الكتاب: اللغة المؤلف: جوزيف فندريس Joseph Vendryes ( المتوفى: 1380هـ) تعريب: عبد الحميد الدواخلى، محمد القصاص الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية، 1950 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- اللغة جوزيف فندريس الكتاب: اللغة المؤلف: جوزيف فندريس Joseph Vendryes ( المتوفى: 1380هـ) تعريب: عبد الحميد الدواخلى، محمد القصاص الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية، 1950 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... النحو العربي من بصرية وكوفية وبغدادية ومصرية أن تمنع انتشار اللحن لا في البلاد العربية المفتوحة ولا في جزيرة العرب نفسها. لسنا بذلك ننكر فضل القدامي على اللغة العربية وإنما ندعو إلى مسايرة الطرق العلمية الحديثة في البحوث اللغوية وأن ننظر إلى اللغة على أنها نظام اجتماعي "تتأثر بالمجتمع وتؤثر فيه". ثم علينا أن ندرس العلاقات التي توجد بين اللغة وبين العقل البشري على أسس علمية صحيحة، لنطمئن إلى أن العربية ستظل بقواعدها ومفرداتها وأدبها لغة حديثة تساير كل نهضة علمية أو أدبية أو فنية. يبذل مجمع فؤاد الأول للغة العربية جهدا مشكورا في تعريب المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة الحديثة والحياة العامة، وهو حين ينتهي من هذه المهمة الشاقة ويذيع مصطلحاته على الناس، يكون قد أدى للغة العربية أجل الخدمات لأنه سينتقل بها من العصور الوسطى حيث وقف بها أبناؤها إلى عصرنا الحديث الذي تخلفت فيه عن اللغات الحية، وأصبحت تنافسهما في معاهدنا العلمية الشرقية والمصرية اللغتان الفرنسية والإنجليزية منافسة قوية، إن أبناء العربية جميعا يتطلعون إلى اليوم الذي تصبح فيه لغتهم لغة علمية، ولن يكون هذا اليوم قريبا إلا إذا اقتنع أبناؤها تماما بضرورة الأخذ بالطرق الحديثة في الدراسات اللغوية. أما إذا ظلوا يدرسونها معتمدين على الكتب القديمة وحدها فلن تكون دراستهم مجدية، لأن هذه المصادر، مهما كانت مفيدة نافعة ومهما احتفظت بقيمتها التاريخية، فستظل ناقصة إذا طبقت عليها مقاييس العلم الحديث. نريد أن تصبح العربية لغة من يعيشون في الشرق من الشرقيين والأجانب على السواء، لأننا نكره كراهية شديدة أن تحرج اللغات الأجنبية آذاننا في معاهدنا ومنازلنا وطرقنا. إنه لمظهر يسيء حقا إلى قوميتنا وكرامتنا ويدعونا إلى التفكير الدائم والعمل المتواصل حتي يوجد "وعي لغوي" في البلاد العربية كلها. على أن الوصول إلى ذلك ليس أمرا يسيرا، فاللغوي يحب أن يكون على معرفة بالعلوم التي تتصل باللغة اتصالا وثيقا، لأن اللغة كما تقول الأستاذ فندريس "مركب معقد تمس فروعا من المعرفة مختلفة وتعي بها طوائف متفرقة من العلماء فهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فعل فسيولوجي من حيث أنها تدفع عددا من أعضاء الجسم الإنساني إلى العمل، وهي فعل نفساني من حيث أنها تستلزم نشاطا إراديا للعقل، وهي فعل اجتماعي من حيث أنها استجابة لحاجة الاتصال بين بني الإنسان. ثم هي في النهاية حقيقة تاريخية لا مراء فيها نعثر عليها في صور متباينة وفي عصور بعيدة الاختلاف على سطح المعمورة أجمع". هذا هو الاتجاه الحديث الذي نرجو مخلصين أن يطبق على اللغة العربية تطبيقا صحيحا، وأن يأخذ به اللغويون العرب أنفسهم لترقى لغتنا إلى المستوى الذي نرجوه لها. وأما الجزاء الذي نود أن نناله لما صادفنا من عنت شديد في تعريب هذا الكتاب لكثرة ما فيه من مصطلحات لغوية لا عهد للعربية بها، هذا الجزاء يتمثل في أمنيتين: الأولى: أن تتضام الأفكار على اختلاف المعاهد والثقافات وتتعاون في هذه السبيل ليكون للدراسات اللغوية طابع قومي يخلق "الوعي اللغوي" في الشرق. الثانية: أن تنشأ جميعات لغوية من المتخصصين تعاون في الدراسات اللغوية، وألا نعتمد على الهيئات الرسمية وحدها في مثل هذه الدراسات العلمية. ثم نرجو أن تنشأ مجلة لغوية تكون مجالا لإثارة المشكلات المختلفة وعرض الآراء والنظريات الجديدة على نهج المجلات اللغوية في أوروبا وأمريكا. ديسمبر سنة 1950 عبد الحميد الدواخلي محمد القصاص عضوا الجمعية اللغوية بباريس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 المقدمات : تصدير: اللغة وأداة التفكير قلنا في التصدير الذي قدمنا به لكتاب البشرية قبل التاريخ L' Humanite" Prehistorique": "اليد واللغة: فيهما تنحصر البشرية. نعتقد أن أول ما ينبغي أن يزاح عنه الستار في هذا المؤلف شيئان، وهما اللذان يفصلان بين نهاية التاريخ الحيواني وبداية التاريخ البشري. ونعني بهما اختراع اليد -إذا جاز لنا هذا التعبير- واختراع اللغة، وهذا هو التقدم الحاسم للمنطق العملي والمنطق العقلي"1. وهنا يجب أن نذكر القارئ بأن الدعوى الأساسية التي نذهب إليها، هي أن التاريخ منطقي في جوهره، وأن تفسيره العميق ينحصر في ميل الكائن الحي إلى التشبث بكيانه والمضي في ترقيته، ولكنا لا نقدم دعوانا في هذا المؤلف إلا على أنها فرض يحتاج إلى التحقيق، ولا يتم إلا بالاعتراف بالعوامل الأخرى ودراستها، تلك العوامل التي تلعب دورها في التاريخ، والتي تجعل التاريخ على ما هو عليه: أعني شبكة معقدة غير متجانسة قد لا يرى فيها الناظر السطحي أو العالم الغارق في التفاصيل إلا مجموعة من الأحداث العارضة. أبان المجلد السابق أهمية المنطق العملي: اليد، تلك الأداة التي لا تباري والتي مكنت للإنسان من استعمال العدة المادية التي تترجم عن التقدم النفسي وتسرع به على السواء، والفرد هو الباعث الحقيقي لهذا التقدم لا تستطيع البيئة إلا أن تدعو إليه وتثبته. واللغة من ناحية أخرى تعد واحدة من أعجب المبتكرات التي أظهرها التطور الإنساني، فيجب الوقوف عندها، وإطالة الوقوف: ما هو الدور الذي   1 البشرية قبل التاريخ ص6 من التصدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 تلعبه على وجه الدقة؟ ما هو النصيب الذي تقوم به في التطور العقلي؟ ما هي صلات الفرد بالجماعة فيما يختص بإنتاج هذه الأداة القيمة وإكمالها؟ هذه هي الأسئلة التي يجيب عنها المجلد الذي بين أيدينا. الغرض الذي قصدنا إليه كان ممكن التحقيق بصور شتى. فلو أن هذا الكتاب كان من وضع عالم سيكولوجي أو مؤرخ يهوى المباحث اللغوية، لكان من الممكن إلحاقه بالدعاوي التي قدمها مشروع "L' Evolution de l' Humanite" "تطور البشرية" في صورة أحكم وأظهر مما هو عليها. ولكنه عمل عالم لغوي، وهذا العالم اللغوي يتعلق بالوقائع ويتحرز من النظريات؛ لقد أتيحت له الفرصة من قبل1 ليعلن عن ذلك، وها هو ذا يقول هنا أيضا نفس القول. إنه إنما يقدم لنا، ولا يريد أن يقدم لنا إلا دراسة فنية لتلك الآلة المعقدة المرنة، ألا وهي اللغة في تنوع أشكالها وتطوراتها التاريخية. وتتصل بالضرورة بهذه الدراسة للمسائل التي تثيرها اللغة وتعنى التاريخ التأليفي، ولو أنها لا تبحث فيها عمدا لذاتها لأن الأستاذ فندريس Vendryes لا يريد أن يكون إلا عالما لغويا فحسب. ونعتقد ان في معاونة هذا الأخصائي لنا -وهو مع ذلك أخصائي واسع الأفق- خير ضمان لعلم التاريخ كما نفهمه. فتجربتنا في الأجزاء السابقة من سلسلة "تطور البشرية" قد برهنت على ضمان النجاح في مثل هذه الظروف بأكثر مما لو كنا قد اخترنا مفكرا آخر معتنقا نفس الدعاوي التي نقدمها. ومع ذلك ينبغي لنا أن نناقش قليلا الأفكار العامة التي يقدمها لنا كتاب الأستاذ فندريس القيم، وذلك من وجهة النظر التأليفية.   1 مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية عدد فبراير عام 1912 ص69-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الأمر الذي اضطلع الأستاذ فندريس ببيانه، والذي أبانه في قوة وبراهين بينة تدعو إلى الإعجاب، هو كيف أن اللغة نشأت من الحياة، وكيف أن الحياة راحت "تغذيها" بعد أن خلقتها. إن الإدراك القديم، الذي يقول بأن اللغة قد أنزلت على الناس عن طريق معجزة أو أنها شيء خلقه الإنسان خلقا صناعيا، قد ترك آثارا في ذلك النوع من علم اللغة الذي يعدها شيئا ساميا مستقلا، ويضفي على قوانينها نوعا من الحتمية الكامنة، لا على القوانين الصوتية أو قوانين النطق التي ترتبط بالأعضاء فحسب، بل على القوانين الصرفية أيضا، أي قوانين النحو، وعلى القوانين المعنوية، أي قوانين المفردات. ولكن "من الباطل أن تعتبر اللغة كائنا مثاليا يسير في تطوره مستقلا عن بني الإنسان متجها نحو غاياته الخاصة"1. فالحقيقة أن اللغة على صلة وثيقة بالحياة النفسية، وأنها منذ نشأتها سيكولوجية فعالة. يعلن الأستاذ فندريس أن مشكلة أصل اللغة لا تدخل في اختصاص العالم اللغوي، ولا يدلي في هذا الموضوع إلا بإشارات يحوطها الحذر الشديد. والواقع أنها مسألة سيكولوجية، وأن أصل اللغة كأصل اليد تعوزه تماما الأدلة التاريخية. هذا فضلا على أنه لم يكن هناك أصل بمعنى الكلمة لأنه لم يوجد هناك خلق من العدم، بل تحور-في اتجاه إنساني- لظاهرة وجدت عند الحيوان. فاللغة بمعنى الكلمة الضيق، اللغة السمعية -التي ليست إلا حالة من موهبة إنتاج العلامات- موجودة عنده2. فالحيوان يعبر عن حالاته الانفعالية بأصوات، وأغلب الظن أن اللغة خرجت من الصيحة التي تترجم عن الانفعالات بطريقة فجائية. ولعل الانطباعات الهادئة والعواطف المعتدلة هي   1 فندريس: الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب. وكوتيرا "Couturat": مجلة الجميعة الفلسفية الفرنسية عدد فبراير 1912، ص54، وعدد مايو 1913، ص140. 2 ريبو "Ribot": تطور الآراء العامة، ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 التي -كما أشار البعض1- تنتج الأصوات الملفوظة، أما الصياح فيقابل الانفعالات العنيفة. ولكن لا بد أن اللغة كانت انفعالية في مبدأ الأمر، وقد بقيت إلى حد كبير انفعالية مرتبطة بالفرد وبما هو من نصيب الفرد: وهذا كله يبينه الأستاذ فندريس بحجج لا تنازع في صفحات بارعة نفاذة، فهو يشير إلى اللغة الانفعالية عند الطفل ويبين أنها نقطة البدء، ويشير في لغة الكلام إلى الفجائية التي تكسو التعبير عن الفكر "وتلونه" وتجعل النحو غير مستقر2. ولا بد أن اللغة الفاعلية أخذت تختلط منذ زمن مبكر باللغة الانفعالية، وذلك عند ما كفت الصيحة عن أن تكون ترجمة لحالة شعورية لتصبح وسيلة للعمل أو النداء أو الرجاء أو الأمر3. وهذه مرحلة هامة في تطور اللغة وقد لعبت الحاجة إلى الاحتفاظ بالوجود أو إلى توسيع نطاق هذا الوجود بالتعاون مع الآخرين أو باستخدام الآخرين دورا جوهريا في هذا السبيل "الكائن الحي معني دائما بالاحتفاظ بحياته وبوقاية نفسه من التأثيرات الضارة وبمد سلطانه على ما يحيط من كائنات" وبيير جانيه "Pierre janet" الذي أوضح هذه الصفة من صفات الحدث، التي يصح أن نسميها "العلية الفاعلة" "L' Efficience" يعد اللغة صورة من صور النشاط مسببة فاعلة، ويعتبر أن "سلوك الشخص الذي يتكلم وسلوك الشخص الذي يخاطب مستمدان من حدثي الأمر والطاعة الموجودين من قبل عند   1 كرينجو "Cornejo": علم الاجتماع العام، ج1 ص24-25. 2 انظر الفصل الرابع من الجزء الثاني من هذا الكتاب، وقد سجل أوجست كونت Auguste conte" ملاحظات قيمة عن تكون اللغة ودور العواطف قبل أن تصير اللغة عقلية. أنظر أوجست جورج: "بحث في النظام السيكلوجي عند أوجست كونت": Auguste Georges: "Essai sur le systeme psychologique d' Auguste Comte"؛ 52. 3 انظر كرينجو المرجع السابق، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الحيوان"1 فالكلام والإشارة مرتبطان ارتباطا وثيقا في بادئ الأمر ولكن اللغة السمعية تنمو وتتطور بفضل تفوقها من الناحية العملية2، وإذا كان الكلام الخارجي ينتج الحدث الخارجي فإن الكلام الداخلي يتحقق في الإدارة ويكشف عن نفسه في الاعتقاد والرغبة. فهو لا يزداد إلا لصوقا بجميع النشاط الإنساني. وقد تمت آخر خطوة من خطوات التقدم الذي حقق اللغة الإنسانية في الواقع عندما اعترف للصوت بصفة العلامة، وذلك حينما أتيح للفجائية التي خلقت العلامة المفيدة أن تستكمل بانضمام الإرادة إليها، تلك الإرادة التي تستخدم العلامة. وهذا التقدم، وهو تقدم عملي من حيث أصله ويخدم غايات الحياة بطريق مباشر، قد أفاد ثراء نفسانيا غير محدد3. ولا شك أنه يجب أن تكون الذاكرة قد وصلت إلى درجة من التطور لتتمكن من فصل الصوت عن الخاطر الذي كانت تصحبه مبدئيا، ولا بد من وجود شعور حاد اليقظة لتحقيق رابطة العلامة بالشيء الذي تشير إليه "فالأشياء في ذاتها لا تشير إلى شيء": ولكن الشعور بقوى ويمرن بدرجة عميقة إذا كانت لديه رموز تعمل على تثبيت صور الأشياء. فاستعمال الرمز يعين الإنسان على سهولة التصور لا سيما أن عندما ينقله إلى ذهن آخر فإنما ينقله إليه مستقلا عن الانطباع المباشر. وهذا الذكاء الناشئ يجعل من اللغة شيئا فشيئا آلته الخاصة وأداة التفكير، وبذلك يسمح للتفكير أن يعمل دون صلة مباشرة بوظيفية ما هو   1 انظر: P. Janet: La Tension Psychologique, ses degres et ses oscillations. وهي محاضرات ألقيت في لندن ونشرت في: The British journal of Psychology. أكتوبر 1920 ويناير 1921. 2 انظر ريبو المرجع سالف الذكر، ص63. 3 عن ضيق حدود الإدراكات عند ارتباطها بحركة اليدين، انظر هنري ولون Henri wallon في البحث: "la conscience el la conscience de moi" المنشور في مجلة علم النفس، عدد يناير 1921 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 واقع1. فالكلمة بقيمتها التصويرية وقدرتها على الإفهام، لها نفس المزايا التي للورق النقدي، ولكنها محفوفة مثله بالأخطار بمعنى أنها إن كانت خالية من الحقيقة صارت مجرد "أنفاس صوتية" "Flatus vocis" أي خيالا باطلا2. فاللغة وقد خلقتها الحياة والحاجة والرغبة، تقوم بادئ أمرها على نظام التأليف "Synthese". ويبين لنا الأستاذ فندريس أن التفكير وهو غريب عن التصنيفات النحوية يبدأ وهو في حالة توهجه بالانصباب في قالب اللغة. فالصورة الكلامية أو الكلمة الصوتية لها نفس القيمة التي للجملة، وذلك أن اللغة في أصلها حدث؛ ففيها تنشأ الأسماء التي تمثل الأشياء وصفاتها، والأسماء التي تمثل الأحوال والأدوات النحوية التي تشير إلى الروابط. فالجملة قد سبقت الكلمة النحوية، والكلمة قد سبقت المقطع. واللغة تظل خاضعة للحياة "في تطورها الذي لا ينتهي إلى حد". ولا شيء أكثر إمتاعا من أن نلاحظ مع الأستاذ فندريس تنوع الوسائل، وأحيانا كثيرة خرق تلك الوسائل التي تترجم عن العلاقات التي تلتقط في الحياة الواقعية، وعدم ثبات المفردات الذي يصل إلى حد التطرف، وتلك الخاصة التي تجعل اللغة تتفرق دون توقف وتنمو دون حد عند جميع أولئك الذين يتكلمونها في تعبيرهم عن حياتهم الخاصة بكل ما فيها من شخصي بحت. واللغة المكتوبة -حتى لغات كبار الكتاب الذين يبدون كأنهم يثبتون هذه الأداة بما يخلعون عليها من كمال- لا تستطيع أن تقف الحياة، "فقوة الحياة التي لا تقهر، تتغلب على القواعد وتحطم قيود التقاليد". الكلمات لا تحيا برغم كل ما يقال: بل إن العقل هو الذي يحيا ويغير معناها، كما أن حياة العقل هي التي تغير أسماء الأشياء وتجددها "فليس من الباطل إذن أن يقال بأنه يوجد من اللغات   1 العبارة لجانيه، وانظر ملاحظة ل. ديبوي في مجلة علم النفس، عدد يناير 1921: La memoire des noms propres et la fonction du reel. 2 انظر ريبو، المرجع سالف الذكر، صفحة 125، وانظر ما سيأتي في هذا التصدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قدر ما يوجد من الأفراد". ومن ثم يعني الأستاذ فندريس بلفت النظر إلى ما في اللغة من صفة العرضية. ولكن كمال تمكنه من موضوعه وحسه الحاد بالحقيقة الواقعية يمنعانه من أن يحيد عن وجهة النظر الأخرى التي تلزم الباحث الناظر. "فهناك من اللغات قدر ما هناك من أفراد": ومع ذلك فهناك اللغات، اللغات المشتركة واللغات الخاصة، وهناك اللغة "إذ يقوم اتجاه آخر يعمل على الدوام على مناهضة التفريق، ألا وهو الاتجاه إلى التوحيد الذي يعيد التوازن". فعلم اللغة يمكنه إذن من أن يجد أمامه حالات من الاطراد، من العموم على درجات متفاوتة. هذه الاطرادات يعتبرها الأستاذ فندريس من محض صنع المجتمع، وإذا كان يرتاب في النظريات، وإذا كان نصيب التعميم في كتابه يعمد إليه في حذر، فإننا نحس بعظيم ركونه إلى السيولوجيا، إلى ذلك النوع من السسيولوجيا الذي اعترفنا نحن أيضا بجدواه وكشفنا عن مزاياه1 -وأنه يميل إلى أن يشبع بالعنصر "الاجتماعي" تلك الحاجة إلى التفسير التي تبدو عنده في كثير من المواضع، وإن كان ذلك في صورة مكبوتة نوعا ما. وهو باهتمامه بهذا العنصر يتفق مع بعض علماء اللغة -ومنهم أستاذ كبير- أولئك الذين وإن لم ينضموا إيجابيا إلى مدرسة دركهيم "Durkheim" فإنهم قد تأثروا بجاذبية هذا العقل اللطيف الجبار2. وإذا كان "من القول المعاد أن نؤكد أن الإنسان كائن اجتماعي قبل كل شيء" فإنه يجد بنا تحديد ما يخلع عليه ذاتيا هذا الطابع، ويجب أن يميز فيه ما هو اجتماعي خالص وما هو جماعي وما هو إنساني. والأستاذ   1 انظر La synthese dans l' Histoire ص124-127. 2 ظل الأستاذ مييه يقوم بتحرير الفصل الخاص باللغة في مجلة: "L' annee sociologique" ابتداء من المجلس الخامس "1902". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فندريس لا يعنى بتحرير هذه العناصر1. ولكن يمكننا مع ذلك أن نجد في مؤلفه التصحيحات والتحفظات التي أملاها عليه ميله السيولوجي: ذلك لأن الخبرة والمباشرة للحقائق اللغوية أقوى عنده من كل حماس نظري. وفي رأينا أنه يجب الالتفات إلى التفرقة الآتية أولا وقبل كل شيء. إن المجتمع، من جهة كونه مجتمعا، له حياته الخاصة التي تشمل حياة الأفراد وتتجاوزها وتكسبها ثراء: فحاجاته المعينة تعلن عن نفسها بأوضاع ضرورية يتضامن فيها الأفراد وإن اختلفوا فيما بينهم. فالجماعة والأمة، لها طابعها الخاص الذي يطبع الأفراد بوجوه مقررة من التشابه2. طابع الأمة -ومن باب أولى السمات الخاصة بواحدة من تلك الجماعات الثانوية التي تتمتع بحظ ما من الدوام والتي توجد داخل الأمة- ينعكس على اللغة "سواء أكانت لغات مشتركة أم لهجات أم لغات خاصة"، وذلك بأن تدخل فيها أعراضا من أنواع شتى لا صلة بينها وبين "التكون الاجتماعي" أو "التفتت الاجتماعي". ولقد استطعنا أن نقول بأن اللغة "موطن الفكر" والموطن شيء آخر غير المجتمع. الأستاذ فندريس الذي ينتقد بحق إقحام فكرة الجنس في علم اللغة ينتقد أيضا فكرة العقلية الجنسية. ومع ذلك فإنه يعترف بوجود صلة بين عقلية الشعب ولغته. ويمكننا أن نتصور علما لسيكولوجية الشعوب يقوم على اختبار التغيرات المعنوية المختلفة التي تشاهد في اللغات التي يتكلمونها. وقد تكون هذه الدراسة شاقة ولكنها تستحق ما ينفق فيها من عناء.   1 كذلك في كتاب "فردينان دي سوسير "Cours de: f. De saussure linguistique generale، الذي نشر بعد وفاته، لا نجد المؤلف يفرق بوضوح بين عبارات "القوى الاجتماعية" و"السيكولوجية الجماعية" و"العوامل التاريخية" التي تقوم عليها اللغة. انظر خاصة صفحات: 107، 110، 115. 2 عن صورة هذه الأعراض، انظر La Synthese en Histoire" ص69" وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الواقع أن هناك لغات تجريدية ولغات تشخيصية تقابل عقليات جنسية متعارضة. ومن أشد ما يسترعي النظر في هذا الصدد ملاحظات الأستاذ م. جرانيه.M.M Granet عن "بعض خصائص اللغة والتفكير الصينيين" التي نشرتها المجلة الفلسفية1 وفيها يبين "أن دراسة المفردات تكشف عن طابع التصورات الصينية المسرف في التشخيص". "الكلمات في جملتها تدل على أفكار فردية وتعبر عن حالات منظور إليها من وجهة نظر خاصة كل الخصوص، هذه المفردات لا تعبر عن حاجات تفكير من دأبه أن يصنف ويجرد ويعمم، تفكير يريد أن يعمل في مادة واضحة متميزة ومعدة لتطبيق نظام منطقي عليها، بل على العكس من ذلك تعبر عن حاجة ملحة إلى التفصيل والتخصيص، وإلى ما هو معجب ... يبدو أن كلمات اللغة الصينية كما تلوح لنا وكما يشرحها الصينيون أنفسهم، تقابل صورا إدراكية Concepts images مرتبطة، من جهة بالأصوات التي كأنها مزودة بالقدرة على إثارة التفاصيل المميزة للصورة ومن وجهة أخرى بالكتابة الممثلة للإشارة التي تسجلها الذاكرة المحركة كأنها أمر جوهري". هذا العامل السيكولوجي الجنسي ليس العامل الوحيد الذي له أثر عام في تشكيل اللغة "التطور اللغوي يعتمد اعتمادا وثيقا على الظروف التاريخية". فهو يعتمد على المسكن، ويعتمد على نوع الحياة، ويعتمد على تشابك حياة الشعوب2. ولكن لا يتحتم كما رأينا أن نرجع السمات التي تميز مجموعة من المجموعات أو وطنا من الأوطان بأسره إلى أصل اجتماعي. فكلمة "تاريخية" هنا هي الكلمة الحقة. ومن بين الآثار التي تتلقاها المفردات وتسجلها بوصفها جهازا حساسا أثر المسائل الاجتماعية بمعناها الحقيقي. وقد قدم لنا الأستاذ مييه أدلة بارعة في هذه الناحية: "يرجع الجزء الأكبر من تغيرات المعنى إلى توزيع المتكلمين في طبقات اجتماعية مختلفة وإلى انتقال الكلمات من مجموعة اجتماعية إلى أخرى"3. ولكن   1 يناير-فبراير ومارس- أبريل عام 1920. 2 ص414 و330 وفارن كرنيجو Cornejo المرجع السالف الذكر ص66. 3 L'annee sociologique، مجلد 11 ص791؛ وانظر في هذه النقطة أيضا نفس المرجع، مجلد 5 ص600 ومجلد 7 ص676 ومجلد 8 ص643 ومجلد 9 ص15 وما يليها ومجلد 12 ص850. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أيكفي هذا القدر الذي تعكسه اللغة من "الظروف الاجتماعية" لحياة الشعوب -وكذلك الحال بالنسبة للظروف التاريخية- لنقول بأن اللغة اجتماعية؟ نحن لا نظن ذلك. لا تكون اللغة اجتماعية حقا في نظرنا إلا إذا كانت من خلق المجتمع، وإلا إذا كانت نظاما ملتصقا بالمجتمع. يقول الأستاذ فندريس: "في أحضان المجتمع تكونت اللغة ... فاللغة وهي الحقيقة الاجتماعية بأوفى المعاني، تنتج من الاحتكاكات الاجتماعية، هذه هي أم المسائل: فما نصيب المجتمع، بوصفه مجتمعا في تكوين اللغة وتقدمها؟ يعترف الأستاذ فندريس بأن في تكوين اللغة عملية سيكولوجية "في نقطة البدء" وأنه "لم يتأت لكائنين بشريين أن يخلقا لغة فيما بينهما إلا إذا كان مهيأين مقدما لهذا العمل"، يقول إن اللغة تنشب جذورها في أقصى أعماق الشعور الفردي، ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه بني الإنسان، وإذن فإن كان يريد بهذا الاهتمام بأثر المجتمع الذي يبديه في كثير من الفقرات، أنه يبين فحسب مقدار المعونة التي لقيتها المنظمة الاجتماعية في تلك الوسيلة للتفاهم بين البشر، وكيف أدى التوفيق بين المواهب الإنسانية والحاجات الاجتماعية إلى تقدم المجتمع واللغة على السواء، إذا كان ذلك ما يرمي إليه، فإنه لا يسعنا إلا أن نتفق معه. الواقع أن المجتمع استعمل اللغة. وقد استعمل شيئا من الضغط -ولا نقول من القسر1- في سبيل جعلها مناسبة من الوجهة العملية وفي سبيل استكمالها. بل لقد ساعد بشتى الطرق على جعلها من نظمه إذ يجب علينا أن نميز بين النظم الرئيسية والمؤسسات الثانوية2 ولكنا نرى أن اللغة في الأصل عامل   1 انظر مثلا ما يقول الأستاذ موس Mauss في مجلة L' annee ociol. مجلد 4 ص141 من أن "اللغة إلزامية لجميع الأفراد الذين تتكون منهم جماعة، فيمكن القول بأنها توجد خارج الأفراد". وما يقوله الأستاذ مييه في مجلد 9 ص2 من أن خصائص الخروج عن الفرد والقدرة على الكتب التي يحدد بها دركهيم الحقيقة الاجتماعية ... تدل عليها اللغة أوضح دلالة". 2 انظر La synthese en Histoire ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 من عوامل المجتمع وليست من منتجاته. فاللغة ومعها اليد قد مكنت للمجتمع التوسع الذي هو عليه الآن وأن ما فيه من الترابط يبلغ من درجات الإحكام قدر ما يبلغ فيه التخالف من عظم، وهذا التخالف نفسه تساعد عليه اللغة كما تساعد عليه اليد. ولكن الأستاذ فندريس لا يجعل دور المجتمع مقصورا على الإثارة. فبعد أن يقول: "لا وجود للغة خارج من يفكرون ومن يتكلمون. فهي تنشب جذورها في أقصى أعماق الشعور الفردي، لا يلبث أن يقول: "ولكن الشعور الفردي ليس إلا عنصرا من عناصر الشعور الجماعي الذي يفرض قانونه على كل فرد" فيؤخذ من كثير من فقراته أن اللغة بوصفها أداة الفكر وآلة العقل من خلق المجتمع حقا. "يعزو إميل دركهيم وجود الكليات إلى نوع من الضرورة تقف بالنسبة للحياة العقلية موقف الالتزام الأخلاقي من الإرادة: يعني أن الكليات اجتماعية الأصل وتتوقف على المجتمع" فالأستاذ فندريس يقبل هذه الفكرة من أفكار المدرسة الدركهمية التي يوضحها الأستاذ ليفي بريل Levy-Bruhl في كتابه: "Les fouctions mentales dans les soietes inferieures" "الوظائف العقلية في الجماعات البدائية". فها نحن أولاء في صميم مسألة ذات أهمية جوهرية بالنسبة للتفسير التاريخي، وهي دور المجتمع في تكوين المنطق. نحن نرى من جانبنا أن الفكر يستمر بالحياة، وأن التفكير العملي وهو شعوري إلى حد ما، يسبق التفكير النظري، وأن اللغة، وهي التي تدعم التفكير العملي وتسمح وحدها بتقدم التفكير النظري، تعبر أساسا عن الطبيعة البشرية. فالإنسان بوصفه إنسانا هو خالق المنطق العقلي والمنطق العملي. فاللغة والتفكير، وكلاهما مرتبط بالآخر تمام الارتباط، إنما يترجمان عنه حين يصنف الأشياء ويقرر ما بينها من روابط. ولا يمكن أن يكون المجتمع هو الذي خلق الكليات المنطقية "CATEGORIES LOGIQUES". فالمجتمع له حاجاته ولكنه لا يفكر إذا كان في اللغة اطرادات ذات أهمية مختلفة عن أهمية الاطرادات التي تنشأ عن الرواية وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الظروف المحيطة وعن المحاكاة، فإنها ترجع إلى الوحدات الأساسية التي تتصف بها الحياة التصورية عند جميع البشر1. تكلمنا في التصدير الذي قدمنا به للمجلد الثاني عن نصيب اليد في التطور النفساني، فالتقدم التدريجي في استعمال اليد استعمالا ينطوي على الذكاء يقابل تقدما مثله في التكوين النفساني وفي درجة الوضوح الداخلي. لم تساعد اليد باختلاف عملها على تيسير التعاون بين أفراد البشر فحسب: بل ساهمت بقسط وافر في معرفة العالم الخارجي. لأن المعرفة العملية المحضة المؤسسة على المنفعة والتي هي وليدة الميل معاصرة للحياة، والتهيئة ما هي إلا المعرفة. وهناك معرفة الواقع المجسم في كل تكوين عضوي، وهناك ميكانيكا وفيزيقا بالفعل في كل ممارسة للجهود العضلية "فقانون السببية قبل أن يدرك كان يحس به شيئا فشيئا، وذلك باتساع نطاق النشاط الإنساني في عالم يحكمه هذا القانون ويكون الإنسان جزءا منه، مكملا له". وليس معنى ذلك أن موهبة التجريد والتعميم لا تستيقظ إلا مع اللغة، فبدون اللغة يقوم الانتباه والذاكرة بدورهما تحت تأثير الميل. والإنسان الفطري "الخام" Homo alalus كالحيوان يستخلص إدراكات شتى من الأحاسيس المختلطة التي لا تحصى. وهذه الإدراكات تنتج عن نوعها من الاختيار "فالذي يكون له أهمية عملية" من بين هذه الإحساسات "هو الذي يحض بالعناية"2 وهو الذي يستثير الانتباه. هذا إلى أن الذاكرة تنمي الانطباعات التي تستقبلها بتلك   1 انظر الخواطر القيمة التي نشرها د. بارودي D. parodi في مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية فبراير ومارس عام 1914 صفحة 90-91. 2 ابنجهاوس precis de psychologie: Ebbinghaus ص159، وقارن ريبو في المرجع السابق الذكر ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 التصورات التي تستقيها من الاختبارات السابقة. وبذلك تنفصل من الأشياء بعض السمات البارزة، تلك السمات المشتركة بين مجموعة من الأشياء1. وفي هذه الحياة التصويرية الأولى تلك الحياة الفردية الخاضعة للمصلحة، تتكون بعض الصور النوعية وتصير آلات عملية كالآلات المادية تماما، آلات تعمل على جعل الأشياء ملكا للشعور ومسودة له, وهي النواة المتواضعة للمعرفة النظرية. اللغة، وهي في مبدأ أمرها انفعالية وفاعلة ثم تأليفية، كلما تنوعت لتقوى على تمييز الأشياء والصفات والحالات وكلما زادت مرونة بالتعبير عن علاقات العالم الواقعي المتنوعة أشد التنوع بكلمات قد جردت من معناها الحقيقي لتتخذ قيمة الأدوات النحوية، تلك القيمة التجريدية العامة، نقول كلما تقدمت اللغة في هذا المضمار، صارت قوة لا تبارى، وأمكنها أن تدير الملكة التي تميز الشبيه من المخالف، والتي من بعد ذلك تجرد وتعمم، تلك الملكة اللاصقة بالحياة لصوق الحاسة التي تميز بها رائحة الطيب من الخبيث، واللغة على هذا النحو تمكننا من "الاستيلاء على الأشياء أنفذ وأشمل من ذي قبل". الإنسان لم يكن "الإنسان المفكر" "Home sapiens" لأنه "الإنسان العامل" "Homo faber" فحسب، بل أكثر من ذلك لأنه "الإنسان الناطق" "HOMO LOQUENS" ويظهر أن تطور اللغة كان يقتفي عن كثب أثر تطورات الآلات المصنوعة. ويرى الأستاذ بول M. Boule أن الإنسان الهيدلبرجي" "Homo heidelbergensis" كان الحلقة الوسطى بين الإنسان الذي يتكلم والحيوانات التي تصيح، أما "الإنسان النيندرثالي" Homo neanderthalensis فيظهر أنه كان يملك مبادئ فكرية من اللغة الملفوظة2. ولكنا لسنا في حاجة إلى القول بأن الانتقال من الصورة النوعية إلى الإدراك المحض كان متناهيا في البطء فالكلمة في بادئ الأمر كانت "ضئيلة الشأن" ثم   1 أحدث ما أخرج في سيكولوجية الانتباه يبرز دور الهياكل العامة أو الصور المخلخلة التي تتميز بخضائصها الفردية البحتة وبعدم قابليتها للتألف أصلا. انظر ريفودلون Revault d' Allonnes في بحثه "الصور العليا للانتباه" في مجلة علم النفس ص232. 2 بول. Les Hommes Fossiles: Boule ص154 و237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ارتفعت بالتجريد حتى صار ينطوي تحتها أعم الخصائص وأخفاها على المعرفة وهي التي ثبتت أكثر الأفكار عمرانا "بالمعرفة التي بالقوة" من العدد والمكان والزمان والسبب والقانون والنوع. "تنتقل الكلمة من العدم إلى السيادة المطلقة، والشخص ينتقل من الكينونة الكاملة إلى العدم"1. ومما لا يحتاج إلى تقرير أيضا أن دور المجتمع هنا كان حاسما، وإن لم يكن مباشرا. والكلام قد مكن للإدراك من أن ينتقل من دماغ إلى آخر: والمجتمع يحبذ وينشط تعاون الأفهام، أو "التمويل" العقلي. ولكن إذا كان هذا التعاون المنطقي مما ينتج في المجتمع فإنه ليس ظاهرة اجتماعية. بل على العكس من ذلك يجب أن تقرر أن الكلام بتسخيره للذكاء الفردي في خدمة المجتمع، يزيد في شعور المجتمع شعورا واضحا بحاجاته النوعية، ويسمح له بأن يتطور تطورا معقولا. والقدرة على التجريد والتعميم التي هي من خصائص الإنسان والتي تتفتح في العقل، ليست عند جميع البشر على السواء. المخترعون "أولئك الذين يولدون بموهبة التجريد أو عبقرية التجريد"2 والقدرة على التجريد التي كانت عند المخترعين عملية محضة في بادئ أمرها تصبح نظرية على التدريج بمساعدة الذخيرة المتجمعة والممارسة الفجائية ولعب الملكات العقلية. وذلك دون أن تختفي الحاجة الأولى، أي المصلحة. لا نريد بذلك أن نقول إن هناك نشاطا عمليا يبقى، ويصل أحيانا إلى درجة لا نظير لها من الأهمية والسطوع فحسب3 بل إن أشد أنواع النشاط إيغالا في الناحية التأميلية يتجه في نهاية الأمر-بناء على المبدأ الذي بنينا عليه رأينا- في أغراضه الخفية وفي غايته القصوى، نحو التسلط على الأشياء، ونحو تحرير العقل، نحو قمة الإنسانية العليا. فالعلم "أداة حيوية" حتى في أبعد صورة من الوجهة العملية من حيث المظهر، ولا سيما في هذه الصورة. "إذا كان الإنسان يسجل له في كل يوم انتصارا   1 ريبو: المرجع السالف الذكر، صفحات 100، 116، 148. 2 ريبو: المرجع السالف الذكر ص 246. 3 انظر ل. فيبير Le rythme du progres: L. weber. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 جديدا على الطبيعة، بينما يستأنف الحيوان في كل يوم جهاده القاصر ضدها دون نتيجة حاسمة، فذلك لأن الإنسان يعرف في بعض الأحيان كيف ينظر إلى العالم منزها عن الغرض. أما الحيوان، ذو الروح المسرف في الناحية العملية فإنه عبد إدراكه الذي يحمله دائما على القيام تقريبا بعمل واحد آلي بعينه". فالبحث عن الحقيقة المنزه عن الغرض هو آكد الوسائل للوصول إلى المنفعة1. أما عن الدور الذي قامت به الكتابة والطباعة في سبيل البحث عن الحقيقة -وهما كما هي الحال في اللغة، خليط من اختراعات عديدة قد حوكيت وتنوقلت وطبعت بالطابع الاجتماعي- فذلك ما ستكشف عنه المجلدات التالية. فالكتابة قد خلقت أشياء متكلمة، والطباعة أكثرت من عددها إلى غير ما حد وخلدتها. وهكذا أمكن للفكر أن ينتظر على المكان والزمان والموت2 ولكن كثيرا ما ينتهي التفكير المجرد إلى سراب وإلى الابتعاد عن الجادة. فالفكر في هذه الحال يجول في "عالم غير مخلوق يرجع إلى عهد الإنسان البدائي". عالم الأفكار، الذي هو أيضا عالم الألفاظ -من حيث المبدأ- وكان يمثل الأشياء3 ظن الإنسان بطبيعة الحال أن كل كلمة تقابلها حقيقة واقعية: ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأصنام وفي جوهر الأشياء المحقق عمليا. ولما كانت بعض الألفاظ تحدث آثارا معينة، كان من الطبيعي أن يظن بأن كل كلمة لها هذه الصفة. "فالشخص الذي يدعو إليه صاحبا له موجودا على بعد منه، ويراه يهرول ملبيا نداءه، يسخر في ذلك قوة تختلف اختلافا واضحا عن القوى المادية، عن القوة   1 انظر د. رستان La science comme instrument: D. Roustan.vital"، في la Revue de Met. et de Mor. سبتمبر 1914 صفحة 612-643. 2 انظر كورنو: Essai sur les fondements de nos connaissances ص 317 ولا كمب L'histoire consideree comme science: La combe، صفحة 197 وما يليها، ود. ماجوسكي D. Majewski: la science et la civilisation، ص242. 3 بل يبدو أنه يحتفظ ببعض من حقيقة هذا الشيء: ومن ثم نشأت حوله بعض الأعمال السحرية -انظر فيبير في المرجع السالف الذكر ص92، وفي مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية ص74-75، ريبو المرجع السالف الذكر ص 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الناجمة عن سلاح الطعن أو سلاح الرمي، لا شك أن هناك نصيبا من الحقيقة في هذه الفكرة التي يقول بها الأستاذ ل. فيببر من أن ممارسة اللغة قد ساهمت في استخراج معنى للسبب الفاعل يختلف عن ذلك الذي ينتج عن ممارسة الفنون المادية. هذه العقلية التي تستخدم الكلمات استخداما تحكميا أطلق عليها اسم العقلية "قبل المنطقية" وقيل إنها من أصل اجتماعي خالص1. ويبدو لنا أنها آتية في الواقع من حياة الفرد الانفعالية، ولكن الذي يستبقيها ويساعدها على التطور إنما هي الحياة الاجتماعية التي هي حياة انفعالية في أصلها إلى حد كبير والتي تخلق، بتقويتها لحالات الفرد الانفعالية، نوعا من الوسط الغيبي لا يتطرق إليه الاختبار، إن قليلا وإن كثيرا. ففي المجتمع تنمو التصنيفات وتزداد قوة، وليست التصنيفات قبل المنطقية هي التي نعنيها هنا، بل التصنيفات الغريبة على المنطق التي يوجدها "الفن الكلامي" إلى جانب الفنون المادية. والسلطة الاجتماعية التي تقوم مقام رقابة الواقع الخارجي بتأسيسها للتفكير تشل العقل إن قليلا وإن كثيرا، وبعد أن يتحرر العقل ويشتد في وقت ما يظل زمنا طويلا يحتفظ بدرجة مسرفة من الثقة في بعض الأسس الخداعة وفي سراب الألفاظ2. يجب أن تظل الإدراكات منطوية على الحقيقة الواقعة حتى يستطيع العقل أن يشتغل بالكلمات بطريقة مجدية. فالمثل الأعلى في كل صورة يتولد من اللغة، ولكن هناك من المثل العليا ما هو فارغ أجوف. وبمضي الزمن يصل العقل في كفاحه المنطقي، إلى تشبيه الأشياء بالعقول وبالتالي إلى تشبيه العقول بعضها ببعض. ولعل المجتمع النهائي سيقوم على وحدة العقول، ويمكننا أن نقول بأن العلم لم يؤد من خدمات اجتماعية بقدر ما أدى منذ أن تحرر من كل سلطة اجتماعية بل من كل نظام اجتماعي ليصير موضوعيا محضا، أي ليصير في نفس الوقت   1 انظر لوسبان ليفي بريل L. levy-Bruhl المرجع السالف الذكر. جرانيه: المقالات سالفة الذكر، مارس، أبريل 1920، 187، La synthese en Histoire ص195 وما يليها. 