال أبو الليث: ولو قال: طلاقُك على واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى، والفارق: العرف. قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك على واجب، أو قال: لازم، ففعلت. وذكر القُدورى فى شرحه: أن على قول أبى حنيفة: لا يقعُ الطلاق فى الكل، وعند أبى يوسف: إن نوى الطلاق يقع فى الكل، وعن محمد: أنه يقع فى قوله: لازم، ولا يقع فى: واجب. واختار الصدرُ الشهيدُ الوقوع فى الكل، وكان ظهيرُ الدين المْرِغينانُّى يُفتى بعدم الوقوع فى الكل، هذا كله لفظ صاحب الذخيرة. وأما الشافعية: فقال ابن يونس، فى شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لى، ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل، فجعل كناية وقال الرويانى: الطلاق لازم لى: صريح، وعدَّ ذلك فى صرائح الطلاق، ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق. وقال القفال فى فتاويه: ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه، لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق، هذا لفظه. وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد. فقد صار الخلاف فى هذا الباب فى المذاهب الأربعة بنقل أصحابها فى كتبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ولهذا التفريق مأخذ آخر من هذا الذى ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلزم التطليق، فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذى يلتزمه الرجل: هو التطليق، فالطلاق لازم لها إذا وقع. إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق، فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك، أو تالله على أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لى، أو واجب على، وحنث لم يقع عليه الطلاق. فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمنى، لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه. والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البضع من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه. فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، فحينئذ يلزمه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب، وإنما أتى به معلقاً له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟. والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق. فصل وممن ذكر الفرق بين الطلاق، وبين الحلف بالطلاق: القاضى أبو الوليد هشام ابن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى فى كتابه "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام". فقال فى كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك فى الأيمان اللازمة. ثم قال: ولا ينبغى أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليدياً إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان، وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى. منها: الفرق بين الطلاق إيقاعاً، وبين اليمين بالطلاق، وفى المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثانى للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفن فقه على الجملة. وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 أن الطلاق صورته فى الشرع. حل وارد على عقد، واليمين بالطلاق عَقد فليفهم هذا. وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل بنية، ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته، فقد نجمت هذه المسألة فى أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته، فى أيمان البيعة، وليس فى أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك. وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه فى إثبات حكمه تحديداً. والكناية: على ضربين، كناية غالبة، وكناية غير غالبة. فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق فى موضوع اللغة، أو الشرع، كقوله: الحقى بأهلك، واعتدّى. وغير الغالبة: كل مالا يشعر بثبوت الطلاق فى وضع اللغة والشرع، كقوله: ناولينى الثوب، وقال: أردت بذلك الطلاق. فإذا عرضنا لفظ الأيمان يلزمنى على صريح الطلاق لم تكن من قسمه، وإن عرضناها على الكناية، لم تكن من قسيمها إلا بقرينة، من شاهد حال، أو جارى عرف، أو نية تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهد الحال، أو جارى العرف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغى لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم فى فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعانى، فإن الحكم إن لم يقع مستوضحاً عن نور فكرى مشعر بالمعنى المربوط اضمحل. ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغنى فى هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهى يمين محدثة، لم تقع فى الصدر الأول. ثم ذكر اختلاف أهل العلم فى الحلف بالأيمان اللازمة. والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطرى العقلى الشرعى بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكماً. أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ، واليمين عقد والتزام. فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى: {وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيَمانَ} [المائدة: 89] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثم أشار إلى الافتراق فى الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقداً لم يحصل بها حل، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل، ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل. فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه، نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها فى العقد والحل، فتصير كناية فى الوقوع، وقد نواه. فيقع به الطلاق، لأن هذا العقد صالح للكناية. وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق. أما إذا نوى مجرد العقد، ولم ينو الطلاق البتة، بل هو أكره شئ إليه، فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعى، ولا نقلها عنه الشارع. فلا يلزمه غير موجب الأيمان. فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق، ويخرج قلبه ساعة من التعصب والتقليد، واتباع غير الدليل. والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان فى الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما فى الحكم. أما الحقيقة فما تقدم. وأما القصد. فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، أو التصديق أو التكذيب، والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب. فالتسوية بينهما لا يخفى حالها. وأما اختلافهما لفظاً، فإن لفظ اليمين لا بد فيها من التزام قَسَمِى يأتى فيه بجواب القسم، أو تعليق شرطى يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدم فى الصورة الأولى مؤخر فى الثانية، والمنفى فى الأولى ثابت فى الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئاً من ذلك، ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق فى هذه المسألة، والله الموفق. الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذى كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث، لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة، فيزول بزوالها، وهذا مطرد على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد فى اليمين، تعميما وتخصيصاً وإطلاقاً وتقييداً. فإذا حلف: لا أكلم فلانة، وكان سبب اليمين الذى هيجها كونها أجنبية، يخاف الوقوع فى عرضه بكلامها، فتزوجها. لم يحنث بكلامها، إعمالا لسبب اليمين وما هيجها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فى التقييد بكونها أجنبية. هذا إذا لم يكن له نية مادامت كذلك، أما إذا كانت له نية فلا إشكال فى تقييد اليمين بها. ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلاناً، ولا يعاشره. لكونه صبيا، فصار رجلاً، وكانت نيته وسبب يمينه لأجل صباه. ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يَظُن به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث. وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا. فباع العبد والدار. ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا، والحامل له على اليمين كونه تاركاً للصلاة، أو مرابياً أو خماراً، أو واليا، فتاب من ذلك كله، وزالت الصفة التى حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه. وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة. والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغياً أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها. كل هذا مراعاة للمقاصد التى الألفاظ دالة عليها. فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه فى غد. وقصده، أو السبب: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث. ولو حلف أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالى. والنية أو السبب: يقتضى التقييد مادام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه. وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلق أو أعتق أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه. لأن اقتضاء السبب والقصد التقييد فى غاية الظهور. ونظائر ذلك كثيرة جداً. وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه فى كثير من المواضع. وهذا هو الصواب، لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الاعتبار له، وتقيد اللفظ به. ولهذا لو دعى إلى غداء، فحلف لا يتغذى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده، لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضى غيره. وقد أخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وما لم ينوه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يلزم به، مع القطع بأنه لم يرده، ولا خطر على باله. وقد أفتى غير واحد من الفقهاء، منهم ابن عقيل وشيخنا، وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال هى طالق، ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذى رميت به فى بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان ميتا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن، فإنه لا يقع عليه الطلاق، لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشرط فى طلاقها. وهذا الذى قالوه هو الذى لا يقتضى المذهب وقواعد الفقه غيره، فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق، وقال: أردت إن قمت، دُين، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواء. ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال، فقال: أنت حر، فبان أن المال الذى أعطاه مستحق، أو زيوف، لم يقع العتق، وإن كان قد صرح به. ذكره أصحاب أحمد والشافعى، لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض، ولم يسلم له، وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها. وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر. فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث. وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التى يتحيلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع: أحدها: التسريج. الثانى: خلع اليمين. الثالث: التحيل لفساد النكاح، إما بكون الولى كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوساً على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلاً. فلا يقع فيه الطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته. أو نقله من مالك إلى مالك، ونحو ذلك. فإذا غلبوا عن شئ من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا. فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدى الله تعالى ومسئول، بين هذه الطرق وتلك الطرق التى قبلها. وليقم لله ناظراً، ومناظراً متجرداً من العصبية والحمية، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، والله ولى التوفيق. فصل وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] . فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر فى يمينه. هذا قول أصحاب أبى حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد. وقال الشافعى: إن علم أنها مسته كلها بر فى يمينه، وإن علم أنها لم تمسه لم يبر. وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجباً لبر الحالف لسقط عن الزانى والقاذف والشارب تعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط، أو ثمانين، ويضرب بها ضربة واحدة، وهذا إنما يجزئ فى حق المريض، كما قال الإمام أحمد فى المريض عليه الحد "يضرب بعثكال يسقط عنه الحد". واحتج بما رواه عن أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدع، فلم يرع الحى إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، قال: فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسوِلِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 مُسْلِماً، فقَالَ: "اضْرِبُوهُ حَدَّهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنّهُ أَضْعَفُ مَّمِا تحْسبُ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فقَالَ: "خُذُوا له عِثْكالاً فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا". وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق، فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه. فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان، ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة فى شأنه، ولم يكن فى شرعهم كفارة، فإنه لو كان فى شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم، كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذوراً خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ، أو مائة سوط، فيضرب بها ضربة واحدة، وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذى خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان، فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر فى يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التى لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن فى قصة أبوب عليه السلام لنص السنة فى شأن الضعيف الذى زنى، فلا يتعدى بها عن محلها. فإن قيل: فقولوا هذا فى نظير ذلك، ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين، لا ذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك فى ضربة بمائة شمراخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 قيل: قد جعل الله له مخرجاً بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه، ولا يعصى الله بالبر فى يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقاً ولا مجموعاً. فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا. كالحد، هل تقولون: ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال، كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله، ثم يحد الحد الواجب، كما روى مسلم فى صحيحه عن على رضى الله عنه: "أَنَّ أَمَةً لرَسولِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم زَنَتْ، فأَمَرَنِى أَنْ أَجْلِدَهَا، فَأَتَيْتُهَا، فَإٍذَا هِى حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إن جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلَم، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، اُتْرُكْهَا حَتَّى تَماثَلَ". فصل وأما حديث بلال فى شأن التمر، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم له: "بِعَ التَّمرَ بِالدَّرَاهمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً". فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التى ليست مقصودة لوجوه: أحدها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضى البيع الصحيح، ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك، لكن الشأن فى بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها، وإن كان بيعاً، فإنها ربا وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل فى الحديث، ولو اختلف رجلان فى بيع مثل هذا، هل هو صحيح، أو فاسد؟ وأراد أحدهما إدخاله فى هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يثبت أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح، لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث. فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة. قلت: ونظير ذلك أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب، أو على البيع بشرط الخيار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أكثر من ثلاث، أو على البيع بشرط البراءة، وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها، ويقول المنازع: الشارع قد أطلق الإذن فى البيع، ولم يقيده. وحقيقة الأمر، أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضى البيع الصحيح، ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التى تواطأ فيها على ذلك بيع صحيح. والوجه الثانى: أن الحديث ليس فيه عموم، لأنه قال: "وابْتَعْ بالدَّراهِم جنِيبا" والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها، لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد. والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزما له، فلا يكون الأمر بالمشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزما له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمراً بالمميز بحال. نعم: هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاماً لها على سبيل البدل، لكن ذلك لا يقتضى العموم بالأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب، فقوله: بِعْ هذا الثوب، لا يقتضى الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه. فإن اللفظ لا دلالة له على شئ من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود. إذا تبين ذلك، فليس فى الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشترى، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنقد البلد ولا غيره، ولا بثمن حال أو مؤجل، فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلاً، لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها. وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة، وهذا غلط بين، فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفى ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما، ضرورة وقوعه جزئياً مشخصاً، فذلك من لوازم الواقع، لأنه مقصود الأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم، أو النهى عنها من دليل منفصل. وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال: لو كان الابتياع من المشترى حراماً لنهى عنه. فإن مقصوده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إنما هو بيان الطريق التى يحصل بها اشتراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 التمر الجيد لمن عنده رديء. وهو أن يبيع الردئ بثمن ثم يبتاع بالثمن جيداً. ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفى شرط مخصوص، كما لا يحتج به على نفى سائر الشروط، وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . على جواز أكل كل ذى ناب من السباع، ومخلب من الطير، وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة، ونحو ذلك. فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال. إذ لا تعرض فى اللفظ لذلك، ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب. وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه. وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . على جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وصحة نكاح المحلل، وصحة نكاح الخامسة فى عدة الرابعة، أو نكاح المتعة، أو الشغار، أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة، كان استدلاله باطلاً. وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . على حل بيع الكلب، أو غيره مما اختلف فيه، فاستدلاله باطل، فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك. وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع، وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شئ، فهذا غير صحيح، وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] . على حل كل مأكول ومشروب. وبمنزلة الاستدلال بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ". على حل الأنكحة المختلف فيها. وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسَاءَ فَطَلِّقوهُنَّ لِعِدَّتهِنَّ} [الطلاق: 1] . على جواز جمع الثلاث ونفوذه، وعلى صحة طلاق المكره والسكران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . على صحة النكاح بلا ولى وبلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها. وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . على حل كل نكاح اختلف فيه، فيستدل به على صحة نكاح المتعة، والمحلل، والشغار، والنكاح بلا ولى وبلا شهود، ونكاح الأخت، ونكاح الزانية، والنكاح المنفى فيه المهر، وغير ذلك، وهذا كله استدلال فاسد فى النظر والمناظرة. ومن العجب أن ينكر من يسلكه على ابن حزم استدلاله بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] . على وجوب نفقة الزوج على زوجته، إذا أعسر بالنفقة، وكان لها ما تنفق منه، فإنها وارثة له، وهذا أصح من تلك الاستدلالات، فإنه استدلال بعام لفظا ومعنى. وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضى العموم وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظاً ولا معنى، ولم يقصد بها تلك الصور التى استدلوا بها عليها. إذا عرف هذا، فالاستدلال بقوله "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" لا يدل على جواز بيع العينة بوجه من الوجوه، فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل. وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشترى، حتى يقال: هذه الصورة غالبة، بل الغالب أن من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة، أو حيث يقصد، أو ينادى عليه. وإذا باعه لواحد منهم، فقد تكون عنده السلعة التى يريدها وقد لا تكون. ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لموكله: بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن، أو بع هذه الحنطة العتيقة، واشتر بثمنها جديدة، لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشترى بعينه، بل يشترى من حيث وجد غرضه. ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده. فإن قيل: فهب أن الأمر كذلك، فهلا نهاه عن تلك الصورة، وإن لم يدخل فى لفظه؟ فإطلاقه يقتضى عدم النهى عنه. قيل: إطلاق اللفظ لا يقتضى المنع منها، ولا الإذن فيها، كما تقدم بيانه، فحكمها إذنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ومنعاً يستفاد من مواضع أخر، فغاية هذا اللفظ: أن يكون قد سكت عنها فقد علم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العينة. الوجه الثالث: أن قوله: "بع الجمع بالدراهم" إنما يفهم منه البيع المقصود، الخالى عن شرط يمنع كونه مقصودا، بخلاف البيع الذى لا يقصد، فإنه لو قال: بع هذا الثوب، أو بعت هذا الثوب، لم يفهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، ولا بيع التلجئة، وإنما يفهم منه البيع الذى يقصد به نقل ذلك العوض. وقد تقدم تقرير هذا. يوضحه: أن مثل هذين قد يتراوضان أولا على بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ثم يجعلان الدراهم محللاً غير مقصودة. والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين، ومعلوم أن الشارع لا يأذن فى مثل هذا، فضلاً عن أن يأمر به ويرشد إليه. الوجه الرابع: إن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنَ فى بَيعَةٍ". ومتى تواطآ على أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع منه، فهو بيعتان فى بيعة، فلا يكون داخلاً فى الحديث، إذ المنهى عنه لا يتناوله المأذون فيه. يبين ذلك الوجه الخامس: وهو أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "بع الجمع ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وهذا يقتضى بيعاً ينشئه ويبتدئه، بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معاً، فلا يكون داخلاً فى حديث الإذن، بل فى حديث النهى. الوجه السادس: أنه لو فرض أن فى الحديث عموماً لفظيا، فهو مخصوص بصور لا تعد. فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه، فتضعف دلالته، وتخص منه الصورة التى ذكرناها بالأدلة، التى هى نصوص، أو كالنصوص، فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء، وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فصل وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة، بقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] . وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها، فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما. فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التى شرعها لعباده، ونصبها لمصالحهم فى معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة، ثم أمرهم أن يستوثقواً فى البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك فى السفر استوثقوا بالرهن، حفظاً لأموالهم وتخلصاً من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم فى ترك ذلك فى البيوع الحالة، لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان. فالمراد بالتجارة الدائرة: البيعات التى تقع غالباً بين الناس. ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا. ولا ريب أن دخولها فى تلك النصوص أظهر من دخولها فى هذه الآية. ومما يدل عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون فى الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك فى الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود، والله سبحانه قال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] . فاستثنى هذا من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى، واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هى من التجارة الحاضرة، التى يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا؟ فالتجارة فى كلام الله ورسوله، ولغة العرب، وعرف الناس: إنما تنصرف إلى البياعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 المقصودة التى يقصد فيها الثمن، والمثمن. وأما ما تواطآ فيه على الربا المحض، ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما البتة، يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة، فهذا ليس من التجارة المأذون فيها، بل من الربا المنهى عنه، والله أعلم. فصل وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل. فما أبطله من استدلال، فأين المعاريض التى يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التى يسقط بها ما فرض الله تعالى، ويستحل بها ما حرم الله، فالمعَرِّض تكلم بحق، ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره فى نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره فى معرفة دلالة اللفظ، ومعاريض النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومزاحه عامته كان من هذا الباب، كقوله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ" و "إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلدِ النَّاقَةِ" و "وَزوَجُكِ الّذِى فى عَيْنِه بيَاضٌ" و "لا يَدْخُلُ الجنة عَجُوزٌ". وأكثر معاريض السلف كانت من هذا. فالمعرِّض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له فى الجملة، فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام، فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفرد والمشترك، والمتباين والمترادف، وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد، وتارة بحسب التأليف، فأين هذا من الحيل التى يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلاً، ولا هو مقتضاه، ولا موجبة شرعاً ولا حقيقة؟،. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وفرق ثان، وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلاً ولا محرماً، بخلاف المحتال، فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرماً باطلاً، فإن المرابى بالحيلة لو قال: بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة، كان حراماً باطلاً، وذلك عين مقصوده، ومقصوده الآخر. وكذلك المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً على أن تعيدها إلى ومعها زيادة كذا وكذا، كان حراماً باطلاً، وذلك نفس مقصوده. وكذلك المحلل لو قال: تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثاً. والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراماً، فأين أحدهما من الآخر؟ وفرق ثالث: وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ، أو يقتضيه. والمحتال قصد بالعقد مالا يحتمله، ولا جعل مقتضياً له، شرعاً ولا عرفاً ولا حقيقة. وفرق رابع: وهو أن المعرض مقصده صحيح، ووسيلته جائزة، فلا حجر عليه فى مقصوده، ولا فى وسيلته إلى مقصوده، بخلاف المحتال، فإن قصده أمر محرم، ووسيلته باطلة، كما تقدم تقريره. وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه فى شئ، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، جزاء له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز المحق، فما كان من التعريض لظاهر اللفظ فى نفسه كان قبيحاً إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزاً إلا عند تضمن مفسدة، والذى يدخل فى الحيل المذمومة إنما هو الأول، فالمعرض قاصد لدفع الشر، والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق. والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل، كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه، ويسافر إلى تلك الناحية، ليحسب العدو أنه لا يريده، ثم يكر عليه. ومثل أن يستطرد المبارز بين يدى خصمه ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه. ومثل أن يظهر ضعفاً وعجزاً يتخلص به من تسخيره وأذاه، ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقد يكون التعريض بالقول والفعل معاً، كما قال سليمان عليه السلام "ائتونى بالسكين أشقه بينكما" وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع، وبإظهار النوم، وإظهار الشبع، وإظهار الغنى، بحيث يحسبه الجاهل غنيا. وكما يقع الإجمال فى الأقوال فكذلك يقع فى الأفعال، كما أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عمر رضى الله عنه حلة من حرير، فلما لبسها أنكر عليه وقال: "لم أعطكها لتلبسها" فكساها أخا له مشركاً بمكة. فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع فى الألفاظ تارة، وفى الأفعال تارة، وفيهما معاً تارة. ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره، ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله، ليقبله ولا يرده عليه، أو ليتخلص به من شره وظلمه، كما أنشد عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات، وأوهمها أنه يقرأ وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح، ولكن لا يقبل منه، لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله، فإذا عرّض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض، كما علمه أبو حنيفة - رحمه الله أصحابه -، حين شكوا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة، فيبادرون بالإنكار. فقال: قولوا لهم المسألة، فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع، فقولوا: هذا قول أبى حنيفة. وكما يجرى لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيراً. فصل وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، إلى آخره. فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم فى هذا الباب، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فإن المحتجين بذلك لا يجوِّزون شيئاً مما فى هذه القصة البتة، ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به، ولا يسوغه بوجه من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاء لإخوته، وعقوبة لهم على ما فعلوا به، ونصراً له عليهم، وتصديقاً لرؤياه، ورفعة لدرجته ودرجة أبيه. وبعد، ففى قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة. أحدها قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهمْ لَعَلّهُمْ يعْرفونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] . فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا فى ذلك معانى: منها: أنه تخوّف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها. ومنها: أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم. ومنها: أنه إذا رأى لؤما أخذ الثمن منهم. ومنها: أنه أراهم كرمه فى رد البضاعة، ليكون أدعى لهم إلى العود. وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة، ليردوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح. والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير فى هذا البلاء. وأيضاً، فلو عرفهم نفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه عادة الله سبحانه فى الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسباباً من المحن والبلاياً والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك، الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المحرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وكذلك ما فعله برسله، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، فهو سبحانه يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التى تكرهها النفوس وتشق عليها. كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كَرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وُهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتمْ لا تَعلَمُونَ} [البقرة: 216] . وربما كانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلَىمَحْبُوبِهَا سَبَباً مَا مِثْلَهُ سَبَبُ وبالجملة، فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، وخلق النار وحفها بالشهوات. فصل ومنها: أنه لما جهزهم فى المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه. وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق. وقد قيل: إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك، والحق كان له، وقد أذن فيه، وطابت نفسه به، ودل على ذلك قوله تعالى: {ولَمَّا دَخلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبتَئِسْ بَما كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] . فهذا يدل على أنه عَرّف أخاه نفسه. وقد قيل: إنه لم يصرح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله: {إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69] . أى أنا مكان أخيك المفقود. ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية فى رحل أخيه، والأخ لا يشعر بذلك، والقرآن يدل على خلاف هذا، والعدل يرده. وأكثر أهل التفسير على خلافه. ومن لطيف الكيد فى ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق فى دين الملك يأخذه بها. فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما، فوضع الصواع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فى رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك. ولهذا قال: {فلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [يوسف: 69] . ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل فى آثارهم لذلك. قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا على بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: "أمهلهم حتى إذا انطلقواً فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا، ثم ناداهم مناد: أيتها العير إنكم لسارقون، فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما يذكرون: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم، ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلنا كم علينا فى بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ {قال إنكم لسارقون} . وذكر عن السدى "فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير". والسياق يقتضى ذلك، إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداء لبعيد، يطلب وقوفه وحبسه. فكان فى هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فقد له، فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا، وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا فى أثر القوم. فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش فى الحال قبل انفصالهم عنه. بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ فى هذه المعنى. ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم، إعلاماً بزن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر، ولم يبق فيه خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يتهم به سواكم. ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال إنكم لسارقون ولم يعين المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: ماذا تفتقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره. فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره. وظهر صدقهم وعدلهم فى اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد. ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام – {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} - أى ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووجد معه؟ أى ما عقوبته عندكم وفى دينكم؟. {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] . فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم، لا بحكم الملك وقومه. ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه، تطمينا لهم، وبعدا عن تهمة المواطأة. فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه فى هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأة وموافقة. فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا، فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضاً أخذ شيئاً. فقالوا: لا والله، لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه، فإنه أطيب لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع. وهذا من أحسن الكيد. فلهذا قال تعالى: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذى يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد. وقد ذكروا فى تسميتهم سارقين وجهين: أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غيبوه عنه بالحيلة التى احتالوا بها عليه، وخانوه فيه. والخائن يسمى سارقاً، وهو من الاستعمال المشهور. الثانى: أن المنادى هو الذى قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام. قال القاضى أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع فى رحل أخيه. ثم قال بعض الموكلين به لما فقده، ولم يدر من أخذه - أيتها العير إنكم لسارقون - على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك، ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادى: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادى فهم سرقة الصواع، وصدق فى قوله: إنكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 لسارقون - ولم يقل: صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال - نفقد الملك - وهو صادق فى ذلك، فحذف المفعول فى قوله - لسارقون - وذكره فى قوله - نفقد صواع الملك - وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم - معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده - ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، فإن المتاع كان موجوداً عنده، ولم يكن سارقاً. وهذا من أحسن المعاريض. وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذى قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه، أيأثم فى ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ". فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيراً من أن يصلح بين الناس بعضهم فى بعض، ذلك أنه أراد به مرضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعاً فى شئ يصيبه منهم، فإنه لم يرخص فى ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم. قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه "إنى أشترى دينى بعضه ببعض، مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه". قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْضِ} [ص: 22] . أراد معنى شئ ولم يكونا خصمين، فلم يصيرا بذلك كاذبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وقال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقالَ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا} [الأنبياء: 63] . وقال يوسف عليه السلام {إنكم لسارقون} [يوسف: 70] أراد يعنى أخاهم. فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذباً. وإن لم يكن فى الحقيقة كذباً. وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق. قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة، فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف. حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذى أبيهم، وللميثاق الذى أخذه عليهم، وقد استثنى فى الميثاق بقوله: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته، فإنه كان أكرم من هذا وإن كان فى ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته، فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به، ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذى استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى - التى قدّرها وقضاها - نهايتها، ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل، فليس هذا، بموضع خلاف بين العلماء. فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه؟ أو يسرقه، كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير، فإن مثل هذا لا يجوز فى شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه، كان فى هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا، كالوحى إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وتكون حكمته فى حق الأخ امتحانه وابتلاءه، لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حاله فى هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام فى احتباس يوسف عليه السلام عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله} [يوسف: 76] . وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعانى، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق، كقوله تعالى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كيدا} [الطارق: 15 - 16] وقوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران:54] وقوله {اللهُ يسْتَهْزِئُ بِهم} [البقرة: 15] وقوله {إِنَّ المُنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله {وَأُمْلِى لهم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [القلم: 45] . فهذا منه سبحانه فى أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحاً سيئاً، لأنه ظالم فيه، وموقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومن يستحقه، سواء قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقة فى هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام فى كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. فصل وإذا عرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكْيَد، من وجوه عديدة. أحدها: أن إخوته كادوه، حيث احتالوا فى التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب عليه السلام: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] . وثانيها: أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبق. وثالثها: كيد امرأة العزيز له، بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها. ورابعها: كيدها له بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهْلِكَ سُوءا إِلا أنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] . فكادته بالمراودة أولا، وكادته بالكذب عليه ثانيا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . وخامسها، كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهن، تستعين بهن عليه، وتستعذر إليهن من شغفها به. وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ إلَيْهِنَّ أصب وأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [يوسف: 33- 34] . ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له: {اُرْجعْ إِلَى ربك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] . فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتى مكرن به، وسمعت به امرأة العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه فى كتابه؟. قيل: بلى، قد أشار إليه بقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المَدينَةِ اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] . وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر: أحدها: قولهن: {اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِد فَتَاهَا} [يوسف: 30] . ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذى ينادى عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل. فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها. الثانى، أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها. الثالث: أن الذى تراوده مملوك لا حُر، وذلك أبلغ فى القبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 الرابع: أنه فتاها الذى هو فى بيتها وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبى البعيد. الخامس: أنها هى المراودة الطالبة. السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها. السابع: أن فى ضمن هذا أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هى المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافاً وكرماً وحياء، وهذا غاية الذم لها. الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع، حالا واستقبالا: وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكل. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته. التاسع قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] . أى إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح فنسبن الاستقباح إليها. ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى، ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغى أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه. العاشر: أنهن جمعن لها فى هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط. فلم تقتصد فى حبها، ولا فى طلبها. أما العشق فقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُباً} [يوسف: 30] . أى وصل حبه إلى شغاف قلبها. وأما الطلب المفرط فقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30] . والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن. وقيل: إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرعْهُنَّ إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهى، وفى أيديهن مُدًى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبن أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جُرحُها وشقها بالمُدى لدَهَشهنَّ بما رأين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فقابلت مكرهن القولى بهذا المكر الفعلى، وكانت هذه فى النساء غاية فى المكر. والمقصود: أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدى إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره. وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدى، فقالوا: {يَا أَيَّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِى المَتَصَدِّقيِنَ} [يوسف: 88] . فهذا الذل والخضوع فى مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه فى الجب وبيعه بيع العبيد. وكاد له بأن هيأ له الأسباب التى سجدوا له هم وأبوه وخالته، فى مقابلة كيدهم له، حذرا من وقوع ذلك، فإن الذى حملهم على إلقائه فى الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك. فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك. كما رآه فى منامه. وهذا كما كاد فرعون بنى إسرائيل: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيى نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] . خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه، بأن أخرج له هذا المولود، ورباه فى بيته، وفى حجره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل: وَإذَا خَشيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرا ... وَفَرَرْتَ مٍنْهُ، فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ فصل وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين. أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلا خارجاً عن قدرة العبد الذى كاد له، فيكون الكيد قدرا محضا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا، بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع فى رحل أخيه، وأرسل مؤذنا يؤذن: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فلما أنكروا قال: {فَما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتَمْ كَاذِبينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وَجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] . أى جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق، إما مطلقا، وإما إلى مدة. وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 حتى قيل: إن مثل هذا كان مشروعا فى أول الإسلام: أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق، وعليه حمل حديث بيع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سُرَّق. وقيل: بل كان بيعه إياه: إيجاره لمن يستعمله، وقضى دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه، أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته. وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] . كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته. وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك، بأن يقولوا: لا جزاء عليه، حتى يثبت أنه هو الذى سرق، فإن مجرد وجوده فى رحله لا يوجب أن يكون سارقاً. وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة، وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق فى دينكم، وقد كان من دين ملك مصر - فيما ذكر -: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك، لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: {كَذلكَ كِدْنَا لِيُوسُفْ مَا كَانَ لِيَأْخُذُ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] . أى ما كان ليمكنه أخذه فى دين ملك مصر، لأنه لم يكن فى دينه طريق إلى أخذه. وقوله {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] . استثناء منقطع، أى لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يهيئ الله سببا آخر يؤخذ به فى دين الملك غير السرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وفى هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر فى الحدود، وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك فى مواضع. منها: اللوث فى القسامة، والصحيح: أنها يقُاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح. ومنها: حد الصحابة رضى الله عنهم فى الخمر بالرائحة والقيء. ومنها: حد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه. فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟. وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام". والمقصود: أنه ليس فى قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة، لأرباب الحيل. فإنا إنما تكلمنا فى الحيل التى يفعلها العبد، وحكمها فى الإباحة، والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل فى قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيداً محرماً فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده، وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له، وينتصر له، بغير حول منه ولا قوة. فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده. النوع الثانى: أن يلهمه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعى الكيد، ولهذا قال سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] . وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعى الذى يحبه الله تعالى ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذى يخصم به المبطل، ويدحض حجته صفة مدح يرفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 بها درجة عبده، كما قال سبحانه فى قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومه، وكسر حجتهم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] . وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذى تستحل به المحرمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيد لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المكيد فى هذا القسم، فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد. وأيضا، فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعى، ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له. وأيضا، فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحاً لشخص كان مباح لكل من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها، وإنما خاصية الفقيه، إذا حدثت به حادثة: أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذى يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصاً به، جزاء له على صبره، وإحسانه، وذكره فى معرض المنة عليه، وهذه الأفعال التى فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التى فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين: أحدهما: إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله. الثانى: فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد. وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التى يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات. فصل لعلك تقول: قد أطلت الكلام فى هذا الفصل جدا، وقد كان يكفى الإشارة إليه. فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر. فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين: أهل المكر والمخادعة، والاحتيال فى العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة فى العلميات. وكل فساد فى الدين - بل والدنيا - فمنشؤه من هاتين الطائفتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضى الله عنه، وعاثت الأمة فى دمائها، وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء، وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه، ويبين أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده. فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده. فصل ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور. وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التى استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا. فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها. ونادت عليها فى سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالى من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذى ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به فى هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين. فيا حسرة المحب الذى باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب فى العذاب الأليم. فهناك يعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 المخدوع أى بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأى مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو فى يد محبوبه لرأيته: كعُصْفُورَةٍ فِى يد طِفْلٍ يَسُومُهَا ... حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت: وَمَا فِى الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ ... وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ تَرَاهُ بَاكِياً فى كُلِّ حِينٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ ... وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار فى أحشائه لقلت: سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ ... وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ فى الْحَشَا ... مَاءٌ وَنَارٌ فى مَحَلٍّ واحِدِ ولو شاهدت مسلك الحب فى القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح فى أبدانها. فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذى لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيق به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فصل إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة فى العالم: من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف، إذا قيل: إن الترك والكف أمر وجودى، كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عدمى فيكفى فى عدمه عدم مقتضيه. والتحقيق: أن الترك نوعان: ترك هو أمر وجودى. وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وجودى، وترك هو عدم محض، فهذا يكفى فيه عدم المقتضى. فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفى فيه عدم السبب المقتضى لوجوده، وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له: من البغض والكراهة، وهذا السبب لا يقتضى بمجرده كف النفس وحبسها. والالتئام مسبب عن المحبة، والإرادة تقتضى أمرا هو أحب إليه من هذا الذى كف نفسه عنه، فيتعارض عنده الأمران. فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له، وأحبهما إليه، على أدناهما، فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه. ثم خاصية العقل واللب: التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين التخلص من أعلاهما، بقوة الصبر واليقين. فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه آخر، وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سعيها فى تحصيل بالذات، وأسبابه بالوسيلة، ودفع مبغوضها بالذات، وأسبابه بالوسيلة، فسعيه فى تحصيل محبوبه لماله فيه من اللذة، وكذلك سعيه فى دفع مكروهه أيضاً لماله فى دفعه من اللذة. كدفع ما يؤلمه من البول والنجو، والدم والقيء، وما يؤلمه من الحر والبرد، والجوع والعطش، وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وإذا علم أن هذا المكروه يفضى إلى ما يحبه يصير محبوبا له، وإن كان يكرهه. فهو يحبه من وجه، ويكرهه من وجه، وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضى إلى ما يكرهه يصير مكروها له، وإن كان يحبه. فهو يكرهه من وجه، ويحبه من وجه. فلا يترك الحى ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه. ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه، لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا، ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا. فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة، وعلة لهما، من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب. ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض، بخلاف الحب للشيء. فإنه قد يكون لنفسه، لا لأجل منافاته للبغيض. وبغض الإنسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده. وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافى أشد. ولِهذا كان "أوْثَقُ عُرَى الإيَمانِ الْحُبُّ فى اللهِ وَالْبُغْضُ فى اللهِ"، وكان "مَنْ أحَبَّ للهِ، وَأبْغَضَ للهِ، وَأعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيَمانَ". فإن الإيمان علم وعمل، والعمل ثمرة العلم، وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا، ويترتب عليهما عمل الجوارح، فعلا، وتركا، وهما العطاء والمنع. فإذا كانت هذه الأصول الأربعة لله تعالى، كان صاحبها مستكمل الإيمان، وما نقص منها فكان لغير الله، نقص من إيمانه بحسبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فصل إذا عرف هذا فكل حركة فى العالم العلوى والسفلى فسببها المحبة والإرادة، وغايتها المحبة والإرادة. فإن الحركات ثلاث: إرادية، وطبعية، وقسرية. فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها، فحركته إرادية، وإن لم يكن له شعور بحركته، أوله بها شعور وهو غير مريد لها، فحركته إما على وفق طبعه، أو على خلافه، فالأولى طبعية، والثانية قسرية. أظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك، أو قوة فيه، فالأول الحركة فيه قسرية، والثانى، إما أن يكون له به شعور أم لا، فالأول: الحركة فيه إرادية، والثانى طبعية. فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهى إرادية، ومتى انتفى عنها الأمران، فإن كانت بقوة فى المتحرك فهى الطبعية، وإن كانت من غير قوة فى المحرك فهى القسرية. وكل حركة فى السماوات والأرض: من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهى ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى: {فَالمُدَبِّرَاتِ أمْرا} [النازعات: 5] ، وقال {فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات: 4] . وهى الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام، وأما المكذبون للرسل، المنكرون للصانع، فيقولون: هى النجوم. وقد أشبعنا الرد على هؤلاء فى كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكِّل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها. ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه، وملائكة لحفظ ما يعمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالسؤال فى القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها، وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى. ومنهم: {وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فالمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} [المرسلات: 1-5] ومنهم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرَا} [النازعات:1-5] ومنهم {وَالصَّافّاتِ صَفا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرَا} [الصافات:1-3] . ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التى لا يحصيها إلا الله تعالى. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلا لَمِن اُرْتَضَى وَهْمْ مِنْ خَشْيَتهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمَرُونَ} [النحل: 50] {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرْونَ} [التحريم: 6] . ولا تتنزل إلا بأمره، ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه، فهم: {عِبَادٌ مُكرَمُونَ} [الأنبياء: 26] . منهم الصافون، ومنهم المسبحون. ليس منهم إلا من له مقام معلوم، لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه، ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليْلَ وَالنَّهَارَ لا يفْتُروُنَ} [الأنبياء: 19- 20] . ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "الّلهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اُهْدِنِى لَمِا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فتوسل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة. فجبريل موكل بالوحى الذى به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذى به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ فى الصور الذى به حياة الخلق بعد مماتهم. فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لما فى ذلك من الحياة النافعة. وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل فى القرآن أحسن الثناء، ووصفه بأجمل الصفات فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنسِ وَالليْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولِ كَرِيمٍ ذِى قُوَْةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 15- 21] . فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه، وأنه مطاع فى السماوات، وأنه أمين على الوحى. فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه. قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك. ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه، ثم قلبها عليهم. فهو قوى على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى. قال ابن جرير فى "تفسيره": عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى صالح: أمين على أن يدخل سبعين سُرادقاً من نور بغير إذن. ووصفه بالأمانة يقتضى صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان. فالمكانة والأمانة والقوة والقرب من الله. ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: {إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيَنَا مَكِين أَمِينٌ} [يوسف: 54] . والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنه شعيب فى موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 عليهما السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأمِينُ} [القصص: 26] . وقال تعالى فى وصفه: {عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مٍرَّةٍ فَاسْتَوى} [النجم: 5-6] . قال ابن عباس رضى الله عنهما "ذو منظر حسن" وقال قتادة "ذو خلق حسن" وقال ابن جرير: "عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا". والمرة واحدة المرر، وإنما أريد به ذو مرة سوية، ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِى، وَلا لِذِى مِرَّةٍ سَوِى". قلت: هذا حجة من قال: المرة القوة فى الآية، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهو قول ضعيف. لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] . ولا ريب أن المرة فى الحديث هى القوة، لا المنظر الحسن، فإما أن يقال: المرة تقال على هذا وعلى هذا، وإما أن يقال - وهو الأظهر -: إن المرة هى الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة، وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها. فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب، فهى قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا، والله أعلم. وقالت اليهود للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "من صاحبك الذى يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبى إلا يأتيه ملك بالخبر؟ قال: "هو جبريل". قالوا: ذاك الذى ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذى ينزل بالنبات والقطر والرحمة؟ فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوا لْجِبِريلَ فَإنَّه نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97 - 98] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 والمقصود: أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوى والسفلى ملائكة، فهى تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة، لكونهم هم المباشرين للتدبير، كقوله: {فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً} [النازعات: 5] . ويضيف التدبير إليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 3] قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَى مِنَ المَيِّتِ وَيخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَى وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] . فهو المدبر أمراً وإذناً ومشيئةً، والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالاً. وهذا كما أضاف التوفى إليهم تارة، كقوله تعالى: {تَوَفّتْهُ رُسُلنَا} [الأنعام: 61] . وإليه تارة، كقوله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفسَ} [الزمر: 42] ونظائره. والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه، ونقله من طور إلى طور، وتصويره، وحفظه فى أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه، وعمله، وأجله، وشقاوته، وسعادته، وملازمته فى جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه فى حياته، وقبض روحه عند وفاته، وعرضها على خالقه وفاطره. وهم الموكلون بعذابه ونعيمه فى البرزخ، وبعد البعث. وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب. وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابون عنه، وهم أولياؤه فى الدنيا والآخرة، وهم الذين يرونه فى منامه ما يخافه ليحذره، وما يحبه ليقوى قلبه، ويزداد شكرا، وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر، ويحذرونه منه. فهم أولياؤه وأنصاره، وحفظته، ومعلموه، وناصحوه، والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون عليه مادام فى طاعة ربه، ويصلون عليه مادام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله تعالى فى منامه، وعند موته، ويوم بعثه. وهم الذين يزهدونه فى الدنيا، ويرغبونه فى الآخرة. وهم الذين يذكرونه إذا نسى. وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع. وهم الذين يسعون فى مصالح دنياه وآخرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فهم رسل الله فى خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزل بالأمر من عنده فى أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليه. والقرآن مملوء بذكر الملائكة، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم. كقوله تعالى: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعٍلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَل فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقّدِّسُ لَكَ قّالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكةِ فَقالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسمائهم فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أعْلُم غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ} إلى آخر القصة [البقرة: 30 - 38] وقوله: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبهِّمْ} [القدر: 4] . وما بين هاتين السورتين فى سور القرآن. بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا، أو تلويحا، أو إشارة. وأما ذكرهم فى الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر. ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التى هى أركان الإيمان، وهى الأيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فلنرجع إلى المقصود. وهو أن حركات العالم العلوى والسفلى بالملائكة. فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التى تحرك المريد إلى فعل ما يفعله، والحركة الطبيعية سببها ما فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 المتحرك من الميل والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار، وحركة النبات، وحركة الرياح. وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز، ما لم يعقه عنه عائق. وأما الحركة القسرية: كحركته بالقسر إلى العلو، فتابعه لإرادة القاسر له، فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة. فصل فإذا عرف ذلك فالمحبة هى التى تحرك المحب فى طلب محبوبه الذى يكمل بحصوله له، فتحرك محب الرحمن، ومحب القرآن، ومحب العلم والإيمان، ومحب المتاع والأثمان، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان والمردان، ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء. فيتحرك عند ذكر محبوبه منه دون غيره، ولهذا تجد محب النسوان والصبيان، ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان، ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا، وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره. فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها، من محبة رسوله، وكتابه، ودينه، وأوليائه. فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به، وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه. وإذا انقطعت علائق المحبين، وأسباب توادهم وتحابهم لم تنقطع أسبابها. قال تعالى: {إذّ تَبَرَّأَ الّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اُتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتقَطّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] . قال عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: "المودة". وقال مجاهد: "تواصلهم فى الدنيا". وقال الضحاك: "يعنى تقطعت بهم الأرحام، وتفرقت بهم المنازل فى النار". وقال أبو صالح: "الأعمال". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 والكل حق. فإن الأسباب هى الوُصَل التى كانت بينهم فى الدنيا، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها. وأما أسباب الموحدين المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم. فإن السبب تبع لغايته فى البقاء والانقطاع. فصل إذا تبين أصل هذا فأصل المحبة المحمودة التى أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها: هى محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه. فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل وحده. ولما كانت المحبة جنسا تندرج تحته أنواع متفاوتة فى القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها فى حق الله تعالى: ما يختص به ويليق به، كالعبادة والإنابة والإخبات، ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام، والصبابة، والشغف، والهوى، وقد يذكر لها لفظ المحبة، كقوله: {يحُبُّهُمْ وَيحُبُّونِهُ} [المائدة: 54] وقوله {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبْبِكْمْ اللهُ} [آل عمران: 31] وقوله {وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165] . ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهى عن محبة ما يضادها وملازمتها، وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين، وذكر قصصهم ومآلهم، ومنازلهم، وثوابهم، وعقابهم، ولا يجد حلاوة الإيمان، بل لا يذوق طعمه، إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما فى الصحيحين من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم قال: "ثَلاَثٌ مَنْ كُن فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَة الإيمَانِ - وفى لفظ: لا يَجُد طَعْمَ الإِيمَانِ إلا مَنْ كانَ فِيهِ ثَلاثُ: مَنْ كانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مَّمِا سِوَاهُما، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَرْجِعَ فى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنُقَذَهُ اللهُ تعالى مِنْهُ، كما يَكْرَهُ أَنْ يُلقَى فى النَّارِ". وفى الصحيحين أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجَمَعِينَ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، على عبادة الله وحده لا شريك له. وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة، وإفراد الرب سبحانه بها، فلا يشرك العبد به فيها غيره. والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هى الكلمة التى لا يدخل فى الإسلام إلا بها، ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها، ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر، كما فى صحيح ابن حبان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلهَ إلاّ اللهُ". والآية المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة آى القرآن، والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن، بها أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وشرع جميع شرائعه، قياما بحقها وتكميلا لها. وهى التى يدخل بها العبد على ربه، ويصير فى جواره وهى مفزع أوليائه وأعدائه، فإن أعداءه إذا مسهم الضر فى البر والبحر فزعوا إلى توحيده، وتبرءوا من شركهم، ودعوه مخلصين له الدين. وأما أولياؤه فهى مفزعهم فى شدائد الدنيا والآخرة. ولهذا كانت دعوات المكروب "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم". ودعوة ذى النون التى ما دعاً بها مكروب إلا فرج الله كربه "لا إله إلا أنت، سبحانك إنى كنت من الظالمين". وقال ثوبان رضى الله تعالى عنه "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا راعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أمر قال: الله ربى لا أشرك به شيئا" وفى لفظ قال: " هو الله لا شريك له". وقالت أسماء بنت عميس رضى الله عنها "علمنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كلمات أقولها عند الكرب: الله، الله ربى، لا أشرك به شيئا". وفى الترمذى من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "دَعْوَةُ يُونُسَ إِذْ نَادَى فى بَطْنِ الْحُوتِ: لا إِلهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظّالمِينَ، فَإنّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فى شَئْ إلا اُسْتُجِيبَ لَهُ". وفى "مسند الإمام أحمد" مرفوعا "دَعوَاتُ المَكْرُوبِ: الّلهُمَّ رَحْمَتكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِى إلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنِ، وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلّهُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ". فالتوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين، وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال التعظيم، والذل والخضوع. فصل فإذا عرفٍ أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة، فلا بد من محبوب مراد لنفسه، لا يطلب ويحب لغيره، إذ لو كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور أو التسلسل فى العلل والغايات، وهو باطل باتفاق العقلاء، والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز وجل وحده، الذى لا تصلح الألوهية إلا له، فلو كان فى السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا. والإلهية التى دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هى العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذى أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 فصل وكل حى فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده. كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه، فوجوده بالله وحده، وكماله أن يكون لله وحده. فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، ولهذا قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلَهِةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . ولم يقل لعدمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن تكونا صالحين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له، فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها، فكل عمل فهو تابع عامله وقصده وإرادته. وتقسيم الأعمال إلى صالح فاسد، هو باعتبارها فى ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة. وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة، فهو باعتبار متعلقها، ومحبوبها، ومرادها، فإن كان المحبوب المراد هو الذى لا ينبغى أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى، الذى لا صلاح للعبد، ولا فلاح، ولا نعيم، ولا سرور، إلا بأن يكون هو وحده محبوبه، ومراده، وغاية مطلوبه، كانت محبته نافعة له. وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة غيره كانت محبته ضارة له وعذابا شقاء. فالمحبة النافعة هى التى تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم، والمحبة الضارة هى التى تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء. فصل إذا تبين هذا فالحى العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته، أو من فساد قصده وإرادته. فالأول: جهل، والثانى ظلم: والإنسان خلق فى الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، كما فى المسند من حديث عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فى ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ". فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى فى كتابه من أجاب داعى الجهل والظلم، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23] . فأصل كل خير: هو العلم والعدل، وأصل كل شر: هو الجهل والظلم. وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذى خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] . قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه: {فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم. أو فساد القصد، أو فسادهما جميعا. وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم، وإلا فلو علم ما فى الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهى لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما فى الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتنابه يوقعه فى ارتكابه، ولهذا كان الإيمان الحقيقى هو الذى يحمل صاحبه على فعل ما ينفعهُ، وترك ما يضره، فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك. فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان، حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الموصلة إليها، فضلا عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان فى نفسه فيما يسعى فيه فى الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار. فصل إذا تبين هذا، فالعبد أحوج شئ إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك. وهاهنا طريقان: العقل، والشرع. أما العقل، فقد وضع الله سبحانه فى العقول والفطر استحسان الصدق والعدل، والإحسان، والبر، والعفة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخلق، والوفاء بالعهد، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحق، وقرى الضيف، وحمل الكل، ونحو ذلك. ووضع فى العقول والفطر استقباح أضداد ذلك، ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، ولبس ما يدفئه عند البرد، فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه. فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها، واستقباح أضدادها، ومن قال: إن ذلك لا يعلم بالعقل، ولا بالفطرة، وإنما عرف بمجرد السمع، فقوله باطل، قد بينا بطلانه فى كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول. والطريق الثانى لمعرفة الضار والنافع من الأعمال: السمع. وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول، لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها، وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة، كما قال مجاهد "أفضل العبادة الرأى الحسن، وهو اتباع السنة" قال تعالى: {وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الّذِى أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] . وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول فى مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم: أهل الشبهات والأهواء، لأن الرأى المخالف للسنة جهل لا علم، وهوى لا دين. فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله واتبع هواه بغير علم وغايته الضلال فى الدنيا والشقاء فى الآخرة، وإنما ينتفى الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {فَإمَّا يَأْتيَّنكُمْ مِنِّى هُدى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلاَ يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123-124] . واتباع الهوى يكون فى الحب والبغض، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالٍدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيَّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَولَى بهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] ، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . والهوى المنهى عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص فى نفسه، فقد يكون أيضا هوى غيره، فهو منهى عن اتباع هذا وهذا، لمضادة كل منهما لهدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه. فصل فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] ، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه سئل "من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة" ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها: "حدثتنى الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات". وصح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب. وجعلت قرة عينى فى الصلاة". فلا عيب على الرجل فى محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهى مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهى محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه. فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله ومحبة فى الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته. والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق. فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها. ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل. فصل ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يمنى أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد، أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا للفاحشة، ويأمره بمواخاته. وهذا من جنس المخادنة، بل هو مخادنة باطنة. كذوات الأخدان اللاتى قال الله تعالى فيهن: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] . وقال فى حق الرجال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] . فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى، ويبطنون اتخاذها خدنا، يتلذذون بها فعلا، أو تقبيلا، أو تمتعا مجرد النظر والمخادنة، والمعاشرة، واعتقادهم أن هذا لله، وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغى، وتبديل الدين، حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له، وذلك من نوع الشرك، والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت. فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله، وأنه حب فيه: كفر وشرك، كاعتقاد محبى الأوثان فى أوثانهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق، جدير بالثواب، وأنه ساع فى دوائه وشفائه، وتفريج كرب العشق عنه، وأن "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". فصل ثم هم بعد هذا الضلال والغى أربعة أقسام: قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير فى طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك. وقوم يعلمون فى الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا. وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك، لما يرجى لهم من التوبة. ومن وجه أخبث، لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم، وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهى قربة وطاعة، ووقع فى ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد، فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة. القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى. فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التى لا وطء فيها لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون نفعل شيئا لله تعالى، ونفعل أمرا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثانى الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة، وهم فى هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين. وقد يزيد عليه تارة فى الكم والكيف، وقد ينقص عنه. وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين فى الله، لكن الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 آمنوا أشد حباً لله، فإن المتحابين فى الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية. ثم قد يشتد بينهما الاتصال حتى يسمونه زواجاً، ويقولون: تزوج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة، ويقرهم الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح. وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحى عدو الله، وربما اعتقد كثير من المرادن أن هذا صحيح، وأنه المراد بقوله "إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إنى أحب فلانا فأحبه - الحديث". وأنه توضع له المحبة فى الأرض، فيعجبه أن يحب، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حظوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك. وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان. وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح، والشكوى إلى القاضى، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق. وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان. لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الأخر بحكم الطبيعة. وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاص. فالأول: بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن. والثانى: بإزاء الأمة والسرية. والثالث: بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة. وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث. وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 واستفراشهم على النساء من وجوه. وهذا مضادة ومحادة لله ودينة وكتبه ورسله. وصنف بعضهم كتابا فى هذا الباب، وقال فى أثنائه: باب فى المذهب المالكى، وذكر فيه الجماع فى الدُبر من الذكور والإناث. وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأشدهم مذهبا فى هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطى حدا، بكرا أو ثيبا، وقوله فى ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن اختلفت أقوالهم فى كيفية قتله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته فى دبرها، وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه. ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا البابين بابا واحدا. وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة. ونظير هذا: ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر. وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة. فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك. وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها. وهذا ظن كاذب. فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره، فإن جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا. ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فحش هذا مركوز فى طباع الأمم. فاكتفى فيه بالوازع الطبعى، كما اكتفى بذلك فى أكل الرجيع وشرب البول والدم، ورتب الحد على شرب الخمر، لكونه مما تدعو إليه النفوس. والجمهور يجيبون عن هذا بأن فى النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعى لذلك فالحد فيه أولى من الحد فى الزنا، ولذلك وجب الحد على من وطئ أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان فى النفوس وازع وزاجر طبعى عن ذلك، بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا فى أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره. هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان. ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش: ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة، أو مباحة، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر، وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك فى قوله: {إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6، المعارج: 30] . وحتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها، تتأول القرآن على ذلك، كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها، وتأولت هذه الآية، ففرق عمر رضى الله عنه بينهما، وأدبها، وقال "ويحك، إنما هذا للرجال لا للنساء". ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْد مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مٍنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] . على ذلك، قال: وقد سألنى بعض الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها فى إباحة ذكران العبيد المؤمنين. قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع، يبيحه بعض العلماء، ويحرمه بعضهم، ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل، فإنه ليس فى فرق الأمة من يبيح ذلك، بل ولا فى دين من أديان الرسل، وإنما يبيحه زنادقة العالم، الذين لا يؤمنون بالله ورسله، وكتبه واليوم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة، مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع، إلى أمثال هذه الأمور التى خاطبنى فيها وسألنى عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء. قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء فى وجوب الحد فيه، فظن أن ذلك خلاف فى التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات، كالميتة والدم ولحم الخنزير، وليس فيه حد مقدر. ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذى هو من خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذى هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين، وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة، فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية. ولما سهل هذا الأمر فى نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده، أنه لم يطأه سواه، كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها، وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه، أو مؤاخيه أو معلمه، وكذلك من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذى هو قرينه وعشيره كالزوجة، أو عما سوى مملوكه، الذى هو كسريته. ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبى على فعل الفاحشة، فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس، فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به. قال شيخنا: وحكى لى من أثق به: أن بعض هؤلاء أخُذِ على هذه الفاحشة، فحكم عليه بالحد، فقال: والله هو ارتضى بذلك، وما أكرهته ولا غصبته، فكيف أعاقب؟ فقال نصير المشركين - وكان حاضرا - هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة، وحفظ النفس، كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير فى المخمصة. وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التدواى، وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصى درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللهُ بَصِيرٌ بَما يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] وقال: {وَلِكلٍّ دَرَجَاتٌ مّمِا عَمِلُوا، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] . وقال {إنَما النّسِئُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْر} [التوبة: 37] وقال {فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناًِ وَهُمْ يَسْتَبِشرُونَ وَأمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125] . ونظائره فى القرآن كثيرة. ومن أخف هؤلاء جرما: من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه، وأنه إذا قضى حاجته قال: استغفر الله فكأن ما كان لم يكن. فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق، كتلاعب الصبيان بالكرة، وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان فى كل قالب. وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها، فالمتخذ خدْناً من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد، والمستخفى بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدِّث للناس به، فهذا بعيد عن عافية الله تعالى وعفوه، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كُلُّ أُمَّتِى معافى إلا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَسْتُرَ اللهُ تعَالى عَلَيْهِ ثُمً يُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ، يَقُولُ، يَا فُلاَن، فَعَلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا فَيَبِيتُ رَبُّهُ يَسْتُرُهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْ نَفْسِهِ" أو كما قال. وفى الحديث الآخر عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُبْتُلِى مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيءْ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وفى الحديث الآخر "إنَّ الْخَطِيئَةَ إذا خفِيتَ لَمْ تَضُرَّ إلا صَاحِبَهَا، وَلكِنْ إذَا أعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ". وكذلك الزنا بالمرأة التى لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفساد فراشه عليه، وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا، أو دونه. والزنا بحليلة الجار أعظم إثما من الزنا ببعيدة الدار، لما اقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به. وكذلك الزنا بامرأة الغازى فى سبيل الله أعظم إثما عند الله من الزنا بغيرها. ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له: "خذ من حسناته ما شئت". وكما تختلف درجاته بحسب المزنى بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل. فالزنا فى رمضان ليلا أو نهاراً أعظم إثما منه فى غيره. وكذلك فى البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها. وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من الحر أقبح منه من العبد. ولهذا كان حَدُّه على النصف من حده. ومن المحصن أقبح منه من البكر، ومن الشيخ أقبح منه من الشاب. ولهذا كان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: الشيخ الزانى. ومن العالم أقبح منه من الجاهل، لعلمه بقبحه، وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة. ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 فصل ومما ينبغى أن يعلم: أنه قد يقترن بالأيسر إثما ما يجعله أعظم إثما مما هو فوقه. مثاله: أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذى يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتأليهه له وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به، على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره، فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة. فإن المحبوبات لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد. كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الصحيح: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفةِ، تَعِسَ عَبْد الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتُكِسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتُقِشَ، إِنْ أُعْطِى رَضِى، وَإِنْ مُنعَ سَخِطَ" رواه البخارى. فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا، وإن منعوا سخطوا عبيدا لهذه الأشياء، لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها. فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله، بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها، ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ولهذا يجعلون الحب مراتب: أوله: العلاقة، ثم الصبابة، ثم الغرام، ثم العشق. وآخر ذلك: التتيم. وهو التعبد للمعشوق. فيصير العاشق عبدا لمعشوقه. والله سبحانه إنما حكى عشق الصور فى القرآن عن المشركين. فحكاه عن امرأة العزيز، وكانت مشركة على دين زوجها. وكانوا مشركين، وحكاه عن اللوطية، وكانوا مشركين، فقال تعالى فى قصتهم: {لَعَمْرُكَ إنهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعمَهُونَ} [الحجر: 72] . أخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص، فقال: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنّهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وقال عن عدوه إبليس أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجَمعِينَ * إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] وقال تعالى: {إنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلطَانٌ إلا مَنِ اُتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . والغاوى ضد الراشد، والعشق المحرم من أعظم الغى. لهذا كان أتباع الشعراء وأهل السماع الشعرى غاوين. كما سماهم الله تعالى بذلك فى قوله: {الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] . فالغاوون يتبعون الشعراء، وأصحاب السماع الشعرى الشيطانى، وهؤلاء لا ينفكون عن طلب وصال، أو سؤال نوال. كما قال أبو تمام لرجل: أما تعرفنى؟ فقال: ومن أعرف بك منى؟. أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ لِلنَّ ... اسِ وَكِلْتَاهُما بِوَجْهٍ مُذَالِ لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِباً لوصال ... مِنْ حَبِيبٍ أَوْ رَاجِياَ لِنَوَالِ أى مَاءٍ يَبْقَى لِوَجْهِكَ هذَا ... بَيْنَ ذُلِّ الْهَوَى، وَذُلِّ السُّؤَالِ؟ والزنا بالفرج - وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس- لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به: أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير. فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الإصرار على الصغيرة قد يساوى إثمه إثم الكبيرة، أو يربى عليها. وأيضاً، فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية. وأيضاً، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه، كما قال القائل: تَاللهِ مَا أسَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً ... إلا وَعَزّ عَلَى الوَرَى استنقَاذُهُ بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه. وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] . وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغى اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات. وأصل الغى من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطانى لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ فى حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه فى قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14- 15] . فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة فى طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله - إن جعل له - كل رذيلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام فى خدمته فى الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف فى الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها. ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله. وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة، والباطنة، والإثم، والبغى بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيرا ما يوجد فى هذا العشق من الشرك الأكبر الأصغر، ومن قتل النفوس، تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها فى رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم مالا خفاء به. وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره فى المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ". وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] . وإذا تأملت حال عشاق الصور المتيمين فيها، وجدت هذه الآية منطبقة عليهم، مخبرة عن حالهم. قال بعض العلماء: ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله، أو محبة بشر مثلك، أما محبة الله فهى التى خلق لها العباد، وبها غاية سعادتهم، وكمال نعيمهم وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى، فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 ما ليس مثله وبين جنس آخر من المخلوقات. ولهذا لا يعرف فى محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب فى الجنس ما يزيل العقل، ويفسد الإدراك، ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب، وإنما يعرف ذلك فى محبته لجنسه، فتستوعب قلبه، وتسلب لبه، ويصير لمعشوقه سامعاً مطيعاً كما قيل: إنَّ هَوَاكَ الَّذِى بِقَلبىصَيَّرَنِى سَامِعاً مُطِيعَا ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق، حتى يبذل نفسه، ويسلمها للتلف فى طاعة معشوقه، كما يبذل المجاهد نفسه لربه، حتى يقتل فى سبيله، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد قال فى الحديث الذى رواه أحمد وغيره: "شَارِبُ الْخَمرِ - أو قَال مُدْمِنُ الْخَمْرِ - كَعَابِدِ وَثَنٍ". ومر على بن طالب رضى الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال "ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون؟ ". فما الظن بالعاشق المتيم الفانى فى معشوقه؟ ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب وهى الأصنام التى تعبد من دون الله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَما الْخَمَرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسُ مِنْ عَمَلِ الشَّيطاًنِ فَاجْتَنبِوُهُ لَعَلّكُمْ تَفْلِحُونَ * إنمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَّدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتهُونَ} [المائدة: 90 - 91] . ومعلوم أن شارب الخمر لا يدوم سكره، بل لا بد أن يفيق، ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سكره. وأما سكرة العشق فقل أن يستفيق صاحبها إلا إذا جاءت الرسل تطلبه للقدوم على الله تعالى، ولهذا استمرت سكرة اللوطية حتى فاجأهم عذاب الله وعقوبته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وهم فى سكرتهم يعمهون، فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق؟ كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطى فى كتاب اعتلال القلوب، قال: أنشد الصيدلانى: قَالَتْ: جُنِنْتَ عَلَى رَأْسِى، فَقُلْتُ لهَا ... العِشق أَعْظَمُ مَّمِا بِالمَجاَنِينِ الْعِشْقُ لا يَستَفِيق الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإنَما يُصْرَعُ المَجْنُونُ فى الْحِينِ فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن، والعاكف على التماثيل، فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يشبه عكوف عابد الصنم على صنمه. وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع العدواة والبغضاء بين المسلمين فى الخمر والميسر، ويصدهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، فالعدواة والبغضاء والصد الذى يوقعه بالعشق أعظم بكثير. وجميع المعاصى يجتمع فيها هذان الوصفان، وهما العدواة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن التحاب والتآلف إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنْوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدا} [مريم: 96] . أى يلقى بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضا، فيتراحمون، ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم فى قلوب بعض من المحبة. وقال ابن عباس "يحبهم ويحببهم إلى عبادة". قال هرم بن حيان "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وأهل المعاصى والفسوق وإن كان بينهم نوع مودة وتحاب، فإنها تنقلب عدواة وبغضا وفى الغالب يتعجل لهم ذلك فى الدنيا قبل الآخرة، أما فى الآخرة فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. وقال إمام الحنفاء لقومه: {إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بَبَعْضُ ويلعن بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] . فالمعاصى كلها توجب ذلك، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وذكر ذلك فى الخمر الميسر - اللذين هما من أواخر المحرمات - تنبيه على ما فى غيرهما من ذلك، مما حرم قبلهما، وهو أشد تحريما منهما، فإن ما يوقعه قتل النفوس، وسرقة الأموال، وارتكاب الفواحش من ذلك، وما يصد به عن ذكر الله وعن الصلاة أضعاف أضعاف ما يقتضيه الخمر والميسر، والواقع شاهد بذلك. وكم وقع، وهو واقع بين الناس - بسبب عشق الصور - من العداوة والبغضاء، وزوال الألفة والمحبة، وانقلا بها عدواة. وأما صده عن ذكر الله، فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه، كما قيل: مَا فِى الْفُؤَادِ لِغَيْرِ حُبِّكَ مَوْضِعٌ ... كَلاّ، وَلا أَحَدٌ سِوَاكَ يَحُلُّهُ وأما صده عن الصلاة، فهو إن لم يصد عن صورتها وأعمالها الظاهرة، فإنه يصد عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة. فصل ومما يبين أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى، سواء كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة، أو غير ذلك: أنها فى المشركين أكثر منها فى المخلصين، ويوجد فيهم منها ما لا يوجد مثله فى المخلصين. قال تعالى {يَا بَنِى آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِع عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمْا سَوْءاتِهِمَا إِنَّهُ يرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَالا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ - إلى قوله تعالى - قُلْ إِنَما حَرَّمَ رَبِّى الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنّهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمِ وَالْبَغْى بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَالا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 27- 33] . فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وهو قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوِنى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] . وقال تعالى فى الشيطان: {إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] . وأخبر عنه أنه أقسم بعزة ربه أنه يغوى عباده أجمعين، واستثنى أهل الإخلاص منهم، وأخبر سبحانه عن أولياء الشيطان: أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بتقليد أسلافهم، وزعموا أن الله سبحانه أمرهم بها، فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل. قال شيخنا: وفى هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة، من الصوفية والعُبّاد، والأمراء، والأجناد، والمتفلسفة، والمتكلمين، والعامة وغيرهم، يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله، ظانين أن الله أباحه، أو تقليدا لأسلافهم وأصله العشق الذى يبغضه الله، فكثير منهم يجعله ديناً، ويرى أنه يتقرب به إلى الله، إما لزعمه أنه يزكى النفس ويهذبها، وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمى، ثم ينقله إلى عبادة الله وحده، وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده، ويسميها "مظاهر الجمال الأحدى" وإما لاعتقاده حلول الرب فيها، واتحاده بها، ولهذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله. إما تَدَيُّناً، وإما شهوة، وإما جمعاً بين الأمرين. ولهذا يتآلفون ويجتمون على السماع الشيطانى، الذى يهيج الحب المشترك، فُيَهيِّج من كل قلب ما فيه من الحب. وسبب ذلك: خلو القلب مما خلق له، من عبادة الله تعالى التى تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع والذل له، والوقوف مع أمره، ونهيه ومحابَّه ومساخطه. فإذا كان فى القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها. وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين، وتغيير فطرة الله التى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فطر عليها عباده. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَةَ اللهِ التى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. لا تَبْدِيلَ لِخَلْق الله} [الروم: 30] . أى نُفس خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع. ولا تبديل لنفس هذا الخلق. ولكن يقع التغيير فى المخلوق بعد خلقه، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يَهُوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيمَجِّسَانِهِ، كَمَا تَنْتَجُ الْبَهميَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تَحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونهَا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه. فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة. ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التى خلقت عليها فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها. فصل والفتنة بعشق الصور تنافى أن يكون دين العبد كله الله، بل ينقص من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق. وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شئ من الدين لله. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال: 39] . فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله. فكل منهما يناقض الآخر. والفتنة قد فسرت بالشرك. فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك، وإما من أسباب الشرك. وهى جنس تحته أنواع من الشبهات، والشهوات. وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن. ومنه فتنة أصحاب العجل، كما قال تعالى لموسى: {إنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85] . وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلا تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] . نزلت فى الجد بن قيس لما غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تبوك قال له "هل لك يا جَدّ فى بلاد بنى الأصفر، تتخذ منهم السرارى والوصفاء؟ فقال جَدُّ: ائذن لى فى القعود عنك. فقد عرف قومى أنى مغرم بالنساء، وأنى أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 قال ابن زيد: يريد لا تفتنى بصباحة وجوههن. وقال أبو العالية: لا تعرضنى للفتنة. وقوله تعالى: {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] . قال قتادة: "ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله سلم والرغبة بنفسه عنه أعظم". فالفتنة التى فر منها - بزعمه - هى فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التى وقع فيها هى فتنة الشرك والكفر فى الدنيا، والعذاب فى الآخرة. لفظ الفتنة فى كتاب الله تعالى يراد بها الامتحان الذى لم يفتتن صاحبه، بل خلص من الافتتان. ويراد بها الامتحان الذى حصل معه افتتان. فمن الأول: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] . ومن الثانى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَة} [الأنفال:39] وقوله: {أَلا فِى الْفِتنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] . ويطلق على ما يتناول الأمرين، كقوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 -3] . ومنه قول موسى عليه السلام: {إنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِل بهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] . أى امتحانك وابتلاؤك، تضل بها من وقع فيها، وتهدى من نجا منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وتطلق الفتنة على أعم من ذلك، كقوله تعالى: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة} [التغابن: 15] . قال مقاتل "أى بلاء، وشغل عن الآخرة. قال ابن عباس: فلا تطيعوهم فى معصية الله تعالى". وقال الزجاج: أعلمهم الله عز وجل أن الأموال والأولاد مما يفتنون به، وهذا عام فى جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه، تناول الحرام لأجله، ووقع فى العظائم، إلا من عصمه الله تعالى. ويشهد لهذا ما روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "كان يخطب، فجاء الحسن والحسين رضى الله عنهما، وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليهما فأخذهما، فوضعهما فى حجره على المنبر، وقال: صدق الله: {إنَما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما". وقال ابن مسعود رضى الله عنه "لا يقولن أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله تعالى يقول: {إنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضُلات الفتن". ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] . وهذا عام فى جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم. وتحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 المشاق فى تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويصدقونهم، أم يكفرون بهم، ويردون عليهم، ويقاتلونهم؟ وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة، وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار ولكفار بالمؤمنين. وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم، ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم، من أتباع الرسل، فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا: {لَوْ كانَ خَيْراَ مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ} [الأحقاف: 11] هؤلاء. وقالوا لنوح عليه السلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] . قال تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] . فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم، فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام، فيمتنع منه لئلا يقال أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه فى الفضل. ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة، أن الفقير يقول: لِمَ لَمْ أكن مثل الغنى؟ ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوى؟ ويقول المبتلى، هلا كنت مثل المعافى؟ وقال الكفار: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِى رُسلُ اللهِ} [الأنعام: 124] . قال مقاتل: نزلت فى افتتان المشركين بفقراء المهاجرين، نحو بلال، وخباب، وصهيب، وأبى ذر، وابن مسعود، وعمار، كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا؟ قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيق مِنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتّخَذْتُموهُمْ سِخْرِيا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بَما صَبَرُوا أَنّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109- 111] . فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] . قال الزجاج: أى أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون: قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفى قوله: {ثُمَّ إنَّ رَبّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110] . فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة. فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب: قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] . فالفتنة قسمت الناس، إلى صادقٍ وكاذبٍ ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ. فمن صبر عليها كانت رحمة فى حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع فى فتنة أشد منها. فالفتنة لا بد منها فى الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يفُتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكمْ هذا الّذِى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14] . فالنار فتنة من لم يصبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 على فتنة الدنيا، قال تعالى فى شجرة الزقوم: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَة لِلظَّالِمينَ} [الصافات: 63] . قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: يكون فى النار شجرة والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنّهَا شَجَرَة تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] . فأخبرهم أن غذاءها من النار، أى غذيت بالنار. قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار، ومن جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما يُعلم لم تبق على النار، وإنما دلَّنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة، والمعانى مختلفة، وما فى الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك. والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم فى الدنيا، بتكذيبهم بها، وفتنة لهم فى الآخرة بأكلهم منها. وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، كان فتنة للكفار، حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأسد: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة فأنا أمشى بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبى الأيمن، وتسعة بمنكبى الأيسر فى النار، ونمضى فندخل الجنة. فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم فى الدنيا، وفتنة لهم يوم القيامة. والكافر مفتون بالمؤمن فى الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال الحنفاء: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4-5] . وقال أصحاب موسى عليه السلام: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنْةً لِلْقَوْمِ الظّالمِينَ} [يونس: 85] . قال مجاهد: المعنى، لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك. وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار، فيروا أنهم على حق وأنا على باطل. وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم. وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 52] فقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرين} [الأنعام: 53] . والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكل من النوعين فتنة للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصح وإلا فبسبيل من هلك، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ" أو كما قال. فالعبد فى هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوى المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلا فى دار أخرى غير هذه الدار التى خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به: فَوَ اللهِ، لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ ... ِتَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 لمَا ثَبَتَ الإيمَانُ يَوْماَ بِقَلْبِهِ ... عَلَى هذِه العِلاّتِ، وَالأَمْرُ أَعْظَمُ وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ فى تَرْكِ شَهْوَةٍ ... مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرهَا يَتَضَرَّمُ وَلا خَافَ يَوْماً منْ مَقَامِ إلهِهِ ... عَلَيْهِ بحُكْمِ القِسْطِ، إذْ لَيْسَ يَظْلِمُ فصل والفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما. ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت فى ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُسُ} [النجم: 23] . وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بَما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} [ص: 26] . وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهى فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التى اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال. ولا ينُجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه فى دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام. وما يثبته الله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصبُ الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا فى شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول فى كل شيء تحتاج إليه الأمة فى العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزنه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله، فهذا الذى ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه. وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهى من عمى فى البصيرة، وفساد فى الإرادة. فصل وأما النوع الثانى من الفتنة. ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين فى قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعْوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] . أى تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال وخضتم كالذى خاضوا فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار سبحانه فى هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو المبدع وما والاها، والثانى: فسق الأعمال. فالأول فساد من جهة الشبهات، والثانى من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وكانوا يقولون "احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون". وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأى على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثانى: أصل فتنة الشهوة. ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] . فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين. وجمع بينهما أيضاً فى قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] . فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكف عن الشهوات. وجمع بينهما فى قوله: {وَاذْكْرُ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] . فالأيدى: القوى والعزائم فى ذات الله، والأبصار: البصائر فى أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك. قال ابن عباس "أولى القوة فى طاعة الله، والمعرفة بالله". وقال الكلبى "أولى القوة فى العبادة، والبصر فيها". وقال مجاهد "الأيدى: القوة فى طاعة الله، والأبصار: البصر فى الحق". وقال سعيد بن جبير "الأيدى: القوة فى العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم". وقد جاء فى حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فصل إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة. قال تعالى عن موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10] . فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغَى واتباع الهوى. وقد يقابل الرشد بالضر والشر. قال تعالى: {قُلْ إنِّى لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرا وَلا رَشَداً} [الجن: 21] . وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَر أُرِيدَ بِمَنْ فى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] . فالرشد يقابل الغى، كما فى قوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذُوهُ سَبِيلاً، وَإنْ يَروْا سَبيلَ الْغَى يَتَّخِذوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] . ويقابل الضر والشر كما تقدم، وذلك لأن الغى سبب حصول الشر والضر ووقوعهما بصاحبه. فالضر والشر غاية البغى وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته. فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقبضه، فيقابل الهدى بالضلال، كقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاء} [النحل: 93] وقوله {إنْ تَحْرصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وهو كثير. ويقابل بالضلال والعذاب. كقوله: {فَمنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] . فقابل الهدى بالضلال والشقاء. وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله: {إنَّ المُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] . فالضلال ضد الهدى، والسعر العذاب، وهو ضد الرحمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعيِشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي} [طه: 124] . والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح. قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة إِنّكَ أنت الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِى نُسْخَتهَا هُدًى وَرَحْمَة لِلَّذِينَ هُمْ لِربِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وقال تعالى: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الأعراف: 203] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تصديِقَ الّذِى بَيْنَ يَدَيَهِ وتفصيل كُلِّ شَئ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاء لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] . فقوله: "هذا بصائر من ربكم" عام مطلق، وقوله: "وهدى ورحمة لقوم يوقنون" خاص بأهل اليقين. ونظير ذلك قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ} [يونس: 57] . ونظيره فى الخصوص قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتّقِينَ} [البقرة: 2] وقوله: {يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اُتَبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: 16] . ونظيره أيضا قوله: {هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ} [آل عمران: 138] . وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: {إِنْ يَتّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدْى} [النجم: 23] . فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهى فعيلة بمعنى مفعلة، أى مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثُمودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 أى مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته، فمبصرة فى الآية: بمعنى مرئية، لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا فى الآية، وتحيروا فى معناها. فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أى أريته إياه، كما يقال: بصرته به. وبصر هو به. فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: المبينة التى تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه. فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو فى نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة. فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذى يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى. فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون. والهدى فى الأصل: مصدر هدى يهدى هدى. فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما فى الأثر "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا" ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى. وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أى بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به. فالله الهادى، وكتابه الهدى الذى يهدى به على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآله. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 العبد، والآلة: هو الذى يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدى خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا. والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقى، المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذى يبتغى رضاه، ويهرب من سخطه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل، فيتأثر به، فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول، وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده، كما قال تعالى فى السورة التى نزلها: {فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِروُنَ وَأَمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125] ، وقال: {وَنُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ، وَلا يزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] . فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل، وهو الهادى تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة. وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] . فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذى فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس فى قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتى لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هى قابلة للماء ولا للنبات، فالماء فى نفسه رحمة وحياة، ولكن ليس فيها قبول له. ثم أكد الله هذا المعنى فى حقهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] . فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهى الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى فى حق هؤلاء هدى بيان وإقامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى فى حقهم بالرحمة. وأما المؤمنون: فاتصل الهدى فى حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة ولأولئك هدى بلا رحمة. والرحمة المقارنة للهدى فى حق المؤمنين عاجلة وآجلة. فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى فى الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون فى نور هداه، ويمشون به فى الناس، ويرون غيرهم متحيرا فى الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى: {قلْ بِفَضْل اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته. وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، واتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التى يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة، والخوف، ولهم، والغم، والبلاء، والألم، والقلق: مع الضلال والحيرة. ومثل هدا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنا مطمئنا، والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى: {قلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ كَالّذِى اسْتهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِى الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى اُئْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى الله هو الُهدَى} [الأنعام: 71] . فالرحمة التى تحصل لمن حصل له الهدى، هى بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، وهذه هى الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهى غير الرحمة العامة بالبر والفاجر. وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى: {أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحَمةٌ وَأُولئِكَ هُمْ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] . قال عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 بن الخطاب رضى الله تعالى عنه "نعم العدلان، ونعمت العلاوة" فبالهدى خلصوا من الضلال، وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب، وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة. والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة، والوقوع فى ضد الرحمة من الألم والعذاب، والذم واللعن، الذى هو ضد الصلاة. ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى فى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . وكان الصديق رضى الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "أرحم أمتى بأمتى أبو بكر" رواه الترمذى، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه "وكان أبو بكر رضى الله عنه أعلمنا به، يعنى النبى صلى الله تعالى وآله وسلم" فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة. وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول، فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التى هى مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقى، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هى كأضغاث أحلام أو كطيف زار فى المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذى يصلح للهدى والرحمة. فهو الذى يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلمْاً} [الكهف: 65] ، {رَبنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهِّيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10] . فصل ومما ينبغى أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضى إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هى الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك فى إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك. فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه فى ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التى تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه [ويرفّهُهُ] ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم. ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وقد جاء فى الأثر "إن المبتلى إذا دعى له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ " وفى أثر آخر "إن الله إذا أحب عبداً حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمى أحدكم مريضه". فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه. كيف؟ وهو الجواد الماجد، الذى له الجود كله، وجود جميع الخلائق فى جنب وجود أقل من ذرة فى جبال الدنيا ورمالها. فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهى رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغنى الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم. ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فى النعيم المقيم فى داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم. ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوف بِالْعِبًادِ} [آل عمران: 30] . قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه، لئلا يغتروا به. فصل ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب. فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله وأوجبه، وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 فصل إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة، والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب، فكل حى إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته. فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة، كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف، ولكن وقع الجهل والظلم من بنى آدم بمعنيين: بالدين الفاسد، والدنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم وفى الحقيقة فإنما فيهما ضده. ففاتهم النعيم من حيث طلبوه، وآثروه، ووقعوا فى الألم والعذاب من حيث هربوا منه. وبيان ذلك: أن الأعمال التى يعملها جميع بنى آدم إما أن يتخذوها دينا أو لا يتخذوها دينا. والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حق، وإما أن يكون دينا باطلا. فنقول: النعيم التام: هو فى الدين الحق علما وعملا. فأهله هم أصحاب النعيم الكامل. كما أخبر الله تعالى بذلك فى كتابه فى غير موضع، كقوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] . وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب: {أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وقوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتْبَعَ هُدَاى فَلاَ يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] وفى الآية الأخرى {فَمَنْ تَبِعَ هُدَاى فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لفِى نَعِيمٍ وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14] . فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام فى الدار الآخرة، ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء فى الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وتضمنته الكتب. ولكن نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان فى الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة فى الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم فى الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم فى الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة فى الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع فى القرآن قوله تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وقوله {وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 173] وقوله {كَتَبَ الله لأغْلِبن أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله {وَالعَاقِبةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف: 128، القصص: 83] . ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله فى الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر. والقرآن لا يرد بخلاف الحس، ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق فى هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها الباطل. فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا فى الآخرة فقط. وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه، وأهل الحق؟ فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح، قال: يفعل الله فى ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . وإن كان ممن يعلل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب. ولكل أحد مع نفسه فى هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك، فالقلوب تغلى بما فيها، كالقدر إذا استجمعت غليانا. فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، فكان الجهم يخرج بأصحابه، فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء، ويقول انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا لرحمته، كما أنكر حكمته. فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق. وكان بعضهم يتمثل: إذَا كانَ هذَا فِعْلُهُ مُحِبِّة ... فمَا تَرَاهُ فى أَعَادِيهِ يَصْنَعُ؟ وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربى ما كان ذنبى، حتى فعلت بى هذا؟ وقال لى غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق على رزقى، ونكد على معيشتى، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسى مرادها، جاءنى الرزق والعون ونحو هذا. فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق فى مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟. وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين. إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده فى خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه. والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة فى الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعدوان. فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب فى الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع، ودفع الضر، بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح. فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة ينافى ذلك. وأنه يعادى جميع أهل الأرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة فى كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا فى أصل الدين كان فى كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمسِى كافِراً، وَيُمْسِى كافِراً وَيُصْبِحُ مُؤْمِناً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة. فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين. وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذى هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم. ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذى يطلبه، والعمل الذى يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له، وعلمه بالطريق الموصل إليه وعمله به، وصبره على ذلك. قال الله تعالى {وَالْعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3] . والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده. فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا، وترك المحظور باطنا وظاهرا، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة. وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى فى الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة فى الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده. فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرا فى العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هى من باب الفضائل والمستحبات. فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما. بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه. بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله فى ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كأصحاب السماع الشعرى الذى يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهم فى الحقيقة من أولياء الشيطان. وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، حبك الشيء يعمى ويصم. والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتى يرى مساويها محاسن، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهٍ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] . ويشتد به بغض خصمه، حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل: نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ، وَلَوَ أنَّهَا ... عَيْنُ الرِّضَا، لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا، فإن الإنسان ظلوم جهول. وأكثر ديانات الخلق إنما هى عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: فى الإثبات والنفى، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة. والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علما وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذى بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] . فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوِلهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8] . فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففى مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علما وعملا ظاهرا وباطنا. وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] . فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وكذلك الكفاية والحَسْب هى بقدر الإيمان، قال تعالى: {يأَيُّهَا النَّبى حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] . أى الله حسبك وحسب أتباعك، أى كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص. وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هى بحسب إيمانه قال تعالى: {وَاللهُ وَلِى المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقال الله تعالى: {اللهُ وَلِى الّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] . وكذلك معيته الخاصة هى لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] . فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان. وكذلك النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] وقال {فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] . فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة. والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] . فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التى هى جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره. فصل وأما المقام الثانى الذى وقع فيه الغلط، فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق فى يكونون الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائما، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة، وإن لم يصرح بها. وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم فى كتابه. والله سبحانه قد بين فى كتابه أنه ناصر المؤمنين فى الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الأَذَلَّينَ * كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20- 21] وهذا كثير فى القرآن. وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، أو كسر، وغير ذلك فبذنوبه. فبين سبحانه فى كتابه كلا المقدمتين، فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر، وزال الإشكال بالكلية، واستغنيت عن تلك التكليفات الباردة، والتأويلات البعيدة. فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها ما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ومنها: أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين، كقوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِينَ فَتَرَى الّذِينَ فى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِى بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ وَيَقُولُ الّذِينَ آمنُوا أَهؤْلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهمْ إِنَّهُمْ لمعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهٌُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيموُنَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 51 - 56] . فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون. ونظير هذا قوله: {بشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً الّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّة؟ فَإنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 - 139] . وقال تعالى: {يَقُولونَ لَئنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ المُنَافِقينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] . وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلمِ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . أى من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح. وقال تعالى: {هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينَ كُلِّهِ} [التوبة: 33، الفتح: 29، الصف: 9] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فى سَبِيلِ اللهِ بأَمْوَالِكُمْ وَأَنُفُسكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة فى جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحبِوُّنَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] أى ويعطيكم أخرى فوق مَغْفِرَةِ الذنوب ودُخول الجنة، وهى النّصْرُ والفتح {يأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِى إلَى اللهِ، قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحَنُ أَنْصَارُ اللهِ، فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِى إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةُ، فَأَيدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين} [الصف: 14] . وقال تعالى للمسيح: {إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمْطَهِّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِل الّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] . فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة. وقال تعالى للمؤمنين: {وَلَوْ قَاتَلَكمُ الّذِينَ كَفَرُوا لَولَّوا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاَ} [الفتح: 22- 23] . فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا. وقال تعالى: {والْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّيِنَ} [الأعراف: 128] وقال: {وَالْعَاقِبةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . والمراد: العاقبة فى الدنيا قبل الآخرة، لأنه ذكر ذلك عقيب قصة نوح، ونصره وصبره على قومه. فقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أنْتَ وَلا قَوْمكَ مِنْ قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّينَ} [هود: 49] . أى عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه. وكذلك قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] . وقال تعالى: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرٍّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وقال: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكمْ بِخمسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] . وقال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نُصِرَ بتقواه وصبره، فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِى قدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإنَ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] {يأَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيكَفِّرْ عنكم سَيَّئَاتِكُم} [الأنفال: 29] . والفرقان: هو العز والنصر، والنجاة والنور الذى يفرق بين الحق والباطل. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتّق اللهَ يْجعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْب إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلَّ شَيءْ قَدْراً} [الطلاق: 2- 3] . وقد روى ابن ماجه وابن أبى الدنيا عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَوْ عَمِلَ النَّاسُ كُلُّهمْ بِهذِهِ الآية لَوَسِعَتْهُمْ" فهذا فى المقام الأول. وأما المقام الثانى: فقال تعالى فى قصة أُحُدٍ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذَا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] . وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبمِاَ كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] . وقال: {وَإنَّا إذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنّا رَحْمَةَ فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصبْهُمْ سَيِّئَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] . وقالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهمْ سَيِّئَةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36] . وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] . وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنَ نَفُسِكَ} [النساء: 79] . ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لا بد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولا بد فى انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة. وبالصبر يتم اليقين بالوعد. وقد جمع الله سبحانه بينهما فى قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَق وَاستْغَفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِى وَالإبْكَارِ} [غافر: 55] . وقد ذكر الله سبحانه فى كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجاهم بالصبر والطاعة، ثم قال: {لَقَدْ كانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِى الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] . فصل وتمام الكلام فى هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة. الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار. والواقع شاهد بذلك. وكذلك ما يصيب الأبرار فى هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير. الأصل الثانى: أن ما يصيب المؤمنين فى الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعوَّلهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء، ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {وَلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإٍنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَالا يَرْجُونَ} [النساء: 104] . فاشتركوا فى الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى. الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذى فى الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان فى قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته. الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت فى القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب فى رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم: لَئنْ سَاءنِى أَنْ نِلْتَنِى بَمسَاءةٍ ... لَقَدْ سَرَّنِى أَنِّى خَطَرْتُ بِبَالِكَ فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى، الذى ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه. الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان فى الظاهر بخلافه. الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التى لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "والذى نفسى بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له". فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان فى دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة. الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن فى هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له فى بعض الأحيان: أمر لازم، لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية فى هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير فى هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التى مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه فى دار أخرى، غير هذه الدار، كما قال تعالى: {لَيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الَخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فى جَهَنّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] . الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل. فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا: ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غَلَبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أو لياءه. ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول. فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد فى كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش والنصب، وأضدادها. فتلك المحن والبلايا شرط فى حصول الكمال الإنسانى والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمة ممتنع. ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم كما قال تعالى فى حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسسَكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ ندَاوِلهُاَ بَيْنَ النَّاسِ وَلِيعَلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ وَلِيمُحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَق الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّونَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ وَمَا مُحمَّد إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلِهِ الرُّسُل أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللهُ الشّاكِرِينَ} [آل عمران: 139 - 144] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التى لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوه من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح فى طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداءهم القرح فى عداوته وعداوة رسوله. ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها، كالأرزاق والآجال. ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا. ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل فى سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التى هى من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد. ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين: أى تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التى أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم، وعدوانهم إذا انتصروا. ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر. وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذا بعض حِكَمِه فى نصر عدوهم عليهم، وإدالته فى بعض الأحيان. الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض وخلق الموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها. قال تعالى: {وَهُوَ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ فى سِتّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَ المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاَ} [هود: 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وقال {إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف:7] . وقال {الَّذِى خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحسَنُ عَمَلاَ} [الملك: 2] . وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] . وقال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] . وقال تعالى {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفُتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] . فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أولا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت فلا بد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين: هل هو صادق فى قوله، آمنت، أو كاذب؟ فإن كان كاذبا رجع على عقبيه، وفر من الامتحان، كما يفر من عذاب الله، وإن كان صادقا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه. قال تعالى {وَلَمَّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيِماً} [الأحزاب: 22] . وأما من لم يؤمن، فإنه يمتحن فى الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهى أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، وعقوبتها التى أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة فى هذه الدار وفى البرزخ، وفى القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية. فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وبليته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة. فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر، تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحبة والألم البتة، يوضحه: الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدنى بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلا بد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم. وفى الموافقة ألم وعذاب، إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب، إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم، وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم فى باطلهم أسهل من الألم المترتب على موافقتهم. واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم. فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما، والتوفيق بيد الله. الأصل الحادى عشر: أن البلاء الذى يصيب العبد فى الله لا يخرج عن أربعة أقسام. فإنه إما أن يكون فى نفسه، أو فى ماله، أو فى عرضه أو فى أهله ومن يحب. والذى فى نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف، فهذا مجموع ما يبتلى به العبد فى الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وأشد هذه الأقسام: المصيبة فى النفس. ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد فى الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس فى قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبنى آدم. فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إن فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذْا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلاَ} [الأحزاب: 16] . فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه. ثم قال: {مَنْ ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيا وَلا نَصِيراً} [الأحزاب: 17] . فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءا غير الموت الذى فر منه، فإنه من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل فى سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه. وإذا كان هذا فى مصيبة النفس، فالأمر هكذا فى مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه فى سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره. فيكون له مَهْنَؤهُ وعلى مخلِّفه وزوه. وكذلك من رَفَّه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك فى غير سبيله، ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 قال أبو حازم: "لما يلقى الذى لا يتقى الله معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذى يتقى الله من معالجة التقوى". واعتبر ذلك بحال إبليس. فإنه امتنع من السجود لآدم فرارا أن يخضع له ويذل، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام، أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار. وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يذل ماله فى مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه فى طاعته ومرضاته عقوبة له، كما قال بعض السلف: "من امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات فى حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها فى غير طاعته". فصل فى خاتمة لهذا الباب، هى الغاية المطلوبة، وجميع ما تقدم كالوسيلة إليها. وهى: أن محبة الله سبحانه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه: أصل الدين وأصل أعماله وإرادته، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها. فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهة أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم. وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إبراهيم حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 123] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يوصى أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين". وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قام دين الإسلام الذى هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دين سواه ولا يقبل من أحد دينا غيره. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فَلَنَ يُقْبَلَ مَنْهُ وهو فِى الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . فمحبته تعالى، بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق، من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذى لا يغفر لصاحبه، ولا يقبل معه عمل. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165] . وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبد الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين، ومحبته تبع لمحبة الله، فما الظن بمحبته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، التى تتضمن كمال تعظيمه والذل له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأسست الجنة والنار، وانقسم الناس إلى شقى وسعيد، وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته وإجلاله محبة وإجلال ومخافة. فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه، وهربت منه. والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه. والمخلوق يخُاف ظلمه، وعدوانه، والرب سبحانه إنما يخُاف عدله وقسطه. وكذلك المحبة. فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهى عذاب للمحب ووبال عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له من اللذة. وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم. هذا إلى ما فى محبته من الإعراض عنك، والتجنى عليك، وعدم الوفاء لك، إما لمزاحمة غيرك من المحبين له، وإما لكراهته ومعاداته لك، وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه منك، وإما لغير ذلك من الآفات. وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها. فمحبة نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله "إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى مثل هذا، إنهم لفى عيش طيب". وقال آخر: "إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له". وقال آخر: "مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها". وقال آخر: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف". ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى. فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وجد من هذه الحلاوة فى قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسابه، وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا، وخضوعا ورقا له، وحرية عن رق غيره. فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقا، حتى يظفر بما خلق له، وهيئ له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه. فإن فيه فقرا ذاتيا إلى ربه وإلهه، من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرا ذاتيا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره. وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبودبته له. فَأَصْبَحَ حُرا عِزَّةً وَصِيَانَةً ... عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهْ وَضِيَاؤُهْ وما من مؤمن إلا وفى قلبه محبة لله تعالى. وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يحسن به، لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به. وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه: هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه. ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعا لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره، وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك. ولو سعى فى هذا المطلوب بكل طريق، واستفتح من كل باب، ولم يكن مستعينا بالله، متوكلا عليه، مفتقرا إليه فى حصوله، متيقنا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته، وإعانته، لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه، لم يحصل له مطلوبه. فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فلا يوصِّل إليه سواه، ولا يدل عليه سواه، ولا يعبد إلا بإعانته، ولا يطاع إلا بمشيئته. {لَمِنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وإذا عرف هذا، فالعبد فى حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته، تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت. فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة، لا نسبة بينها بوجه ما، بل هى أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشَرَبُ الْخَمَر حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس، وينهاه عما يُشَعِّثه وينقصه. ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه، مطمئنا بذكره، مشتاقا إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها، ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس، وبيعه الذهب بأعقاب الجزرَ، وبيعه المسك بالرجيع. ولا ريب أن فى النفوس البشرية من هو بهذه المثابة، إنما يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، ينفر من المطالب العالية، واللذات الكاملة ينفر الجُعَل من رائحة الورد. وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود المسك ويتكره بها، لما يناله بها من المضرة. فمن خلق للعمل فى الدباغة لا يجيء منه العمل فى صناعة الطيب، ولا يليق ولا يتأتى منه. والنفس لا تترك محبوبا وإلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب. فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة، ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه، ولوجود المانع تارة، ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة. فالأول: حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به، ما عوض قلبه عن مْيله إلى الذنوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 والثانى: حال من عنده داع وإرادة لها، وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده، فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه، وأشق عليه. فالأول: النفوس المطمئنة إلى ربها. والثانى: لأهل الجهاد والصبر. وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح. قَال اللهُ تعَالَى فى النفس الأولى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى} [الفجر: 27 - 30] . وقال فى الثانية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] . فالنفوس ثلاثة: نفس مطمئنة إلى ربها. وهى أشرف النفوس وأزكاها. ونفس مجاهدة صابرة. ونفس مفتونة بالشهوات والهوى، وهى النفس الشقية، التى حظها الألم والعذاب، والبعد عن الله تعالى والحجاب. فصل فى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كيده للأبوين. ثم لو يقتصر على ذلك، حتى كادّ ذرية نفسه، وذرية آدم. فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس. أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام، كان فى امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته. فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة: أن فى سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه، وهضما لنفسه، إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين، وهو مخلوق من نار. والنار - بزعمه - أشرف من الطين. فالمخلوق منها خير من المخلوق منه، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه، وهضم لمنزلته. فلما قام بقلبه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة. فإنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وميزه بذلك عن الملائكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وأسكنه جنته، فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار، فيتعجب منه، ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا، ولئن سلط على لأعصينه، ولئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما تم خلق آدم عليه السلام فى أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكملت محاسنه الباطنة، بالعلم والحلم والوقار، وتولى ربه سبحانه خلقه بيده، فجاء فى أحسن خلق، وأتم صورة، طوله فى السماء ستون ذراعا، قد ألبس رداء الجمال والحسن، والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجودا له، بأمر ربهم تبارك وتعالى، فشق الحسود قميصه من دبر، واشتعلت فى قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين. وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] . فأعرض عن النص الصريح، وقابله بالرأى الفاسد القبيح. ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذى لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا. فقال: {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى؟ لَئنْ أَخّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذرِّيّتَهُ إلا قَلِيلاً} [الإسراء: 62] . وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرنى، لم كرمته على؟ وغور هذا الاعتراض: أن الذى فعلته ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضى أن يسجد هو لى، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفت الحكمة؟. ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه، وإزرائه به، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] . ثم قرر ذلك بحجته الداحضة، فى تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله. فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصيته الرب المعبود. فجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأى والعقل، فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من حيث أراد عزتها، وآلها كل الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه فى مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ. ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟. قال تعالى {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجدُوا إِلا إِبْلِيس كانَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو؟ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلا} [الكهف: 50] . فصل وأما كيده للأبوين: فقد قص الله [الأعراف: 20- 22] سبحانه علينا قصته معهما، وأنه لم يزل يخدعهما، ويعدهما، ويمنيهما الخلود فى الجنة، حتى حلف لهما بالله جهد يمينه: إنه ناصح لهما، حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحبة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى، وكان ذلك بكيده ومكره الذى جرى به القلم، وسبق به القدر، ورد الله سبحانه كيده عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة مكره عليه. {وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] . وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له فى هذه الحرب، ولم يعلم بكمين جيش: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفَسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ} [الأعراف: 23] . ولا بإقبال دولة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] . وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، من أجل أكلة أكلها. وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض، فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء، لما رماه العدو وبسهم وقع فى غير مقتل فى غير مقتل، فبادر إلى مداواة الجرح، فقام كأن لم يكن به قلبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 بلى العدو بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر، وقدح فى الحكمة، ولم يسأل الإقالة، ولا ندم على الزلة. وبلى الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم، وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأزيل عنه العتب، وغفر له الذنب، وقبل منه المتاب، وفتح له من الرحمة والهداية كلٌّ باب، ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم، ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدى لأحسن الشيم. فصل ثم كاد أحد ولدى آدم، ولم يزل يتلاعب به، حتى قتل أخاه، وأسخط أباه، وعصى مولاه، فسن للذرية قتل النفوس، وقد ثبت فى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْماً إِلا كانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ". فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه، وعقوق والديه، وإسخاط ربه، ونقص عدده، وظلم نفسه، وعرضه لأعظم العقاب، وحرمه حظه من جزيل الثواب. فصل [كيده بالناس من بعد آدم] ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة، والأمة واحدة، والدين واحد، والمعبود واحد. قال تعالى: {وَمَا كانَ النّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِى بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخَتْلِفُونَ} [يونس: 19] وقال تعالى: {كَانَ النّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبْعثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] . قال سعيد عن قتادة "ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وبُعِث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق". وقال ابن عباس "كان الناس أمة واحدة: كانوا على الإسلام كلهم". وهذا هو القول الصحيح فى الآية. وقد روى عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما "كانوا أمة واحدة، كانوا كفارا". وهذا قول الحسن وعطاء، قالا "كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة، وهى الكفر، كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين". وهذا القول ضعيف جدا، وهو منقطع عن ابن عباس، والصحيح عنه خلافه. قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال "كانوا على الإسلام كلهم". وهذا هو الصواب قطعا، فإن قراءة أبى بن كعب "فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". ويشهد لهذه القراءة: قوله تعالى فى سورة يونس: {وَمَا كانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفوا} [يونس: 19] . والمقصود: أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين، كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم فى كتابه، فقال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلا تَذَرُنَّ وَداً، وَلا سُوَاعاً، وَلا يَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْراً} [نوح: 13] . قال البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت". وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال: "كانوا قوما صالحين من بنى آدم، كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم، الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم". وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبى: أخبرنى أبى قال: "أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم فى مغارة فى الجبل الذى أهبط عليه أدم بأرض الهند، ويقال للجبل: نوذ، وهو أخصب جبل فى الأرض". قال هشام: فأخبرنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: "فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم فى المغارة، فيعظمونه، ويترحمون عليه، فقال رجل من بنى قابيل بن آدم: يا بنى قابيل، إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها". قال هشام: وأخبرنى أبى قال: "كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر: قوما صالحين، فماتوا فى شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بنى قابيل: يا قوم، هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم؟ غير أنى لا أقدر أن أجعل فيها أرواحاً، قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم، ونصبها لهم، فكان الرجل يأتى أخاه وعمه وابن عمه، فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى، فعبدوهم، وعظموا أمرهم، واشتد كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم، فكذبوه، فرفعه الله مكانا عليا، ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبى عن أبى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس: - حتى أدرك نوح عليه السلام، فبعثه الله تعالى نبيا، وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة، فدعاهم إلى الله تعالى فى نبوته عشرين ومائة سنة، فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك، ففرغ منها وركبها، وهو ابن ستمائة سنة، وغرق من غرق، ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة فدعاهم إلى الله. وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة: فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها". قلت: ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، وأن نوحا عليه السلام لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأن الله عز وجل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة. قال الكلبى: وكان عمرو بن لحى كاهنا وله رئى من الجن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 عجل المسير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة قال: جير ولا إقامة، قال: ائت ضف جدة، تجد فيها أصناما معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. فأتى نهر جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة، فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات، ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة فدفع إليه ودا، فحمله فكان بوادى القرى بدومة الجندل، وسمى ابنه عبدود، فهو أول من سمى به، وجعل عرف ابنه عامرا الذى يقال له: عامر الأجدار سادنا له. فلم يزل بنوه يسد نونه حتى جاء الله بالإسلام. قال الكلبى: فحدثنى مالك بن حارثة أنه رأى ودا. قال: وكان أبى يبعثنى باللبن إليه، فيقول: اسقه إلهك، فأشربه. قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضى الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عذرة وبنو عامر الأجدار. فقاتلهم، فقتلهم وهدمه وكسره. قال الكلبى: فقلت لمالك بن حارثة: صف لى ودا، حتى كأنى أنظر إليه. قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دُبِّر - أى نقش - عليه حلتان، متزر بحلة مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل، يعنى جعبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قال: ورجع الحديث. قال: وأجابت عمرو بن لحى مضر بن نزار. فدفع إلى رجل من هذيل يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر: سواعا، فكان بأرض يقال لها: وهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر. وفى ذلك يقول رجل من العرب: تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتهِمْ عُكُوفا ... كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ تَظَلُّ جَنَابَهُ صَرْعَى لَدَيْهِ ... عَتَائِرَ مِنْ ذَخَائِرِ كُلّ رَاعِ وأجابته مذحج، فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادى يغوث. وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها. وأجابته همدان. فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان: يعوق. فكان بقرية يقال لها: خيوان. تعبده همدان ومن والاها من اليمن. وأجابت حمير: فدفع إلى رجل من ذى رعين. يقال له: معد يكرب نسرا. فكان بموضع من أرض سبأ، يقال له: بلخع تعبده حمير ومن والاها. فلم يزل يعبدونه حتى هوّدهم ذو نواس. فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهدمها وكسرها. قلت: هذا شرح ما ذكره البخارى فى صحيحه عن ابن عباس قال "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب تعبد. أما ود، فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث، فكان لمراد، ثم لبنى غطيف، بالحرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر، فكانت لحمير، لآل ذى الكلاع، قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح" وذكر ما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِى يَجُرُّ قُصْبَهُ فى النّارِ. وَكانَ أَوَّلَ مَنَ سَيَّبَ السَّوَائِبَ". وفى لفظ "وَغَيَّرَ دِينَ إبراهيم". وقال بن إسحق: حدثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لأكثم ابن الجون الخزاعى "يا أكثم رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك، فقال أكثم: عسى أن يضرنى شبهه يا رسول الله، قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام". قال ابن هشام: وحدثنى بعض أهل العلم "أن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام. فقال لهم: ما هذه الأصنام التى تعبدون؟ فقالوا: نستمطر بها فتمطرنا. ونستنصرها فتنصرنا. فقال: أفلا تعطونى منها صنما، فأسير به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل. فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه". قال هشام: وحدثنى أبى وغيره "أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده، فكثروا، حتى ملؤوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا فى البلاد والتماس المعاش، فكان الذى حملهم على عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم، وصبابة بمكة. فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت، حبا للبيت وصبابة به، وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل، يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة. وإهداء البدن مع إدخالهم فيه ما ليس منه وكانت نزار تقول فى إهلالها: لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكْ ... لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكْ إِلا شَرِيكٌ هُوَ لَكْ ... تَمْلكُهُ وَمَا مَلَكْ ويوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلا وَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . أى ما يوحدوننى بمعرفة حقى إلا جعلوا معى شريكا من خلقى. وكانت تلبية عك، إذا خرجوا حجاجا، قدموا أمامهم غلامين أسودين. فكانا أمام ركبهم فيقولان: نَحْنُ غُرَابَا عَكٍّ فتقول عك من بعدهما: عَك إِلَيْكَ عَانِيَهْ ... عِبَادُكَ الْيَمَانِيَهْ وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت فى المواقف، نفرت فى النفر الأول، ولم تقم إلى آخر التشريق. وكان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة، وحمى الحامى: عمرو بن ربيعة. وهو لحى بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأزدى - وهو أبو خزاعة. وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحارث. ويقال قمعة بنت مضاض وكان الحرث الذى يلى أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحى نازعه فى الولاية، وقاتل جرهما ببنى إسماعيل، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة. وتولى حجابة البيت بعدهم ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها، فاستحم فيها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقى بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. واتخذت العرب الأصنام، فكان أقدمها مناة وقد كانت العرب تسمى: عبد مناة وزيد مناة وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعها تعظمه. وكانت الأوس والخرزج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويهدون له وكان أولاد معد على بقية من دين إسماعيل. وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج. قال هشام: وحدثنا رجل من قريش عن أبى عبيدة بن عبد الله بن أبى عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال: "كانت الأوس والخزرج ومن جاورهم من عرب أهل يثرب، وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها. ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تمام إلا بذلك". وكانت مناة لهذيل وخزاعة. فبعث رسول الله عليه السلام عليا فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف. وهى أحدث من مناة. وكانت صخرة مربعة وكان يهودى يلت عندها السويق وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك. وكانوا قد بنوا عليها. وكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمى زيد اللات. وتيم اللات. وكانت فى موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. فلم تزل كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 حتى أسلمت ثقيف. فبعث رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى. وهى أحدث من اللات ومناة، اتخذها ظالم بن أسعد. وكانت بواد من نخلة [الشامية. يقال له: حُرَاض، بإزاء الغُمَير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة. وذلك] ، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا. وكانوا يسمعون منه الصوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 قال هشام: وحدثنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة. فلما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فقال: ائت بطن نخلة. فإنك ستجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى. فأتاها فعضدها. فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية. فأتاها فعضدها. ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها [دبَيَّة ابن حرمى الشيبانى ثم السلمى وكان] سادنها [فلما نظر إلى خالد] قال: أَعُزَّاء شُدّى شَدّةً لا تُكَذِّبى ... عَلَى خَالد، أَلْقى الخمارَ وَشَمِّرِي فَإِنّكِ إلا تَقْتُلِى الْيَوْمَ خَالِدا ... تَبُوئى بِذُل عَاجِلاً وَتَنَصَّرِي فقال خالد: يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ، لا سُبْحَانَكِ ... إنِّى رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكِ ثم ضربها، ففلق رأسها. فإذا هى حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل السادن ثم أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب [أما إنها لن تعبد بعد اليوم] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 قال هشام: وكانت لقريش أصنام فى جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم: هبل. وكان - فيما بلغنى - من عقيق أحمر، على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك. فجعلوا له يدا من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر [وكان يقال له: هبل خزيمة] . وكان فى جوف الكعبة. وكان قدامه [سبعة] قداح، مكتوب فى أحدها: صريح، وفى الآخر: ملصق. فإذا شكوا فى مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوه. وإن خرج "ملصق" دفعوه [وقدح على الميت، وقدح على النكاح. وثلاثة لم تفسر، لى علام كانت؟] . وكانوا إذا اختصموا فى أمر، أو أرادوا سفرا أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده [فما خرج عملوا به وانتهوا إليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله والد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم] وهو الذى قال له أبو سفيان يوم أحد أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "قولوا له: الله أعلى وأجل". وكان لهم إساف ونائلة. قال هشام: فحدث الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس "أن إسافا رجل من جرهم يقال له: إساف بن يعلى، ونائله بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها فى أرض اليمن فأقبلوا حجاجا، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها فى البيت، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب". قال هشام: لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها. وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر فى موضع زمزم، فنقلت قريش الذى كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر، فكانوا يذبحون عندهما. وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة، وكان مروة بيضاء، منقوشة، عليها كهيئة التاج، وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة [وكان سدنتها بنو أمامة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 باهلة بن أعصر] وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجيلة، [وأزد السراة ومن قلوبهم من بطون العرب من هوازن] فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لجرير: "ألا تَكْفِينِى ذَا الْخَلَصَة؟ ". فسار إليه بأحمس، فقاتلته خثعم وباهلة دونه، فظفر بهم. وهدم بيت ذى الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق. وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة. وكان لدوس صنم يقال له "ذو الكفين" فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه. وكان لبنى الحارث بن يشكر [بن مبشر من الأزد] صنم يقال له "ذو الشرى". وكان لقضاعة ولحم وجذام، وعاملة وغطفان، صنم فى مشارف الشام يقال له "الأقيصر". وكان لمزينة صنم يقال له "نُهم" وبه كانت تسمى عبد نهم. [وكان لأزد السراة صنم يقال له "عائم"] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وكان لعنزة صنم يقال له "سعير". وكان لطيء صنم يقال له "الفلس". وكان لأهل كل دار من مكة صنم فى دارهم، كان يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع فى منزله: أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله: أن يتمسح به. قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له: عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم، وحروثهم، قسما بينه وبين الله، بزعمهم، فما دخل فى حق الله من حق عم أنس رده عليه، وما دخل فى الحق الصنم من حق الله الذى سموا له تركوه له وفيهم أنزل الله سبحانه: {وَجَعَلُوا للهِ مَّمَا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُرَكَائِنَا، فَمَا كَانَ لِشُرَكَائْهِمْ فَلاَ يصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصلُ إلَى شُرَكَائهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 قال ابن إسحق: وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: "سعد" صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بنى ملكان بإبل مؤبلة، ليقفها عليه ابتغاء بركته - فيما يزعم - فلما رأته الإبل، [وكانت مرعية لا تركب] وكان يهراق عليه الدماء، نفرت منه فذهب فى كل وجه، فغضب ربها، فأخذ حجرا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك نفرت عنى إبلى، ثم خرج فى طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له، قال: أَيتنا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ، فَلاَ نَحْنُ مِنْ سَعْدِ وَهَلْ سَعْدُ إِلا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ ... مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو لِغَى وَلا رُشْدِ؟ قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم. وكان قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له مناة [كما كان الأشراف يصنعون. يتخذه إلها يعظمه ويظهره] فلما أسلم فتيان بنى سلمة معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو، وغيرهم ممن أسلم، وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو، قال: ويلكم، من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره، وطيبه، ثم قال: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا أمسى ونام غدوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ففعلوا بصنمهم مثل ذلك، فيغدو فيلتمسه، فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه، فعلقه عليه، ثم قال له: والله إنى لا أعلم من يصنع بك ما ترى. فإن كان فيك خير فامتنع: فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام غدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقربوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو، فلم يجده فى مكانه الذى كان به فخرج يتبعه، حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة، ويقول: وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلها لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فى قَرَنْ أُفٍّ لَمِلْقَاكَ إِلهَا مُسْتَدَنْ ... الآنَ فَتِّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ الْحَمدُ للهِ الْعِلِّى ذِى المِنَنْ ... الوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدَّيَنْ هُوَ الّذِى أَنْقَذَنى مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فى ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ قال ابن إسحق: واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به، وإذا قدم من سفرٍ تمسح به، فيكون آخر عهدِه به، وأول عهده به، فلما بعث الله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتوحيد قالت قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِدًا؟ إِنَّ هذَا لَشَيءْ عُجَابٌ} [ص: 5] . وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب، وتهدى لها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وكان الرجل إذا سافر، فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رباً، وجعل الثلاثة أثافى القدرة، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك. قال حنبل: حدثنا حسن بن الربيع قال: حدثنا مهدى بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العُطارِدى يقول "لما بُعث النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسمعنا به، لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبد الحجر فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقى ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به". وقال أبو رجاء أيضا "كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه، ونحلب عليه، فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده، زمانا، ثم نلقيه". وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبى زينب قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 سمعت أبا عثمان النهدى يقول "كنا فى الجاهلية نعيد حجرا، فسمعنا مناديا ينادى: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك، فالتمسوا ربا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادى: إنا قد وجدنا ربكم، أو شبهه، فإذا حجر، فنحرنا عليه الجزر". وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال حدثنى الحجاج بن صفوان عن ابن أبى حسين عن شهر بن حوشب عن عمر بن عبسة قال "كنت امرأ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحى ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم، فيأتى بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه، ويأخذ غيره". ولما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسية قوسه فى وجوهها، وعيونها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلَ إن الباطلَ كَانَ زَهُوقاَ} [الإسراء: 81] . وهى تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها، فأخرجت من المسجد وحرقت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فصل وتلاعب الشيطان بالمشركين فى عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم. فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا، وقال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وأمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل. فأبى المشركون إلا خلافه فى ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين. وأما خواصهم فإنهم اتخذوها - بزعمهم - على صور الكواكب المؤثرة فى العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتا وسدنة، وحجابا، وحجا وقربانا، ولم يزل هذا فى الدنيا قديما وحديثا. فمنها: بيت على رأس جبل بأصبهان. كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس، وجعله بيت نار. ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء. بناه بعض المشركين على اسم الزهرة، فخربه عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه. ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانه، فخربه المعتصم. وأشد الأمم فى هذا النوع من الشرك: الهند. قال يحيى بن بشر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن، ووضع لهم أصناما، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند. وجعل فيه صنمهم الأعظم. وزعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أنه بصورة الهيولى الأكبر. وفتحت هذه المدينة فى أيام الحجاج. واسمها "الملتان" فأراد المسلمون قلع الصنم. فقيل: إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من المال، فأمر عبد الملك بن مروان بتركه، فالهند تحج إليه من نحو ألفى فرسخ ولا بد لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه، من مائةٍ إلى عشرة آلاف، لا يكون أقل من هذا ولا أكثر. فيلقيه فى صندوق هناك عظيم، ويطوف بالصنم، فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قسم ذلك المال، فثلثه للمسلمين، وثلثه لعمارة المدينة وحصونها، وثلثه لسدنة الصنم ومصالحه. وأصل هذا المذهب من مشركى الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم فى بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه. وهو مذهب قديم فى العالم، وأهله طوائف شتى. فمنهم عباد الشمس، زعموا أنها ملك من الملائكة، لها نفس وعقل، وهى أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم، منها، من عندهم ملك الفلك، فيستحق التعظيم والسجود، والدعاء. ومن شريعتهم فى عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة، من القرى والضياع، وله سدنة وقوام وحجبة، يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات فى اليوم. ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلون، ويدعون ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان فى هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تحرى الصلاة فى هذه الأوقات، قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا، وسدا لذريعة الشرك، وعبادة الأصنام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فصل وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلى. ومن شريعة عباده: أنهم اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره أربعة، ويبد الصنم جوهرة، ويعبدونه، ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا فى الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل، ومتعبدات، لكل كوكب منها هيكل يخصه، وصنم يخصه، وعبادة تخصه. ومتى أردت الوقوف على هذا، فانظر فى كتاب "السر المكتوم فى مخاطبة النجوم" المتسوب إلى ابن خطيب الرَّى تعرف سر عبادة الأصنام، وكيفية تلك العبادة وشرائطها. وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص، ينظرون إليه، ويعكفون عليه. ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما، زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان الأصل على شلك معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته، ليكون نائبا، وقائما مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده. ومن أسباب عبادتها أيضاً: أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام، وبعضهم يقولون: إنها الملائكة وبعضهم يقول: إنها العقول المجردة. وبعضهم يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 هى روحانيات الأجرام العلوية. وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها، ولا يسأل عما وراء ذلك. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها فى الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها. والكتب المصنفة فى شرائع عبادتها طبق ذلك كله الأرض. قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُن أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36] . والأمم التى أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام، كما قص الله تعالى ذلك عنهم فى القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين. ويكفى فى معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَن بَعْثَ النَّارِ مِنْ كلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتسعة وتَسْعُونَ" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورَا} [الإسراء: 89] وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فى الأَرْضِ يِضُلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116] وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] . ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر عليها، وتحمل أنواع المكاره فى نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التى فتنت بعبادتها، وما حل بهم من عاجل العقوبات، ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها. ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور، وفتنة الفجور بها. والعاشق لا يثنيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 عن مراده خشية عقوبة فى الدنيا، ولا فى الآخرة، وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك: من الآلام والعقوبات، والضرب، والحبس، والنكال، والفقر، غير ما أعد الله له فى الآخرة وفى البرزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته. فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام أشد، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألها للصور التى يريد منها الفاحشة بكثير. والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية، من أولها إلى آخرها، مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلاث، ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع وملائكته، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل لهم عملا. وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف. وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء، وأموالهم، ونساءهم وأبناءهم بتطهير الأرض منهم، حيث وجدوا، وذمهم بسائر أنواع الذم، وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء فى شق ورسل الله تعالى كلهم فى شق. فصل ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو فى المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا التشبيه الواقع فى الأمم، الذى أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه ينفى، وينهى، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له، وشبها له، لا أن يشبه هو بغيره، إذ ليس فى الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف فى طائفة من طائفة بنى آدم، وإنما الأول هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 المعروف فى طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا: {اصْبِرُوا عَلَى آلَهِتِكُمْ} [ص: 6] . وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة، التى لا تنبغى إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه، حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] وإن {يَدُ اللهِ مَغْلُولَة} [المائدة: 64] . وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم. والذين جعلوا له ولدا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا، ثم يشبهون به الخالق، بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا، لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها، وهو مشبه به. ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من إبطال الباطل، لكونها فى نفسها نقائص وعيوبا، ليس جهة البطلان فى اتصافه بها: هو التشبيه والتمثيل، فلا يتوقف فى نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه، كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل، حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب عنه، وإنما تنفى عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل. وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات: نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه، بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا يماثل فيه خلقه، كما تثبتون أنتم له علما وقدرة، وحياة وسمعا، وبصرا، لا يماثل فيها خلقه. فقولنا فى هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء - لم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاء لهم فى المناظرة، فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ننفى ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه، فقال أولئك: وهكذا نقول نحن. ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية، لا تفيد اليقين، فليس عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب. وأهل السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهر فى العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء. ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالاضطرار أن الرسل جاءوا به، ووصفوا الله سبحانه به، ودلت عليه العقول والفطر والبراهين، فنفوه، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه، فلم يثبت لهم قدم البتة، فيما يثبتونه له سبحانه، وينفونه عنه. وجاءوا إلى ما علم بالاضطرار والفطر والعقول، وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس فى أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفى به التشبيه. وليس فى الخذلان فوق هذا، بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه، ونفيها أظهر وأبين فى العقول من نفى التشبيه، فلا يجوز أن يثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه. والمقصود: أنه لم يكن فى الأمم من مثله بخلقه، وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به، وإنما كان التمثيل والتشبيه فى الأمم، حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به فى الإلهية، وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، صرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذى لم تعرف أمة من الأمم عليه، وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال. ولهذا موضع مهم نافع جدا، به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه، وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه، وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه. والقرآن مملوء من إبطال أن يكون فى المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذى قصد بالقرآن، إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره. قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] . فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق. فالند: الشبه. يقال فلان نِد فلان، ونَدِيدُه أى مثله وشبهه، ومنه قول حسان بن ثابت: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ؟ ... فَشَرُّ كُمَا لِخَيْرِ كُمَا الْفِداءُ ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدَّا" وقال جرير: أَتَيماً تَجْعَلُونَ إِلَى نِدا؟ ... وَمَا تَيْمٌ لِذِى حسَبٍ نَدِيدُ قال ابن مسعود، وابن عباس: "لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال، تطيعونهم فى معصية الله". وقال ابن زيد: "الأنداد الآلهة التى جعلوها معه". وقال الزجاج: "أى لا تجعلوا لله أمثالا". فالذى أنكره الله سبحانه عليهم: هو تشبيه المخلوق به، حتى جعلوه ندا لله تعالى، يعبدونه كما يعبدون الله، وكذلك قوله فى الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] فأنكر هذا التشبيه عليهم، وهو أصل عبادة الأصنام. ونظيرُ هذا قولهُ سبحانه: {الْحَمْدُ للهِ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلْونَ} [الأنعام: 1] . أى يعدلون به غيره، فيجعلون له من خلقه عَدلا وشبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 قال ابن عباس: يريد عدلوا بى من خلقى الحجارة والأصنام، بعد أن أقروا بنعمتى وربوبيتى. وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر فى هذه الآية. وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا. والعدل التسوية، يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به، ومعنى يعدلون به: يشركون به غيره. قال مجاهد قال الأحمر: يقال: عدل الكافر بربه عدلا، وعدولا: إذا سوى به غيره فعبده. وقال الكسائى: عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به. ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون فى النار لآلهتهم: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98] . فاعترفوا أنهم كانوا فى أعظم الضلال وأبينه، إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به فى العبادة والتعظيم. وقال تعالى: {رَبِّ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِر لِعِبَادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً} [مريم: 65] . قال ابن عباس: "شبها ومثلا، وهو من يساميه". وذلك نفى عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق، ومماثلا له، بحيث يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه: هل تعلمه سميا، أو مشبها لغيره، فإن هذا لم يقله أحد. بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له، مساميا، وندا وعدلا، فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل. وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 73 - 74] . فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد، ولم يكونوا يفعلونه. فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء فى فطر الناس كلهم. ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه. فيشبهونهم بالخالق، والله تعالى أجل فى صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 فالذى يشبهه بغيره، إن قصد تعظيمه، لم يكن فى هذا تعظيم، لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه نسبة وشبه فى العظمة والجلالة، وعاقل لا يفعل هذا. وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين. ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل، لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفى تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين. فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا، وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا، عكس ما يثبته القرآن، وجاء به من كل وجه. ومن هذا قوله تعالى: {وَلمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواَ أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوا لأحد، فينفى عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه. وسر ذلك: أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه فى شيء من صفاته وخصائصه. وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق لا يماثل المخلوق، ولا يشابهه، ولا هو ندّ له ولا كفؤ، فليس فيه مدح له. فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك، لم يعد هذا مدحا، ولا ثناء عليه، ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا، ولا شبيها من رعيته، تعظمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس فى رعيته من يساميه. ولا يماثله، ولا يكافئه: كان هذا غاية المدح. وكذلك قول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11] . إنما قصد به نفى أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. ولم يقصد به نفى صفات كماله، وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لرسله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم، كما ترى الشمس والقمر فى الصحو. فإنه سبحانه إنما ذكر هذا فى سياق رده على المشركين، الذين اتخذوا من دونه أولياء. يوالونهم من دونه فقال تعالى: {وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دونه أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فى السَّعِيرِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فى رَحْمِتهِ وَالظّالُمِونَ مَالَهُمْ مِنْ وَلِى وَلا نَصِيرٍ أَم اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِى وَهُوَ يُحْيِى الَمْوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير وَما اخْتَلْفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍْ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنيبُ فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤكُمْ فِيهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 6 - 11] . فتأمل كيف ذكر هذا النفى تقريرا للتوحيد، وإبطالا لما عليه أهل الشرك: من تشبيه آلهتهم، وأوليائهم به، حتى عبدوهم معه. فحرفها المحرفون وجعلوها تُرْسا لهم فى نفى صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله. وهذا التشبيه الذى أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا: هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام: ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله، أو يصلى إلى قبر، أو يتخذ عليه مسجدا، أو يعلق عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 قنديلا أو يقول القائل: ما شاء الله وشاء فلان. ونحو ذلك، حذرا من هذا التشبيه الذى هو أصل الشرك. وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد. فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فى العبادة والتعظيم والخضوع، والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله، فى قولهم: ليس لى إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك. وهذا من الله ومنك. وأنا فى حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت. وهذا لله ولك. وأمثالك ذلك. فهؤلاء هم المشبهة حقا، لا أهل التوحيد، المثبتون لله ما أثبته لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه، الذين لا يجعلون له ندا من خلقه، ولا عدلا، ولا كفؤا، ولا سميا، وليس لهم من دونه ولى ولا شفيع. فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة فى الأرض بعبادة الأصنام، وتبين له سر القرآن فى الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة، ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال. كما هو الغالب عليهم. فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله، وبين تشبيه خلقه به. فصل ومن كيده وتلاعبه: ما تلاعب بعباد النار، حتى اتخذوها إلها معبودة. وقد قيل: إن هذا كان من عهد قابيل. كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير: "أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام. أتاه إبليس. فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدمها ويعبدها، فانصب أنت أيضاً نارا تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها". وسرى هذا المذهب فى المجوس، فبنوا لها بيوتا كثيرة، واتخذوا لها الوقوف والسدنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 والحجاب، فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة، فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس، وآخر ببخارى. واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان، واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى، واتخذت لها بيوت كثيرة. وعباد النار يفضلونها على التراب، ويعظمونها، ويصوبون رأى إبليس، وقد رمى بشار بن برد بهذا المذهب، لقوله فى قصيدته: الأَرْضُ سَافِلَة سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ ... وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كانَتِ النَّارُ ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرا، وأعظمها جرما، وأوسعها مكانا، وأشرفها جوهراً، وألطفها جسماً، ولا كون فى العالم إلا بها، ولا نمو ولا انعقاد، إلا بممازجتها. ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أخدودا مربعا فى الأرض ويطوفون به. وهم أصناف مختلفة. فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس. وطائفة أخرى منهم: تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها، وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم. ولهم سنة معروفة فى تقريب نفوسهم، وإلقائهم فيها، فيعمد الرجل الذى يريد أن يفعل ذلك بنفسه، أو بولده، أو حبيبه. فيجمله ويلبسه أحسن اللباس، وأفخر الحلى. ويركبه أعلى المراكب وحول المعازف والطبول والبوقات، فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه. حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهى تأجج طرح نفسه فيها، فضج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له، وغبطته على ما فعل. فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان فى صورته وشكله وهيأته، لا ينكرون منه شيئا، فيأمرهم بأمره، ويوصيهم بما يوصيهم به، ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين. ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار، وأنه لم يتألم بمس النار له، فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله. ومنهم زهاد وعباد، يجلسون حول النار صائمين، عاكفين عليها. ومن سنتهم: الحث على الأخلاق الجميلة، كالصدق، والوفاء، وأداء الأمانة، والعفة، والعدل، وترك أضدادها. ولهؤلاء شرائع فى عبادتها، ونواميس وأوضاع لا يخلون بها. فصل ومن كيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفة أخرى تعبد الماء من دون الله، وتسمى الحلبانية. وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كل ولادة ونمو ونشوء، وطهارة وعمارة. وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء، فكان حقه أن يعبد. ومن شريعتهم فى عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه، حتى يصير إلى وسطه، فيقيم هناك ساعتين أو أكثر، بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين. فيقطعها صغارا، فيلقيها فيه شيئا فشيئا، وهو يسبحه ويمجده. فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه، ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسد، ثم يسجد وينصرف. فصل ومن تلاعبه: تلاعبه بعباد الحيوانات. فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الجن، كما قال سبحانه: {وَيوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهؤلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قَالوا سُبحَانَّكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40- 41] . وقال تعالى: {ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60- 61] . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ آُسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلغْنَا أجَلَنَا الّذِى أَجَّلْتَ لَناَ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِديِنَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128] . يعنى قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن وغيرهم "أضللتم منهم كثيرا" فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] . يعنون استمتاع كل نوع بالنوع الآخر. فاستمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به: من الكفر، والفسوق، والعصيان. فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس. فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مُنَاهُم. واستمتاع الإنس بالجن: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى، والشرك به بكل ما يقدرون عليه: من التحسين، والتزيين، والدعاء، وقضاء كثير من حوائجهم، واستخدامهم بالسحر والعزائم، وغيرها. فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم: من الشرك، والفواحش، والفجور، وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم: من التأثيرات، والإخبار ببعض المغيبات. فتمتع كل من الفريقين بالآخر. وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطانى. فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن، وإنما هم من أولياء الشيطان. أطاعوه فى الإشراك، ومعصية الله، والخروج عما بعث به رسله، وأنزل به كتبه. فأطاعهم فى أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات، واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول، وما جاء به، ولم يدعها لأقوال المختلفين، وآراء المتحيرين وشطحات المارقين، وترهات المتصوفين. والبصير الذى نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الحلق، وكان ناقدا، لا يروج عليه الزغل، تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية، وهى منطبقة عليهم. فالفاسق يستمتع بالشيطان، بإعانته له على أسباب فسوقه، والشيطان يستمتع به فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك، ويفرح به منه. والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له. ويستمتع هو بالشيطان فى قضاء حوائجه، وإعانته له. ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك، وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر. ثم قالوا {وَبلَغْنَا أَجَلَنَا الّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] . وهو يتناول أجل الموت، وأجل البعث. فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] . وكأن هذا - والله أعلم - إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة. فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله. فلم يستمر ولم يدم، فبلغ الأمر الذى كان أجله وانتهى إلى غايته. ولكل شيء آخر، فقال تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: 128] . فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله، فقد بقى زمن العقوبة، فلا يتوهم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك، وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله، وانتهت بانتهائه. والمقصود: أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه، واتخذوه وذريته أولياء من دون الله. فصل ومن تلاعبه بهم: أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم. ولم تكن عبادتهم فى الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين. فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْملائِكَةِ أَهؤلاء إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أكْثَرُهُمْ بهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41] . وقال تعالى: {وَيوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤْلاءِ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنَ دُونِكَ مِن أولياء، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكُرَ وَكانُوا قَوْماً بُورًا فَقدْ كَذَّبُوكُمْ بَما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاَ وَلا نَصْراً. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 17- 19] . وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان. فقوله سبحانه {وَيوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ} [الفرقان: 17] . عام فى كل عابد ومن عبده من دون الله. وأما قوله {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتمْ عِبَادِى هؤُلاءِ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17] . فقال مجاهد، فيما رواه ورقاء عن ابن أبى نجيح - عنه قال: "هذا خطاب لعيسى وعزير، والملائكة" وروى عنه ابن جريج نحوه. وأما عكرمة والضحاك والكلبى، فقالوا: هو عام فى الأوثان وعبدتها. ثم يأذن سبحانه لها فى الكلام، فيقول: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادى هؤُلاءِ} [الفرقان: 17] . قال مقاتل: يقول سبحانه: "أأنتم أمرتموهم بعبادتكم، أم هم ضلوا السبيل؟ أى أم هم أخطأوا الطريق؟ فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] . وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزير، ومن عبدهم المشركون من أولياء الله. ولهذا قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله [تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون] . {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أن نتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] . نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم. وقال ابن عباس ومقاتل "نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وفيها قراءتان: أشهرهما - نتخذ - بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل وهى قراءة السبعة. والثانية - نتخذ - بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول. وهى قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع. وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال. فأما قراءة الجمهور، فإن الله سبحانه إنما سألهم: هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دونى من أولياء؟ حتى يقولوا: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] . وإنما سألهم هل أمرتم عبادى هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قبل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا، كما قال فى الآية الأخرى عنهم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 13] . فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول. وقالوا: الجواب يصح على ذلك، ويطابق. إذ المعنى: ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة، فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا، ولا يحسن منا؟. ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر، وهو قوله: {مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] . فإن زيادة ((من)) لا يحسن إلا مع قصد العموم، كما تقول: ما قام من رجل. وما ضربت من رجل. فأما إذا كان النفى واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة ((من فيه، وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك. فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم، ولا يليق بهم أن يعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الواجب على هذا: أن تقرأ: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ أو مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ} . فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه: أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغى لنا أن نعبد غيرك، ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا؟ أى إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 عبادتنا؟ أى إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن يعبدنا؟ والمعنى: أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة الله تعالى، فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم؟ وهذا جواب الفراء. وقال الجرجانى: هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر، وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه، وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد، يدل على هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلمَلاَئِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكَمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهمْ} [سبأ: 40 - 41] . فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود. ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغى لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا. وهذا بسط لقول ابن عباس فى هذه الآية. قال: يقولون: ما توليناهم، ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتمل أن يكون قولهم: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] . أن يريدوا معشر العبيد، لا أنفسهم: أى نحن وهم عبيدك، ولا ينبغى لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم. كما يقول الرجل لمن أتى منكرا: ما كان ينبغى لى أن أفعل مثل هذا: أى أنت مثلى عبد محاسب، فإذا لم يحسن من مثلى أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضاً. قال: ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نُتَخذَ بضم النون. وهذه القراءة أقرب فى التأويل. لكن قال الزّجَّاج: هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحد ولياً، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولى لأن "من" إنما دخلت لأنها تنفى واحدا من معنى جميع، تقول: ما من أحد قائما، وما من رجل محبا لما يضره، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره. قال: ولا وجه عندنا لهذا البتة، ولو جاز هذا لجاز فى: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزَينَ} [الحاقة: 47] . ما أحد عنه من حاجزين. فلو لم تدخل "من" لصحت هذه القراءة. قال صاحب النظم: الِعلة فى سقوط هذه القراءة: أن "من" لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه: فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول "من" كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 {مَا كانَ لله أنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] . فقوله "من ولد" لا مفعول دونه سواه، ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد، لم يحسن فيه دخول "من" لأن فعل الاتخاذ مشغول بأحد. وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى، وأجروها على قواعد العربية. قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب فى فصاحته. فقرأ بها زيد بن ثابت، وأبو الدرداء وأبو جعفر، ومجاهد، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن على، وأبو رجاء، والحسن، وحفص بن حُميد، ومحمد بن على، على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح ابن جنى. ثم وجهها بأن يكون "من أولياء" فى موضع الحال: أى ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت "من" زائدة لمكان النفى. كقولك اتخذت زيدا وكيلا، فإذا نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم. وهذا فى المفعول فيه. قلت: يعنى أن زيادتها مع الحال، كزيادتها مع المفعول. ونظير ذلك أن تقول: ما ينبغى لى أن أخدمك متثاقلا، فإذا أكدت، قلت: من متثاقل. فإن قيل: فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى، فأيهما أحسن؟ قلت: قراءة الجمهور أحسن وأبلغ فى المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضم: يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء، وعلى قراءة الجمهور: يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم، ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه، بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا، فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا، فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟ وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر، فتأمله. والمقصود: أنه على القراءتين: فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه. وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر. وقد يقال: إن الله سبحانه أنطقها بذلك، تكذيبا لهم، وردا عليهم، وبراءة منهم كقوله: {إِذْ تَبَرَّاَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] . وفى الآية الأخرى {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانَا يَعُبُدُونَ} [القصص: 63] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى: بقولهم: {وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكُرَ وَكانْوا قَوْماً بُورًا} [الفرقان: 18] . قال ابن عباس: أطلت لهم العمر، وأفضلت عليهم ووسعت لهم فى الرزق. وقال الفراء: ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد، حتى نسوا ذكرك، وكانوا قوما بورا: أى هلكى فاسدين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان. والبوار: الهلاك والفساد، يقال: بارت السلعة، وبارت المرأة، إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها. قال قتادة: والله ما نسى قوم ذكر الله عز وجل إلا باروا وفسدوا. والمعنى: ما أضللناهم ولكنهم ضلوا. قال الله تعالى {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بَما تَقُولْونَ} [الفرقان: 19] . أى كذبكم المعبودون بقولكم فيهم: إنهم آلهة، وإنهم شركاء، أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم، ودعوكم إليها. وقيل: الخطاب للمؤمنين فى الدنيا: أى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه، مما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الله من التوحيد والإيمان والأول أظهر، وعليه يدل السياق. ومن قرأها - آخر الحروف - فالمعنى، فقد كذبوكم بقولهم، ثم قال: {فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً} [الفرقان: 19] . إخبارا عن حالهم يومئذ، وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصرها من الله. قال ابن زيد: ينادى مناد يوم القيامة، حين يجمع الخلائق: يقول: من عبد من دون الله، لا ينصر اليوم من عبده، والعابد لا ينصر إلهه: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] . فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن، فوا سوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء. {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إٍلَيْكُمْ يَا بَنِى آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشّيْطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جبِلا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 59 - 62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 فصل ومن تلاعبه وكيده: تلاعبه بالثنوية. وهم طائفة قالوا: الصانع اثنان، ففاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين، مدركين، سميعين، بصيرين، وهما مختلفان فى النفس والصورة، متضادان فى الفعل والتدبير. فالنور فاضل حسن نقى، طيب الريح حسن المنظر، ونفسه خيرة، كريمة، حكيمة، نفاعة، منها الخيرات والمسرات، والصلاح. وليس فيها شيء من الضرر، ولا من الشر. والظلمة على ضد ذلك: من الكدر، والنقص، ونتن الريح، وقبح المنظر، ونفسها نفس شريرة، بخيلة، سفيهة. منتنة، مضرة، منها الشر والفساد. ثم اختلفوا، فقالت منهم: إن النور لم يزل فوق الظلمة. وقالت فرقة: بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر. وقالت فرقة: النور لم يزل مرتفعا فى ناحية الشمال، والظلمة منحطة فى الجنوب، ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه. وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان، وخامس هو الروح. فأبدات النور الأربعة: النار، والنور، والريح، والماء، وروحه: النسيم، ولم يزل يتحرك فى هذه الأبدان. وأبدان الظلمة الأربعة: الحريق، والظلمة، والسموم، والضباب، وروحها: الدخان. وسموا أبدان النور ملائكة، سموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت. وبعضهم يقول: الظلمة تتولد شياطين، والنور يتولد ملائكة، والنور لا يقدر على الشر، ولا يجئ منه، والظلمة لا تقدر على الخير، ولا يجئ منها. ولهم مذاهب سخيفة جدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وفرض عليهم صوم سبع العمر، وأن لا يؤذى أحدهم ذا روح البتة. ومن شريعتهم: أن لا يدخروا إلا قوت يوم، وتجنب الكذب، والبخل، والسحر وعبادة الأوثان، والزنا والسرقة. واختلفوا: هل الظلمة قديمة أو حادثة؟ فقالت فرقة منهم: هى قديمة لم تزل مع النور. وقالت فرقة: بل النور هو القديم، ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة. فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل. أحدهما: أن شر الموجودات وأخبثها، وأردأها: كفؤ لخير الموجودات، وضد له ومناوئ له يعارضه، ويضاده، ويناقضه دائما. ولا يستطيع دفعه. وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام، الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى. فإنهم جعلوها مملوكة له، مربوبة مخلوقة، كما كانوا يقولون فى تلبيتهم. لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكَ ... لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكْ إلاّ شَرِيكٌ هُوَ لَكَ ... تَمْلِكهُ وَمَا مَلَكْ والأصل الثانى: أنهم نزهوا النور أن يصدر منه شر. ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين، وربين، وخالقين. فجمعوا بين الكفر بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، ورسله، وأنبيائه، وملائكته، وشرائعه، وأشركوا به أعظم الشرك. وحكى أرباب المقالات عنهم: أن قوما منهم يقال لهم: الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة، وكانت تحاكى جسم النور - الذى هو البارى عنهم - زمانا فتأذى بها. فلما طال ذلك عليه قصد تنميتها عنه فتوحل فيها واختلط بها، فتركب من بينهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 هذا العالم المشتمل على النور والظلمة، فما كان من جهة الصلاح فمن النور، وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة. قال: وهؤلاء يغتالون الناس، ويخقونهم، ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك، وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم. وقال بعضهم: إن البارى سبحانه لما طالت وحدته استوحش، ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته، فاستحالت ظلمة. فحدث منها إبليس، فرام البارى إبعاده عن نفسه فلم يستطع، فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات، فشرع إبليس فى خلق الشر وأصل عقد مذهبهم، الذى عليه خواصهم: إثبات القدماء الخمسة: البارى، والزمان، والخلاء، والهيولى، وإبليس. فالبارى خالق الخيرات، وإبليس خالق الشرور. وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب، لكنه لم يثبت إبليس، فجعل مكانه النفس، وقال: يقدم الخمسة، مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة، والبراهمة، فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه، وصنف كتابا فى إبطال النبوات، ورسالة فى إبطال المعاد، فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم: وقال: أنا أقول: إن البارى، والنفس، والهيولى، والمكان، والزمان: قدماء وأن العالم محدث. فقيل له: فما العلة فى إحداثه؟ فقال: إن النفس اشتهت أن تحبل فى هذا العالم، وحركتها الشهوة لذلك، ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه، فاضطربت وحركت الهيولى حركات مشوشة مضطربة على غير نظام، وعجزت عما أرادت، فأعانها البارى على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال. وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها، وسكن اضطرابها، وزالت شهواتها، واستراحت، فأحدثت هذا العالم بمعاونة البارى لها. قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم، ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم. ولولا أن الله سبحانه يحكى عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا. ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وفى ذلك من قوة الإيمان، وظهور جلالته، ومعرفة قدره، وتمام نعمة الله تعالى على أهله به، ومعرفة قدر خذلانه للعبد، وإلى أى شيء يصيره الخذلان، حتى يصير ضحكة لكل عاقل. فأى ضلال، وأى خذلان، أعجب من أن يفنى عمره فى النظر والبحث. وهذا غاية علمه بالله عز وجل، وبالمبدإ والمعاد؟ فصل والمجوس تعظم الأنوار، والنيران، والماء، والأرض. ويقرون بنبوة زرادشت. ولهم شرائع يصيرون إليها. وهم فرق شتى. منهم: المزدكية، أصحاب مزدك الموبذ. والموبذ عندهم: العالم القدوة. وهؤلاء يرون الاشتراك فى النساء والمكاسب كما يشترك فى الهواء، والطرق، وغيرها. ومنهم الخرمية: أصحاب بابك الخرمى. وهم شر طوائفهم، لا يقرون بصانع، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 معاد، ولا نبوة، ولا حلال، ولا حرام. وعلى مذهبهم: طوائف القرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، والبشكية، والدرزية، والحاكمية، وسائر العبيدية، الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 يسمون أنفسهم الفاطمية، وهم من أكفر الكفار، كما ستأتى ترجمتهم. فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون فى التفصيل. فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم. وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم. وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من الشرائع. ذكر تلاعبه بالصابئة هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار. وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا، بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم. وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى، وَالصَّابِئِينَ، مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالحِاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] . فذكرهم فى الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وذكرهم أيضا فى الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك، كما فى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئينَ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] . فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم، ولا ينقسمون إلى شقى وسعيد، وهما: المجوس والمشركون - فى آية الفصل، ولم يذكرهما فى آية الوعد بالجنة. وذكر الصابئين فيهما، فعلم أن فيهم الشقى والسعيد. وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل. وهم أهل دعوته. وكانوا بحران، فهى دار الصابئة. وكانوا قسمين صابئة حنفاء، وصابئة مشركين، والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، والبروج الاثنى عشر، ويصوّرونها فى هياكلهم. ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة، وهى المتعبدات الكبار، كالكنائس للنصارى والبيع لليهود. فلهم هيكل كبير للشمس، وهيكل للقمر، وهيكل للزهرة، وهيكل للمشترى، وهيكل للمريخ، وهيكل لعطادر، وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى. ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة. ويصورونها فى تلك الهياكل. ويتخذون لها أصناما تخصها، ويقربون لها القرابين. ولها صلوات خمس فى اليوم والليلة، نحو صلوات المسلمين. وطوائف منهم يصومون شهر رمضان، ويستقبلون فى صلواتهم الكعبة، ويعظمون مكة، ويرون الحج إليها، ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير، ويحرمون من القرابات فى النكاح ما يحرمه المسلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد، منهم هلال بن المحسن الصابئ، صاحب الديوان الإنشائى، وصاحب الرسائل المشهورة. وكان يصوم مع المسلمين، ويعيد معهم، ويزكى ويحرم المحرمات. وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين، وليس على دينهم. وأصل دين هؤلاء - فيما زعموا - أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا، ولهذا سموا صابئة، أى خارجين. فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله، إلا ما رأوه فيه من الحق. وكانت كفار قريش تسمى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الصابئ، وأصحابه الصبأة، يقال: صبأ الرجل، بالهمز، إذا خرج من شيء إلى شيء. وصبا يصبو إذا مال، ومنه قوله: {وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] . أى أمل. والمهموز والمعتل يشتركان. فالمهوز: ميل عن الشيء. والمعتل: ميل إليه، واسم الفاعل من المهموز: صابئ، بوزن قارئ، ومن المعتل: صاب، بوزن قاض وجمع الأول: صابئون، كقارئون، وجمع الثانى: صابون كقاضون، وقد قرئ بهما. والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام فى الحنيفية. والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام، ورأوا أنهم على صواب. وأكثر هذه الأمة فلاسفة. والفلاسفة يأخذون من كل دين - بزعمهم - محاسن ما دلت عليه العقول. وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم. وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه. وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك. كما سيأتى ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التى لها كتاب ونبى، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل. فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها. {لئَلاّ يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّة بَعْدَ الرَّسُلِ} [النساء: 165] . وتكون حجته عليهم. والمقصود: أن الصابئة فرق. صابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة. ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف فى التفصيل، ومنهم من يقر بها جملة وتفضيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا. وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما، مقدسا عن العيوب والنقائص. ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط. فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه. وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جبلوا على الطهارة، فنحن نتقرب إليهم، ونتقرب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة. فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى، الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم، فحينئذ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبوا فى جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم. وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات. وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات. والزكوات، وذبح القرابين، والبخورات، والعزائم، فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل، بل نأخذ من المعدن الذى أخذت منه الرسل. فيكون حكمنا وحكمهم واحدا: ونحن وإياهم بمنزلة واحدة. قالوا: والأنبياء أمثالنا فى النوع وشركاؤنا فى المادة، وأشكالنا فى الصورة، يأكلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 مما نأكل ويشربون مما نشرب، وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا. وزادت الاتحادية أتباع ابن عربى، وابن سبعين والعفيف التلمسانى، وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربى: أن الولى أعلى درجة من الرسول، لأنه يأخذ من المعدن الذى يأخذ منه الملك الذى يوحى إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين. فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى فى التلقى من الرسل بدرجتين، وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم فى ذلك التلقى بمنزلة الأنبياء، ولم يدّعوا أنهم فوقهم. والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء، من أولهم إلى آخرهم. أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له. والكفر بما يعبد من دونه من إله. والثانى: الإيمان برسله، وما جاءوا به من عند الله، تصديقا وإقراراً، وانقيادا، وامتثالا. وليس هذا مختصا بمشركى الصابئة، كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم. لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله، وسلامه عليه فى بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه فى سورة الأنعام [74 - 83] أحسن مناظرة وأبينها، ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم. فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب، والقمر، والشمس بأفولها، وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل، بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب، كما لا يكون إلا غالبا قاهرا، غير مغلوب ولا مقهور. نافعا لعبادة، يملك لعابده الضر والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويهديه، ويرشده، ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه. وذلك ليس إلا لله وحده. فكل معبود سواه باطل. فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال: {إنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلّذِى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام: 79] . وفى ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التى هى مفترة إليها، ولا قوام لها إلا بها، فهى محتاجة إلى محل تقوم به، وفاطر يخلقها ويدبرها ويربُّها. والمحتاج المخلوق المربوب المدَّبر لا يكون إلها. فحاجَّة قومه فى الله، ومن حاجّ فى عبادة الله فحجته داحضة. فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 إبراهيم عليه السلام: {أَتُحَاجُّونِى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] . وهذا من أحسن الكلام، أى أتريدون أن تصرفونى عن الإقرار بربى وبتوحيده، وعن عبادته وحده، وتشككونى فيه. وقد أرشدنى وبين لى الحق، حتى استبان لى كالعيان، وبين لى بطلان الشرك وسوء عاقبته، وأن آلهتكم لا تصلح للعبادة، وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر فى الدنيا والآخرة، فكيف تريدون منى أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به؟ وقد هدانى إلى الحق، وسبيل الرشاد؟ فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم، ومن العمى إلى الإبصار، ومجادلتكم إياى فى الإله الحق الذى كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك. فخوفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء، كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذى يأله مع الله أن يناله بسوء، فقال الخليل: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] . فإن آلهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده، وأنه هو الذى يخاف ويرجى. فقال: {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْئاً} [الأنعام: 80] . وهذا استثناء منقطع. والمعنى: لا أخاف آلهتكم، فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة، لكن إن شاء ربى شيئا نالنى وأصابنى، لا آلهتكم التى لا تشاء ولا تعلم شيئا، وربى له المشيئة النافذة، وقد وسع كل شيء علما. فمن أولى بأن يخاف ويعبد: هو سبحانه، أم هى؟ ثم قال {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] . فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة، والعلم التام. ثم قال {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكُتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانآً} [الأنعام: 81] . وهذا من أحسن قلب الحجة، وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله، وبطلان مذهبه. فإنهم خوفوه بآلهتهم التى لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها. وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها. ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه آلهة أخرى؟ فأى الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف؟ فريق الموحدين، أم فريق المشركين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذى لا حكم أصح منه. فقال: {الّذِينَ آمَنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ - أى بشرك - أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] . ولما نزلت هذه الآية شق أمرها على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله "وأينُّا لم يظلم نفسه؟ فقال إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ". فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن، وللمشركين بضد ذلك، وهو الضلال والخوف ثم قال: {وَتِلكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] . قال أبو محمد بن حَزْم: وكان الذى ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجْه الدهر والغالب على الدنيا، إلى أن أحدثوا الحوادث، وبدلوا شرائعه. فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام، الذى نحن عليه اليوم، وتصحيح ما أفسدوه، وبالحنيفية السمحة التى أتانا بها محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عند الله تعالى. وكانوا فى ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء. قلت: هم قسمان: صابئة مشركون، وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات. وقد حكى الشهرسْتانُّى بعض مناظراتهم فى كتابه. فصل فى ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاه الله عنهم. {وَقَالُوا مَا هِى حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] . وهؤلاء فرقتان. فرقة قالت: إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 .. وفرقة قالت: إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء: مركباتها، وبسائطها، من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا: إن العالم دائم لم يزل ولا يزال، لا يتغير، ولا يضمحل، ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التى فيه. وهؤلاء هم المعطلة حقا، وهم فحول المعطلة، وقد سَرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة، على اختلاف آرائهم وتباينهم فى التعطيل، كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا فى سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه، وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا فى سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها، أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه. فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها فى الناس، ولم ينج منه إلا أتباع الرسول، العارفون بحقيقة ما جاء به، المتمسكون به دون ما سواه، ظاهرا وباطنا. فداء التعطيل، وداء الإشراك، وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به، أو شيء منه: هو أصل بلاء العالم، ومنبع كل شر، وأساس كل باطل. فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة، أو من بعضها. فإِنْ تَنْجُ مَنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِى عَظِيَمَةٍ ... وَإِلاّ فَإِنِّى لاَ أظُنُّكَ نَاجِياً فصل فسرت هذه البلايا الثلاثة فى كثير من طوائف الفلاسفة، لا فى جميعهم. فإن الفلسفة من حيث هى لا تعطى ذلك. فإن معناها محبة الحكمة، والفيلسوف أصله "فِيْلاسوفا" أى محب الحكمة "ففيلا" هى المحب "وسُوفا" هى الحكمة. والحكمة نوعان: قولية وفعلية. فالقولية: قول الحق، والفعلية. فعل الصواب، وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها. وأصح الطوائف حكمة: من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التى جاءوا بها عن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 تعالى. قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] . وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] . وقال عن يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيا} [مريم: 12] . والحكم: هو الحكمة، وقال لرسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكُمَةَ} [النساء: 113] وقال {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . وقال لأهل بيت رسوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 33] . فالحكمة التى جاءت بها الرسل: هى الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا. وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله، وجمعها لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، كما جمع له من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وجمع فى كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه فى الكتب قبله. فلو جمعت كل حكمة صحيحة فى العالم من كل طائفة لكانت فى الحكمة التى أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزاء يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته. والمقصود: أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها. وقد صار هذا الاسم فى عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل فى زعمه. وأخص من ذلك: أنه فى عرف المتأخرين اسم لأتباع إرسْطو، وهم المشاؤون خاصة. وهم الذين هذب ابن سيْنا طريقتهم وبسطها، وقررها، وهى التى يعرفها، بل لا يعرف سواها، المتأخرون من المتكلمين. وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدة من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرَسْطو وشيعته، فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه، وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 العالم وفوق السماوات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس فى زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد فى كتابه "مناهج الأدلة". فقال فيه: "القول فى الجهة" وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية، كأبى المعالى ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال -: والشرائع كلها مبنية على أن الله فى السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحى إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرَة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة فى السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول، وبين بطلان الشبهة التى لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم، إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذى جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع. فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم، الذى هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه فى السماء، فوق العالم. والمتطفلون فى حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك، إما جهلا، وإما عمدا، وأكثر من رأيناه يحكى مذاهبهم ومقالات الناس يتطفل. وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال، وحدوث العالم، وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه، كما ذكره فيلسوف الإسلام فى وقته أبو البركات البغدادى، وقرره غاية التقرير. وقال: لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك، وأن نفى هذه المسألة ينفى ربوبيته. قال: والإجلال من هذا الإجلال، والتنزيه من هذا التنزيه أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فصل وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم، معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به آخر وراء طور العقل، وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم. وكانوا لا يتكلمون فى الإلهيات، ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هى الرياضيات والطبيعيات وتوابعها. وكانوا يقرون بحدوث العالم. وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم إرسطو. وكان مشركا يعبد الأصنام. وله فى الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، فقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء. وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجوادت، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملا فى نفسه، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات. فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ. وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ فى إبطال هذه الحجج وردها. فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة، ممن يتستر باتباع الرسل، وهو منحل من كل ما جاءوا به. وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قلبوه، وما خالفه لم يعبأوا به شيئا. ويسمونه المعلم الأول، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وزعم إرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعانى، كما أن العروض ميزان الشعر. وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان. وصنفوا فى رده وتهافته كثيرا. وآخر من صنف فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف فى رده وإبطاله كتابين، كبيرا، وصغيرا، بين فيه تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه. ورأيت فيه تصنيفا لأبى سعيد السيرافى. والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول، حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثانى: أبى نصر الفارابى. فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسع الفارابى الكلام فى صناعة المنطلق، وبسطها وشرح فلسفة إرسطو وهذبها، وبالغ فى ذلك. وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر. فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف فى الحقيقة. وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته، وكتبه ورسله، ولقائه، متقيدا بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة. فإن كان ممن لا يشكون فى فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام. فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة، أو شرط. ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم فى نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم. وليس هذا من جهلة بمقالات القوم، وجهلة بحقائق الإسلام ببعيد. فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذى يقدمونه على الرسل: أبو على بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجوادت أصلا، لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات. ولا له كلام يقوم به، ولا صفة. ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر فى الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة، وليس هذا هو الرب الذى دعت إليه الرسل وعرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذى دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية، وعن كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختيارى، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل به، ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله - وبين رب العالمين، وإله المرسلين، ومن الفرق ما بين الوجود والعدم، والنفى والإثبات. فأى موجود فرض كان أكمل من هذا الإله، الذى دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم، بل منحوت الأيدى من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا فى الذهن. هذا، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول إرسطو. فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجباً ممكنا، هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة، وأما إرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يعقل شيئا، ولا يفعل باختياره. وأما هذا الذى يوجد فى كتب المتأخرين من حكاية مذهبه، فإنما هو من وضع ابن سينا. فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين فى التجهم، فهم فى غلوهم فى تعطيلهم ونفيهم أشد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء. فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل. وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبى بزعمهم فى نفسه من أشكال نورانية، هى العقول عندهم، وهى مجردات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هى أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبر شيئا، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفُّ عند ربها، ولا تصلى، ولا لها تصرف فى أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة. وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هى القوى الخيَّرة الفاضلة التى فى العبد. والشياطين هى القوى الشريرة الرديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وأما الكتب، فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئا، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعانى، وتشكلت فى نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوى الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوى ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك فى الخارج. وأما الرسل والأنبياء. فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبى: أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة. الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل فى نفسه أشكالا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره. الثالثة: قوة التأثير بالتصرف فى هيولى العالم. وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة. وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهما. والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هى سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة: نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة. وأما الإيمان باليوم الآخر. فهم لا يقرون بانفطار السماوات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه. فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحى من الله تعالى. فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء. وحسبك جهلا بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلانا وضلالا وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وحسبك عجبا من جهلهم، وضلالهم: ما قالوه فى سلسلة الموجودات، وصدور العالم عن العقول والنفوس، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة، لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه، ولا إرادة، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد. فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصَّلوه، وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله، وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأى الذى هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولى الألباب، مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات. وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة. والرجل معطل مشرك، جاحد للنبوات والمعاد، لا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب والرازى وفروخه لا يعرفون مذهب الفلاسفة غير طريقه. ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا، قد حكاها أصحاب المقالات، كالأشعرى فى مقالاته الكبيرة، وأبى عيسى الوراق، والحسن بن موسى النوبختى. وأبو الوليد بن رشد يحكى مذهب إرسطو غير ما حكاه ابن سينا، ويغلطه فى كثير من المواضع. وكذلك أبو البركات البغدادى يحكى نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا. فصل والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم، بل هم موجودون فى سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان. فهم طائفة من طوائف الفلاسفة، وهؤلاء أمة من الأمم، لهم مملكة وملوك، وعلماؤهم فلاسفتهم، ومن ملوكهم الإسكندر المقدونى. وهو ابن فيلبس. وليس هو بالإسكندر ذى القرنين الذى قص الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 تعالى نبأه فى القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما فى الدين أعظم تباين. فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكان يغزو عُبَّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدونى فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له. وكان إرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام. وهو الذى غزا دارا بن دارا ملك الفرس فى عقر داره فثل عرشه، ومزق ملكه، وفرق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك، فقتل وسبى. وكان لليونانيين فى دولته عز وسطوة بسبب وزيره إرسطو، فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته. وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة، وأحدهم بطليموس، كما إن كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم. ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم، فصاروا رعية لهم، وانقرض ملكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة. وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر، ودين آبائهم، فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس، وكان من عبادهم، ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم فى عبادة الأصنام، وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها، فثار عليه العامة، واضطروا الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. ومذهبه فى الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات، فقال: إنه إله كل شيء وخالقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ومقدره. وهو عزيز، أى منيع، ممتنع أن يضام وحكيم، أى محكم أفعاله على النظام. وقال: إن علمه، وقدرته، ووجوده، وحكمته، بلا نهاية، لا يبلغ العقل أن يصفها. وقال: إن تناهى المخلوقات بحسب احتمال القوابل، لا بحسب الحكمة والقدرة، فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور، لا من جهة بخل فى الواهب، بل لقصور فى المادة. قال: وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا. إلا أنها لا تتناهى زمانا فى آخرها، لا من نحو أولها، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع، وذلك بتجدد أمثالها، ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع، ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص. فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية. ومن مذهبه: أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه، هو كونه حيا قيوما، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة، تندرج تحت كونه حيا قيوما، فهما صفتان جامعتان للكل. وكان يقول: هو حى ناطق من جوهره، أى من ذاته وحياته، ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه. وكلامه فى المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره. وبالجملة، فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل، ولهذا قتله قومه. وكان يقول: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات. وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: ينبغى أن يُغْتَم بالحياة ويفرح بالموت، لأن الإنسان يحيا ليموت، ثم يموت ليحيا. وقال: قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة. وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وقال: للحياة حدان: أحدهما: الأمل، والآخر: الأجل. فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها. وكذلك أفلاطون. كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كرسيه. وكان يقول إن للعالم صانعا محدثا، مبدعا أزليا، واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات. قال: وليس فى الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند البارى تعالى. يشير إلى وجود صور المعلومات فى علمه. فهو مثبت للصفات، وحدوث العالم. ومنكر لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم، وعيب آلهتهم فسكتوا عنه. وكانوا يعرفون له فضله وعمله. وصرح أفلاطون بحدوث العالم. كما كان عليه الأساطين. وحكى ذلك عنه تلميذه إرسطو. وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة، من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبى على بن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأى من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين. فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل فى طرف. وهؤلاء القوم فى طرف. وكان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبى من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى. وكان هؤلاء الزنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا، وكانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا. وفى زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا. ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك، والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسى وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين، والسحرة. ونقل أوقاف المدارس والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر فى كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله: من عمله، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد البتة. واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك. فقال: هى قرآن الخواص. وذاك قرآن العوام. ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر. وتعلم السحر فى آخر الأمر. فكان ساحرا يعبد الأصنام. وصارع محمد الشهرستانى ابن سينا فى كتاب سماه "المصارعة" أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفى علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه "مصارعة المصارعة" ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض فى ستة أيام. وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من فى القبور. وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 والفلسفة التى يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هى مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضها عن أبى نصر الفارابى، وشيء يسير منها من كلام إرسطو. وهو - مع قلته وغثاتته وركاكة ألفاظه - كثير التطويل، لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء، فالذى عند مشركى العرب من كفار قريش وغيرهم خير منهم فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئا. وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما، قادرا حيا، ويشركون به فى العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برَّز عليهم فيه عباد الأصنام وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله عز وجل. وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتى عشرة فرقة، كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى. فمنهم أصحاب الرواق، وأصحاب الظلة، والمشاؤون، وهم شيعة إرسطو. وفلسفتهم هى الدائرة اليوم بين الناس، وهى التى يحكيها ابن سينا والفارابى، وابن خطيب الرى وغيرهم. ومنهم الفيثاغورية، والأفلاطونية، ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأى واحد، بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة. ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل. وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض. فإنهم عطلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذى خلق له ربه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته. ثم سرى هذا الداء منهم فى الأمم، وفى فرق المعطلة. فكان منهم إمام المعطلين فرعون، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل، وصرح به، وأذن به بين قومه، ودعا إليه، وأنكر أن يكون لقومه إله غيره. وأنكر أن يكون الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 فوق سماواته على عرشه، وأن يكون كلم عبده موسى تكليما، وكذب موسى فى ذلك، وطلب من وزيره هامان أن يبنى له صرحا ليطلع - بزعمه - إلى إله موسى عليه السلام وكذبه فى ذلك، فاقتدى به كل جهمى. فكذب أن يكون الله مكلما متكلما، أو أن يكون فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه، على العرش استوى، ودرج قومه وأصحابه على ذلك، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق، وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين، ونكالا لأعدائه المعطلين. ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن، على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليما، إلى أن توفى موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بنى إسرائيل، ورفع التعطيل رأسه بينهم، وأقبلوا على عموم المعطلة، أعداء موسى عليه السلام، وقدموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هى عادته سبحانه وسنته فى عباده إذا أعرضوا عن الوحى، وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم، كما سلط النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها. وكذلك فى أواخر المائة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عده مرات واستولوا على الحاج، واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم فى الباطن كثير من الأعيان، من الوزراء والكتاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المعرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبنيت فى أيامهم القاهرة، واستولوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخطب لهم على منبر بغداد. والمقصود أن هذا الداء لما دخل فى بنى إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم، ثم بعث الله سبحانه عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرى من تلك الأحداث، والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله، فطهره الله تعالى منهم، ورفعة إليه، فلم يصلوا إليه بسوء. وأقام الله تعالى للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة. ثم أخذ دين المسيح فى التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدى النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم فى النصرانية، فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التى لا ظل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس. هذا ومعهم بقايا من دين المسيح، كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، إلا ما أحل لهم بنصها. ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد وتركوا الختان، والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلى إلى بيت المقدس، فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح عليه السلام صومهم هذا أبدا، ولا شرعه، ولا أمر به البتة بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية، وتعبدوا بالنجاسات، وكان المسيح عليه السلام فى غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود، ومراغمتهم، فغيروا دين المسيح، وتقربوا إلى الفلاسفة وعباد الأصنام، بأن وافقوهم فى بعض الأمر ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود. ولما أخذ دين المسيح عليه السلام فى التغيير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 على ثمانين مجمعا، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: "لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون فى حقيقة ما هم عليه لتفرقَّوا عن أحد عشر مذهبا". حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك، من الجزائر والبلاد، وسائر الأقطار. فجمع كل بترك وأسقف وعالم فكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية، وأكابر النصارى فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفها لعنتموه، وحرمتموه، فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التى بأيديهم اليوم، وكان ذلك بمدينة نيقية، سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين. وكان أحد أسباب ذلك أن بطْريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه، فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه، ومعه أسقُفان فشكوه إليه، وطلبوا مناظرته بين يدى الملك، فاستحضره الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك. فقال أريوس: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن، فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال فى إنجيله، إذ يقول "وهب لى سلطانا على السماء والأرض" فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس. فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح الآن معنيان: كلمة، وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فقال بطريق الإسكندرية: أخبرنا: أيما أوجب علينا عندك؟ عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟. فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا. فقال: [فإن كان الابن خالقنا كما وصفت. وكان الابن مخلوقا] فعبادة الابن الذى خلقنا - وهو مخلوق - أوجب من عبادة الأب الذى ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا. وعبادة الابن المخلوق إيمانا [وذلك من أقبح الأقوال] . فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس وكل من يقول مقالته. فلما انتصر البطريق قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمع ونصنع قصة نشرح فيها الدين ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا. وكانوا مختلفى الآراء متباينين فى أديانهم. فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف فتعجب الملك من شدة اختلافهم. فأجرى عليهم الأنزال وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الدين الصحيح مع من منهم. فطالت المناظرة بينهم. فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأى واحد. فناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم. فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة والثمانية عشر مجلسا خاصا وجلس فى وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، فدفعها إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم على المملكة. فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم. فباركوا عليه وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذب عنه. ودفعوا إليه الأمانة التى اتفقوا على وضعها. فلا يكون عندهم نصرانى من لم يقرَّ بها. ولا يتم لهم قربان إلا بها، وهى هذه: "نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شئ، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذى ولد من أبيه قبل العوالم كلها. وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذى بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء الذى من أجلنا - معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وأُلِمَ، وشج، وقتل، وصلب، ودفن، وقام فى اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذى يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين". فهذا العقد الذى أجمع عليه الملكية والنسطورية، واليعقوبية. وهذه الأمانة التى ألفها أولئك البتاركة، والأساقفة، والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية. وكان رؤساء هذا المجمع بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس. فافترقوا عليها، وعلى لعن ما خالفها ومن خالفها، والتبرى منه، وتكفيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته، وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر. فجمع جمعا عظيما، وصاروا إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع. فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا على، وظلمونى، ولم ينصفونى فى الحجاج، وحرمونى ظلما وعدوانا. ووافقه كثير من الذين معه. وقالوا: صدق. فوثبوا عليه فضربوه، حتى كاد أن يقتل لولا ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال. ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول. اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة: أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده. فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفا. وكان مقدموهم بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس. فنظروا فى مقالة أريوس. وكان من مقالته: أن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله. فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله تعالى وليس روح الله تعالى شيئا غير حياته. فإذا قلنا: إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. فقد جعلناه غير حى. ومن جعله غير حى فقد كفر. ومن كفر وجب عليه اللعن. فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياعه وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق، وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد، وطبيعة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وزادوا فى الأمانة التى وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا "ونؤمن بروح القدس الرب المحيى المميت، المنبثق من الأب، الذى مع الابن والأب، وهو مسجود وممجد". وكان فى الأمانة الأولى "وبروح القدس فقط". وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاث وجوه، وثلاثة خواص، وحدة فى تثليث وتثليث فى وحدة، وزادوا ونقصوا فى الشريعة. وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم وكانوا على مذهب مانى، لا يرون أكل ذوات الأرواح. فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة. ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس. وكان مذهبه "أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: إله الذى هو موجود من الأب، والآخر إنسان الذى هو موجود من مريم. وأن هذا الإنسان الذى نقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة. لكن على سبيل الموهبة والكرامة، واتفاق الاسمين". فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات. واتفقوا على تخطئته. واجتمع منهم مائتا أسقف فى مدينة أفسيس، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة. فامتنع ثلاث مرات. فأوجبوا عليه الكفر، فلعنوه، ونفوه وحرموه، وثبتوا "أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد فى الأقنوم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فلما لعنوا نسطورس غضب له يوحنا بترك أنطاكية. فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا. ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم. فلم يزل الملك [تذوس] حتى أصلح بينهم. فكتب أولئك صحيفة "أن مريم القدسية ولدت إلها، وهو ربنا يسوع المسيح، الذى هو مع أبيه فى الطبيعة، ومع الناس فى الناسوت" وأنفذوا لعن نسطورس. فلما نفى نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بإخميم سبع سنين، ودفن بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما، مطران نصيبين، وبثها فى بلاد المشرق فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية. وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس، ومن قال بقوله. وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن. فلا ينفض المجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون. ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس يقول. إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا فى الطبيعة، وأن المسيح قبل التجسد طبيعتان، وبعد التجسد طبيعة واحدة. وهذه مقالة اليعقوبية. فرحل إليه أسقف دولته، فناظره فقطعه، ودحض حجته. ثم سار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه. فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله. فقال: إن قلنا: إن للمسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس. ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين، كانتا قبل التجسد فلما تجسد زالت عنه الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيح طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هى الطبيعة المحدثة. وإن كان القديم هو المحدث فالذى لم يزل هو الذى لم يكن. ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاستعدى عليهم الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة: فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس، فثبّت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة. وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقلبوا مقالة أوطيوس. ففسدت الأمانة، صارت المقالة مقالة أوطيوس، وخاصة بمصر، والإسكندرية وهو مذهب اليعقوبية. فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملاعنين. ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس فى دولة مرقيون فإنه اجمتع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر الأساقفة والبطارقة إلى حضرته. فاجتمع عنده ستمائة وثلاثون أسقفا، فنظروا فى مقالة أوطيوس وبترك الإسكندرية، التى قطعا بها جميع البتاركة. فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما. وأثبتوا "أن المسيح إله وإنسان، وهو مع الله فى اللاهوت ومعنا فى الناسوت، له طبيعتان تامتان. فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد" وثبتوا قول الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم "بأن الابن مع الله فى المكان، وأنه إله حق من إله حق" ولعنوا أريوس وقالوا: "إن روح القدس إله، وقالوا: إن الأب وروح القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة". وثبتوا قول أهل المجمع الثالث، وقالوا "إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذى هو مع الله فى الطبيعة، ومعنا فى الناسوت". وقالوا: إن للمسيح طبيعتان وأقنوم واحد، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فانفض هذا المجمع وهم ما بين لاعن وملعون. ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع فى أيام أنسطاس الملك. وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك، فقال "إن أصحاب ذلك المجمع الستمائة والثلاثين قد أخطأوا، والصواب ما قاله أوطيوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن العنوا الستمائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة، وأقنوم واحد" فأجابه الملك إلى ذلك. فلما بلغ بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس: لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين. فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا: إياك أن تقبل عن سورس، ولكن اقبل عن الستمائة والثلاثين ونحن معك. ففعل، وخالف الملك. فلما بلغه أرسل قائداً وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك، فإن لم يفعل أنزله عن الكرسى ونفاه. فقدم القائد وطرح يوحنا فى الحبس، فصار إليه الرهبان فى الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك. فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان. فاجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطسوس، ونسطورس، وسورس، ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين. ففزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهمّ بنفى يوحنا. فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك: أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم. وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضاً. وكان لسورس تلميذ، يقال له يعقوب البراذعى، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب، يرقع بعضها ببعض. وإليه ينسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم. ثم هلك أنسطاس الملك، وولى بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه. وكتب إلى بيت المقدس بأمانته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فاجتمع الرهبان وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة والثلاثين أسقفا وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس، وكان ملكانيا. فولى الملك إسطفانوس. فأرسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة فى ثياب البتركة، وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه. فانصرف وتوارى عنهم. ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتاب من الملك. وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه. فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه. وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف فى الناس. فصعد المنبر، وقال: يا معشر أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم. فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه. فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة. فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى خاض الجند فى الدماء. وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية. ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن. وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثمة قيامة، ولا بعث. وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة، وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فحشرهم الملك إلى قسطنطينية. فقال لهم بتركها: إن: كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا، وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس، أو فعل أو قول، فهو كذلك. وقال له: إن المسيح قد قام من الموتى، وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين. واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله "إن كل من فى القبور إذا سمعوا قول الله سبحانه يحْيَون" فأوجب عليهم اللعن. وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد. فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وثبتوا "أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام، وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر الأوائل" فتفرقوا على ذلك. ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، تلاعنوا فيه. وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قَسطا الوالى فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه. فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الشبهة، ومن كان ابتدأ بها، ويعلم من يستحق اللعن. فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماس، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة. وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية، فلعنوا من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا، فلما لعنوهم جلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا فقالوا "نؤمن بأن الواحد من الناسوت الابن الوحيد، الذى هو الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب، الإله فى الجوهر، الذى هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين، فى أقنوم واحد، ووجه واحد، تاما بلاهوته، تاما بناسوته، وشهدت أن الإله الابن فى آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القدِّسية جسدا، إنسانا بنفس ناطفة عقلية. وذلك برحمة الله تعالى محب البشر. ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة، ولا فصل ولكن هو واحد، يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله فى طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله فى طبيعته الذى هو الابن الوحيد، والكلمة الأزلية المتجسدة التى صارت فى الحقيقة لحما، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن ينتقل من مجده الأزلى، وليست بمتغيرة، لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهى وإنسى، الذى بهما يكمل قول الحق. وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين، غير متضادتين، ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء". هذه أمانة هذا المجمع. فوضعوها ولعنوا من لعنوه، وبين المجمع الخامس الذى اجتمع فيه الستمائة والثلاثون، وبين هذا المجمع مائة سنة. ثم كان لهم مجمع عاشر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وذلك لما مات الملك وولى ابنه بعده. فاجتمع أهل المجمع السادس. وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل. فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا. فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون. فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان. كلهم ما بين لاعن وملعون. فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى، وهم حيارى تائهون، ضالون مضلون. لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول فى إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبرى ممن اتبع سواه. قد تفرقت بهم فى نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم فى ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب. فما ظنك بمن فى عصرنا هذا، وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، ونفاية المتحيرين؟ وقد طال عليهم الأمد وبعد عهدهم بالمسيح ودينه. وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل - من الفلاسفة والملاحدة - أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذى جاء به المسيح على هذا الوجه، ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل. فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالرسل والكتب. ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين. وقال لهم هؤلاء الحيارى النصارى الضلال: إن هذا هو الحق الذى جاء به المسيح. فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه. ولهذا قال بعض ملوك الهند - وقد ذكرت له الملل الثلاث - فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعى، فإنى أرى ذلك بحكم عقلى وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثنى هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة. وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذى انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا. لأن من كان أصل عقيدته التى جرى نشوءه عليها: لإساءة إلى الخالق، والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل، وضعف العقل، وقلة الحياء، وخساسة الهمة. فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة. وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط، إذ ذاك أقدم من هذا: "لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد اصطمر البابلى لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه. فلما اجتمعنا على الخروج من مصر، رأينا أن نصبر إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه. فلما دخلنا عليه، ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا، فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا هدأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم فغير بكم. أطعتم جهالا من ملوككم، فخلطوا عليكم فى الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم فى ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب. وإنما حركة القلم بالكاتب". ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة. أحدهما: الغلو فى المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه، وإلها آخر معه، وأنفوا أن يكون عبدا له. والثانى: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه - سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا - نزل من العرش عن كرسى عظمته، ودخل فى فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعا صغيرا يمص الثدى، ولف فى القمط، وأودع السرير، يبكى ويجوع، ويعطش، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدى والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا فى وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك،. وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق الذى بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له. ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم، ولا بعدهم، كما قال تعالى، فيما يحكى عنه رسوله الذى نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذى. {تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضِ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدا} [مريم: 90] . فقال: "شتمنى ابن آدم، وما ينبغى له ذلك. وكذبنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك. أما شتمه إيَّاى، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذى لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لى كفوا أحد، وأما تكذيبه إياى. فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى. وليس أول الخلق بأهون على من إعادته". وقال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فى هذه الأمة: أهينوهم، ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر". ولعمر الله، إن عباد الأصنام، مع أنهم أعداء الله عز وجل على الحقيقة، وأعداء رسله عليهم السلام، وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التى يعبدونها من دون الله تعالى - وهى من الحجارة والحديد، والخشب - بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين، إله السماوات والأرضين. وكان الله تعالى فى قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك، أو بما يقاربه. وإنما شرك القوم: أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، وزعموا أنها تقربهم إليه، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له، ولا نظيرا ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة. عذرهم فى ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت فى الجحيم فى سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح، وكان إبراهيم وموسى ونوح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وصالح وهود معذبين مسجونين فى النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بنى آدم أخذه إبليس وسجنه فى النار بذنب أبيه. ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب، تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسى عظمته، والتحم ببطن مريم، حتى ولد وكبر وصار رجلا. فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه فى مرضاة جميع ولد آدم. إذ كان ذنبه باقيا فى أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه، وتسميره وصفعه، إلا من أنكر صلبه أو شك فيه، أو قال: بأن الإله يجل عن ذلك، فهو فى سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك. وأن إلهه صلب وصفع وسمر. فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم، وكذبوا الله عز وجل فى كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه فى الجحيم، بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية السفه، حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه: وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحلية، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا. وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضى الله عنه "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر". وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عينى ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب. ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار، على بنى آدم، مفسدون للعقول والشرائع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح، ولا دينه البتة. فأول ذلك أمرُ الِقبْلة. فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يُصَل إلى المشرق أصلا. بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس، وهى قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلى النبى صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله تعالى إلى قِبْلة أبيه إبراهيم عليه السلام. ومن ذلك: أن طوائف منهم - وهم الروم وغيرهم - لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة، فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذباً كان أو فجوراً، أو غيبة، أو سباً وشتماً، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير، وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك فى الصلاة ولا يبطلها. وإن دعته الحاجة إلى البول فى الصلاة بال وهو يصلى ولا يضر صلاته. وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب. ومن العجيب إنهم يقرءون فى نص التوراة "ملعون من تعلق بالصليب" وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه. ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب، حيث وجدوه، ويكسروه ويُضمِّخُوه بالنجاسة. فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه، وفضح، وخزى. فيا للعجب، بأى وجه - بعد هذا - يستحقُّ الصليب التعظيم، لولا أن القوم أضل من الأنعام. وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه فى دين المسيح بعده بزمان. ولا ذكر له فى الإنجيل البتة. وإنما ذكر فى التوراة باللعْنِ لمن تعلق به. فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وإذا اجتهد أحدهم فى اليمين، بحيث لا يحنث ولا يكذب، حلف بالصليب، ويكذب إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب، ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغى لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم، وإلههم حين صلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه، وكما فى الإنجيل: إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان. فلو عقلوا لكان ينبغى لهم أن لا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم. وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره. ولقد صدق القائل: "عدو عاقل خير من صديق أحمق" لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا فى ذمه وتنقصه والإزراء به، والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك. فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحيل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال، وربطوهم به، وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه، ويقولون: يشذ دين النصرانية. وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم يتطاير، ولم يتكسر من هيبته لما حُمل عليه. وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض، فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير، استحق عندهم التعظيم وأن يعبد. ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لما دفن صار قبره فى الأرض، وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك، وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور، واتخاذها مساجد. ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب، لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه. فإن قلتم: الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذى صلب عليه إلهنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 قلنا: وكذلك الحفر تذكر بحفرته. فعظموا كل حفرة، واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى، لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره فى الحفرة. ثم يقال: اليد التى مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدى اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له. ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدى. فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة، فعندكم أنه هو الذى رضى بذلك واختاره. ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه، فعلى هذا فينبغى لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا مرضاته واختياره الذى كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس، فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم، وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح. والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا فى صلاتهم ولا فى صيامهم ولا فى أعيادهم. بل هم فى ذلك أتباع كل ناعق، مستجيبون لكل ممخرق ومبطل. أدخلوا فى الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما أتت به. وإذا شئت أن ترى التغيير فى دينهم فانظر إلى صيامهم الذى وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين، وصيام لمار مريم، وصيام لمار جرجس، وصيام للميلاد. وتركهم أكل اللحم فى صيامهم مما أدخلوه فى دين المسيح. وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه لا فى صوم، ولا فطر. وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا فى النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياما، فصاموا للميلاد والحواريين، ومار مريم، وتركوا فى هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب مانى. فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية. فصارت سنة متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فصل ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم، واستدرار أموالهم. وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر. فمن ذلك: ما يعتمدونه فى العيد الذى يسمونه عيد النور، ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحى فى ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم ويبتهلون فى الدعاء، فبينا هم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضيء ويشتعل، فيضجون ضجة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون فى البكاء والشهيق. قال أبو بكر الطرطوشى: كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان. فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم، وقال: أنا نازل إليكم فى يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون، فإن كان حقا ولم يتضح لى وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم. وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه. فصعب ذلك عليهم جداً، وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج، فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم. قال الطرطوشى: ثم اجتمعت بأبى محمد بن الأقدم بالإسكندرية. فحدثنى أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط، ويجعلونه فى وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التى فى القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان. والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس، وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون كل أحد من دخوله. وفى رأس القبة رجل، فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط شيئا من نار النفط، فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس، فتلقى فيتعلق بها. فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر، وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس، وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ومن حيلهم أيضاً: أنه قد كان بأرض الروم فى زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدى ذلك الصنم فى ذلك اليوم يخرج منه اللبن. وكان يجتمع للسادن فى ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها. فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم، وجعل فيها أنبوبة من رصاص، وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها، فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن، فيجرى إلى الثدى فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر فى الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم، وتعظيمهم له. فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن، ومحو الصور من الكنائس. وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام. فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام. ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله، لما فيه من الإعانة على الكفر، وتعظيم شعائره. فالمساعد على ذلك، والمعين عليه شريك للفاعل. لكن لما هان عليهم دين الإسلام، وكان السحت الذى يأخذونه منهم أحب إليهم من الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام أقروهم على ذلك ومكنوهم منه. فصل والمقصود: أن دين الأمة الصليبية، بعد أن بعث الله عز وجل محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم، بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة، مبنى على معاندة العقول والشرائع، وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصرانى لا يأخذ بحظه من هذه فليس بنصرانى على الحقيقة. أفليس هو الدين الذى أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؟. فيا عجبا، كيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه؟. أترى لم يكن فى هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه. فلا يذكرون مثالاً. ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء، واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التى تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما، حتى صارا حقيقة أخرى، تعالى الله عز وجل عن إفكهم وكذبهم. ولم يقنعهم هذا القول فى رب السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التى صلبوه عليها، واليهود يبصقون فى وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده، لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره. هذا قول جميعهم، ليس فيهم من ينكر منه شيئا. فيا للعقول، كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل فى هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر أمر السماوات والأرض؟ ومن الذى خلف الرب سبحانه وتعالى فى هذه المدة؟ ومن الذى كان يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مدفون فى قبره؟. ويا عجبا، هل دفنت الكلمة معه، بعد أن قتلت وصلبت؟ أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له، كما خذله أبوه وقومه؟ فإن كانت قد فارقته وتجرد منها، فليس هو حينئذ المسيح. وإنما هو كغيره من آحاد الناس. وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحاد والامتزاج؟ وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت، ودفنت معه. فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله، وصلبه ودفنه؟. ويا عجبا، أى قبر يسع إله السماوات والأرض؟ هذا وهو الملك القُدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون. الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذى هدانا للإسلام وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله. يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا، حتى تتوفانا على الإسلام. أَعُبَّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ ... نُرِيدُ جَوَابَهُ مَّمِنْ وَعَاهُ إذا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ ... أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ؟ ... فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ وَإِنْ سَخِطَ الّذِى فَعَلُوهُ فيه ... فَقُوَّتُهُمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ وَهَلْ بَقِى الوُجُودُ بِلاَ إِلهٍ ... سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لَمِنْ دَعَاهُ؟ وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لَمّا ... ثَوَى تَحتَ التُّرَابِ، وَقَدْ عَلاَهُ وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالُمِ مِن إِلهٍ ... يُدَبِّرهَا، وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ؟ وَكَيْفَ تَخَلْتِ الأَمْلاَكُ عَنْهُ ... بِنَصْرِهِمُ، وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ؟ وكيف أطاقت الخشبات حمل ال ... إله الحق مشدودا قفاه؟ وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى ... يُخَالِطَهُ، وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ؟ وَكيْفَ تَمكْنَتْ أَيْدِى عِدَاهُ ... وَطَالتْ حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ؟ وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلَى حَيَاةٍ ... أَمَ المُحْيى لَهُ رَب سِوَاهُ؟ وَيَا عَجَباً لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبا ... وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَوَاهُ أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعاً مِنْ شُهُورٍ ... لَدَى الظُّلُمَاتِ مِنْ حَيْضٍ غِذَاهُ وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُودًا صَغِيراً ... ضَعِيفاً، فَاتِحاً لِلثَّدْى فَاهُ وَيَأْكُلُ، ثمَّ يَشْرَبُ، ثمَّ يَأْتِى ... بِلاَزِمِ ذَاكَ، هَلْ هذَا إِلهُ؟ تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى ... سَيُسأَلُ كُلَّهُمْ عَمَّا افْترَاهُ أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ، لأَى مَعْنِّى ... يُعَظمُ أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ؟ وَهَلْ تَقْضِى العقولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ ... وَإحْرَاقٍ لَهُ، وَلَمِنْ بَغَاهُ؟ إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهاً ... وَقَدْ شُدَّتْ لِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقا ... فَدُسْهُ، لا تَبُسْهُ إِذْ تَرَاهُ يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الْخَلقِ طُرا ... وتَعْبُدُهُ؟ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ فإِنْ عَظِّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ ... حَوَى رَبَّ العِبَادِ، وَقَدْ عَلاَهُ وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ، فإِنْ رَأَيْنَا ... لَهُ شَكْلاً تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فَهَلاّ للقبورِ سَجَدْتَ طُرا ... لَضِّم القبرِ رَبّكَ فى حَشَاهُ؟ فَيَا عَبْدَ المِسيحِ أَفِقْ، فَهَذَا ... بِدَايَتُهُ، وَهذَا مُنْتَهاهُ فصل فقد بان لكل ذى عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب، ودعاهم فأجابوه، واستخفهم فأطاعوه. فتلاعب بهم فى شأن المعبود سبحانه وتعالى. وتلاعب بهم فى أمر المسيح. وتلاعب بهم فى شأن الصليب وعبادته. وتلاعب بهم فى تصوير الصور فى الكنائس وعبادتها. فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح، وجرجس، وبطرس، وغيرهم من القديسين عندهم، والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى. حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور فى قُبَّة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب، ونصبها داخل الهيكل. ثم قال فى كتابه: وإنما هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا، فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه، ويقوم له، لا تعظيما للقرطاس والمداد، بل تعظيما للملك، كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور، لا للأصباغ والألوان. وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام. وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور. وغايته: أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته فى كفه كيلا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون: من التذلل، والخضوع والسجود بين يدى تلك الصور؟. وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل. فوثب الرجل من مجلسه، وسجد له، وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فكل عاقل يستجهله ويستحمقه فى فعله، إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغى له أن يخص به الملك دون عبيده: من الإكرام، والخضوع، والتذلل. ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له، وسقوطه من عينه، أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته. كذلك حال من سجد لمخلوق، أو لصورة مخلوق، لأنه عمد إلى السجود الذى هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضى الرب، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوى بين الله وبين عبده فى ذلك. وليس وراء هذا فى القبح والظلم شيء ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 33] . وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع، والذل الذى يعامل به الملك. فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به، لا بولى الله ورسوله، بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، معادون لهم، أشد الناس مقتاً لهم. فهم فى نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله، وسووا بينهم وبين الله فى العبادة والتعظيم، والسجود، والذل، ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح. والمقصود: ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى أصول دينهم، وفروعه. كتلاعبه بهم فى صيامهم. فإن أكثر صومهم لا أصل له فى شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع. فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة فى بدء الصوم الكبير، يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس. وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلا وفتكا فى النصارى من الفرس. فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا. ففعل فلما دخل بيت المقدس، شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فقال لهم هرقل: وما تريدون منى؟ قالوا: تقتلهم. قال: كيف أقتلهم، وقد كتبت لهم عهدا بالأمان، وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد؟. فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى، وهدم الكنائس. وقتلهم قربان إلى الله تعالى. ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة فى بدء الصوم، نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم، مادامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الأفاق، غفران لما سألناك. فأجابهم. وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل ما لا يحصى كثرة. فصيروا أول جمعة من الصوم الذى يترك فيه الملكية أكل اللحم، يصومونها لهرقل الملك، غفرانا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق. وأهل بيت المقدس، وأهل مصر يصومونها، وبقية أهل الشام والروم يتركون أكل اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة. وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام، عوضا وكفارة، لنقلهم له. ومن ذلك: تلاعبه بهم فى أعيادهم: فكلها موضوعة مختلقة، محدثة بآرائهم واستحسانهم. فمن ذلك: عيد ميكائيل. وسببه: أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح. فولى بتركه الإسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ويبطل الذبائح، فامتنعوا عليه، فاحتال عليهم، وقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وصيره صلبانا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل. وسماها قيسارية، ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيروا العيد والذبائح لميكائيل. فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك. فكانوا فى ذلك كمجوسى أسلم، فصار رافضيا. فدخل الناس عليه يهنئونه، فدخل عليه رجل وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى. ومن ذلك عيد الصليب. وهو مما اختلقوه وابتدعوه. فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير. وكان الذى أظهره - زورا وكذبا - أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذى صلب عليه إلههم وربهم. فانظر إلى هذا السند، وهذا الخبر، فاتخذوا ذلك الوقت الذى ظهر فيه عيدا، وسموه عيد الصليب، ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة، حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضى الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول. وكان من حديث الصليب: أنه لما صلب المسيح - على زعمهم الكاذب - وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون. فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ. وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة. فلما كان فى أيام قسطنطين الملك، جاءت زوجته إلى بيت المقدس، تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة، اسم أحدهما يهوذا، فسألتهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 فطرحتهم فى الحبس فى جب لا ماء فيه. فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون، ولا يسقون. فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذى تطلب. فصاح الاثنان، فأخرجوهما. فخبراها بما قال يهوذا. فأمرت بضربه بالسياط، فأقر، وخرج إلى الموضع الذى فيه المقبرة. وكان مزبلة عظيمة. فصلى، وقال: اللهم إن كان فى هذا الموضع، فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان، فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان. فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟. وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثانى، ثم الثالث. فقام عند الثالث، واستراح من علته. فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته فى غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين. وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة. هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصرانى فى تاريخه. والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة. وبعد، فسند هذه الحكاية من بين يهودى ونصرانى، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة. ويكفى فى كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذى شفى العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيى المميت. ومنها: أنه إذا بقى تحت التراب خشب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة، فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة. فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء. قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟ فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسها البقاء والثبات. وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك، والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل، وساخ فى الأرض، ولم يثبت لتجليه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها فى تلك الحال؟ ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة لعار على بنى آدم أن يكونوا منهم. فإن كانت هذه الحكاية صحيحة، فما أقربها من حيل اليهود التى تخلصوا بها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الحبس والهلاك، وحيل بنى آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير. ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها. ومنها: أن عبُّاد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه. ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت، فيا عجبا، كيف يحيى الميت، ويبرأ العليل بالخشبة التى شُهر عليها وصلب؟ أهذا كله من بركتها وفرحها به، وهو مشدود عليها يبكى ويستغيث؟. ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته. ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه، والمتمائلين عليه. بل تتفطر السماوات وتنشق الأرض، وتخر الجبال هَدَّا. ثم يقال لعُبُّاد الصليب: لا يخلوا أن يكون المصلوب الناسوت وحده، أو مع اللاهوت؟ فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده، فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به. وكان المصلوب جسدا من الأجساد، ليس بإله. ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة. وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا. فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه. وهذا أبطل الباطل، وأمحل المحال. فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا. وأما تلاعبه بهم فى صلاتهم فمن وجوه أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة. والمسيح بريء من هذه الصلاة، وسبحانه الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة، فقدره أعلى، وشأنه أجل من ذلك. ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا. وإنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس. ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول فى الصلاة، والمسيح بريء من ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك، كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتى بها شريعة من الشرائع البتة؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة: أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شدوه بالحيل والصور فى الحيطان، بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول البصائر، وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة، والغلظة والمكر والكذب والبهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم، والفواحش، والفجور، والبدعة، والغلو فى المخلوق، حتى يتخذه إلها من دون الله، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم، فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه، ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور، والشرك، والفواحش. ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا. وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء. ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظمهم الجهال: من البدع والظلم، والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به. فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به. فالله طليب قطاع طريق الله، وحسيبهم. فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعبَّاد الصليب، تدل على ما بعدها. والله الهادى الموفق. فصل: فى ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود قال الله تعالى فى حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بَمَا أَنْزَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غضَبٍ} [البقرة: 90] . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنبِّئُكُمْ بَشَر مِنْ ذلِكَ مَثُوبَة عِنْدَ اللهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَر مَكاَناً وَأَضَلّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالْوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَالله أَعْلَمُ بَمِا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 60 - 63] . وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنُفُسُهُم أَنْ سخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] . وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله فى صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون". فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيها، وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لنا إِلهاً كمَا لَهُمْ آلَهِةٌ} [الأعراف: 138] . فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ، وَبَاطِلٌ مَا كانُوا يعْمَلُونَ} [الأعراف: 138] . فأى جهل فوق هذا؟ والعهد قريب، وإهلاك المشركين أمامهم، بمرأى من عيونهم. فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها. فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا؟ فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه. والمجعول مربوب مصنوع، فيستحيل أن يكون إلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وما أكثر الخلف لهؤلاء فى اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا. وقد ثبت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه كان فى بعض غزواته، فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم، يسمونها ذات أنواط. فقال بعضهم: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة". فصل ومن تلاعبه بهم: عبادتهم العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة، والأخذة الرابية، ونبيهم حى لم يمت. هذا، وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه النار، ويدقه بالمطرقة، ويسطو عليه بالمبرد، ويقلبه بيديه ظهرا لبطن. ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم، حتى جعلوه إله موسى. فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبلد الحيوانات، وأقلها دفعا على نفسه، بحيث يضرب به المثل فى البلادة والذل. فجعلوه إله كليم الرحمن. ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا، فقالوا {فنسى} [طه: 88] . قال ابن عباس "أى ضل وأخطأ الطريق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وفى رواية عنه "أى إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه". وعنه أيضا "نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم". وقال السدى "أى ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه". وقال قتادة "أى إن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نسيه وخالفه فى طريق آخر". هذا هو القول المشهور: أن قوله "فنسى" من كلام السامرى وعباد العجل معه. وعن ابن عباس رواية أخرى "أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامرى: أنه نسى، أى ترك ما كان عليه من الإيمان". والصحيح القول الأول. والسياق يدل عليه، ولم يذكر البخارى فى التفسير غيره، فقال يقولونه: "أخطأ الرب". فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بنى إسرائيل يوردونه عليه، فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى، فلأى شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟ فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله "فنسى". وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم. فانظر إلى هؤلاء، كيف اتخذوا إلها مصنوعا من جوهر أرضى، إنما يكون تحت التراب، محتاجا إلى سبك بالنار، وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقا بمطارق الحديد، مقلبا فى النار مرة بعد مرة، قد نحت بالمبارد، وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم. وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال، حيث ذهب يطلب إلها غيره. قال محمد بن جرير: وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثنى به عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادى حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم [ذنوب] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم فى البحر، فمثل له جبريل على فرس أنثى [وَدِيق] فلما رآها الحصان تقحم خلفها، قال: وعرف السامرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 جبريل [لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته فى غار وأطبقت عليه. وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، فيجد فى بعض أصابعه لبنا، وفى الأخرى عسلا، وفى الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ، فلما عاينه فى البحر عرفه] . فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ قبضة من تحت الحافر. قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: "فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول". قال أبو سعيد: قال عكرمة عن ابن عباس "وألقى فى روع السامرى: إنك لا تلقيها على شيء، فتقول: كن كذا وكذا إلا كان، فلم تزل القبضة معه فى يده، حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون. قال موسى لأخيه هارون: اخلفنى فى قومى وأصلح، ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بنى إسرائيل حلى من حلى آل فرعون قد استعاروه، فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله. فلما جمعوه قال السامرى بالقبضة التى كانت فى يده هكذا. [وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا] ، فقذفها فيه وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فصار عجلا جسدا له خوار، فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه، يسمع له صوت. {فَقَالَ هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى} [طه: 88] . فعكفوا على العجل يعبدونه. فقال هارون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى قَالُوا لنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى} [طه: 89 - 90] . وقال السدى "لما أمر الله موسى أن يخرج ببنى إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بنى إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلى من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بنى إسرائيل من البحر، وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامرى، فأنكره. ويقال: إنه فرس الحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا، فأخذ من تربة حافر الفرس. فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بنى إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، فأتمها الله تعالى بعشر. فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلى القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذ تموها [وإلا كان شيئا لم تأكلوه] فجمعوا ذلك الحلى فى تلك الحفرة، وجاء السامرى بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلى عجلا جسدا له خوار [وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما. فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل] فلما رأوه قال لهم السامرى- هذا إلهكم وإله موسى فنسى- يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشى، فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إنما فتنتم به، يقول إنما ابتليتم بالعجل: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} [طه: 90] ، فأقام هارون ومن معه من بنى إسرائيل، لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلى الله يكلمه، فلما كلمه قال له: {مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى} [طه: 83-85] . فأخبره خبرهم. قال موسى: "يا رب هذا السامرى أمرهم أن يتخذوا العجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 فالروح من نفخها فيه؟ قال الرب تعالى: أنا، قال: يا رب أنت إذاً أضللتهم". وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان السامرى [من أهل باجِرما] من قوم يعبدون البقر، فكان يحب عبادة البقر فى نفسه، وكان قد أظهر الإسلام فى بنى إسرائيل. فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها، فإنها نجس، وأوقد لهم نارا. فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى، فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحلى فيها، ورأى السامرى أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: يا نبى الله، ألقى ما فى يدى؟ ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة. فقذفه فيها، فقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان البلاء والفتنة. فقال هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط. يقول الله عز وجل: فنسى أى ترك ما كان عليه من الإسلام، يعنى السامرى. {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِع إِلَيْهِمْ قوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرا وَلا نُفْعاً} [طه: 89] . [وكان اسم السامرى موسى بن ظفر وقع فى أرض مصر فدخل فى بنى إسرائيل] . فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى. قَالُوا لنْ نبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَي} [طه:90] . فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسْرَائِيلَ وَلَمْ تّرْقُبْ قَوْلِى} [طه: 94] . وكان له هائبا مطيعا. فقال تعالى مذكرا لبنى إسرائيل بهذه القصة التى جرت لأسلافهم مع نبيهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ ليْلَةً ثُمُ اتخذتم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِه} [البقرة: 51] . يعنى من بعد ذهابه إلى ربه، وليس المراد من بعد موته. {وَأَنْتُمْ ظَالُمِونَ} [البقرة: 51] . أى بعبادة غير الله تعالى، لأن الشرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة فى غير موضعها. فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه، وفيها كلام الله الذى كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يعتب الله عليه فى ذلك، لأنه حمله عليه الغضب لله. وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر، فإنه ليس الخبر كالمعاينة. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله تعالى فى كتابه حيث يقول: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَة} [البقرة: 55] [أى عيانا] . قال ابن جرير: ذكرهم الله سبحانه بذلك اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم. وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال. {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدْونَ} [المائدة: 24] ومرة يقال لهم {قُولوا حطّةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُم} [البقرة: 58] . فيقولون "حبة فى شعيرة" ويدخلون من قِبَل أستاههم. ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة، فيمتنعون من ذلك، حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة، إلى غير ذلك من أفعالهم، التى آذوا بها نبيهم، التى يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بنى إسرائيل، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فى تكذيبهم محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم، وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم. وقال محمد بن إسحق: لما رجع موسى إلى قومه، فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامرى ما قال، وحرق العجل وذراه فى اليمْ، اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخيِّر فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قوكم، فصوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فقال له السبعون - فيما ذكر لى - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام، حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى عليه السلام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55] . فماتوا جميعا. وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاى، أَتُهْلِكُنَا بَما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] . فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبلُ} [الأعراف: 155] . فقد ذكر فيه وجوه: فقال السدى: لما ماتوا قام موسى يبكى، ويقول: يا رب، ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟. وقال محمد بن إسحق: اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معى منهم رجل واحد؟ فما الذى يصدقونى به، أو يأمنونى عليه بعد هذا؟. وعلى هذا، فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا. فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموننى. وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود. والذى يظهر- والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم. يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضى هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل. وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم: لو شئت واخذتنى من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعنى عفوك أولا، فليسعنى اليوم. ثم قال نبى الله {أَتهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] . فقال ابن الأنبارى وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أى لست تفعل ذلك. والسفهاء هنا: عبدة العجل. قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] . وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ثم قال {إِنّ هِى إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] . وهذا من تمام الاستعطاف، أى ما هى إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم، وهم مع نبيهم، والوحى ينزل عليه من الله تعالى: {ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] . قال قتادة، وابن زيد، والسدى، وابن جرير وغيرهم: هى قرية بيت المقدس: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} [البقرة: 58] ، أى: هنيئاً واسعاً، {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: 58] . قال السدى: هو باب من أبواب بيت المقدس. وكذلك قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، قال: والسجود بمعنى الركوع. وأصل السجود: الانحناء لمن تعظمه. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد، قاله ابن جرير وغيره. قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام، أحدهما لصاحبه من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ثم قيل لهم {قُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . أى حط عنا خطايانا. هذا قول الحسن، وقتادة، وعطاء. وقال عكرمة وغيره: أى قولوا: "لا إله إلا الله" وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التى تحط بها الخطايا، وهى كلمة التوحيد. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس "أمروا بالاستغفار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم. فتلاعب الشيطان بهم، فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم، وفعلا غير الذى أمروا به. فروى البخارى فى صحيحه ومسلم أيضاً، من حديث همام بن منبه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فى شَعْرَةٍ. فبَدَّلُوا القولَ وَالفِعْلَ معاً. فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ". قال أبو العالية: هو الغضب. وقال ابن زيد: هو الطاعون. وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم كانوا فى البريَّة قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيش الثوم والبصل، والعدس، والبقل، والقثاء. فسألوه موسى عليه السلام. وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى عليه السلام: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْراً -أى مصرا من الأمصار- فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فكانوا فى أفسح الأمكنة وأوسعها، وأطيبها هواء، وأبعدها عن الأذى، ومجاورة الأنتان والأقذار، سقفهم الذى يظلهم من الشمس: الغمام، وطعامهم: السلوى، وشرابهم: المن. قال ابن زيد: كان طعام بنى إسرائيل فى التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل من السماء، يقال له: المن. وطعامهم طير، يقال له: السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره. ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة. وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء. فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير. فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى، والغى بالرشاد، والشرك بالتوحيد، والسنة بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق، والعيش الطيب فى المساكن الطيبة فى جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفانى فى هذه الدار؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 فصل ومن تلاعبه بهم: أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها، وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمر الله سبحانه جبريل، فقلع جبلا من أصله على قدرهم. ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرها. قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَل فَوْقَهُمْ كأَنَّهُ ظلّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بهِمْ، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] . قال عبد الله بن وهب قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح، قال لبنى إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذى أمركم به، ونهيه الذى نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله، حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا، فيقول: هذا كتابى فخذوه. فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابى فخذوه؟ فجاءت غضبة من الله تعالى. فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أى شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. قال: فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، الطور. قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق. وقال السدى: لما قال الله تعالى لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم، ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ولم يعملوا بما فى كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم. فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ ثَمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِريِنَ} [البقرة: 63 - 64] . فصل ومن تلاعبهم بهم: أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفرق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم وأعزهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين. ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التى كتب الله لهم وفى ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم. وأن تلك القرية لهم. فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة، بقولهم: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قاعِدُونَ} [المائدة: 24] . وتأمل: تلطف نبى الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره، ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين. فجمع لهم بين الأمر والنهى، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة. فقابلوه أقبح المقابلة. فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: {يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] . فلم يوقروا رسول الله وكليمه، حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبى الله. وقالوا: "إن فيها قوما جبارين" ونسوا قدرة جبار السماوات والأرض الذى يذل الجبابرة لأهل طاعته. وكان خوفهم من أولئك الجبارين - الذين نواصيهم بيد الله- أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة فى صدورهم منه. ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة. فقالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مٍنْهَا} [المائدة: 22] . فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم: {إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] . والثانى: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصدروا الجملة بحرق تأكيد، وهو "إن" ثم حققوا النفى بأداة "لن" الدالة على نفى المستقبل: أى لا ندخلها الآن، ولا فى المستقبل. ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم: {رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23] . بطاعته والانقياد إلى أمره، من الذين يخافون الله. هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين، أسلما واتبعا موسى عليه السلام: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] . أى باب القرية، فاهجموا عليهم، فإنهم قد ملئوا منكم رعبا: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] . ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل. فكان جواب القوم أن {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبّداً مَا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] . فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة، ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يحلم عنهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم حلمه وكرمه، وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم فى برية التيه أربعين عاما يظل عليهم الغمام من الحر، وينزل عليهم المن والسلوى. وفى الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله صلى الله تعالى وسلم أشرق وجهه لذلك وسر به". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 فما قابلوا نبى الله بهذه المقابلة. {قَالَ رَبِّ لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإنّهَا مَحَرَّمَةٌ عَلَيْهمْ أَرْبَعينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِى الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] . فصل ومن تلاعبه بهم فى حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله سبحانه وتعالى [البقرة: 67 - 74] فى كتابه من قصة القتيل الذى قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها. وفى القصة أنواع من العبر: منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوه رسول الله تعالى عليه وآله وسلم. ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين. ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم. ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عدل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم لا يجوز عليه العبث. ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة فى هداية المهتدين، وإعذار وإنذارا للضال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 ومنها: أنه لا ينبغى مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت، وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أى بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعتق رقبة، وأطعم مسكينا، وصم يوما، ونحو ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فإن الآية غنية عن البيان المنفصل، مبينة بنفسها، ولكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم. قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبى العالية "لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها. ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذى لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار. وذلك نوع من الكفر. فإن القوم لما قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةَ} [البقرة: 67] . قابلوا هذا الأمر بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] . فلما لم يعلموا وجه الحكمة فى ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه، قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] . وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله. فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به. ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك. فلما قال لهم: {أَعُوذَ بِاللهِ أَنْ أكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ} [البقرة: 67] . وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا فى التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها. فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها. فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال، توقفوا فى الامتثال، ولم يكادوا يفعلون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] . فإن أرادوا بذلك: إنك لم تأت بالحق قبل ذلك فى أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر. وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام فى تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . فإنه لا إجمال فى الأمر، ولا فى الفعل، ولا فى المذبوح، فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق من أول مرة. قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى "الآن جئت بالحق" وزعم أن ذلك نفى منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق فى أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، قال: وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذى قالوا لموسى جهلا منهم، وهفوة من هفواتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 فصل ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها. قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول "إن القوم بعد أن أحيى الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله. وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآيات والحق" قال الله تعالى: {ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِى كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] . ومنها: مقابلة الظالم الباغى بنقيض قصده شرعا وقدرا. فإن القاتل قصده ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول. ومنها: أن بنى إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب. ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة. والبقر من أبلد الحيوان، حتى ليضرب به المثل. والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل. ففى الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذى لا يمتنع من الذبح والحرث والسقى، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل. فصل ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا: ما قصه الله تعالى علينا [البقرة: 65 - 66] من قصة أصحاب السبت، حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى. ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام، واستباحة الفروج والحرام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 والدم الحرام. وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت. ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه مخادعة الصبيان، ومسخوا دينه بالاحتيال، مسخهم الله تعالى قردة. وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد فى كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا، فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه، وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم فى غير يوم السبت، وإرسالها عليهم يوم السبت، وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه. فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ. فانظر ما فعل الحرص، وما أوجب من الحرمان بالكلية. ومن هاهنا قيل: من طلبه كله فاته كله. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا: أنهم لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها، وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه. فإن ثمنها بدل منها. فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها. كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخترير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ومن تلاعبه بهم أيضا: اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، ولعنته تتناول من فعل فعلهم. ومن تلاعبه بهم أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم. ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، يحرمون عليهم ويحلون لهم. فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم. ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟. قال عدى بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فسألته عن قوله. {اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31] . فقلت: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال: حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم. فكانت تلك عبادتهم إياهم" رواه الترمذى وغيره. وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه، ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه، ويحلل له. ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم فى شأن زكريا ويحيى عليهما السلام، وقتلهم لهما، حتى سلط الله عليهم بختنصر، وسنحاريب وجنودهما، فنالوا منهم ما نالوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 ثم كان منهم فى شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم. فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه رسول الله عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم. فانتقم الله تعالى منهم، ودمر عليهم أعظم تدمير، وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به فى سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى فى الأرض أمما، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم بعد ذلك مُلك إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فكفروا به وكذبوه، فأتم عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء، فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب. قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] . فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثانى: بسبب كفرهم بمحمد، صلوات الله وسلامه عليهما. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أن ألقى إليهم أن الرب تعالى محجور عليه فى نسخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترساً لهم فى جحد نبوة رسول الله محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال. وقد أكذبهم الله سبحانه فى نص التوراة، كما أكذبهم فى القرآن. قال الله تعالى: {كُلّ الطَّعَامِ كانَ حِلا لِبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالُمِونَ قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُوا مِلّةَ إبراهيم حَنِيفاً وما كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [آل عمران: 93- 95] . فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا فى إبطال النسخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبنى إسرائيل، قبل نزول التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه. ومعلوم أن بنى إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذى كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التى كانت حلالا لبنى إسرائيل، وهذا محض النسخ. وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] متعلق بقوله: كان حلاً لبنى إسرائيل. أى كان حلالا لهم قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك. ثم قال تعالى: {قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] . هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم؟ وهى لحوم الإبل وألبانها خاصة. وإذا كان إنما حرم هذا وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه، ظهر كذبكم وافتراؤكم فى إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى فى نسخها. فتأمل هذا الموضع الشريف الذى حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه. وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 من المناكح، والذبائح، والأفعال، والأقوال. وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب، إذ هذا شأن كل الشرائع، وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل. ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟ فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة. فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟ فإن قالوا: لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع، فقد جاهروا بالكذب والبهت وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة، فقد أقروا بالنسخ قطعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وأيضا، فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم قلنا أليس فى التوراة أن من مس عظم ميت، أو وطئ قبرا، أو حضر ميتا عند موته، فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التى كان الإمام الهارونى يحرقها؟ فلا يمكنهم إنكار ذلك. فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟. فإن قالوا: لا نقدر عليه، فيقال لهم: لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة، والذى فى كتابكم خلافه؟. فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهى رماد البقرة، وعدمنا الإمام المطهر ليستغفر. فيقال لهم: فهل أغناكم عدمه عن فعله، أو لم يغنكم؟ فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله. قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعى من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر. فيقال: وكذلك يتبدل الحكم الشرعى بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد فى الأحكام، فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة فى وقت دون وقت، وفى شريعة دون أخرى، كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة فى شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة فى سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة فى شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفى سائر الشرائع، ثم صار مفسدة فى شريعة موسى عليه السلام، وأمثال ذلك كثيرة. وإن منعتم مراعاة المصالح فى الأحكام، ومنعتم تعليلها بها، فالأمر حينئذ أظهر، فإنه سبحانه يحلل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته، لا يسأل عما يفعل. وإن قلتم: لا نستغنى فى الطهارة عن ذلك الطهور الذى كان عليه أسلافنا، فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 فإن قالوا: نعم، الأمر كذلك. قيل لهم: فإذا كنتم أنجاساً على مقتضى أصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام، اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه. فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة. قيل لكم: ليس فى التوراة أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التى أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهى إذاً أشد من نجاسة الحيض. ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تنجسون من لمسها، ولا الثوب الذى تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس فى التوراة. فصل قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حظرت أمورا، كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذى ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبى، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه. قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة. فهذه النكتة هى التى تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم فى جوابها. وإنما أطالوا معهم الكلام فى رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفى نسخ الإباحة بالتحريم. ولعمر الله إنه لمما يبطل شبهتهم، لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابى أو الشرعى، بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق فى اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 والشبهة التى عرضت لهم فى أحد الموضعين هى بعينها فى الموضع الآخر، فإن إباحة الشى فى الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذا لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته. فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى إباحة المفاسد- وحاشا لله- تضمن تحريم المباح فى الشريعة الأولى تحريم المصالح. وكلاهما باطل قطعا. فإذا جاز أن تأتى شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتى شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان فى التوراة محظورا. وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هى التى ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، هى بعينها التى رد بها أسلافهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرا عن كافر. وقالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة. فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح فى موسى فلا تقدحون، فى نبوتهما بقادح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 إلا ومثله فى نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوءة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليس برسول. ويقال للأمة الغضبية أيضا: لا يخلو المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته، بحيث تمنع إباحته فى زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة فى زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال. فإن كان الأول، لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء فى كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام. وإن كان الثانى، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما فى ملة دون ملة، وفى وقت دون وقت، وفى مكان دون مكان، وفى حال دون حال. وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك. ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين؟. وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبى وفى كل شريعة. وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلى عباده لما يشاء، ويحكم ولا يحكم عليه. فما الذى يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى؟. بل أى شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك فى الشريعة الواحدة فى وقتين مختلفين، بحسب المصلحة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِير * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْك السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 106- 107] . فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه فى مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء، ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء. فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارَض الرسول الذى جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته، وتجحد رسالته: بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم. وبالله التوفيق، يضل من يشاء ويهدى من يشاء. ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام فى أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم. فمن ذلك: أنهم يقولون فى صلاتهم ما ترجمته هكذا "اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل". ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا "أردد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء وابْنِ أورشليم قرية قدسك فى أيامنا، وأعزنا بابتنائها، سبحانك يا بانى يورشليم". فهذا قولهم فى صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك. ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم. وكذلك صيامهم، كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا التى جعلوها فرضا لم يصمها موسى، ولا يوشع بن نون. وكذلك صوم صَلْبِ هامان، ليس شيء من ذلك فى التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم. هذا. مع أنه فى التوراة ما ترجمته "لا تزيدوا على الأمر الذى أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا". وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، هم مجمعون على تعطليها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 علمائهم. وعلى التقادير الثلاث. فقد بطلت شبهتهم فى إنكار النسخ. ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التى هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم. وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزانى، وهو نص التوراة. وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة فى التوراة. ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه. وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة. فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم. كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه. ثم رضى أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق. وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبى المرسل إليهم بشرا، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً. وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى. وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه، لئلا يلزم الحصر، ثم جعلوه سبحانه فى الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شددوه على أنفسهم فى باب الذبائح وغيرها، مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام، ولا هو فى التوراة، وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم، وهم فقهاءهم. ولقد كان لهذه الأمة فى قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدراس وفقهاء كثيرون، وذلك فى زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم، حتى فقهاؤهم فى بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود. فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة. وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر. ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره. ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه فى عصر واحد. وإنما ألفوه جيلا بعد جيل. فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن فى الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذى لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها. وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار. وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم فى هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب، وهم من كان على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم، لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى فى هذه الخلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم. ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى. لأن التوراة إنما حرمت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 عليهم مناكحة غيرهم من الأمم، لئلا يوافقوا الأزواج فى عبادة الأصنام والشرك. وحرم عليهم فى التوراة أكل ذبائح الأمم التى يذبحونها قرباناً إلى الأصنام. لأنه قد سمى عليها اسم غير الله تعالى. فأما الذبائح التى لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها. وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدى غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها. فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟ فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحا فى التوراة. اختلقوا كتابا فى علم الذباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة. وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموها. وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه. وأمروا الذى يتفقد الذبيحة أن يدخل يده فى بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر، أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه، ولم يأكلوه. وسموه طريفا. يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وهذه التسمية هى أصل بلائهم. وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا. والطريفا: هى الفريسة التى يفترسها الأسد أو الذئب، أو غيرهما من السباع. وهو الذى عبر عنه القرآن بقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] . والدليل على ذلك: أنه قال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوه، وللكلب ألقوه". وأصل لفظ "طريفا" طوارف. وقد جاءت هذه اللفظة فى التوراة فى قصة يوسف عليه السلام، لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب افترسه. وقال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوا" والفريسة إنما توجد غالبا فى الصحراء. وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوى أخبية يسكنون البر والتيه، لأنهم مكثوا يترددون فى التيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى. وهو طائر صغير يشبه السمان. وفيه من الخاصية أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخروب والقساوة، فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التى لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر فى الأرض. فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به، ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 والمقصود: أن مشايخهم تعدوا فى تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها. وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو "دحيا". ومعنى هذه الفظة أنه طاهر. وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو "طريفا" وتفسيرها أنه حرام. قالوا: ومعنى نص التوراة "ولحما فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه" أى إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم. وفسروا قوله "للكلب ألقوه" أى لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه. وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب. ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان: إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود، هم فقهاء اليهود، وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبى. وهم أصحاب حماقات وتنطع، ودعاوى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا فى شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق فى هذه المسألة مع الفقيه فلان، ويسمون هذا الصوت "بث قول". فلما نظرت اليهود القراءون، وهم أصحاب "عانان وبنيامين" إلى هذه المحالات الشنيعة، وهذا الافتراء الفاحش، والكذب البارد. انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذبوهم فى كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم، حيث ادعوا النبوة، وأن الله تعالى كان يوحى إليهم، كما يوحى إلى الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وأما تلك الترهات التى ألفها الحاخاميم، وهم فقهاؤهم، ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين اطرحوها كلها، وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التى يتولون ذباحتها البتة، ولم يحرموا سوى لحم الجدى بلبن أمه فقط، مراعاة لنص التوراة: "لا تنضج الجدى بلبن أمه" وليسوا بأصحاب قياس، بل أصحاب ظاهر فقط. وأما الفرقة الثانية: فهم الربانون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددا من القرائين، وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم فى كل مسألة بالصوت، الذى يسمونه "بث قول". وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم، الذى نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر مآكل الأمم وذبائحهم، كما ينظر إلى العذرة. وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحاخاميم قصدا بذلك المبالغة فى مخالفتهم الأمم، والإزراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال، والتشديدات. وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا، وأكثر تحريما، قالوا: هذا هو العالم الربانى. ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد: أنهم مبددون فى شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم فى بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة فى دينهم والمبالغة فى الاحتياط، فإن كان من المتفقهة فهو يسرع فى إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عما هم عليهم، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه، وإلى أهل بلده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ويكون فى أكثر تلك الأشياء كاذبا، وقصده بذلك إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل بعض مآربه منهم، ولا سيما إن أراد المقام عندهم. فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذابحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدى، فتراهم معه فى عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها، حتى لا يشكون فى ذلك. فإن قدم عليهم قادم آخر، فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم، تلقاه وأكرمه، وسعى فى موافقته وتصديقه، فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد عظم الله تعالى ثواب فلان، إذ قوى ناموس الدين فى قلوب هذه الجماعة، وشد سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره. وإن كان القادم الثانى منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وينسبونه إما إلى الجهل، وإما إلى رقة الدين، لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة، وتحريم الحلال، هو المبالغة فى الدين. وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم. هذا إن كان القادم من فقهائهم. فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذى يعتمد، والسنن التى يحدثها ويلحقها بالفرائض. فتراهم مسلمين له منقادين، وهو يحتلب درهم، ويجتلب درهمهم، حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت، أو اشترى لبنا من مسلم، تلبسه وسبه فى مجمع اليهود، وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم إذا رأوا الأمر أو النهى مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم، طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل. فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة. فمن ذلك: أنهم إذا أقام أخوان فى موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبى، بل ولد حميها ينكحها. وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه، تقول: قد أبى ابن حمى أن يستبقى اسما لأخيه فى إسرائيل. ولم يرد نكاحى، فيحضره الحاكم هناك، ويكلفه أن يقف ويقول: ما أردت نكاحها. فتتناول المرأة نعله فيخرجه من رجله، وتمسكها بيدها وتبصق فى وجهه، وتنادى عليه: كذا فليصنع بالرجل الذى لا يبنى بيت أخيه، ويدعى فيما بعد بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببنى مخلوع النعل. هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون فى التوراة. وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج. فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه. فإن كان مبغضا لها زاهداً فى نكاحها، أو كانت هى زاهدة فى نكاحه مبغضه له، استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه، فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم، ويلقنونها أن تقول: أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما فى إسرائيل، لم يرد نكاحى: فيلزمونها بالكذب عليه، لأنه أراد نكاحها وكرهته، وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب، وأن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها. ولعل ذلك سؤله وأمنيته، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يكفهم أن كذبوا عليه، وألزموه أن يكذب، حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق فى وجهه. ويسمون هذه مسألة "البياما والجالوس". وقد تقدم من التنبيه على حيلهم فى استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية. فالقوم بيت الحيل والمكر، والخبث. وقد كانوا يتنوعون فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم. فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه، وهو جالس فى ظل حائط، فأتاه الوحى، فقام منصرفاً، وأخذ فى حربهم وإجلائهم. ومكروا به وظاهروا عليه أعداءه من المشركين، فظفره الله تعالى بهم. ومكروا به وأخذوا فى جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم، فقتله. ومكروا به وأرادوا قتله بالسم، فأعلمه الله تعالى به، ونجاه منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 ومكروا فسحروه، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله. فشفاه الله تعالى وخلصه. ومكروا به فى قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِى أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] . يريدون بذلك تشكيك المسلمين فى نبوته، فإنهم إذا أسلموا أول النهار اطمأن المسلمون إليهم، وقالوا: قد اتبعوا الحق، وظهرت لهم أدلته، فيكفرون آخر النهار، ويجحدون نبوته، ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به. وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم. ولم يزالوا مُوضعِين مجتهدين فى المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ورضى عنهم - أعظم الخزى، ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت. وكانوا يعاهدونه عليه الصلاة والسلام، ويصالحونه. فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده. ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها، وأذلها، وقطعهم فى الأرض، انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان، إلى التدبير بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع. وكذلك كل عاجز جبان سلطانه فى مكره وخداعه، وبهته وكذبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أن قال: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكن إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم، وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالى حيطان الكرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وهذا من غاية جهلهم وسفههم. فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالى حيطانه الشوك، حفظا له، وحياطة وصيانة. ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار. كما يفعل الناس بالشوك. ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبى، إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذى وعدوا به. وهم فى الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال. فهم أكثر أتباعه. وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يبقى منهم أحدا. والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج فى آخر الزمان، فإنهم وعدوا به فى كل ملة. والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعباده من النصارى، وينتظرون خروج المهدى من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون فى صلاتهم "لم تقول الأمم: أين إلههم؟ انتبه. كم تنام يارب؟ استيقظ من رقدتك". وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية، وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا. فأوقعهم ذلك فى الكفر والتزندق الذى لا يستحسنه إلا أمثالهم. وتجرءوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخى لهم ويحمى لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه، ولأبناء أنبيائه. فينخونه للنباهة، واشتهار الصيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات فى الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم. وأنها تؤثر فيه، وتحركه، وتهزه وتنخيه. ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل. فمن ذلك: قولهم فى التوراة التى بأيديهم "وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين فى الأرض، وشق عليه، وعاد فى رأيه". وذلك عندهم فى قصة قوم نوح. وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح، وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر. وكثير منهم يقول: إنه بكى على الطوفان، حتى رمد، وعادته الملائكة. وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها. وقالوا أيضا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بنى إسرائيل. وأنه قال ذلك لشمويل. وعندهم أيضا: أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى، وقرب عليه قرابين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى فى ذاته "لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت". وقد واجهوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات. فقال قائل منهم للنبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، ثم استراح. فشق ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك: {فَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] . فإن أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو منزه عنه. فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى، حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق. وكذلك قال فنحاص لأبى بكر رضى الله عنه: إن الله فقير ونحن أغنياء. لهذا استقرضنا من أموالنا. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنَ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَق وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 182] . وقالوا أيضاً: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيديهم، وَلُعِنُوا بَمِا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يشَاءُ} [المائدة: 64] . ويقولون فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: "يا إلهنا وإله آبائنا، أملك على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذى نسمة: الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته فى الكل متسلطة". ويقولون فى هذه الصلاة أيضا: "وسيكون لله تعالى الملك. وفى ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا، واسمه واحدا". ويعنون بذلك: أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وأمته. فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه، وتعالى خامل الذكر عند الأمم، مطعون فى ملكه، مشكوك فى قدرته. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يقولون بالقدح فى الأنبياء، وأذيتهم. وقد آذوا موسى عليه السلام فى حياته، ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه. ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم فى ذلك حيث يقول: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأه اللهُ مَّمِا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً} [الأحزاب: 69] . وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالت بنو إسرائيل: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب موسى يغتسل. فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه. قال: فجمع موسى بأثره، يقول: ثوبى حجر، ثوبى حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. وقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر، حتى نظر إليه بنو إسرائيل، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربا" قال أبو هريرة "والله إن بالحجر لندبا، ستة أو سبعة. من أثر ضرب موسى الحجر" وأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مَّمِا قَالُوا} [الأحزاب: 69] الآية. وقال ابن جرير، حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد "قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدر. وقالت طائفة: هو أبرص، من شدة تستره". وقال ابن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "كان موسى رجلا حييا ستيرا، لا يكاد يرى من جلده شيء، استحياء منه. فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل وقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة. وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا" وذكر الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن الحكم بن جبير عن ابن عباس عن على بن أبى طالب فى قوله تعالى: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] . قال "صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون. فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك، وآذوه بذلك. فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الَّرخم، فجعله الله تعالى أصم أبكم". وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُنَنِى؟ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] . فإنها جملة فى موضع الحال: أى أتؤذوننى وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم. وتأمل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ} [الصف: 5] . وذلك أبلغ فى العناد. وكذلك المسيح قال: {يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِى مِنْ بعْدى اسْمُهُ أحْمَد فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] . فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم. وأما أذاهم لهم بالقتل والبغى فأشهر من أن يذكر. ولقد بالغوا فى أذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجهدهم بالقول والفعل، حتى ردهم الله تعالى خاسئين. ومن قدحهم فى الأنبياء: ما نسبوه إلى نص التوراة. أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها، ونجى لوطا بابنتيه فقط، ظن ابنتاه أن الأرض قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 خلت ممن يستبقين منه نسلا. فقالت الصغرى للكبرى: إن أبانا شيخ ولم يبق فى الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر، فهلمى نسقى أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقى من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم. فنسبوا لوطا النبى عليه السلام إلى أنه سكر، حتى لم يعرف ابنتيه، ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما. فولدت إحداهما ولدا أسمته "مواب" يعنى أنه من الأب. والثانية سمت ولدها "بنى عمو" يعنى أنه من قبيلتها. وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة، فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم. فإن فيها "أن إبراهيم الخليل خاف فى ذلك العصر أن يقتله المصريون، حسدا له على زوجته سارة، فأخفى نكاحها، وقال: هى أختى، علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل". وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا فى ذلك الزمان. فما ظنك بنكاح البنت الذى لم يشرع ولا فى زمن آدم عليه السلام؟. وعندهم أيضا فى التوراة التى بأيديهم قصة أعجب من هذه. وهى أن يهوذا بن يعقوب النبى زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها "تامار" فكان يأتها مستدبرا، فغضب الله تعالى من فعله. فأماته، فزوجها يهوذا من ولده الآخر. فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض، علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه. فكره الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضا. فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا، ويتم عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه. فأقامت فى بيت أبيها. ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا، وصعد إلى منزل [يقال له مناث] ليحرس غنمه، فلما أخبرت المرأة "تامار" بإصعاد حموها إلى المنزل، لبست زى الزوانى، وجلست فى مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدى، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعلقت منه. فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 بإحراقها، فبعث إليه بخاتمه وعصاه. فقالت: من رب هذين أنا حامل. فقال صدقت، ومنى ذلك. واعتذر بأنه لم يعرفها. ولم يستحل معاودتها. ولا تسليمها إلى ولده، وعلقت من هذا الزنا بفارص. قالوا: ومن ولدها داود النبى. ففى ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام وهذا كله عندهم وفى نص كتابهم. وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر. ومن العجب: أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا، ويسمونهم "ممزيريم" واحدها "ممزير" وهو اسم لولد الزنا. لأن فى شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا. وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" بزعمهم. قالوا: وكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة، فسافر إلى الشام فى تجارة لخديجة. واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام. فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة، ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين فى القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرره عبد الله بن سلام: أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" أولاد زنا. ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم. وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة، كما للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت. وليس بمستنكر من أمة قدحت فى معبودها وإلهها، ونسبته إلى مالا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم، أن ينسبوا محمدا صلى الله تعالى وآله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وسلم وبجل وكرم وعظم - إلى ذلك. وعدواته لهم، وملاحمه فيهم، وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم معلوم، غير مجهول. وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر، ولد بغية. ونسبت أمه إلى الفجور. ونسبت لوطا إلى أنه وطئ ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر. ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا. وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا. ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله، فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال "يا يوسف تكون من الزناة، وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء؟ " فقام حينئذ. ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة. ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوى جماعة من المرضى فى يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك، فقال لهم: "أخبرونى عن الشاة من الغنم إن وقعت فى بئر، أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذى هو أكبر حرمة من الغنم؟ " فأفحموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 ويحكون أيضا عنه. أنه مشى مع قوم من تلاميذه فى جبل، ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم فى تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش فى يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته، وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت، ألستم تجيزون له قطع النبات؟ قالوا: بلى. قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه، وليتغذوا به، لا لقطع السبت. ومن العجب: أن عندهم فى التوراة التى بأيديهم: "لا يزول الملك من آل يهودا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتى المسيح" وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك. فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملككم، ولم يبق لكم اليوم ملك. وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل. ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله، استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم وتفرق شملهم. فيقال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟. فيقولون: إنه ولد يوسف النجار لِغَيَّة لا لِرَشْدَة وقد كان عرف اسم الله الأعظم سحر به كثيرا من الأشياء. وعند هذه الأمة الغضبية أيضا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات. فيقال لهم فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله، فلم صدقتم نبوته، وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى، وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فأجاب بعضهم عن الإلزام: بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم، فعلمه بالوحى، وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس. وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه. وهو يسد عليهم العلم بنبوة موسى. لأن كلا الرسولين اشتركا فى المعجزات والآيات الظاهرة، التى لا يقدر أحد أن يأتى بمثلها. فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيله أو بعلم. فالآخر يمكن ذلك فى حقه. وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما. فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين. وأيضا، فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى. فإن أمكن القدح فى معجزات عيسى أمكن القدح فى معجزات موسى عليه السلام. وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل. وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين - مع بعد العهد، وتشتت شمل أمتيهما فى الأرض، وانقطاع معجزاتهما - فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف؟ والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن. وأعظهما معجزة كتاب باق غض طرى لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذى أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا؟. فصل ولا يمكن البتة أن يؤمن يهودى بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين: أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما. فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة، وكلمة قائمة، وآيات باهرة، وتصديق من ليس مثله ولا قريبا منه فى ذلك؟ لأنه لم ير أحد النبيين، ولا شاهد معجزاته. فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما. وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبى واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه به. قال الله تعالى: {إِنَّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِه وَيُرِيدُونَ أَنْ يفُرِّقوا بْينَ اللهِ ورُسُلِه وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ ببِعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاَ أُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، حَقا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً * وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غفُوراً رَحِيماً} [النساء: 150 - 152] ، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمنُونَ كُل آمَنَ بِاللهَ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} [البقرة: 285] . فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا. فنقول له: بأى شيء عرفت نبوته وصدقه؟ فله جوابان. أحدهما: أن يقول: أبى عرفنى ذلك، وأخبرنى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 والثانى: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندى، كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها. فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبى وإخباره إياى بنبوة موسى هى سبب تصديقى بنبوته. قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا فى ذلك، معصوماً عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك. فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة، قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذى هم عليه ضلال. فلزمك أن تبحث ما أخذته عن أبيك، خوفا أن تكون هذه حاله. فإن قال: إن الذى أخذته عن أبى أصح من الذى أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله. فإن قال: أبى أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل، عارضه سائر الناس فى آبائهم بنظير ذلك. فإن قال: أنا أعرف حال أبى، ولا أعرف حال غيره. قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأصدق وأعرف؟. وبكل حال. فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة، كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا، كان تقليده لأبيه باطلا. فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثانى، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن. فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التى تضطرنى إلى تصديقه. فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب. لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام: فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام. قيل لك: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية. فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم أضعاف أضعافكم بكثير. والمعجزات التى شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التى أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. وأنت لا تقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 خبر التواتر فى ذلك وترده، فيلزمك أن لا تقبله فى أمر موسى عليه السلام. ومن المعلوم بالضرورة: أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض. وإذا اشتهر النبى فى عصر وصحت نبوته فى ذلك العصر بالآيات التى ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به. وموسى ومحمد والمسيح فى هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وقطعها فى الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواهم من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت فى الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك. وأما الحنفاء، فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا؟. فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا البتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح. لأنهم آمنوا بهما على يد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد، وبما جاء له. فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا أمنا بهما. ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين. فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكتابه هو الذى قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود ولا النصارى. بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما. فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا به قبل ظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما. وهذا أحد المعنيين فى قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلَهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جَاءَ بَالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} [الصافات: 36- 37] . أى مجيئه تصديق لهم من جهتين. من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به. فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحى، ثم جاء نبى آخر لم يقارنه فى الزمان ولا فى المكان، ولا تلقى عنه ما جاء به، وأخبر بمثل ما أخبر به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته، بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء. فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثانى. والمعنى الثانى: أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء، مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم، شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة، لم يصدق من قبله، بل كان يزرى بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء. فصل وقد اختلف أقوال الناس فى التوراة التى بأيديهم: هل هى مبدلة، أم التبديل والتحريف وقع فى التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال طرفين، ووسط. فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة. ليست التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض: وغلا بعضهم. فجوز الاستجمار بها من البول. وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام، فقالوا: بل التبديل وقع فى التأويل، لا فى التنزيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وهذا مذهب أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 قال فى صحيحه: "يحرفون: يزيلون. وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله". وهذا اختيار الرازى فى تفسيره. وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع فى هذه المسألة بين بعض الفضلاء. فاختار هذا المذهب ووهن غيره، فأنكر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به. ومن حجة هؤلاء: أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا. ولا يعلم عدد نسخها إلا الله تعالى. ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير فى جميع تلك النسخ. بحيث لا يبقى فى الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة. والتغيير على منهاج واحد. وهذا مما يحيله العقل، ويشهد ببطلان. قالوا: وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم محتجا على اليهود بها: {قُلْ فَائْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] . قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولهذا لما قرؤوها على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضع القارئ يده على آية الرجم. فقال له عبد الله بن سلام: "ارْفَعْ يَدَكَ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ". فرفعها فإذا هى تلوح تحتها. فلو كانوا قد بدلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه. قالوا: وكذلك صفات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومخرجه هو فى التوراة بين جدا. ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 يمكنهم إزالته وتغييره. وإنما ذمهم الله تعالى بكتمانهم. وكانوا إذا احتج عليهم بما فى التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره. قالوا: وقد روى أبو داود فى سننه عن ابن عمر رضى الله عنه، قال: "أَتَى نَفُر مِنَ الْيَهُود. فَدَعَوْا رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلَم إلى القُفِّ فأتاهم فى بَيْتِ المِدْرَاسِ، فقَالُوا يا أبا القاسم، إِنَّ رَجُلاً مِنَّا زَنَى بامْرَأةٍ، فَاحْكُمْ، فَوَضَعُوا لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَسلَم وِسَادَةً، فَجِلَسَ عَليهَا ثمَّ قَالَ ائْتُونِى بالتَّوْرَاةِ فأُتِى بها فَنَزَعَ الْوِسَادَهَ مِنْ تحْتِهِ، ووَضَعَ التَّوْرَاةَ عَليهَا ثمَّ قالَ آمَنْتُ بِكِ وَبمَنْ أَنْزَلَكِ قالَ ائْتُونَى بأَعْلَمِكُمْ فأُتِى بِفَتى ثم ذكر قِصَّةَ الرَّجْم". قالوا: فلو كانت مبدلة مغيرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل: "آمَنْتُ بِكِ وبَمنَ أَنْزَلَكِ". قالوا وقد قال تعالى: {وَتَّمتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115] والتوراة من كلماته. قالوا: والآثار التى فى كتمان اليهود صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى التوراة ومنعهم أولادهم وعوامهم الاطلاع عليها مشهورة، ومن اطلع عليها منهم، قالوا له ليس به. فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة. وتوسطت طائفة ثالثة. وقالوا: قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه. والتبديل فى يسير منها جدا. وممن اختار هذا القول شيخنا فى كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح". قال: وهذا كما فى التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 "اذبح ولدك بكرك، ووحيدك إسحاق" زيادة منهم فى لفظ التوراة. قلت: وهى باطلة قطعا من عشرة أوجه. أحدها: أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث. فالجمع بين كونه مأمور بذبح بكره وتعيينه بإسحاق جمع بين النقيضين. الثانى: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويسكنها فى برية مكة، لئلا تغير سارة. فأمر بإبعاد السرية وولدها عنها، حفظا لقلبها، ودفعا لأذى الغيرة عنها. فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة. الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده. الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحاق: {بِإِسْحقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . فبشرها بهما جمعيا، فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق، وقد بشر أبويه بولد ولده؟. الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها: {وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحقَ نَبِيا مِنَ الصَّالحِينَ} [الصافات: 112] . فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبذل ولده له، وجعل من إثابته على ذلك: أن آتاه إسحق. فنجى إسماعيل من الذبح، وزاده عليه إسحق. السادس: أن إبراهيم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - سأل ربه الولد. فأجاب الله دعاءه، وبشره، فلما بلغ معه السعى أمره بذبحه. قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالحِينَ فَبَشّرْ نَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99- 101] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا، وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن. وأما إسحق فإنما بشر به من غير دعوة منه، بل على كبر السن، وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَما لَبِثَ أنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إٍلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لا تَحَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائمة فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحقَ يَعْقوبِ، قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخاً؟ إنَّ هذَا لَشَئ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 69-73] . فتأمل سياق هذه البشارة وتلك، تجدهما بشارتين، متفاوتتين، مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى. والبشارة الأولى كانت له. والثانية كانت لها. والبشارة الأولى هى التى أمر بذبح من بشر به فيها، دون الثانية. السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرق بينه وبين أمه. وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضرتها فى بلدها، ويدع ابن ضرتها؟. الثامن: أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلا. والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه، ليس فيه شعبة لغيره. فلما سأله الولد، وهبه إسماعيل. فتعلق به شعبة من قلبه. فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له، ليست لغيره من الخلق. فامتحنه بذبح ولده. فلما أقدم على الامتثال. خلصت له تلك الخلة، وتمحضت لله وحده. فنسخ الأمر بالذبح، لحصول المقصود وهو العزم، وتوطين النفس على الامتثال. ومن المعلوم: أن هذا إنما يكون فى أول الأولاد، لا فى آخرها. فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج فى الولد الآخر إلى مثله. فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه. كما أمر بذبح الأول. فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره فى الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 على مزاحمة الخلة به مدة طويلة. ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك. وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله. التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر، وإسماعيل عليه السلام رزقه فى عنفوانه وقوته. والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد، وهو إليه أميل وله أحب، بخلاف من يرزقه على الكبر. ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة. العاشر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفتخر بقوله: "أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ". يعنى أباه عبد الله، وجده إسماعيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 والمقصود: أن هذه اللفظة مما زادوها فى التوراة. ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها، والحق أحق ما اتبع، فلا تغلوا غلو المستهينين لها، المتمسخرين بها، بل معاذ الله من ذلك. ولا نقول: إنها باقية كما أنزلت من كل وجه، كالقرآن. فنقول، وبالله التوفيق: علماء اليهود وأحبارهم يعتقدون أن هذه التوراة التى بأيديهم ليست هى التى أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها. لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بنى إسرائيل، خوفا من اختلافهم من بعده فى تأويلها، المؤدى إلى تفرقهم أحزابا. وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوى. ودليل ذلك قوله فى التوراة: "وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى بنى إسرائيل إلى الأئمة من بنى لاوى". وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم. ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبنى إسرائيل إلا نصف سورة، وهى التى قال فيها: "وكتب موسى هذه السورة وعلمها بنى إسرائيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 هذا نص التوراة عندهم، قال: "وتكون لى هذه السورة شاهدة على بنى إسرائيل". وفيها: قال الله تعالى: "إن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم". يعنى أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويسبون فى البلاد. فهذه السورة تكون متداولة فى أفواههم. كالشاهد عليهم. الموقف لهم على صحة ما قيل لهم. فما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم. وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بنى إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عمن سواهم. وهؤلاء الأئمة الهارونيون - الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها - قتلهم بختنصر على دم واحد، يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنة. بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة. فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم جمع من محفوظاته، ومن الفصول التى يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التى بأيديهم ولذلك بالغوا فى تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة. فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق. لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وغلا بعضهم فيه حتى قال: هو ابن الله. ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود، إلى جنسهم، لا إلى كل واحد منهم. فهذه التوراة التى بأيديهم فى الحقيقة كتاب عزرا. وفيها كثير من التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام. ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور. أحدها: بعض الزيادة والنقصان. الثانى: اختلاف الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الثالث: اختلاف التأويل والتفسير. ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال. المثال الأول: نص ما تقدم من قوله "ولحم فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه". وتقدم بيان تحريفهم هذا النص وحمله على غير محمله. المثال الثاني: قوله فى التوراة "نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، به فليؤمنوا". فحرفوا تأويله، إذ لم يمكنهم أن يبدلوا تنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنبى من بنى إسرائيل. وهذا باطل من وجوه. أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال "من أنفسهم" كما قال فى حق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكَمْ} [التوبة: 128] ولم يقل من إخوتكم. الثانى: أن المعهود فى التوراة: أن إخوتهم غير بنى إسرائيل. ففى الجزء الأول من السفر الخامس قوله "أنتم عابرون فى تخوم إخوتكم بنى العيص المقدس فى سيعير، إياكم أن تطمعوا فى شيء من أرضهم". فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق. والروم هم بنو العيص، واليهود بنو إسرائيل، وهم إخوتهم. فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بشمويل أو غيره من بنى إسرائيل، لم يصح أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بنى إسرائيل. وإنما المفهوم من هذا: أن بنى إسماعيل أو بنى العيص هم إخوة بنى إسرائيل. الرابع: أنه قال: "سأقيم لهم نبيا مثلك" وفى موضع آخر "أنزل عليه التوراة مثل توراة موسى". ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بنى إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفى التوراة "لا يقوم فى بنى إسرائيل مثل موسى". وأيضا فليس فى بنى إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام. والمسيح كان من أنفس بنى إسرائيل، لا من إخوتهم، بخلاف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنه من إخوتهم بنى إسماعيل. وأيضا. فإن فى بعض ألفاظ هذا النص "كلكم له تسمعون" وشمويل لم يأت بزيادة ولا بنسخ، لأنه إنما أرسل ليقوى أيديهم على أهل فلسطين، وليردهم إلى شرع التوراة. فلم يأت بشريعة جديدة، ولا كتاب جديد. وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بنى إسرائيل. فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء. كلما هلك نبى قام فيهم نبى. فإن كانت هذه البشارة لشمويل، فهى بشارة بسائر الأنبياء الذين بعثوا فيهم. ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام، وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 المثال الثالث: قوله فى التوراة "جاء الله تعالى من طور سيناء، وأشرق نوره من سيعير، واستعلن من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين". وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة، الذى يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى. ويعلمون أن فى هذا الجبل كان مقام المسيح. ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور. وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشام. وهذا من بهتهم، وتحريف التأويل. فإن جبال فاران هى جبال مكة و"فاران" اسم من أسماء مكة. وقد دل على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران، وهى جبال مكة. ولفظ التوراة "أن إسماعيل أقام فى برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر". فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران، لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها. ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام. وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فصل ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم، وفساد رأيهم وعقولهم كما فى التوراة "أنهم شعب عادم الرأى. فليس فيهم فطانة": أنهم سمعوا فى التوراة "يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك، ولا ينضج الجدى بلبن أمه". والمراد بذلك: أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم: أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم، وأبكار مستغلات أرضهم، لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام، وفى اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا. فأشار فى هذا النص بقوله "لا ينضج الجدى بلبن أمه" إلى أنهم لا يبالغون فى إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها، بل يستصحبون أبكارهم اللاتى قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس، ليتخذوا منها القرابين. فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ فى القدر، وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدى باللبن. ولم يكفهم هذا الغلط فى تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ "الجدى" وألغوا لفظ "أمه" وحملوا النص ما لا يحتمله، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة. والأمر فى هذا ونحوه قريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 فصل ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، واتفاقهم على أنواع الضلال. فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها، انطمست معالم دينها واندرست آثارها. فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات، وإخراب البلاد وإحراقها، لا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا، وعزها ذلا، وكثرتها قلة. وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار، كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر. وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر، لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التى استولت عليها: من الكلدانيين، والبانليين، والفرس، واليونان، والنصارى وآخر ذلك المسلمون. وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم، وبالغ فى إحراق بلادهم وكتبهم، وقطع آثارهم إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم، وفى غيرهم، حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بَما تَعْملُونَ خَبِيراً} [النساء: 135] ويقول: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس، وذمة النصارى، بحيث لم يبق لهم مدينه ولا جيش. وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب، فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل ظهوره، ويعدونهم بأنه سيخرج نبى نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله تعالى وآله وسلم سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغى على الكفر به وتكذيبه. وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك، الإسرائيلين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا فى تطلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها فى العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة. فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم، فما الظن بالآفات التى نالتهم من غير ملوكهم، وقتلهم أئمتهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم من القيام بدينهم؟. فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان. وكثيرا ما منعوهم من الصلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب [سوى بلادهم التى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 هى أرض كنعان] . فلما رأت هذه الأمة الجِدَّ من الفرس فى منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية [زعموا أنها فصول من صلاتهم] سموها الحزانة، وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون فى أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها. وسموا القائم بها الحزان. والفرق بينها وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن، والمصلى يتلو الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره. والحزَّان يشاركه غيره فى الجهر بالحزانة، ويعاونونه فى الألحان. فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم، قالت اليهود: إنا ننعى أحيانا، وننوح على أنفسنا. فيتركونهم وذلك. فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة، ولم يعطلوها. فهذه فصول مختصرة فى كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى عز وجل عليه، وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان، ويهتدى بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبى الحق من هذه الأمة. ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367