الكتاب: مسائل وفتاوى نجدية (طبع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الرابع، القسم الأول) المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مسائل وفتاوى نجدية (طبع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الرابع، القسم الأول) عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الكتاب: مسائل وفتاوى نجدية (طبع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الرابع، القسم الأول) المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مسائل وفتاوى للشيخ: عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن -متع الله المسلمين بحياته، وبارك لهم في ساعاته- عن قول الخطيب: "الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمد يته وكنه ذاته". فهذه الألفاظ ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم، فإنهم الذين تاهوا وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته وما يعرف به، ويوجب الإيمان به، ومعرفته، وإثبات ربوبيته، وصفات كماله. فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية. فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته، وتصرفه في مخلوقاته، وهو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه منه إلهيته فقال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1، فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} 2، فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل، وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن: يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه ليعرفوه بذلك الذي أبدعه وأوجده وأنعم به كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 3 الآية. وأمثال هذا في القرآن كثير وتدبره والعلم به   وأمثال هذا في القرآن كثير، وتدبره والعلم به 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة الكهف آية: 1. 3 سورة فاطر آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يحصل كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها وصفاته؛ فكل ما وصف به نفسه فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان، الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم. وأما أهل الجدل من أهل الكلام فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 [ الفرق بين الرخصة والعزيمة وحكم الشرع فيهما] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم صالح الشتري. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط إبلاغك السلام، وما أشرت إليه في تحرير قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبتت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وضدها العزيمة. فأقول: اعلم أن العزيمة شرعا حكم ثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح. فقوله: بدليل شرعي، احتراز عما ثبت بدليل عقلي. وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل، فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم والعمل، فقد قال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1، فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته من عظيم مخلوقاته. لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقوف، وأثبتت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي. وإن كان راجحا لزم العمل بمقتضاه، وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة. فالتحريم فيها عزيمة لأنه   1 سورة الأنعام آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض، فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التعليم، وهو راجح عليه حفظا للنفس، فجاز الأكل وحصلت الرخصة. وأما الرخصة فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. فقوله: ما ثبت على خلاف دليل شرعي، احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة، بل عزيمة، كالصوم في الحضر. وقوله: لمعارض راجح، احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساويا فيلزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصرا عن مساواة الدليل الشرعي فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها. وعلى التعريف المذكور يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام، وخالفها لمعارض راجح عليها كأكل الميتة عند المخمصة. انتهى. [مسألة الجد والإخوة] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ الشيخ محمد بن عجلان -سلمه الله -تعالى-. وبعد ما ذكرت من مسألة الجد والإخوة، فذكر في الاختيارات: أن الجد يحجب الأخوة وهو قول أبي بكر، وقال به غيره من الصحابة، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله تعالى- وهو الذي يختاره أشياخنا. والله أعلم. [قلب الدَّيْن على من له عقار وعوامل ونواصح ونحوها] بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وآله وصحبه والتابعين والعلماء العاملين. من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه من الإخوان، وفقني الله وإياهم لسلوك منهج العلم والإيمان. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد سألني بعض الإخوان عن قلب الدَّين إن كان له عقار وعوامل ونواصح ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فأجبت إلى أنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحال الأولى أن يضيق المال عن الدَّين، فهذا مفلس عند العلماء -رحمهم الله-. إذا سأل غرماؤه الحاكم -ولو بعضهم- لزمه الحجر عليه في ماله. وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجورا عليه بدون حكم الحاكم، وهذا لا يجوز قلب الدَّين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدَّين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [ في الرد على الجهمية والرافضة ] بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن أحبه ووده. من عبد الرحمن بن حسن إلى أخيه راشد بن مطر -سلمه الله -تعالى-، وزاده علما وإيمانا وتوفيقا وتحقيقا وإذعانا-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال من معرفة الإسلام ومحبته وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1، فرحمته: الإسلام والإيمان، وقيل: القرآن، وهما متلازمان، ورحمته أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية والرافضة والمعتزلة عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث قد ابتلي بهم أهل السنة والجماعة قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا، وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه ناله منهم عناء ومشقة. فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة ليمتحن حزبه بحربه كما جرى   1 سورة يونس آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 للرسل من أعدائهم في الدين، قال –تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} 1، ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك، ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2. وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال –تعالى-: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 4 الآية. فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل وجبت عداوته، والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن. وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله –تعالى- على عرشه، فهو قول الجهمية سواء بسواء. وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقول الله –تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 في سبعة مواضع، وكقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 7 والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 8، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 9، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 10 الآيتين. وكل هذه الآيات نصوص في علو الله –تعالى- على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف. وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالٍ. قد وصفوه بما يوصف به المعدوم، وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت. وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية:" ربنا الله الذي في السماء، تقدَّس اسمك" 11 الحديث. وجوهرة السنوسي ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية. ومذهبهم أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه الذي تكلم به، وخالفوا الكتاب والسنة. قال –تعالى-: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 12، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 13،   1 سورة الفرقان آية: 31. 2 سورة العنكبوت آية: 3. 3 سورة الصافات آية: 173. 4 سورة محمد آية: 7. 5 سورة طه آية: 5. 6 سورة الأعراف آية: 54. 7 سورة المعارج آية: 4. 8 سورة النحل آية: 50. 9 سورة آل عمران آية: 55. 10 سورة الملك آية: 16. 11 أبو داود: الطب 3892. 12 سورة الفتح آية: 15. 13 سورة التوبة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 2. والأدلة على هذا كثيرة جدا. والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء تبرَّأ منه في كتابيه الإبانة، والمقالات وغيرهما، وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات؛ لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات. [جحود توحيد الألهية ودعاء غير الله كفر] وأما من جحد توحيد الإلهية، ودعا غير الله فلا شك في كفره، وقد كفَّره القرآن. والسنوسي وأمثاله من المتأخرين، ليس من السلف ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم. والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسَّك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة. وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل. وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام؛ لعدم وروده على هذا الوجه. وأما أهل البدع فيجب هجرهم والإنكار عليهم إذا ابتليتم بهم. وتأمَّلوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه –رحمه الله تعالى- تجدوا فيه البيان والفرقان. وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسَّكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. [الرد على الجهمية والرافضة] وأما الأفغانيون الذين جاؤوا فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدَّد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو، وأخبر عن الخوارج أنهم:"يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" 3 وأمر بقتلهم.   1 سورة النساء آية: 164. 2 سورة لقمان آية: 27. 3 البخاري: المناقب 3611 , ومسلم: الزكاة 1066 , والنسائي: تحريم الدم 4102 , وأبو داود: السنة 4767 , وأحمد 1/81 ,1/88 ,1/91 ,1/131 ,1/147 ,1/151 ,1/156 ,1/160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فأدَّاهم جهلهم وقصورهم في الفهم إلى أن كفَّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين. فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم، وهؤلاء الناس الذين هاجروا إلينا وبايعونا ما ندري عن حقيقة أمرهم. وعلى كل حال إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم أهل البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته، فإنه -رحمه الله تعالى- بيَّن وحقق، وأنتم سالمين 1. والسلام.   1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 [ مسائل شتى سئل عنها الشيخ عبد الله أبو بطين ] [الإيمان بالصفات] مسألة: قول الشيخ عثمان -رحمه الله تعالى-: والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به، وتارة من حيث قيامها بغيره، وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 لا في ذاته، ولا في شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. فاحفظ هذه القاعدة فإنها مهمة جدا، بل هي التي أغنت السلف الصالح عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهي العاصمة لهم من أن يفهموا من الكتاب والسنة مستحيلا على الله -تعالى- من تجسيم أو غيره. ثم بعد إثباتي لهذه القاعدة رأيتها منصوصة في كلام السيد المعين، ثم رأيته قد سبقه إليها العلامة ابن القيم. انتهى. بيّن لنا هذه الاعتبارات الثلاث التي ذكر، وما يتعلق بها من ذكر الدليل، ومن هو السيد الذي ذكر؟   1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 مسألة أيضا: قوله عزّ وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 1، قال سفيان -رحمه الله-:"فرَّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر". بيّن لنا قول سفيان -قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه-، وما صفة الجمع وضده في قوله: فمن جمع. إلخ؟ [السنة في الشرب] مسألة أيضا: ما يروى عن ابن عمر:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا نشرب بالليل في إناء حتى نحركه إلا أن يكون مخمرا، ومن شرب بيد وهو يقدر على إناء يريد التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم -عليه السلام-" 2 في إسناده بقية بن الوليد. جواب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين 3، آتاه الله أجره مرتين. قول الشيخ عثمان: الصفة تعتبر من حيث هي هي إلخ. يعني لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر من حيث هي هي، أي تعتبر منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو هو: ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق فيقال: هو نور في شحمة تسمى إنسان العين تحت سبع طبقات في حدقة ينطبق عليها جفنان. وأما بالنسبة إلى الرب -سبحانه- فنقول: هو سبحانه سميع بسمع، بصير ببصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات. ومراده بالسيد معين الدين: هو أبو المعالي محمد بن صفي الدين الحنبلي. الخلق والأمر وأما قول سفيان في قوله -سبحانه-: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4، فمراده بذلك الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق. يقول: إن الله -سبحانه وتعالى- عطف الأمر على   1 سورة الأعراف آية: 54. 2 ابن ماجه: الأشربة 3431. 3 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 4 سورة الأعراف آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الخلق، وأمره هو كلامه، فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد جعل أمره مخلوقا، فجمع بين الخلق والأمر، والله -سبحانه- قد فرق بينهما بعطفه الأمر على الخلق، فالمعطوف غير المعطوف عليه. والمراد بسفيان هو سفيان بن عيينة الإمام المعروف -رحمه الله تعالى-. السنة في الشرب وما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلا. وأما الشرب على البطن يراد به الكرع في الماء، فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع. ففي البخاري:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار فقال له: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا" 1، والكرع هو: الشرب من النهر ونحوه بالفم من غير إناء ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجه بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح على ما إذا انبطح الشارب على بطنه، وحديث البخاري إذا لم ينبطح، أو يحمل النهي على التنْزيه، وحديث البخاري على الجواز. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن عن معنى قول الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمة الله عليه-: ولا ينفع المشرك قوله: أنا لا أشرك بالله شيئا لأن فعله أكذب قوله، فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلون، قلت: قد صرَّح الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فإن الله -تعالى- قد فرض على عباده إفراده بالعبادة، أن لا يعبدوا إلا إياه. ذكره في تطهير الاعتقاد.   1 البخاري: الأشربة 5613 , وأبو داود: الأشربة 3724 , وابن ماجه: الأشربة 3432 , وأحمد 3/328 ,3/343 ,3/344 ,3/355 , والدارمي: الأشربة 2123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فأجاب -رحمه الله تعالى-: قول محمد بن إسماعيل الأمير: إنه لا ينفع قول من فعل الشرك: أنا لا أشرك بالله، يعني أنه إذا فعل الشرك فهو مشرك، وإن سمَّاه بغير اسمه ونفاه عن نفسه. وقوله: قد صرَّح الفقهاء في كتبهم بأن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها، فمرادهم بذلك من تكلم بكلام كفر مازحا وهازلا، وهو عبارة كثير منهم في قولهم: من أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين وإن كان مازحا، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. وأما من تكلم بكلمة كفر لا يعلم أنها كفر، يُعرَّف بذلك، فإن رجع فإنه لا يحكم بكفره كالذين قالوا:"اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" 2. وقوله: فصاروا كفارا كفرا أصليا. يعني: أنهم نشؤوا على ذلك، فليس حكمهم كالمرتدين الذين كانوا مسلمين، ثم صدرت منهم هذه الأمور الشركية. والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على محمد وآل محمد وأصحاب محمد، وسلم تسليما كثيرا.   1 سورة التوبة آية: 65، 66. 2 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 [معنى قوله في الاستفتاح ولا إله غيرك] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن -غمره الله بأنعمه، وزاده من فواضل جوده وكرمه-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل، وبه الأنس والسرور حصل، حيث أنبأ عن حال الأخ -جعلها الله حالا مرضية، وبالتوفيق مرعية-. وحيث سألت عني فأحمد الله إليك، وأنا بخير وعافية -جعلنا الله وإياكم من الشاكرين-. والأحوال من فضل الله جميلة، نسأل الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، وأن يمن على الجميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 بالهدى والسداد، والفوز بالرضوان يوم المعاد، إنه هو الكريم الجواد، اللطيف بالعباد. ويا أخي: مر علينا في شرح الزاد في معنى قوله في الاستفتاح:"ولا إله غيرك". أي: لا يستحق أن يعبد غيرك، وهو يؤيد ما قد قلته لك من أن المقدر في كلمة الإخلاص إذا قال الموحد:"لا إله إلا الله"أي: لا إله حق إلا الله، والعامل في هذا المقدر"لا"على أنه خبرها في قول الأخفش. وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه"لا"، وإنما عمل فيه المبتدأ وهو"لا"مع اسمها، فإن"لا"مع اسمها في محل رفع على الابتداء، والمقصود أن المقدر"حق"ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان. وأبلغ محمد بن مانع ومن بحضرتك من الطلبة والإخوان والجماعة السلام، ومن لدينا العيال وخواص إخوانكم بخير، وينهون السلام وأنت سالم. والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 مسألة في بعض ما يتعلق بعلة الوقف ... [مسألة في بعض ما يتعلق بغلة الوقفٍ] بسم الله الرحمن الر حيم وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق والإصابة، والإعانة مع السداد والإثابة، إنه هو الكريم الجدير بالإجابة. وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة التي وصل إليكم جوابها عندكم ظاهر، أما عدم جوازها بالتراضي فمشكل. فأقول: نص العلماء -رحمهم الله تعالى- على المنع من قسمة مثل هذا إذا كان الوقف شيئا مقدرا من الغلة، ودليل المنع ظاهر في كلامهم سأشير إليه بعد -إن شاء الله-. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الموقف متعذر، لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة وباقيه طلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فيستغرق الأصل. وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية إلى آخره. فأقول: لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت من العلماء أحدا سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضا قياس مع الفارق، فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين بخلاف الخراجية، فإنه يجب فيها العشر والخراج ففارقها بذلك. والخراج الذي وضعه عمررضي الله عنهلا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال؛ فلذلك قال العلماء –رحمهم الله تعالى-: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص إلا إذا تغير السبب. ففارقت مسألتنا هذه من هاتين الجهتين أيضا. فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره. وقولكم: كما منعوا بيع أرض العَنْوَة لوقفها. أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا. وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرَّحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة على ما ظهر صاحب الفروع من كلام الأصحاب. أقول: ما نقلته عن صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع فقال: وقال في القواعد: هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر. والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعا على الأصح، وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما إذا كان وقفا على جهتين، لا على جهة واحدة. صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 إذا عرفت أن القول بالجواز الذي هو خلاف الأصح بهذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضا من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس، لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة الوقف لهم. وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ. أقول: نعم، ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان على جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فَلَأَن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل لتطرق النقصان على الغلة غالبا من باب أولى. وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه فلا يكونون شركاء متشاكسين، أقول: تقليل أيدي الملاك مما يزيد التشاكس في الوقف ويفرقه، مع ما يفضي إليه استيلاء هذه الأيدي من إتلاف هذا الوقف، وإتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه، فقد ظهر من هذا الجواب بعض مآخذ المانعين. فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم. وأما ما ذكرته عن"الإقناع"في قسمة المهايآت؛ فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة لشيخ الإسلام -رحمه الله-، وقال في"الإنصاف": إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزا على الصحيح من المذهب، قدمه في"المغني والشرح والنظم والرعايتين والحاوي الصغير والفروع وغيرهم"، ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى. وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق، والسلام وافرا على من نظر إليه من الإخوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 [ نصيحة لولي الأمر بالحرص على إقامة الدين ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين والخلفاء الراشدين- فيصل بن تركي - جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم. آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اعلم أن الله -تعالى- أنعم علينا وعليكم وعلى كافة أهل نجد بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده دينا، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفي عليهم ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين، وقبوله ومحبته والعمل به، واستفراغ الوسع إلى ذلك علما وعملا ودعوة إليه ورغبة فيه، وأن يكون أكبر هم الإنسان ومبلغ علمه ليحصل له النعيم الأبدي، والسرور السرمدي. وقد وقع أكثر من أنعم الله عليه بهذه النعمة في التفريط في شكرها، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها، والتحدث بها، والعمل بموجبها. وقد وقع بالغفلة عن شكر هذه النعمة من التفريط فيها، والاشتغال بما يشغل عنها، من الرغبة في الدنيا، والإقبال عليها ما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد ذم الله -تعالى- في كتابه أهل الغفلة والإعراض -أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبلهم- فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. فعلينا وعليكم أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد، والاجتهاد بالنصيحة لجميع المسلمين، بتذكيرهم ما أنعم الله عليهم به من الدين،   1 سورة الأعراف آية: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وتعليمهم ما يجب عليهم تعلمه مما فيه صلاحهم، وفلاحهم ونجاحهم وسعادتهم، ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة. وقد قال -تعالى-: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} 1. فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة والقرآن ينْزل، فمَن بعدهم أحرى أن يكونوا كذلك، فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا، ودعوة إليه وتعلما وتعليما، ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة فيما أحبوه وقالوه وعملوا به. وقد حذر الله -تعالى- عباده من عقوبات الدنيا والآخرة على الإعراض عما خلقوا له كما قال -تعالى-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 2، وقال -تعالى-: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 3، وقال في حق نبيه: صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. وعلينا أن نحذر ونحذّر عما حذرنا الله -تعالى- منه، من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله، والقيام بدينه كما ينبغي. [الغفلة توقع فيما لا يحبه الله] وبسبب الغفلة عن هذه الأمور الواجبة وقع في كثير من الناس أشياء مما لا يحبه الله ويرضاه، كما لا يخفى على من ينظر بنور الله، وقد قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5، والفساد: المعاصي وآثارها في الأرض، ولكن كما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن موجبات الغفلة: الإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه. واليوم ما في البلدان من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا على ضعف. وفي تركه الوعيد الشديد، وفعله علامة الإيمان. وهو من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم.   1 سورة التوبة آية: 126. 2 سورة الذاريات آية: 50. 3 سورة غافر آية: 18. 4 سورة النور آية: 63. 5 سورة الروم آية: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 [فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين] قال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه، وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة. فأوصيكم معشر الإخوان من الخاصة والعامة: أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأن تهتموا به كاهتمامكم بدنياكم، لتسعدوا وتسلموا وتغنموا. الشأن كل الشأن بالاهتمام فيما يرضي الله عنكم، ويدفع الله به عنكم عقوبات الدنيا والآخرة. وعلى الإمام –وفقه الله- أن يبعث للدين عمالا كما يبعث للزكاة عمالا ليعلموهم دينهم، ويأمروهم وينهوهم، وهذا مما يجب على الإمام. أعانه الله على ذلك، ووفقه للقيام بوظائف الدين؛ نصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين. وأوصيكم بالتوبة إلى الله عما فرطتم فيه من العمل بدينه، وتعلمه وتعليمه وتكميله، فإن الله -تعالى- أكمله لكم، وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم. فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة! وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه قبل القدوم عليه، والرجوع إليه. ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنيّة. فاشكروا الله -تعالى- على ما أعطاكم، ومنَّ به عليكم من دين الإسلام، وما حصل به من النعم التي لا تحصى. وقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم أصحابه وأنذرهم وحذرهم فقال:"إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" 1 فاحذروا وحذِّروا؛ فإن الأمر عظيم، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 2. قال بعض العلماء في قوله: {أَنْ تَقُومُوا} فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به، وقوله: {لله} فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته؛ فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه، والقيام بذلك جدا واجتهادا. ويشبه هذه الآية قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} 3 إلى قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ   1 البخاري: تفسير القرآن 4770 , ومسلم: الإيمان 208 , وأحمد 1/281 ,1/307. 2 سورة سبأ آية: 46. 3 سورة إبراهيم آية: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} 1. فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين {نُجِبْ دَعْوَتَكَ} فيه التوحيد لأنه الذي دعا إليه رسله، وفي قوله: {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} العمل بكتابه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم. فمن عمل بهاتين الكلمتين فيما كان طاعة لله ولرسوله فقد فاز ونجا، وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامة. فالله الله في الاهتمام بهذا الشأن والقيام به حسب الإمكان {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 2. [الصدقة على الفقراء تدفع العقوبة] ومما يدفع الله به العقوبات، ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين، كما قال -تعالى-: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} 3، وقال -تعالى -: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. وقد ورد:"باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"وفي الحديث:"اتقوا النار ولو بشق تمرة" 5 والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة، وهي من الباقيات الصالحات، وقد قال -تعالى-: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} 6. نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والعون على مرضاته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، بالتوبة النصوح، والإيمان، والعمل الصالح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.   1 سورة إبراهيم آية: 44. 2 سورة هود آية: 88. 3 سورة الحديد آية: 7. 4 سورة المزمل آية: 20. 5 البخاري: الزكاة 1417 , ومسلم: الزكاة 1016 , والنسائي: الزكاة 2552 ,2553 , وأحمد 4/256. 6 سورة الكهف آية: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 [ جواب فيصل للشيخ عبد الرحمن عن نصيحته المتقدمة ] بسم الله الرحمن الر حيم من فيصل بن تركي إلى من وصلت إليه هذه النصيحة وسمعها أن يعمل بما ذكر فيها، ولا لأحد عذر إلا من منع أو ردع، فلا يعذر حتى يبلغنا، فإذا بلغنا من منعه فهو معذور. والموجب أن حوائج الناس ما تقف عنا، القوي يوصل حاجة الضعيف، ويعين عليه بذكر حاله، ولا بأس في هذا، ويثاب عليه، فليكن إلى الله أعظم وألزم، فتوكلوا على الله، وافعلوا ما أمركم به، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ويكون ذلك على علم وحلم، فإن جبنتم فالله حسيب عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الرد على من قال بقول الفلاسفة في دعاء الموتى والتعلق بأرواحهم] بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. قال الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن: اعلم أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله، فأقول- مستعينا بالله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 طالبا في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه، والحمد لله رب العالمين-: الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه: أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات إنما أراد بها التعلق بالأموات، والالتجاء والرغبة إليهم، لكنه قصد أن يزخرف العبارة إضلالا للعوام والجهال، فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله، ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له. وقد قال -تعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1، وقال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2 الآية، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. وقال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 4 الآية. [حقيقة إخلاص الدين لله] وإقامة الوجه هو إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. وهذا الذي ذكره هؤلاء المخرفون عن التوحيد لا ريب أن الله -تعالى- لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي كما سنذكره إن شاء الله -تعالى-. فقد أكمل الله لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 5. وقد بين تعالى أصل دين الإسلام، وأساسه الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال -تعالى-: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 6. وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 7. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 8. وقد بين صلى الله عليه وسلم ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة" 9. وقد   1 سورة غافر آية: 14. 2 سورة البينة آية: 5. 3 سورة الزمر آية: 2، 3. 4 سورة الروم آية: 30. 5 سورة المائدة آية: 3. 6 سورة البقرة آية: 112. 7 البخاري: الصلح 2697 , ومسلم: الأقضية 1718 , وأبو داود: السنة 4606 , وابن ماجه: المقدمة 14 , وأحمد 6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270. 8 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. 9 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1571 , وأحمد 1/452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 شرع الله -تعالى- ورسوله الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها لأنه محتاج لدعاء الحي لانقطاع عمله. [الاستظهار بأرواح الصالحين من أعظم الشرك] وأما الاستظهار بروحه فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه من الرغبة إلى الميت، والتعلق به، والالتجاء إليه، وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها كالمحبة والدعاء والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبدا، وهؤلاء كما قال الله -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَوَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 الآية. والله -تعالى- هو المتفرد بالخلق والتدبير والنفع والضر والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع كما قال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2 الآية، وقال -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 3 الآية. وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها كما قال -تعالى-: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4، وقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} 5، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص. والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 6 كما قال -تعالى-: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 7، فهي ملكه، يشفع من شاء فيمن شاء، بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 8، وقال -تعالى-: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 9، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا   1 سورة يونس آية:106، 107. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة فاطر آية: 13، 14. 4 سورة الشرح آية: 7، 8. 5 سورة الزمر آية: 66. 6 سورة الأنبياء آية: 28. 7 سورة الزمر آية: 44. 8 سورة البقرة آية: 255. 9 سورة الأنبياء آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1 الآية. [إخلاص العبادة لله واتقاء الشرك] قال أبو العباس ابن تيمية: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منفية يوم القيامة كما نفاها القرآن. فالشفاعة لأهل الإخلاص بإذنه، ولا تكون لمن أشرك، وحقيقتها أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى ملخصا. وهو سبحانه لا يرضى من عبده إلا التوحيد الذي هو دينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه كما قال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 3، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} 4. فهذا هو حكم الله الشرعي الذي حكم به على خلقه بأن يصرفوا أعمالهم له وحده دون كل من سواه؛ ولهذا قال: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} 5، وقال في سورة يوسف: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 6. فالعبد وأعماله الظاهرة والباطنة كلها ملك لله، لايصلح أن يصرف منها شيء لغير الله، فإن صرف العبد منها شيئا لغير الله فقد وضعه في غير موضعه، وذلك هو الظلم العظيم كما قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 7. وأنفع ما للعبد في معاشه ومعاده أن يوجه وجهه وقلبه إلى الله، ويجمع همته عليه في جميع مطالبه الدنيوية والأخروية، كما قال العارف بالله الذي استنار قلبه بآيات الله وحججه وبيناته: وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طرا تولاه العظيم الشان   1 سورة سبأ آية: 22، 23. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 سورة الزمر آية: 11. 4 سورة الأنعام آية: 162، 163. 5 سورة الأنعام آية:163. 6 سورة يوسف آية: 40. 7 سورة لقمان آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فالعبد مضطر إلى الله الذي محياه ومماته له، فهو قبلة قلبه ووجهه كما أخبر عن خليله -عليه السلام- أنه قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وإنما شرع الله ورسوله زيارة القبور لتذكر الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة" 2 أي لتسعوا لها سعيها. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3 فجعلوها محطا للرحال، ومطلبا للآمال، ومعاذا وملاذا. وهذا هو الشرك الذي لم يشرعه الله، بل شدد النهي عنه والوعيد عليه، وأخبر أنه لا يغفره. قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 4، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 5،وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 6، وقال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 7 وهي نكرة في سياق النهي فتعم. فلو جاز الاستظهار بأرواح الأموات - كما قاله هذا الجاهل بالله وبدينه- لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة، الذين هم معه لا يفارقونه بيقين، وهم كما وصف الله: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 8، وهذا لا يقوله مسلم أصلا، بل لو فعله أحد كان مشركا بالله. فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة الحاضرين، فأن لا يجوز في حق أرواح أموات قد فارقت أجسادها لا يعلم مستقرها إلا الله أولى، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِي نَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 9. وأنت ترى أكثر الناس انصرفت قلوبهم عن فهم الحق ومعرفته بدليله، حتى تمكنت الشبهات منهم   1 سورة الأنعام آية: 79. 2 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1571 , وأحمد 1/452. 3 سورة البقرة آية: 59. 4 سورة النساء آية: 115. 5 سورة المؤمنون آية: 117. 6 سورة الأعراف آية: 37. 7 سورة الجن آية: 18. 8 سورة الأنبياء آية: 26، 27. 9 سورة النحل آية: 20: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فظنوها بينات، فأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل. وهذا هو الواقع لا يخفى على ذوي البصائر، وقد أنزل الله كتابه موعظة {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1 كما قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئا} 2 إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 3. [النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد] الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر فيما تواتر عنه من النهي عن وسائل هذا التعلق والالتجاء بالأموات والرغبة إليهم، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد، وصرح طوائف من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كأصحاب مالك والشافعي بالتحريم لذلك. وقد حكى شيخ الإسلام -رحمه الله- الإجماع على التحريم لذلك، وهو الإمام الذي لا يجارى في ميدان معرفة الخلاف والإجماع، لما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول:" إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا. كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك" 4. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 5، وفي رواية لمسلم:" لعن الله اليهود والنصارى" 6 الحديث. وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 7 يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. قوله:"خشي"تعليل لمنع إبراز قبره. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد   1 سورة يونس آية: 57. 2 سورة الجاثية آية: 18، 19. 3 سورة الجاثية آية: 19. 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 532. 5 البخاري: الصلاة 437 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , وأبو داود: الجنائز 3227 , وأحمد 2/284 ,2/396 ,2/453 ,2/518. 