2 نفس المرجع ص 188-263، فيبير وريبو وجانيه في المراجع السالفة الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فرديا وعاما لا اجتماعيا، لأن هذين أمران يختلفان كل الاختلاف. قامت حول المنطق، وحول تقدم اللغة، مناقشات حارة في سنتي 1912، 1913 في الجمعية الفلسفية الفرنسية، وقد ساهم فيها الأستاذ فندريس. وكان الباعث عليها وأساسها تلك الأعمال الممتعة المثيرة التي قام بها المأسوف على حياته لويس كوتيرا في اقتناع يقوم على التفكير العميق. عمل كوتيرا على أن يخرج للوجود لغة دولية تفرض نفسها على جميع الشعوب وجميع العقول بعملها على تحقيق الاتجاهات العميقة التي يتجهها التطور اللغوي. والواقع أنه كان يعتقد أن التفكير الإنساني واللغة يرتبطان أحدهما بالآخر بعري وثيقة، وقد كان يجمع إلى تبحره العظيم في مسائل المنطق اطلاعا دقيقا على المسائل اللغوية، فراح يبين أن بعض "الحدود أو الفصائل" الأساسية يمكن استخلاصها من الدراسة المقارنة لجميع اللغات الإنسانية، معتمدا في ذلك على دراسات الأستاذ مييه meillet أكثر اللغويين اصطباغا بالفلسفة. تلك الدراسات البارعة في سعة المعرفة وخطورة النتائج. فعنده أن هناك نحوا عاما "grammaire generale" لأن هناك عقلا إنسانيا؛ "الإنسان ليس له عقل لأنه حيوان اجتماعي أو "سياسي" كما يقول أرسطو، بل إنه حيوان اجتماعي لأن له عقلا"1. فلنحدد موقف الأستاذ فندريس في المناقشات الدائرة حول الفصائل لنرى كيف تستقيم، في هذه النقطة سسيولوجيته البادية، وتتقلص بسبب الحقائق المكتشفة كما وقع لدركهيم Durkheim نفسه في كتبه الممعنة في التقرير، ولليفي بريل2. "فتصور عقل إنساني ذي قوانين ثابتة لا تتغير ومتماثل تمام التماثل   1 انظر كوتيرا: La logique et la philosophie contemporaine في la Revue de met. et de mor مايو 1909، وعن البنية المنطقية انظر نفس المرجع يناير 1912. وقارن ما في مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، فبراير 1912، ومايو 1913. وانظر لالاند L'oeuvre de louis couturat: Lalande في المجلة السابقة، عدد سبتمبر سنة 1914. 2 انظر La synthese en histoire ص174 ومجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، عدد فبراير 1912 ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 في كل الأرجاء" يبدو له -وهو على حق- موضع نظر: ولكنه يعلن بأنه لا ينكر إنسان وجود بعض سمات أساسية مشتركة مهما اختلفت العوائد العقلية بين شعوب الأرض"، ويفوض الأمر إلى المناطقة ليقرروا "ما إذا كان وراء الفصائل النحوية المختلفة الألوان فصائل منطقية تجري على كل اللغة وتفرض عليها جميعا بحكم تركيب المخ الإنساني1. أما عن الأصول فإنه يجمع الاعتراضات تلو الاعتراضات ضد الجهود التي عملت لإرجاع اللغات إلى الوحدة ويبدي تحفظا شديدا أمام نتائج الطريقة المقارنة. ويعترف مع ذلك "بأن العلماء قد نجحوا في تكوين عائلات لغوية كبيرة"، ويضيف قائلا: "وليس من شك في أن تقدم الفيلولوجية المقارنة سيؤدي إلى ازدياد عدد الأسر اللغوية الصحيحة التكوين"2. وأما عن التطور فيقول: "فنحن نجني ثمار التحسسات العقلية التي قام بها أسلافنا الغابرون، فهم الذين سهلوا مهمتنا بتحضيرهم لعقليتنا فما أكثر ما بذلوا من وقت ومن مجهود في تمرين الدماغ الذي ورثونا إياه، تمرينا جعلنا لا نشعر حتى بوقوع هذا التمرين"3. ويعترف الأستاذ فندريس على رغم الغيبية التي "تحيط بالعقلية البدائية من كل جانب" بأن هناك "عنصرا عقليا" يتدرج شيئا فشيئا حتى ينتهي بالغلبة4. ويبين بقوة عظيمة في أي اتجاه تسير اللغة: فهي تسير من المشخص إلى المجرد، ومن الغيبي إلى العقلي. ولغات المتوحشين مفعمة بفصائل التشخيص والتخصيص، أما لغات المتحضرين فلا يكاد يوجد فيها إلا الفصائل التجريدية، وإن وجدت غيرها فهي في سبيل الانقراض. وفكرة الزمن، ودرجتها من حيث التجريد   1 انظر آخر الفصل الثاني من القسم الثاني والصفحات الأخيرة من الفصل الثاني من القسم الثالث. 2 انظر آخر الفصل الخامس من القسم الرابع. 3 انظر أول الفصل الأول من القسم الخامس. 4 انظر الصفحات الأولى من الفصل الأول بالقسم الخامس، وانظر la aynthese en histoire من ص191-195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أعلى من درجة الفكر المكانية، تلعب في لغات المتمدينين دورا أهم من الدور الذي تلعبه في لغات البدائيين1. وعندما تتحلل ذاكرة الفرد نرى" المجرد أثبت عنده من المشخص. ولعله يمكن تفسير ذلك بأن التجريد ينفذ إلى الدماغ بعد مجهود عقلي ويتطلب من الذهن تركزا، أما المشخص فليس إلا انعكاس الأشياء في مرآة الوجدان"2. القول بأن التطور اللغوي مرتبط بالمدينة بصلات وثيقة ليس معناه إنكار المجهود المنطقي، أو دور العامل الإنساني، وإنما معناه الحد من دور العامل الاجتماعي، فالمدينة شيء والمجتمع شيء آخر. ولكن ما هي المدنية على وجه التحقيق؟ هل يترتب على المدنية وجود ترتيب تصاعدي للغات، أو تقدم لغوي؟ يقابل الأستاذ فندريس هذا السؤال بريب شديد، ريب يجب أن نقابله بدورنا بالاحترام التام، لأنه يقوم على إحساس حاد بتفاصيل الواقع اللغوي المتفرقة المتحركة، وعلى الحذر من الأفكار السائرة التي تعرض على أنها معرفة نقية خالصة. ووجهة نظره في ذلك هي وجهة نظر العالم اللغوي المرتبط بواقع الأشياء، فنراه يطيل القول عن الفصائل النحوية في اللغات المختلفة وعن العقبات التي يلاقيها المنطق وعن سراب اللغة الصناعية الخداع. ويذهب إلى حد القول: "بأننا لا حق لنا في اعتبار لغة معقولة تجريدية تفوق لغة أخرى مشخصة غيبية، لمجرد أن تلك الأولى هي لغتنا. إنهما في الوقع عقليتان مختلفتان يمكن لكل منهما أن يكون لها ناحيتها من الفضل إذ لا شيء أمام شخص من أهالي سريوس "Sirius" يستطيع أن يبرهن له على أن عقلية المتمدنين عقلية منحلة"3. ولنقرر مرة أخرى أنه يروقنا في كتاب الأستاذ فندريس هذا النصيب المبالغ فيه من الشك العلمي، لأنه في رأينا لا يرفع من قدر كتابه فحسب، بل يرفع جميع   1 انظر الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب. 2 انظر آخر الفصل الثالث من القسم الثاني. 3 انظر الصفحتين الأخيرتين من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أجزاء المؤلف الذي يتشرف باشتراكه فيه. وهكذا تجد منه الدعاوي التي نقترحها ولا نفرضها ممحصا ثاقبا. ونعتقد أنها ستخرج من بين يديه وقد زادت قوة لا ضعفا، وذلك برغم بعض المظاهر، ودون أن يعمد الأستاذ فندريس إلى الوصول إلى هذه النتيجة، "وتلك هي عين الخبرة". مسألة التقدم مسألة معقدة، ومن العسير تحديد "القيم" التي تتحق بها المدنية: إن تطور البشرية بأسرها هو الذي يقدم لنا حلا لهذه المشكلة. رأينا مقدار المسائل العامة التي يثيرها كتاب الأستاذ فندريس ومقدار العناصر القيمة التي حشدها لحلها. أما المسائل الخاصة فقد أبرزها جميعا وعالجها في فصول رزينة مشبعة، بطريقة تظهر النتائج التي وصل إليها وتشير إلى البحوث التي ينبغي أن تعمل. ولم يخصص فصل لهذه الناحية، لأن الكتاب كله، كما تصوره مؤلفه، إحصاء لما عمل في هذا الميدان ولما يجب أن يعمل. كانت الجمعية الفلسفية قد رغبت في المناقشات التي أشرنا إليها إلى لويس كوتيرا أن يلخص مسائل علم اللغة في مجلد يكون "في متناول الجمهور". ولكنا نقرأ في آخر العدد الصادر من المجلة في مايو سنة 1913 ما يلي: "عدل الأستاذ كوتيرا، مؤقتا على الأقل، عن مشروع وضع المتن الذي كان قد اعتزم إخراجه في المنطق اللغوي ... لأنه علم أن الأستاذ فندريس يعمل على إخراج مؤلف في علم اللغة، يبدو أنه يجيب رغبات أساتذة الفلسفة ويسد حاجاتهم". ها هو ذا الكتاب: سيكون مفيدا للغويين ولكل من يهتمون بعلم اللغة على اختلاف مشاربهم، ولكن لعل فائدته الأساسية، وهو على النظام الذي هو عليه، تقوم على بيان أن علم اللغة ليس علما قائما بذاته، وأنه يندمج في التاريخ. فالحياة والفكر ينصبان في اللغة. واللغات الميتة مثلها مثل الحفريات التي تحتفظ بطابع الكائن الحي. واللغات الحية تعبر في قوالب متغيرة ولكن النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 تسجلها، عن جميع العمل الداخلي، وعن جميع الآثار الخارجية للحياة الفردية والجماعية. فإذا كان العالم اللغوي في حاجة إلى التاريخ، فإن المؤرخ في حاجة إلى علم اللغة: إذا كان يتصور التاريخ على أنه تفسير عميق لتلك الحياة الموغلة في التعقيد، لا على أنه مجرد حكاية أمينة لما كان1. هنري بر ملاحظة: لاستكمال مراجع هذا الكتاب من ناحية السيكولوجيا، نعتقد من المفيد أن نشير إلى المرجعين الآتيين "Traite de psychologie" ذلك المؤلف الذي تخرجه طائفة من علماء النفس تحت إرشاد ج. ديما G.dumas, ففيه مقالان عن اللغة في الجزء الأول "le langage, association sensitivo- motrice" بقلم بارا Barat وشالان Chaslin. وفي الجزء الثاني "La langage, operation"؛ "intellectuelle بقلم دلكروا Delacroix. هذا إلى أن الـ"Journal de psychologie" الذي يصدره ب. جانيه وج. ديما، سيصدر قريبا عددا خاصا باللغة.   1 خير من أدرك هذه الفكرة وعبر عنها من المؤرخين هو لوسيان فيفر Lucien febvre انظر ذلك في: Revue de synthese historique مجلد 23، أكتوبر 1911 وHistoire et linguistique ومجلد 27، أغسطس, أكتوبر 1913 وLe developpment des langues et l.htm' histoire. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 مقدمة : لسنا في حاجة إلى تقديم طويل لتبرير المكان الذي يخصص للغة في مؤلف يكرس لتاريخ البشرية. فالأجزاء السابقة قد عرفت القارئ بالمسرح الذي مثلت عليه درامة هذا التاريخ الكبرى، وقدمت له ممثلها الرئيسي وهو الإنسان والوسائل المادية التي كان مزودا بها. ولكن الإنسان، رغم هذه الوسائل المادية، كان يظل عاجزا عن تمثيل الدور الذي قدر له أن يلعبه لولا تملكه لناصية اللغة. فاللغة وهي أداة الفكر ومساعدته، هي التي مكنت للإنسان من الشعور بذاته ومن الاتصال بأمثاله، وجعلت من الميسور تكوين الجماعات. ومن العسير أن تتصور حالة أولية للإنسان كان فيها محروما من مثل هذه الوسيلة الناجعة للعمل. فتاريخ البشرية منذ بدايته يفترض وجود لغة منظمة، وما كان في وسعه أن يسير في طريق التطور دون اللغة. إذا كانت دراسة تحتل مكانها المرموق الذي لا ينازعها فيه منازع في قمة كل تاريخ عام، فإن الآراء قد تختلف حول الصورة التي تتصور عليها هذه الدراسة. لأن اللغة مركب معقد تمس فروعا من المعرفة مختلفة وتعنى بها طوائف متفرقة من العلماء. فهي فعل فسيولوجي من حيث إنها تدفع إلى العمل عددا من أعضاء الجسم الإنساني. وهي فعل نفساني من حيث إنها تستلزم نشاطا إراديا للعقل. وهي فعل اجتماعي من حيث إنها استجابة لحاجة الاتصال بين بني الإنسان. ثم هي في النهاية حقيقة تاريخية لا مراء فيها نعثر عليها في صور متباينة وفي عصور بعيدة الاختلاف، على سطح المعمورة قاطبة. ومن ثم كان لنا أن نتصور دراسة للغة يقوم بها عالم من علماء وظائف الأعضاء. فيصنف الطرائق التي تؤدي بها أعضاء الكلام وظيفتها، أو عالم من علماء النفس فيحلل حركة التفكير مهتديا بنتائج علم الأمراض العقلية، أو عالم من علماء الاجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فيظهر لنا أثر التنظير الاجتماعي في تطوير اللغات، أو مؤرخ فيصنف اللغات في أسر ويحدد توزيعها الجغرافي كل واحد من هؤلاء العلماء يستطيع أن يكتب كتابا يدخل في علم اللغة ولو أن يقظة البدء التي صدر عنها توجد خارج هذا العلم والنتائج التي يصل إليها تمتد حتى تخرج من حدوده. وأما مؤلف هذا الكتاب، وهو عالم لغوي بحكم مهنته، فقد أراد أن يحصر مجهوده في ميدان العلم اللغوي وحده دون سواه، فاتخذ من الواقع اللغوي كما تمدنا به الخبرة نقطة الارتكاز التي صدر عنها. فمن تحليل الواقع اللغوي استخرج خطة كتابه. وعلماء اللغة يميزون فيها ثلاثة عناصر مختلفة: الأصوات والنحو والمفردات. ومن هنا قصر الأجزاء الثلاثة الأولى من الكتاب على دراسة هذه العناصر الثلاثة على التوالي، وهي دراسة تعنى في نفس الوقت بحالة اللغة الراهنة كما هي من جهة، كما تعنى بحالتها التطورية من جهة أخرى. وقد قصد بها استخلاص أسباب التغير من الوقائع اللغوية التي تنطوي عليها، والتمهيد للجزء الرابع الذي يتناول موضوعه دراسة اللغات، فهو يعالج على الترتيب تعريف اللغات وأنواع اللغات المختلفة والأثر الذي تحدثه بعضها في بعض، وأخيرا القرابة اللغوية. فتسلسل الكتاب يقوم إذن على الانتقال من البسيط إلى المعقد. فالواقع أن الأصوات أبسط من الكلمات ومن المجمل التي منها تتكون اللغات. وينجم عن هذا الترتيب أن كانت الفصول الأولى، وهي أكثر فصول الكتاب إيغالا في الفنية، أشد الفصول جفافا. وعلى العكس من ذلك فإن الفصول الأخيرة تقدم للقارئ الذي لم تثبط الفصول الأولى همته آفاقا أكثر تنوعا واتساعا. أما الجزء الخامس، وهو أشبه ما يكون بالملحق، فخاص بالكتابة وأخيرا يحيط بالكتاب فصلان: فصل تمهيدي وفيه تعرض مسألة أصل اللغة، وفصل ختامي وفيه تناقش مسألة تقدم اللغة. وهكذا تتراص جميع التفرعات التي يتكون منها هذا الكتاب حول الواقع اللغوي باعتباره مركزا لها. ومع أن مادة هذا الكتاب شديدة التنوع وكثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ما تمتد إلى فروع مجاورة من فروع المعرفة، فإنه يمكن للناظر فيه أن يعترف بما له من وحدة جاءت بها وجهة النظر التي وضعها المؤلف نصب عينيه. وقد بدا من المفيد للمؤلف، في بعض مناسبات نادرة، أن يكمل النتائج المستخرجة من علم اللغة بالإغارة على حرمة أحد العلوم المتصلة بعلم اللغة، وهو يرجو ألا تكون مخالفته للقاعدة خالية مما يبررها. فهو على وجه العموم، قد اقتصر على عرض الوقائع عرض عالم لغوي، معتبرا أن تلك خير الوسائل لإفادة أصحاب العلوم الأخرى الذين لا يستطيع أن يأتيهم بشيء ذي بال في ميدانهم الخاص. هذا وأن المبدأ الذي اتخذناه كان من شأنه أن يجعل مهمتنا على جانب من الصعوبة. لأن من يدرس اللغة بوصفه عالما لغويا يجد نفسه مسوقا بكل بساطة إلى وضع رسالة في اللغويات العامة. ولكن كل من له اتصال بالنواحي اللغوية يعلم أنه لا يكاد يوجد مشروع أكثر خطورة من هذا المشروع. إذ لا بد لنجاحه من إنسان قدير على الإحاطة بكل صيغ الكلام المعروفة، منقطع لممارسة جميع اللغات المتكلمة على وجه الكرة الأرضية، فهل يمكن العثور على هذا الإنسان المثالي؟ إن هذا ليدعو إلى الشك. أما لو كان الأمر يدور حول تعيين واحد من بين الأحياء كثيرا على العارفين. لكن الواقع أنه لم يظهر حتى الآن كتاب واحد حقق منهاجا كاملا لعلم اللغويات العامة1. لا حاجة إلى القول بأن هذا الكتاب لم يبلغ في تحقيق هذا الحلم أكثر من غيره. فالمكان المحدود الذي منح للمؤلف يفسر تفسيرا كافيا، دون حاجة لذكر أسباب أخرى، لماذا لم يحاول المؤلف الإقدام على هذه المغامرة. فقد تظاهر بأن اعتبر كل واحد من الوقائع التي يدرسها قطعة منفصلة من تاريخ شاسع لم يدون بعد. ومع أنه قد استعرض مسائل علم اللغة الأساسية دون أن يهمل منها واحدة,   1 لم يصبح ذلك كله حقا منذ أن نشر في سنة 1916 كتاب فرديناند دي ساستور رقم 121، ولكن هذا الكتاب، الذي لم ينشر إلا بعد موت المؤلف، رغم وفرة الآراء التي يقدمها ليس عرضا منهجيا كاملا لعلم اللغويات العامة "انظر مييه رقم 4 مجلد 20، ص32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 إلا ما قد يكون من خطأ أو نسيان، فإنه لم ير لزاما عليه أن يبسط منها إلا بضعة أمثلة لها طابعها الخاص. كان يمكن لهذه الطريقة التفريقية أن تجر إلى عيب تمزيق المادة بقطع العرى التي تربط مواضع الاستيعاب والبسط بعضها ببعضها، ولكن المؤلف تجنب هذا العيب بطريق التحايل. لأن اللغة، ككل ما يمت إلى التاريخ والحياة بسبب، تكون ميدانا متصلا بمعنى أن ظواهرها لا تفصل بينها حدود متميزة. وأن الإنسان يتدرج بين القمم التي فيها يتجلى كل واقع على أتمه في سلسلة من المراتب غير المحسوسة. ومن ثم كان يكفي أن يشغل ما بين مواضع البسط والاستيعاب بمراحل انتقال طبيعية، بمعنى أنها مستعارة من طبيعة الحقائق المدروسة نفسها. فلو أن هذا الكتاب قد ادعى أنه يحوي الحقيقة الواقعة كاملة في قوالب قد تكون تجريدية محكمة التسلسل، فربما كان قد بدا عليه مآخذ من الجهل الفاضح، لكنه سترها باختياره لنظام مرن يطبقه على حقائق اختيرت مقدما، ويتتبع معالمها عن كثب بدلا من أن يتبع نظاما صارما كاملا واضح المعالم متميز الخطوط. يستطيع المؤلف، وقد سلك هذا المسلك، أن يغتبط بأن جعل مهمته ممكنة دون أن يقلل ذلك من فائدتها. فهو لا يقدم للقارئ متنافي علم اللغويات العامة، بل أراد فقط أن يعطيه فكرة عن هذا العلم وعن المسائل التي يعالجها والنتائج الأساسية التي وصل إليها. لكن المشروع رغم تحديده بهذا المنهاج قد يبدو على جانب كبير من الجرأة. أما ما حفز المؤلف على المضي فيه فهو العون القيم الذي لقيه من طائفة من الأصدقاء تفضلوا بالاهتمام بمؤلفه، فيسره هنا أن يقدم لهم شكره. فالأستاذ ا. مييه، وهو الذي أوحى إلى المؤلف بعمل هذا الكتاب، قد أخذ على عاتقه عبء قراءة المخطوط وناقش المؤلف في أكثر من مسألة من بين المسائل التي عالجها، فلعل القارئ يلمس معالم تأثيره! كذلك راجع المخطوط كاملا زميل وصديق آخر هو الأستاذ جيل بلوك Jules Bloch وأفاد المؤلف بملاحظات عديدة. وأخيرا لا يسع المؤلف إلا أن ينوه بما في عنقه من دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لزملائه الأعزاء من أعضاء الجمعية اللغوية، وهم الأساتذة ديلافس وديني وجود فروا ديمنبين وإيزيدورليفي وليفي بريل وبيليوه، فبفضلهم زاد عدد من فصول الكتاب ثراء بوثائق جديدة متصلة بموضوعاتها اتصالا مباشرا، وفي النقط التي ساهموا فيها متفضلين أفاد الكتاب دقة ترجع إليهم وحدهم. وإذا لم يكن الكتاب في جملته قد تحسنت حاله، فليس مرد ذلك لهم. ج. فندرس, ميلان في يوليه 1914 ملاحظة؛ انتهى هذا المؤلف في سنة 1914، ولم تقدم مخطوطاته للطبع إلا في سنة 1920، وإن الحوادث تكفي لتفسير هذا التأخر لدرجة تسمح بغفرانه. لكن المؤلف يصر على إخطار القارئ بأنه يقدم له مؤلفا مضى عليه سبع سنوات، والواقع أنه لم يمس شيئا من نظام الكتاب العام، بل اكتفى بإدخال إصلاحات في التفاصيل على بعض النقط ساعده فيها الأساتذة موريس مارتان Maurice Martin، وأرنست ماركس Ernest Marx, وهنري جربان Henri Grappin، فإليهم جميعا يعبر المؤلف عن عرفانه بالجميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 تمهيد: أصل اللغ ة 1 يثير الإنسان دائما دهشة السامع كلما قال بأن مسألة أصل الكلام ليست من مسائل علم اللغة. ومع ذلك فليس هذا القول إلا الحقيقة بعينها. فغالبية أولئك الذين كتبوا عن أصل الكلام منذ مائة عام يهيمون في تيه من الضلال، لأنهم لم يتنبهوا إلى هذه الحقيقة: وغلطتهم الأساسية أنهم يواجهون هذه المسألة من الناحية اللغوية، كما لو كان أصل الكلام يختلط بأصل اللغات. إن اللغويون يدرسون اللغات التي تتكلم والتي تكتب، ويتتبعون تاريخها بمساعدة أقدم الوثائق التي كشف عنها، ولكنهم مهما أوغلوا في هذا التاريخ، فإنهم لا يصلون إلا إلى لغات قد تطورت وتركت خلفها تاريخا ضخما لا نعرف عنه شيئا. أما فكرة الوصول إلى إعادة بناء رطانة بدائية بمقارنة لغات موجودة بالفعل فسراب خداع. ولكن هذا السراب، الذي ربما كان مؤسسو علم النحو المقارن يتطلعون إليه قديما، قد هجر منذ زمن طويل. هناك لغات تنتسب إلى تواريخ منها القديم ومنها الأقدم. ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع إلى أكثر من عشرين قرنا ولكن أقدم اللغات المعروفة "اللغات الأمهات"، كما تسمى أحيانا، لا شيء فيها من   1 تاريخ طيب لهذه المسألة في بورنسكي Borinski رقم 146، ص3-20 وانظر أيضا جسبرسن jespersen رقم 134، ص328-365. وقد كتبت عن هذه المسألة مؤلفات كثيرة. والأسماء الرئيسية التي تقرن بالاتجاهات أو الخطى الرئيسية في الماضي هي: J. J. Rousseau, Essai sur porigine des langues "ouvrage posthume" Harder, Geburt der Sprasche mit der ganzen Entwicklung der menschlichen krafte, 1770, J. Grimm, Uber den Ursprung der Sprache, 1851, Steinthal, Ursprung der Sprache in Zusmmenhang mit der letzten Fragen alles wissens, 1851 "الطبعة الرابعة 1888"، Renan رقم 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 البدائية. ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة، فإنها لا تفيدنا علما إلا بالتغيرات التي طرأت على الكلام، ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها. كذلك لا يمكن استخلاص شيء في هذا الصدد من لغات المتوحشين. فالمتوحشون ليسوا بدائيين، رغم الإسراف في تسميتهم بهذا الاسم في غالب الأحيان. فهم يتكلمون أحيانا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدا، ولكن منهم من يتكلم لغات على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة. فهذه وتلك ليست إلا نتيجة تغيرات تغيب عنا نقطة البدء التي صدرت عنها. وإذا كان هنالك من فرق بين لغات الشعوب التي تسمى متحضرة ولغات المتوحشين، فهو في الأفكار التي تعبر عنها أكثر مما هو في العبارة نفسها. فلغات المتوحشين في وسعها أن تفيدنا في معرفة ما بين الكلام والفكر من روابط1 وليس في معرفة ما كانت عليه الصورة البدائية للكلام. وقد يجنح الإنسان في البحث عن هذا المطلب في كلام الأطفال2، وهذه المحاولة أيضا سيكون نصيبها الفشل. لأن الأطفال لا يعلموننا إلا كيف تحصل لغة منظمة، ولا يعطوننا أية فكرة عما كان عليه الكلام عند أصل نشوئه. فحينما تلاحظ المجهودات التي ينفقها أحد الأطفال ليعيد ما يسمعه مما يقال للمدركين، فإننا نلحظ أكثر من علامة دالة على أسباب التغيرات التي يتعرض لها الكلام. ولكن الطفل لا يؤدي إلا ما قيل أمامه، فهو يشتغل بالعناصر التي يمده بها من حوله، ومنها يركب كلماته وجملة. إنه يقوم بعمل المحاكاة لا الخلق، عمل يخلو من   1 ليفي بريل، رقم 88، ص 76 وما يليها. 2 عن الكلام عن الأطفال، انظر خاصة: وقارن أيضا: Clar und william stern Die kindersprache leipziq "1907". Consuletr Meumann; Die Sprache des kindes, Zurich "1903" "Abhandlungen herausgegeben von der Gesellachaft fur deutsche Sprache in Zurich"; Ch. Roussey, Notes sur L'apprentissage de la parole chez uu enfant؛ رقم 7 "1899, 1900" M. Grammont, observations sur le langage des enfants؛ رقم 99، ص61-82 O. Bloch: Notes sur le langage des enfant رقم 6 ص 18 من المقدمة وص37 j. Ronjat, le develop Pement du langage observe chez enfant bilingue, 1913 باريس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الارتجال خلوا تاما. أما هذا النصيب من التجديد الذي يدخله في الكلام فغير شعوري، ناتج عن كسل طبيعي يقنع بما يكون على وجه التقريب، وليس نائشا عن إرادة تحت سلطانها قدرة خالقة. فالعالم اللغوي سواء ألجأ إلى أقدم اللغات المغروفة أم إلى لغات المتوحشين أم إلى اللغات التي يتعلم الأطفال بها الكلام، فلن يجد أمامه في كل حال إلا بنيانا شيد منذ زمن طويل وتعاقب على العمل فيه أجيال عديدة خلال قرون طويلة. فتبقى مسألة أصلة الكلام خارجة عن نطاق خبرته. والواقع أن هذه المسألة تختلط بمسألة أصل الإنسان وأصل الجماعات البشرية، فهي من اختصاص تاريخ البشرية البدائي. لقد نشأ الكلام بالتدريج مسايرا لتطور دماغ الإنسان ولتكون الجماعة، فمن المستحيل أن يقول في أي صورة بدأ الكائن الإنساني يتكلم، لكن من الممكن أن نحاول تحديد الظروف التي سمحت للإنسان بأن يتكم: وهي ظروف نفسية واجتماعية في نفس الوقت. أعم تعريف يمكن أن يعرف به الكلام أنه نظام من العلامات1. فدراسة أصل الكلام ترجع إذن إلى البحث عن أي أنواع من العلامات كانت بطبيعتها في متناول الإنسان ثم كيف حمل على استخدامها. ويجب أن يعنى بالعلامة أي رمز قابل لأن يستخدم للتفاهم بين البشر ... ولما أمكن للعلامات أن تكون متنوعة الطبيعة، أصبح هناك عدة أنواع من اللغات فكل أعضاء الحواس يمكن استخدامها في خلق لغة. فهناك لغة الشم ولغة اللمس ولغة البصر ولغة السمع، وهناك لغة كلما قام شخصان فأضافا معنى من المعاني إلى فعل من الأفعال بطريق الاتفاق وأحدثا هذا الحدث بقصد التفاهم بينهما. فعطر ينشر على ثوب، أو منديل أحمر أو أخضر يطل من جيب سترة أو ضغطة على اليد يطول أمدها قليلا أو كثيرا، كل هذه تكون عناصر من لغة ما دام هناك شخصان قد اتفقا على استعمال هذه العلامات في تبادل أمر أو رأي.   1 ب. لروا رقم 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومع ذلك فهناك لغة من بين مختلف اللغات الممكنة تطغى على جميع ما عداها بتنوع وسائل التعبير التي في طوقها: وهي اللغة السمعية التي تسمى أيضا لغة الكلام أو اللغة الملفوظة؛ تلك وحدها هي التي سنتحدث عنها في هذا المؤلف. وقد تصحبها بعض الأحيان اللغة البصرية، وغالبا ما تكون مكملة لها. والإشارة عند جميع الشعوب تقطع الكلام، وهيئة الوجه تترجم في آن واحد مع الصوت عن الانفعالات والأفكار. والتعبير بالحركات لغة بصرية، ولكن الكتابة بدورها لغة بصرية أيضا وكذلك على العموم كل نظام من نظم الإشارات. ولعل اللغة البصرية توازي اللغة السمعية في قدم العهد. فليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن إحداهما متقدمة عن الأخرى وأكثر من هذا ليس لدينا أية وسيلة للبرهان على ذلك. وغالبية اللغات البصرية المستعملة اليوم مشتقة من اللغة السمعية، وهذا ينطبق على الكتابة كما سنرى في الجزء الخامس، وينطبق على قانون الإشارات. وقانون الإشارات البحرية مثلا قد جعل ليزودنا بمعادلات بصرية بدلا من الكلمات والجمل في جميع اللغات القائمة. وهو لا يمدنا بمعلومات عن أصل العلامات باعتبارها تصويرا للأفكار. فإن اختيار هذه العلامة دون تلك بطريق الأفضلية مبني على الاتفاق، على الاتفاق التحكمي. وإن كان قد قيد منذ البداية ببعض الشروط. مثل هذه اللغات بنص حدها لغات صناعية. إننا نعرف حالة من الاستعمال الطبيعي للغة البصرية ألا وهو لغة الحركات المستعملة إلى جانب اللغة السمعية1 عند بعض الشعوب المتوحشة. وهنا لا يتوقف" الأمر على أن يكون الكلام مصحوبا بالإشارة كما هو الحال لدى الشعوب المتحضرة، بل يدور الأمر حول نظام من الحركات لا تستطيع وحدها التعبير عن الآراء التي يراد توضيحها، مثلها في هذا مثل الكلمات تماما. وتلك لغة فطرية إلا أن لها مزاياها: إذ يمكن استعمالها على بعد بين مكانين لا يقدر الصوت على أن يصل بينهما وإن استطاعت العين التقاط الحركات، ثم تمكن على وجه الخصوص من عدم إثارة   1 wundt رقم 223، 1، 1 ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 انتباه الحاضرين بضوضاء الأصوات. وتلاميذ المدارس يستعملون هذه الوسيلة الصامتة لتفاهمهم داخل غرف الدراسة. فاللغة بالحركة يمكن إذن أن يكون لها أصل نفعي. ومع ذلك فكون استعمالها عند الشعوب المتوحشة من شأن النساء على وجه الخصوص يوحي بتفسير آخر. ذلك أن السبب الذي يدعو عادة إلى التفريق في اللغة بين الجنسين يكون سببا دينيا1 فلما كانت الكلمات التي يستعملها الرجال محظورة على النساء، فقد وجب على هؤلاء أن يستعملن مفردات خاصة، وجب عليهن أن يخلقنها بأنفسهن حتى ولو اضطررن عند الحاجة إلى إحلال الحركة محل الصوت. وهكذا يمكن أن يفسر استبقاء لغة الإشارات بالإلزام الناشئ عن النواهي ولكنها ليست، مهما كان أصلها، إلا عوضا عن اللغة السمعية التي يجب أن تسير لغة الإشارة على نهجها. ولغة الإشارات التي يستعملها الصم البكم هي الأخرى منسوخة عن اللغة السمعية. فبالحركة يعلم هؤلاء العجزة إجراءات اللغة عند الآخرين: حيث يوضعون في حال تمكنهم من التحادث فيما بينهم ومن قراءة ما يكتبه من يتكلمون ويسمعون. فإن يجري لهم استبدال حاسة مكان حاسة لوضعهم في حال يتفاهمون فيها بالعلامات. حالة الصم البكم تدعو إلى التفكير في أصل الاستعمال اللغوي للعلامات، ويستطيع المرء بمناسبتهم أن يتساءل عما إذا كانت اللغة عند الإنسان شيئا مكتسبا ناتجا من التعليم، أم على العكس من ذلك شيئا فطريا تلقائيا. الأطفال العاديون لا يعلموننا شيئا عن هذا السؤال، فإنهم منذ ميلادهم متيقظون أمام العالم الخارجي، وهم قبل أن يصدروا أصواتا، على صلة بمن يحيطون بهم بواسطة حاسة السمع، ويجدون أنفسهم في اللحظة التي يتكلمون فيها، منغمسين في تيار التبادل الاجتماعي. أما الصم البكم فهم في حاجة إلى أن يوقظ عندهم الشعور بالعلامة. فهم لعجزهم عن تعلم اللغة السمعية من جراء عاهتهم في منجى من كل تأثير يقع على الأطفال الذين يسمعون من الأشخاص الذين يتكلمون. ولكنهم يرون، ويدركون عندما   1 Van Gennep رقم 74 ص265 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يفتحون أعينهم ما يمكن أن تكون عليه المعاملة التي تشترك فيها اللغة بنصيب. فللإجابة على السؤال المتقدم، يجب أن يستطاع النفاذ في شعور كائن إنساني قد بقي بفضل عاهات موروثة معلقا أما العالم الخارجي، أو قد أقصى منذ ولادته إقصاء تاما عن تأثير بني جنسه. الفرض الثاني لا يمكن ذكره ذكره دون الإحساس بسخفه، وإلا فكيف يمكن الحكم على كائنات بشرية بالعزلة عن غيرهم من بني الإنسان ويحرم عليهم على طريقة ما استعمال حواسهم إلى درجة أن يصير مخهم وكأنه يدور في غرفة مظلمة دون أي اتصال بالخارج. نحن نعرف الاختبار الشاذ الذي قام به إبسمتيك ملك مصر كما رواه هيرودوت "حـ2 رقم 2" أراد الملك أن يعرف ما إذا كان الفريجيون أسبق في العالم من المصريين، فأمر بتربية طفلين حدثين في عزلة منذ ميلادهما وحرم أن يسمعا أي كلام. وعند اختبارهما بعد بضعة أشهر وجد أن الطفلين يطلبان الطعام بقولهما "Beyos" ومعناها "خبز" بالفريجية. فاستنتج إبسمتيك من ذلك أن اللغة الفريجية أقدم من المصرية. وكان يمكن أن يستخلص من ذلك أيضا أن ملكة اللغة فطرية في الإنسان. لولا أن تجربة إبسمتيك تعوزها سيما الصدق وروح الجد. هناك اختباران تبدو عليهما منذ الوهلة الأولى صفة الإقناع. وهما التجربتان اللتان أجريتا على طفلين ولدا أصمين كفيفين، وكانا بذلك محرومين من الاتصال بالعالم الخارجي. فكلنا يعرف مثلا حالة الفرنسية ماري هيرتان1 Marie Heurtin أو الأمريكية هيلين كلر2 Helen Keller. حالة هذه الأخيرة لها أهمية خاصة، فقد استطاعت الحصول على درجة كافية من التعليم، مكنتها من قراءة وكتابة عدد من المؤلفات في الأدب والفلسفة بعدة لغات. وإن كتابتها بقدر ما تكون خالية من روح المبالغة التي أسبغها عليها الأشخاص المحيطون بها لتسمح لها باستخلاص دلائل غريبة.   1 Ames en prison: Louis Arnould باريس، الطبعة العاشرة 1919. 2 Die Entwicklung und Erziehung: Helen Keller w. stern einer Taubstummblindeu برلين 1905. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 كانت اللغة عند هيلين كلر نتيجة للتربية. يصف لنا في شيء من التأثر كتاب نشر عنها1 ذلك المنظر الذي توصل فيه بعد عدد من المحاولات الفاشلة إلى إفهامها قيمة العلامة. في ذلك اليوم تمزق الحجاب الذي كان يحول بينها وبين الكون، وتجلى الكون أمام عقلها بتلك الشبكة من العري المعقدة التي تربط الأشياء بالكلمات. لكن فائدة هذا المنظر فردية قبل كل شيء. فهيلين كلر وجدت نفسها خارج الظروف العادية للحياة، فظلت حالتها متسمة بسيما الاستثناء. أما الأولون الذين تكلموا من البشر فلم تتفتح نفوسهم لإدراك العلامة كما وقع لتلك البائسة. فنشوء اللغة عند من حرمته عاهاته حتى ذلك الحين من الاتصال بالعالم، لا يستطيع أن يعطينا فكرة عن التطور الذي حدث في مجتمع من الكائنات العادية في أحضان المجتمع تكونت اللغة. وجدت اللغة يوم أحس الناس بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم. وتنشأ من احتكاك بعض الأشخاص الذين يملكون أعضاء الحواس ويستعملون في علاقاتهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفهم: الإشارة إذا أعوزتهم الكلمة والنظرة إذا لم تكف الإشارة. فالاختبار الذي يمكن إجراؤه، إذا ما أريد استلهام إيسمتيك، هو أن يوضع طفلان أو عدة أطفال بعضهم مع بعض يجهلون جهلا تاما كل شيء عن اللغة بعد إقصائهم إقصاء تاما عن كل مؤثر تعليمي. عندئذ إذا غضضنا النظر عما قد يكون عندهم من استعدادات موروثة، فليس من شك مهما كانت جنسيتهم، في أن يخلقوا بفطرتهم لغة لحسابهم الخاص، وهذه اللغة لن تكون الفريجية، ذلك بأن الحاجة توجه العضو حتما إلى العمل. ولا بد أن الأشياء عند البدء وقعت على هذا النحو. فاللغة وهي الواقع الاجتماعي بمعناه الأوفى، تنتج من الاحتكاك الاجتماعي. وصارت واحدة من أقوى العرى التي تربط الجماعات وقد دانت بنشوئها إلى وجود احتشاد اجتماعي. لم تولد اللغة كحدث اجتماعي إلا يوم أن وصل المخ الإنساني إلى درجة من النمو   1 Les miracles des hommes: Gerard Harry باريس، لاروس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 تسمح له باستعمالها. فلم يتأت لكائنين بشريين أن يخلقا لغة فيما بينهما إلا لأنهما كانا ممهدين لهذا العمل. فحال اللغة حال جميع المخترعات البشرية. كثيرا ما احتدم الجدل حول معرفة ما إذا كانت اللغة الإنسانية واحدة الأصل أم متعددة وهذه مسألة لا طائل من ورائها. ففي اليوم الذي يضيف تقدم الذكاء الإنساني درجة جديدة من الكمال، يحدث الكشف الجديد من ذاته وفي بقاع متعددة في نفس الوقت. فهو منتشر في الهواء كما يقول العلماء ويشعر الإنسان بمجيئه كما يتوقع وقد أقبل الخريف سقوط الفواكه الناضجة في أحد البساتين. من الوجهة النفسية، ينحصر الفعل اللغوي الأساسي في إعطاء قيمة رمزية للعلاقة. هذه العملية النفسية تميز لغة الإنسان من لغة الحيوان1 فمن الزيف أن يقال في المقارنة بين تلك وهذه بأن الثانية لغة طبيعية في حين أن الأولى لغة صناعية توافقية. لغة الإنسان ليست أقل طبيعية من لغة الحيوان، ولكنها من درجة أعلى من حيث إن الإنسان، وقد أعطى للعلامات قيمة موضوعية، جعل هذه القيمة تتنوع بالموافقة إلى ما لا نهاية. الفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان مستقر في تقويم طبيعة العلامة2. والكلب والقرد والطائر تتفاهم مع بنات جنسها، فإن لها صيحات وحركات وأغاني تقابل حالات نفسانية خاصة من الفرح والرعب والرغبة والشهية، بعض هذه الصيحات تلتئم مع بعض حاجات خاصة إلتئاما يكاد يمكن من ترجمتها في جملة من لغة الإنسان، ومع ذلك فإن فصائل الحيوان لا تصدر جهلا3؛ لأنها عاجزة عن تنويع عناصر صيحاتها، مهما بلغت هذه الصيحات   1 Steinthal رقم 207، ص324-358؛ R. M. Heyer رقم 30 مجلد 12 ص307. 2 هذا الرأي قد أوضحه بوسويه إيضاحا تاما، إذ يقول: "يمكن أن تتأثر لغات الحيوان بالصوت باعتباره هواء مدفوعا مثارا، لا باعتبار أنه دال بنظامه على ذلك الذي يسمي كلما وسماعا بمعنى الكلمة". "المنطق ج1، 24"، وقارن Traite de la connaissance de Dieu et de soi-meme فصل 5 الفقرة 5: "أما أن يقرع الصوت أو الكلم الأذن ثم المخ من حيث إنه يثير الهواء، فهذا شيء، وشيء آخر هو أن ينظر إليه على أنه علامة اتفق الناس عليها، وأن يتذكر بواسطته الأشياء التي يدل عليها. هذه الناحية الأخيرة هي التي تسمى سماع اللغة، وليس منها أي أثر عند الحيوان". 3 pseudo-langage: L. Boutan بوردو 1913, "Actes de la societek linneenne de Bordeaux"، وقارن مييه رقم 4 مجلد 18ص177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 من التعقيد، على نحو ما ننوع نحن كلماتنا التي تكون في الجملة عناصر استعاضة. أما بالنسبة لها فإن الجملة لا تتميز عن الكلمة ولكن هناك ما هو أهم من ذلك: فهذه الكلمة نفسها صيحة أكانت أم إشارة، كما يحلولنا أن نسميها، ليست لها قيمة موضوعية. ومن ثم لم تسكن موضوعا للموافقة، وينجم عن ذلك أن لغة الحيوان ليست قابلة للانقلاب ولا للتقدم، وليس هناك ما يدل على أن صرخة الحيوان كانت في الماضي تختلف عما هي عليه اليوم. فالطائر الذي يدفع بصيحة ينادي بها اليد التي تحمل له ورقة من الخس، لا يشعر بصيحته على أنها علامة1. ولغة الحيوان تستتبع نوعا من التلازم بين العلامة والشيء المدلول عليه بها. وينبغي للتخلص من هذا التلازم وحتى تأخذ العلامة قيمة مستقلة عن الشيء أن تكون هناك عملية نفسية، هذه العملية النفسية هي نقطة البدء في لغة الإنسان. كان على مسائل الأنثروبولوجيا أن تنير لنا بعض ما غمض علينا من لغز التطور النفسي في الإنسان فهذا العلم يقرر أن جماجم سكان الكهوف من البشر تشبه جماجم القرود العليا. في الجمجمة التي عثر عليها في "La Chapelle aux-Saints", نرى أن المكان المخصص للتلافيف التي يقرر أنها مركز الكلام ضئيل غاية الضآلة. وإذن يجوز أن يفترض أن نشوء الكلام قام على تطور طبيعي للمخ الإنساني. مثل هذا الفرض لا يلزمنا أن نسلم دون تحفظ بنظرية بروكا Broca المشهورة في تحديد المراكز المخية2. فمن المعروف أن هذه النظرية قد فقدت الكثير من سلطانها القديم، بل أن بعض الحوادث الحديثة قد رأت أن تطعنها في الصميم. ولكن الذي يمكن أن يؤخذ عليها بوجه خاص أنها تبالغ في تبسيط مسألة في غاية من التعقيد. فبروكا، عندما يعين مركز الكلام في التلفيف الثالث من ناحية الجبهة   1 في لغة الطير، انظر الملاحظات القيمة التي كتبها الأستاذ بريال في Revue des revues مجلد 33 عام 1900 ص629-632 "وأعيد نشرها في رقم 4 مجلد 11 ص110-115". 2 عن هذه المسألة، انظر العرض الإجمالي الممتع الذي نشره Dagnan-Bouveret رقم 10 مجلد 16 عام 1908 ص466 وما يليها وراجع أيضا أعمال الدكتور ب. ماري P. Marie وكتاب الدكتور F. Moutier: L'aphasie de Broca باريس 1908 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 اليسارية لا يقرر إلا شيئا تقريبيا بعيدا كل البعد عن الدقة، وبوجه خاص عندما يقول بأن المخ يحتوي على مناطق كبري متميزة تقابل مناطق العقل الكبرى، يخدع نفسه فيما يخص الروابط التي بين اللغة والتفكير. من الزيف أن نتصور أن المخ قد بني على مثال النحو وأنه قد قسم إلى أقسام لكل جزء من أجزاء الكلام قسم منها فجملة الحقائق اللغوية موزعة في المخ، على طريقة أكثر حرية، وأكثر اتساعا مما افترض بروكا. أغلب الظن أن حوادث تعطل الكلام من ناحية الحركة، تلك الحوادث التي ترتكز عليها نظرية بروكا، ترجع عادة إلى خلل موضعي، أما تعطل الكلام من ناحية الحس كما عرفه فرنكه wernicke يفترض غالبا نقصا عقليا عاما، ومنه جهة أخرى غالبا ما يحصل في مثل تلك الحال ظاهرة تعويضية حيث تقوم مراكز مجاورة بوظيفة المراكز التي أصيبت بالخلل. وأخيرا فإن الطبقات الغلافية مرتبة على نحو ما يؤدي إلى أن أي خلل يمكن أن يحدث اضطرابات مختلفة حتى ولو كان في تلفيفة الجبهة اليسري، وذلك على حسب النقطة التي يصيبها الخلل من التلفيف1. وبالاختصار، إذا كانت محلية الكلام لا ينازع فيها من حيث المبدأ فإن تفاصيل التحديد في حاجة إلى إعادة النظر فيها من جديد. إذن يجب الحذر في تفسير المسائل التي تقدمها لنا أنثروبولوجية ما قبل التاريخ فإننا إذا أخذناها على شكل ضيق وأخذنا نقيس جمجمة إنسان المغاور على نحو ما نقيس جمجمة واحد من المعاصرين، تعرضنا لاستنتاج أن صاحب الجمجمة الأولى كان فاقدا للكلام. ومن اليقين أن ذلك يتقهقر بمبدأ تطور اللغة والإنسانية إلى أمد بعيد. ولكن الذي لا شك فيه أن مخ رجل المغاور كان أقل استعدادا للنشاط اللغوي من مخنا. عند هذا السلف البعيد الذي لم يكن مخه صالحا للتفكير بدأت اللغة بصفة انفعالية محضة. ولعلها كانت في الأصل مجرد غناء ينظم بوزنه حركة المشي أو العمل اليدوي2 أو صيحة كصيحة الحيوان تعبر عن الألم أو الفرح وتكشف عن   1 WUNDT رقم 223 مجلد 1 ص494. 2 ARBEIT UND RHYTHMUS:K. BUCHER الطبعة الثالثة ليبرج 1912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خوف أو رغبة في الغذاء. بعد ذلك، لعل الصيحة اعتبرت بعد أن زودت بقيمة رمزية، كأنها إشارة قابلة لأن يكررها آخرون، ولعل الإنسان قد وجد في متناول يده هذه المسلك المريح، قد استعمله للاتصال ببني جنسه أو لإثارتهم إلى عمل أو لمنعهم منه. ولا بد أن اللغة، قبل أن تكون وسيلة للتفكير، كانت في الواقع وسيلة للفعل وواحدة من أنجع الوسائل التي مكن منها للإنسان. وما أن استيقظ في ذهن الإنسان شعوره بالعلامة حتى راح يوسع من شأن هذا الاختراع العجيب، وكان تقدم الجهاز الصوتي يسير بنفس الخطى مع تقدم المخ. وكان يثبت اللغة في داخل الحشود الإنسانية الأولى يسير على نفس القوانين التي تحكم كل مجتمع. وبوجه خاص كان أعضاء كل جماعة يلتزمون في احتفالاتهم الجماعية نفس المظاهرات الصوتية أو الغنائية1. وهكذا كانت عناصر الصياح أو الغناء تصبح مزودة بقيمة رمزية يستبقيها كل فرد في نفسه لاستعماله الشخصي. ثم قليلا قليلا، وبفضل الاتساع المتزايد في التبادل الاجتماعي تكون أخيرا هذا الجهاز المعقد الذي لا يجاري في ثرائه ليكون وسيلة للتعبير عن العواطف والأفكار، عن كل العواطف والأفكار. هذا الفرض تبدو عليه مخايل الصدق وإن لم يكن مما يمكن البرهان عليه. ومن مزاياه أنه يفهمنا كيف كانت اللغة نتاجا طبيعيا للنشاط الإنساني نتيجة لتطابق ملكات الإنسان على حاجاته الاجتماعية2. غير أنه يجب البدء من الشعور بالعلامة. وإذا ما حصل على هذه الحقيقة تتابعت اللغة كلها بطريق التنويعات المتتابعة. إنه لمن المجازفة بعد الذي قيل في الصفحات السابقة أن نعمد إلى تحديد أدق وأن نسعى إلى معرفة الكيفية التي جرى عليها التخالف "Differenciation" والمراحل التي مر بها منذ صيحة الإشارة حتى وسائل التعبير الكثيرة التنوع التي تقوم عليها ثروة لغة كاللغة الفرنسية. ومما يطلب إلى العالم اللغوي، اعتمادا على   1 بورنسكي رقم 146ص38 2 "لما كان الكلام هو النظام الاجتماعي الأول فإنه لا يدين بصورته تلك إلا لأسباب طبيعية" ج. ج. روسو: "بحث في أصل اللغات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الفكرة القائلة بأن كل لغة فيها أجزاء أساسية تتميز عن الإضافات اللاحقة، أن يحدد هذا العالم طبقات اللغات المختلفة وأن يميز منها الأجزاء التي كانت لها الأولية في التكوين. وقد يجازف العالم فيلقي بالجواب في بعض الأحيان. ولكن يجب أن نعترف في شجاعة بأن كل هذه الأجوبة لا قيمة لها. فالطريقة التي تقوم على الانتقال من المعلوم إلى المجهول عاجزة هنا؛ لأن المبادئ التي يبنى عليها تطور اللغات التي نعرفها لا تنطبق ضرورة على لغات كان يتكلمها أفراد تتجه عقليتهم اتجاها يخالف اتجاهنا, ودراسة اللغات تعلمنا أن نشوء اللغات ونموها لا يتم في تتابع منطقي ملتزما في سيره طريقا مستقيما, فمن الخطأ أن نتصور أن الخطة التي بنيت عليها دراسة "البور رويال" النحوية قد فرضت نفسها منذ البداية على العقل الإنساني ليتخذ منها إطارا يملؤه بالتدريج وعن طريق التتابع المنظم. هذا وإنه ليوجد بين العلامة والشيء المدلول عليه بها، بين الصيغة اللغوية ومادة التصوير أي رباط مستمد من الطبيعة، ولكنه رباط مأخوذ من الظروف فحسب. ولقد ساد زمنا طويلا الاعتقاد بأن الحقيقة الأولى للغة كانت تقوم على إعطاء أسماء للأشياء، أي على خلق مفردات. وتلك هي الفكرة التي عبر عنها لكريس Lucrece في بيته الذي كثيرا ما ينشد وهو: Utilitas expressit nomina rerum "إن الضرورة هي التي تخلق المسميات" الذي يعزو فيه بحق اللغة إلى سد الحاجات, وفي القرن الثامن عشر في فرنسا حاول الرئيس دي برس1 De Brosses أن يفسر الصورة الخارجية للكلمات بالمعاني التي تعبر عنها هذه الكلمات. وكان غرضه أن يكتشف للأصوات نوعا من الرمزية، رغم أن الأوليين من البشر استخدموها في خلق كلمتهم. هذا المشروع لا يثير في أيامنا هذه إلا الابتسام. فإن ما هو مهم ليست تسمية الأشياء بهذه الكلمة أو تلك، وإنما هو إعطاء الكلمات بنوع من الاتفاق الضمني بين المتكلمين قيمة اسمية، إنما هو اتخاذها وسائل للتبادل، كما استعيض عن مقايضة الأشياء بعضها ببعض بالنقود أو بالأوراق النقدية.   1 Traite de la formation mecanique de langues باريس 1765, وقارن R. M. Meyer رقم 30 مجلد 12 ص243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بعض علماء اللغة ممن هم أقرب إلينا قد تخيلوا نظريات ذهبوا بمقتضاها إلى أن كل المفردات قد خرجت من صيحة تشبه نباح الكلب أو من سلسلة من الأصوات توحي بتمثيل الأشياء عن طريق المحاكاة1. وكان في هذا الوقت نفسه أن راح العلماء المشتغلون بالفيدا يفسرون كل الأساطير بنار البرق أو مسير الشمس. وكلا الفريقين من علماء اللغة وعلماء الأساطير كانوا في ذلك الحين يعنون بإدراك الأشياء على نحو ساذج. وكانوا يتناقشون لمعرفة ما إذا كانت اللغة قد بدأت بالاسم أم بالفعل: الفعل الذي يعبر عن الحدث والاسم الذي يعبر عن ماهية الأشياء وصفاتها. ولكن مما بدا لنا من الاختلاف بين الاسم والفعل، فإن التعارض بين "قطبي" نحونا هذين ليس أمرا ضروريا، وإلا فماذا يعني نباح الكلب: أيعني "أنا جوعان" أو "أعطني ما آكل" أو "هذا حسن" أو "انتهيت من الأكل"؟ لا هذا ولا ذاك أو كل هذا معا، ويمكننا أن نفسره على السواء بفعل أو باسم بالأمر أو بالماضي وقد بقي، رغم كل ما بذل من جهود بين النباح البدائي وأقدم ما عرف من لغاتنا، فراغ يتعذر سده. وما أغرى العقول بالبحث عن الصور البدائية للغة إلا المقارنة التي كانت تقام بين علم اللغة والعلوم الطبيعية، من جغرافية ونبات وحيوان، وقد جرت هذه المقارنة غير الصحيحة إلى أخطاء مرذولة، فإذا أريد إيجاد نوع معادل للغة وجب البحث عنه على الأصح في التاريخ الاجتماعي. وكان ميشيل بريال Michel Breal مأخوذا بمقارنة تصريف الفعل في اللغة الهندية الأوربية "بتلك النظم السياسية والقانونية الكبيرة -البرلمانات أو مجلس الملك- التي رأت نفسها بعد أن ولدت من حاجة أساسية تتنوع وتمد من سلطان اختصاصاتها حتى حل زمن جديد فوجد هذا الدولاب ثقيلا في مجموعه، فشطر منه جزءا ومزق وظيفته بين عدد متباين من هيئات حرة ومستقلة، وإن كانت لا تزال تشترك في الخطة التي   1 انظر التفاصيل في جسبرسن Jespersen، رقم 134 الطبعة الثانية، ص330 وما يليها وبورنسكي، رقم 146، ص11 وما يليها ثم ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بنيت عليها منذ المبدأ إلى حد ما وبشكل يدل بوضوح على تضامنها القديم"1. هذه المقارنة يمكن أن تطبق على اللغة في عمومها لأن اللغة إحدى هذه النظم ومع ذلك ففي اللغة عناصر أكثر ثباتا وأقل خضوعا للتحكم الإنساني مما في النظم السياسية. وهذه العناصر هي في الواقع الأصوات التي سنبدأ بها هذه الدراسة.   1 رقم 6 مجلد 11 ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الجزء الأول: الأصوات الفصل الأول: المادة الصوتية 1 إن ما يسمى صوتا هو الأثر الواقع على الأذن من بعض حركات ذبذبية للهواء. والذبذبات في اللغة يحدثها الجهاز الصوتي للمتكلم. والعلم الذي يبحث في الأصوات، أو بعبارة أخرى علم الصوتيات، يجب أن يشتمل على ثلاثة أجزاء. الجزء الخاص بإنتاج الصوت والجزء الخاص بانتقاله، والجزء الخاص باستقباله فالإنتاج والاستقبال ظاهرتان متساويتا الأهمية في اللغة إذ أنه يجب لتكون هناك لغة، أن يوجد متحادثان على الأقل وأن يوجد الكلام مقصودا به أن يسمع. هذا إلى أن استقبال الصوت، أو بعبارة أخرى السماع يلعب دورا هاما في انقلابات اللغة، فمن طريق الأذن يحصل كل متكلم نظامه الصوتي ويثبته. فمن الوجهة النظرية لا يمكن أن يستكثر على السماع أي مكان، مهما كبر، يخصص له في دراسة اللغة. ومع ذلك فالواقع أن علم الصوتيات قد حصر مجهوده زمنا طويلا في دراسة إنتاج الصوت. علماء اللغة لا يكادون يشتغلون بالسماع، بل يتركون دراسته إلى علماء وظائف الأعضاء. وهذا التحديد له ما يبرره ففيما يخص اللغة لا يكون للصور السمعية لسامع قيمة إلا إذا كان هذا الأخير جديرا بتحويلها إلى صور محركة ليصير بدوره   1 راجع بصفة عامة مؤلفات رسلو Rousselot وروديه Roudet وبوارو poirot وباسيه passy وسويت sweet وجسبرسن وا. هيلر سكريتير E. wheeler Scripture وفيتور Vietor وجوتزمان Gutzmann وسيفرز Sievers وتروتمان Trautmann. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 متكلما. وبعبارة أخرى يجب أن يكون السامع حائزا بالقوة على ما يحققه المتكلم بالفعل. على هذا الشرط يتوقف وجود الكلام. ويترتب على ذلك أنه يمكن إسقاط الجزء السمعي من اللغة في دراسة الصوتيات ما دام السماع يفترض وجود قوة مساوية من إحداث الصوت عندما يتكلم شخصان لغة واحدة فيما بينهما. فليس هناك في الواقع إلا وجهان من وظيفة واحدة، وحدودها واحدة. نعم أغلب الظن أن تحليل المراكز العصبية يسمح بالتمييز بينهما، ولكن هذا التحليل ليس من اختصاص علم الصوتيات. يظهر أن انتقال الصوت يكون في أيامنا هذه الموضوع الأساسي من دراسة علماء الصوتيات1، فالواقع أنهم أميل إلى الاشتغال بالتموجات، ذلك الميدان الشاسع من البحوث الذي يجنح نحو علم الطبيعة البحتة ولا يمكن الاقتراب منه دون تحضير رياضي متين. ومن هنا اكتسب علم الصوتيات دقة غريبة، فقد أصبحت لديه الوسيلة لتحديد الأصوات بعدد الذبذبات التي تحددها صورها، أما نحن فسنقف هنا عند عادات المدرسة القديمة فنقتصر على دراسة إنتاج الصوت، أعنى التصويت phonation، وعلى وصف نتائج التصويت، يعني "الأصوات". يشتمل جهاز الإنسان الصوتي على الأجزاء الرئيسية الآتية: منفاخ، هو الرئتان، وقناة صوتية هي القصبة الهوائية، وهي مغلقة من طرفها الأعلى بواسطة تضخم مزدوج، وهو ما يسمي بالأوتار الصوتية، أو فتحة الحنجرة Glotte بالاختصار، فهو آلة هوائية، آلة ذات مبسم مزدوج. ويبدو من نظام الحنجرة سمو الجهاز الإنساني على جميع الآلات الأخرى. والأوتار الصوتية على جانب من المرونة لا يصل إليها مبسم المزمار الموسيقي الذي هو صلب بالضرورة. وتستطيع هذه الأوتار، بفضل نظام للحركات لطيف التدبير يدبر عدة أزواج من العضلات، أن تأخذ أوضاعا مختلفة. فيمكن إبقاؤها مغلقة أو فتحها فتحا تاما أو شبه تام   1 انظر خاصة رسلو رقم 115 وبوارو رقم 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وجعلها تذبذب كلا أو جزءا والتعديل من مقدار توترها. ومن هنا تنتج تنوعات المصادر التي يغترف منها التكلم. ومع ذلك فإن هذا الجهاز الصوتي يكون ناقصا لو أنه كان مكونا من الحنجرة وحدها، وما كان يستطيع في هذه الحال أن يسمع إلا الحركات ويسمعها على درجة من التخالف أقل بكثير مما ننطقها به عادة. الواقع أن التيار الهوائي الذي تدفعه الرئتان يحدث الصوت بذبذبة للأوتار الوصتية. ولما كانت الذبذبات تستطيع الاستمرار بقدر ما تسمح به كمية الهواء المختزنة1 وكان يمكنها من جهة أخرى تغيير الصوت من حيث الإشباع Amplitude والقوة Force، كان للصوت إذن ثلاث صفات مميزة وهي: الطول Dureee والحدة الموسيقية Hauteur Musicale والشدة intensite كما أنه يختلف هو نفسه تبعا للحركات، من حيث أن حركة العضلات تسمح بارتفاع فتحة الحنجرة وانخفاضها بحيث تطيل القناة الصوتية أو تقصرها. ولكن التكملة اللازمة للجهاز الصوتي تأتيه من التجاويف التي تفتح عليها الحنجرة، أعني تجاويف الحلق pharynx والحفر الأنفية وخاصة تجويف الفم. وجوانب هذه التجاويف جميعها، وهي مطاطة إلى حد كبير، تقوم للصوت مقام فراغ زينني فتخلع عن كل صوت طابعه الخاص. ويوجد في هذا التجويف الرنان أعضاء مرنة قابلة للسحب تستطيع أن تعدل أبعاده وتغير من طاقتهن فعندنا أولا غشاء سقف الحلق ويستطيع أن يغلق الطريق المؤدي إلى الحفر الأنفية فيمنع حدوث أي رنين من هذه الناحية، ولكن اللسان بوجه خاص هو الذي يلعب مع الحنجرة الدور الرئيسي في التصويت. فعند إصدار الحركة "a" أي الفتحة يكون اللسان على وجه التقريب مسجي في الفم في وضع مسطح، ولكن عندما يدور الأمر من حول حركات أخرى، يغير اللسان من وضعه ليكون الرنين المناسب لكل منها. فتارة يتقدم إلى الأمام ويرتفع ليقلل من سعة الجزء الخلفي من الفم،   1 Roudet؛ De la depense d'air dans la parole et de ses Consequences phonetiques رقم 7 المجلد 2 عام 1900 ص201-230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وتارة يرجع إلى الخلف مقللا من سعة الجزء الأمامي. في الحالة الأولى يصير اللسان عامل الرنين للحركات المسماة بالحركات الخلفية أو حركات أقصى الحنك وهي، ابتداء من a؛ e مفتوحة وe مقفولة وi مفتوحة وi مقفولة. وفي الحالة الثانية تنتج الحركات المسماة بالحركات الأمامية أو حركات مقدم الجنك. أعني، ابتداء من a أيضا o المفتوحة وo المقفولة وu المفتوحة وu المقفولة1. في كل واحدة من السلسلتين، الخلفية والأمامية، نرى أن الـi والـu هما أكثر الحركات انفتاحا، وهما الحركتان اللتان فيهما يصل وضع اللسان إلى أقصى حد في الارتفاع، أي إلى أقرب وضع من غشاء الحنك. أما الـa فهي أكثر الحركات انفتاحا. هذا إلى أنه يوجد لكل حركة أنواع مختلفة الطابع تقابل عوامل الرنين المتباينة وتتبع أوضاع اللسان المتنوعة. فالـa في فرنسية باريس تنطق على صور ثلاث من اليسير على الأذن أن تفرق بينها: فنحن ننطق a مقفولة في pate وa مفتوحة في patte ومتوسطة في Corotie. ليس اللسان وحده هو الذي يلعب دور تكوين عامل الرنين الخاص بكل حركة إذ لا ينبغي أن ننسى الشفتين اللتين يختلف وضعهما مع كل حركة. وهناك منظر مشهور من مناظر مسرحية موليير "النبيل البرجوازي". "Bourgeois Gantilhomme" يعلمنا في شيء كثير من الدقة أوضاع الشفتين عند إصدار الحركات. وفقرة لديني داليكرناس Denys d'Halicarnasse ترينا كيف كان الإغريق يعرفون في هذا الصدد بقدر ما عرف معاصرو موليير، وإن لم يكن الإغريق من المبرزين في الصوتيات. والواقع أنه يلاحظ أن الشفتين، عند ما تنطق بالـu تمتدان إلى الأمام وتستديران كما في حالة "التبويز", وعند نطق الـi تنفرج زاويتا الشفتين لترجعا بهما إلى الوراء. هذان هما الوضعان المتطرفان، وبينهما أوضاع تقابل نطق الـo "مفتوحة أو مقفولة" والـe "مفتوحة أو مقفولة". وقد استفادت اللغة من وجود الأوضاع الشفوية   1 يرسم هنا "U" على حسب المتبع في الصوتيات، ما يكتب بالفرنسية "ou" أي الضمة الصريحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والأوضاع اللسانية معا لخلق سلسلة مركبة منهما، هي سلسلة الـeu. فتركيب الوضع الذي يتخذه اللسان في نطق الحركات الخلقية "i, e, e", وبالوضع الذي تتخذه الشفتان في الحركات الأمامية "u, o, o", يمكن إلى حد يكون مضبوطان من النطق بالأصوات الفرنسية الثلاثة eu مفتوحة في "beurre" وeu مقفولة في "queue", وu في "flute"، وهذه الأخيرة ترسم في الكتابة الصوتية على العموم u. وتختلف أنواع الحركات من لغة إلى أخرى اختلافا كبيرا، فالإنجليزية مثلا لا يكاد يكون فيها حركة واحدة تشترك فيها مع الفرنسية. تقسم الأصوات عادة إلى سواكن وحركات. هذا التفريق يمكن تبريرة من الوجهة العملية بتعريف المقطع "انظر الصفحة الرابعة من الفصل الثالث"، ومع ذلك فإن نفس الأصوات يمكن أن تلعب في المقطع دور الساكن أو دور الحركة على السواء وإذا كان بين الاثنين فرق في الوظيفة، فليس بينهما في الواقع أي فرق في الطبعية، والحد الذي يفرق بينهما ليس حدا فاصلا. فالسواكن والحركات تكون جزءا "من سلسلة طبيعية ولا يتضح الفرق بين عراها بجلاء في طرفيها". في أحد طرفي السلسلة توجد الحركات a أو e أو o على نحو ما عرفناها، وفي الطرف الآخر توجد السواكن الانفجارية p وt وk. هذه السواكن ليست إلا نوعا من الضوضاء؛ وتقوم على أن الهواء يتوقف مؤقتا بفعل عقبة تصادفه لدى عبوره. والعقبة توجد في الفم على وجه العموم، وتكونها الشفتان أحيانا وطرف اللسان تارة وظهر اللسان تارة أخرى، ففي الحالة الأولى يكون الانفجار شفويا وفي الثانية أسنانيا وفي الثالثة حلقيا. ولكن هناك من الانفجارات أيضا ما تكون نقطة نطقه في أقصى الفم: وهي أصوات من وسط الحلق أو من أدناه أو من أقصاه. ولما كان إغلاق الفم يقع في نقطة انطباق واحدة لا تتغير، لم يكن هناك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 انغلاقي شفوي إلا واحد فقط صامت، ومن ثم كانت الباء p من حيث نقطة الإغلاق واحدة في كل اللغات إذا استثنينا الاختلافات في القوة. أما طرف اللسان فتحرك على العكس من ذلك، وظهر اللسان يستطيع أن يتنقل على طول امتداد الحنك الصلب والحنك الرخو. فهناك إذا مواضع تماس متنوعة، ويمكن أن تتصور، تبعا لنقطة الإغلاق، عدة أنواع من الأسنانية والحلقية. وفي غالب الأحيان ينطبق طرف اللسان على الأسنان العليا، ولذلك يسمى الساكن الذي ينتج على هذا النحو أسنانيا، كما هي حال التاء العربية و"t" الفرنسية. ولكنه يستطيع أن يرتكز أيضا على أصول الأسنان، كما هي الحال بالنسبة للأسناني الإنجليزي "t" في take وفي tire الذي هو من أصول الأسنان. وأخيرا يمكنه بشيء من التقلص أن يمس سقف الحنك، فنحصل على ما يسميه بعض علماء اللغة بالقمية Cacumiales أو المخية Gerebrales وما هي إلا فروع من الأسنانية كتلك التي تخرج من أصول الأسنان. أما ما نسميها بالحلقية فإنها تتضمن فروعا أكثر من تلك عددا، إذ يكفي أن تمس أي نقطة من ظهر اللسان أي نقطة من سقف الحنك حتى نحصل على صوت حلقي. فإذا حصل الانفجار على جزء الحنك الصلب، حصلنا على واحد من أدنى الحنك "الكاف k في الكلمة الفرنسية qui"، وإذا وقع على الحنك الرخو في اتجاه الغشاء الحنكي حصلنا على واحد من أقصى الحنك كالكاف k الألمانية في kuh. وأصوات أقصى الحنك وأدنى الحنك تشمل عدة فروع، فيمكننا أن نميز مثلا بين الأصوات الحنكية الأمامية والحنكية الخلفية، بحسب ما إذا كانت نقطة التماس متقدمة قليلا أو كثيرا بالنسبة للحنك الصلب. بعد أن عرفنا نقطة التماس على هذا النحو، لنبحث الآن آلية الانفجار. يطرد الهواء من الرئتين، فيعبر الحنجرة وهي مفتوحة ساكنة، وينفذ إلى التجويف الحنكي حيث يوقف فجأة عند الشفتين أو عند الأسنان أو في الحنك على النحو الذي وصفناه. ثم فجأة يكف التماس، ويستطيع الهواء أن يستمر في مسيرة نحو الخروج. ففي كل ساكن انفجاري إذن ثلاث خطوات متميزة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الإغلاق أو الحبس، والإمساك الذي قد يكون طويل المدى أو قصيره والفتح أو الانفجار1 عند إصدار ساكن بسيط مثل التاء t فإن الانفجار يتبع الحبس مباشرة، والإمساك يضؤل إلى مدى لا يكاد يحس. وعلى العكس من ذلك، تظهر الخطوات الثلاث بوضوح فيما يسمى بالسواكن المضعفة، وهي ليست إلا سواكن طويلة، كما أنها تنطق بقوة أشد مما في حالة القصيرة. فإذا تركنا مسألة الشدة جانبا وجدنا أن مجموعة مثل "atta أتا" تتميز عن المجموعة "ata أتا" بوجود مسافة بين الحبس والانفجار يمكن للأذن أن تقدرها. ومن الخطأ أن يقال بأنه يوجد ساكنان في أتا atta وساكن واحد في ata أتا، فالعناصر المحصورة بين الحركتين في كلتا المجموعتين واحدة: عنصر انحباسي يتبعه عنصر انفجاري. ولكن بينما نجد العنصر الانحباسي في ata يتبعه العنصر الانفجاري مباشرة، نجده في atta ينفصل عنه بإمساك يطيل مدى الإغلاق. الفرق بين عنصري الانحباس والانفجار يكون محسوسا عندما يكون هناك انتقال في نقطة التماس. لنتصور أن طرف اللسان اعتمد على الأسنان في لحظة مرور الهواء، ولكن ظهر اللسان انطبق فجأة -بعد أن تم الإغلاق- على الحنك ليحصل الفتح وهو في هذا الوضع، في هذا الحال نحصل على تاء t انحباسية وكاف k انفجارية أي على المجموعة tk تك، في atka مثلا. وبالعكس إذا حصل تماس أولا بظهر اللسان واعتمد طرف اللسان على الأسنان في أثناء الانفجار، فإننا نحصل على كاف k انحباسية تتبعها t انفجارية كما في المجموعة أكتا akta. ويمكننا مما سبق، أن نحكم على الفرق الذي يفصل بين حركة مثل الفتحة a وبين ساكن مثل التاء t. من جهة وظائف الأعضاء، لا يوجد اشتراك بين هذين الصوتين إلا في كونهما ناتجين من هواء مدفوع من الرئتين. غير أنه يوجد بين هذين الطرفين من سلسلة الأصوات مكان لكثير من الأصوات الوسطى.   1روزابلي valeur relative de limplsion et de l'explosion: Rosapelly dans le consonnes occlusives رقم 6 مجلد 10، ص327-363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 لنتصور أولا أن الإغلاق غير محكم وأنه يسمح للهواء بمنفذ مهما كان ضيقا، فبدلا من أن نحصل على انفجاري أي موقت فإننا نحصل على رخو أو احتكاكي spirante الذي يسمى أيضا احتكاكيا Fricative لأنه يتميز بضوضاء احتكاك. لم يعد الأمر هنا يدور حول الباب المغلق الذي يفتح فجأة ليسمح للهواء المختزن بالمرور، بل هو الباب الذي يظل على معارضته ويسمح للهواء بالصفير. وبالطبع تسمح الاحتكاكيات بجميع نقط النطق التي للانفجارية، ففي كل نقطة من نقط التماس التي تنتج فيها هذه الأخيرة يمكننا أن نتصور انغلاقيا مقابلا طالما تدع الشفتان أو طرف اللسان أو ظهره منفذا لتسرب الهواء. وهناك انغلاقية أسنانية شفوية "الفاء f الفرنسية" وأسنانية "السين s الفرنسية" ومن أصول الأسنان "الثاء الإنجليزية th في thick وThank" وحنكية مثل "ch الألمانية في ich" ومن وسط الحنك Medio-palatale "الشين Ch الفرنسية في Cheval" ومن أقصى الحنك Velaire "مثل الخاء ch الألمانية Buch", مع كل الفروع التي تحتملها الاختلافات في الوضع. وهناك أيضا في أقصى التجويف الحنكي احتكاكيات أو حلقية أو من أدنى الحلق أو من الحنجرة مثل العين العربية. وتوجد سلسلة من الأصوات اللغوية المتوسطة بين الانفجارية والاحتكاكية، وهي ما تسمى شبة الانفجارية semi-occlusives أو بعبارة أوضح الانفجارية الاحتكاكية affriquees وتتميز بالإغلاق الذي لا يستمر إحكامه. وفيها كما في الانفجارية حبس، ولكن هذا الحبس تتبعه حركة خفيفة من الفتح، بحال يجعل الانفجاري ينتهي بالاحتكاكي. فالانفجاري الاحتكاكي affriquee انفجاري فاشل. بعض اللغات يكثر من استعمال الانفجارية الاحتكاكية، ويمكن رسمها صوتيا هكذا بف pf وت ts ك kch وقد بقي هذان الأخيران في لهجات ألمانية الجنوبية زمنا طويلا، ويمكن حتى الآن أن نسمع بوضوح الـ"ك" kch في الألمانية المتكلمة في بفاريا وسويسرا. وإننا مع الانفجارية الاحتكاكية، بل حتى مع الاحتكاكية، ما زلنا بعيدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 جدا عن الحركات. ومع ذلك فإنه لما كانت احتكاكية والحركات تشتركان في المدة، كانت المسافة بينهما أقرب من المسافة التي بين الحركات وبين الانفجارية، إذ يمكننا إطالة الفاء F والسين s والشين ch كما نشاء على قدر ما تسمح به الرئتان. ولكن هناك وسيلة لتقريب ما بين الحركات وبين الانفجاريات أو الاحتكاكيات أو الاحتكاكيات الانفجاريات: وذلك بأن نمدها بالرنين. لقد افترضنا حتى هنا بقاء الشفتين والحنجرة في حالة سكون عند إصدار الساكن. لذلك لم نحصل إلا على سواكن صامتة يعنى مجردة من الصوت "Voix" "stimmlos, unvoiced كما يقول الإنجليز والألمان". ولكن لندع. الأوتار الصوتية تتذبذب كما تفعل في الواقع، لكي نزود الحركات بالصوت فعندئذ نحصل على سواكن مجهورة "stiminhaft, voiced". فالفرق الذي يميز المجهورة من المهموسة أنه عند إصدار الأولى تكون الأوتار في حالة ذبذبة، مع التساوي في غير ذلك من الأشياء. ونحس هذا الفرق بكل يسر عندما ننطق على التتالي الانفجارات p "ب" وb "ب" أو t "ت" وd "د" أو k "ك" g "ج" أو -وذلك أحسن دلالة- الاحتكاكيات "ف" f وV "ف" أو "س" s, و"ز" z أو ش ch و"ج" J. وإذا راعى الإنسان أن يسد أذنيه، عند النطق، فإنه عندما يصل إلى المجهورة يسمع الرنين الذي تنشره الذبذبات الحنجرية في تجاويف الرأس. بالطبع كل السواكن التي عددناها حتى الآن من انفجارية وانفجارية احتكاكية واحتكاكية، تقبل الجهر. فإذا ما حسبنا حساب السواكن الممكنة، وجب أن نضاعف عدد تلك التي ذكرناها في القائمة بإضافة المجهورة إلى المهموسة. نصل الآن إلى سلسلة من الأصوات اللغوية وسط بين السواكن والحركات تسمى عادة أشباه الحركات "حروف اللبن" لهذا السبب. ويمكن أن نسميها بالعبارة المعكوسة شبه السواكن، لأن المسألة مسألة حركات مشوبة بعناصر سكونية أكثر منها مسألة سواكن مزودة بالجهر. في قائمة الحركات المذكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 في الفصل الخاص بالفصائل النحوية، اعتبرت الحركات u "الضمة" وi "الكسرة" وu "الضمة المشمومة الكسر" حركات مقفولة تتميز بأن اللسان عند نطقها يرتفع في الفم "إلى الخلف أو إلى الأمام على حسب الأحوال" مقللا من المسافة التي تفصله عن الحنك، وذلك ليكون عامل الرنين الخاص بها. وينتج من ذلك أن إصدار الضمة "u", والكسرة "i" والضمة المشمة الكسرة "u" تصحبه ضوضاء احتكاك ناتجة من مرور الهواء بين اللسان والحنك، وضوضاء الاحتكاك تلك عنصر سكوني. وهي على وجه التأكيد أقل ظهورا عند إصدار هذه الحركات الثلاث منها عند إصدار أحد الاحتكاكيات المجهورة، ولكنه مع ذلك يصير محسوسا إذا قورنت الحركات u أو i بالحركة a "الفتحة". وعلى كل حال، هناك وسيلة لسماعها وذلك بأن تنطق على التوالي الحركات المختلفة موشوشة. ففي الكلام الموشوش الذي ليس فيه رنين وبالتالي يخلو من الجهر "الصوت Voix"، يصير كل شيء إلى هذه الضوضاء البسيطة1 ولذلك تكون الفتحة "a" في مثل هذه الحال أقل الحركات سماعا، بينما نرى الضمة "u" والكسرة "i" والضمة المشمة "u" تسمع بيسر بفضل العنصر السكوني الذي تشتمل عليه. وكثيرا ما تستخدم اللغة هذا العنصر السكوني لتجعل من الضمة "u", والكسرة "i" والضمة المشمة "u" سواكن. والصوت هو هو دائما ولكن في استعمالين مختلفين. والساكن الذي يقابل الكسرة "i" والضمة "u" يرمز له عادة بالياء "y" والواو "w", ونجده في الفرنسية في yeux "عيون" وmilleur "أحسن" وoui "نعم" وouate قطن. أما الساكن من الضمة المشمة "u"، وهو نادر، فليست له علامة خاصة: ويوجد في الفرنسية في cuire "ينضج أو جلد" lui "إليه وturer صيغة المصدر من قتل" وpuiser "استقى". ويعد في طائفة شبه الحركات أيضا اللام والراء I,r المائعتين، والأخيرة منهما   1 انظر، عن الصوت الموشوش، بول ألفييه paul olivier، رقم 7 سنة 1799، ص20 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تدعى أحيانا بالمتذبذبة، وهي تسمية أكثر دقة من الأولى. فهما ساكنان لهما نقطة نطق محدودة في الفم وتعتمد على وضع ما للسان ويمكن أن تصحب أولا تصحب بذبذبات حنجرية تنتج الجهر. وهما مجهوران أغلب الأحيان، غير أنه يوجد في بعض اللغات لامات وراءات مهموسة "صامتة" اللام المائعة حرف جانبي "حافي" وتتميز بأن طرف اللسان يرتفع في النطق بها حتى يعتمد على الحنك وتنخفض حواف اللسان الجانبية بطريقة تسمح للهواء أن يمر من جوانبه. فيرى من هذا أن بينهما وبين الأسنانيات نقطة اشتراك. والواقع أن الحركة التي يقوم بها طرف اللسان واحدة بالنسبة للام والدال في الفرنسية. وهناك نوعان آخران من اللام المبللة mouillee وتتميز باستعلاء الجزء الأمامي من اللسان نحو الحنك الصلب، والأخرى من أقصى الحنك وفيها يتحدب الجزء الأوسط الخلفي من اللسان في شكل ملعقة من جهة الحنك الرخو. واللام التي في أقصى الحنك كانت توجد في اللاتينية، وهي مستعملة في اللغات السلافية حتى الآن. والراء المائعة ترجع إلى ذبذبة في الأجزاء المطاطة التي يشتمل عليها التجويف الحنكي وإلى ذبذبة اللسان أولا وقبل كل شيء. وهناك الرأء الأسنانية الناتجة من ذبذبة طرفي اللسان، والراء الحلقية التي فيها ظهر اللسان هو الذي يقوم بالذبذبة. وهذه الراءات لها بالطبع نفس التفرعات التي للأصوات الانفجارية الأسنانية والحلقية. وأخيرا هناك الراء التي من اللهاة الناتجة من تذبذب اللهاة، وهي الراء المسماة بالدسمة "grasseyee"، وأحد الأصوات التي يصعب إنتاجها على من لم يستحوذ عليها بالطبيعة. والراء الأسنانية هي الراء في الإنجليزية الحديثة: ونقطة نطقها، كما هي الحال في كل الأسنانية الإنجليزية، في أصل الأسنان. بعدما تقدم من وصف، يمكن الحكم بأن الحرفين المائعين لهما كل صفات السواكن، والواقع أن المائع في الكلمات loquet, crapaud, claquer, tarin, milan, article, rateau, يلعب الدور الذي يلعبه الانفجاري في الكلمات: taquin, mitan, tect, aptitude, bateau, coquet. ولكن وضع الفم في إصدار اللام والراء يقتضي إيجاد عامل رنين كما في حالة الحركات، هذا إلى أن الموائع ليست من الأصوات التي يمكن إطالتها وعندما تحتوي على الجهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وهي الحالة العادية، يمكن استعمالها استعمال الحركات لتكوين المقطع. ففي الكلمتين الألمانيتين, Loffel, Acker لا يكاد المقطع الأخير يحتوي غير اللام والراء اللذين يلعبان فيه دور الحركة. وبعض اللغات التي تستعمل الراء على أنها حركة مثل التشيكية إنما ترسمها بعلامة الراء الساكنة مثل krk "رقبة" وpst "أصبع" وvrch "قمة". الأصوات التي تكلمنا عنها حركات كانت أم سواكن، قابلة لاستعمال آخر هو استعمال العنصر الثاني من حرف اللين المستعمل استعمال الساكن أو ما يسمى diphtongue "الحركة المركبة". وما يسمى بالحركة المركبة هو الجمع بين حركتين في مقطع واحد، ولكن الحركتين لا يستويان قيمة في هذا الركب، إذ يحتوي حرف اللين هذا diphtongue على عنصر قوي وعنصر ضعيف هو الثاني عادة. والحركتان المقفولتان الكسرة i والضمة u أصلح من غيرهما للقيام بدور العنصر الضعيف، أي العنصر الثاني. وهكذا فإن ما يلي الحركة في آِ1 ي ey واُي Oy وآي ay آِو ew وأو ow وآو aw ليس من الحركات ولا من السواكن بمعنى الكلمة، بل عنصر من المركب diphtongue وبعض اللغات الهندية الأوربية تدل على أن دور العنصر الثاني من هذا المركب يتميز عن دور الحركة أو دور الحرف الساكن. وهذه اللغات نفسها قد أتاحت في نفس الوقت للام والراء المائعتين أن يستعملا كعنصر ثان للمركب: فاللتوانية حتى أيامنا هذه قد احتفظت للـ "آِر" وا آِل "er, el" بنفس المعاملة الخاصة بالـdiphtongue وهي نفس المعاملة التي على المركبين آِي ey وآِو ew بالضبط2. وآخيرا هناك فصيلة هامة من الأصوات اللغوية لم تقل عنها شيئا حتى الآن، وهي الأصوات الأنفية nasales "أو أصوات الغنة"، إذ أنه قد افترض في كل الأوصاف المتقدمة أن يبقى حجاب الحنك لاصقا بقمة القبو، أي أنه بالتالي يمنع تسرب الهواء إلى الخفر الأنفية. غير أن حجاب الحنك يمكن له أن يسقط نحو   1 المقصود بالفتحة والكسرة الدلالة على الإمالة. 2 مييه رقم 94 ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قاعدة اللسان، وحينئذ ينفذ الهواء المدفوع من الرئتين إلى الحفر الأنفية، فينصرف من الأنف كما ينصرف من بين الشفتين. والواقع أن الإغلاق التام نادر التحقق، بل حتى إنتاح الحركات التي تكلمنا عنها حتى الآن ينطوي على السماح لكمية ضئيلة من الهواء بالنفاذ إلى الحفر الأنفية. غير أن اللغة تستخدم الفتح الكامل لإنتاج ما يسمى بالحركات الأنفية. كل الأصوات اللغوية التي ذكرت سابقا سواء أكانت حركات أم سواكن، ما عدا بعض المستثنيات الناجمة من طبيعة الأعضاء، لها فروع أنفية. وعندما يبقى حجاب الحنك هابطا أثناء إصدار الصوت اللغوي، دون أن يعتري عملية النطق أي تغيير أو أن يعدل اللسان عن وضعه، فإننا نحصل على صوت أنفي ساكنا كان أم حركة. وكل فرنسي على معرفة كافية بالحركات الأنفية، بفضل لغته القومية التي تملك عددا عظيما منها. فالأشياء التي نرسمهاan, on, in , un, إنما تمثل أصواتا مفردة وقد أضيف إلى الطابع الخاص بكل حركة منها أنواع من الرنين الأنفي. فمعنى كون الحركة أنفية أن حجاب الحنك يبقى عند الإصدار هابطا وأن جزءا من الهواء الخارج من الحنجرة يتخذ طريق الحفر الأنفية. ومن الخير أن نلاحظ أن الحركات الأنفية an, in, un رغم الكتابة، لا تقابل بالضبط الحركات a "فتحة" وi "الكسرة" وu الضمة المشمة الكسرة" بل تقابل o, e, eu على التوالي. هذه الآلية نفسها تستخدم لإنتاج السواكن الأنفية. وكل السواكن يمكن أن تصير أنفية: فنحن نعرف في بعض اللغات فاءات v ولامات l وراءات r أنفية ولكن يحتفظ عادة بمصطلح الأنفية للانفجاريات المجهورة المصحوبة بأنواع من الرنين الأنفي: فعندما يبقى حجاب الحنك هابطا في أثناء انفجار الباء b أو الدال d أو g ترانا نحصل على الأنفيات م "m" ون "n" والنون المغنة ن n "وتكتب gn في الفرنسية"؛ هذه الأصوات اللغوية يمكن إطالتها ولكن الهواء في هذه الحالة لا يخرج إلا من الأنف بالطبع لما كان الانفجار الحنكي يمنع من مرور الهواء. يوجد من الأنفيات بقدر ما يوجد من الإنفجاريات المجهورة. أما تلك الأنفيات التي تقابل الانفجارية المهموسة والتي تعد ممكنة الوقوع من الوجهة النظرية فلا تستعمل في الواقع إلا نادرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رأينا أن الأنفيات، وهي قابلة للمدة ومزودة بالصوت voix "مجهورة"، تستدعي رنين الحفر الأنفية: أي أنها مستعدة لأن تقوم بدون الحركات أو المائعات على السواء. والواقع أن هناك عددا من اللغات التي تملك حركات أنفية، ونحن نعرف أنها كانت موجودة في اللغة الأوروبية. واليوم نستطيع أن نسمعها بوضوح تام في المقطع الثاني من الكلمات الألمانية ATEM, BIETEN. ومن جهة أخرى، كانت الهندية الأوربية تستعمل النون N والميم M الأنفيتين استعمال العنصر الثاني في المركب، فكانت تعامل مثلا on om وen em كما كانت تعامل oi ou وeu ei، واحتفظت الإغريقية القديمة في نبرها بآثار من هذا الاستعمال، وتستطيع اللتوانية حتى يومنا هذا أن تمدنا ببعض الأمثلة1. الأنفيات تزيد زيادة محسوسة في قائمة الأصوات التي يصدرها الجهاز البشري. ومع ذلك فإننا لم نصل بعد إلى خاتمة الحساب. ومما يجعل قائمة الأصوات الممكنة لا تكاد تحد أن العناصر التي تكونها عناصر تغيير إلى حد كبير، وهي مزودة بكثير من أوجه الخلاف. فالحركة تنطق على نغمة معينة وتستمر مدة معينة. فهناك الحدة والشدة والكمية وهي تسمح بمضاعفة وجوه الاختلاف في حركة. وكما يمكن أن يوجد عدد من الكميات في كل لغة، وبما أن الدرجة والشدة تسمحان بتنويع التنغيم والجرس، فإن هذه التشكيلات المختلفة تحمل في نفسها مبادئ تنويع أخرى يتضاعف عددها2. لعبت الكمية في اللغات الكلاسيكية دورا يستطيع النظم "VERSIFICATION" أن يعطينا فكرة عنه، ونقول مثل ذلك في السنسكريتية أيضا. أما عن الحدة.   1 مييه رقم 94 ص89. 2 فيما يختص بالكمية والحدة والشدة وعلاقة بعضها ببعض في اللغات السلافية والبلطية: انظر خاصة الدراسات المفيدة فرديناند دي سوسير، رقم 6، مجلد 8 ص425، ورقم 30 أنز، مجلد 6 ص157، وجوتيو رقم 6 مجلد 11 ص336، وانظر أيضا قورتيناتوف رقم 27 مجلد 22 ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الموسيقية فلدينا منها أمثلة بينة في لغات الشرق الأقصى، حيث يكفي الجرس وحده في تميز المعاني والقيم التي تؤديها بعض الكلمات مع اتفاقها في الأصوات. فحين نرى أحد المقاطع مثلا في الصينية ينطق بست نغمات مختلفة أو بستة وجوه مختلفة الجرس، فمعنى هذا أن المقطع يدل على ستة مسميات مختلفة. أما في اللغة الأنامية1 فالتنوع أوسع من ذلك: فقد أمكن أن يعد للمقطع "كو CO" خمسة عشر وجها من النطق مختلفة، تقابل دلالات يباين بعضها بعضا كل التباين2. هنالك أيضا تنوعات أخرى ممكنة حتى في تكوين عامل الرنين الخاص بكل حركة. فهناك البدء الشديد "attque dure" الذي يسميه الألمان faster einsaltz والبدء اللطيف المسمى attaque douce وعند الألمان leiser einsaltz والفرق بينهما ينحصر في الطريقة التي يجري عليها انفتاح الحنجرة عند إصدار الحركة المبدئية. ففي حالة البدء الشديد تفتح الحنجرة فجأة وتعزل الحركة عن كل ما تقدمها، وهذا هو المسلك المعتاد عند ألماني الشمال. وهو ذو طابع مميز حتى أنه يكفي لتمييز نطق الألماني من نطق الفرنسي والإنجليزي اللذين يمارسان البدء اللطيف. ويستعمل أحد علماء الصوت الإنجليز وهو Ellis تشبيها جميلا للإشعار بهذا الفرق: وصول النور في غسق الصباح يكون تدريجيا غير محسوس حتى ليستحيل تعيين النقطة التي عندها ينتهي الليل ويبدأ النهار، هذا هو البدء اللطيف في الحركات. أما إذا فتحت أبواب النافذة فجأة عند الظهيرة، فإن ضوءا قويا يندلع في الغرفة حتى يغمرها في لحظة واحدة، ذلك هو البدء الشديد. بل إن هذا المسلك ليس مقصورا على انفتاح الحنجرة. فبعض اللغات مثل الدنمركية يستعمله أيضا عند الإغلاق. هنالك لا يحصل الارتخاء أو الصدمة "choc" كما تسمى Stoss بالألمانية, Stod بالدنمركية إلا في نهاية الحركات بعد أن يتم الإصدار. وقد نعثر في الدنمركية على كلمتين مثل Anden "ذكر البط" وAnden "الآخر"، لا يختلفان فيما بينهما إلا بوجود stod أو عدم وجودها. وبعض اللهجات الإنجليزية، ولا سيما اللهجة المتكلمة في أسكتلنده، تقدم لنا   1 كاديير Cadere رقم 58 ص79 وما بعدها. 2 جرامون رقم 6 مجلد 16 ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 كذلك أمثلة حسنة على ما يسمونه "glottal stop" أي التوقف الحنجري1. نطق السواكن أيضا يحتمل اختلافات هامة جدا غير تلك الناشئة من الاختلاف في حركات الجهاز الصوتي التي تكلمنا عنها فيما سبق. ونوعان منها على الأقل يستحقان الذكر هنا. تلك التي تنتج من المجهود العضلي وتلك التي تتوقف على درجة انفتاح الحنجرة. يجب أن ينفق الكثير من الجهد للوصول لإنتاج الحركات التصويتية في كل اللغات بقوة عضلية واحدة. ففي بعضها يقل المجهود إلى حد ضئيل، فيتسلل الكلام مستمرا هادئا في تعادل متصل. وفي بعضها على العكس من ذلك، يوجد احتجاز عضلي يعطي للسماع طابع العنف وتتخلله أنواع من الاسترخاء المفاجئ ومواقع الوزن والاصطدام. وفي داخل كل لغة، تتطلب بعض الأصوات اللغوية توترا عضليا أشد من غيرها. هذه الحقيقة قد لفتت نظر الإغريق القدماء، فجعلتهم يميزون في سواكنهم بين اللطيفة والقوية. وعلى العموم، فالفرق في الشدة مرتبط بالتضاد الذي بين المجهورات والمهموسات. كانت تلك الحال موجودة في الإغريقية القديمة، وتلك هي الحال في الفرنسية حيث نجد السواكن الثلاثة بـp وت t وك مهموسة وقوية في آن واحد، والسواكن الثلاثة ب b ود d وج g على العكس منها مجهورة وضعيفة. ولكن من اللغات ما يجهل هذا التوزيع أو ينظمه على نحو آخر. فأحد الفروق التي تميز الانفجاريات الفرنسية من الانفجاريات الألمانية، ولا سيما ألمانية الجنوب، أن الانفجاريات المجهورة ب b ود d وج g قوية في الألمانية مما يخيل لأذن الفرنسي أنها أصوات وسط بين المهموسة والمجهورة، بل وفي بعض الأحيان أنها أقرب إلى المهموسة منها إلى المجهورة. وعلى العكس من ذلك الانفجاريات المهموسة ب p وت t وك k لطيفة غالبا في ألمانية الجنوب، إذا لم تكن منقسمة كما سنرى. هناك مبدأ آخر لإحداث وجوه الاختلاف في نطق السواكن يحدث من   1 جيرسن، رقم 173، ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 درجة انفتاح الحنجرة. فتوجد انفجاريات عن حنجرة مفتوحة وأخرى من حنجرة مغلقة. في النطق مع انغلاق الحنجرة، كما هي الحال في الفرنسية وفي اللغات السلافية والإغريقية القديمة، تقترب شفتا الحنجرة أو الأوتار الصوتية أثناء إصدار الانفجاريات. فهي إذن مستعدة تماما للدخول في الذبذبة من أجل الحركة التي تتلوها إذا كان الانفجاري مهموسا، ومنذ بدء الانحباس لإحداث الرنين من أجل الانفجاري، إذا كان الانفجاري مجهورا على العكس من ذلك. في النطق مع انفتاح الحنجرة الذي تتميز به اللغات الجرمانية على العموم1، يلزم للأوتار الصوتية بعض الزمن لتتمكن من اتخاذ الوضع الذي يسمح بالذبذبة، سواء أكان ذلك في أثناء الحبس لإجهار الساكن أو بعد الانفجار مباشرة لإنتاج الحركة. وفي أغلب الأحيان يحدث تأخر طفيف، نقص في التنسيق بين الانفجار وبين وضع الذبذبات الحنجرية في حالة المسير. الفرق الأساسي بين الانفجاريات الألمانية والفرنسية يقوم على أن الذبذبات الحنجرية في الألمانية تنتج في وقت متأخر عنه في الفرنسية. وهذا سبب آخر يجعل الفرنسيين عندما يسمعون ألمانيا ينطق با، دا، جا ba, da, ga يفسرونها على أنها با، تا، كا pa, ta, ka لأن الساكن مجهور في الفرنسية منذ بدء الانحباس، وفي الألمانية الجزء الأول من الساكن مهموس، لأن الجهر لا يبدأ إلا بعد الانحباس بوقت محسوس. النطق مع فتح الحنجرة يجر إلى نتيجة أخرى. فطوال مدة الانفجار لا يكف الهواء المدفوع من الرئتين عن التراكم في الفم، إذ لا شيء يعترض طريقه عند طرف القصبة، بينما في حالة النطق مع انغلاق الحنجرة تعترض شفتا الحنجرة خروج الهواء ولو جزئيا. وينتج عن ذلك أن الهواء يخرج من الفم عند الانفجار بعنف في حالة النطق مع انفتاح الحنجرة، لأنه في حالة النطق مع انغلاق الحنجرة تقوم الحنجرة في صورة ما بدور اللطف لتيار الهواء. ويكون عنف الهواء من القوة بحيث نسمع عادة عند الانفجار تلك الضوضاء المميزة لخروج الهواء والتي   1 مييه رقم 95، ص36، ورقم 4 مجلد 16 ص153، وجرامون رقم 28 ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 تسمى بالشهيق "aspiration" وما هي إلا تسمية خاطئة. هذا ولما كان وضع الذبذبات الحنجرية في حالة السير على نحو ما رأينا يقع متأخرا قليلا بالنسبة للحركة التالية، فإنه تنقضي مسافة زمنية طويلة أو قصيرة لا تكون الحركة خلالها قد وجدت بعد، بينما يكون الساكن قد انتهى. هذه المسافة يشغلها الشهيق بطبيعة الحال، فنحصل في نهاية الأمر على ساكن يسمى بالمنفس، فبدل الباء p, والتاء t والكاف k تنطق به ph وته th وكه kh. من السهل أن يسمع هذا التخالف من فم ألماني من الجنوب إذا طلب منه أن ينطق العبارات التالية: le pave de paris, une tasse de the, un carreau du casse. نحن بعيدون في هذا السرد عن استيفاء جميع الاحتمالات التي للأصوات اللغوية فإننا لم نعن حتى الآن بالأصوات اللغوية الناتجة من زفر النفس. ولكن هناك أيضا الأصوات اللغوية المسماة بالشهيقية. يمكننا من الوجهة النظرية أن نأخذ جميع أصوات القائمة السابقة ونتصور أنها أنتجت بواسطة الشهيق، وعندئذ يتضاعف عددها. هذا وإن عبارة التشهيق أو المشهقة عبارة غير صالحة، لأنه ليس في إنتاج الأصوات اللغوية التي نحن بصددها وإدخال للهواء في القناة التنفسية، فهذه الأصوات تقوم على حركة من المص، وتسمى لذلك أصوات المصمصة1 "CLICS". الأصوات اللغوية المشهقة أو أصوات المصمصة نادرة الاستعمال. ويؤكد بعضهم أن بعض لغات إفريقية تستعملها بصورة عادية. ولكنها غير موجودة في النظام الصوتي للغات الهندية الأوروبية. وإنما تقابل هنا وهناك من باب المصادفة المحضة. ومما ثبت أن نشوء الباء P في آخر الأفعال المسندة لجمع المتكلم في لغة أهل بريتانيا الفرنسية جاء من حدوث مصمصة CLIC "مثل KAROMP" "نحب"، من karom2. وهذه حالة استثنائية في لغات أوربا الحديثة. وعلى العكس من ذلك تستخدم المصمصات في كل اللغات لإحداث حالات   1 ل. هافيه: رقم 6 مجلد 2 ص221، ساكلو sacleaux: رقم 118 ص44. 2 رسلو: رقم 115، 1 ص492، وانظر أيضا لوث loth رقم 8 مجلد 16 ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 التعجب. فالفرنسية تستخدم تاء t مشهقة للتعبير عن الشك أو لإثارة الانتباه، وتشهق تاء "t" من أصل الأسنان للدلالة على الإعجاب أو الدهشة، وتشهيق الفاء يعبر أحيانا عن رضا النهم وأحيانا أخرى عن الإحساس بجهد أو ألم حاد قصير، وكلمة oui "نعم" تنطق بالتنفيس إذا كانت تعبر عن الشك أو المجاملة، وكذلك الحال في كلمة "لا" non إذا نطق بها بصوت منخفض وفي غير اكتراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته عدد الأصوات اللغوية الممكنة يكاد يمتاد إلى ما لا نهاية. وليس هناك من آلة موسيقية تساوي الجهاز الإنساني في تنوع الأصوات التي يصدرها. ولكن اللغات بعيدة عن أن تستعمل في وقت واحد جميع المصادر التي في حوزة الكلام. وعلى العكس من ذلك فإن الأصوات المستعملة في كل لغة محدودة العدد. لسنا في حاجة إلى العقول بأننا لا نستطيع إحصاء الأصوات المستعملة في لغة ما بعد الحروف الموجودة في أبجديتها. فكل لغة فيها من الأصوات أكثر مما في كتابتها من العلامات. تلك حال الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية. ومع ذلك فإن عدد الأصوات في أية لغة لا يكاد يتعدى الستين عادة، بل يمكن أن ينزل عن ذلك نزولا محسوسا. هذا الرقم ليس مما يشير الدهشة، فإنه يفسر بداهة بتنوع الأصوات في الجهاز الإنساني، تلك الأصوات التي لا يمكن استعمال عدد كبير منها في لغة واحدة دون أن تسبب مشقة لمن يتكلمها هذا إلى أن من بين الأصوات الممكنة ما يستبعد بعضه بعضا بسبب تكوين أعضاء النطق. في كل لغة ترتبط الأصوات بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، فهي تكون نظاما متجانسا مغلقا تنسجم أجزاؤها كلها فيما بينها، هذه هي أول قاعدة من قواعد الصوتيات، وهي ذات أهمية قصوى، لأنها تثبات أن اللغة لا تتكون من أصوات منعزلة، بل من نظام من الأصوات. أولئك الذين يمارسون لغات أجنبية يشعرون جيدا بوجود نظام لغوي خاص بكل لغة. وعندما ينتقلون من إحداها إلى الأخرى لا يشغلون أنفسهم، لحظة النطق بكل كلمة، بوضع أعضائهم الوضع الذي يناسب الأصوات المكونة لهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الكلمة، وإلا لتعذر عليهم الكلام بسلاسة تعذار تاما: بل يكف في اللحظة التي ينتقلون فيها من لغة إلى أخرى أن يزودوا أعضاءهم بنوع من التوجيه العام مرة واحدة. وإذا كانت اللغة التي يتكلمونها أليفة لهم، حصل في أعضائهم بصورة غير شعورية، نوع من التحول يجعل جميع الأصوات الصادرة تصدر على طريقة اللغة الجديدة. فمثل المتكلم بعدة لغات مثل لاعب الهرمونيوم الذي يستطيع بنقله للمشط أن يخلع على جميع الأصوات التي يخرجها قيمة خاصة. ويحس هذا الانتقال من التعب الذي يعانيه الإنسان بعد أن يتكلم شطرا من الزمن لغة لما يعتد التكلم بها تمام. لأن الأعضاء تكون قد فسرت على أوضاع جديدة تستلزم جهودا عضلية جديدة أيضا. وإذا طالت هذه الممارسة التي تفرضها عليها فإنها تعجل بإتعاب هذه الأعضاء. وأولئك الذين يودون محاكاة نطق أجنبي في كلامهم بلغتهم هم، يعرفون كذلك أنه يكفيهم الحصول على الأثر المطلوب بما يمكن أن يسمى بالتحول الصوتي؛ فما دام هذا التحول قد وقع فعلا أمكن قراءة صفحة من الفرنسية وقد بدا عليها طابع النطق الإنجليزي أو الألماني. وجود النظام الصوتي نتيجة لقانون من التوازن، إذ ينشأ بين جميع الأعضاء التي تتعاون على التصويت نوع من الاتفاق الذي بمقتضاه يميل كل واحد منها بالوضع الذي يتخذه إلى أن ينسجم مع أوضاع الأعضاء الأخرى. بل إن الاتفاق لا يقتصر على وضع الأعضاء، وإنما يتعداه إلى الاتفاق العضلي، فبعض الأصوات مثلا يلزم لنطقها نفس أكثر مما يلزم للأخرى، أو يتطلب مجهودا أعظم من حركات الأعضاء الصوتية. هذا إلى فروق الكمية ترتبط بها عادة فروق طابعية. في الفرنسية تختلف الفتحة "a" والضمة التي ترسم "o" في الطابع بوجه عام حسب اختلافهما في الطول والقصر: فلنلاحظ مثلا اختلاف النطق بين patte, pate وبين cotte, cote؛ وبين sotte وsaute إلخ ... ويوجد في الألمانية فرق مشابه بين الـe القصيرة والـe الطويلة، وبين الـo القصيرة والـo الطويلة: هكذا في Reh, stehen في مقابلة retten, stelle أو في Boden sohn في مقابلة Kommen وGott إلخ. ويجري الحال على هذا المنوال في كثير من اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 النظام الصوتي يعيد كل البعد من أن يكون ثابتا طوال تطور لغة من اللغات. ويستطيع الإنسان أن يفهم ذلك بسهولة إذا فكر في الصورة التي ينتقل بها وفي الشروط التي تمسك عليه توازنه. يستقر النظام اللغوي في السنين الأولى من العمر. ويظل سليما طول الحياة، إذا صرفنا النظر عن الحوادث العرضية التي قد تصيب الأعضاء. ولكن تحصيل اللغة لا يقع دفعة واحدة. ففي أثناء هذه السنين الأولى التي لها أهمية عظمى في نشوء الكلام يختزن الطفل يوما بيوم وبشكل مستمر الكلمات التي يجتهد في إبرازها كما حفظها. فليست الأصوات هي التي يتعلم النطق بها، بل يتعلمه بالكلمات أو بمجموعات من الكلمات. وإذن يجب على أعضائه أن تخضع للنطق بتراكيب من الأصوات قد تكون في بعض الأحيان على درجة كبيرة من التعقيد. وقلما يصل إلى الصواب من أول خطوة، بل عليه أن يراجع الكرة مرارا مصححا نطقه على نطق الأشخاص الذي يكلمونه حتى يعتقد أنه قد وصل تماما إلى محاكاة ما سمع. والصورة التي يتخذها نهائيا في ختام تعلمه هي التي تكون نظامه الصوتي، وهو بقيمة على تحسسات متتابعة واستبعاد للأصوات التي التقطها في صورة خاطئة وبما يكسب أعضاءه من مرونة قصد الوصول إلى نطق كامل1. بعد ذلك يتم له تنفيذ الحركات في صورة آلية. فهناك ذاكرة للأعضاء يمكن أن تقارن بذاكرة أصابع لاعب البيانو التي تنتقل بين الأزرة بصورة آلية كلما وقعت عينه على النغمات المسجلة فوق الصحيفة. انتقال النطق من جيل إلى جيل غير متصل، بمعنى أن الطفل مضطر إلى حفظ كل شيء. وأغلب الظن أن استعدادات الطفل الموروثة تلعب دروها في هذا التعلم. ولكن يمكننا أن نقدر دون عناء العوارض التي يمكن أن تعرض لسلامة النطق في كل جيل. فمن النادر جدا أن يكون نظام الطفل الصوتي بعد أن تنتهي مرحلة التعليم مماثلا تماما لنظام والديه. بل إن من علماء الصوت من يذهب إلى أن ذلك لا يقع مطلقا.   1 انظر المؤلفات التي ذكرناها في نهاية الفصل السابق ومعها ا. مييه رقم 9 ج 1 ص311 وج 2 ص860. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في هذا اللعب بالحركات المعقدة الذي يكون النظام الصوتي، قد يحدث لأحد الأعضاء أن يبالغ أو أن يقصر في أداء عمله ولو بقدر ضئيل، أو قد يعرض لعضلة شيء من التراخي أو الإبطاء في إخراج إحدى الحركات، أو قد يعرض لها على العكس من ذلك زيادة في القوة أو السرعة. ومن ثم يجيء الاختلاف في النظام الصوتي بين جيلين متتابعين. هذا الاختلاف قد يضؤل وقد لا يثير لدى السماع أي تغير محسوس، ومع ذلك فهو خطير النتائج لأنه لا يبشر بشيء أقل من انقطاع التوازن في النظام. هذا إلى أن الاختلاف قد يلحظ بوضوح في بعض الأحيان: الطفل ينطق مختلفا عن أبوبه، فيحل سلسلة جديدة من الأصوات محل السلسلة التي كان يملكها أبواه. وهكذا نرى الطفل الذي يضغط بطرف لسانه على قمة أصول الأسنان بدلا من الضغط على الأسنان نفسها يصدر سلسلة الأسنانيات الإنجليزية ت t ود d بدلا من السلسلة الفرنسية. هذا النوع من التغير الصوتي يقدم لنا عدة صفات على جانب من الأهمية. فهو أولا غير شعوري. فالطفل الذي يتقدم لسانه إلى مدى بعيد أو إلى حد غير كاف لا يلتفت إلى ما يقع فيه من إسراف أو نقص. يعتقد أنه يقوم بنفس الحركات التي يقوم بها أبواه مع أنه يخالفهما. فعدم شعورية التغيير هو الذي يفسر لنا استمرار لأن الطفل قد يسعى إلى تصحيح خطئه لو أنه شعر به. يزيد على هذا أن التغير مطلق، ومعنى ذلك أنه يتحقق في سورة تامة لا مرد منها، فليست المسألة خلقا اختياريا يضيف إلى النظام عنصرا جديدا، بل إنها مسألة تحول في عنصر موجود. هذا التحول يفترض أن الطفل قد عجز عن تكرار الصوت المسموع تكرارا مضبوطا. بل إنه لما يلفت النظر أن الصوت الذي استبدله به غيره يصير أشق الأصوات الغريبة على النظام وأعسرها على من يريد النطق به. وليس أصعب على فرنسي اليوم من نطق اللام المائعة بعد أن فقدوا هذا النطق. وأخيرا فالتغير مطرد، بمعنى أنه يتم في اتجاه محدد بالتغيرات السابقة. هذا الطابع يفسر بطبيعة العناصر التي يقوم عليها توازن النظام. يوجد في كل نظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 صوتي عناصر غالبة تسود غيرها. فيمكن دائما، إذا أريد وصف نظام للهجة ما، إرجاع كل تفاصيل هذه اللهجة إلى بضع قواعد عامة من وضع اللسان وشدة النفس والمجهود العضلي ... إلخ. هذه القواعد العامة ذات قيمة مؤقتة ما دام النظام الصوتي يتغير إن قليلا وإن كثيرا من سن إلى أخرى، ولكنها ما دامت موجودة فإنها تكون أساس اللغة وكأنها بمثابة هيكلها العظمى. فإذا ما نظرنا إليها باعتبار توالي العصور رأينا أنها تنبيء عن اتجاهات اللغة. ومن هنا نلاحظ، إذا فهمنا حالات اللغة التاريخية المتتابعة، أن التغيرات التي تبدو في حالات اللغة المتأخرة كانت توجد أجنة في حالاتها السابقة. المثال الكلاسيكي الذي يذكر عادة لاطراد التغيرات الصوتية هو "الاستبدال المباشر للسواكن" في الجرمانية، ذلك الذي يسميه الألمان Lautverschiebung1 وتلاحظ هذه الظاهرة في لغات أخرى غير الجرمانية مثل الأرمينية والأوسية2 وتنحصر نقطة البدء في هذا الحذف في الفرق بين النطق مع إغلاق الحنجرة والنطق مع فتحها "انظر ص58". إذا اعتاد شعب على النطق مع الفتح الحنجرة كما يفعل الجرمانيون، تعرضت الانفجاريات المجهورة والمهموسة لسلسلة من التغيرات ناجمة عن التأخر في وضع الذبذبات الحنجرية في حالة الحركة "انظر ص59" فمن جهة لما كان تذبذب الأوتار الصوتية لا يبدأ بعد الحبس مباشرة في مجموعه مثل با ba أو دا da، صار جزء من الساكن مهموسا، سواء أكان هذا الجزء صغيرا أم كبيرا. وأخيرا ينتهي هذا الميل بتحويل المجهور كله إلى مهموس. ومن جهة أخرى في مجموعة مثل تا ta وبا pa، يوجد بين انفجار الانفجاري وإنتاج الفتحة التي تليه وقت طويلا أكان   1 التفسير الذي نثبته هنا هو الذي يقول به عامة علماء اللغة الفرنسيين لهذه الظاهرة "مييه: رقم 95 ص27، جوتيو: رقم 6 مجلد 11 ص192، فندريس: رقم 99 ص130". ولكنه ليس رأي الجميع؛ ف. فونت: رقم 223ج 1 و2 ص405؛ هـ. مير: رقم 35 ج 45 ص107 وما يليها؛ هيرت: رقم 167 ص616؛ س. فيست: رقم 26 مجلد 36 ص307 ومجلد 37 ص112. 2 لغة أهل بلاد القوقاز الوسطى، ويبدو أنهم من ذرية الإيرانية الأقدمين. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أم قصيرا. ولكن الانفجار يترك الهواء حرية المرور. ومن هنا يجيء الميل الطبيعي نحو نحول الانفجاري إلى تنفي أو حتى إلى احتكاكي انفجاري إذا كان الانفجار على درجة شديدة من الحدة ولم تستطع الأعضاء أن ترجع مباشرة إلى وضعها في حالة الاستراحة رغم اندفاع الهواء المفاجيء باحثا عن سبيل للخروج. وعندئذ يتحول النطق إلى تها Tha، بها pha أو إلى تسا tsa وبفا pfa؛ والمآل الطبيعي للتنفسية والانفجارية الاحتكاكية أن تصير الاحتكاكية "فا وثا" إذا كان دفع الهواء يجعل الانفجار غير تام. كلتا العمليتين اللتين عرضناهما الآن تلعبان دورا كبيرا في تاريخ اللغات الجرمانية، فبهما يجب أن تفسر كون الانفجاريات المجهورة في الهندية الأوربية يقابلها دائما مهموسات في الجرماني المشترك "في القوطية skapajn "يشكل" itan "يأكل"، وفي الألمانية العليا القديمة malken "يحلب" وذلك في مقابلة الكلمات اللاتينية "mulgeo, edo, scabo", والانفجارية المهموسة تقابلها دائما احتكاكية، "في القوطية hilfan "يسرق"، thahan "يسكت" في مقابلة الإغريقية xyerw واللاتينية taceo". هذان وحدهما هما النوعان من أنواع الإبدال المباشر المميزان للجرمانية1. لكن الاحتكاكي الناتج من الانفجاري المهموس لا يكون مهموسا دائما، فهناك حالات يكون فيها مجهورا. وقد بين العالم اللغوي الدنمركي فرنر2 verner، أنه لا يكون مجهورا إلا في الكلمات التي لا يكون فيها المقطع التالي منبورا في الهندية الأوربية. الواقع أن عددا من الاتجاهات الأخرى قد وجدت فاختلطت بأثر الإبدال المباشر. منها مثلا ذلك الاتجاه الذي يظهر في بعض اللغات الأخرى ويعمل على أن تصير الاحتكاكية المهموسة مجهورة إذاوقعت بين حركتين "اكتشاف فرنر لا يضيف إلى ذلك إلا بعض التصحيح". ومنها ذلك الذي ينحصر في أن   1 اعتاد الألمان، وتبعهم علماء اللغة في البلاد الأخرى في غالب الأحيان، أن يسموا قوانين الإبدال المباشر في الجرمانية قوانين جريم مع أن راسك Rask الدنمركي قد اكتشفها قبل جاكوب جريم، انظر بدرسن pedersen: رقم 230 ص52 وما يليها. 2 في مقال مشهور رقم 37 ج 23 ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الاحتكاكيات المجهورة تقاوم الضعف الذي يصيبها وذلك بفضل استدراك المتكلم، فتصير انفجارية مجهورة. والحالة الثانية قد وقعت في الألمانية، فالكلمات الانجليزية thin "رفيع" وthumb "إبهام" أو thorn" "شوكة" يقابلها في الألمانية الكلمات Dorn, Daumen, dunn التي كانت تبدأ باحتكاكي قبل أن يصير انفجاريا. ولكن هذا التطور يظهر في أوضح صورة في حالة الأصوات الأسنانية، بل إنه يمتد في شكل مبعثر خارج الميدان الألماني "في الانجليزية Gold "ذهب" wild "متوحش" في مقابلة gulth وwiltheis في القوطية". في هذا الميدان يلاحظ أن نفس التطور موجود بالنسبة لبعض الاحتكاكيات الأخرى1: ففي بعض اللهجات نرى الفاء w تصير باء b إذا كانت في أول الكلمة "bas بدلا من was أو beil بدلا من weil" أو الـJ تصير g إذا وقعت بعد الراء r ferge "قائد طيارة، دليل"، scherge "جاويش"، وهما مشتقتان من الكلمتين القديمتين Scerjo وverjo". هذه الأمثلة ترينا أنه لا ينبغي أن نعزو إلى مبدأ واحد جميع التغيرات التي طرأت على السواكن الألمانية. ولكن مما تجدر ملاحظته أن الاتجاه العام الذي يظهر في حالات الإبدال منذ ما قبل التاريخ يظل خلال جميع التقلبات الناتجة من ظروف خاصة، محسوس الأثر في تاريخ اللغات الجرمانية بأسره: فمثلا بعد أن أتمت الألمانية العليا القديمة حوالي القرن السادس بعد الميلاد إبدالا مباشرا في الساكن للمرة الثانية، ونرى الألمانية الحديثة -في الأقاليم الجنوبية على الأقل- تمهد لإبدال ثالث، وهناك إبدال جديد في سبيل التحقق في مكان آخر من هذا الميدان، أعنى اللغة الدنمركية2. ظاهرة مثل ظاهرة الإبدال المباشر في السواكن، وهي من خير الأمثلة على الإطراد والاستمرار، ترينا في عين الوقت أن التغير الصوتي يمكن أن يمتد على مجموعة من السكان هامة في غالب الأحيان، فلا يكفي إذن لتقويم طبيعة تغير من التغيرات   1 بهاجل behaghel: رقم 144 ص201 و204. 2 براونه Braune: رقم 26 ج 36 ص564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أن نقارن نطق طفل بنطق أبويه، يعني أن نعتبر فردا واحدا منعزلا في كل جيل. لأن التغير الوحيد الذي يعتبر في عين العالم اللغوي هو التغير الذي يظهر في كلام مجموعة من الأفراد. التغيرات اللغوية تنتج على وجه الخصوص في الانتقال من جيل إلى جيل آخر. ولكن لا بد من التفرقة بين التغيرات الفردية والتغيرات المشتركة بين جميع الأطفال في نفس الجيل. فقد يحدث أن أحد الأطفال لا يستطيع النطق ببعض الأصوات نتيجة لاستعداد خبيث موروث، أي أن يكون عنده بعبارة أخرى نقص في النطق. هذه الحالات من النقص الفردي، في غالب الأحيان، لا تعنى غير الطبيب. وغاية ما يعني العالم اللغوي من أمرها أنه قد يستدل بها على اتجاهات اللغة. فأحيانا لا تكون هذه الأنواع من النقص في الواقع إلا مبالغة في ميل طبيعي. وفي هذه الحال يكون شأنها الأعراض من حيث إنها تعلن عن نقط الضعف في النظام، فهي ترينا في أي مكان تنهار المقاومة وفي أي اتجاه تهدد بعض الاتجاهات الجديدة أن تجر إليها اللغة. ولكن هذه الحال تتطلب من العالم اللغوي أشد الحذر ويمكن بوجه عام أن تتركه خارج دائرة البحث، فللتعرف على وجود أي اتجاه يجب أن تشمل الدراسة أكثر من فرد. ساد شطرا طويلا من الزمن الاعتقاد بأن كل تغير صوتي إنما يصدر عن الفرد وأنه لم يكن إلا تغيرا فرديا ثم عمم. وهذا إدراك للأشياء غير صحيح. فليس في وسع أن فرد أن يفرض على جيرانه نطقا تنبو عنه فطرتهم، وليس هناك من قسر جدير بتعميم تغير صوتي. فلأجل أن يصير تغير ما قاعدة لمجموعة اجتماعية، يجب أن يكون لدى كل أفراد هذه المجموعة ميل طبيعي لتحقيقه من تلقاء أنفسهم1. بل إن سلطان المحاكاة نفسه لا يقدر هنا على شيء. فإن النطق الشاذ لا يجلب أتباعا لصاحبه، بل لا يجلب له بوجه عام إلا السخرية منه. قد يعترض معترض بتأثير الجدة ذلك التأثير الذي لا يمكن إنكاره في بعض الحالات. فكلنا نعرف أن المجتمع الراقي في عهد حكومة الديركتوار كان يعمد   1 مييه: رقم 9 ج 1 ص311، وج 2 ص860، ورقم 2 ج 9 ص595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 إلى عدم النطق بالراء محاكاة لآل بوهارنية الذين كانوا لا ينطقون بهذا الحرف لعادة المولدين Creoles: وقد أدى ذلك إلى "بدعة الأنكوبابل" Les incroyables التي لم تستمر إلا وقتا قصيرا، ولم يبق منها إلا بعض الأساطير في الرسومات وكتب الأقاصيص. وقد عرف العالم القديم بدعا مماثلة. فألسبياد كان من عادته أن ينطق الراء لاما "أرسطوفان، الزنايير، ص44 و46"، فظن ابنه من الخير أن يحاكيه "أرشيبوس Archippos ونقل عنه بلو تارك plutarque في حياة ألسبياد، ص41". ويتهكم كاتول catulle على روماني معاصر له، اسمه Arrius، كان ينفس حرف c في اللغة اللاتينية، محاكاة اللإغريق، فيقول chommoda بالشين بدلا من commoda بالكاف. هذه حالات استثنائية، إذا فسرت تفسيرا لائقا أثبتت صحة القاعدة إذ يلاحظ أن هذه التغيرات الصوتية لم تنته إلى نتيجة. فقد استمر الرومان على نطق الحرف c انفجاريا، وتاريخ حرف c في اللغات الرومانية لا يبدو فيه أي اضطراب من جراء البدعة التي مثلها أريوس. بل ظل النطق الشاذ لهذا المتحذلق غريبا على النظام الصوتي عند اللاتينيين نعم لقد كان من الممكن أن يستمر في بعض الكلمات المنعزلة وقتا طويلا أو قصيرا. ولكن المسألة في هذه الحال لا تكون مسألة صوتيات بل مسألة مفردات. هذا إلى أنه يجوز لنا أن نتساءل إذا لم تكن الهواية التي يسخر منها كاتول إنما هي في الواقع مسألة مفردات لا أكثر من ذلك. إذ يبعد عن الاحتمال أن يكون أريوس قد غير جميع الـC "ك" في لسانه إلى CH "ش"، أي أن يكون قد أبدل نطقا من نطق بطريقة منظمة: بل لعله أحل الشين CH مكان الكاف C في بضع كلمات ليخلع عليها طابعا إغريقيا. مختلف عن ذلك حالة الأنكوبابل الذين أدخلوا في الفرنسية العادية، فرنسية باريس، عادة نطقية من لهجة فرنسية أخرى، هي لهجة المولدين في جزيرة المرتنيك. وإذن فإبعاد الراء من الفرنسية يبدو حينئذ مطابقا لاتجاه عام في اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 على الأقل فيما يخص الراء الحلقية التي تتميز بها فرنسية باريس. واليوم نرى هذه الراء لا تحس إلا بقدر ضئيل في بعض الأوضاع، إذا جاءت بعد ساكن في نهاية الكلمة أو وقعت بين حركتين. ولعلها كانت قد اختفت من اللغة الفرنسية لولا تأثير المدرسة والكتابة التقليدية. والراء الإنجليزية التي من أصول الأسنان في طريق الاختفاء أيضا وإن كانت من مخرج آخر: فكثير من الإنجليز لا ينطقونها اليوم، وإن كانوا لا يعرفون ذلك. جرت العادة في علم اللغة على أن يطلق على التغيرات الصوتية باسم القوانين1، مثل تلك التي تسمي قوانين "جريم GRIMM" المتعلقة بالإبدال المباشر في السواكن الجرمانية. ومن ذلك يستطيع المرءؤ أن يكون فكرة عن القيمة التي يجب أن تعطي لكلمة "قانون" هنا. وهناك جملة ظلت شهيرة، تعلن أن "القوانين الصوتية تسير في صورة عمياء، وبحتمية عمياء "Die Lautgesetze wirkenblind, mitblinder Notwendigkeit2". هذه الجملة التي أثارت في حينها مناقشات حادة لا تثير اليوم سوى الابتسام وأقل ما يقال فيها أنها جريئة، إذ تضفي على القانون الصوتي سلطة لا مبرر لها. فالقانون الصوتي لا يمارس حدثا وليس "ضروريا" بالمعنى العلمي للمصطلح. وكلمة "قانون" وقد استعملت هنا على ضلال، هي التي جرت إلى الخطأ. يسن القانون ليهيمن على أعمال الإنسان، ومن ثم كان فعله متجها نحو   1 انظر مراجع van Ginneken رقم 77 ص462، وخاصة مييه: القوانيين الصوتية رقم 9 ج1 ص311، Gibt es lautgeretze?:wechessler "هل توجد قوانين صوتية؟ " Das wesen der lautgesetze. B. Delbruck ماهية القوانين الصوتية" رقم 24 ج1 ص277-308 عام 1902، ج. فندريس: تأملات في القوانين الصوتية، رقم 99 ص115-130 عام 1902، baudouin de courtenay رقم 142. 2 هي للعالم اللغوي الألماني هرمن ستوف Hermann stoff "1890". وكان البدء في إقامة القوانين الصوتية بين سنتي 1870 و1880 بوجه عام. انظر شوخارت، رقم 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المستقبل: فقانون العقوبات يصفي حساب الجناة، والقانون المدني يملي على المواطنين مسلكهم. لذلك كان من الاتساع المسيء أن أطلقت كلمة قانون على الحقائق الطبيعية الناتجة من الاختبار، كما في الطبيعة أو في الكيمياء. والذي ساعد على هذا الاتساع أن العلاقات التي يكشف عنها الاختبار في هذه العلوم بين الظواهر المختلفة هي علاقات دائمة، حتى ليبدو كأن القانون، وهو تعبير مجرد عن هذه العلاقات، سابق على الاختبار وإن كان من الواقع متأخرا عنه. ولكن من إساءة الاستعمال في اللغة على كل حال أن تضفي على القانون صفة الإلزام. إن القوانين الصوتية لا تشبه حتى قوانين الطبيعة والكيمياء. فالذي يجمع بين حالين متتابعين في لغة واحدة إنما هو رباط تخلقه وليس رباطا طبيعيا، لذلك لا يمكن أن نعرف مقدما كيف يتطور هذا الصوت أو ذاك، لأنه يوجد دائما في تطور الأصوات عدد يكثر أو يقل من العوامل غير المنظورة التي تنتج أثرها. ومع ذلك فالقانوني الصوتي، بوصفه تعبيرا عن تغير وقع في الماضي، له صفة الإطلاق، هذه الصفة نتيجة لانسجام النظام الصوتي واطراد التغيرات "انظر ص65". ولما كان التغير لا ينحصر في كلمة منعزلة، بل في آلية النطق نفسها، فإن جميع الكلمات التي تتبع آلية واحدة في النطق تتغير بنفس الصورة. هنا مبدأ القوانين اللغوية بأسره، وهذه القوانين ليست إلا عبارات تلخص هذه العمليات، وإلا قواعد من الارتباطات. بواسطة القوانين الصوتية يمكننا أن نصوغ في بضع عبارات تاريخ الأصوات في لغة من اللغات أو أن نكشف عن سر التغيرات التي أصابتها. وإذا عرفت من اللغة كلمة يبرر القانون صيغتها، عرفت مقدما صيغة جميع الكلمات الأخرى التي تقع تحت طائلة هذا القانون. وإذا كان هناك لهجتان صادرتان عن لغة واحدة تبعا لقوانين خاصة، فإذن مظهرهما الصوتي يستبين بمعرفة هذه القوانين. وإذا عرف أن الألمانية قد أبدلت الـz "تس" من الـt "ت" القديمة الواقعة في أول الكلمة والتي احتفظت الإنجليزية بها، أمكن تفسير zahre في مقابلة tear "دمعة" ولكنا نفهم أيضا المقابلة التي بين zehn وten "عشرة" وبين zwingen "يقسر" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وtwinge "يضغط"، وبين zunge وtongue "لسان" إلخ. فالواحدة من هذه الكلمات تنبئ عن الأخرى. وقد حدث لبعض علماء اللغة أحيانا أن يبنوا باديء ذي بديء صيغة لكلمة غير موجودة، ثم وجدوا لها فيما بعد ما يبررها باكتشاف نص جديد. فالقوانين اللغوية أساس كل عمل يمس الاشتقاق. والاشتقاقي الذي يسقطها من حسابه يضيع وقته عبثا. من السهل أيضا إثبات ما يمكن أن تقدم هذه القوانين من خدمات في دراسة اللغات الأجنبية. إذ يمكن في تعلم لغة جديدة، أن نحصل على مساعدة قيمة من معرفة قواعد الصلات التي بين هذه اللغة الجديدة واللغات التي نعرفها من قبل. وهكذا إذا عرفت أن الإسبانية تبدل من الفاء "f" اللاتينية هاء "h" عندما تكون في أول الكلمة، فإني أعرف مقدما أن hacer هي في الفرنسية faire "يعمل" وharina هي "farine دقيق" وheno هي foin "دريس" hierro هي fer "حديد وhijo" هي fils "ابن" وhoja هي feuille "ورقة" وhumo هي fumee "دخان"، إلخ. وهناك في مثل هذه الأحوال نوع من الحس يقود الذاكرة بل يستعاض به عنها عند الحاجة في العثور على صيغة الكلمة مع شيء من ضمان صحتها. ومع ذلك فمجال الخطأ موجود. بل هنالك من أخطاء الكلام ما هو ناجم من تطبيق القوانين الصوتية تطبيقا خاطئا أو مبالغا فيه "من ذلك حالات المبالغة اللهجية أو المبالغة المدنية التي سنتكلم عنها فيا أواخر هذا الفصل". ففي الحالة السالفة الذكر يخطيء الإنسان إذا أراد أن يبني باديء ذي بدء اسم النار "feu" بالإسبانية اعتمادا على الصيغ المقابلة لها في اللاتينية focus والإيطالية fuoco والفرنسية feu لأن الصيغة الحقيقية هي fuego وليست huego ذلك بأن انتقال الفاء F المبدئية إلى هاء h لا يقع في الإسبانية قبل حرف u إذا تلته حركة. واللهجات الفسقونية تذهب في هذا الصدد إلى أبعد مما تذهب إليه الإسبانية فتقول في Feu "نار" huek محققة انتقال الفاء F المبدئية إلى هاء h في جميع الأوضاع1.   