6 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/246 ,2/285 ,2/366. 7 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/246 ,2/285 ,2/366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله؛ وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات سدا لذريعة التشبه بالمشركين التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها. [تعظيم القبور أعظم أبواب الشرك] وقد أخرج الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 1. ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين. ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله -تعالى-؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فمن جعل لله شريكا يلتجئ إليه، ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعله لله ندا، كما في الصحيحين عن ابن مسعودرضي الله عنه "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك" 2 الحديث. وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف فيما ذكر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ   1 الترمذي: الصلاة 320 , والنسائي: الجنائز 2043 , وأبو داود: الجنائز 3236 , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1575 , وأحمد 1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337. 2 البخاري: الأدب 6001 , ومسلم: الإيمان 86 , والترمذي: تفسير القرآن 3182 ,3183 , والنسائي: تحريم الدم 4013 ,4014 ,4015 , وأبو داود: الطلاق 2310 , وأحمد 1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464. 3 سورة الأنعام آية:78، 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الْمُشْرِكِينَ} 1. وبهاتين الآيتين وأمثالهما في القرآن يميز المؤمن دين المرسلين من دين المشركين؛ فإقامة الوجه لله بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها هو دين المرسلين، وتوجيه الوجه بشيء من أنواعها لغير الله هو الشرك الذي لا يغفره الله. وتدبر قول الله -تعالى- في وصف أهل الإخلاص: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2، فالرهبة والرغبة، والخشوع، وغير ذلك من أنواع العبادة كالمحبة، والدعاء، والتوكل، ونحو ذلك مختص بالله -تعالى-، لا يصلح منه شيء لغيره كائنا من كان. وتأمل قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3 فإنه ظاهر بأن ذلك الخشوع ونحوه مختص بالله -تعالى-، كما ذكر اختصاصه بالعبادة عموما في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. ولا يخفى أن هذا المجيب قد صرف جل العبادة ومعظمها لغير الله، وقد قال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} 5، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 6، فالخبير سبحانه أبطل الأكاذيب الشيطانية، والتعلقات الشركية في هذه الآية ونظائرها. [وقوع الأمراض العامة عند معظمي القبور] فتدبر إن كنت للتوحيد طالبا، وفي دين المرسلين راغبا، وقد أجرى الله سبحانه العادة بوقوع الأمراض العامة والمصائب العظام في كل مدينة فيها بعض من قبور الأولياء والصالحين، فلا يجد أهلها تأثيرا للتعلق بهم في دفع ما نزل من تلك المصائب، وذلك برهان على أن الميت لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عمن تعلق به شيئا كما قال -تعالى-: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 7.   1 سورة يونس آية: 104، 105. 2 سورة الأنبياء آية: 90. 3 سورة الأنبياء آية: 90. 4 سورة الزمر آية: 66. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة فاطر آية:13، 14. 7 سورة الزمر آية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 [نهي النبي أمته أن يجعلوا قبره عيدا] الوجه الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته أن يجعلوا قبره عيدا. أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرةرضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" 1. وأخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الضياء في المختارة، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم" 2. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن سهل بن سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن عليرضي الله عنهعند القبر فناداني- وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلم إذا دخلت المسجد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال:"لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" 3، ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا علي بن الحسين أفضل التابعين من أهل البيت، والحسن بن الحسن سيد أهل البيت في زمانه، لم يفهموا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تتخذوا قبري عيدا" 4 إلا نهي أمته عن اعتياد المجيء إلى قبره وملازمته، لأن الصلاة عليه تبلغه صلى الله عليه وسلم من المصلي وإن كان بعيدا عن قبره. ولما في ذلك النهي من سد الذريعة عن العكوف عند القبر، وتعظيمه بما لم يشرع. والعكوف عبادة شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد تقربا بها إلى الله، فلا يجوز أن يفعل ما هو مشروع في المساجد عند القبور، فإن الملازمة والعكوف عندها   1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 3 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 4 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ذريعة قريبة إلى عبادتها، فتعظيمها بما لم يشرعه الله ورسوله غلو، والغلو أعظم وسائل الشرك. والذي فهمه هذان السيدان الجليلان هو الذي فعله السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فإن الثابت عنهم المتواتر أنهم كانوا إذا دخلوا المسجد صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واكتفوا بذلك عن المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لعلمهم بما شرعه الله ورسوله. وكان ابن عمررضي الله عنهإذا قدم من سفر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على أبي بكر، ثم على أبيه، ثم انصرف. فهذا حال الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم أشد الناس تمسكا بالسنة، وأعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز. قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام -رحمهم الله تعالى-: ووجه الدلالة من هذا الحديث أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فغيره أولى، قال: والعيد ما يعتاد قصده ومجيئه من مكان أو زمان. [أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد] قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من اليهود بالتحريف، وشبها من النصارى بالشرك، مراغمة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلبا للحقائق، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة دون الشرك أقل إثما، وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته. ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تجعلوا قبري عيدا" 1 أمرا بملازمة قبره واعتياد قصده، لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولما قال أعلم الخلق به: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. انتهى. قلت: وفي هذه الأحاديث ما يبطل هذا التحريف الذي أشار إليه العلامة كتحريف شارح المشارق، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري   1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 عيدا" 1 مسبوق وملحوق بما يبين معناه كقوله:"وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" 2، وكقوله في الحديث الذي رواه الحسن بن الحسن:"لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3، وغير ذلك مما هو ظاهر يبين مراده صلى الله عليه وسلم أنه خشي على أمته تعظيم القبور والغلو فيها. كما في الموطأ عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4، وهذا الحديث صريح في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة الأولى من الحديث والجملة الثانية، فقد حمى صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد. ومثل هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" 5. [أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور] فقد عرفت مما تقدم أن من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور والعكوف عندها، ولا ريب أن ذلك يفضي إلى الالتجاء إليها، والتعلق بها، والرغبة إليها؛ ونحو ذلك من المحبة، وخطابها بالحوائج، وغير ذلك مما لا يمكن عده كالخشوع، والبكاء والنحيب رغبة ورهبة إليها. وهذا هو العبادة التي قصرها الله -تعالى- عليه دون كل من سواه. قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6، وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 7، وقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 8 الآيات. فتدبر هذه الآيات، وما فيها من البيان، والحجة القاطعة على أن كل من وجه وجهه وقلبه إلى غير الله فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص. وتأمل ما فيها من اختصاص الرب تعالى بجميع أنواع العبادة كالالتجاء، والتعلق، والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة. والله المستعان.   1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367 ,2/388. 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 530 , والنسائي: الجنائز 2047 , وأحمد 2/366. 4 مالك: النداء للصلاة 416. 5 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 , وأحمد 1/23 ,1/24 ,1/47. 6 سورة الأنبياء آية: 108. 7 سورة البقرة آية:138، 139. 8 سورة الحج آية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ولقد أحسن العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته إذ يقول: ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدا حذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهم بأذان وعنى الأُلى جعلوا القبور مساجدا ... وهم اليهود وعابدو الصلبان والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قلت: والآيات المحكمات أصرح شيء وأوضحه في بيان حقيقة الشرك في الإلهية: وهو صرف العبد شيئا من أنواع العبادة التي يصلح التقرب بها إلى الله، فيتقرب بها إلى غيره. فإن العبادة بجميع أنواعها حق لله، ومختصة به. وكذلك هذه الأحاديث المذكورة ونحوها أبين شيء وأجلاه في تحريم وسائل هذا الشرك، لكن الكثير من متأخري هذه الأمة وقعوا في هذا الشرك لما طال عليهم الأمد، وبعدوا عن عصر سلف هذه الأمة، وزمن أتباعهم من الأئمة، الذين أجمع العلماء من أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم، فانتشرت البدع بعدهم، والتبس الحق بالباطل بظهور علم الكلام والفلسفة. فيا لها مصيبة ما أعظمها! فلما استمكنت أصول تلك البدع في قلوب من ينتسب إلى العلم من المتأخرين، حاولوا صرف المعنى الذي دلت عليه النصوص، وأراده الله ورسوله بالنهي عنه، والتغليظ فيه، إلى ضروب من التحريف، فرارا من أن يدخل الواقع منهم تحت ذلك النهي. فلما لبسوا لبس عليهم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1.   1 سورة الكهف آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 [شبهة وجود الأرواح عند القبور والانتفاع بها] الوجه الرابع: أن هذا الذي يدعيه المجيب من الاستظهار بأرواح أهل القبور لا حقيقة له؛ فإنه اعتقاد فاسد من تضليل الشيطان لجهال الأمة، وإلا فمن أين لهذا المدعي أن الأرواح تنْزل كذلك، وقد عرفت أن التعلق بها وعبادتها شرك بالله. وهذا من التخيلات الشيطانية الشركية بلا ريب، نظير ما ادعى المشركون في قولهم في معبوداتهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1، قال -تعالى-: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، فأكذبهم الله في دعواهم هذه، وبين أنه لا حقيقة لها، وأن اتخاذهم شفعاء من دون إذنه شرك نزه نفسه عنه. ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْل} 3 الآية. فأخبر تعالى عن أهل الشرك أنهم يدعون في معبوديهم أشياء لا حقيقة لها في الخارج أصلا، وإنما هي تصورات وخيالات ذهنية شيطانية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 4. وقوله: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. ولقد بين تعالى في كتابه دينه وأمره الشرعي في آيات كثيرة، من ذلك ما ذكر عن نبيه يوسف -عليه السلام- من قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 6. وقد عرفت مما تقدم أن الله -تعالى- قصر أنواع العبادة من خلقه عليه، ولم يأذن لهم أن يصرفوا منها شيئا لغيره أصلا، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 7. وتوحيد الإلهية من اسمه تعالى"الله"، فهذا الاسم الأعظم دل على أنه سبحانه هو المألوه المعبود، كما ذكر في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس قال: معنى   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الرعد آية: 33. 4 سورة النجم آية: 23. 5 سورة النمل آية: 64. 6 سورة يوسف آية: 39، 40. 7 سورة الفاتحة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الله: أي ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. فمن تدبر هذه الآيات ونظائرها علم أن هؤلاء القبوريين المفتونين بالأموات قد خالفوا ما أمرهم الله -تعالى- به من إفراده بالألوهية والعبودية الخاصة له، فتألهت قلوبهم غيره، وتعلقت أفئدتهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. قال الله -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1 الآية، وتقدمت، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. فتأمل هذه الآية وما فيها من البيان والبرهان على ضلال من وجه وجهه وقلبه لغير الله بأي نوع كان من أنواع العبادة، وهذا لا يخفى إلا على من عميت بصيرته، وضل سعيه، وفسد فهمه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 3. [الأرواح لا يعلم مقرها إلا خالقها] الوجه الخامس: أن المجيب ومن يقول بقوله إنما وجهوا وجوههم وقلوبهم إلى أرواح الأموات، وقد فارقت تلك الأرواح أجسادها، لا يعلم أين صارت ولا إلى ما صارت إلا الله، إلا ما ورد أن أرواح الشهداء والسعداء تسرح في الجنة. وقد جعل الله موتهم دليلا وبرهانا على بطلان عبادتهم، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 4. ولا ريب أن من له بصيرة يعلم أن الميت لا شعور له بحاله، فكيف بغيره؟ وقد تقدم دليله. فبطل بهذه الآيات المحكمات وما في معناها كل ما تعلق به المشركون من طلب وأمل ورجاء ورغبة صرفوه لغير الله، وبين تعالى أن ذلك يعود عليهم وبالا في الدار الآخرة. نعوذ بالله من ضلال السعي والخيبة والخسران.   1 سورة فاطر آية: 13. 2 سورة الأحقاف آية: 5، 6. 3 سورة النور آية: 40. 4 سورة النحل آية: 20: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ولقد أحسن من قال: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن [الاحتجاج بأقوال المتكلمين في التوحيد دون علماء السلف] الوجه السادس: أن المجيب أجاب بما يخالف مطلوب السائل، فإن السائل إنما طلب منه قول الأئمة الذين يرجع إليهم في أصول الدين وفروعه، ممن أجمع أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم وعلمهم وصدقهم وتمسكهم بالحق، وهم كثير في القرون المفضلة وبعدها، ولم يسأله عن قول من لا يعرف بعلم ولا ثقة ولا صدق ولا عدالة؛ وكلامه الذي نقله عن المجيب من شرحه كلام محرف للسنة، قد دخل في الكلام المذموم والفلسفة، ومثل هذا لا يحتج بقوله من له أدنى فهم ومعرفة بأحوال العلماء. فسبحان الله يا هذا! كيف تقلد في دينك من لا يعرف بعلم ولا صدق وأمانة وعدالة؟! فما أكثر من اغتر بأقوال من هو مثله ممن أخذ عن أرباب أهل البدع! فهلا أجبت بأقوال الصحابة والتابعين كالفقهاء السبعة، وكالزهري والحسن وابن سيرين والحمادين والأوزاعي والثوري والليث بن سعد، والأئمة الأربعة، وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد ومحمد بن نصر المروزي وابن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر النمري صاحب التمهيد والاستذكار، وأمثال هؤلاء من أئمة الإسلام أهل العروة الوثقى! فإنهم -بحمد الله- كثير في الأمة، يعرفهم من له إلمام بالعلم والعلماء والفضل والفضلاء، ومعاذ الله أن تجد في كلام هؤلاء وأمثالهم من يجوز تعلق القلب والهم والإرادات بغير الله، سبحانه وتعالى، وتقدس عن الشرك في الإرادات والنيات والأعمال. ولو قيل لهذا المجيب: عرفنا بشارح المشارق هذا، ومن ذكره من المصنفين من أهل الجرح والتعديل، لم يجد إلى ذلك من سبيل. وعلى كل حال فليس في كلامه حجة ولا دليل، فإن كلامه يعرف بحقيقة حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 والحجة التي لا تعارض ولا تدافع إنما هي فيما قاله الله ورسوله، وما كان عليه المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين، قبل حدوث البدع وتشعب الأهواء واختلاف الآراء، قال الله -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1. [حماية النبي للتوحيد الخالص] ولا يخفى على من له دين وإلمام بالعلم النافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حِمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك الأكبر والأصغر، فقد ثبت عنه أنه لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال:"أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 2. وفي المسند عن عمران بن حصين رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر. فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" 3 فانظر إلى هذه العقوبة العظيمة لمن علق قلبه بحلقة دون الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تعلق شيئا وكل إليه" 4 أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة. ولأحمد عن عقبة بن عامر:"من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" 5، وفي رواية:"من تعلق تميمة فقد أشرك" 6. [التمسك بالتوحيد وعدم التعلق بأرواح الأموات] ومن المعلوم أن التعلق بأرواح الأموات أعظم شركا من تعليق التمائم، وهذا لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فإن الفتنة بها أعظم، والتعلق بها أشد. والعبادة عبادة حيثما صرفت: فإن قصرت على المستحق لها وهو الله فهو التوحيد، وإن صرف منها نوع فأكثر لغير الله فهو شرك بالله، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 7. والصحابة -رضي الله عنهم- قد تمسكوا بما علموه من حال نبيهم صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وحمايته عن الشرك. فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا في يده خيط من   1 سورة الأنعام آية: 116، 117. 2 أحمد 1/214. 3 ابن ماجه: الطب 3531 , وأحمد 4/445. 4 الترمذي: الطب 2072. 5 أحمد 4/154. 6 أحمد 4/156. 7 سورة النساء آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الحمى فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1. [تمسك السلف بالتوحيد وفشو الشرك في الخلف] ومن المعلوم أن الشرك في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- كان قليلا جدا، فإذا رأوا شيئا منه أعظموه وأنكروه. وحذيفةرضي الله عنهاستدل بهذه الآية الكريمة على أن هذا شرك بالله، فأين هذا مما وقع فيه أكثر الناس اليوم من طلب النفع ودفع الضر من الأموات، الذين لا إحساس لهم بما يطلبه الداعي منهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم فضلا عن غيرهم؟! وأما التابعون للصحابة وأتباعهم فإنهم سلكوا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبدوا وأعادوا في إنكار ما حدث من الشرك. فقد ثبت عن سعيد بن جبيررضي الله عنهأنه قال:"من قطع تميمة من إنسان كانت كعدل رقبة". فانظر إلى هذا التشديد من هذا الإمام في تعليق التميمة! فأين هذا مما قرر المجيب جوازه من التعلق بأرواح الأموات التي لا يعلم مستقرها إلا الله ولا تنفع ولا تضر؟! {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. [الإسلام لرب العالمين هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة] وقد عرفت أن الإسلام لرب العالمين هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله. قال الله -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3 الآيات. فيا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للشرك! و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا   1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة الأنعام آية: 71. 