1انظر مييه: علم اللغة التاريخي وعلم اللغة العام، ورقم 22، "1908"، ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أول ما تجب العناية به على العالم اللغوي أن يحدد بالضبط شروط تطبيق القانون ومدى انتشاره في المكان والزمان. الواقع أن التغيرات الصوتية محدودة بالزمان: فما دام التغير قد أصاب جميع الكلمات التي تقع تحت طائلته، يصبح القانون الذي يفسره وكأنه قد نسخ. ويمكن للغة أن تخلق مركبات صوتية جديدة مشابهة كل الشبه للمركبات التي كان التغير يعمل فيها سابقا. هذه المركبات تبقي دون تغير، فيقال إنها لم تعدل واقعة تحت سلطة القانون. وهكذا يوجد في كل اللغات مزدوجات، تمثل كلمات من منبع واحد دخلت اللغة في حقب مختلفة، وتعرف أقدمها بكونها أكثر تشوبها، فهي قد عانت فعل التغيرات الصوتية التي توقفت عن العمل في التاريخ الذي دخلت فيه الأخرى. فعندنا في الفرنسية avoue1 وavocat "محام" وكذلك Loval "وفي" وLegale "مشروع قانونا" ويرجع كل زوج منهما إلى أصل لاتيني واحد. وعندما دخلت الكلمة الثانية من كل زوج منهما في اللغة الفرنسية، وكان دخولها بطريق يخالف دخول الأولى، كانت التغيرات الصوتية التي أثرت في الأولى قد كفت عن العمل منذ زمن طويل. وقد يحدث لبعض القوانين الخاصة بالعلاقات المقررة بين بعض اللغات أن تصير في حالة نقص بسبب استعارات محدثة. ففي الألمانية تقابل السين المضعفة ss التاء البسيطة أو المضعفة في الإنجليزية إذا كانت داخل الكلمة: فكلمة besser "أحسن" تقابل better "أحسن"، كما تقابل كلمة wasser "ماء" كلمة water. ولكنا نجد اللغتين تعبران عن كلمة زيد بلفظ واحد هو butter كما نجد في الألمانية messe وفي الإنجليزية mass "عيد" في الكلمتين "lammas, christmas" وكل حالة من الحالتين تناقض القانون الصوتي السالف الذكر في اجاه مخالف. ذلك أن butter وMesse" mass" مستعارتان من اللاتينية.   1 المراد بهذا المصطلح رجل القانون الذي يعهد إليه الموكلون بمباشرة القضايا، وهو نظام متبع في القضاء الفرنسي. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وحتى لو أننا حاولنا أن نعمل حساب الشروط التي تحرر طاقة القوانين الصوتية ومدى انتشارها وتسمح بتفسير الحالات التي ظاهرها الشذوذ على أنها أحداث طبيعية، فإننا لا ننجح دائما في تجنب جميع الصعاب، لأن منها ما هو لاصق بالطريقة نفسها. ولأن القانون الصوتي من جهة أخرى لا يعطينا إلا معلومات ناقصة عن طبيعة التغير الذي يسجل نتيجته، وليس هو بعد كل هذا إلا حلا وسطا يلخص عمليات مختلفة معقدة. يجب في التغيرات الصوتية أن تميز تلك التي تحدث بالاستبدال من تلك التي تحدث بالتطور. فهناك تطور عندما يتحول صوت إلى صوت من تلقاء نفسه بطريق التجديد الطبيعي. ففي فرنسية الإبل دي فرانس1، نرى الـ"e" اللاتينية "فتحة مماثلة" وهي الطويلة المقفولة قد صارت على التوالي we "وي" ثم wa "تكتب اليوم oi وفقا لرسم قديم أصبح منذ القرن الثالث عشر لا يمثل النطق تمثيلا صحيحا". فنحن ننطق lwa "لوا وrwa وروا وpwar بوار" وlwar "لوار" الكلمات التي تكتب loi "قانون" وroi "ملك" وpoire "كمثرى" وloir "حيوان قارض". هذا هو النطق الطبيعي في باريس. فإذا سمع هذا النطق في لهجات بعض الأقاليم النائية، فذلك ناشيء في غالب الأحيان استعارة من كلام باريس وليس تجديدا طبيعيا في هذه اللهجات. وبرهان تلك الحقيقة موجود في ذاك الكلام نفسه الذي لا يزال يحتفظ بنطقه الطبيعي في صورة أقدم عهدا أو في كلمات خاصة متفرقة: فمثلا قد نسمع في إحدى لهجات الريف. un ler "لير" بدلا من loir "لوار" إلى جانب كلمة une poire "بوار". فنطقه. "بوار" على هذا النحو من عمل المحاكاة، يعني الاستعارة2. أهمية الاستعارة فيما يتعلق بالتغيرات الصوتية تتجلى في تكوين جميع اللغات الأدبية. فمن عمل الاستعارة ما نراه في لهجة ألمانيا الشمالية من استبدال أي ai   1 الإيل دي فرانس: مقاطعة فرنسية قديمة كانت تشمل باريس والمقاطعات المحيطة بها المعربان. 2 عن طابع الاستعارات في اللهجات انظر جرامون، رقم 7، مجلد 10، ص293 وتراشيه Terracher، رقم 124، المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وau اوْ مكان الكسرة i والضمة u البسيطتين، فالتغير لم يقع من تلقاء نفسه. كذلك الحال عندما يعتنق السكسوني النطق الألماني العادي فيقول mussen "بالضمة الممالة إلى الكسرة" وschon بدلا من أن يقول missen "بالكسرة" وschen "بالكسرة الممالة للفتحة"، فهذا تغير بالاستبدال لا بالتطور1. ولكن نص القانون الصوتي لا يكشف عن طبيعة التغير، فلا بد إذن من دلائل إضافية وتحقيق خاص لمعرفة إلى أية بقعة من الإقليم يكون التغير طبيعيا ناتجا من تلقاء نفسه، وإبتداء من أي حد يكون ناتجا من الاستبدال بالمحاكاة. ولعله مما يحدث غالبا في تاريخ اللغات القديمة أنه عندما يصاغ قانون صوتي يشمل جميع الإقليم فإنه يدخل تحت هذا القانون أشياء مختلفةوذلك يؤدي إلى خلط الاستبدال بالتطور عن غير قصد. وهناك أسباب أخرى كثيرة تخفي على القانون الصوتي. فعندما نقول بأن الهاء المنفسة h أو الفاء digamma" w" قد اختفت من اليونانية فإننا نلخص في بضع كلمات تطورا في غاية التعقيد لا يعنى الصوتيات وحدها. فيجب أن نرجع إلى العرض المجمل الذي عمل مييه2 لنرى التقلبات التي مر بها نطق هذين الصوتين. وكيف ساعدت ظروف سياسية أو اجتماعية على الاحتفاظ به أو إحيائه من جديد في بعض اللهجات، وعلى استبعاده في البعض الآخر، والواقع أنه إذا كانت الهاء h المبدئية قد اختفت من لهجات اليونان الحديثة فإن تاريخ اختفائها يمتد على حقبة طويلة من الزمن، لقد اختفى النطق بهذه الهاء في يونيه آسيا وإيوليه لسبوس في زمن مبكر، ولكنا نجد آثارا أكيدة من وجودها بعد الميلاد. وأطول من ذلك الوقت الذي لزم لإختفاء الفاء w فقد فقدتها اليونية والأنيكية في فترة ما قبل التاريخ، أما في لاكونيا فقد ظلت تنطق حتى العهد الذي جمع فيه القاموس الذي نقل عنه هيزخيوس heysychius ولعلها تختفي اختفاء تاما من هذا الإقليم في يوم من الأيام، إذ يبدو أن التساكونية الحديثة ما زالت محتفظة   1 بوارو: رقم 2، مجلد9، ص613، وانظر بريمر، رقم 147، ص11، وعن اللغة الإنجليزية انظر ستورم، رقم 209، ص820. 2 رقم 93، صفحات 24، 27، 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بها إذ أننا نراها ننطق vanne فان "حمل" "وهي الإغريقية القديمة "Faqviov" ومع ذلك فمن الحق أن اتجاه الإغريقية العام في كل لهجاتها كان يذهب إلى إسقاط هذه الهاء h وهذه الفاء معا، ولذلك حق للعالم اللغوي أن يذهب إلى أن إسقاطهما قانون من قوانين اللغة الإغريقية، رغم شذوذ التساكونية عنه حتى يومنا هذا. فصيغة القانون على هذا النحو تعبر عن اتجاه اللغة وتلخص التطور الصوتي الذي مر في الواقع بعدد من العمليات والمظاهر اختلفت باختلاف العصور والأماكن. لعل اختبار الجزء الأعظم من القوانين الصوتية الكبيرة التي تتميز بها اللغات يقودنا إلى تقرير هذه النتيجة. فالقوانين اللغوية التي يصوغها علماء اللغة لا تعبر إلا عن حالات وسطى، سواء أكان ذلك في الزمان أم في المكان. إذ لا يتم التحول الصوتي دفعة واحدة على رقعة من الأرض مترامية الأطراف كتلك التي تتكلم فيها الفرنسية أو الألمانية، الإغريقية أو اللاتينية. ومع ذلك ففي وسعنا أن نقرر بأن الفرنسية قد غيرت الفتحة الممالة المقفولة "e" -التي كانت في اللاتينية- إلى "وا" oi وأن الألمانية تستعمل في داخل الكلمات السين المضعفة مكان التاء t في الإنجليزية سواء أكانت بسيطة أم مضعفة. لأننا إذا رجعنا إلى القاموس واستعرضنا جميع الأمثلة واحدا واحدا بعد أن نستبعد منها بالطبع المستثنيات الناتجة من الاستعارة، لم نجد فيها واحدا فقط ينقض هذه القاعدة. فالقانون يكاد يكون مطلقا بالنسبة لمؤرخ اللغة الذي لا يختبر إلا النتائج ولا يشمل بنظرته إلا تطور اللغة في جملته. أما من يلاحظ اللغة المتكلمة ويجوب في إقليم على درجة ما من الاتساع، إقليم يشهد نحولا صوتيا، فإنه يرى الأشياء بعين مختلفة، فإذا ما أراد أن يثبت تاريخ ذلك التطور الصوتي من حيث المكان والزمان رأي محتوما عليه أن يكتفي باعتبار فرد واحد مع مقارنته بأسلافه وأولاده المباشرين. إذا جمعنا النتائج التي تقدمها لنا لهجات لغة واحدة في أطوار تاريخها المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 حصلنا على خط بياني مطرد لتطور كل صوت لغوي "ص65". بل حتى لو اعتبرنا المسألة من وجهة نظر جغرافية محضة وراقبنا تغيرا صوتيا. على رقعة معينة من الأرض لوجدنا خطوات هذا التطور تندرج من قرية إلى قرية. فهناك ميل في البريتانية الحديثة نحو تغيير الصوت اللغوي المعقد الذي يرسم c'hw إلى f. وهذا الصوت يشتمل على احتكاكي حلقي مهموس متبوع بشبه حركة w "و" ينطق كما في الإنجليزية. ففي شمال المنطقة البريتانية، في ليونار، يمكننا حتى الآن أن نسمع هذا الصوت بوضوح: Chwech "ستة" وc'hwero "مر"، وفي الجنوب الغربي من هذه المنطقة، بين دوارنينز Douarnenez ورأس الراز pointe du raz، نسمع نفس الكلمتين تنطقان fec'h وfero بالفاء الاحتكاكية كما نراها في fave "فول" وfaire "يعمل1". يمكننا من الوجهة النظرية أن تتمثل خطوات التطور دون مشقة فلا بد أن الـch قد مرت أولا بخطوة التنفيس البسيط، على نحو الصوت اليوناني المقابل المسمى بالفرنسية: "esprit rude" والهاء الألمانية h. ونحن نعرف هذا الانتقال في ملفات أخرى، وفي الألمانية نفسها بوجه خاص. وفي الوقت نفسه اتجه ميل الواو w إلى أن تصير احتكاكية أسنانية شفوية لتنتهي إلى الفاء v البسيطة، وهو تغير معروف أيضا خير معرفة نستطيع أن نسميه تغيرا تقليديا، لأنه وقع في كثير من اللغات ابتداء من اللاتينية الدارجة والألمانية. ومن ثم تحولت المجموعة القديمة c'hw إلى hf. ثم عانت المجموعة الأخيرة بدورها تحولا كان منتظرا. إذ أخذ النفس المدفوع للنطق بالهاء h يوقف الذبذبات الحنجرية ويطغى على الفاء v فجعل منها فاء مهموسة F. وهذا ما وقع في الإرلندية القديمة حيث نجد المجموعة hv "الصادرة من sw س ولا من c'hw كما في البريتانية" تتمخض عن فاء f. فتطور المجموعة البريتانية chw يفترض إذن عددا من الخطوات الانتقالية، ولكنها جميعا مشروعة ومتفقة مع وقائع شوهدت في غيرها.   1 ج. لوث، رقم 8 مجلد 18، ص238 وفندريس رقم 1 مجلد 16 ص390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فإذا تركنا إقليم الليونار متجهين نحو دوارنينيز douarnenez مارين بشاتولان chateaulin ولكرونان lacronan قابلتنا عمليا، مبعثرة في أماكن متباعدة، هذه الخطوات التي وصلنا إلى استنباطها من اعتبارات نظرية. على هذا النحو يستعيد الإنسان تاريخ اللغة في نفس المكان الذي حدثت فيه التغيرات: فينتقل إذن من c'hw إلى hw، ثم إلى hu ثم إلى ف f، والمناطق الجغرافية للأصوات تهبط إذن في درجات متتابعة. ومن العدل أن نقول بأن انتقال الـc'hw إلى الفاء f ناتج من أحد اتجاهات اللغة البريتانية الحديثة، ولكن هذا الانتقال لا يتحقق تحققا تاما إلا في جزء واحد من الإقليم، ويفترض حدوث سلسلة من العمليات المعقدة التي لا تثير إليها علم الصوتيات. وحالات الاستثناء من التغيرات الصوتية أمر لا يستطاع تجنبه. ونحن نعرف منها عدة أمثلة كان سببها في غالب الأحيان أن كلمات دخلت اللغة بعد ما توقف تأثير القوانين التي كانت تستلزم تعديلها. فتلك مسألة استعارة ولها تاريخها في ميدان الألفاظ المستعارة. فيوجد في تاريخ جميع اللغات عدد كبير من المستثنيات ناتجة من الاستعارة، أي أنها ترجع إلى تأثيرات خارجية. كثير منها أيضا يرجع إلى تلك التأثيرات الداخلية التي تتلخص فيما يسمونه القياس analogie. وينحصر القياس في أن التغير الذي يفرضه القانون الصوتي على كلمة من الكلمات قد يتوقف أو يعدل تحت تأثير كلمات أخرى من اللغة. فمثلا يفرض قانون فرنسي مطرد أن تصير الكاف اللاتينية c شينا ch في الفرنسية إذا كانت واقعة قبل فتحة قديمة a فتقول chien "كلب" وchevre "عنزة" وcheval "حصان" وchantre "مغن" من canem وcapram وcaballum وcantor. ومن كلمة eapsa اللاتينية جاءتنا كلمة chasse "صندوق معد لحفظ مخلفات الصالحين". وقد جاءنا منها، بطريق الاستعارة عن إحدى اللهجات الجنوبية، كلمة caisse "صندوق" التي دخلت الفرنسية في تاريخ كان فيه القانون الذي نحن بصدده قد توقف عمله. هذه حالة تدخل تحت ما سميناه سابقا بالتأثير الخارجي. ولكن من vincat اللاتينية "صيغة النصب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 vinco ومعناه يهزم" كان يمكن أن يقال في الفرنسية qu'il vainche "لأن يهزم" بالشين؛ فإذا كنا نقول: qu'il vainqhe بالكاف فذلك لأننا أثبتنا الانفجاري في هذا الفعل المنصوب قياسا على صيغ أخرى كاسم المفعول vaincu "مهزوم". الذي أبقي فيه على الانفجاري اطراد لأنه واقع قبل u. القياس لا يكف عن أن يصحح أثر القوانين الصوتية أو أن يعوقها. فكثيرا ما يعرقل تطور الأصوات في سيره المطرد، مما جعل عالما اشتقاقيا لامعا محبا للنظام والوضوح يقول بأنه في بعض الأحيان "تعتريه نوبات من الغضب من جراء تخريبات القياس1". والواقع أنه لا تكاد تمر عملية صوتية دون أن يصيبها منه بعض الاضطراب إن قليلا وإن كثيرا. وغالبا ما يكون معنى الكلمات هو الذي يحدث أثره. ومن هنا تولد أحداث من الاشتقاق الدارج الذي هو أيضا من "آفات" الصوتيات. وسنعاود الكلام في هذا في الفصل الأول من الباب الثالث. يجب أن نلحق بهذا الباب حالات الإسراف في المدينة والإسراف في اللهجية2. وما يسمى الإسراف في المدنية هو المبالغة التي يؤدي إليها ولع صحة الكلام عند من يفخر بجمال العبارة. كالذي حدث أن فلاحا إيطاليا أراد أن يتكلم لاتينية روما، وكان يعرف أن حركة o الطويلة في لهجته يقابلها غالبا الـau diphtongue في لغة العاصمة فراح يقول plaustrum "بلوسترم" بدلا من plostrum و"كوْدا" cauda بدلا من coda "كودَا" وplaudere "بلودير" بدلا من Plodere "بلوديره" ذلك هو الإسراف في المدنية فحركة الـo هنا أقدم من الناحية الاشتقاقية. ولكن المدني أيضا كان ميالا بطبعه إلى المبالغة في المدنية حتى لا يتهم بالكلام على طريقة الفلاحين، فكان يستعمل عن طيب خاطر الكلمات التي ذكرناها بالنطق الذي أشرنا إليه. إذ الواقع أننا نعرف أن مثل هذه الطرائق من النطق كانت تستعمل في روما نفسها، وربما كان الناطقون بها من قدماء الرومان. فيروى أن السناتور فلوروس florus كان قد أخذ يوما   1 ا. بوما: رقم 125، مجلد 3 ص32. 2 هـ. أورتل H. oertel: رقم 137، ص148 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 على فسبسيان vespasien أنه يقول Plaustrum فأجاب الأخير السناتور مازحا وهو يستجوبه: "تحية يا فلوْري" "salue, flaure". والحق في جانب فسبسيان لأن plostrum هي الصيغة الصحيحة، أما بلَوْسترم plustrum فهي من إسراف في المدنية كما يمكن أن تكون فلورس Flaurus كذلك. وإذا تكلم الإنسان لهجة أجنبية تعرض للأخطاء بسبب التردد في صيغة الكلمات، فمن الأخطاء الشائعة الغلو في في مراعاة الصحة، أو خطأ التطرف في الخنبلية. هذا الخطأ كان كثيرا ما يقع من الإغريق عندما يحاولون الكتابة بلغة غير لغتهم. ففي دورية المؤلفين الفيثاغورثيين يوجد الكثير من الإسراف في اللهجية: إذا لما كان هؤلاء المؤلفون "أو ناسخوهم"؟ يعرفون أن "في الأتيكية يقابل غالب الأحيان a في الدورية، فقد غيروا الـn إلى a في أحوال كثيرة يبقى فيها الحرف n في الدورية على ما هو عليه. ويمكننا من ذلك أن نتصور وقوع أخطاء كثيرة من هذا القبيل في الفترة التي فيها أخذت اللهجات اليونانية تندمج بعضها في بعض لتكون اللغة المشتركة كلما أريد الكتابة بإحدى اللهجات الخالصة. ومن الأسباب التي كانت توقع في الخطأ اختلاف الألوان في داخل اللهجة وامتلاؤها بصيغ مشتركة، فيصعب عند الكتابة التمييز بين ما هو من صميم اللهجة مما ليس منها. بل حتى الأشخاص الذي يتكلمون اللهجة منذ ميلادهم يتعرضون لأخطاء الإسراف في اللهجة. رأينا في العرض المتقدم حالات كثيرة تصطدم فيها النزعات الصوتية المطردة مع نزعات من طبيعة مختلفة مختلفة. ولا بد أن مثل هذه الحالات قد مرت كثيرا في تاريخ اللغات، وإليها يجب أن تعزى الشواذ التي تقابلها في التاريخ الصوتي قاطبة وقد كان يحدث، على وجه الخصوص، أن يغير شعب لغته وبالتالي كانت اللغة الواحدة تتكلمها شعوب مختلفة. فتارة يفرض فاتح لغته على مهزوم. وتارة تحمل الظروف السياسية والاجتماعية شعبا من الشعوب على اتخاذ لغة جارة. ومن هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كانت الانقلابات السريعة الغربية في تطور بعض اللغات. لأن الشعب الذي يتخذ لغة جديدة يطبق عليها أحيانا عوائد النطق في اللغة التي تركها. وعلى هذا الأساس اضطر الدارسون إلى البحث عن تأثير لغة الجول1 في اللغة اللاتينية الدارجة التي كانت تتكلم في بلاد الجول، ولكن يجب الاعتراف بأن علماء اللغات الرومانية غير متفقين في هذه النقطة2. غير أنه من المحقق، من جهة أخرى، أننا نلاحظ وجود تطورات صوتية مشابهة في لغات شعوب مختلفة الجنس ولكنها متجاورة جغرافيا كما في الليفونية "وهي لغة فينية" والليتونية3 "وهي لغة هندية, أوربية"، وكما في الأرمينية "لغة هندية أوربية" والجورجية. كان بعض علماء اللغات يميلون إلى المبالغة في تأثير تغيير اللغة فيجعلونه أصلا لتغيرات الصوتية الرئيسية4. والواقع أن هناك تغيرات صوتية ذاتية تنتج من انحدار طبيعي في النظام ويدعو إليها استعمال اللغة نفسه ويبررها كذلك. دراسة تطورات اللغات تسمح لنا بأن نميز في سلسلة من التحولات الصوتية ما يرجع فيها إلى ظروف أجنبية. والعالم اللغوي الذي دأب باديء ذي بدء على معرفة النظام الصوتي للغة من اللغات في فترة من فترات تطورها معرفة عميقة، يستطيع دون مشقة أن يتعرف في التاريخ اللاحق لهذه اللغة آثار الاتجاهات الطبيعية التي كانت تحتويها اللغة بذورا في عهد سابق. هذه الدراسة تبشر بدراسة ذات قيمة عامة. فإن من ينجح في استخراج التعليمات التي تقدمها له جميع اللغات التي يعرف تاريخها، وفي تنسيقيها، يستطيع أن يحرر العمليات المطردة للتغير الصوتي. ولكن هذا العمل لم يعمل حتى الآن. ومع ذلك فأي عالم لغوي على علم بالصوتيات التاريخية لعدد من اللغات لا يكاد منذ الآن يتردد إذا ما رأي أمامه حالتين صوتيتين واردتين، في أن يقرر أيهما أسبق وفي أي اتجاه قد وقع التغير.   1 المراد بالجول هنا فرنسا القديمة قبل الفتح الروماني. المعربان. 2 ماير لوبكه Meyer-lubke رقم 181 ص170. عن تأثير اللغة السلافية على لغة رومانيا انظر دنسيانو Dansusianu رقم 66، مجلد 1 صفحة 241. 3 جيرسن: رقم 173، صفحة 79. 4 انظر خاصة jamillischeg: عن تبادل الأصوات "المسائل الأساسية لعلم اللغات الرومانية صفحة 162-191" عام 1911؛ وقارن دلبروك: رقم 153 صفحة 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية التغيرات الصوتية التي تكلمنا عنها حتى الآن تنتج من التحول في النظام الصوتي للغة. وسبب التحور الواقع في الأصوات اللغوية كان يبحث عنه في الصلة بين هذه الأصوات وبين النظام الصوتي. ولكن هذا النوع من التغير ليس الوحيد الذي ينبغي للعالم اللغوي أن يحسب حسابه. لا توجد في اللغات أصوات لغوية منعزلة. وهذا لا يعنى فقط أن الأصوات اللغوية لا توجد مستقلة وأنها لا تحلل على انفراد إلا بنوع من التجريد إذ أنها في كل لغة تكون نظاما مترابطا. ولكن معنى ذلك أيضا أنها لا تستعمل على انفراد: فلا يتكلم إلا بمركبات من الأصوات اللغوية. فأقل جملة، وأقل كلمة تفترض سلسلة من الحركات النطقية المعقدة وقد تركبت فيما بينها. ومن هذه المركبات تنتج أفعال متبادلة تؤدي إلى أنواع مختلفة من التحوير. والتغيرات التي تصيب الأصوات من جهة الصلات التي تربط هذه الأصوات بعضها ببعض في كلمة واحدة هي ما يمكن أن نسميها بالتغيرات التركيبية. وأهميتها في تاريخ اللغة لا تقل عن أهمية التغيرات السابقة1. ولكن يجدر بنا قبل أن نبدأ في درسها أن نبين حدود المجموعة الصوتية التي في داخلها تحدث التغيرات التركيبية، أو بعبارة أخرى، أن نحدد الكلمة الصوتية. السؤال الذي يتطلب الإجابة سؤال مزدوج. وينحصر في أن نبحث أولا عما إذا كانت الجملة في لغة من اللغات، إذا ما اعتبرت من جهة الأصوات اللغوية التي   1 سيفرس: رقم 305، 377، والعرض القيم للحقائق السلافية لبروخ، رقم 149 ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 تتركب منها فحسب، تتضمن أقساما يحسها المتكلم أم لا، ثم عما إذا كانت هذه الأقسام تطابق أقساما نفسانية أم نحوية. أما عن النقطة الأولى فيمكننا أن نجيب بالإيجاب دون تردد. فليس مما يشك فيه أن توجد في كل جملة أيا كانت أقسام صوتية طبيعية. بل إن هذه الأقسام عديدة الأنواع. التقسيم إلى مقاطع يعد واحدا من أظهر هذه الأقسام. كل متكلم يشعر به كما يبرهن عن ذلك علم الأمراض العقلية1. فقد لوحظت حالات من فقدان الذاكرة ظل فيها الإحساس بالمقاطع حيا بعد نسيان الكلمة نسيانا تاما. مثل هذا المريض لا يستطيع تعيين الأشياء إلا بعد المقاطع التي تكون الكلمة الدالة عليها، فمع عجزه عن التعبير بكلمة غطاء أو مقعد، فإنه يعرف مع الإشارة بأصبع يده أن كل واحدة من الكلمتين تتكون من مقطعين. فقد ضاعت من ذاكرته الحركات النطقية التي يجب القيام بها للنطق بالكلمة ولكنه ما زال يعرف كم عددها. نعم قد يمكن أن ترد شهادة هذا الاختبار بحجة اختلاطه بعادات محصلة لدى تعلم القراءة وأنه من المستحيل التمييز بين ما يرجع إلى اللغة المكتوبة وما يرجع إلى اللغة المتكلمة، فقد يمكن لعوائد اليد التي تخط الحروف وعوائد العين التي تدركها أن تختلط هنا فتفسد نقاء الصلات التي تربط الحقائق بعضها ببعض. يستخرج من النظم نتائج أخرى أكثر قوة من سابقتها. ففي عدد كبير من اللغات يقوم الوزن على عدد المقاطع، وذلك في لغات كانت تجهل الكتابة وحياة الشعر فيها كانت قائمة على تقاليد شفوية. ففي الهند وفي اليونان، أول ما بدأت الآداب، كانت تنظم قصائد طويلة يحسب فيها عدد المقاطع بشدة صارمة. وهذا على الأقل إذا جاز لنا أن نبني حكمنا على ورثة كتاب الفيدا المباشرين أو على مؤسسي الشعر الغنائي اللسبي2. وبدايات الكتابة تزكي هذه الشهادة، ففي الكتابة الصوتية بدئ في تسجيل اللغة بتسجيل المقاطع. فالتقسيم إلى مقاطع سبق التقسيم   1 انظر روسلو، رقم 115، ج2، ص969. 2 ل: هافيه: رقم 80 ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 إلى حروف، بل عاقه مدى طويلا أو قصيرا "انظر الجزء الخامس". وكان لا بد من تحليل طويل دقيق لتمييز عناصر المقطع. أم الأبجديات الأولى فسابقة على هذا العمل. فهي مقطعية. بل إن التقسيم إلى مقاطع قد سبق التقسيم إلى كلمات. ففي أقدم النصوص لكثير من اللغات لا يفصل بين الكلمات. ففيها آخر كل كلمة مركب مع مبدأ الكلمة التالية تبعا لقواعد الكتابة المقطعية، تلك هي الحال في كتابات الهند القديمة، وكذلك في الكتابة القبرصية، وهي بدورها كتابة مقطعية. يبدو أن التقسيم إلى مقاطع هو أول ما يحتل ذهن القارئ الذي يود أن يقيد بالكتابة جملة سمعها أو نطقها: ونحن نعرف مقدار المشقة التي يعانيها أشخاص غير مثقفين لفصل الكلمات فصلا صحيحا، وعلى العكس من ذلك مقدار دقة حسهم في التقسيم إلى مقاطع: فيظهر أن هذا الأخير أقرب إلى الطبيعة وأن الأول فيه قسط من التوافق الذي يحتاج إلى دراسة ومران. ومع ذلك فإن تعريف المقطع أمر عسير1. فلنأخذ أبسط الحالات: الحالة التي تحتوي على سلسلة من السواكن والحركات مرتبة ترتيبا تبادليا، ولتكن مجموعة مثل المجموعة الفرنسية L'Academie des beaux-arts منطوقة هكذا lekademidebozar "لا كاديمي ديبوزار". يمكننا من التحديد الذي حددناه فيما سبق للسواكن والحركات أن تستخلص قاعدة تنظم هنا التقسيم إلى مقاطع. فالحركات تقتضي فتح الفم. وهذا الفتح مهما اختلفت سعته، فهو دائما أكبر من ذلك الذي يصحب السواكن. بل إن بعض السواكن، وهي الإنفجارية، لا يصحبها فتح قط، والأخرى التي يصحبها فتح في التجويف الحلقي تتميز بضوضاء احتكاكية، مما يفترض ضيق فتح الفم نسبيا. تقدم إذن مجموعة الأصوات التي افترضناها سلسلة متتابعة من الفتح والتضييق الذي يذهب أحيانا إلى حد الإغلاق. فحالات الفتح تقابل   1 هذه السطور كانت قد كتبت عندما نشر كتاب فرديناند دي سوسير، رقم 121 حيث تعرض في ص64 وما يليها "ولا سيما ص89" نظرية عن المقطع تعد جد عريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الحركات وحالات الإغلاق تقابل السواكن. هذه الحقيقة تتجلى بشكل مقنع في الصورة التي ترسمها الإسطوانة المسجلة. فإذا تتبعنا حركات الريشة، أمكننا قراءة التقسيم إلى مقاطع. فالحركات ترسم منحنيات تختلف فيها بينها في درجة الانحناء ويدل مكان النزول منها على أوقات الإغلاق التي تكون السواكن. أما موضع الدقة فينحصر في تحديد النقطة التي تبدأ وتنتهى عندها المقاطع. يرى الأستاذ روديه M. roudet أن التقطيع يظهر في ثلاثة وجوه تبعا لوجهة النظر التي يرى منها. يقول: "يوجد عند الانتقال من مقطع إلى مقطع تغير مفاجيء يصيب كلا من الجهاز التنفسي والحركات النطقية والإدراك السمعي معا1. هذا التغير الثلاثي يسمح، في بعض الأحوال، بتعيين حدود المقاطع، ويكون التقسيم تحكيما في أحوال كثيرة أخرى. لذلك يكون من العبث أن نسعى إلى حديده كما لو أردنا أن ن نحدد النقطة التي يوجد عندها قا واد يقع بين جبلين. أما تعريف الكلمة الصوتية فالتحكم الذي يعتريه لا يقل عن سالفه، بمعنى أن كثيرا من المقاطع بل ومن مجاميع المقاطع لا نعرف ما إذا كنا نعدها كلمات مستقلة أو أن نصلها بالكلمات المجاورة لها. فالتقسيم يكون قاطعا أو غير قاطع تبعا للغات المختلفة. كان يجب أن نجد في النبر وسيلة لحل المسألة. لقد رأينا أن إصدار النفس، عند خروجه من القصبة، لا يحدث بصورة مطردة متساوية. فتصريف كمية الهواء غير متصل لأن العضلات التي تهيمن على المنفاخ الصوتي تعجل حركته تارة وتبطيئ فيها تارة أخرى. وإذن فهناك حالات من الإسراع ومن التقطيع الوزني ومن تخفيف السرعة ومن أوقات التوقف، يقع كل هذا بعدد يقل أو يكثر تبعا للغات وتبعا للمتكلمين. وبعبارة أخرى ينطوي الكلام في حد ذاته على مبدأ من الوزن مع فترات من القوة وأخرى من الضعف. كما نستطيع تقسيم الجملة الموسيقية، باستثناء الميلودية Melodie، إلى تفاعيل "وحدات" mesures، كذلك يمكننا أن نجد في كل   1 رقم 113، ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 جملة أيا كانت، إذا استثنينا المعنى، عددا من التقسيمات لعلها أقل اطرادا وطولها أشد اختلافا منها في الموسيقي، ولكنها كذلك قائمة على التكرار المنتظم لفترات القوة. فاللغة فيها قم وأغوار. ولكن هذه القمم لها في الغالب قيمة سيكلوجية. حتى ليجد الإنسان نفسه مسوفا في بعض الأحيان إلى القول بأن الحركات العضلية التي تنتج الشدة والعلو تسيرها أسباب سيكلوجية فكأن النبر ينفث الحياة في هيكل الأصوات العظمى أو على حد تعبير مجازي لقدامي النحاة، النبر "روح" الكلمة. فهو الذي يعطي للكلمة طابعها وشخصيتها، سواء أكان نبر علو أم نبر شدة. ولكن النبر مع كل هذا لا يكفي لتحديد الكلمة1. أولا لأنه لا يعين حدودها إلا بصورة ناقصة. نعم إن النبر في بعض اللغات يتوقف على آخر الكلمة، وفي البعض الآخر مبدأ الكلمة هو المنبور. ولكن هذا الحالات لا تستغرق جميع الإمكانيات. فمن اللغات ما لا يشير نبرها المتغير إلى نهاية الكلمة. هذا إلى أنه قد لا يوجد في مجموعة م الكلمات إلا نبر واحد، وعلى العكس من ذلك قد يوجد نبران في كلمة واحدة. فقد كان في الهندية الأربية. كما تبرهن عليه الإغريقية والنسكريتية، ما يسمى بالكلمات الملحقة، وهي كلمات قصيرة لا توجد مستقلة بل توصل بما قبلها. وفي لغاتنا الحديثة التي تستخدم نبر الشدة تنطق بعض مجاميع الكلمات بدفع صوتي واحد يرتفع فيه النفس على مقطع واحد من المجموعة كلها. ومن جهة أخرى فإننا نعرف في السنسكريتية كلمات مزودة بنبرين، وإنه كثيرا ما ينشأ في اللغات التي تستخدم نبر الشدة، نبر ثانوي إلى جانب النبر الأساسي. فمن المتعذر أن نجد رباطا نهائيا دائما بين النبر والكلمة، إذ نجد في بعض اللغات التي تستخدم نبر العلو كلمات أساسية تخلو من النبر، كالفعل السنسكريتي في كثير من استعمالاته: فمهما كانت أهمية الفعل في الجملة السنسكريتية، فإنه لا ينبر في الجملة الرئيسية. فينبغي إذن ألا تخلط بين استقلالية الكلمة وتعبريتها وتنبيرها. فهنا أمثلة من الروسية يوصل فيها الاسم بالحرف، مثل u marja "قريب من   1 عن النبر في الفرنسية انظر الملاحظات التي كتبها الأستاذ جرامون رقم 78، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 البحر"، na zemlju "على الأرض"، pu gorodu "في المدينة"1. وسنرى من جهة أن النبر لا يقع بالضرورة على أهم مقطع في الكلمة: فعندنا النبر في الفرنسية على المقطع الأخير في أغلب الأحيان، يعني على عناصر تكوينية أي لواحق بينما يبقي الجزء الأصلي من الكلمة غير منبور2. كل ذلك يحملنا على تحديد الكلمة الصوتية مستقلة عن النبر. في كثير من اللغات تنفرد "القطعة" النهائية من الكلمة -على حد تعبير علماء الأصوات- بمعاملات خاصة لا تعرفها القطعة المبدئية، ولا القطع الداخلية3. ذلك على وجه التأكيد أمثل حجة للبرهان على وجود الكلمة الصوتية. والقطعة النهائية من الكلمة خائرة القوى من حيث هي نهائية، بصرف النظر عن قيمة الكلمة الصوتية وأبعادها ونبرها، وذلك ما بينه جوتيو. هذا المبدأ العام لخور النهائيات يستتبع مظاهر مختلفة، والخور قد يكون خطيرا وقد يكون ضئيلا. ولكن يمكننا أن نجد في الظروف التي يخضع لها هذا المبدأ ما يقوي المبدأ نفسه، لأن نتائج الخور تزيد جلاء بقدر استقلال الكلمة وقيامها بنفسها. فنطق النهايات بطريقة خاصة ناجم عن وجود الكلمة ويعين حدودها. ما دمنا قد سلمنا بوجود الكلمة الصوتية، فقد أمكننا أن ندرس التعديلات التي تحدث فيها بسبب ما للعناصر التي تكونها من فعل متبادل. والواقع أن الحقيقة الأخيرة التي لفتنا النظر إليها هي إحدى الحقائق العامة التي تنتج ومن وجود الكلمة الصوتية، وتصلح مثالا على ما يسمى التغيرات التركيبية. فالنهاية تتطور في اللغات الهندية الأوربية يوصفها نهاية، أي بسبب المكان الذي تحتله بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، وإذا وجد في بعض اللغات حالات مخففة من مبدأ الضعف العام، بل وحالات من الاستثناء أتاحت لهذه النهاية أو تلك أن   1 بوييه Boyer وسبيرنسكي speranski، رقم 53، ص31 هامش 2 وص11 هامش 2. 2 جسبرسن، رقم 133، ص26 وما يليها. 3 جوتيو، رقم 73، ص34-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 تبقى سليمة، فذلك لأن جميع اللغات ليست سواء في الاحتفاظ التام لنهاية الكلمة بطابعها من جهة، ومن جهة أخرى لأن آثارا خاصة عارضت الأثر العام الذي يضعف النهايات. وهكذا سقطت الميم m النهائية من النطق في اللغة اللاتينية منذ عهد مبكر، ولكن كلمة rem احتفظت بأنفيتها التي بقى منها آثار في الكلمة الفرنسية rien "لا شيء". وذلك لأنها. كلمة قصية، وحيدة المقطع، والكلمات القصيرة كثيرا ما تقاوم الانحرافات التي تصيب الكلمات الطويلة باطراد. أما الكلمات الطويلة فعلى العكس من ذلك، تقدم لنا في بعض الأحيان انحرافات خاصة ناجمة من طولها1 هذه بوجه خاص هي الحال بالنسبة لكلمات كثيرة الاستعمال، ومن ثم يمكن فهمها قبل النطق بها إلى حد أن المتكلم يستطيع أن يعفي نفسه من توضيح النطق بها، مكتفيا بنطقها في صورة مختصرة. فالبلي الصوتي واضح فيها بدرجة خاصة. هذه الألفاظ في عمومها إما آلات مساعدة في اللغة وإما عبارات محفوظة متداولة ولذلك ليست في حاجة إلى وضوح النطق الذي تقتضيه الرغبة في الإفهام. ويوجد في كل اللغات أدوات وحروف جر وحروف وصل أصلها في غالب الأمر كلمات قائمة بنفسها تحولت إلى آلات نحوية "أنظر الفصل الخامس من الجزء الثاني" هي في الإغريقية القديمة فعل أمر معناه "دع" "قارن العبارة الإنجليزية let us go "لنذهب" let him write "دعه يكتب""، فالتقلص في الحالتين يتجاوز، ويتجاوز بكثير القواعد العادية للغة، ويمكن تفسيره بالطابع النحوي للكمات التي تقع في حوزته.   1 مييه: رقم 6، مجلد 13، ص26. 2 برنو: رقم 109، ص125، 236، ملاحظة رقم1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ومن الشائع في الفرنسية أن يقال وِمْسييه "wimsyoe" و"wimmzel" وِمْزِلْ بدلا من oui, monsieur "نعم سيدي" وoui, mademoiselle "نعم آنستي" وفي الأسبانية يقال: "أُسْتد" usted بدلا من vestra merced وفي الألمانية moen gmoen بدلا من Guten Morgen "جوتن مورجن" "صباح الخير phyadtigot, "حفظك الله" بدلا من behute dich gott. وقد جرت محاولات لتفسيرها بنظرية حركة الكلام sprech temop, وعند أصحاب هذه النظرية الصيغتان gmoen, wimsyoe، من صيغ السرعة "الأللجرو allegro" أما الصيغتان oui, Mosieur وguten Morgen من صيغ البطء "اللنتو lento". ولكن هذا التفسير لا يقنع أحدا. نعم إن سرعة إرسال الكلام تختلف من لغة إلى أخرى: فالفرنسيون أو الإنجليز أسرع من الألمان في الكلام، وألمانيو الشمال أسرع من ألماني الجنوب. ولكن من غير الصواب أنه توجد في داخل اللغة نفسها صيغتان في آن واحد وأنه يمكن استعمال هذه أو تلك تبعا لسرعة المحادثة. والواقع أن هناك كلمة Morgen أو كلمة monsieur وكلتاهما موجودة في الفكر، وكلمة moen أو msyoe وهما اللتان تنطق بهما الأعضاء. وقد نشأت الصيغتان الأخيرتان من اتجاه في اللغة طبق إلى أبعد الحدود، وهما تبنيان إلى أي حد يصل تأثير الاتجاه الصوتي في اللغة إذا لم يعقه عائق: فهما في الواقع من الصيغ المتطرفة في اللغة1. من العسير أن تكون عناصر الكلمة الصوتية متساوية القيمة في داخلها. فمنها القوي ومنها الضعيف، منها ما يسود ومنها ما يساد، ومنها ما يقاوم آثار العوامل الهدامة ومنها ما يستسلم لها بسرعة2. السيادة والغلبة، هاتان هما الصفتان الجوهريتان اللتان على مؤخر اللغة قبل كل شيء أن يعين حدودهما وأسبابهما في في داخل النظام الصوتي للغة التي يدرسها: الواقع أن التكوين الصوتي لكل لغة يقضي بوجود أنواع من السيادة ومن المقاومة الخاصتين. ولا يمكن أن تختلف اللغات بعضها عن بعض في التطور الصوتي غلا بصراع ينشأ بين الأصوات من   1 انظر فندريس: خواطر عن القوانين الصوتية، رقم 99 ص122. 