3 سورة الروم آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2. ولقد أحسن من قال في بيان التوحيد، أي توحيد الإلهية: فالقصد وجه الله بالأقوال والأ ... عمال والطاعات والشكران فبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقا عابد الرحمن [الشرك بالله مسبة لله] وبهذا يعلم أن الشرك بالله مسبة لله، وتنقيص له، ورغبة عنه إلى غيره، وهضم لربوبيته تعالى. فمعظم هؤلاء الجاحدون لتوحيد الله مخلوقه وعبده لتنقصهم لله تعالى، ومسبتهم له، بزعمهم أن معبوديهم صالحون وأولياء، فأنزلوهم منْزلة الله، وسلبوا لهم حقه، والنبي والصالح حقه متابعته فيما هو فيه من التوحيد، والعمل الذي صار به صالحا، فلم يقتدوا بهم في الدين ولا في العمل، فأخذوا حقهم من الاقتداء بهم في الدين واتباعهم، وحرفوه لجهال المتفلسفة، ومن أخذ عنهم كشارح المشارق، وأمثاله من المحرفين. [مشابهة الأمة للأمم السابقة] الوجه السابع: أن مما يبين خطأ المجيب وضلاله مع ما تقدم من الأوجه ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لتركبن سنن من كان قبلكم". وفي هذا الحديث من الفوائد أن التبرك بالأشجار ونحوها شرك وتأليه لغير الله، ولهذا شبه قولهم   1 سورة الأعراف آية: 43. 2 سورة يونس آية:57، 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 " اجعل لنا ذات أنواط" 1 بقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} 2، ومنها أن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم، ومنها خطر الشرك والجهل، فكادوا أن يقعوا في الشرك لما جهلوه، فإذا كان هذا في عهد النبوة وإقبال الدين، فكيف لا يقع بعد تقادم العهد، وتغير الأحوال، واشتداد غربة الدين؟! ومنها مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب فيما وقع منهم كما في الحديث الآخر: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3. فإذا تبين أن التعلق بالأشجار ونحوها عبادة لها من دون الله، ووضع للعبادة في غير موضعها، فلا فرق بين أن يصرف لشجرة أو قبر أو غير ذلك. ومعلوم أن الشجر له حياة بحسبه، مطيع لربه، يسبح بحمده، وما عبدت اللات والعزى ومناة إلا بمثل ذلك التعلق والاعتقاد، قال مجاهد: اللات كان رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" 4. فقد -والله- اشتدت غربة الإسلام حتى عاد الشرك بالله دينا وقربة يتقرب به إلى الله، وهو أعظم ذنب عصي الله به كما قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 5، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} 6، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 7. [شبهة اتصال روح زائر القبر بروح الميت واستمداده منه] الوجه الثامن: أن هذا الذي أجازه هذا المجيب هو بعينه قول الفلاسفة المشركين، فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به   1 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84. 4 الترمذي: الإيمان 2629 , وابن ماجه: الفتن 3988 , وأحمد 1/398 , والدارمي: الرقاق 2755. 5 سورة لقمان آية: 13. 6 سورة المائدة آية: 72. 7 سورة الحج آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بوجهه وقلبه وروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ فكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له. [رد ابن القيم على شبهة اتصال الأرواح] قال ابن القيم -رحمه الله-: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السرج وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، هذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة يقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به فيما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والأفضال، ينال ذلك المتعلق منه بحسب تعلقه. وهذا شر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وإباحة دمائهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 [إبطال التعلق بغير الله] قلت: وتأمل ما ذكره الله في سورة يس من قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُون إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1 الآية. ففي هذه الآية العظيمة وما في معناها ما يكفي ويشفي في إبطال هذا المذهب الخبيث، من تعلق أهل الإشراك بغير الله، وافترائهم على الله، وإضلالهم العباد عن توحيد الله والتوجه إليه وحده بالإخلاص، الذي هو دينه الذي لا يرضى لعباده دينا سواه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. ففرق تعالى في هذه الآية بين دينه الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ودين هؤلاء المشركين الذي أنكره عليهم، وأكذبهم فيما زعموه، وأكفرهم بما انتحلوه واعتمدوه من الشرك العظيم، الذي لا يحبه ولا يرضاه، وينكره ويأباه. كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 3، والأسباب هي الوصلة والمودة التي كانت بين العابد والمعبود، أخبر سبحانه أنها تتقطع يوم القيامة. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 4، فهذا ما يؤول إليه أمر هؤلاء المشركين يوم القيامة. ونظائر هذه الآية كثير في القرآن كقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 5.   1 سورة يس آية: 20: 24. 2 سورة الزمر آية: 2، 3. 3 سورة البقرة آية: 165، 166. 4 سورة البقرة آية: 167. 5 سورة العنكبوت آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فتأمل ما يؤول إليه أمر أهل هذه التوجهات والتعلقات بغير الله، من كفرهم بمن تعلقوا عليهم، ولعنهم لهم، وجزائهم عند الله بعذاب النار، وغير ذلك مما أخبر له تعالى عن أحوالهم، فلا شافع يشفع لهم، ولا ناصر ينصرهم، فعادت تلك التعلقات الشركية، والهمم الشيطانية، والأماني الكاذبة عليهم حسرة ووبالا. هذا ما تيسر تعليقه -بحمد الله- في هدم أصول هؤلاء المشركين، وفيه الكفاية لمن نور الله قلبه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1 وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.   1 سورة النور آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 [ نصائح وفتاوى فقهية للشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله وأحسن إليه] مقدمة بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوان 1 صالح بن محمد الشثري، وزيد بن محمد آل سليمان، وإخوانهم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها. وقد خطيت لك في أول رمضان خطا أراد الله أن الطروش 2 فاتونا ولا راح، مضمونه بعض الإشارات النافعة، منها: إني أوصيك بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته ولوازمه، وملزوماته ومكملاته ومقتضياته، ثم التفطن   1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 2 الطروش هم المسافرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته. فالخطر فيه شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه وصفاته التي تجلو الريب والشك عن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد. {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 1 الآيات. فقد عمت البلوى بالجهل المركب والبسيط {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 2. فالله الله في التحفظ على القلب بكثرة الاستغفار من الذنب، جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله. وبلغ حمد والعيال والإخوان السلام، ومن لدينا العيال والإخوان بخير، وينهون السلام، وأنت سالم، والسلام.   1 سورة البروج آية:12: 16. 2 سورة آل عمران آية: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 [ نصيحة في الزجر عن طلب العلم لغير الله ] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ فايز بن علي وإخوانه من طلبة العلم -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل خطك -وصلك الله بما يرضيه-، والذي أوصيكم به جميعا ونفسي بتقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره لتفوز بالأجر العظيم. وليحذر كل عاقل أن يطلب العلم للمباراة والمباهاة، فإن في ذلك خطرا عظيما، ومثل ذلك طلب العلم لغرض الدنيا أو لجاهها، والترؤس بين أهلها، وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين. ولو لم يكن في الزجر عن ذلك إلا قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وفي حديث أنس مرفوعا:"من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار" 2 وهذا القول كاف في النصيحة. وفقنا الله وإياكم لحسن القبول. وقد بلغني أنكم اختلفتم في مسائل أدى إلى النّزاع والجدال، وليس هذا شأن طلاب الآخرة، فاتقوا الله، وتأدبوا بآداب العلم، واطلبوا الثواب من الله في تعلمه وتعليمه، وأتبعوا العلم العمل، فإنه ثمرته في حصوله، كما في الأثر:"من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"، وكونوا متعاونين على البر والتقوى. ومن علامة إخلاص طالب العلم أن يكون صموتا عما لا يعنيه، متذللا لربه، متواضعا لعباده، متورعا متأدبا، لا يبالي ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، ولا ينتصر لنفسه ولا يفتخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى، ولا يركن إلى زينة الدنيا. [طواف القدوم والسعي من الحائض] وأما المسألة الأولى وهي: هل يصح من الحائض إذا قدمت مكة أن تسعى قبل الطواف أم لا؟ الجواب: لا يصح السعي إلا بعد طواف صحيح لنسك من الأنساك، أما المفرد والقارن، فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما كما يجزئ للقارن لعمرته، وأما المتمتع فيسعى بعد طواف العمرة لها، ولا يجزئه للحج إلا أن يسعى بعد طواف الإفاضة. قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده. والمختار أنه لا يطوف للقدوم، وليس إلا طواف الزيارة، وعليه أن يسعى بعده للحج، فإن سعى قبله لم يجزه. قالوا: ويجب أن يكون السعي بعد، طواف واجب أو مستحب. هذا كلام الحنابلة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الشافعية: لو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئا من الطواف لم يصح سعيه، فيلزمه أن يأتي ببقية الطواف. فإذا أتى ببقيته أعاد   1 سورة هود آية: 15. 2 الترمذي: العلم 2654. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 السعي، نص عليه الشافعي، وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومما يستدل لذلك حديث عائشة وفيه:"فلما كنا في بعض الطريق حضت، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج" 1. ومعنى ارفضي العمرة رفض أعمالها، فلو صح سعي قبل الطواف لما منع منه حيضها كما لا يمنع من سائر المناسك. والله أعلم. [إعادة المتيمم الصلاة عند وجود الماء] وأما السؤال الثاني: عن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي صلى بالتيمم، فلم يعد لما وجد الماء:"أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" 2، وقال للذي أعاد:"لك أجرك مرتين". فلا شك أن الذي لم يعد أصاب الحكم الشرعي بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" 3. وأما الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل، فأثيب على الصلاة الأولى والثانية؛ لكونه صلى الثانية مجتهدا، فأثيب على اجتهاده للصلاة الثانية، كما أثيب على الصلاة الأولى. ومن المعلوم أن الفريضة أفضل من التطوع من جنسه أو غير جنسه إلا في أربعة أشياء، ذكرها الجلال السيوطي ضمنها بيتين، والأخير لمحمد الخلوتي الحنبلي: الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا التوضؤ قبل وقت وابتدا ... ء بالسلام وإبراء للمعسر وكذا ختان المرء قبل بلوغه ... تمم به نظم الإمام المكثر [الجمع في الصلاة عند فقد الماء] وأما السؤال الثالث: فيمن نوى جمع التأخير حيث يجوز الجمع، فدخل وقت الثانية قبل أن يصلوا إلى الماء، فالأفضل في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى أن يصلوا إلى الماء ما لم يدخل وقت الضرورة، فإن صلوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصلاة بالتيمم، ولا إعادة عليهم. وقول السائل: فهل يكون وقت الاختيار للثانية وقتا للأولى أم لا؟ الجواب: نعم يكون وقتا لها في حق من يجوز له الجمع إذا نواه، فتنبه! والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.   1 البخاري: الحيض 317 والحج 1556 ,1783 ,1786 والمغازي 4395 , ومسلم: الحج 1211 , وأبو داود: المناسك 1778 , وابن ماجه: المناسك 3000 , وأحمد 6/163 ,6/177 , ومالك: الحج 940. 2 النسائي: الغسل والتيمم 433 , وأبو داود: الطهارة 338 , والدارمي: الطهارة 744. 3 النسائي: الغسل والتيمم 433 , وأبو داود: الطهارة 338 , والدارمي: الطهارة 744. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 [ فتاوى فقهية في خروج النساء ولبس الحرير وغير ذلك ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ علي بن فواز -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فهذا جواب السائل: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم مخافة الفتنة بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون. [الضرب بالدف] وأما الدف، فيحصل الإعلام بضربه في الزفاف وقبل الدخول، في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل، ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم، فقد ظلم نفسه. [الاحتكار] وأما الاحتكار، فإذا شراه أحد من الأسواق ينتظر الغلاء، فهو احتكار. [خلط البر بالشعير وتلقي الركبان] وأما خلط البر بالشعير للبيع فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده. وأما تلقي الركبان للشراء منهم ما جلبوه، فيلزم منعهم من ذلك، وأما التزعفر فقد ورد ما يدل على جوازه، فلا ينكر والحالة هذه. [مذهب الخوارج] وأما مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب ما كان منها دون الكفر والشرك. وإنهم قد خرجوا في خلافة عليرضي الله عنهوكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال، واستدلوا على ذلك بآيات وأحاديث، لكنهم أخطؤوا في الاستدلال. [المعاصي التي يكفر فاعلها] فما دون الشرك والكفر من المعاصي فلا يكفر فاعله، لكنه ينهى عنه إذا أصر على كبيرة ولم يتب منها، فيجب نهيه والقيام عليه. وكل منكر يجب إنكاره، من ترك واجب أو ارتكاب محرم، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذا ما اتفق العلماء على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 من فعله أو اعتقده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم. فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، إلا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر، وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها. [السفر إلى بلاد المشركين] وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته. فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها. وأما المعاصي التي فيها الحدود، فلا يقيمه إلا الإمام أو نائبه، وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة كمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم. وذكرت في جوابي للربع1 إلي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة والسلام.   1 هم جماعة الرجل وأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 [الدين النصيحة] قوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الملك العلام، ذي الجلال والإكرام، أحمده أن منَّ علينا بالإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الطول والإنعام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكمل به الشرائع والأحكام، وجعله مبينا لحدود الحلال والحرام، اللهم صل على محمد وأصحابه هداة الأنام وسلم تسليما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أما بعد: فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث تميم الداريرضي الله عنه أنه قال: "الدين النصيحة، ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" 1 رواه مسلم فما أعظم شأن هذا الحديث، وأنفعه لمن عقله ورزق العمل به! ولقد أحسن من قال: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأوجب على الخلق طاعته واتباعه كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} 2 … الآية، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 3 … الآية، وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} 4 … الآية. قال شيخ الإسلام: الإيمان به تصديقه وطاعته واتباعه انتهى. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. [النهي عن لبس الحرير] فإذا عقلت هذا الأصل، فاعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه على ذكور هذه الأمة، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن حذيفةرضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" 5. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عنه عن أبي موسىرضي الله عنهأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل الذهب والحرير لأناث أمتي وحرم على ذكورها" 6. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عليرضي الله عنهقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي " 7 وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها.   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. 2 سورة النور آية: 54. 3 سورة النور آية: 63. 4 سورة الأعراف آية: 157. 5 البخاري: الأطعمة 5426 , ومسلم: اللباس والزينة 2067 , والنسائي: الزينة 5301 , وأحمد 5/396 ,5/397 ,5/408 , والدارمي: الأشربة 2130. 6 الترمذي: اللباس 1720 , والنسائي: الزينة 5148. 7 النسائي: الزينة 5144 , وأبو داود: اللباس 4057 , وابن ماجه: اللباس 3595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور غير واحد من الأئمة إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن عن أبي عثمان النهدي:"أتانا كتاب عمر، ونحن مع عقبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام. قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام" 1 ولأبي داود في الحديث: "نهى عن الحرير إلا هكذا وهكذا، أصبعين أو ثلاثا أو أربعا" 2. وبهذا الحديث احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع. قال في الفروع: ويباح منه العلم إذا كان أربع أصابع مضمومة فأقل، ونص عليه. انتهى. وقال في المبدع: ويباح العلم الحرير، وهو طراز الثوب إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه وجزم به في المغني والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون. وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء كالعلم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى. وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء إنما هو فيما إذا كان الحرير منفردا متميزا سواء كان منسوجا في الثوب كالعلم، أو مجعولا فيه بعد النسج كلبنة الثوب والسجف، وسواء كان مفرقا أو مجموعا. وكذا إذا كان مشوبا بغيره على الصحيح المعتمد عند جمع من كبار الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد. قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة   1 البخاري: اللباس 5828 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/15 ,1/50. 2 البخاري: اللباس 5828 ,5829 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 بغيرها، ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو متفرقا كما في الثوب المشوب. وقد نقل الحافظ في الفتح عن العلامة ابن دقيق العيد أنه إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة إلى جميع الثوب. اهـ. قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء. ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث عبيدة بن عمرو عن علي –رضي الله عنه- قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1، فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. اهـ. فهذا حافظ الدنيا في عصره صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل، وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسية؟ قال:"ثياب أتتنا من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة يجاء بها من مصر فيها الحرير. ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب قال:"نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي" 2 وفي رواية له:"ونهانا عن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق ومياثر الحمر " 3. اهـ. وقال النسائي: القسي ثياب من كتان مخلوط بحرير، يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريب من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف. اهـ. وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع: قال شيخ الإسلام: وقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت. اهـ. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عمررضي الله عنه"أنه رأى حلة   1 مسلم: اللباس والزينة 2078 , والترمذي: الصلاة 264 واللباس 1725 ,1737 والأدب 2808 , والنسائي: التطبيق 1040 , وأبو داود: اللباس 4044 والخاتم 4225 , وأحمد 1/80 ,1/81 ,1/92 ,1/93 ,1/104 ,1/114 ,1/119 ,1/121 ,1/126 ,1/127 ,1/133 ,1/134 ,1/138 ,1/146 , ومالك: النداء للصلاة 177. 2 البخاري: اللباس 5838 , ومسلم: اللباس والزينة 2066 , والنسائي: الزينة 5309 , وأحمد 4/284 ,4/299. 3 البخاري: اللباس 5849 , ومسلم: اللباس والزينة 2066 , والترمذي: الأدب 2809 , والنسائي: الجنائز 1939 والزينة 5309 , وأحمد 4/284 ,4/287 ,4/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة" 1. قال أبو داود والنسائي: السيراء المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين وفتح الياء والمد، نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: حديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى. وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب إباحة الخز دون الملحم وغيره. اهـ من جمع الجوامع. ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة" قال الحافظ المنذري: رواته ثقاة، مجيبة بضم الميم وفتح الجيم بعدها ياء مثناة تحت مفتوحة ثم باء موحدة أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى. وبهذا يتبين لك أن هذه المحارم المسماة بأخضر قز ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقا لما فيها من الحرير الخالص الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز من الإضافة البيانية. والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر وتقدم تقريره، اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك ويتبع رضاك. ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيزرضي الله عنهحيث يقول: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنه على هدى.   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها 2619 , ومسلم: اللباس والزينة 2068 , والنسائي: الجمعة 1382 والزينة 5299 , وأبو داود: الصلاة 1076 واللباس 4040 , وابن ماجه: اللباس 3591 , وأحمد 2/20 ,2/103 , ومالك: الجامع 1705. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقال أبو الوفاء بن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح، فهذا أشق ما تحمله المكلف لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع ... إلى أن قال: لو سكت المحقون، ونطق المبطلون لتعود السوى ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا، فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك في جمع الجوامع. وكلما حرم من الثياب وغيرها، حرم بيعه وخياطته وأجرته، نص عليه كبيع عصير لمن يتخذه خمرا. قال: ويحرم بيع الحرير والمنسوج بالذهب والفضة للرجل، قطع به جماعة من أصحابنا، والمراد به إذا كان يلبسه، وكذا خياطته وأخذ أجرتها. وذكر ابن أبي المجد ما حرم استعماله من حرير ومصور وغيرهما، حرم بيعه وشراؤه وعمله وأخذ أجرته لإعانته على الإثم انتهى. وما أحسن ما قال شيخ الإسلام ابن تيميةرضي الله عنهثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعرفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وقول كثير من أهل العلم. اهـ. وبه تمت الرسالة والله المستعان، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [تقريظ للرسالة الماضية في حكم الحرير، لبعض الأفاضل] نظرت في هذه الرسالة لوحيد دهره، وفريد عصره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فرأيت صحة ما ضمنها من تحريم المحرمة المسماة بأخضر قز -وفقنا الله وإياه للصواب- قال ذلك، وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. ونقل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 حمد بن عبد الله المذكور من نقل عبد الله المسطور، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ما ذكره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في هذه الرسالة من حظر المحرمة المسماة بأخضر قز هو الصواب -جزاه الله عن المسلمين خيرا- أملاه إبراهيم بن سيف وكتبه ابنه، ونقله حمد بن عبد الله من كلام شيخه من نقل ابنه، رفع الله لنا ولهم ولمشايخنا ولأئمتنا، وعامة إخواننا المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الدرجات العلى، وأسكننا أعلى الفردوس مع نبيه المصطفى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الكتب التي يؤخذ منها التوحيد، والنهي عن الحرير] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يراه من الإخوان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: طلبنا أخوكم سعد بن كسران الفائدة في أصل الدين فأجبناه، فأحسن ما نجد في بيان أصل الدين في الآيات المحكمات، فتدبر ما قص الله تعالى عن رسله، وما دعوا إليه من بعثوا إليهم يتبين لك أصل الدين، وما ينافيه من الشرك. وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب"التوحيد"على اختصاره كثيرا من الأدلة المعرفة بأصل الدين، كذلك كتاب"كشف الشبهات"، و"أربع القواعد"و"معنى شهادة أن لا إله إلا الله"، فأوصيك بالاشتغال والمطالعة في كتبه، وتأمل ما فيها من الأدلة. [النهي عن الحرير] وأما المحرمة التي أخضرها حرير، فلا شك في أنها حرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير فقال:"إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة" 1، وقال:"من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" 2. وفي الصحيح:"أنه أخذ حريرا   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها 2619 , ومسلم: اللباس والزينة 2068 , والنسائي: الجمعة 1382 وصلاة العيدين 1560 والزينة 5295 ,5299 ,5306 ,5307 , وأبو داود: الصلاة 1076 واللباس 4040 , وابن ماجه: اللباس 3591 , وأحمد 2/20 ,2/103 , ومالك: الجامع 1705. 2 البخاري: اللباس 5833 , والنسائي: الزينة 5304 , وأحمد 4/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في يساره، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي" 1. وفي حديث عمر:"نهى عن الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة" 2، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فما زاد على الأربع الأصابع حرام، سواء كان مفرقا أو مجتمعا كما عليه جماهير العلماء، وهو ظاهر الأحاديث، وفيها ما يدل على المنع منه، وإن لم يكن مجموعا. فاجتنب هذه المحرمة فإنها محرمة، فإن كان عندك شيء منها، فلا تبعها على مسلم، بعها في غير بلاد المسلمين. هذا، وبلغ سلامنا الإخوان، وكاتبه وخواص الإخوان يسلمون عليكم، وأنتم سالمين 3 وسلام، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   1 النسائي: الزينة 5144 , وأبو داود: اللباس 4057 , وابن ماجه: اللباس 3595. 2 البخاري: اللباس 5828 ,5829 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 ,5313 , وأبو داود: اللباس 4042 , وابن ماجه: الجهاد 2820 , وأحمد 1/51. 3 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 [ فتاوى ومسائل فقهية في الطلاق الثلاث وغيره ] [نوى الطلاق ولم ينو الثلاث] بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، هذه مسائل سأل عنها إبراهيم بن عبيد الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، فمنها إذا قال إنسان لزوجته: الله يرزقك بالثلاث ناويا الطلاق لكنه لم يرد الثلاث. الجواب تقع الثلاث، ولا يقبل قوله أنه لم يردها مع وجود اللفظ منه، والله أعلم. [القبول من المرأة في البيع] وسئل عن سكوت المرأة عن بيع نصيبها من العقار، هل يوجب صحة البيع، أم لا إلخ؟ الجواب: لا يجب به بيع لعدم وجود الرضى منها صريحا، وهي على ملكها، والمشتري يرجع على من باعه سواء أدرك منه الثمن أم لا، والمرأة لا رجوع عليها والحالة هذه، وما استغل من عقارها رده إليها أو مثله إن تلف. وأما طلبها بالشفعة في نصيب الباقي من الشركاء، فإن كان قد تقدم منها طلب بالشفعة وقت البيع، فلم تجب لوجود معارض، فلها الشفعة. أما إذا لم تطلب أو طلبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ولا معارض، فأعرضت رغبة عنه، سقطت شفعتها. فحقق الواقعة وانظر فيها، فإن ظهر لك أحد الأمرين، وإلا فالتوقف أسلم والله أعلم. وهذه مسائل [قال الرجل لامرأته الله يرزقك] الأولى: إذا قال الرجل لامرأته: الله يرزقك، وطلعت من العدة، فلا له طريق عليها إلا بملاك، وأيضا إن كان الرجل القائل لحرمته: الله يرزقك ثلاث مرات، ونيته أنها ثلاث طلقات، فلا له طريق إلا عقب ما تأخذ رجلا آخر ويطلقها. [نفقة المطلقة] الثانية: إذا طلق امرأة زوجها الطلاق، وتبريه من النفقة وطلقها ثم طلبت النفقة، إن كانت الحرمة مبغضة للرجل يوم يطلقها البغضاء المعروفة، فلا لها عليه طريق في النفقة. وإن كان يوم تطلبه الطلاق، وهو مضيق عليها ومشين عليها الطبع، فنفقتها تلزمه إلى أن تعتد، وإن كانت حاملا فإلى أن تضع. [نشوز المرأة] الثالثة: إذا عصت المرأة، وخرجت من بيت الرجل، فالمعصية عليها، ولا نفقة عليه. [سقوط النفقة] الرابعة: إذا طلق الرجل امرأته الطلقة الثالثة، ففيما يظهر ما لها عليه نفقة. [العدل في القسمة بين الزوجات] الخامسة: إذا كان لرجل امرأتان، فالتي يأتيها الحيض، فهو يقسم لها في وقت الحيض والنفاس، في عرفنا أنها لا تشره عليه 1 أنه يقاضيها. [من طلق زوجته عدد خوص النخل] السادسة: إذا طلق الرجل امرأته عدد خوص النخل، فلا له طريق عليها. [اختلاف المأمومين في عدد الركعات] السابعة: إذا سلم الإمام فقال بعض الجماعة: نقص ركعة، وبعضهم يقول: تامة، فهو يعمل بقول الذين عليهم العمل وأكثر ظنه، إلا إن كان يلحق شك، فيعمل بقول الآخرين. [قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة] الثامنة: إذا قرأ الرجل في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهيا، فلا علمنا عليه شيء. [المراجعة في العدة] التاسعة: إذا طلق الرجل امرأته مرة أو مرتين، ولو قال: أنا طايبة نفسي   1 أي: لا تطمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فهو يراجعها، فإن كانت طالعة من العدة، فهو يراجعها إن اشتهته. [المطلقة قبل الدخول] العاشرة: إذا طلق الرجل امرأته عقب ما تملك قبل أن يدخل بها، فلها نصف الجهاز مثل أبناء جنسها. [يمين الظهار] الحادية عشرة: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي مثل أمي، فعليه كفارة الظهار. [قال الرجل علي الحرام] الثانية عشرة: إذا قال الرجل: علي الحرام لا فعل شيئا، ففعل ما هو حالف عنه، فعليه كفارة. [رضعت بنت من امرأة وهي أم أربع أو خمس] الثالثة عشرة: إذا رضعت بنت من امرأة، وهي أم أربع أو خمس، فهي ما تحرم. [ألفاظ الكناية في الطلاق] الرابعة عشرة: إذا قال الرجل لامرأته: الله يرزقك ثم طلقها طلقتين تتالا، فهو ينشد عن نيته هو ناو ثلاثا أو هويبي 1 يسمعها، وقصده طلقة واحدة، فإن كان قصده واحدة، فهي تحل له، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة فلم يجد الماء] وهذه مسائل الأولى إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة، فلم يجد الماء، فإنه يصلي فيه؛ وإن وجد الماء غسله، ويزيلها بما استطاع. فإن كان عليه ثوب آخر صلى في الطاهر وترك النجس. [الذي يصلي الرواتب في البر لا ينكر عليه] الثانية الذي يصلي الرواتب في البر لا ينكر عليه، والأفضل تركه الرواتب إلا الوتر أو سنة الفجر. [تنخم الرجل في الصلاة] الثالثة إذا تنخم الرجل في صلاته، فلا يبطلها إن شاء الله تعالى. أفتى بهذا عبد الله بن الشيخ، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 أي: يبتغي ويريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 معنى التقوى وتفسير قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} ... معنى التقوى وتفسير قول الله تعالى عزّ وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ... وأولئك لهم عذاب عظيم} وتفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 1 إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين، واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين، وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام، المثنين بها عليه، ونسأله أن يتقبلها منا، ويتمها علينا بالرغبة فيما يوجب الفوز لديه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله –تعالى- في الغيب والشهادة، قال الله –تعالى-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} 3 الآية، قال طلق بن حبيب -رحمه الله-: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ولا وصية أعظم، ولا أنفع مما وصى الله به عباده المؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4.   1 سورة آل عمران آية: 102. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة النساء آية: 131. 4 سورة آل عمران آية: 102: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف -رحمهم الله تعالى- في معنى هذه الوصية العظيمة المتضمنة لأصول الدين، وما يقوم عليه من الأعمال. فعن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفا- وروي مرفوعا- والموقوف أشهر {حَقَّ تُقَاتِهِ} 1 أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وأصل الإسلام وأساسه أن ينقاد العبد لله –تعالى- بالقلب والأركان، مذعنا له بالتوحيد، مفردا له بالإلهية والربوبية دون كل ما سواه، مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" 2 الحديث. [ما ورد في معنى حبل الله] وحبل الله دينه الذي أمركم به، وعهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-: وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه كما روي عن ابن مسعود قال: حبل الله الجماعة، وعن أبي العالية: اعتصموا بالإخلاص لله وحده، وعن ابن زيد قال: الحبل الإسلام، وقيل: هو القرآن لما روى ابن مردويه عن ابن مسعودرضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه" 3. [عليكم بالطاعة والجماعة] ثم قال تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} 4. عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة، هو خير مما تحبون في الفرقة". وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره من حديث عبد الله بن يحيى أبي عامر أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سورة آل عمران آية: 102. 2 مسلم: الإيمان 8 , والترمذي: الإيمان 2610 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4990 , وأبو داود: السنة 4695 , وابن ماجه: المقدمة 63 , وأحمد 1/27 ,1/51 ,2/107. 3 الدارمي: فضائل القرآن 3315. 4 سورة آل عمران آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قال:"إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" 1. والله يا معشر العرب إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فكل بدعة ضلالة" 2. [جاء الله بالإسلام فألف به بين الناس] ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي: اذكروا ما أنعم به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام، حين كنتم أعداء على شرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بين قلوبكم تواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه. وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الألفة رحمة، وإن الفرقة لعذاب. [معنى قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 3] وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 4 يقول تعالى: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، فأنقذكم الله بالإيمان الذي هداكم به. وذكر عن قتادة في الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفين على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق شأنا منهم. حتى جاء الله بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به دار الجهاد، ووضع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم. فاشكروا نعمه فإن ربكم منعم يحب الشاكرين؛ وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك. [قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون} وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون} 5 أي: يعرفكم في   1 أبو داود: السنة 4597 , وأحمد 4/102 , والدارمي: السير 2518. 2 الدارمي: المقدمة 205. 3 سورة آل عمران آية: 103. 4 سورة آل عمران آية: 103. 5 سورة آل عمران آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 كل ذلك مواقع نعمه وصنائعه فيكم، ويبين لكم حجته في تنْزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها. [الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} 1 الآية، قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحبسه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرةرضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2. وفي المسند عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه، فلا يستجيب لكم" 3 انتهى. قلت: وروى محمد بن نصر من حديث يزيد بن مرثد مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغور الإسلام، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك". وروى بسنده عن الحسن بن حي:"إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله، فإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه". [النهي عن الاختلاف والفرقة] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4. قال ابن عباس في الآية: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله. قلت: فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين، وأخبر أنه من موجبات العذاب العظيم، وأرشد إلى أسباب الاجتماع على دينه وشرعه.   1 سورة آل عمران آية: 104. 2 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 , وأحمد 3/20 ,3/49 ,3/54 ,3/92. 3 أحمد 5/388. 4 سورة آل عمران آية: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ومن أعظمها الاعتصام بكتابه ودينه علما وعملا، وأداء شكره، والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. [الفساد بالإعراض عن كتاب الله والخير في اتباعه] ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد، الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم، واتباع الأهواء والآراء المضلة، نعوذ بالله من ذلك، فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لا يكاد يبلغه الوصف. فمن ذلك الاختلاف في الدين والتحاسد، والتدابر والتقاطع، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منتقص لغيره، مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه. فالواجب على من أعطاه الله شيئا من العلم أن يبذله لطالبيه، وأن يقوم بما أوجب الله –تعالى- عليه من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم ودينه وشرعه، ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم من تعلم دينهم وطاعة ربهم، وترك معاصيه، وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على علم وبصيرة، وأن يهتموا بما يصلح ذلك من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم. وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان، وتجلب أسباب المآثم والعصيان، من الهلع والطمع والرضاء بالدنيا، والاطمئنان بها، وفي الحديث:"حب الدنيا رأس كل خطيئة". وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد:"أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله أفيأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينْزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضر إذا أكلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبه المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل". أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم"وإن من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون شهيدا عليه يوم القيامة". انتهى. فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها من غير حلها، وصرفها في غير حقها، صارت عليه وبالا، ومن أجمل في طلبها وأخذها من حلها، وأدى حق الله فيها، ولم يشتغل بها عن طاعة مولاه، فإنها تكون في حقه نعمة وعطية، ولغيره محنة وبلية. هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمه ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، ابتلاء وامتحانا لتعرفوا نعمه وتشكروها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1. فانظروا -رحمكم الله- بماذا تقابلونها، أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الإعراض عن دينه وارتكاب معاصيه من الظلم والبغي والأشر والبطر، واللهو، واللعب، وقول الزور، والسخرية ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟ نسأل الله السلامة من أسباب التغيير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} 2. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. الله الله عباد الله، قيدوا نعم الله بشكره واتباع ما يرضيه، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الله خولكم نعمه لتطيعوه ولا تعصوه، وتعملوا بدينه وشرعه   1 سورة إبراهيم آية: 34. 2 سورة الرعد آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وتعظموه، لا لتشتغلوا بها عن ذلك أو تمتهنوه. اللهم أوزعنا شكر ما أنعمت به علينا من هذه النعم الظاهرة والباطنة، واستعملنا فيما يرضيك عنا، وعافنا واعف عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 كتابه إلى محمد بن عمر وفيه ذكر تآليف ابن منصور [ذكر ما في تآليف ابن منصور] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر، عمر الله دارهم بالإيمان والقرآن، ووفقهم لاتباع داعي الإسلام والإيمان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: وصل الخط، وصلك الله بما يرضيه وسرنا طيبك وعافيتك، جعلنا الله وإياكم من الطيبين المهتدين. ومن طرف تصانيف ابن منصور، فلا يستنكر ذلك منه، كما قيل: ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا، ولا ضر إلا نفسه. رد على الشيخ -رحمه الله تعالى- في دعوته أناس متشبهون بأهل العلم، فأبطل الله كيدهم، وصار وبالا عليهم. ولكن هذا الرجل فعل فعلا ما فعله أحد قبله ممن كره هذا الدين، والله أعلم بما وافى به الله من إصرار أو توبة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن عرف لله حقه، وجرد إخلاصه وصدقه، وذلك فضله سبحانه ورحمته. فلو أنت طرشت الكتاب1 مع إبراهيم بن عبد الرحمن، ما كرهنا الإشراف عليه، وسلم لنا على الوالد ومحمد بن عبد الله وسهل وعبد الرحمن بن جاسر ومطلق وعبد الله بن ثاقب وربعة وموسى بن صالح وفرحان بن خير الله وإخوانهم الذين ما سمينا، ومن لدينا الإمام وأولاده وإخوانه، وعبد اللطيف وإخوانه وخواص الإخوان بخير، وينهون السلام. كاتبه إبراهيم يسلم على الإخوان المحبين وأنت سالم والسلام. حرر نقل سنة 1286.   1 أي: أرسلته وبعثت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 كتاب آخر إلى محمد بن عمر وفيه الرد على من زعم أنه لا يصح تبديع مسلم ولا تفسيقه [القول في أهل البدع والفسقة] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: وصل الخط وصلك الله بما يرضيه، وسرنا طيبكم وعافيتكم جعلنا الله وإياكم من الطيبين، ونحمد إليكم الله تعالى على ما أولاه من النعم، وما صرف من النقم، نسأل الله لنا ولكم معرفة الحق، والعمل به والصبر والاستقامة، والثبات على الإسلام. وما ذكرت من الورقة التي رميت يقول صاحبها: إنكم جعلتم الناس بين مشرك ومبتدع وفاسق وجاهل ظالم، ولا سبقكم أحد بهذا الاعتقاد، فهذا ما ضر إلا نفسه، وهذه الشبهة قد تلقاها الجهال في وقت ظهور شيخنا -رحمه الله- وهذه من أفسد شبههم لأن الذي تدخل معه يدل على جهله، وانحرافه عن دين الله، ومخالفته للكتاب والسنة، لأن الله تعالى ذكر الكفار والمشركين من هذه الأمة، وأمر بقتالهم وأباح دماءهم وأموالهم، وكذلك أهل البدع هم الكثير وهم دول، وأهل الفسوق كذلك. وهذا الأمر ما يخفى على أبلد الناس، ولكن ما حصل إلا المسبة مثل من أغار على فريق، وأخذوه ولا أبقوا له شيئا، وصار هذا باعثا على رد هذه الشبهة، وإن كان شيخنا قد ردها في"كشف الشبهات"، لكن بسطنا الرد عليها على سبيل الاختصار، وإلا فردها يحتمل مجلدا، وصار جوابا نافعا لكل موحد، وأرسله الإمام للأحساء يقرأ في المدارس والمساجد والمجالس لأنه ربما دخل على بعض من ينتسب إلى العلم وهم جهال، وما جرى منهم، فهو خير بلا شر، وهو في الحقيقة نعمة، ووباله على من أبداه، ولا هذا بأول نار قد أضرمها علينا ناس من الأشرار، ولا ندري عنهم، ويكفيناهم الله، ولله الحمد. وسلم لنا على الوالد، ومحمد بن عبد الله وخواص الإخوان، ومن لدينا عبد اللطيف بخير، وينهون السلام وكاتبه يسلم، وأنت سالم والسلام. 27 شعبان سنة 1277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن جواب سؤال عمن يجتمع للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في المسجد، وعن صلاة الجمعة قبل الزوال، ومسائل أخرى بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى جناب الأخ إبراهيم بن محمود، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فهذا جواب سؤال: المسألة الأولى: عن أناس يجتمعون ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب: أن هذا ليس مشروعا، وإنما المشروع الصلاة، وقراءة القرآن قبل دخول الإمام، فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة وجب الإنصات للخطبة كما في الحديث"إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت" 1. وأما تقدم الخطيب في المسجد يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة، فلا بأس به لكن ينبغي أن يكون في ناحية يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة. [صلاة الجمعة قبل الزوال] وأما صلاة الجمعة قبل الزوال، فهو وقت لها عند الإمام أحمد -رحمه الله-، وخالفه بعض الأئمة، وقال: وقتها بعد الزوال، فتأخيرها إلى الزوال خروجا من خلاف العلماء، لكن هذا القول الثاني مجمع عليه. [الأمراض الحادثة] كذلك الأمراض الحادثة وقع مثلها في وقت الصحابة -رضي الله عنهم- فلم يفتوا فيها، ولو كان خيرا سبقونا إليه. [جعل الذهب في الجنبين والسيف] وأما جعل الذهب في الجنبين والسيف، وفي خاتم رجل، فلا يجوز إلا الفضة، وأما الذهب فلا. [صاحب السفينة وقوله: سلفني] وأما صاحب السفينة وقوله: سلفني، فلا ولو يجعله من الأجرة، ويقدمها عليه جاز. [كفارة اليمين] وأما كفارة اليمين، فيطعم عشرة مساكين قدرها العالي لكل مسكين مد من البر، والمد وزن ثلاثين ريالا، فإن كان شعيرا، فمدان وكذلك التمر.   1 البخاري: الجمعة 934 , ومسلم: الجمعة 851 , والترمذي: الجمعة 512 , والنسائي: صلاة العيدين 1577 , وأبو داود: الصلاة 1112 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1110 , وأحمد 2/244 ,2/272 ,2/280 ,2/393 ,2/396 ,2/485 ,2/518 ,2/532 , ومالك: النداء للصلاة 232 , والدارمي: الصلاة 1548 ,1549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وأما قوله: إذا حلف وقال: وعهد الله، فهو كقوله: والله. [مسائل في الحج] وأما الحج، فمن أخذها ليحج صح، وأما إذا حج ليأخذ، فلا يصح 1. كذلك ما يصح له أن يوكل غيره، لا في بلد الميت ولا في غيرها. فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت، فهذا لا يصح أيضا. وقولك من يأخذ الحجة لاشتياقه إلى البيت، ومشاعر الحج وللعمل الصالح لما فيه من زيادة الفضل، فهذا هو الذي يصح نيابته كما تقدم، فإن كان قصده التوصل إلى البيت، فلواجب لقصده ذلك، وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج وواجبات وسنن، فثوابه له وأما الأركان والواجبات والسنن، فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه، وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالا من عمان لصاحب له في نجد، فلا يجوز؛ لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة، وسلم لنا على إخوانك وعبد اللطيف وإخوانه، والإمام وأولاده والإخوان بخير، وينهون السلام، حرر سنة 1282. [ذكر كلام ابن القيم في حياة القلب] جوابه عن كتاب من محمد آل عمر السليم بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المكرم محمد آل عمر السليم -سلمه الله تعالى- من كل آفة وآمنه من كل مخافة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: وصل الخط، وصلك الله بما يرضيه، ونحمد إليك الله –تعالى- على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين. ونعمة الله عليكم عظيمة حيث أقامكم في ناحية، أهلها جهال بالتوحيد، ما له عندهم قدر ولا قيمة، وجعلكم تدعون إليه وتبينونه وتحملون الناس عليه، وجعل لكم أصحاب قابلين هذه   1 الظاهر أن هذا جواب عمن يحج بالنيابة عن غيره بالأجرة، فالمراد أخذ الدراهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الدعوة1، ومحبينها ومعادين فيها. وموالين فيها، ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة، واحمدوا الله -سبحانه وتعالى- وتبرؤوا من الحول والقوة، وانسبوا النعمة إلى ربكم. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر حياة القلب، وصف القلب الحي بقوله: "أن يكون مدركا للحق، مريدا له، مؤثرا له على غيره، والكتاب وصل، وشرعنا نقرأ فيه ووجدناه صحيح"2. ولله الحمد وموافق، ولو ثمنه غالي 3، كل ثمن يساق فيه ليس بكثير. وسلم لنا على الوالد ومحمد، وجميع الإخوان بالتخصيص، والتنصيص ومن لدينا الإمام وتركي ومحمد وعبد اللطيف وإسماعيل وجميع العيال بخير، ويبلغون السلام وأنت سالم والسلام، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم، خطه سنة 1284 ونقلته من خطه، وعليه ختمه. غرة ربيع أول سنة 1345.   1 قوله: أصحاب إلخ. ترك فيه وفي أمثاله مقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 2 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 3 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 [ نصيحة بالعمل بما دلت عليه الشهادتان النصيحة لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم] كتبها إلى أمير الأحساء وأعيانها بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الإخوان الأمير محمد بن أحمد والشيخ عبد اللطيف بن مبارك وأعيان أهل الأحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء، ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والنور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله، ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأوصيكم بما دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله، وما تضمنته من نفي الآلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بعث الله به رسله من التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} 1. وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 2 وهذه الآيات وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه ومن المشركين من الرافضة وغيرهم، والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غنى لأحد عن معرفته، والعمل به باطنا وظاهرا. قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 3 وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله كما تقدم الإشارة إليه. ومضمون شهادة أن محمدا رسول الله وجوب اتباعه، والرضاء به نبيا ورسولا، ونفي البدع والأهواء المخالفة لما جاء به صلى الله عليه وسلم. فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك، وقبوله ومحبته والانقياد له قولا وعملا، باطنا وظاهرا. [العلم بالله وما يجب له على عباده من دينه] ومما أوجب ذكر ذلك ما بلغنا وتحققناه من غفلتكم عن هذا الأصل العظيم الذي لا نجاة للعبد إلا بمعرفته والعمل به، فالعامة منكم ما يبالون بحقوق الإسلام ولو ضيعت، وصار اشتغال أهل العلم بالعلوم التي هي فرع عن هذا الأصل العظيم، ولا تنفع بدونه، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم بالله، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم، فبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وفي الغفلة عنه زوال النعم، وحلول النقم، وقد وقع فيكم بسبب الغفلة عن هذا ما قد علمتم كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4. [جمع المدرسين وأئمة المساجد بالحضور عند قاضي البلد] إذا عرفتم ذلك، فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين 5 وأئمة المساجد بالحضور عند قاضي البلد الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، ويلزمهم القراءة فيما جمعه   1 سورة فصلت آية: 6. 2 سورة فصلت آية:13، 14. 3 سورة الزمر آية: 11، 12. 4 سورة الأعراف آية: 168. 5 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 شيخنا -رحمه الله- في كتاب التوحيد من أدلة الكتاب والسنة، التي فيها الفرقان بين الحق والباطل، فقد جمع على اختصاره خيرا كثيرا، وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله، ويلزمهم سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها وأربع القواعد، فما أعظم نفعها على اختصارها لطالب الهدى! [تفقد الناس في المساجد] . وكذلك يلزمهم تفقد الناس في المساجد، حتى يعرف من يتخلف عن الصلاة ويتهاون بها، ويجعل للناس نوابا في القيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان والقرى، فإن هذا مما شرعه الله ورسوله، وأوجبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقد ورد الزجر والوعيد للمتخلفين عن الصلوات الخمس في المساجد حيث ينادى لها، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها. ومن المعلوم أن الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها، والتهاون بذلك من أسباب إضاعتها، وذلك يوجب عقوبة الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} 1 نسأل الله لنا ولكم العون على مرضاته، وأنتم سالمين 2 والسلام.   1 سورة مريم آية: 59. 2 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 بعض رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (رسالة في الكلام على أما بالتخفيف، وإعراب: "عدد خلقة") ... [بعض رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن] مقدمة رسالة في الكلام على أما بالتخفيف، وإعراب"عدد خلقه"إلخ بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن حسن -سلك الله بنا وبه أهدى السنن-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمائه، وجزيل فضله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وعطائه، جعلنا الله وإياك ممن عرف نعمة الله عليه فاستعان بها على ما يقربه إليه، والخط وصل -وصلك الله بالرضى-، وما أشرت إليه صار لدينا معلوما. [الكلام على"أما"بالتخفيف] أما الخطوط التي تذكر أنك أرسلتها إلينا قبل هذا الخط الأخير فلم تصل، ولم يصل منك في هذا العام قبل هذا خط. وأما الجواب عن المسألتين فلا يخفى أن"أما"بالتخفيف تأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح كما في قوله:"أما إني لم أكن في صلاة"ويكثر ذلك قبل القسم كما في قوله: أما والذي أبكي وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر لقد تركتني أحسد الوحش إن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر وقول الآخر: أما والذي حجت له العيس وارتمى لمرضاته شعث طويل ذميلها لئن نائبات الدهر يوما أدان لي على أم عمرو دولة لا أقيلها وقال الآخر: أما يستفيق القلب أنى بدا له ... توهم صيف من سعاد ومربع أخادع عن إطلالها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع عهدت بها وحشا عليها براقع وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع وهذا إذا قصد به تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به ويلتفت إليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ألا لعنة الله على اليهود والنصارى" 1،"ألا هل بلغت"،"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" 2 وكقول الشاعر: ............ ... ألا لا يجهلن أحد علينا وكما في قوله: ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع   1 البخاري: الصلاة 436 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 531 , والنسائي: المساجد 703 , وأحمد 1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/255 , والدارمي: الصلاة 1403. 2 البخاري: العلم 105 , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات 1679 , وابن ماجه: المقدمة 233 , وأحمد 5/37 ,5/39 ,5/49 , والدارمي: المناسك 1916. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 والثاني: بمعنى حقا أو أحقا، وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى لولا، فتختص بالفعل، كما في قولك: أما يقول، أما يقعد، ونحوه. وأما نحو: أما كان فيهم من يفهم؟ فالهمزة للاستفهام، وما حرف نفي وليست مما نحن فيه. فتنبه. [في إعراب: عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه] وأما المسألة الثانية وهي: قولك: ما وجه نصب"عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"؟ فاعلم أن نصب هذه المصادر على أنه نعت لسبحان، لأنه اسم محذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر: ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب فبهرا اسم منصوب على المفعولية المطلقة لكونها هنا بمعنى عجبا، لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوبا، وعدد الرمل في البيت نعت له، ويحتمل أن"عدد"وما عطف عليه، نصب على المفعولية المطلقة، والعامل يقدر: سبحته أو نزهته، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 لأن سبحان علم على معنى التنْزيه والبراءة أو على لفظه، فلا يعمل في المفعول. ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب بسبحان، ويقويه قول ابن مالك: بمثله أو فعل أو وصف نصب ... وكونه أصلا لهذين انتخب وأما"زنة"فمعناها الموازنة والثقل، بخلاف ما إذا كان من بعده الفعل مستعمل كقوله: أذلا إذا شب العدى نار حربهم ... وزهوا إذا ما يجنحون إلى السلم وقول الآخر: خمولا وإهمالا وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد تمت، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 سورة النور آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 حكمة الله في ابتلاء المؤمنين ... [حكمة الله في ابتلائه المؤمنين] بسم الله الرحمن الر حيم قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالته إلى البويري: فمن حكمة الرب تعالى أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع: الصنف الأول من عرف الحق فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1، {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأصول، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون من أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه دعوته. الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 4. وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 5.   1 سورة البقرة آية: 90. 2 سورة البقرة آية: 146. 3 سورة القصص آية: 50. 4 سورة الزخرف آية: 22. 5 سورة الصافات آية: 69، 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 [ شكر النعمة يوجب زيادتها ومعنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} 1 الآية. بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان -سلمهم الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فموجب هذا والباعث عليه هو النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. فاذكروا ما من الله به عليكم وخصكم به في هذا الزمان من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح التي لا تعد ولا تحصى. وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى -عليه السلام- أنه ذكر قومه هذه النعمة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} 3 الآية. فذكرهم أولا بالنعمة العظمى، وهي أن جعل فيهم أنبياء يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم وخلاصهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وقد امتن الله سبحانه على عباده في كتابه بهذه النعمة، وذكرهم بها في مواضع كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4.   1 سورة المائدة آية: 20. 2 سورة الذاريات آية: 55. 3 سورة المائدة آية: 20. 