2 انظر جوريه juret رقم 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 جراء التوازن. غير أنه فيما عدا التأثيرات الصوتية الخاصة بكل لغة، توجد تأثيرات عامة تتجلى في كل اللغات وهي نتيجة لاتجاهات طبيعية فسيولوجية ونفسية معا. ففي الأصوات الإنفجارية يوجد فرق بين العنصر الانحباسي والعنصر الانفجاري، فالأول أقل حساسسية للمسع لأن انطلاقه أقل صلابة من الثاني. هذا الفرق يعرض الانحباس لعوارض مختلفة. فمجموعة مثل "أكتا" akta فيها الكاف k وهي انحباسية أقل مقاومة من التاء t الإنفجارية "انظر ص49". ويمكن لاتجاهين متعارضين أن يؤثرا معا، وتكون النتيجة تعديلا في المجموعة فإما أن يتخلى المتكلم كسلا عن تحقيق الحركات النطقية للكاف k فينتقل طرف لسانه توا منذ الاحتباس إلى موضع التاء t فنحصل في النهاية على atta "أنا" بتاء طويلة. هذه العملية قد وقعت في اللغة الإيطالية حيث نجد الكلمات اللاتينية actus "اكتس" وstrictus "ستركتس" قد صارت atta "أتا" وstretia "سترتا. وإما أن تدفع المتكلم الرغبة في توضيح نطق الكاف k إلى أن يتبع الكاف الانحباسية بانفجار طفيف يقوم به في نفس النقطة قبل الانتقال إلى انفجار التاء t وهذا النطق نسمعه في الفرنسية غالبا عن أولئك الذين يغالون في صحة الأداء، ويمكن رسمه بكتابة faqueteur "فكتير" بدلا من facteur "فكتير" "ساعي البريد. فانفجار الكاف k في الواقع مهما بلغ من القصر، يقع حتما على شبه حركة، هي الحركة الضامرة المخنوقة التي يشار إليها بالـe الصامتة. في الحالة الحالة الأولى حدث توافق1 وفي الثانية انفصال. هناك مسلك ثالث: وذلك بألا يتجه الصوتان المتماسان إلى التوافق بين عناصرهما بزيادة المشابهة التي بينهما، تلك المشابهة التي تصل أحيانا إلى التماثل التام، ولا أن يتحصن كل منهما ضد الآخر بوضع نوع من العازل يكون عقبة في سبيل التأثير المتبادل بينهما، بل على العكس من ذلك، بأن يستغلا ما بينهما من فروق فيعمقاها إلى حد ألا يبقى بينهما شيئ مشترك، ثم يزيلا كل نقطة للتشابه. وتلك هي عملية المفارقة2 التي هي ضد التوافق. وهكذا، في مثل المجموعة السابقة kt "كت"   1 فندريس، رقم 6، مجلد 16، ص53 "1909". 2 مييه: رقم 45 مجلد 12، ص14 وما يليها "1901". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 نجد بعض اللغات كالإيرانية والكلتية تقلب الانفجاري الأول إلى احتكاكي فتحصل في نهاية الأمر على CHT "شت" وطبيعة التغير في حالة التوفيق أو الفصل أو التخالف تتوقف على الشروط العامة لنظام اللغة الصوتي. هذه العمليات الثلاث كثيرا ما تتدخل لإزالة المجاميع الصوتية التي يصعب نطقها. وتعمل اللغات على إبعاد الأصوات أو بجاميعها التي من هذا القبيل لأسباب عضوية على وجه العموم. وعسر النطق كعكسه، وهو اليسر، من المسائل النسبية المحضة التي يحسها المتكلم بوضوح على ما يبدو، ولكنها تختلف في كل لغة عنها في الأخرى. ولا يمكن تقويمها دون معرفة اللغة معرفة دقيقة. والواقع أن أصلها يرجع إلى العادات المكتسبة من الحركات النطقية. لذلك كانت هذه المجموعة أو تلك التي يعسر نطقها على شعب من الشعوب، ينطق بها جاره دون صعوبة. بيد أن هناك مجاميع عسيرة النطق بصفة عامة، وبسبب الاستعداد الطبيعي للأعضاء ويمكن أن تطلق عليها اسم المجاميع غير الثابتة. فكلما أدت الظروف إلى نشوئها في اللغة، أمكننا أن تتنبأ بأن اللغة ستدبر الأمر للتخلص منها ولكن خطة التخلص منها تختلف. فالمجموعة TN "تن" مجموعة غير ثابتة. فلما كانت نقطة الحركة النطقية للتاء هي عين نقطة النون في تركيب مثل أثنا ATNA، كان على اللسان ألا يتحرك بين الفتحتين وتكفي حركة بسيطة من غشاء الحنك مع وضع الذبذبات الحنجرية في حالة حركة للتفريق بين التاء والصوت الأنفي. وهذه آلية على جانب من اللطف تتطلب كثيرا من الدقة. ويستطيع الإنسان أن يستعد لها عندما يدور الأمر حول كلمة علمية. مثل إسم العلم إتنا ETNA. والحقيقة أن أسماء الأعلام تقاوم أكثر من غيرها الانحرافات الصوتية التي تنشأ من التغيرات التركيبية. ولكن الإنسان في الكلمات الكثيرة الدوران في الكلام على العموم يدبر أمره للتخلص من المجموعة غير الثابتة NT "نت". فطورا يحصل توافق، ينخفض حجاب منذ بدء المجموعة وتستمر الأوتار الصوتية في الذبذبة دون توقف بين الفتحتين فتكون النتيجة ANNA "أنّا"، "هذه هي الحال في الكلمة اللاتينية ANNUS الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 "آنُس" إذا قورنت بالقوطية ATHNUS "أثنس" وكلتاهما مأخوذتان من ATNOS "أتنس" التي تعد أقدم منهما". وطورا يحصل تخالف يتجه على حسب الأحوال إما نحو الانفجاريوإما نحو الأنفي، فيوسع اللسان من شقة الخلاف بين الصوتين ليتجنب البقاء في وضع من التوازن يصعب عليه الإحتفاظ به: فنحصل مثلا في بعض الأحيان على AKNA "كما في الأمبرية1 حيث نجد فيها كلمة AKNUS "أكْنُس" تقابل ANNUS "أنُّس" في اللاتنيية". وفي بعض الأحيان atra "أتْرَا"، كما وقع في عدد من اللغات الكلتية، وعلى الخصوص في اللهجة البريتانية، حيث تنحدر كلمة TRAON "تراؤن" "قاع، واد" من الكلمة الأقدم منها tnaou "تناؤو". وهناك مسلك ثالث للتخلص ينحصر في الفصل. إذ لما كان تلامس التاء والنون هو مصدر الصعوبة في النطق، أمكن حذف هذه الصعوبة بإدخال حركة بينهما مثل: tyno "تِنو" في الغالية "تنطق بالفرنسية teno بـe صامتة" التي تقابل traon في اللهجة البريتانية. في الأحوال السابقة كان الأمر يتعلق بأصوات متلامسة، ولكن حالات التوازن وتبادل التأثير تصيب أيضا أصواتا يفصل بينها عدة عناصر، بل أصواتا أيضا تنتسب لمقطعين مختلفين وتوجد في أماكن يبعد بعضها عن بعض في الكلمة الصوتية. والعمليات التي تنتج هنا هي عمليات التشابه والانتقال والتخالف2. يقال إن هناك تشابها عندما يستعير واحد من صوتين منفصلين عنصرا أو أكثر من عناصر الآخر إلى حد الاختلاط به. والصوت المشبه يسبق في أغلب الأحيان الصوت المشبه. أي أن هناك في الواقع حالة تعجل: فالعقل باشتغاله بنطق صوت ما في داخل مجموعة صوتية يجعله يصدره قبل أوانه، وينتج مرتين   1 الأمبرية OMBREN: لهجة إيطالية قديمة عرفت من بعض نصوص منقوشة على الآثار. المعربان. 2 انظر خاصة جرامون، رقم 79. والمقالات العديدة التي نشرها عن الانتقال المكاني في كثير من اللغات ولا سيما في رقم 6 مجلد 13، ص73 وما يليها، رقم 101 ص179. وانظر أيضا برنو PERNOT رقم 108، ص540. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 متتابعتين الحركات الصوتية التي يقتضيها هذا الصوت. ويكون الصوت المشبه عادة قريبا من الآخر إلى حد ما لتبرير الخطأ. وهكذا كان أسلاف اللاتينيين يقولون Quequo كوكوا بدلا من pequo ومن ثم جاءت coquo "كُوكْوو" "أنضج" في النصوص التاريخية. ولكن التشابه يستطيع أن يسير في طريق عكسي، فنجد في الفرنسية الدارجة juchque "جشْك" بدلا من jusgue "جُسك" "حتى"، على أن التشابه هنا ينحصر فقط في إحلال موشوس محل صغيري دون تأثير على صفة الجهر. والانتقال المكاني يصدر عن نفس الأصل الذي صدر عنه التشابه. إذ أن مرد الأمر في كليهما إلى الخطأ ونقص الالتفات. ولكن النتيجة مختلفة كل الاختلاف فبدلا من تكرار الحركة النطقية مرتين، يقتصر على تغيير مكان حركتين، وأخيرا يبدو الانتقال المكاني كما لو أن جزأين في كلمة واحدة قد تبادلا أحد العناصر. فبدلا من "فِسْتْرا" festra "نافذة" يقال في البرتغالية fresta "فِرْستا"، ويقال في بعض اللهجات البريتانية drebi بدلا من debri "دِبْري" "يأكل".   1 فضلا عن كتاب جرامون ذلك الكتاب الأساسي، انظر: ك. برجمان: "معنى التشابه الصوتي". ليبنرج 1909. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 والنظام الذي تتم به العمليات الثلاث المتقدمة بتوقف على أسباب خاصة على العالم اللغوي أن يحررها في كل حالة على حدة: فضغط الشدة أحد الأسباب التي تتحكم في آلية الانتقال المكاني والتخالف. كما يجب ألا نسقط من حسابنا طبيعة الأصوات ولا مكان كل منها في داخل الكلمة. التغيرات التركيبية لا تنتج منها أصوات لغوية جديدة. فالتخالف مثلا لا يخلق أبدا أصواتا جديدة غير معروفة في اللغة التي يحدث فيها، "عندما يكون على فعل التخالف الطبيعي أن ينتهي بإنتاج صوت جديد، يحدث أحد أمرين: إما أن يستعاض في الحال عن هذا الصوت المريب بأقرب صوت إليه تعرفه اللغة، وإما أن يبقي الصوت أو مجموعة الأصوات التي كانت عرضة للتخالف على حالها دون تغير، وذلك عندما تتعذر الاستعاضة، أي عندما يكون أقرب الأصوات إليه في اللغة لا زال ببعد عنه بعدا شاسعا" "م. جرامون" في هذه الحال لا يحدث التخالف، أو إذا حدث، حدث في اتجاه عكسي. وإحساس الإنسان اللاشعوري بأنه سيحمل على نطق ما لا ينطق، يمسكه عن المضي في طريق التخالف، ويقلب كيان القوى التي في الكلمة ويخلع على الحرف الذي كان يجب أن يختفي فضلا من القوة يميل بكفة الميزان في مصلحته: ويقال حينئذ إن التخالف قد انعكس. وكذلك لا ينتج التخالف لباعث نفساني، إذا كان اشتقاق الكلمة جليا بالنسبة للمتكلم. وإذا كان هذا الأخير يعرف اشتقاق جزء الكلمة الذي يجب أن يقع عليه التخالف فحسب، حصل التخالف عادة في طريق عكسي: أما إذا كانت أجزاء الكلمة كلها واضحة الاشتقاق بالنسبة إليه، لم يحصل تخالف فقط. وتكون القوة أحيانا في جانب الجزء اللاحق باللفظ وأحيانا في جانب جزئه الأصلي. فكلمة pruneraie "برنيريه" كان يجب أن تكون عند التخالف pluneraie "بلنريه" في الفرنسية ولكنها صارت prunelaie "برنيليه" "مزرعة برقوق" لكون الجزء الأصلي أقوى الجزأين، هذا إلى أن وجود كلمة prunelle "بروينل" "نوع من البرقوق الوحشي صغير الحبة" قد ساعد على حدوث التخالف. أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 في حالة الكلمة الإسبانية sombrero "سمبريرو" "قبعة" فلم يحدث تخالف لأن العناصر المقطعية التي فيها الراء r ذات دلالة بالنسبة لمن يتكلم. وقد استطاع الأستاذ جرامون أن يجمع كل أحوال التخالف تحت قانون واحد هو: الصوت اللغوي القوي يقتضي بالتخالف على الضعيف. وإذا كان الصوتان في قوة واحدة بقي كل منهما. فنحن أمام صراع من السيطرة والمقاومة. ولكن هذا الصراع لا يمس الأعضاء وحدها. نعم يوجد في بنية كل لغة عناصر تفوق غيرها قوة "انظر الفصل السابق" ولكن القوة الخاصة بكل عنصر مقرها المخ على وجه الخصوص. فالتغيرات التركيبية تأتي من نقص في التناسق بين الفكر والأعضاء، وتنتج من خطأ في الالتفات. فأحيانا يصل الالتفات إلى درجة كبيرة ويتركز بإسراف في نقطة واحدة على حساب غيرها أو يوزع نفسه بصورة غير متساوية على العناصر المختلفة التي تكون الكلمة، وأحيانا على العكس من ذلك يفر تاركا العضو لكسله الطبيعي. لتقدير قيمة هذه التغييرات على حقيقتها، يجب أن تكون لدينا معرفة دقيقة بعلم الصوتيات العام وكذلك بالنظام الصوتي الخاص بكل لغة، ولكن يتبقى لنا فضلا عن ذلك أن نستطيع إرجاع التغير إلى عملية نفسانية. لأن عقل المتكلم هو المسئول عن ذلك في نهاية الأمر. تسوقنا هذه الخاتمة إلى أن نقول كلمة عن الصلة بين الكلام وبين الفكر. إذ أن هذه المسألة وإن كانت مسألة سيكلوجية قبل كل شيء فلا يسوغ للعالم اللغوي أن يهملها بأية حال1. عندما نسمع لغة أجنبية لا نعرفها لا تدرك أذننا منها إلا مجاميع من الأصوات على شيء من الطول يقل أو يكثر، ويفصل بينها   1 انظر خاصة ب. إردمان B. Erdumann: "الأسس السيكلوجية بين الكلام والفكر" في "Archiv. f. system. philosophie" مجلد 2، عام 1896، ص355-416. وموتنر Mauthner رقم 178 مجلد1، ص164. ويوجد في فان جينيكن van Ginneken رقم 78، مراجع عديدة عن هذه المسألة في أماكن متفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فترات من الصمت. فإذا كنا نفهم اللغة التي يتكلم بها أيقظت في ذهنتا هذه المجاميع من الأصوات مجاميع تصورية مرتبطة كل منها بالأخرى وتكون ما يسمى جملة في الاصطلاح النحوي. أصوات وجمل، هاتان هما الحقيقتان اللتان يميزهما للوهلة الأولى تحليل الكلام تحليلا سريعا مبنيا على الفرق بين الأثر الذي يحدثه فيتا سماع لغة مجهلها وبين الذي يحدثه سماع لغة تفهمها. من الحق أننا لا نغير بأصوات عن كل ما في ذهننا من وحدات تصورية. فالتأمل مثلا لا يقتضي تمرين الأعضاء المنتجة للصوت، ولكن التأمل كلام داخلي فيه تتسلسل الجمل كما في الكلام المنطوق1. وكل واحدة من جمل التأمل تنطوي بالقوة على جميع الحركات النطقية للكلام. فالتفكير يسير معتمدا على الأصوات، حتى عند ما تكون الأصوات غير منطوقة. لذلك نرى أنفسنا في بعض لحظات التأمل مسوقين بطريقة غير شعورية إلى نطق بعض الكلمات التي تقابل تفكيرنا. فكأن الفكرة، وقد ثقلت وطأتها على العضو، قد وضعت الآلية في حالة حركة على غير إرادة منها، على نحو ما يفعل أخرق أو أهوج وقد أراد أن يجرب جهازا ما فلم يكتف بالتمثيل التوضيحي، بل راح ينفذ العمل على حقيقته. يجب أن تترك لعلماء النفس أن يبينوا إلى أي حد تكون الإمكانيات الصوتية ضرورية للكلام الداخلي. هذه الضرورة ناتجة من العادة على وجه التأكيد، وليس إلزاما من الطبيعة. ولكن يمكن الجزم بأن تأمل الأصم الأبكم يختلف عن تأمل الإنسان السليم الذي وهب الكلام. فالصورة التي نعبر بها تسجن التفكير بشكل يجرده من الوجود المستقل ولا يسمح له بالانفصال عن الأصوات التي تحقق ماديته، ولا بالانفصال عن إمكانيات الأصوات عندما لا يحدث في الواقع التحقق المادي. والحالة التي فيها تدور الأعضاء في الفراغ، دون عمل التفكير، لا تناقض هذا المذهب. فإذا أردنا أن نسمع سلسلة من أصوات متنوعة مجردة من المعنى، فإن تنوعها لا يساوي أبدا ذلك التنوع الذي يستلزم التعبير المنطوق عن فكرة من الأفكار. وأغلب الأمر, أن يقتصر الإنسان على إنتاج   1 ف. إججيه "v. Egger" الكلام الداخلي، باريس 1881. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 مجاميع من الأصوات موجودة في اللغة، أي مما اعتادت الأعضاء على النطق بها ويجري استعمالها مزودة بمعنى من المعاني. يمكننا أن نسمي الوحدة النفسانية السابقة على الكلام بالصورة اللفظية، وهي تصوير أعده الفكر قصد التعبير الكلامي، وهي في الوقت نفسه مجموعة من الإمكانيات الصوتية على استعداد للتحقق الفعلي. فالصورة اللفظية صورة مزدوجة الوجه تنظر بإحدى ناحيتيها في أعماق الفكرة وتنعكس بالأخرى في الآلية المنتجة للصوت. إذا اعتبرت من وجهة تحققها المادي ترجمت بالأصوات، ولكنها بأصولها النفسانية من نتاج عمل العقل. ففيها يتحد طرفا الثنائية التي كنا في سبيل الكلام عنها فيما سبق، وفيها يلتقي ميدان العالم اللغوي بميدان العالم النفسي. علماء النفس1 يعتبرون الصورة اللفظية نتاجا معقدا ناشئا من انطباق صور أربع بعضها فوق بعض أو من اشتراكها، وهي صورة شفوية وصورة سمعية وصورة بصرية وصورة يدوية. وهذا التمييز بين الصور الأربع قديم جدا، قال به منذ سنة 1740 دافيد هارتلي David Hartley في ملاحظاته عن الإنسان Observations on man. ونحن نعرف المكان الذي احتله هذا التمييز في أعمال مدرسة charcot. فهذا الأخير كان يعلم أن كل كلمة تتكون من عناصر أربعة تجتمع مثنى مثنى في صور حسية "سمعية وبصرية" ومحركة "شفوية ويدوية" أو -وذلك بنوع من التوزيع الذي يتلاقى مع السابق- في صور صوتية "سمعية وشفوية" وكتابية "بصرية ويدوية". هذا التحديد يمكنه أن يدافع عن نفسه إذا طبق على الصورة اللفظية لا على "الكلمة" "قارن الصفحة الأخيرة في هذا الفصل". ومع ذلك فإن تحليل الصورة اللفظية تافه الأهمية بالنسبة للعالم اللغوي. لأن أحوال النشاط المخي التي هي شغل العالم النفسي الشاغل تخرج عن دائرة اختصاص العالم اللغوي. نستطيع هنا أن نعتبر الصورة اللفظية كلا يغيب عنا تكوينه. فعنصران على الأقل من العناصر التي يعرفها لها علماء النفس "أعني البصري واليدوي"   1 انظر دنيان بوفريه، رقم 10، مجلد 16، ص466 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لا يدخلان في حسابنا لأنهما لا يعنيان غير الكلام المكتوب. ولا يدخل في الحساب بالنسبة للشخص الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة إلا الصورتان الشفوية والسمعية، ولكنا، حتى منذ ابتداء الفصل الأول، قد ذكرنا من البواعث ما يدفعنا على جعلهما صورة واحدة "انظر ص44". ومن جهة أخرى ليس علينا أن نعمل حسابا للاختلافات التي تنتج في نشأة تكوين الصور اللفظية. فنحن نعتبرها مكونة نهائيا في مخ المراهق الذي يتكلم لغته القومية. ونحن نأخذ كلام المراهق كما يسير سيره العادي، بناء على التحصيل الذي تلقاه منذ طفولته الأولى. على كل طفل أن يخلق هو نفسه ومن كل وجه كلامه، وإذن فالصور اللفظية التي ليست إلا بعض وقائع الاختبار تحولت في المخ إلى إمكانيات لغوية، وعلى الطفل أن يحصلها شيئا فشيئا وأن يربيها. وإنه ليتعذر علينا أن نتمثل أطوار هذا التحصيل بناء على الصورة التي بها نتعلم لغة أجنبية في سن المراهقة. لأن تعلم لغة أجنبية يقوم دائما على أساس اللغة القومية. فإن الإنسان يسير بطريقة الاستبدال، ويسعى إلى تكوين معادلات بأن يرص في ذاكرته كلمات وجملا من اللغة التي يتعلمها إلى جانب كلمات لغته القومية وجملها. كما يعتمد هذا التحصيل في غالب أحيانه على الكتب، فيعتمد على الكلمات المكتوبة ويتخذ أساسا له نوعا من البنية النحوية المصطنعة إن قليلا وإن كثيرا. أما العمل الذي يتم في دماغ الطفل فيختلف عن هذا اختلافا كليا. فإن الطفل يتلقى عمن يحيطون به جملا جاهزة تفيد التعبير عن بعض الأوامر أو بعض الحاجات، أو عن بعض الوقائع فحسب: "انصرف"، "أنا جوعان"، "الجو صحو" ... إلخ. كل هذه تختزن في الدماغ وتكون بعددها صورا لفظية، صورا تصقل وتتحدد كلما تكاثرت؛ لأن هذه الصور تصير -بواسطة الاستبدال الذي يعتاد عليه عقل الطفل بسرعة- جديرة بالتعبير عما في الأشياء والأفكار والعواطف من تنوعات جمة، وتتلون بجميع ألوان التفكير على اختلافها. فإذا ما انتهت مرحلة التحصيل، كان في حوزة الطفل مجموعة من الصور اللفظية التي تظهر من تلقاء نفسها في الدماغ كاملة التكوين، وعلى استعداد تام لتحقيقها عمليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 في الكلام، كلما عن له أن يلقي أمرا أو أن يعبر عن حاجة أو أن يصوغ واقعة من الوقائع. ولا يلبث المجهود العقلي الذي تتمخض عنه الصورة اللفظية أن يصير من البساطة والألفة بحيث لا يشعر به الإنسان وبحيث يتبع مباشرة إنتاج الصورة اللفظية الإحساس بالحاجة أو استيقاظ الإرادة، ثم تتلى الصورة نفسها على التو بالتحقق العملي في اللغة. يستسلم الطفل في مرحلة التحصيل التي تفرض عليه رياضات معقدة. فيعود أعضاءه على إنتاج الأصوات التي يسمعها. ولكنه لا يسمع إطلاقا أصواتا منعزلة، بل تقدم إليه الأصوات في كل ذي معنى، فيتعلم في نفس الوقت كيف يخضع أعضاءه إلى أوضاع متنوعة تقابل الأصوات المختلفة وكيف يربط مجاميع الأصوات التي تصدر على هذا النحو بمعنى من المعاني. والأصوات ليست جميعا على درجة واحدة من الأهمية، بل منها ما يسود غيرها كما رأينا في دراسة التغيرات الصوتية. ولكن العناصر العقلية التي تكون تلك المادة التي تصاغ في الأصوات تحمل بدورها درجات مختلفة من السيطرة، فمنها ما تطفو وتفرض نفسها على الانتباه بدرجة من الوضوح أعلى مما لغيرها. ويترتب على ذلك أن الصور اللفظية، من وجهة نظر العناصر التي تؤلفها نفسها، تتكون شيئا فشيئا بواسطة تحسينات متتابعة تضاف إلى التجربة الأولى التي تعد بطبيعة الحال غير كاملة ولا تظهر في تلك التجربة المبدئية إلا بعض الملامح المميزة، وهي تلك الملامح التي تقابل قمم السيطرة سواء في الصوتيات أو في العقليات ثم تمثل في الصورة شيئا فشيئا الملامح الثانوية في أدق تفاصيلها. ومهما كان الوقت الذي يستغرقه التحصيل حتى يصل إلى التكوين النهائي للصورة اللفظية، بل مهما كانت الفترة التي تقدر لاستكمالها، فإن الذي يميزها في عين العالم اللغوي إنما هي وحدتها. فكل العناصر المكونة لها تندمج في عمل واحد هو العمل اللغوي الجوهري، الذي لا يملك العالم اللغوي أية وسيلة يستطيع بها أن يتعداه. فعندما يقول الطفل "Pas poupe" يقصد أن يقول بأنه لا يحب الحساء الذي يقدم إليه، أو أنه يرفض شربه، فإن الصورة اللفظية التي في ذهنه والتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تهيمن على التعبير بجملته تعد كلا محكم التناسق وإن كان بدائيا. بعد ذلك في سن المراهقة، يستطيع أن يقول على حسب الأحوال: "لا آخذ حساء" أو "أحب ألا آخذ حساء" أو "أفضل ألا تعطوني حساء". الصورة اللفظية التي تقوم على أساسها كل واحدة من هذه الجمل أغنى وأعمر بالألوان المتنوعة من جملة الطفل. وهذه وتلك تنطوي على نفس الوحدة. يمكن تعريف الجملة بالصيغة التي يعبر بها عن الصورة اللفظية والتي تدرك بواسطة الأصوات. والجملة، كالصورة اللفظية، عنصر الكلام الأساسي. فبالجمل يتبادل المتكلمان الحديث بينهما, وبالجمل حصلنا لغتنا، وبالجمل نتكلم، وبالجمل نفكر أيضا. الصورة اللفظية يمكن أن تكون في غاية التعقيد، والجملة تقبل بمرونتها أداء أكثر العبارات تنوعا، فهي عنصر مطاط. وبعض الجمل يتكون من كلمة واحدة: "تعال" و"لا" و"وأسفاه" و"صه! "، كل واحدة من هذه الكلمات تؤدي معنى كاملا يكتفي بنفسه. غير أن الجملة لها امتداد الصورة اللفظية بالضبط، بل إنها غير محدودة بالطاقات الصوتية، إذ أنه في غالب الأحيان لا يكفي نفس واحد لنطق جملة بتمامها، وقد يحدث أن تشمل جملة واحدة بعينها مجموعتين تنفسيتين أو أكثر. وعمل العقل يسيطر على عمل الأعضاء. ولا يمكن أن تكون عدم كفايتها سببا في وقوفه، كما لا ينبغي أن يكون في ضرورة أخذ الشهيق عائق لنافخ الناي أو "للسلامية". والجملة تنتظم جميع الدرجات، من الحركات النطقية البدائية التي يصوغ بها الطفل حاجة من حاجاته إلى الصورة المستكملة المؤتلفة ألطف ائتلاف تلك التي تكسو فكرة فنان من نوع ديموستين أو شيشرون أو بوسويه. يرى من كيفية تعريفنا للجملة أنها تشمل الصورة اللفظية، فكلتاهما لا حد لها إلا في موهبة التأليف التي للعقل. فيجب بناء على ذلك أن يعطي للصورة اللفظية امتدادا أوسع مما يعطي لها عادة وألا تقصر على الكلمة. ولا خلاف بين الصورة اللفظية والجملة إلا في أنه لما كانت الجملة حقيقة واقعية مشخصة، كانت معرضة لكل العوارض التي يستتبعها التحقق الواقعي. فالخزاف الذي يضع في فرنه فنجانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من الخزف لا يمكنه أن يقطع بالنتيجة التي سيحصل عليها بعد الحريق، لأنه يخشى دائما من نار عاتية تحيل الطينة فحما أو من نار ضعيفة لا تقوى على إبراز اللون. كذلك الصورة اللفظية، وقد حضرت في المراكز العصبية، لا تستطيع المرور بالأعضاء دون التعرض للأحداث. ويمكننا أن نضرب مثلا نوضح به ما تقدم: أتخيل أن جارا لي وخزني غير عامد، فأصيح قائلا: "آه! لقد وخزتني! ". من اليسير أن نستعيد تتابع الأفعال التي تمت. فهناك إحساس بالوخزة، نقل إلى المراكز العصبية، واستدعاء مفاجئ لصورة لفظية، ترجمت على الفور في اللغة بالجملة الآنفة الذكر. وكان التتابع من السرعة بحيث تبعت الصيحة الوخزة مباشرة. فما نسميه صورة لفظية إنما هي الصورة التي أعطاها الفكر، وفقا للعوائد المكتسبة، إلى الصيحة التي صحتها. وتختلف الصورة اللفظية في لغة ليس فيها أفعال متعدية أو تعبر عن الحدث في صيغة المبني للمجهول: "أنا ملدوغ منك". واختلاف الصورة اللفظية كثيرا ما يكون الاختلاف الوحيد الموجود بين اللغات. وهكذا يقال في الألمانية "أنا هو" على حين يقال في الفرنسية: "إنه أنا". فالصورة اللفظية مختلفة التركيب. جملة "آه! لقد وخزتني! " تقابل الصورة اللفظية للفرنسية السليمة. فلنفترض الآن أن لساني قد انحرف فقلت: "آه! لقد خزوتني! " مرتكبا "قلبا صوتيا" "بالألمانية Schuttelform"1. ومع ذلك فالصورة اللفظية لم تتغير. وإذا كانت لم تتحقق إلا تحققا ناقصا، فمرجع ذلك إلى خطأ قد عرض في التنفيذ. فالجملة التي نطقت بها لا تتفق مع الصورة، وقد وقع الخطأ في الانتقال من إحداهما إلى الأخرى. لسنا في حاجة إلى القول بأنه توجد حالات تكون فيها الصورة اللفظية مسئولة عن الخطأ المرتكب. فرغم معرفتي التامة لاسم صديقي ديران، أراني أدعوه في المحادثة باسم لبران، وهو اسم شخص آخر من أصدقائي. فمثل هذا ليس عارضا ماديا يمكن أن يعزى إلى الأعضاء. وإذا اتفق مثل ذلك لفرد   1 قارن مير نجف Merxingef وماير Mayer، رقم 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 من أفراد الشعب لسمعناه يقول: "لا أدرى لماذا كان لبران في ذهني". والواقع أن انزلاق اسم مكان آخر قد حدث في نفس الصورة اللفظية التي يؤلفها العقل. وهذا هو وجه الاختلاف. إذن تتألف الصورة اللفظية والجملة من عناصر واحدة. هذه العناصر هي التي تسمى في النحو المعتاد بالكلمات. وقد درسنا في هذا الفصل الكلمة الصوتية، ولكن الكلمة الصوتية قد تشتمل على عدة كلمات بالمعنى الذي يقصد في النحو المعتاد، بل إن حدودها قد تكون جلية الوضوح تبعا للغات. فلأجل أن نحددها تحديدا كاملا يجب أن نحلل عناصرها من وجهة نظر نحوية. وذلك هو موضوع الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الجزء الثاني: النحو الفصل الأول: الكلمات والأصوات تنتظم كلمة جملة نوعين من العناصر المتميزة: أولا التعبير عن عدد ما من المعاني التي تمثل أفكارا، وثانيا الإشارة إلى بعض العلاقات التي بين هذه الأفكار. فإذا قلت: الحصان يجري، ففي ذهني فكرة الحصان وفكرة الجري، وقد جمعت بين الاثنين في هذا الإثبات الذي هو "الحصان يجري". وإذا قلت منزل بطرس كبير، فإن الأفكار البيت وبطرس والكبر تتركب كذلك في الإثبات الذي يكون جملتي. ويحسن أن نذكر أننا نأخذ الأحداث كما يقدمها لنا الكلام، أي أننا ننظر إلى الصور اللفظية في نفس الصورة التي تظهر عليها في الكلام. هذا هو المعنى الذي يحب أن نفهمه من الفكرة التي عبرنا عنها فيما تقدم بقولنا "نحن نفكر بجمل". فنحن نفترض أن الفعل العقلي الذي يضيف اسما إلى أحد الأشياء "هنا الحصان" ويجعل هذا الشيء متعلقا بحدث من الأحداث، ويحصر هذا الحدث في حدود من الزمن ليقول: الحصان يجري، فإنما نفترض أن هذا الفعل العقلي يتم في الدماغ تبعا لعوائد لا يشعر بها المتكلم نفسه. هذا الفعل العقلي الذي تفترضه اللغة ينتظم عمليتين متتابعتين: عملية تحليل عندما يميز العقل في التصور، وقد أعطى، عددا ما من العناصر التي تقوم بينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 علاقة "هي هنا الحصان والجري" ثم عملية تأليف -عندما يروح العقل وقد انتهى من تعرف هذه العناصر المختلفة وتحليلها- يؤلف بينها من جديد ليكون الصورة اللفظية. والتأليف وحده هو الذي يهم علم اللغة، ويهمه بدرجة قصوى: لأن الاختلافات في البنية بين اللغات تنتج من الكيفية المتنوعة التي تتوقف عليها عملية التأليف1. لنفترض أن جميع الأدمغة الإنسانية تتلقى كلها على السواء عين الطابع البصري للحصان الذي يجري ولنسلم -وذلك مما لا تزاع فيه- بأنها تحلل هذا التصور بطريقة واحدة بعينها، وأنها تقيم بين الحصان وبين الجري نفس العلاقة بالضبط، فإن التعبير عن هذه العلاقة يحصل في كل لغة بطريقة خاصة: الصورة اللفظية تؤلف تأليف مختلفا. فالتفريق المشار إليه في أول هذا الفصل ليس إذا نظريا بحتا وهو يقابل ما يصح أن نسميه دوال النسبة Morphemes ودوال الماهية Semantemes. ويجب أن نفهم من دوال الماهية تلك العناصر اللغوية التي تعبر عن ماهيات التصورات. فهنا ماهية الحصان أو ماهية الجري، وتفهم من دوال النسبة العناصر التي تعبر عن النسب بين الماهيات: هنا كون الجري المسند إلى الحصان على العموم محمولا على الشخص الثالث المفرد الإخباري. وعلى ذلك تعبر دوال النسبة عن النسب التي يقيمها العقل بين دوال الماهية. هذه الأخيرة ليست إلا عناصر التصور الموضوعية، وستدرس على حدة في الجزء المخصص للمفردات من هذا الكتاب. دال النسبة في غالب الأحيان عنصر صوتي "صوت أو مقطع أو عدة مقاطع أحيانا" يشير إلى النسب النحوية التي تربط الأفكار الموجودة في الجملة بعضها ببعض. في جملة من اللغة الإغريقية القديمة مثل: "سيمونيد أقام محرابا جميلا"، من السهل علينا أن نعرف أنه يوجد إلى جانب المقاطع التي تعبر عن الأفكار الأساسية   1 فنك Finck، رقم 161، ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 في الجملة وهي: سيمونيد والإقامة والمحراب والجميل، مقاطع أخرى ينحصر دورها في الإشارة إلى أن صفة جميل تنسب إلى المحراب وأن سيمونيد هو الذي فعل في الماضي حدث إقامة المحراب المذكور. فأول هذه المقاطع من دوال الماهية والثانية من دوال النسبة لنأخذ أيضا من العربية مجموعة من الكلمات مثل مجموعة أن يعطى، أعطي، الإعطاء، معطون، إلى المعطى: فالتحليل يجد فيها دون عناء عنصرا دائما هو "ع ط ى" الذي يصل كل هذه الكلمات بفكرة الإعطاء. ولكنه يجد فيها فضلا على ذلك عددا من العناصر الصوتية التي تستخدم للإشارة إلى أن الكلمة فعل أو اسم، ومن أي نوع هي، أو للدلالة على الفصيلة النحوية "النوع والعدد والشخص" التي تنتمي إليها الكلمات، وكذلك على العلاقة التي تربطها بكلمات الجملة الأخرى فهذه العناصر دوال للنسبة. وبعض هذه الدوال ليس له وجود مستقل، فيجب تحليل الكلمة لاكتشافها وهذه تسمى لواحد أو زوائد، والبعض الآخر كالضمائر والأدوات "في الفرنسية مثلا" منفصلة عن الكلمة في الكتابة. ولكن هذا الفرق عديم الأهمية هنا. وإذا أدخلنا على الجملة الإغريقية المتقدمة كلمة "لكان" لتغير المعنى في الحال. فهذه الكلمة "لكان" دالة نسبة تلون الجملة بلون فرضي من طابع خاص، فبإضافة هذه الكلمة التي تستعمل للتعبير على ما لم يقع، تصير الجملة: "لكان أقام محرابا جميلا". كذلك لو أضفنا إلى أية جملة في السنسكريتية المقطعين iti "إيتي" لدلت هذه الزيادة على أن الجملة حكاية مباشرة لكلام قائل: فإيتي iti من دوال النسبة. والفرنسية العامية فيها دالة من هذا القبيل في صورة "كيدي" quidi "للمذكر" أو quedi كيدي "للمؤنث": قارن العبارتين "tu as tort" أنت مخطئ "tu as tort, quidi" أنت مخطئ، قيل". فتحس على الفور أن الجملة الأولى خطاب مباشر والثانية جزء من اقتباس، وعليها طابع الحكاية. ولا يهمنا هنا النظام الذي بمقتضاه تستعمل دوال النسبة في الجملة، ولا المكان الذي تحتله فيها، ولا المدى أو الأهمية اللذان تخلعهما اللغة عليها, فنحن نعد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ولا نهتم كذلك بأن تكون دالة النسبة مما يعرب أو مما لا يعرب. ففي العربية الفصيحة "كان زيد يقتل" معناها فقط "Zaid tuait". ذلك أن المضارع في العربية يسبق بفعل الكون ليدل على الاستمرار في الماضي، ويتصرف الفعلان كل منهما على حدته1: الشخص الأول كنت أقتل الشخص الثاني المفرد المذكر كنتَ تقتل الشخص الثاني المفرد المؤنث كنتِ تقتلين الشخص الثالث المفرد المذكر كان يقتل الشخص الثالث المفرد المؤنث كانت تقتل فالعقل يحس الفعلين وكأنهما وحدة رغم أنه يمكن وضع كلمة بينهما، الفعل الأول من دوال النسبة. وأخيرا لا يهمنا أن تكون دالة النسبة تشتمل على عنصر واحد أو على عنصرين صوتيين منفصلين. فهناك دوال نسبة تنتج من كلمتين منعزلتين يجمع بينهما العقل وتكون لهما رغم انفصالهما وحدة لا تقبل التمزيق. ففي الفرنسية يعبر عن النفي بعنصرين لا يكادان يتجاوران مطلقا في الجملة: ومع ذلك فإن "je ne mange pas" "لا آكل" في الفرنسية لها من الوحدة ما لـ"nitoimlim" في الأيرلندية. كل دوال النسبة هذه، سواء أكانت مفردات أم مجموعات، تعد من الفصيلة الأولى لدوال النسبة، تلك التي يعبر عنها بعناصر صوتية تدخل في الجملة وتوصل بدوال الماهية. هناك فصيلة ثانية، دوال النسبة فيها تتكون من طبيعة العناصر الصوتية الدالة   1 انظر بركلمان Brockelmann رقم 148، مجلد 2 ص509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 على الماهية أو من ترتيبها. وهذه الفصيلة تعد أكثر خفاء من السابقة وإن كانت لا تقل عنها أهمية في اللغة. ونجد في تبادل الحركات في اللغات الهندية الأوربية أو في السامية خير الأمثلة لتوضيح هذه الفصيلة, لسنا هنا نضيف عنصرا صوتيا إلى دالة الماهية ليخلع عليها قيمة صرفية, بل يكتفى في الإشارة إلى دور دالة الماهية الصرفي بالعناصر الصوتية لهذه الأخيرة نفسها؛ فالإنجليزية تقابل بالجمعين men وFeet المفردين man "رجل" وFoot "قدم"، وتقابل اسمي المفعول held وstruck بالمصدرين hold "يمسك" وstricke "يضرب", فالاختلاف الذي بين هذه الصيغ اختلاف في جرس الحركة الذي يلعب على هذا الوضع دور دالة النسبة، إذ أنه وحده يشير إلى قيمة الكلمة الصرفية. ونجد نفس الشيء في اللغة الألمانية حيث نرى wir gaben "كنا نعطي" تقابل wir geben "نعطي" وgib "أعط". وكذلك في الغالية الوسطى حيث نرى الجموع brein وmyr وwyn تقابل المفردات bran "غراب" وmor "بحر" وoen "خروف". فالتبادل الصوتي عنصر صرفي ضروري في أقدم اللغات الهندية الأوربية كالإغريقية والسنسكريتية. ويمكننا أن نقول بأن القيمة الصرفية لكل كلمة في الهندية الأوربية كانت محدودة تحديدا تاما أو ما يقرب من التام بجرس حركة الأصل. وكذلك الحال في السامية، كما تعطينا عنها العربية هذه الفكرة حتى يومنا هذا. حمار جمعها حمير1. وهذا على درجة من الحياة في العربية جعلتها تطبقه على كلمات مستعارة منذ تاريخ حديث من الإسبانية أو الفرنسية: رسيبو resibo "إيصال" والجمع رواسيب، بابور والجمع بوابير، شمبيت "حارس ريفي" والجمع شَوَمْبيت ... إلخ. وهذا ما يسمى بجمع "التكسير" أو الجمع "الداخلي". ويشير المصطلح "إعراب داخلي" بوضوح إلى أن تبادل الحركة يلعب نفس الدور الذي يلعبه العنصر الإعرابي الذي يمكن أن يضاف للكلمة. والواقع أن علامة الجمع في الأسماء تكون في الإنجليزية والغالية على وجه العموم بإضافة لاصقة   1 بركلمان، رقم 148، مجلد 1، ص431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 خاصة: في الإنجليزية boot "حذاء" وجمعها loss،boots "خسارة" وجمعها losses، وفي الغالية penn "رأس" وجمعها "Pennau", وcoed "خشب" والجمع Coedydd ... إلخ. وفي العربية تجمع الكلمات المؤنثة كلها بإضافة زائدة. كذلك في الألمانية يختلف الماضي غير التام عن الحاضر باستعمال لاحقة، هي t "ت". Ich rede "أتكلم" والماضي غير التام ich redte "كنت أتكلم" Ich lebe "أحيا" والماضي غير التام، Ich lebte "كنت أحيا" ... إلخ. بمقارنة هذه الأمثلة بالأمثلة السابقة نرى أن تبادل الحركات واللواحق نوعان متساويان من دوال النسبة. نفهم أن النغمة تلعب دورا أخطر في لغات الشرق الأقصى حيث العناصر النحوية قليلة العدد. فهذه اللغات استغلت مرونة النغمات التي تحتملها أصواتها، واتساعها وتنوعها للغايات الصرفية خير استغلال1. وتوجد هذه الظاهرة نفسها في بعض اللغات الإفريقية2 ففي اللغة الفهلية يعبر التنغيم عن النفي3: مجموعة   1 انظر عن الأنامية جرامون، رقم 6 مجلد 16، ص75. 2 الدكتور وسترمان westermann، رقم 221، ص37 وما يليها. 3 اللغة الفهلية هي لغة قوم من البربر اختلطوا بالعرب والزنوج، ويقيمون الآن في إفريقية الغربية الفرنسية. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مثل: مِيْ وَرَتَ mi warata معناها "سأقتل" "أو "أقتل" في الحاضر الدال على العادة" إذا نطقت الفتحة النهائية بنفس النغمة التي لباقي الجملة، ويصير معناها "لن أقتل" إذا نطقت الفتحة النهائية بنغمة أعلى. فارتفاع الصوت له إذن من القيمة ما لدالة النسبة. من النغمات المختلفة ذات القيمة الصرفية، نغمة لها أهمية في بعض اللغات، وهي نغمة الصفر، أي عدم وجود النغمة. ففي السنسكريتية مثلا يكون الفعل منغما أو غير منغم تبعا لبعض شروط الاستعمال في الجملة. ولكنه بالطبع في استعمالاته المختلفة يتميز تميزا واضحا بغياب النغمة كما يتميز بوجودها. وهذا يؤدي بنا إلى أن نضيف إلى دوال النسبة المشار إليها فيما سبق نوعا من هذه الدوال أكثر من غيرها دقة ولكنها ليست أقل منها تعبيرا، ونعنى تلك التي يصح أن نطلق عليها دوال النسبة الصفرية. ففي الميدان الصرفي تلعب درجة الصفة دورا هاما. والقيمة التي تملكها هي قيمة تقابل على وجه الخصوص، ولكن ذلك لا ينقص من خطرها. فكثيرا ما يكون للصمت في الموسيقي من التعبير ما للميلودية التي يعترض طريقها ويقطع تدرجها، وفي الحديث لحظات من الصمت البليغ. في اللغة تعتبر دالة النسبة الصفرية دالة نسبة كغيرها من دوال النسبة, فقد كان في الهندية الأوربية بعض الأسماء التي لا يحمل مرفوعها أية لاصقة مميزة، أي أنها كانت تحمل في هذه الحالة لاصقة الصفر, فعدم وجود اللاصقة يكفي في مقابلة اللواصق المتنوعة التي تتمتع بها الحالات الأخرى لتمييز المرفوعات التي نحن بصددها, بل إن هناك حالة من حالات الإعراب في الهندية الأوربية تتميز دائما بتلك الصورة في الفترة القديمة على الأقل؛ ألا وهي حالة المنادى, وتقابلنا هذه الخاصة أيضا في صيغة فعلية قريبة من المنادى، وهي صيغة الشخص الثاني المفرد في حالة الأمر, فدرجة الصفر تلعب دورا لا يقل عن دور غيرها في تبادل الحركات في اللغات الهندية الأوروبية والسامية. وأخيرا نصل إلى فصيلة أخرى من دوال النسبة أقل تشخصا أيضا من السابقة وتتكون فقط من المكان الذي تحتله في الجملة كل واحدة من دوال الماهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إذا قلنا باللاتينية regis domus "بيت الملك". كانت علاقة الإضافة التي تجمع بين هاتين الكلمتين معبرا عنها بالصيغة الإعرابية، فاللواحق تشير إلى الدور الذي تلعبه كل كلمة من هاتين الكلمتين بالنسبة للأخرى. أما في العبارة الفرنسية la maisom du roi "البيت "بتاع" الملك"، فإن العنصرين الصغيرين la "أل" وdu "بتاع أل" يقومان بنفس الوظيفة التي تقوم بها اللواصق في اللاتينية. وفضلا على هذا الاختلاف يوجد اختلاف آخر بين اللاتينية والفرنسية ينحصر في أن ترتيب الكلمات في الأولى أكثر حرية منه في الثانية؛ فيمكننا أن نقول دون تفريق regis domus "الملك بيت" أو domus regis "بيت الملك". أما في الفرنسية فلا يكاد يسمح بالقلب على هذا النحو، du roi la maison ""بتاع" الملك البيت" إلا في الشعر. ومع ذلك فإن ظهر هذا القلب غريبا بعض الشيء، فإنه لا يصدم الحس وتبقى العلاقة بين الكلمتين مفهومة على العكس من ذلك توجد لغات لا يعبر فيها عن هذه العلاقة إلا بمكان كل من الكلمتين بالنسبة للأخرى، فيقال في الغالية مثلا ti brenhim "من ti، تي "منزل" وbrenhin بِرِنَهِنْ "ملك"" مع وضع المالك دائما بعد الشيء المملوك، ويقال في الصينية wang tien "من wang وَنج "ملك" وtien بيت" مع وضع الشيء المملوك قبل المالك على عكس المثل السابق, وفي كلتا هاتين اللغتين لا يعبر عن علاقة التبعية بأية علامة خارجية، ولا يشار إليها إلا بترتيب وضع الكلمات الذي يجب لذلك بالطبع أن يكون ثابتا لا يعتريه تغيير, فاللغات التي فقدت إعراب الحالات على وجه عام، استعاضت في تأدية العلاقات التي كان يعبر عنها بالإعراب إما بكلمات مساعدة "حروف جر، أدوات ... إلخ" وإما بوضع كل كلمة بالنسبة للكلمات الأخرى1. إذا قلنا في الفرنسية pierre frappe paul "بيير يضرب بول" كانت دالة النسبة الوحيدة المعبر عنها صوتيا هنا هي الصفر؛ فالصيغة الفعلية frappe فْرابْ "يضرب" تنفرد في الواقع بعدم وجود اللاصقة، وبذا تتميز عن الصيغ   1 عن الإيرانية انظر جوتيو Gauthiof رقم 100، ص113-114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الفعلية الأخرى مثل frappons فْربُّن "لنضرب" وfrappez فربّيه "اضربوا أو تضربون" وfrappera فربَّرا "سيضرب" وfrappant فربَّن "ضارب" إلخ. فعدم وجود اللاصقة هو الذي يبين هنا أن لدينا فعلا إخباريا حاضرا مسندا إلى الشخص الثالث المفرد, ولكن نسبة الفاعل إلى الفعل والفعل إلى المفعول لا تدل عليها علامة خارجية؛ وذلك ما يميز الفرنسية عن اللاتينية حيث نرى اللاصقتين us "اُس" "علامة الرفع" واُم "um" "علامة النصب" في جملة petros eaedit paulum تكشفان عن الدور الذي يلعبه الاسمان في الجملة، دالتين على أيهما الفاعل وأيهما المفعول, أما القرينة الوحيدة التي تقدمها الفرنسية فهي في ترتيب الكلمات؛ فترتيب الكلمات هنا دالة من دوال النسبة؛ لذلك يمكننا أن نغير في اللاتينية وضع كل كلمة من الكلمات الثلاث كما نشاء دون أن نمس وضوح الكلمة بأدنى ضرر، أما في الفرنسية فيستحيل أن نمس نظام الكلمات دون أن نغير المعنى، فلو قلنا في الفرنسية paul frappe peirre "بول يضرب بيير" بدلا من peirre frappe paul "بيير يضرب بول" لارتكبنا نفس الغلطة التي نرتكبها في اللاتينية لو أخطأنا في استعمال الإعراب فقلنا: paulus caedit petrom "بولصُ يضرب بطرسَ" بدلا من paulum caedit petrus بولصَ يضرب بطرسُ". بعد أن عرفنا الفصائل الثلاث الأساسية من دوال النسبة، يجدر بنا أن نبحث مسلك هذه الدوال بالنسبة لدوال الماهية. يتركب العنصران في بعض اللغات بشكل يجعل كل كلمة تتضمن التعبير عن قيمتها المعنوية، وعن دورها الصرفي في آن واحد. وكانت السامية والهندية الأوربية لغات من هذا القبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وتصريف الفعل في السامية يقدم لنا أمثلة مشابهة. فما دمنا قد تحققنا من السواكن الثلاثة الأصلية في كل الصيغ المشتقة من أصل واحد، لم يبق علينا إلا النظر في اختلاف الحركات واللواصق والعلامات. فالصيغة العربية قتل صيغة واحدة كما رأينا في الإغريقية تماما، إذ إنها تشتمل على دالة ماهية، هي الأصل ق ت ل، ودوال نسبة تميز صيغة قتل عن جميع الصيغ المأخوذة من نفس الأصل: قاتل وتقاتلا ومقتول واقتل ويقتل وقاتل ... إلخ. يزيد على ذلك أن تصريف الفعل في السامية يعبر عن الجنس أيضا؛ فقاتلتَ للمذكر في مقابلة قاتلتِ للمؤنثة، وفي الشخص الثالث أيضا مثل قتل في مقابلة قَتَلتْ. تركب اللغات الهندية الأوربية والسامية نوعين من دوال النسبة كما رأينا: تبادل الحركة والإلصاق، ولكن بدرجات مختلفة, فتبادل الحركة يلعب في السامية دورا أوسع مما في الهندية الأوربية. "فخاصة هذه اللغات في تعبيرها بالسواكن عن أساس الفكرة وعن تفرعاتها الثانوية بالحركات يجعلنا في حل من القول بأن التصريف في هذه اللغة يقع داخل الكلمات"1. "الأصل في العربية لا يتميز إلا بسواكنه، أما عن الحركات فكل ساكن من سواكن الأصل يمكن أن يتبع بالفتحة القصيرة أو الطويلة أو بالكسرة القصيرة أو الطويلة أو بالضمة القصيرة أو الطويلة أو بالصفر، فعندنا سبع صور، وكل واحدة من هذه الصور السبع تستخدم للدلالة على الوظيفة النحوية"2. وذلك يسمح للغات السامية بصياغة   1 رينان: رقم 111. 2 مييه: رقم 94، الطبعة الرابعة، ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عدد من الكلمات المشتقة دون حاجة إلى لواصق: ففي العربية كتيب وكات وكتاب ... إلخ. توليد الكلمات على هذا النحو في الهندية الأوربية لا يقع دون التجاء إلى لواحق. ولكن من أثر تبادل الحركات في الهندية الأوربية والسامية كلتيهما، أن تعطى قيمة خاصة لما يسمى الأصل بتخليصه من شبكة اللواصق إذا أردنا أن نركز عليه أعلى درجة من التعبيرية، إن صح لنا هذا التعبير. الأصل حقيقة حساسة بالنسبة للمتكلم من جهة أن ينتظم حالات مختلفة من الحركات، كل حالة منها تقابل استعمالا مختلفا, وحقيقة الأصل ترجع إلى قبوله للتنوع، ومبدأ التبادل يجعل هذه العناصر تلعب دور التعارض. وهو لعب في غاية اللطف والدقة اعتادته عقول الساميين والهنديين الأوروبيين. ينبغي ألا نخلط بين الأرومة "racine" والأصل radical. ففي الفرنسية نستطيع بعد التحليل أن نعثر على العناصر part, aim, recev في المصادر recevoir, partir, aimer؛ ولكن هذه العناصر ليست إلا كائنات نحوية وليس لها وجود حقيقي في شعور المتكلم. ويسميها النحويون الفرنسيون "أصولا". وفي الألمانية تدخل قاعدة تبادل الحركات في الأصول قيمة أوضح: فالتقابل الذي بين geben "أن يعطي" وgab "أعطى" أو بين nehmen "أن يأخذ" وnahm "أخذ" وgenommen "مأخوذ" يمكن إلى حد ما أن يعطينا فكرة عن عنصر بعينه يتميز بالساكنين g. b "ج. ب" أو n. m "ن. م" وفي داخله تتبادل بعض الحركات تبعات للمعنى الذي يراد التعبير عنه. أما عن الأرومة فيجب في اللغات الهندية الأوربية الصعود حتى الإغريقية القديمة وحتى السنسكريتية على وجه خاص لنكون على بينة منها. ومع ذلك فالهندية الأوروبية بل والسامية تضيف عادة إلى التبادل في الحركات استعمال لواصق "لواحق أو علامات". ومن النادر جدا في الهندية الأوربية أن يكون تبادل الحركات وحده هو المميز للكلمة, وإذا وقع ذلك فإن على العالم اللغوي أن يسلم بأن الكلمة مزودة باللاحقة الصفرية. فالأرومة في الهندية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الأوربية إدن، رغم ما لها من أهمية صرفية عظيمة، ليس لها وجود مستقل، فلا شيء غير الموافقة، الموافقة القائمة على نوع من التحليل للحقائق الذي كثيرا ما يكون تحكيما، هذه الموافقة هي التي عودت النحويين الهنود تحليل كلمتهم ليكتشفوا فيها أرومات حتى لنرى القواميس السنسكريتية ترجع الصيغ الفعلية إلى صورة مثالية تسمى الأرومة وتفترض أن جميع الصيغ قد خرجت منها بواسطة اللواحق. واللاحقة أيضا ليس لها وجود مستقل، وإنما تستمد كيانها جميعه كالأرومة من تبادل الحركات ومن المعنى الذي يسند إليها، وهو معنى محدد في غالب الأحيان. نرى تبادل الأصوات في كلمة عربية مثل كاتب وكاتبون يحدد معنى اللاحقة " ُ-ون في كاتبون" في جميع الحالات التي يمثل فيها. أما العلامات فيمكن مقارنتها باللواحق من كل وجه، فهي أيضا عناصر تضم إلى الأرومة. ولا يمكن تمييزها عن اللواحق إلا بالاستعمال، فاللاحقة تشير إلى النوع العام الذي تنتسب إليه الكلمة "اسم فاعل، مصدر، اسم آلة، مكبر، مصغر ... إلخ" بينما تشير العلامة إلى مجرد الدور الذي تلعبه الكلمة في الجملة، فالعلامات تقوم بدور مخالف لدور اللواحق، ولكنها جميعا، من جهة بناء الكلمة، دوال نسبة من طبيعة واحدة في الهندية الأوربية والسامية على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الاتجاه وذلك في الفعل zyeuter "يلتهم بعينه" "رييُتيه" المأخوذ من z-yeux "عيون" جمع oeil "أُيْ" "عين". ويقال في بعض لهجات اللورين zous et zelles "رُوس إي زِلّ" بدلا من eux et elles "هم وهن" وzout "زُوت" "إليهم" "قياسا على no vout"1. ولكنها في الفرنسية حالة استثنائية معدومة الأثر, وهناك على العكس من ذلك لغات سامية كاللغة العربية تملك نظاما حقيقيا من التغيير الذي يضاف إلى أول الكلمة, وهكذا نرى الأشخاص في أحد الزمنين اللذين يصرف إليهما الفعل في العربية، وهو المضارع، يشار إليهم بلاصقة تضاف إلى أول الكلمة: الشخص الأول المفرد أقْتُل الجمع نَقْتُل الشخص الثاني المذكر المفرد تَقْتُل الجمع تقتلون المثنى تقتلان الشخص الثاني المؤنث المفرد تقتلين الجمع تقتلن الشخص الثالث المذكر المفرد يقتل الجمع يقتلون المثنى يقتلان الشخص الثالث المؤنث المفرد نقتل الجمع يَقْتُلن المثنى تقتلان ونجد كذلك في الجرجية، وهي من عائلة غير العائلة السامية، أمثلة لافتة للنظر للتغيير الواقع في أول الكلمة. نستنبط من هذا أن مسلك الإلصاق ينحصر في إضافة عناصر صرفية إلى الأصل توضع تارة في رأس الكلمة وتارة في ذيلها دون تفريق. وفي مقابلة اللغات التي من قبيل الهندية الأوربية والسامية التي فيها تقدم لنا الكلمة المكونة من الأصل واللواصق كلا كاملا قائما بذاته، نجد سلسلة أخرى من اللغات فيها دوال النسبة مستقلة عن دوال الماهية استقلالا قد يكون كبيرا وقد يكون ضئيلا, وأوضح أمثلة هذه النوع تلك اللغات التي تميز بين طائفتين من الكلمات، طائفة الكلمات الفارغة وطائفة الكلمات المليئة على حد تعبير   1 ا. رولان E. Rolland، رقم 8، مجلد 5، ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 المصطلحات الصينية. فالكلمات المليئة هي دوال الماهية والكلمات الفارغة دوال النسبة, والكلمات الفارغة لا تنبر إطلاقا فكلمة ti تي التي تشير إلى الإضافة كلمة فارغة: wo tieul-tseu وَوُتي أُول تْسِيَ "ابني" وكلمة وو"أنا" أو على الأصح ياء المتكلم، وأول-نسي "ابن" و"تي" تلعب نفس الدور الذي يلعبه في الفرنسية الحرف de أو s' في الإنجليزية، بل إنها تستخدم أيضا في الإشارة إلى تعلق جملة بجملة، وفي هذه الحال تكون مساوية لحرف الوصل. وليست الكلمات الفارغة في غالب الأحيان إلا صيغا متخصصة "وغير منغمة" من الكلمات المليئة. فالكلمتان المليئتان تسي وأول، ومعناها معا "ابن" تضمان بوصفهما كلمتين فارغتين وتفقدان معناهما فقدانا تاما؛ فكلمة men مَِن "باب" وكلمة tao تاوو "سكين" تصيران بعد إضافة اللاصقة الاسمية: أول أو تسو، men-eul "وتنطق mol مَُول" أو tao-tseu "وتنطق تاوَوزَهْ taoze". والفعل leao "يتمّ" لِياُ ويستعمل بوصفه كلمة فارغة "في صورة la لا" للتعبير عن الماضي. فعبارة lai la ومعناها الحرفي "مجيء إتمام" "مصدر" تعبر عن "جيء"؛ ويمكن تركيب صيغتين من كلمة واحدة، مرة تكون مليئة ومرة أخرى تكون فارغة: leao la لِيَاُولا "أُتِمّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 "على القدم"، "في الألمانية zu fuss"؛! a berlin إلى برلين, "في الألمانية nach berlin"؛ a la cole "على الشاطئ" "في الألمانية an der kuste"؛ a l' etroit "في ضيق" "في الألمانية in der Enge"؛ a regret "أو بالأسف" "في الألمانية mit Bedauern"؛ a mes frais "على نفقتي" "في الألمانية auf meine kasten"؛ a part "إلى جانب" "في الألمانية bei seite"؛ a six heures في الساعة السادسة" "في الألمانية umsechs uhr"، إلخ. وأفعالنا المساعدة etre "فعل الكون" وavoir "فعل الملك" ليست إلا كلمات فارغة، مثلها في ذلك مثل الأفعال المساعدة الإنجليزية to do "فعل الفعل المطلق" وto chall وto will, كذلك في الدنمركية المساعد mon "مُنْ" الذي بعد أن كان في وقت ما يعبر عن فكرة الاستقبال في شيء من الغموض، صار يصحب الفعل مجرد صحبة، ولا سيما في حالة الاستفهام حتى قيل بأن mou أصبح الآن أداة استفهام أكثر منه فعلا: mon han kommer?، مُن هَن كومر؟ "هل سيأتي؟ " بمعنى "لو يعرف أنه سيأتي! ". مع أن اللغات الهندية الأوربية قد خلقت لها على هذا النحو كلمات فارغة، فإن الذي يميز الكلمة الهندية الأوربية بوجه عام وكذلك الكلمة السامية إنما هي وحدتها؛ ففيهما دوال النسبة ودوال الماهية متصلة بعضها ببعض بصورة لا تقبل الانفصام. وعلى العكس من ذلك توجد لغات فيها العروة التي تجمع بين دالة النسبة ودالة الماهية مخلخلة إن قليلا وإن كثيرا. ومع أن مكان الكلمة الفارغة في الصينية محدد بصورة مطلقة وأنه لا يستطاع نقل الكلمة الفارغة فيها من مكانها بأكثر مما يستطاع ذلك في الفرنسية أو الإنجليزية، فإن للكلمة الفارغة فيها مع ذلك شيئا من الاستقلال، أولا من قبل أنه يمكننا إسقاطها. إذ يمكن أن نقول على السواء مَِن men أو men-eul مول "باب"، وثانيا من قبل أنه يمكننا -على عكس الحالة السابقة- تكرارها في بعض الأحيان لإبراز الفكرة التي تعبر عنها وذلك بفصلها عن الكلمة التي تتصل بها: leao la che la، لِيَاوُ لا تشه لا "قد انتهى الشيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ولعل اتصال دوال النسبة بدوال الماهية على أقل ما يكون إحكاما في اللغات الفنلندية الأوجرية واللغات التركية التترية. ففي بعض الحالات في اللغة المجرية إذا كان هناك سلسلة متتابعة من الكلمات المتفقة فيما بينها والتي تلعب دورا واحدا في الجملة، لا يوضع دال النسبة إلا مرة واحدة في نهاية الكلمة الأخيرة فيقال: "a jo ember nek آيو آمبر نِك" للرجل الطيب، بدلا من az-nak jo nak ember-nek" "آز-نَك-يَوُ-نَك إمبرنَك" وa nagy veros-ban آنَجي فارُس بَنْ "في المدينة الكبيرة"1, وفي التركية تحشر علامة الجمع lar لَرْ في داخل كلمة مثل kizlari "بناته" حيث توضع بين دال الماهية kiz كِز "ابنة" ولاحقة الملكية i=ي "kizi "ابنته" بالمفرد"2. وفي التركية أيضا نجد ارتباط العنصرين مخلخلا إلى حد يجعل نظام دوال النسبة غير ثابت. فمثلا لا نستطيع أن نقول في الفرنسية nous avons le vu "نحن رأى هـ نا" بدلا من nous l'avous vu "نحن رأيناه" ولا j' aime te ne pas "أحب كَ لا" بدلا من Je ne t' aime pas "لا أحبك". بينما يقال في التركية دون تفريق: sevmishlerdir "أحبوا" أو sevez ek lerdir sevmishdirler "سيحبون" أو sevezekdirler seviyorlar idi "كانوا يحبون" أو seviyor idiler، وsevdim idi "كنت قد أحببت" أو sevsem idi: sevdi shdim "لو أحببت" أو "sevse idim". يمكن لكل واحدة من هذه المجموعات أن تحلل وتفرق عناصرها، فالأرومة لها مكانها الثابت في رأس الكلمة، أما باقي العناصر التي تعبر عن الزمان والشخص والعدد فعلى جانب من الاستقلال بالنسبة للأصل وبالنسبة للعناصر المجاورة، لذلك يمكن أن توزع داخل الكلمة في شيء من الحرية. وليس لها على وجه العموم أي   1 شليشر Schleicher وف. تمسن v. thomsen اقتباس عنهما لجسبرسن رقم 134، ص37. 2 جوتيو: رقم 73. ص31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وجود مستقل، فالعنصر لار "lar "ler لا يستعمل منفردا كما لا تستعمل العلامات الإغريقية واللاتينية منفردة. ولكن ارتباطه بدالة الماهية أكثر تخلخلا من ارتباط العلامة الإغريقية بالعنصر المقابل. فالعنصر dir هو الشخص الثاني المفرد من فعل الكينونة؛ وإذا ما أريد بناء الجمع المقابل منه أضيف إليه ler. ولكن قبول هذين العنصرين لتبادل الوضع كان بيّنا في العثمانية الفصيحة القديمة حتى عند استعمالها في دورها الأصيل، يعني في التعبير عن جمع الشخص الثالث من فعل الكينونة. يكثر عدد استعمال دوال النسبة أو يقل باختلاف اللغات. فالتركية كما رأينا تنقل هذه الدالة أو تلك من مكان إلى مكان دون ضرر، ولكنها لا تكررها أكثر من مرة: فهي تقول دون تفريق seviyor-idiler أو seviyorlar idi ولكنها لا تركب العبارتين قط لتقول seviyorlar idiler وعلى العكس من ذلك فإن مسلك التكرار، هذا الذي ذكرنا سابقا أنه موجود في الصينية، مسلك محبب في بعض اللغات كما في مجموعات لغات البنتو "bantou" التي فيها كل فصيلة نحوية يقابلها معلم يذكر مع كل كلمة مهما كان عدد الكلمات. فجعله مثل "البنات يمشين" تقال في السوبية بَا-كازانا-باإندَا ba-kazana ba-enda أو b-o ba-kazana ba enda بَا-اُبا-كازانا با-إِنَدا، وبا ba هي معلم الشخص في حالة الجمع، "والرجل الجميل" يقال mu-ntu-mu-lotu مؤ نتو مو لُِتو، mu معلم الأشخاص في حالة الإفراد. ويوجد في البنتو من هذا القبيل سبعة عشر معلما؛ ويصل عددها إلى ثلاثة وعشرين في بعض اللهجات. والسوابق في البنتية يقابلها: لواحق في الفهلية وفي مجموعة اللغات الغربية في إفريقية، التي تسمى مجموعة اللغات الفلتية. ويوجد من ذلك في الفهلية إحدى وعشرون فصيلة منها أربع للجمع. فمن الأرومة لام lam التي تعبر عن فكرة الرئاسة يمكن أن يشتق ما يلي: لام دو lam do "فصيلة الضمير أُِ o" "رئيس" ولام- أو l a m-u "فصيلة الضمير نجْوُ ngu" "مُلكُ، لام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 -دَِه l a m-de "فصيلة الضمير نْدِه" "nde" "رياسة أو قيادة" ولام-بِهَ l a m be "فصيلة الضمير بـ" "ملوك، رؤساء" إلخ. ولا توجد الأرومات منعزلة في هذه المجموعة من اللغات، بل تكون دائما مصحوبة بما يدل على الفصيلة. وهذا الدال على الفصيلة يتكرر في كل عنصر من عناصر الجملة: dabb-o-dan e-dyo e دَِب-أو دن-إَِي دْيَوُ اَِه "هذه المرأة البيضاء " rew-be ran-e..be be رَِوْ-بِهَ رن-آِي-بِهَ بِهَ "هؤلاء النساء البيض" إلخ. قواعد الصرف في هذا النوع من اللغات مختلطة اختلاطا دقيقا، ولا يمكن تمييز دوال النسبة فيها إلا بنوع من التحليل في غاية الدقة فيه يشرح الجملة تشريحا تاما ويفتتها حتى تفقد معالمها في نهاية الأمر. يضاد ذلك على خط مستقيم بعض اللغات الأمريكية التي تدرك دوال النسبة على انفصال وتذكرها منفصلة. فهناك تجمع مقدما، وفي مبدأ الجملة، جميع الدلائل الصرفية فكأنهم يبدءون على نحو ما بملخص جبري للفكرة، فيه كل شيء ما عدا التصورات التي لا تأتي إلا تالية. فلأجل أن يقال: الرجل قتل المرأة بسكين، تصير الجملة على هذا النحو: هو هي هذا بـ ll قَتْل رجل امرأة سكين "لغة الشنوك1". فكل ما تقدم الخطين الرأسيين إنما يشتمل على دلائل نحوية، أي دوال نسبة، أما دول الماهية فلا تذكر إلا بعد. لا ينبغي أن ندهش من بنية على هذا النحو من الغرابة. فلغة الكلام في الفرنسية فيها حالات من التركيب تقرب من تلك الحالات كل القرب. فنحن نسمع من الشعب: Elle n' ya encore pas ll voyage,ta cousine, en Afrique "هي لم فيها بعد ll تسافر قريبتك إلى إفريقية" أو ll l'a-ti jamais ll attrape le gendarme, son voleur? "هو أَلْم إطلاقا ll يمسك الشرطي سارقة؟ " فكل ما هو سابق على الخطين الرأسيين لا يشتمل أيضا إلا على دوال نسبة: إشارات إلى الفاعل أو إلى المفعول "مباشرا كان أو غير مباشر".   1 عن بوس boas: رقم 130، المقدمة، ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أو إلى النوع أو إلى العدد أو إلى الزمن أو إلى صفة الجملة أهي استفهام، أم نفي؛ فلدينا هنا، وقبل أن نعرف عمن وعماذا يدور الأمر، جميع العناصر النحوية للجملة. فلا يبقي إلا تعيين الأشخاص والحدث الذي ساهموا فيه، وبالاختصار الوقائع والفاعلين، وهكذا توضع المعاني التجريدية في رأس الجملة والمشخصات في ذيلها. تنوع الإجراءات الصرفية يجعل تعريف الكلمة يتنوع على حسب اللغات. وإذا كانت هناك لغات يسهل فيها تحديد الكلمة كوحدة لا تتجزأ فهناك لغات أخرى تذوب فيها التكلمة على نحو ما في جسم الجملة ولا يمكن تحديدها حقا إلا بشرط أن تدمج فيها كتلة من العناصر المتنوعة. ففي الجملة الفرنسية je ne l'ai pas vu، يوجد بالتحليل سبع كلمات مختلفة على رأي النحو الجاري، والحقيقة أن ليس هناك إلا كلمة واحدة ولكنها كلمة معقدة مكونة من عدد من دوال النسبة وقد اشتبك بعضها ببعض، وليس لها وجود مستقل، وإنما قيمتها في أنها لدى العقل قابلة للتبادل ولأن يحل بعضها محل البعض على حسب الحاجة ما دام في الإمكان أن يقال: Je ne t'ai pas vu "لم أرك"، tu ne m'avais pas vu "كنت لم ترني" nous ne vous aurons pas vu "سنكون لم نركم بعد" إلخ، مع تنويع عناصر الإبدال في الكلمة على حسب الإرادة. مما لا ريب فيه أنه لا ينبغي لنا أن نسقط من حسابنا ما بين هذه العناصر من فروق نسبية: فالضمائر je "ضمير الشخص الأول في حالة الرفع" وme "الشخص الأول في حالة النصب" وtu "الشخص الثاني في حالة الرفع"، وte "الثاني في حالة النصب"وle "الثالث المذكر في حالة النصب ما هي إلا مجرد دوال نسبة محرومة من كل وجود ذاتي؛ ولا تستعمل منفصلة إطلاقا. فالـje لا توجد إلا في تراكيب من مثل je parle "أتكلم، حيث je تقابل الهمزة" وje cours "أجري" ولا تستعمل me إلا في مثل je me dis "حرفيا: أقول لي" tu me frappes "تضربني" فلو لم يكن في الإمكان وضع بعض العناصر بين الضمير والفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 Je dis "أقول"، Je le dis "أقوله"، je ne le dis pas "لا أقوله" لأمكننا اعتبار Je في Je dis كالنهاية اللاتينية O "أُ" في قوله die-o "أقول" وتصورنا أن الفرنسية فيها تصريف في مبدأ الكلمة: Je dis "أقول" tu dis "تقول"، il dit "وتنطق idi إيدي" "يقول" ولكنا لم نصل إلى هذا الحد، وإن كنا نلاحظ أن ضمير الفاعل لا يزاده منذ عدة قرون إلا ميلا إلى اللصوق بفعله. فلن نستطيع اليوم أن تقول كما قال ربليه rabelais؛ "Je dit picrocholem je les prendrai a merci" قال بكروشول: سأضعهم تحت رحمتي "مع وضع عبارة قال بكروشول بين الفاعل وفعله" على العكس من ذلك اللغة العامية فكثيرا ما تستعمل ضمير الشخص الثالث حتى عندما يكون الفاعل اسما صريحا: "الوالد، هو يقول ما يريد"، "البرجوازيون هم لهم حظ سعيد" إلخ. من جهة أخرى دوال النسبة التي مثل nous "نحن، نا مفعولا أو مجرورا" وvous "أنتم، كم مفعولا أو مجرورا" قريبة من الكلمة إلى حد ما إذ إنها تستعمل بصورة واحدة للتوكيد، وتقابل في نفس الوقت je وme من جهة moi" "أنا" أو toi, te, tu "أنت" أو lui, le, il. وذلك يعقد من تحديد الكلمات، على نحو ما يعقده وجود ظروف تتأرجح بين دوال النسبة وبين الكلمات وسط صيغة فعلية. فيمكننا القول بأن الكلمة في اللغة الفرنسية لا تخلو من سوء في التحديد. ذلك صحيح أيضا بالنسبة للغات من قبيل اللغة التركية حيث تتذبذب العناصر الصرفية بين دالة وأخرى من دوال الماهية، أو تتعلق بعضها ببعض في صورة واضحة من الحرية. والذي يجعل للكلمة التركية وحدتها إنما هي ظاهرة صوتية، هي ائتلاف الحركات، تلك الظاهرة التي تنسق تحريق المقاطع المختلفة وفقا لمقطع مسيطر. أما وحدة الكلمة في لغات البنتو فتتعلق بسبب آخر، هو استعمال المعالم التي تتبع في كل فصيلة صرفية الدور الذي تلعبه الكلمة في الجملة. ولكننا مصطرون إلى أن يجمع تحت مصطلح الكلمة في البتو أو الفرنسية أو التركية، عناصر استبدالية متنوعة، هي عناصر يحسها بصفتها هذه، ولذلك لم ترتبط بدوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الماهية إلا برباط مخلخل1. كذلك الحال في بعض اللغات الأمريكية كالجرينلندية حيث يعجز الإنسان عن تقسيم الجملة فيها إلى أقسام وحيث يغلب الاتجاه فيها إلى عد كلمات بقدر الجمل وجمل بقدر الكلمات2. أما اللغات السامية واللغات واللغات الهندية الأوربية القديمة كالسنسكريتية أو الفيدية أو الإغريقية القديمة فللكلمة فيها استقلال مطلق يظهر في كثير من المعاملات الصوتية التي تميزها، مثل معاملتها من جهة الأجزاء الأخيرة، أو مثل ذلك التوازن الدقيق الذي للنبر فالكلمة تحمل في نفسها علامة استعمالها والتعبير عن قيمتها الصرفية، فهي على درجة من الامتلاء لا تحتاج معها إلى مزيد. والكلمة الصينية يمكن تحديدها دون عناء أيضا لأسباب أخرى غير السابقة، ولكنها إذا نزعت من النص التي هي فيه فقدت كل قيمتها التعبيرية ولم يبق فيها إلا معنى غامض مجرد لا يمكن إرجاعه إلى أي استعمال. ليس للكلمة إذن حد عام يمكن تطبيقه على كل اللغات، اللهم إلا إذا كان هذا الذي يقترحه الأستاذ مييه، وهو يترك الصورة التي يعتبر بها عن الاستعمال النحوي للكلمة: "تنتج الكلمة من ارتباط معنى ما بمجموع ما من الأصوات قابل لأن يستعمل استعمالا نحويا ما"3.   1 جونيو، رقم 73، ص34 و35. 2 فنك Finck رقم 161، ص31. 3 رقم 10، 1913، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الفصل الثاني: الفصائل النحوية يراد بمصطلح الفصائل النحوية المعاني التي يعتبر عنها بواسطة دوال النسبة1. فالنوع والعدد والشخص والزمن والحالة الفعلية والتبعية والغاية والآلة ... إلخ، كلها فصائل نحوية في اللغات تسعى دوال النسبة إلى التعبير عنها. ويستطيع كل منا أن يتصور ضخامة عددها وتنوع مذاهبها بالرجوع إلى معارفه اللغوية. وكما يختلف عدد من دوال النسبة تبعا للغات، كذلك يختلف بطبيعة الحال عدد الفصائل. وكلما ضؤل نحو اللغة، بالمعنى المشار إليه في الفصل السابق، قلت الفصائل النحوية في هذه اللغة. ولكن بعض اللغات فيها عدد كبير منها. ومهما كانت اللغة التي ننظر فيها فإن الفصائل النحوية، لا يمكن تحديدها إلا بالصيغة التي تعبر عنها. ففي الإغريقية القديمة حالة فعلية تسمى حالة التخيير، وهي تقابل في بعض استعمالاتها حالة الشرط في الفرنسية، وتستعمل على وجه العموم للتعبير عن الرغبة. وليس من حقنا أن تتكلم عن حالة التخيير في لغة لا تملك صيغة خاصة للتعبير عن هذه الحالة، وفي اللغات التي اختلطت فيها حالة النصب subjonctif بحالة التخيير -كما هي الحال في أغلب اللغات الهندية الأوربية- لا يميز أولئك الذين يتكلمونها في الصيغة الوحيدة بين الاستعمالين اللذين كانا يقتضيان صيغتين متميزتين في زمان سابق. بل لم تبق إلا حالة واحدة يمكن تسميتها، دون تفريق، حالة التخيير أو حالة النصب إذا شئنا. هذا الإحساس يرجع إلى وحدة الصيغة مهما اختلفت الاستعمالات. وهذا لا يمنع من خلق صيغ جديدة فيما بعد تقابل استعمالات لم تكن لها عبارات خاصة في اللغة من قبل. وهكذا أدى اختلاط الأورست   1 ف. جوبل: الفصائل النحوية "رقم 32، ج 5، ص 189 وما يليها. يارنجر 3 فرع 1"؛ فان جنيكن: رقم 77 ص6 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 "من أزمان الفعل" بالتام وبالأحرى تحول التام القديم إلى زمن تاريخي قد أدى إلى حذف وسيلة التعبير عن التام في كثير من اللغات. وبعض اللغات استسلمت إلى عدم وجود التام فيها وعاشت دونه، وبعض آخر خلق لنفسه تاما جديدا، بطرق جديدة، تبعا لخطة تختلف عن التام القديم الذي قد نسخ. الفصائل النحوية إذن شيء نسبي تبعا للغة التي تتصل بها ووفقا لفترة ما من تاريخ هذه اللغة. فلم يكن هناك في الإغريقية القديمة إلا في فترة من الزمن يمكن تحديدها على وجه الدقة. ونحن نعرف في أي فترة خلقت الجرمانية، إلى جانب صيغة الماضي الوحيدة، صيغة جديدة تقابل التام القديم من جهة المعنى. فتاريخ الفصائل النحوية يمكن تحقيقه بالضبط في غالب الأحيان في كل لغة. ولكن نظام الفصائل يظهر في أشكال مختلفة تبعا للغات. وقد قام بناء النحو عندنا في القرنين السابع عشر والثامن عشر على مثال كتب النحو في الإغريقية القديمة أو اللاتينية، وقد خرج من ذلك زائفا وبقي زائفا. فنحن لا نزال نعضده بمسميات لا تتفق مع الحقائق وتعطي عن بنية لغتنا فكرة غير صحيحة, فلو أن المبادئ التي تتخذها مقياسا لنا كانت قد وضعها قوم من غير أتباع أرسطو، إذن لتغيرت معالم النحو الفرنسي على وجه التأكيد. تصنيف الفصائل النحوية عمل من أعمال الصرف العام الذي لا يزال حتى الآن ينشد من يقوم بعمله. وإذا سلمنا بأن هناك من الفصائل النحوية بقدر ما يوجد من دوال النسبة في كل اللغات، اضطررنا إلى توسيع عدد الفصائل إلى أقصى حد فسنقصر عملنا هنا، اتباعا لطريقة أملتها علينا ظروف البحث، على دراسة عدد من الفصائل اختيرت من بين أعمها، الجنس والعدد والزمن والبناء للمعلوم أو للمجهول. وسنخرج من هذه الدراسة ببعض معلومات سنعمل على تلخيصها. فصيلة الجنس كما توجد في الهندية الأوربية والسامية منذ أقدم عهدهما1   1 عن الجنس، انظر آدم Adam، رقم 43؛ هـ. فنكلر H. wikler رقم 232؛ ك. درجمان k. drugmann، رقم 31، مجلد 4 "1889" ص100-109؛ بارون barone رقم 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 تفرض نفسها بدرجة من الصرامة تجعل العقل لا يكاد يستحضر اسما حتى يبدو الاسم أمامه مزودا دائما بنوع يميزه بجلاء، بل كثيرا ما يكو النوع هو المميز الوحيد الذي يملكه هذا الاسم. فبالجنس وحده نستطيع أن نميز في الفرنسية "le poid" "الوزن" من la poix "القار" وle pere "الأب" من la paire "الزوج" التي لا تختلف كل منها عن قرينتها إلا بالرسم، ومن باب أولى le livre "الكتاب" وla liver "الرطل أو الجنيه" أو Le poele "بساط الرحمة" وla poele "موقد أو مقلاة" التي يرسم كل زوج منها بصورة واحدة، كما في الألمانية die kiefer "البلوط" وder keifer "الفك". وليس هناك من غلطة تصدم السامع من فم أحد الأجانب أكثر من الخلط في الجنس. فإذا ما تجاوز تكرارها تعذر فهم الكلام. ومع ذلك فالتمييز بين الأجناس النحوية لا يقوم على شيء من العقل: إذ لا يمكن لإنسان كائنا من كان أن يقول لماذا كانت table "مائدة" وchaise "مقعد" وsaliere "إناء الملح" مؤنثة، في حين كانت tabourer "مقعد مطبخ" وfauteuil "مقعد بجوانب" وsucrier "إناء السكر" مذكرة. وكثيرا ما تختلف الآية في لغة مجاورة فيقال في الألمانية der sessel "المقعد ذو الجوانب" وder stuhl "المقعد" وتقدم لنا الكلمتان loffel der "ملعقة" der kegel "وتد" جنسا مضادا لما يقابلهما في الفرنسية على خط مستقيم: la quille, la cuiller. هذا ونحن نعرف مقدار السهولة التي يتغير بها الجنس خلال العصور. فقد كانت تغيرات الجنس عديدة في تاريخ اللغات الرومانية والجرمانية والكلتية، وفي الفرنسية كثيرا ما جرت نهاية التذكير أو التأنيث معها الجنس المقابل لها، يقع ذلك إلى درجة أن عددا كبيرا من الكلمات المنتهية بنهاية مؤنثة والتي تعتبرها اللغة الصحيحة مذكرة حتي يومنا هذا، استعملت أو ما زالت تستعمل في اللغة الدارجة على أنها مؤنثة ولا سيما إذا كانت مبدوءة بحركة تمنع اصطحابها بالأداة المؤنثة، مثل الكلمات exercice "تمرين" وorage "عاصفة" وouvrage "عمل"، إلخ. بل إن الكلمتين prophete "نبي" وpape "بابا" استعملتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مؤنثتين في العصور الوسطى بسبب النهاية المؤنثة في آخرها. وهذا يرينا مقدار اختلاف الجنس الطبيعي عن الجنس النحوي. وما زلنا نستعمل ordonnance "جندي مراسلة" وsentinelle "حارس" بالتأنيث مع أن الكلمتين تعينان أفرادا من الجنس القوي، وذلك جريا على عادة اللاتين إذ يقولون: auxilia وuigilioe. الجنس النحوي عندنا قليل الصلاحية للتعبير عن الجنس الطبيعي حتى أننا لا نجد في أغلب الوقت أية وسيلة في الفرنسية للتعبير بواسطة الجنس النحوي عن الفرق بين الجنسين الحقيقيين. فالكلمتان medecie "طبيب" وprofessen "أستاذ" لا مؤنث لهما، ونجدنا في غاية الارتباك لتطبيقهما على المؤنث. إذ لا نستطيع أن نقول: medecine وprofessense "بنهاية المؤنث".ولعلنا لا نستطيع تفسير ذلك في حالة الكلمة الأولى فقط لوجودها بعينها مستعملة في معنى مختلف هو الطب، ولكننا لا نستطيع أيضا استعمالهما على حالتهما مصحوبتين بالأداة المؤنثة مع أداة التأنيث كما كان اللاتينيون يقولون: illum senium "terence" فكان ذلك يزيل الإشكال. ذلك بأن la professeur, la medecine "منع أداة التأنيث" تصدم آذاننا. فيضطر الفرنسي المهذب إلى أن يقول la femme medcin "المرأة الطبيب" وla femme professeur "المرأة الأستاذ" معتبرا كلمة femme "امرأة" دالة نسبة تشير إلى الجنس فشأننا في ذلك شأن لغة لا تميز مطلقا بين الجنسين؛ في هذه الحال تستعمل اللغة الإنجليزية الضميرين he "هو" وshe "هي" استعمال دوال النسبة فتقول he-goat "حرفيا هو عنز أي جدي" وshe-goat "حرفيا هي عنز أي معزة" وتستعمل الإرلندية السابقة ban بَنْ "مأخوذة من ben بِنْ "امرأة"": ban-die "آلهة" وban-file "شاعرة" وban-tuath "ساحرة"، إلخ. ونحن نقول cocher حوذى" femme cochere "امرأة حوذية" متمسكين إلى هذا الحد بدالة النسبة: امرأة؛ وإذا قلنا cochere "حوذية" دون femme "امرأة" بدا ذلك لنا مستهجنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128   1 إرنو Ernout، رقم 98، ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وكانت الإنجليزية في ذلك أوغل من الفرنسية. فقد كانت الإنجليزية القديمة تميز في الأداة ثلاث صيغ مختلفة للأجناس الثلاثة المختلفة: se وseo وthaet بل كانت تحتوي على تصريف كامل للأداة، فيه أربع حالات مختلفة لكل فرع من فروع العدد, ولكنها ما لبثت أن بسطت هذا التصريف. إذ إنها قالت أولا في حالة الرفع بتأثير القياس: thaet, theo, the؛ ثم جمعت بين المذكر والمؤنث في صيغة واحدة the، وأخيرا أسقطت المبهم، فلم يبق لها في المفرد إلا صيغة واحدة، وفضلا على ذلك كانت هذه الصيغة هي صيغة الجمع, ولما فقدت الأداة تصرفها حرمت اللغة من التعبير عن الجنس لأن الصفة من جهتها صارت مجردة من التصريف. أما المرحلة التي وصلت إليها الدنمركية فأقل تقدما من تلك، فهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 تقول den دَِن للمذكر-المؤنث، وdet دَِت للمبهم. وللجمع بأجناسه الثلاثة دَِه de. فقد سمح لها تطورها الصوتي بالاحتفاظ بجنسين ولكنها، من حيث أصلها، لا تقابل المذكر والمؤنث كما في الفرنسية. ليس هنا مكان البحث عن أصل الجنس النحوي في الهندية الأوربية1. وقد حاول ذلك بعض اللغويين دون أن يصلوا إلى نتيجة مرضية. ذلك بأن المسألة تتعدى نطاق النحو الهندي الأوربي، إذ أنها مسألة من مسائل علم اللغة العام وتتطلب البحث في مجموعات أخرى من اللغات. ومن علماء الأنتروبولوجيا من زعم، مثل فريزر بأنه حل المسألة بتصوره أن الخلاف بين الجنسين يتصل بلغة النساء الخاصة، فعند هؤلاء العلماء أن الاسم كان على صيغتين: صيغة تتكلمها المرأة وصيغة يتكلمها الرجل2. وهذا تبسيط ساذج للمسألة: فالأجناس لا تنحصر في المقابلة بين المذكر والمؤنث فحسب، إذ أن الهندية الأوروبية فيها جنس ثالث، هو المبهم. يبدو الجنس في مظهر خاص في بعض لغات إفريقية أو أمريكا. فلغة الألجونكين ALGONQUIN تميز بين جنس حي وجنس غير حي3. ولا يهمها بعد ذلك ما يدخل تحت كل واحد من الجنسين من أشياء؛ فقد تضع الألجونكين بين الأشياء المدلول عليها بالجنس الحي إلى جانب الحيوان: الأشجار والأحجار والشمس والقمر والنجوم والرعد والثلج والجليد والقمح والخبز والطباق والزحافة والولاعة ... إلخ. والحقيقة "أن هذ التمييز في الجنس مطلق وأساسي، لأنه يطبق   1 انظر خاصة المؤلفات المذكورة في "هـ. فنكلر H. WINKLER وك. برجمان K. BRUGMANN، وماريو بارونه MARIO BARONE، وانظر أيضا ب. ا. هويلر B. i. The origin of gram matical gender: whealer، رقم 23، مجلد 2، ص528-545 "1899". 