4 سورة الجمعة آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وأخبر عن مراده فيما شرعه في تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به وأراد منه إتمام نعمته، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك كما منَّ عليهم قبل بمبعث الرسول فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 1. [أعظم نعم الله هي إرساله الرسل] فبعث الأنبياء، وإرسال الرسل هو الذي حصل به العلم النافع والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، والاستدلال بآياته ومخلوقاته، والقيام له بما أوجب على خلقه من العبادة والتوحيد، والعمل بما يرضي الرب ويريد، فإن بهذا تحصل زكاة العبد ونموه، وصلاحه وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة. وفي ضمن تعليمه الكتاب والحكمة من تفاصيل العلوم والأعمال والمعارف، والأمثال الدالة على وحدانيته وقدرته ورحمته وعدله وفضله، وإعادته لخلقه وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه وأوليائه، وما فعل ويفعل بأعدائهم وأعدائه، وإخباره بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل، ما يوجب للعبد من العلم بالله، ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه وخلقه، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه. فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمة إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل وبعث النبيين، خصوصا رسالة محمد سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، فإنه قد حصل برسالته من عموم الرحمة لكافة العالمين، ومن السعادة والفلاح، والتزكية والهدى والرشاد لمن اتبعه ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه ببعث غيره من الأنبياء. فمن كان له من قبول ما جاء به والإيمان به حظ ونصيب فعليه من شكر الله على هذه النعمة، وطاعته، وإدامة ذكره، والثناء بنعمه، ما ليس على من قل حظه ونصيبه من ذلك.   1 سورة البقرة آية: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقد منَّ الله عليكم -رحمكم الله- في هذا الزمن الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بعصر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين من الهدى الواضح المستبين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-. فبصر العدد العديد من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت الحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في باب توحيد الله بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله. فإنه قرر ذلك، وتصدى -رحمه الله- للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبل التحريف والتعطيل، على اختلاف نحلهم وبدعهم، وتشعب مقالاتهم وطرقهم، متبعا -رحمه الله- ما مضى عليه السلف الصالح من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة بنص الحديث. ولم يلتفت -رحمه الله- إلى ما عدا ذلك من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي أو أشعري، فوضح معتقد السلف الصالح، بعد ما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة. وتصدى أيضا للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد وما يستلزمه، وهو وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله. وقد عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة، وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم. فمنهم من يعبد الكواكب وبخاطبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بالحوائج ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات. ومنهم من لا يرى ذلك ويكفر أهله ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء والصالحين، فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات وتفريج الكربات؛ فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم والتوكل والاعتماد والدعاء والاستغاثة والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادات. [ما كانت عليه الجاهلية حين مبعث الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ] وهذا هو دين جاهلية العرب الأولى، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل -عليه السلام-، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3 إلى قوله {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4. والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية، فاتخذوا الشفعاء والوسائط من الملائكة والصالحين وغيرهم، وجعلوهم أندادا لله رب العالمين فيما يستحقه عليهم من العبادات، والإرادات كالحب والخضوع والتعظيم والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات؛ لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، والاعتقاد والتدبير والتأثير كما ظنه بعض الجاهلين. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 الآية، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 6. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ   1 سورة التوبة آية: 33. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة المؤمنون آية: 84. 4 سورة المؤمنون آية: 89. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الزمر آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 زُلْفَى} 1 الآية. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الشرك، وكفر أهله، وجهلهم وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبين أن مدلولها الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبدون من دون الله. وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، والفارق بين الكافر والمؤمن من الأنام، ولها جردت السيوف وشرع الجهاد، وامتاز الخبيث من طيب العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال. وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعه الأكثر، وتركوا ما جاءت به الرسل من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة، حتى أدخل الشرك وعبادة الصالحين وغيرهم على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاها ومنزلة يشفع بها من دعاهم ولاذ بحماهم. وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير والخلق والرزق فهو مسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره ولاذ بحماه، وأن مجرد شهادة أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستغاثة والاستعانة والحب والتعظيم ونحو ذلك ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود والركوع، ونحو هذه الزخرفة والمكيدة، وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب. [سبب حدوث الشرك في قوم نوح] وذكر المفسرون وأهل التاريخ من أهل العلم في سبب حدوث الشرك في قوم نوح مثل هذه المكيدة، فإن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا تماثيلهم ويصوروا صورهم؛ ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة. فلما هلك من فعل هذا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك. فأصل الشرك هو تعظيم الصالحين بما لم يشرع، والغلو في ذلك.   1 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، الذي لا يخالطه ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب. واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله حتى أغشى إشراقها وضوؤها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل. وحقق الله وعده لأوليائه وجنده كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2 الآية. [دعوة التوحيد في نجد] فزال -بحمد الله- ما كان بنجد وما يليها من القباب، والمشاهد والمزارات والمغارات، وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتاد والتعاليق والشركيات، وألزم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبسائر الواجبات. وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين، والسلف الصالح المهديين. ونهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به. وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينْزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه مشابهة للنصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية ما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين.   1 سورة غافر آية: 51. 2 سورة النور آية: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة من التدين والتعبد باللهو واللعب والمكاء والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان عن سماع آيات القرآن، وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 1. وكل من عرف ما جاء به الرسول تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق، وكراهة سماع كلام الله ورسوله. [هدم الشرك وآثاره في نجد] وأنكر -رحمه الله- ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت، الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات، فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة. وأنكر -رحمه الله- ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم، الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين. وأرشد -رحمه الله- إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق. فإن الله -جل ذكره- وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم وحظ من الإيمان. وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك.   1 سورة الأنفال آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين وذكرهموه من بعث الأنبياء والرسل. ومدار العبادة والتوحيد على ركنين عظيمين هما الحب والتعظيم. وبمشاهدة النعمة يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما: ازداد العبد علما بذلك، ومعرفة لحقيقة النعمة ومقدارها، ازداد طاعة ومحبة وإنابة وإخباتا وتوكلا، ولذلك يذكر تعالى عباده بنعمه الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة والباطنة، ويحث على التفكر في ذلك والتذكر، وأن يعقل العبد عن ربه، فيقوم بشكره ويؤدي حقه. ومبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها فيما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاث فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئا فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى معه من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه. والمقصود أن الذكرى فيها من المصالح الدينية والشعب الإيمانية ما هو أصل كل فلاح وخير. وبدأ في هذه الآية بأعظم النعم وأجلها على الإطلاق، وهو جعله الأنبياء فيهم يخبرونهم عن الله بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى، وكل خير حصل في الأرض من ذلك فأصله مأخوذ عن الرسل والأنبياء، إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء، وأهل العلم عليهم البلاغ، ونقل ذلك إلى الأمة؛ فإنهم واسطة في إبلاغ العلم ونقله. [معنى قوله تعالى {وَجَعَلَكُم مُلُوكاً} وأما قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} 1 فهذه نعمة جليلة يجب شكرها، وتتعين رعايتها؛ فإنها من أفضل النعم وأجلها. والشكر قيد النعمة، إن شكرت قرت، وإن كفرت فرت. ولم تحصل هذه النعمة إلا باتباع الأنبياء وطاعة الرسل، فإن بني إسرائيل إنما صاروا ملوك الأرض بعد فرعون وقومه باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله والصبر على ذلك، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ   1 سورة المائدة آية: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 1. وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به من العرب الأميين، وغيرهم من أجناس الآدميين من الملك وميراث الأرض فوق ما حصل لبني إسرائيل، فإنهم ملكوا الدنيا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وصارت بلادهم وبلاد المغرب والمشرق ولاية لهم، ورعية تنفذ فيهم أحكامهم، ويجبى إليهم خراجهم. ومكثوا على ذلك ظاهرين قاهرين لمن سواهم من الأمم، حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل من الخروج عن اتباع الأنبياء، وترك سياستهم، والانهماك في أهوائهم وشهواتهم، فجاء الخلل، وسلط العدو، وتشتت الناس، وتفرقت الكلمة، وصارت الدول الإسلامية يسوسها في كثير من البلاد وفي أوقات كثيرة من الملوك أهل النفاق والزندقة والكفر والإلحاد، الذين لا يبالون بسياسات الأنبياء وما جاؤوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم. فذهب الملك بذلك، وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم، وسلط عليهم العدو، وأخذ كثيرا من البلاد. ولم يقنع منهم إبليس عدو الله بهذا حتى أوقع كثيرا منهم في البدع والشرك، وسعى في محو الإسلام بالكلية. وكلما بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة، ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم؛ ولكن من رحمة الله ومنته جعل في هذه الأمة بقية، وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في وجهة أو بلد، حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولطائفته وأنصاره من الملك والظهور والنصر بحسب نصيبهم   1 سورة الأعراف آية: 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن. وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله من ذلك أكثر وأعظم. [كل خير حصل للناس فهو باتباع الرسول] والمقصود أن كل خير ونصر حصل، وعز وسرور اتصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول، وقد منَّ الله عليكم في هذه الأوقات بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات، من النعم الدينية والدنيوية، والأمن في الأوطان. فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1 بمعرفة الله، ومحبته وطاعته وتعظيمه، وتعليم أصول الدين، وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي والتزامه، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب الآثام والشرور. ويجمع ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بسلوك سبيله، وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.   1 سورة التحريم آية: 6. 2 سورة النحل آية: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 [كتاب منه إلى سهل بن عبد الله] يرشده فيه إلى تدبر كتاب الله بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم سهل بن عبد الله، سلمه الله تعالى وسهل أمره، وشرح لدينه صدره. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على جزيل نعمه ووافر عطائه، والخطوط وصلت وسرت وقرت، حيث أشعرت وأخبرت بسلامة المحب وطيبه، وعمارة الأوقات بالقراءة في كتب الأصول والصحاح والتفاسير، وأن الإخوان في ازدياد، وأن الأشرار والأضداد في انقماع وانقباض. فالحمد لله وحده، والشكر له على نصر دينه، وإظهار حجته. الله المسؤول أن يمن علينا وعليكم باليسر في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن يوزعنا شكر نعمه، وحسن عبادته، وتطلب الفائدة. وأرشدك إلى التأمل في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 1 الآية. فاحذروا معاشرة الغر، وأخلصوا العمل لوجهه الكريم الأعلى. وقد حدثني بعض الثقات أنه اجتمع ببعض الأفاضل من أولاد الشيخ محمد بمكة سنة 1221، قال: فشيعته لما أراد الذهاب إلى وطنه، وسألته الوصية، فقال لي- وقد ثنى رجله على رحله-: تأمل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} 2 إلى قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، ثم ودعني وانفتلت به راحلته. ونخبرك أن الشيخ والأولاد والإمام وأولاده وكافة الإخوان يهدوك السلام، وبلغ سلامنا الإخوان محمد ومحمد وسائر القراء والطلبة، وأنت في أمان الله وحفظه. والسلام.   1 سورة البقرة آية: 266. 2 سورة يونس آية: 61. 3 سورة يونس آية: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 [ التحذير عن البطالة ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب المكرم محمد بن عمر سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه نعمه ووالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله على سوابغ نعمه، وخفي لطفه وكرمه، المحب في أنس بالاشتغال بالعلوم الشرعية، جعلها الله وصلة إلى الدرجات العلية في دار السعادة الأبدية، إلا أن بعد مثلك يشوش بعض الأحيان، ونشكو إلى الله فساد أهل الزمان، ونسأله أن يصلح الحال والشأن. والخطوط وصلت وسرت بما أبدته من أخبار سلامتك، وما يتيسر لك من الكتب المفيدة الشرعية، جعلك الله تعالى من وعاة العلم ورواته الفائزين بحسن ثواب الله ومرضاته. فإياك إياك والبطالة والإهمال، والاشتغال بتحصيل عرض ومال. وقد قيل في المثل:"ومن خطب الحسناء لم يغله المهر"، وبلغ سلامي الوالد والأولاد، والأخ محمد وسهل ومن لديك من الإخوان. والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 [ الوصية الجامعة لزوم التقوى في كل حال ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المحب المكرم محمد بن عمر الرسلي -سلمه الله تعالى وسلك به الطريق المستقيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 على نعمه، ومزيد إحسانه وكرمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين، وأحبابه التائبين، وسبق إليك مع أخويا 1 مهنا خطوط ولا جانا 2 لك جواب، فلعلها وصلت وأنت بخير وعافية. وحرر هذا لإبلاغ السلام والتحية، وتذكر تلك العهود السالفة المرضية، وتعاهد الأخوة الدينية الشرعية، جعلنا الله وإياكم ممن رعاها حق رعايتها، وحفظها في ذات الله وما ضيعها. والوصية الجامعة لزوم التقوى من حيث كنت، مع النظر في حقيقتها، وما اشتملت عليه من أعمال القلوب والجوارح، وتوقفها على العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من باب توقف اللازم على الملزوم، والمسبب على سببه. والجملة شرحها يطول، ولكن الإشارة كافية، وهي عند اللبيب تقوم مقام العبارة الوافية. هذا ومن حق الأخوة ملازمة الدعاء بظهر الغيب، والظن بك عدم الإهمال، وبلغ سلامي الإخوان: محمد وسهل ومطلق وابن جاسر، ومن عز عليك، ومن لدينا الوالد والأولاد وجملة الإخوان بخير، ويهدوك 3 السلام. والسلام.   1 أي إخوان. 2 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. 3 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 [ كتابه إلى محمد آل عمر وفيه ذكر شرحه كتاب الكبائر ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم محمد آل عمر بن سليم، سلمه الله تعالى وتولاه، وأسعده بالإيمان به وتقواه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخطوط وصلت، وصلك الله بما يرضيه، وجعلك ممن يخافه ويتقيه، وقد سرتني سلامتك وعافيتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة-. والمحب لم ينس عهدكم، ولم يؤخر جواب خطكم عن ريبة جفا، أو تغير مودة وصفا، كيف ولكم من المنْزلة والتكريم ما يشهد به كل مصاحب وحميم؟ لكن الأمور بأوقاتها منوطة، وبآجالها مربوطة، والمرء غالبا يؤتى من قبل التسويف، والسماحة خلق جليل شريف، وما أحسن ما قيل: وما الود إدمان الزيارة من فتى ... ولكن على ما في القلوب المعول والمحب والشيخ الوالد على ما تظنون من القيام بحقكم، ومراعاة غيبتكم عند الإمام وابنه، ولا ندخر الذب والحماية ما استطعنا. وما أشرت إليه من جهد شرح كتاب الكبائر، فقد هممت به، وسودت منه ما تيسر. ونسأل الله أن يمن بالإتمام، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك، وهو على كل شيء قدير. فإن حصل المقصود نسخنا لكم نسخة -إن شاء الله-. وبلغ سلامي محمد آل عبد الله وسهل وإبراهيم القصير وابن جاسر ومطلق ومحمد آل عثمان وعلي بن صنيع. ومن لدينا الوالد والعيال والطلبة بخير، ويهدون إليكم السلام. انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 [ كتاب منه إلى صالح آل عثمان ] بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ صالح آل عثمان، سلمه الله تعالى وحفظه من طائف الشيطان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من الإنعام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 جعلنا الله وإياك من أوليائه الذاكرين الشاكرين. والخط وصل، أوصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا ما أخبرت به عن نفسك من المجاهدة والعبادة، نسأل الله لنا ولك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد. وأما المسألة التي سألت عنها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 1. فمن أحسن ما قيل في معناه: قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى- في باب المعاينة من شرح المنازل- لما تكلم على ما يزعمه القوم من إدراك نفس الحقيقة والأنوار التي يجدونها، وأنها أمثلة وشواهد، قال: وحقيقتها هي وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق للخارجي، فيكون إدراكه له بمنْزلة إدراك العبد للصورة الخارجية، وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة لمدركها بحيث يستغرق فيه، ويغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة، ويستولي على السمع والبصر بحيث يراه ويسمع خطابه في الخارج، أو في النفس والذهن. لكن لغلبة الشهود، وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب واستيلائه على القوى صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في ذلك ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عذلا. وحقيقة الأمر أن ذلك كله شواهد وأمثلة علمية تابعة للمعتقد ... إلى أن قال: وليس مع القوم إلا الشواهد والأمثلة العلمية والرقائق، التي هي ثمرة قرب القلب من الرب وأنسه، واستغراقه في محبته وذكره، واستيلاء سلطان معرفته عليه، والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله، منَزه مقدس عن اطلاع البشر على ذاته، وأنوار ذاته أو صفاته، وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد الآخرة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما. وهذا هو الذي وجده عبد الله بن حرام يوم أحد لما قال:"واها لريح الجنة، إني لأجد ريحها دون أحد". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مررتم برياض الجنة   1 البخاري: الجمعة 1195 , ومسلم: الحج 1390 , والنسائي: المساجد 695 , وأحمد 4/39 ,4/40 ,4/41 , ومالك: النداء للصلاة 463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فارتعوا" 1. وقوله:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 2 فهي روضة لأهل العلم والإيمان؛ لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة حتى كأنها لهم رأي العين. وإذا قعد المنافق هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة، فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله. انتهى ملخصا. وبه يظهر معنى الحديث، وأن اختصاص هذا المكا بكونه روضة من رياض الجنة لما يقوم بقلب العبد من المثال والشاهد الذي يقوي سلطانه هناك وتظهر ثمرته، ويجد المؤمن من لذته وروحه حتى كأنه رأي عين. وفي هذا القدر كفاية. والله الموفق. ولا تدخر عمارة مجلسك بذكر الله، والدعوة إليه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة.   1 الترمذي: الدعوات 3509. 2 البخاري: الجمعة 1195 , ومسلم: الحج 1390 , والنسائي: المساجد 695 , وأحمد 4/39 ,4/40 ,4/41 , ومالك: النداء للصلاة 463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 [ حسن الالتجاء إلى الله والثقة به ] بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله وحده. أنشدنا شيخنا الشيخ عبد اللطيف -دامت إفادته- هذه الأبيات: يا من له الفضل محضا في بريته ... وهو المؤمل في الضراء والباس عودتني عادة أنت الكفيل بها ... فلا تكلني إلى خلق من الناس ولا تذل لهم من بعد عزته ... جهي المصون ولا تخفض لهم رأسي وابعث على يد من ترضاه من بشر ... رزقي وصنه عمن قلبه قاسي فإن حبل رجائي فيك متصل ... بحسن صنعك مقطوعا عن الناس أنشدنا هذه الأبيات شيخنا شرف الدين الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن -أدام الله إفادتهما-، وذكر شيخنا عبد اللطيف أن الله بعث لمنشئها رزقا بسبب فأرة خرجت من جحر وبفيها دينار، فحفره فوجد دنانير كثيرة. نقل من خط الشيخ محمد آل عمر آل سليم. قال الشيخ محمد بن عمر آل سليم -رحمه الله-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أملى على شيخنا الشيخ عبد اللطيف -دامت إفادته- هذه النصيحة، وهي: من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب الإمام المكرم فيصل بن زكي، وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح. آمين سلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلا يخفى عليك ما من الله به تعالى. [في تعظيم أوامر الله ومجاهدة أعدائه] في تعظيم أوامر الله ومجاهدة أعدائه، والولي في النكاح، وسؤال الله بحق نبيه بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز العريني -سلمه الله تعالى-. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل. وما ذكرت من غربة الدين فالأمر أجلّ وأكبر من الغربة، أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص. فكيف بالسوقة، ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين، وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان، وموالاتهم ونصرهم، ولزوم جماعة المسلمين، وغير ذلك من حقائق الدين، وشعب الإيمان، وهذه معدومة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والتمسك به عند فساد الزمان. [الولي في النكاح] وما ذكرت من مسألة الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر تقديم المكلف الرشيد في تزويج مولاته على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح. [سؤال الله بحق نبيه أو وليه] وأما سؤال الله بحق نبيه أو وليه، فلا تصدر إلا من جاهل بأحكام الشريعة، وما يستحب وما يكره. والأولى تنبيه هذا الخطيب على أن هذا قد منعه أئمة الإسلام، وأهل الحل والعقد في الأحكام. تمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 [ رسالة في القول فيما يذهب إليه الناس اليوم من العقيدة الأشعرية وإمامة من يعتقدها وتوليه القضاء . [صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين] بسم الله الرحمن الر حيم ومن رسائل الشيخ رسالة أرسلها إلى محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، وسببها أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحساء من يتهم بمذهب الأشاعرة من غيرإذن الإمام فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله- قال فيها: من عبد الله بن حسن إلى الأخوين المكرمين محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل الكتاب، وفهمت ما تضمنه من الخطاب، وما ذكرتما من نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الأولاد الثلاثة، فالعادة أن مثل هذا يراجع فيه الإمام؛ لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيمن يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى؛ لأن كثيرا من الناس ما تخفانا حالهم وعقائدهم، ونصب الإمام لقضاة نجد كذلك. والشيخ أحمد بن مشرف يسامي الأكابر ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم منه صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين الذي جهله أكثر الطوائف، كذلك هو رجل سلفي، يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم فهم أشاعرة، والأشاعرة أخطؤوا في ثلاث مسائل من أصول الدين، منها: تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها التي تليق بالله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وحاصل تأويلهم سلب صفات الكمال عن ذي الجلال. أيضا أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب في كلام الرب -تعالى وتقدس-، ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل الإمام أحمد والشافعي ... 1 وأصحابه، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من أتباع السلف كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري. [تقليد المتأخرين لأناس لا اطلاع لهم على التوحيد الصحيح] وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين كالشهرستاني شيخ أبي المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري -قبلهم- في كتابي الإبانة والمقالات. ومع هذا وغيره فبقي هذا في المتأخرين المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وكانوا يعدون من العلماء. وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير"لا إله إلا الله"إلا أن معناها: القادر على الاختراع. ودلالة"لا إله إلا الله"مع هذا دلالة التزام؛ لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقرت به الأمم ومشركو العرب كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2 الآيات. وهي كثيرة في القرآن. يحتج تعالى عليهم بذلك على ما أنكروه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى"لا إله إلا الله"مطابقة وتضمنا، وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران والنساء وغيرها، ودعت إليه الرسل {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 3. وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول:"اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" 4 وكل السور المكية في تقرير معنى"لا إله إلا الله"وبيانه. فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار ما يعرفون من"لا إله إلا الله"إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن   1 بياض في الأصل. 2 سورة المؤمنون آية:84، 85. 3 سورة هود آية: 2. 4 أحمد 3/493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 معنى"لا إله إلا الله": القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها: الغني عما سواه، الفقير إليه ما عداه. [سبب عداوة أهل الأحساء للشيخ ابن عبد الوهاب] وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا -رحمه الله- في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهم لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص، والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن. قال تعالى عن خليله -عليه السلام-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 1، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} 2. فإذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله ومحبته والدعوة إليه، وتطلب أدلته واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة. فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين وقلة المعرفة فيه، فينبغي أن تشاع وتذاع في محاضر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله تعالى للخير، فإنها خير مما كتبت فيه بأضعاف أضعاف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.   1 سورة الزخرف آية: 26: 28. 2 سورة الكهف آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 [فتاوى في مسائل مختلفة في الديات والجروح ودم الذمي والمعاهد والحربي اليد إذا قطعت من المرفق] بسم الله الرحمن الر حيم ولا حول ولا قوة إلا بالله من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ سعيد بن أحمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل خطك، تسأل عن اليد إذا قطعت من المرفق، ولم يبق فيها إلا جلدة يسيرة. الجواب: أن في اليد نصف الدية ولا عبرة في الجلدة. [تقدير الجروح في الرجل والفخذ] المسألة الثانية: عن رجل ضرب في فخذه بسهم، فخرجت منه وأصابت الفخذ الآخر، فأبانت اللحم والجلد. والجواب: أن الجروح في الرجل والفخذ لا تقدير فيها إذا سلم العظم، ولم تتعطل منفعة العضو، ولكن فيها حكومة وهي: أن يقوَّم المجني عليه قيمة عبد، ثم ينظر ما نقصته الجروح، فإن نقصت عشر القيمة أو ثمنها مثلا فيعطى من دية الحر الخمس أو العشر. [رجل ضرب في كفه الأيمن وحصل به عيب] المسألة الثالثة: رجل ضرب في كفه الأيمن وحصل بالكف عيب، فإن تعطل بالكلية ففيه الدية، وإن تعطل بعض الأصابع ففي كل أصبع إذا تعطلت عشر الدية. [قتل المسلم للمشرك الحربي] المسألة الرابعة: لا يمنع المسلم عن قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق إلا إذا أعطاه ذمة أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث:"ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" 1. [دية المشرك إذا ضرب وجرح] المسألة الخامسة: إذا ضرب المشرك وجرح فدمه هدر، إلا الذمي والمعاهد والمستأمن؛ فديتهم إذا أصيبت نفس أحدهم ثمانمائة درهم، والجروح ينظر فيها على قدر دياتهم.   1 البخاري: الحج 1870 والجزية 3172 ,3180 والفرائض 6755 والاعتصام بالكتاب والسنة 7300 , ومسلم: العتق 1370 , والترمذي: الولاء والهبة 2127 , والنسائي: القسامة 4734 ,4735 ,4745 ,4746 , وأبو داود: المناسك 2034 والديات 4530 , وأحمد 1/79 ,1/81 ,1/118 ,1/119 ,1/122 ,1/126 ,1/151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المسألة السادسة: المساقاة، هل يصح من كل نخلة عذقا؟ الجواب: لا تصح المساقاة بعذق معين، أو ثمرة نخلة معينة، وأما بالسدس أو السبع أو أقل أو أكثر من غير تعيين الشجر فيصح. [أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت] المسألة السابعة: هل يصح أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت؟ الجواب: أكثر العلماء لا يجيزون هذا، وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إمام جليل –رحمه الله-. [نفقة الحامل والمرضع] المسألة الثامنة: نفقة الحامل والمرضع الجواب: الحامل ينفق عليها بحسب يسار الزوج وعسره، وبحسب حالها، فلا تجعل بنت الأغنياء المتنعمين مثل الفقيرة، وأما المرضع إذا لم تكن في عدة فتعطى أجرة المثل. [ما تفعله المعتدة من الوفاة] المسألة التاسعة: المعتدة من الوفاة ما تفعل؟ والجواب: تعتد أربعة أشهر وعشرا، تلزم فيها البيت الذي توفي زوجها عنها فيه، ولا تخرج إلا لحاجة لا بد منها، وتجتنب الزينة من الثياب والكحل والحنا والحلي والأدهان. [حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق ثم تزوجت] المسألة العاشرة: إذا حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق، وتزوجت قبل الثالثة فالنكاح باطل، وتعتد من الأول والثاني. [ولاية المشرك على المسلمة] المسألة الحادية عشرة: هل للمشرك ولاية على المسلمة؟ الجواب: ليس للمشرك على المسلمة ولاية، فإن لم يكن لها ولي مسلم، فأمرها إلى الأمير. [امتناع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي] المسألة الثانية عشرة: إذا امتنع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي فهو عاضل، تنتقل الولاية إلى أقرب عصبتها بعده، ويزوجها إذا عضل من هو أقرب منه. [الصغير وولاية العقد] المسألة الثالثة عشرة: الصغير قبل البلوغ لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج يعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد. [صوم الصبي] المسألة الرابعة عشرة: متى يجب على الصبي الصوم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الجواب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها؛ ليعتادها ويألف الخير. [وقت دفع مال اليتيم إليه] المسألة الخامسة عشرة: متى يدفع إلى اليتيم ماله؟ الجواب: إذا بلغ خمس عشرة سنة، أو نبتت العانة، أو احتلم مع رشده، فإذا ظهر رشده في المال دفع إليه. [زوج ولي الأمر والأولياء حاضرون بغير إذنهم] المسألة السادسة عشرة: إذا زوج ولي الأمر والأولياء حاضرون بغير إذنهم لم يصح العقد لحديث:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" 1 وأما إذا امتنع الولي، ولم يكن سواه من الأولياء إلا ولي الأمر، فيزوج إذا كان القريب عاضلا يمنع الكفء، أو يطلب دراهم لنفسه. [ضمان ما أكلت الدواب] المسألة السابعة عشرة: الخضرة أو ثمرة القطن أو غيره إذا أكلته الدواب. ما حكمه؟ الجواب: على أهل الدواب أن يحفظوها ليلا، وما أكلته بالليل فهو مضمون لصاحبه بقيمته، وما أكلته نهارا فلا ضمان فيه؛ لأن الحفظ والحراسة في النهار على أهل المزارع والخضرة، إلا إن فتح صاحب الدابة لها بابا مغلقا، أو هدم جدارا وأدخلها، فيضمن حينئذ. [قطع الشجرة المثمرة بغير إذن مالكها] المسألة الثامنة عشرة: الشجرة المثمرة يحرم قطعها بغير إذن المالك، وعلى من قطع الضمان بالقيمة، وكذلك إذا قطع السعف من النخل ففيه القيمة بحسب حال البلد. [المشرك إذا أودع المسلم أو أودعه المسلم] المسألة التاسعة عشرة: المشرك إذا أودع المسلم، أو أودعه المسلم؟ الجواب: يصح الإيداع والتوديع والرهن وشبهه، وعليه الحذر من المداهنة، والمجالسة التي يرى أو يسمع فيها المنكر. [طلب من الثمرة عند الجذاذ] المسألة العشرون: من طلب من الثمرة عند الجذاذ يعطى إذا كان فقيرا أو مسكينا ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة فيعطى بحسب الزكاة، وقدرها، وكثرة المساكين.   1 الترمذي: النكاح 1101 , وأبو داود: النكاح 2085 , وابن ماجه: النكاح 1881 , وأحمد 4/394 ,4/418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وأما الحادية والعشرون: إذا طلق على عوض هل رجعتها بيده أم لا؟ الطلاق بائن إذا كان على عوض لا رجعة له، بل لا بد من عقد جديد إن استكمل ثلاث طلقات للحر واثنتين للعبد. الأولى بحضانة الأولاد الثانية والعشرون: الأم أولى بحضانة أولادها إلا إذا تزوجت، فتنتقل الحضانة إلى غيرها كالجدة والأخت والخالة. واليتيم إذا كان له مال فيتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي فيجب على الحاكم الشرعي -وهو قاضي البلد أو الأمير- أن يولي على مالهم من يحفظه من أهل الأمانة والديانة. [الوصي على صدقة الميت] الثالثة والعشرون: الوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها أحق بالولاية من الورثة والعصبة؛ لأن الميت اختاره ورضيه. والله أعلم. [زوج غير الولي] الرابعة والعشرون: إذا زوج غير الولي فالنكاح فاسد، ولا ترث بالنكاح الفاسد. والله أعلم. [حكم وطء الرجل مملوكة ولده] بسم الله الرحمن الر حيم مسألة: ما قولكم في رجل وطئ جارية ابنته ولم يتملكها قبل ذلك، وبنته محتاجة إليها، وهي قد ملكتها بالميراث من زوجها. فأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بقوله: لا يجوز له أن يطأ مملوكة ولده ما دامت في ملك الولد، وأما إذا تملكها تملكا شرعيا، بشرط أن لا يضر بولده، ولا تتعلق بها حاجة الولد، ولا يقصد إعطاءها لولد آخر، فإذا تمت هذه الشروط وقبضها جاز له بعد الاستبراء أن يطأها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 [ رسالة في الاعتصام والاتباع والنهي عن التفرق والابتداع الاعتصام والاتباع والنهي عن التفرق والابتداع] بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4. فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف، فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6. والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله،   1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة آل عمران آية: 31. 3 سورة الحشر آية: 7. 4 سورة المائدة آية: 3. 5 سورة الأعراف آية: 3. 6 سورة الأنعام آية: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1. وأخبر في الحديث الآخر أن أمته "ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 2. إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا الله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، وإنه سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3. [من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فقد عبدهم] فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجه الله، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار، فكذبهم في هذه الدعوى وكفَّرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 6، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 7.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84. 2 الترمذي: الإيمان 2641. 3 سورة الزمر آية: 2، 3. 4 سورة الزمر آية: 3. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الزمر آية: 44. 7 سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 1. وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3، فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 5. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل يأتي فيخر ساجدا، فيحمد الله بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهجهم. وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها، وإسراج السرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان". وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر. [دعوة أهل نجد الناس إلى ترك البدع] وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب وأمره"أن لا يدع قبرا مشرفا إلا   1 سورة طه آية: 109. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 سورة سبأ آية: 22، 23. 4 سورة الجن آية: 18. 5 سورة يونس آية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 سواه، ولا تمثالا إلا طمسه" 1. ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القباب المبنية على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وأظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، مع ما نقيم عليهم من الحجة من كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2. فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3. وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعة على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 4. فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا. ونعتقد أيضا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.   1 مسلم: الجنائز 969 , والترمذي: الجنائز 1049 , والنسائي: الجنائز 2031 , وأبو داود: الجنائز 3218. 2 سورة الأنفال آية: 39. 3 سورة الحديد آية: 25. 4 سورة الحج آية: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463