2 فان جنب van gamep رقم 74 ص265. 3 ج. ب. ب دي جسلان دي جنج Dewaa. J. P. B. de Josselin de Jong deeringsonderscheiding van "levend" en "levenloos" in het Indoeuro Peesch vergeleken met hetzelfde perschijnsel in enkele Angonkilntalen رسالة في ليون "1912". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 على الأسماء والتعبير عن الملكية وضمائر الإشارة والأفعال والصفات1". أما في توزيع الأشياء بين الجنسين فقد حدثت أحداث قياسية خاصة. ويوجد في السلافية جنس للأحياء أيضا يمكن تفسير نشوئه وخاصة شيوعه بتطور صرفي مطرد توجد آثاره في الهندية الأوربية2. وهناك اتجاه لمقابلة المادة الحية بالمادة غير الحية في الأرمينية3 والأسبانية بعد الفعل، بل في الفرنسية القديمة أيضا بعد الاسم: "le bourg le roi, les maisons du bourg" "البلد الملك، منازل البلد". وعلى العكس من ذلك توجد في غير هذه اللغات مقابلات أخرى: ففي لغة الماساي Masai، من شعوب شرق إفريقية، يوجد جنس لما هو كبير وقوي وجنس آخر لما هو صغير وضعيف4، وهذا ما يترجمه بعضهم تحكما بالمقابلة بين المذكر والمؤنث: ol tungani ُاَل تُنجاِني "الرجل الكبير" en dungani، آِن دُنجاني "الرجل الصغير"، ولعل من الأوفق أن يقال بكل بساطة: جنس قوي وجنس ضعيف. والفصيلة هنا تجاور ما نسميه في غير هذا المكان بالمصغرات. في الميدان الإفريقي يطلق على الجنس اسم "الطبقة". فاللغات البنطية يسيطر عليها وجود "الطبقات"، التي تمتاز كل منها بلاصقة خاصة، وعليها توزع جميع الكلمات الموجودة في اللغة. وقد رأينا أمثلة من ذلك فيما سبق "ص121". والإشارة إلى الطبقة، لها أهمية الإشارة إلى الجنس في كلمة إفريقية أو لاتينية. إنها ضرورة فرضها الفعل على نفسه. ومعلم كل كلمة "هكذا نسمي العنصر الصوتي الذي يشير إلى الطبقة". من الأهمية بحيث نراه يتكرر في أثناء الجملة مع جميع الكلمات التي تتعلق بهذه الكلمة: فكأن الكلمة الأساسية تفرض لون زيها على جميع الكلمات التي تتعلق بها.   1 ل. آدم L. adam، رقم 43. 2 مييه: رقم96. 3 أدجاريان، adjarian؛ Classification des. dialectes armeniens. باريس، ص18و47. 4 مركر Marker؛ Die Masai، يقتبس عنه فايست Feist، في رقم 36، 37، ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الجنس في لغاتنا الأوربية ليس إلا طبقة على طريقة البنطو. فهو محاولة قام بها العقل لتصنيف المعاني المتنوعة التي يعبر عنها بواسطة الأسماء. وأغلب الظن أن هذا التصنيف يقوم على التصور الذي كان في ذهن أسلافنا الغابرين عن العالم، وقد ساعدت عليه بواعث غيبية ودينية. وقد احتفظ بهذا التقليد حتى بعد أن عجز من يستعملونه عن فهم علته. هناك فصائل نحوية بينها وبين الواقع علاقة أحكم مما في حالة النوع، ولها ما يبررها عقليا في تصورنا الحالي للعالم: من ذلك فصيلة العدد وفصيلة الزمن. فعلى حسب ما أقول: الجواد يأكل أو الجياد ستأكل، أراني أعبر عن فكرتين فيهما الوحدة "المفرد" تقابل الجمع والزمن الحاضر يقابل الزمن المستقبل. وذلك يوم على حقائق الاختبار. ولكن إذا ناقشنا كيف يعبر في اللغات المختلفة عن هاتين الفصيلتين، وهما من أعم الفصائل، أدركنا أولا أنهما يظهران فيها على صور تحد من عموميتهما وثانيا أنه من النادر أن نجد لها في الاستعمال العبارة الدقيقة التي كنا ننتظرها. عندنا في الفرنسية مفرد وجمع. ولكن التمييز بين الوحدة والجماعة، وهو ما يكون العدد عندنا، ليس مظهر هذه الفصيلة الوحيد. فمن اللغات ما كان فيها أو ما يزال فيها مثنى. والهندية الأوربية كان فيها مثنى أبقى عليه في الزمن التاريخي فترة طويلة أو قصيرة على حسب اللغات، ثم أبعد منها جميعا تقريبا شيئا فشيئا1. ففي الهند نجد المثنى في السنسكريتية، فيدية كانت أم كلاسيكية، وذلك على عكس البراكريتية prakrits والبيالية pali اللتين فقدتاه. وكانت الفارسية القديمة والزندية تستعملانه في صرامة، ولا ويوجد منه أثر في اللغة الفهلوية. ولا يوجد المثنى في الأرمينية ولا في اللاتينية منذ أقدم تاريخ نعرفه لهما. أما في السلافية القديمة فهو يتمتع بالحياة، بكل الحياة، ولا زالت بعض لهجاتها تستعمله حتى يومنا هذا مثل السلوفينية "من لهجات يوغسلافيا" وصورابية اللوزاس "إقليم مشترك بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا". وهو في بعض اللهجات اللتوانية في سبيل الانقراض، وكانت القوطية   1 بروجمان: رقم 150، مجلد 2 الجزء الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تعبر عنه في الضمير والفعل فحسب، ولم يبق منه في الألمانية العالية القديمة إلا آثار في الضمير وحده، ولكن هذه الآثار بطيئة الاختفاء: إذ أننا لا زلنا نقابل في بعض لهجات بفاريا الحالية الضميرين المثنيين os أو enk، بعد أن اختفيا من لغة الكتابة منذ آخر القرن الثالث عشر. ولم يحتفظ بالمثنى من اللغات الكلتية إلا الأرلندية في أقدم عصورها، وذلك في تصريف الأسماء، ولكن هذا العدد لا يشغل فيها إلا مكانا ضئيلا، لأن الاسم المثنى يجب أن يكون مصحوبا باسم العدد "اثنين" ونقدم لنا الإغريقية القديمة مجموعة في غاية التنوع تفيدنا علما من نواح شتى، ولكنها انتهت مع ذلك بإقصاء المثنى1. وذلك هو الميل العام في اللغات الهندية الأوربية. فإذا كان هذا الاستبعاد قد تم في أزمان مختلفة اختلافا محسوسا تبعا للغمات، فمرد ذلك إلى أسباب تاريخية. يجب أن نعتقد أن استعمال المثنى كان يسد حاجة أخرى غير الحاجات التي يمكن أن توحي بها عوائد تفكيرنا الحديثة. فنحن لا نرى اليوم أية علية لمقابلة التثنية بالجمع. ولكن هناك في فصيلة العدد معاني أخرى متميزة لا نعبر عنها وإن كانت تستحق أن يكون لها صيغة نحوية. من ذلك معنى الجمعية ومعنى الإفرادية. فليس لدينا في الفرنسية وسيلة للتعبير عن هذين المعنيين، وذلك نقص كثيرا ما نعاني آثاره. فكل المناقشات التي تثار بين بعض النحاة عما إذا كان يجب أن نكتب gelee de groseille "مربى عنبة الذئب" أم gelee de groseilles "مربى عنبات الذئب" وconfiture de pomme "مربى التفاحة" أم confiture de pommes "مربى التفاح" ترجع هذه المناقشات كلها إلى الخلط بين الجمع والجمعى، وسببها عدم وجود فصيلة نحوية للجمعى. كذلك نشعر بشيء من الضيق حينما لا نستطيع أن نعرف على وجه التخصيص من قولنا: le cheval court "الحصان يعدو" إذا كان يراد حصان ما مأخوذ على انفراد أو يراد الخيل في مجموعها بوجه عام, فنحن لا نميز الفرد من الجنس ولا الخاص من العام.   1 كوني cuny رقم 61، وانظر الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 واللغات الهندية الأوروبية كلها تقريبا1 على نفس الحال التي عليها اللغة الفرنسية، ليس فيها عبارة مطردة لبعض المعاني الهامة من فصيلة العدد. فصيلة الزمن أيضا فيها نواح من النقص2. والذي يعبر عنه الفعل أساسا في لغة كالفرنسية أو الألمانية إنما هو الزمن. ويسمى الفعل في الألمانية zeitwort "كلمة الزمن" فعندنا في الفرنسية سلم من الأزمان المتنوعة، لا تعبر فقط عن أقسام الزمن الثلاثة من ماض وحاضر ومستقبل بل أيضا عن الفروق النسبية للزمن: إذ لدينا الوسيلة للتعبير عن المستقبل في الماضي والماضي في المستقبل. ولا توجد إلا لغات قليلة لها ثروة اللغة الفرنسية في هذا الصدد. فلا يكاد يوجد في الألمانية إلا زمن ماض واحد، إذ أنها تخلط في صيغة واحدة غير التام Imparfait3 والماضي المحدد defini؛ هذه الصيغة هي: ich liebte " أحببت أو كنت أحب" وهذه الصيغة الوحيدة تميل إلى أن تحل محل الماضي التحليلي من نوع Ich habe geliebt "أحببت" في بعض أجزاء ألمانيا بينما يسعى الماضي التحليلي لاحتكار التعبير عن الماضي بأسره في بعض الأجزاء الأخرى. وثروة اللغة الفرنسية تلك قد أتت من اللغة الللاتينية التي كانت من جهة الأزمان مزودة بسلسلة زاخرة من الصيغ. غير أن التعبير عن الزمن تجديد من اللاتينية. لأن النحو المقارن يعرفنا أن الهندية الأوروبية كانت لا تهتم خاصة إلا بالتعبير عن صفة الحدث aspect4. يطلق اسم صفة الحدث على فصيلة الاستمرار5. والأزمان الفرنسية تعبر   1 أوجدت اللغات الكاتبة لنفسها اسما إفراديا، انظر بدرسن، رقم 189، مجلد 2 ص58. 2 انظر هربج Herbig، رقم 30، مجلد 4، ص170 وما يليها. 3 غير التام يشبه في العربية "كان يكتب" والماضي المحدد هو الماضي التام المحدد بزمن صراحة أو ضمنا ويسمى أيضا الماضي البسيط أو الماضي التاريخي, وهو أحد المعاني العديدة التي تعبر عنها العربية بصيغة الفعل الماضي. 4 بروجمان: رقم 150، ج2، مجلد 3، ص68. 5 بربلنيه: رقم 47، وبارونه: رقم 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عن اللحظة التي فيهله تم أو يتم أو سيتم أحد الأحداث، ولا تدخل في حسابها المدة التي يستغرقها وقوع الحدث. ومع ذلك فهو أمر هام، بل أمر يطغى في بعض الأفعال على كل اعتبار آخر للمعنى. فالهندية الأوروبية كان اهتمامها بالدلالة على الزمن أقل بكثير من اهتمامها بالدلالة على صفة الحدث من الوجهة الاستغراقية. فهي لا يعنيها أن تبين في أي لحظة يتحقق الحدث "في الماضي أو الحاضر أو المستقبل" بل أن تشير إلى ما إذا كان هذا الحديث يواجه من ناحية استمراره أم في نقطة فقط من سيره، وهل هذه هي نقطة الابتداء أو نقطة الانتهاء، وإذا كان الحدث يقع مرة واحدة أو يتكرر، وإذا كان ذا نهاية ونتيجة أو لا، ومن ثم جاءت هذه المفارقات التي يراعيها النحو المقارن في تقسيمه للأفعال إلى استمرارية أو وقتية غائية أو غير غائية وإلى تدرجية وتكرارية وانتهائية ... الخ. ومن المستحيل أن نفهم شيئا من نظام الفعل في السنسكريتية أو في الإغريقية القديمة إذا لم ندخل في حسابنا هذه الفروق الدقيقة أو إذا رحنا نبحث فيها عن التعبير عن الأزمنة المختلفة، بهذه الفكرة التي تعد طبيعية في لغاتنا. والفروق التي نجدها في الإغريقية بين الحاضر والأوورست والتام ليست إلا فروقا في صفة الحدث الذي يؤديه الفعل. وقد احتفظت اللغات الشلافية بغلبة الصفة على الزمن في الحدث مدة طويلة وما زالت تحتفظ بشيء منها حتى يومنا هذا. فكل فعل فيها ينتمي إلى فصيلة من "صفة الحدث" تميزه وتحدده كما يتميز الماضي والمستقبل في لغتنا1. وهذا فرق أساسي بين الروسية والفرنسية وعقبة من أشد العقبات التي تقابل الفرنسي في دراسته للغة الروسية. وتشبه اللغات السامية، من جهة التعبير عن الأزمان، اللغات الهندية الأوربية في نظامها العتيق شبها كبيرا. فليس في السامية المشتركة أية وسيلة للتمييز بين أزمنة الفعل المختلفة، ولكنا ندهش عندما نرى فيها هذه المجموعة الكبيرة من الوسائل للتعبير عما بين الفعل والفاعل من صلات، للتعبير مثلا عن السببية causatif والكثرة conatif والشدة intensif، والتمني desiratif والرجاء putatif والأمر jussif، والمفاعلة reciproque والمطاوعة reflechi. كل هذه   1 مازون: رقم 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المصطلحات الفنية لا تزال تشير إلى فصائل في الفعل السامي، ولا يزال محتفظا بها على درجات متفاوتة في اللهجات المختلفة للغة السامية. أما الزمن بمعناه الحقيقي فلا يوجد منه في السامية إلا إثنان: غير التام والتام، وهما مشتقان من أصلين مختلفين ولكن لا ينبغي ألا نفهم من هذه الاسمين، تام وغير تام، أي شيء مما يشبه الأزمنة المستعملة في الفرنسية، بل يجب أن يؤخذا على معناهما اللغوي، فهما يدلان على انتهاء الحدث أو عدم انتهائه، أي أن السامية مثل الهندية الأوربية يسطير فيها التعبير عن الاستغراق duree لا التعبير عن الزمن. فالأشورية مثلا تستعمل التام "الماضي" في معنى الحاضر والمستقبل. وفي العربية يعبر غير التام "المضارع" عن الحاضر وعن المستقبل. "وفي العبرية نرى الصيغة المسماة خطأ بصيغة الاستقبال تستعمل في القصص للتعبير عن الماضي، ومن جهة أخرى يمكننا كلما شئنا أن نستخدم الصيغة المسماة بصيغة الماضي للتعبير عن المستقبل. ونحن نعرف مقدار ما أصاب تفسير النصوص النبوية من صعوبات لهذا السبب. جاءت هذه الفوضى من أن فكرة الزمن قد أدخلت في صورة عرجاء، وبعد أن لم تكن موجودة، على تصريف فعلي لم يكن قد هيئ لاستقبالها"1. فصيلة الزمن النحوية تحتوي، مثل فصيلة العدد، على نواح من النقص، بل إنها حتى في داخل الحدود التي تجول فيها لا تنجح دائما في استعمال صيغة تنطبق حقا على المعنى الذي يراد التعبير عنه، فكثير من اللغات الهندية الأوربية تستعمل أحيانا للتعبير عن المستقبل أو الماضي صيغة ليست للمستقبل ولا للماضي. فمع أن اللاتينية فيها صيغة للاستقبال نرى بلوت plaute يستعمل الحاضر للتعبير عن حدث واضح فيه أنه للاستقبال، وذلك حين يقول: "captifs 749"؛ peristis nisi iam hunc abducitis، "أنت تهلك "إنك لهالك" إن لم تأت به فورا". والقارئ لا يتردد لحظة في الزمن الذي ترجع إليه هذه الجملة. يقع ذلك أيضا في الفرنسية، فنقول في كلامنا الجاري: "J' y vais", "أنا رايح هناك" بدلا من "je vais y aller" "أنا رايح أروح هناك" أو "je m'apprete y aller" "أستعد للذهاب إلى هناك" أو "j' irai" "سأذهب".   1 م بريال: رقم 6، مجلد 11، ص271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ومن ذلك ما كتب راسين في برينيس Berenice: Peut-etre avant la nuit l'aureuse Berenice. Change le nom de reine au nom d'imperatrice. "لعل بيرنييس السعيدة تستبدل قبل أن يقبل الليل لقب امبراطورة بلقب ملكة". وتستعمل الألمانية الحاضر مكان المستقبل بصورة مطردة: فهذه العبارة الثقيلة "Ich werde kommen"، "سآتي" لا توجد إلا في كتب النحو وعلى ألسنة الأجانب الذين يتكلمون الألمانية. أما الألمانيون فيقولون بكل بساطة في محادثاتهم: "Ich komme" "آتي". واستعمال الحاضر في وظيفة المستقبل يقوم على اتجاه عام في الكلام؛ فالروسية تستعمل للمستقبل حاضرا قديما وكذلك القوطية والغالية وكلتية اسكتلندة وغيرها أيضا. وفي الفرنسية يستطيع المستقبل البسيط التعبير عن الحاضر "Il sera a paris a l'heure qu'il est" سيكون في باريس في الساعة التي نحن فيها" كما يمكن أن يكون للماضي السابق futur anterieur قيمة الماضي ""la Bruyere: Nul ne se ressouvient d'un mot qu'il aura dit." لابرويير: "لا يستطيع أحد أن يتذكر كلمة سيكون قد قدلها". أغلب الظن أن المستقبل في كلتا الحالتين يدخل على الجملة معنى خاصا "الإمكان، الاحتمال"، ولكن الحقيقة الواقعة هي أن المستقبل هنا مستعمل مكان حاضر أو ماض. الماضي أيضا يمكن أن يعبر عنه بالحاضر. وهو استعمال شائع في الحكاية حيث يسمى بالحاضر التاريخي. وفيه يجد المثقفون سحرا خاصا، يقولون بأن الحاضر أكثر تعبيرا أو أبلغ وصفا حتى ليجعل المنظر يحيا مني من جديد أمام عيني القارئ ويرجع بفكرنا إلى اللحظة التي دار فيها الحدث. وهذا حق. ولكن هذا التعليل الذي قد يمكن أن ينطبق أيضا على استعمال الحاضر مكان المستقبل، لا قيمة له في نظر النحوي. فهو ملزم بأن يتمسك بوجهة النظر التالية؛ ليستطيع الكاتب أن يستعمل عبارة رآها أبلغ تعبيرا أو أكثر أناقة من غيرها، فعلى اللغة أن تمده بهذه العبارة، وفي هذه الحالة يجب أن يكون ميدان الحاضر وميدان الماضي غير مغلقين أحدهما بالنسبة للآخر في اعتبار النحو، حتى يمكن الانتقال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أحدهما إلى الآخر بسهولة ودون خطر على الوضوح. والواقع أن الماضي بدوره يمكن استعماله للدلالة على الحاضر، فالإغريقية القديمة تستعمل الزمن الذي يدل به على الماضي في التعبير عن الحاضر، الذي يقال له حاضر العادة، وذلك في الجمل ذات المرمى العام، في الأحكام والحكم، فكان لهومير أن يقول مثلا: مستعملا آورست يترجم بالطبع في الفرنسية بفعل حاضر فنقول: "من يطيع الآلهة، تستجيب له الآلهة". وذلك هو أورست الوعظ الذي يستعمل في التعبير عن حدث لا ينتمي في الواقع إلى إي زمن، ويمكنه ككل حقيقة من حقائق التجربة أن يصدق في المستقبل وفي الحاضر وفي الماضي. والحاضر هو الذي يبدو لنا في الفرنسية وفي معظم اللغات صالحا لهذا الاستعمال العام. ولكن الفرنسية تستطيع أن تستعمل فيه المستقبل أيضا، وكذلك اللاتينية: "pulcra mulier nuda erit quam purpurata pulcrior". "بلوت plaute mostellaria، بيت 289، وقارن بيت 1041": "المرأة الجميلة العارية أجمل منها ولو ارتدت أفخر الثياب". ما نسميه الحاضر في الفرنسية زمن مطاط يصلح كما رأينا للتعبير عن المستقبل والماضي، وينطبق دون تفريق على الحدث المحدد بالحاضر الحالي تحديدا محكما "ها هو الترام يمر" أو على الحدث الدال على العادة "أمر به كل أحد" أو الحدث الذي لا يستند إلى أي زمن محدد "الترام يمر في هذا الشارع". يطول بنا الحال إذا أردنا أن نعدد كل وجوه النقص التي يعرضها علينا في كل لغة استعمال الأزمنة. أليس مما يدعو إلى الدهش أن نرى الفرنسية تستعمل في الماضي الشرطي، أو على الأقل ما يطلق عليه هذا الاسم وهي تتكلم عن المستقبل؟ وذلك كأن يقال "لو أسندت إلى هذا المسألة لا نتهيت منها سريعا" لا أظننا نلاقي أي عناء في أن نكشف أصل هذا الاستعمال: فهو اثر من آثار القياس. جواب الشرط عندنا مستقبل غير تام imparfait du futur؛ وقد صدر القياس أولا عن الجمل التي فيها فعل الشرط حاضر وجواب الشرط مستقبل مثل: "إذا أسندت إلى هذه المسألة فسأنتهي منها سريعا" وذلك يرينا إلى أي حد من المرونة تستعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 اللغة ما لديها من الوسائل، ولكنه يطلعنا في نفس الوقت على مقدار الصعوبة التي نلاقيها في محاولة تنظيم فصيلة الوقت، إذ إنها دائما سيئة التحديد. تمييز الأفعال المبنية للمعلوم من الأفعال المبنية للمجهول في معظم اللغات الهندية الأوربية عمل خداع، لأن المبني للمجهول في كل حالاته تقريبا لا يمكن أن يعتبر عكس المبني للمعلوم. إذ يدخل في المبني للمعلوم عادة معنى خاص يعدل من صفته. فالمبني   1 عن مقابلة المبني للمعلوم بالمبني للمجهول، انظر: أهلنبك uhlenbeck رقم 30، مجلد 12 ص170، وشوخارت Schuchardt: رقم 30، مجلد 18 ص528-531، وفينك: رقم 37، مجلد 41، ص209-232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 للمجهول يعبر في الغالب عن حدث تحقق، وانتهى تماما، ومن ثم كان الكثير من الأفعال الفرنسية يعبر عن الماضي بواسطة فعل الكون. وكانت هذه هي الحال في اللاتينية. يزيد على ذلك أن المبني للمجهول في هذه اللغة له استعمال خاص يقال له خطأ المبني للمجهول غير الشخصي le passif impersonnel وكان يجب أن يسمى غير الشخصي فقط، إذ لا شيء فيه من المبني للمجهول، وذلك مثل: "on court" curritur "يجري" "على أن الفاعل هنا غير شخصي لا يعود على شيء، وإنما جيء به لإسناد الحدث فقط"، "on joue" luditur "يلعب" itum est "ذهب". فنحن في هذه الحال نستعمل في الفرنسية الضمير غير المحدد "on" أو المطاوع le reflechi فنقول مثلا: "ينكسر كوب كبير" و"ينصدع بناء شامخ"1. إذ أن المطاوع في الفرنسية كما في كثير غيرها من اللغات يعد وسيلة من وسائل التعبير عن المجهول "cela se dit, cette robe se porte" "دِه يتقال، الفستان ده يتلبس"، وصفة هذه العبارات المميزة هي أن فاعل الحدث غير معبر عنه، ولكن لا يمكن اعتبارها مبنية للمجهول، اللهم إلا إذا أضفينا على المبني للمجهول معنى خاصا لا يجعله عكس المبني للمعلوم. هذا الخلط الذي نشكو منه في لغاتنا يرجع إلى معان ثانوية أدخلت في التعبير عن المبني للمعلوم والمبني للمجهول فأضعفت بينهما درجة التقابل الأساسية. ولكن هل هناك ما يبرر هذا التقابل الأساسي؟ لو كان الفرق بين الفعلين أقْرعَ je frappe وأُقْرَعُ je suis frappe ينحصر في العلاقة النحوية بين الشخصين فحسب، لم يكن هناك محل للوقوف عنده، ولصارت المسألة مسألة اصطلاح بحث نتج من العادة أو من مراعاة التيسير: فيقال بطرس ضرب بول أو بول ضرب من بطرس دون تفريق، وكانت بعض اللغات تفضل استعمال العبارة الأولى، وبعضها   1 الأمثلة التي ذكرها المؤلف هي: "Il se joue un grand jeu" و"Il se fait une grande course، وقد استبدلنا المثلين بغيرهما لعدم وجود صيغة المطاوعة في العربية للفعلين الواردين في النص. وترجمنا المثالين الآخرين بالعامية مراعاة لغرض المؤلف وحرصا على الدقة. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يفضل استعمال الثانية، وفريق ثالث منها يسمح باستعمال الاثنتين، وفي تلك الحال كانا لا نرى في كل هذا إلا نتيجة لعملية تاريخية وفي الواقع أنه إذا كان يوجد في الفرنسية مبني للمعلوم ومبني للمجهول "وهذا الأخير في حدود ضيقة" فإن الهندية الأوربية لم تعرف إلا المني للمعلوم، وهناك لغات أخرى تميل إلى جعل الصيغتين صيغة واحدة، هي صيغة المبني للمجهول. الواقع أن هناك طريقتين لمواجهة صلة المسند إليه بالعالم الخارجي، فتارة يكون المسند إليه فاعلا، أي أنه يحدث أثرا ما على ما يحيط به بواسطة عمل إرادي "بطرس يضرب بولص" وتارة يكون قابلا، أي أنه يستقبل من المحيط الذي حوله أثرا يصيب حساسيته "بولص ضرب من بطرس". والتقابل واضح في هذين المثالين: أحدهما يعطي الضربات والثاني يتلقاها، لذلك لم يكن هناك محل لتردده. ولكن هناك حالات تتوازن فيها الفاعلية والاستقبالية وتختلطان. وهناك حالات أخرى تطغى فيها الأولى على الثانية. فإذا قلت بطرس يرى بولص أو بطرس يجب بولص، فإن الشخصين يوقعان كل منهما على الآخر أثرا يمكن أن يعتبر من جهة الفاعلية أو من جهة الاستقبالية على السواء. ذلك بأن الرؤية ظاهرة استقبالية: إذ أن شبكة بطرس تتأثر بصورة ما. كذلك الحال في الحب أو في الصداقة. في كل منهما بطرس يعاني عاطفة ما. وليس في ذلك شيء من الفاعلية. فيرى الإنسان الأقرب إلى المنطق أن نسمى الأفعال فاعلة actifs في حالة ما إذا كان الحدث مؤثرا effectifs وأن نستعمل طرازا آخر من الأفعال نسميها أفعالا سلبية passifs أو انفعالية affectif حسبما يراد، وذلك في حالة ما إذا كان الفاعل يعاني تغيرا في استعداداته الانفعالية. تلك هي نقطة البدء التي عنها تصدر فصيلتان عظيمتان من فصائل الفعل في بعض اللغات مثل اللغة الجرجية1. ففي الجرجية طرازان من التصريف. visurverb "أرغب" وmsurs "رغبة لي" وvikvareb "أحب".   1 انظر أمثلة منقولة عن فنك: رقم 161، ص133، وانظر أيضا شوخارت: رقم 39، مجلد 133 "1895"، ص1-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وmikaars "حب لي" ... إلخ. وقد نشأ عن هذين الطرازين تصريفان للفعل منفصلان، الفاعل والانفعالي، وتستعملهما اللغة الجورجية جنبا إلى جنب في نفس الفعل "وحينئذ تدخل فيهما عادة اختلافا زمنيا" أو توزعهما على الأفعال تبعا لدلالتها: فمثلا نراها تقول على وجه العموم mesmis "سمع لي" "أسمع" انفعاليا، ولكنها تقول vxedav "أرى" فاعلا، وتقول mdzera "اعتقاد لي" "أعتقد" mgonia "تفكير لي" "أفكر" انفعاليا، ولكنها تقول: vaseneb "أبني" وvtser "أكبت" فاعلا ... إلخ. ولا تعرف اللغات الهندية الأوربية هذه التفرقة. ومع ذلك فعندنا في الفرنسية فكرة عنها في المقابلة js crois "أعتقد" وm' est avis "يرتأى لي" وفي je vois "أرى" Il m'apparait "يظهر لي", فذلك يمثل الفرق بين الفاعلي والانفعالي تمثيلا جيدا. ونحن نفضل الفاعل عادة حتى أننا نقلنا إلى الفاعلية عبارة مثل Il me souvient "يأتي في ذكراتي" فأصبحنا نقول مخالفين في ذلك كل منطق Je m'en souviens "آتية في ذاكرتي" وهي عبارة منافية للعقل والذوق على السواء؛ ومع ذلك فإن فوجيلا vaugelas يقرر أنها كانت في زمنه أكثر دورانا على الألسنة "في البلاط" أكثر من عبارة il m'en souvient "يطفو في ذاكرتي". وقد وقع نفس اللاشيء بالنسبة للفعل regretter "يأسف"، فعبارة "je regrett "آسف" جاءت من il me regrette "آسف لي"، وقارن العبارة الإيطالية mi rincresce "أنا آسف"". ونرى في الألمانية أيضا نفس الشيء أفعال مثل ahnen, grauen "اشتباه وارتعاد" فعبارة ich abne etwas "أشتبه في شيء ما" أصلها es ahnt mir أو mich etwas اشتباه لي في شيء ما" ويقال ich graue mich vor etwas "أرتعد أمام شيء ما" بدلا من "es graut mir vor etwas "أرتعد أمام شيء ما" بدلا من "es graut mir vor etwas "ارتعاد لي أمام شيء ما""؛ والفعل اللاتيني poeniteo "أتوب" أصله من me poenitet "توبة لي". انتقال الانفعالي إلى الفاعلي هو في نفس الوقت انتقال من غير الشخصي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الشخصي؛ والواقع أن من اللغات ما يفضل التركيب الشخصي بوجه عام. هذا الاتجاه واضح في اللاتينية حيث نجد المبني للمجهول الشخصي قد جاء من المبني للمجهول غير الشخصي فعبارة: inuidetur mihi "حسد لي" قد سبقت inuideor "أحد يحسدني"، كذلك عبارة uitam uiutur يحيا "الإنسان" حياته "إنيوس المآسي، بيت 190" قد سبقت uita uiuitur "عيشت الحياة"، كذلك يقال في الدنمركية jeg blev budt to beroner "قدم أحد لي تاجين" بدلا من jeg blev forbu dt Adgang til ... , mig blev dudt to kroner "حرم أحد على دخول ... " بدلا من: mig blev forbudt Adgang til ... وهما العبارتان اللتان تعدان منطقيا صحيحتين دون سواهما. فنرى أن التمييز بين فصيلتي الفاعل "المبني للمعلوم" والسالب "المبني للمجهول" يقوم على أساس واه. أما التمييز بين المتعدي واللازم الذي يلعب دورا هاما في النحو الكلاسيكي فأساسه ليس أمتن من سالفه, والنحاة يسيريون دون انقطاع على هذا التمييز، وبلغوا في تسليمهم به حدا جعلهم يعفون أنفسهم من عناء تحديده كأنه إحدى البديهيات. والواقع أنه لا شيء أبعد منه عن التحديد. يسمى الفعل متعديا في اللاتينية إذا قبل أن يكون له معمول مباشر منصوب "Amo patrem" "أحب والدي"" وفي الفرنسية إذا تلاه معمول مباشرة دون وساطة حرف الجر a "لِ أو إلى" "j' aime mon pere" "أحب والدي". وعلى العكس من ذلك يعتبر الفعل لازما إذا كان معموله مجرورا في اللاتينية مثل noceo patri "أسيء إلى والدي" أو مسبوقا بحرف الجر a في الفرنسية مثل je nuis a mon pere "أسيء إلى والدي". ولكن العلاقة الموجودة بين "أحب" و"والدي" بالنصب هي نفس العلاقة التي بين "أسيء" و"والدي" بالجر. ونحن نعلم أن الخلاف بين البنائين خلاف عرضي محض. بل من الجائز أن تكون عبارة norcere alicui مقيسة على obesse, officere alicui؛ فأحد التركيبين قد استتبع الآخر. وفي مجرى التطور الذي تسلكه لغة بعينها نجد الأبنية تتبادل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بعضها مع بعض ونرى الأفعال اللازمة تصير متعدية والمتعدية تصبح لازمة1 إذ نرى الفعل اللاتيني mederi "يعنى" كان ينصب مفعوله في بادئ الأمر ثم صار يتعدى بحرف الجر mederi oculos "يعنى عينه"، mederi oculis "يعنى بعينه". وأخيرا نجد التعبير عن إحدى الأفكار يختلف في لغة عنه في غيرها، فهذه نعبر عنها بفعل لازم وتلك بفعل متعد. فالفرنسية تقول j'aide ma mere "أساعد أمي"، وje suis mon pere "أتبع أبي"، على حين تقول الألمانية: ich helfe de mutter "أساعد" "ل" أمي" وich folge dem vater "أتبع "ل" أبي"، وتقول الروسية blagodrju vas كما تقول الفرنسية je vous remereie "أشكرك"، أما الألمانية فتقول ich danke ihnen "أشكر لك"، واللاتينية تستعمل الجر بعد الأفعال nubere, و"يتزوج" parcere "يقتصد" وbenedicere "يبارك". قد يكون لهذا التمييز ما يبرره في نظر النحوي الذي يعلم اللغة إذ يرى نفسه أمام تراكيب مختلفة ويعرف أن المتكلم إذا قال noceo patrem "أسيء والدي" أو ich helfe die mutter "أساعد أمي" بالنصب كان مخطئا. غير أن اختلاف شكلي محض؛ إذا علله التاريخ وفسره لم يستطع العقل أن يبرره. قد يتصور الإنسان المقابلة بين الأفعال المتعدية والأفعال اللازمة تصورا أفضل على النحو الآتي. لما كانت فكرة التعدية تستلزم معمولا، كان لنا أن ننعت بالتعدية كل فعل صرح في الجملة بما يقع عليه حدثه وباللزوم كل فعل لا معمول له في الجملة. وعندئذ يجب أن نفرق بين عبارات مثل J'aime Rose "أحب روز" وla mison ou j'aime "البيت الذي فيه أحب"، ومثل "هذا الرجل يشرب نبيذا" و"من شرب سيشرب" فالفعل إذا استعمل دون معمول كان لازما، والحدث الذي يعبر عنه لا يقع إذن على شيء. ولكن هذه المقابلة، وإن كانت منطقية حقا، لا يستطاع الأخذ بها زمنا طويلا دون إضرار بالمنطق نفسه.   1 عن الفرنسية في القرن السادس عشر انظر برينو brunot، رقم 57، مجلد 2، ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ذلك أننا مثلا نجدها في عبارات أخرى مثل ils prennent ces allumettes "يأخذون هذه الأعواد من الثقاب" وCes allumettes prennent "هذه الأعواد من الثقاب تأخذ "يعني تشتعل" ومثل le chient a creve la toile "الكلب فجر الخرقة وle chien a creve "الكلب فجر" "يقال ذلك في الفرنسية عن الحيوان ويراد به أنه نفق". ولكن هذه الحالة تختلف عن الحالة السالفة كل الاختلاف. ففي الجملة الثانية من هذين الزوجين يستعمل كل من الفعل "أخذ وفجر" في معناه المطلق والحدث يرجع إلى المسند إليه. أما في الجمل السابقة فإن كلا من الفعلين "أحب وشرب" يعبر في الجمل التي لا مفعول لها عن حدث غير محدد. ومن جهة أخرى نستطيع في هذه الحال أن نعتبر فعلا مثل "أرحل إلى باريس" متعديا إذ أن الجملة تحتوي على معمول. يعتبر غاية الحدث وأن هذا المعمول يعبر عنه بالمنصوب في كثير من اللغات "اللاتينية والإرلندية والإغريقية والسنسكريتية, ... إلخ"، فيقال في اللاتينية: peto urbem "أرحل المدينة". ولكن هل ينبغي أن تعتبر من اللازم الفعل partir "يرحل، ينطلق" في عبارة مثل: je pars dimanche، حيث نرى الجملة تحتوي على ظرف زمان بدلا من ظرف المكان هذه مسألة تحتاج إلى بحث. وكيف نفرق بين "انتظر بطرس" و"انتظر إلى الغد" كذلك كيف نبين الفرق بين "أدر الحجر" و"در إلى اليمين"؟ وإذا اعتبرنا هذين الفعلين من الأفعال المتعدية "وكيف لا تعتبرها كذلك إذا "قربنا "در "حول" الزواية" بعبارة "در إلى اليمين"" أمكننا أن نقول بأن الكلمة الواحدة تستخدم لأداء وظيفتين مختلفتين كل الاختلاف، لأن الفعل سببي في "أدر الحجر" أي ""اجعل الحجر يدر"". وفي "در إلى اليمين" انعكاس بمعنى أن المسند إليه هو في الوقت نفسه غاية الحدث "اجعل نفسك تدر إلى اليمين". وكذلك الحال في اللاتينية في saepe uertas "در "بمعنى أدر" أسلوبك غالبا" وفي uerte hac "در من هنا"1.   1 انظر إرنو: رقم 6، مجلد 15، ص325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كلما توغلنا في تحليل الفصائل النحوية للغة من اللغات زدنا إدراكا لاستحالة إرجاعها إلى نظام منطقي. وذلك مما يمكن تفسيره من جانب النحو بعلل في غاية الوضوح: ذلك بأن النحو في أية لغة وفي أية فترة من فترات تاريخ هذه اللغة ليس إلا نتيجة لأنواع مختلفة من النشاط يصيب نواحي النظام النحوي المختلفة ويصيبها مستقلة بعضها عن بعض. فإذا كانت نقطة البدء في التغيرات الصرفية تنحصر فيما يسمى بالقياس، فإن نتيجة هذا القياس ليس من شأنها أن تجعل المنطق يسود النظام النحوي من جهة كونه كلا. من جهة أخرى لا شيء يبرر الغرض القائل بأن الفضائل النحوية كانت في فترة بدائية من تاريخ اللغة منطقة تماما على الكليات المنطقية للعقل وأنها بمرور القرون بعد عنها شيئا فشيئا تبعا للتغيرات الناجمة من الاستعمال، إذ أننا مهما تعمقنا في التقصي في تاريخ اللغة لا نصل إلا إلى حالة لغوية على درجة كبيرة من التطور، فأقدم صورة تعرفها للغات المتكلمة في زماننا هذا ليست أكثر منطقية ولا أقل منطقية من هذه اللغات نفسها. مما لا يخلو أبدا من المخاطر أن يراد الحكم على عقلية أمة بالفصائل النحوية الموجودة في لغتها. فهناك لغات تحتفظ زمنا طويلا بفصائل لم يبق لوجودها مبرر وتستمر على اعتبارها وسائل نحوية. وعندنا مثل من ذلك في فصيلة النوع: فلو أن شخصا قدم لنا جملة فرنسية فيها كلمة مائدة تضاد كلمة مقعد وقال لنا بأنها مأخوذة من لغة المتوحشين لاتجه ذهننا فورا إلى لغة البنطو. وقد أعطانا الأستاذ بلي BALLY أمثلة عديدة بينة على المشابهة التي تقيمها بين لغة المتحضرين ولغة المتوحشين استعمال بعض الفصائل النحوية والاحتفاظ بها1. قد يحصل أن تهجر بعض الفصائل اللغوية أو أن تتغير كما يقع لأخرى أن تنشأ، وقد أراد البعض أن يستنتج من هذه الحقيقة أن العقل الإنساني يتقدم في طريق التجريد. هذا الاستنتاج له ما يبرره في بعض الأحيان "انظر فصل الخاتمة". ولكن لا ينبغي اللجوء إلى التعميم بأية حال. فالهندية الأوربية لم يكن فيها مصدر،   1 رقم 44 ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فما كانت تستطيع أن تقول "حَملٌ" أو "فِعلٌ" وإنما كانت تقول "أحمل" أو "أفعل" فحسب. فخلق المصدر، الذي وقع في كل واحدة من اللغات الهندية الأوربية على انفراد، كان خطوة واسعة في سبيل التجريد، ومع ذلك فبعض هذه اللغات قد فقد المصدر كالإغريقية الحديثة والبلغارية مثلا. وهذا لا يحتم أن يكون الإغريقي أو البغاري قد فقد ملكة إدراك الحدث الفعلي إدراكا تجريديا. كون بعض الشعوب المتوحشة يملك مثلثا إلى جانب المثنى لا يحتم كون هذه الشعوب لا تستطيع العدد إلا إلى ثلاثة1. ذلك لأن فصيلة العدد النحوية مستقلة عن معنى العدد. وكذلك قد أبان الأستاذ بلانرت PLANERT أنه يجب التمييز بين فكرة السببية وبين الفصائل النحوية التي تستخدم للتعبير عنها، فإذا كان سكان الملايو لا يعبرون عنها، فإن ذلك يمنعهم من أن يفكروا تفكيرا سببيا2. فهنالك وسائل مختلفة من التنغيم أو الإشارة يتعارض بها عن الفصائل غير الموجودة. وإذا كانت اللغات تحتفظ في بعض الأحيان بفصائل نحوية لا فائدة منها فإنها لا تعجز يما عن خلق فصائل جديدة عند الحاجة. لقد قابلنا فيما سبق بين اللغات التي تعبر عن الزمن واللغات التي تعبر عن صفه الفعل. فإذا نظرنا إلى الوقائع على نحو ما يقدمها لنا تاريخ اللغات الهندية الأوربية، لظننا أن فكرة الزمن أحدث من فكرة الصفة وأنها حلت محلها. ومع ذلك ففكرة الصفة ليست مجهولة في لغاتنا الحديثة التي تعبر عن فكرة الزمن على خير ما يكون التعبير عنها. استعملت اللغات الجرمانية مثلا للتعبير عن الزمن الاستمراري الذي لم يكن فيها اسم الفاعل مصحوبا بفعل الكون. فإننا نجد في الألمانية العليا المتوسطة تراكيب مثل: ALL DIE MICH SEHENDE SINT "كل أولئك الذين يرونني" "DER ARME HEINRICH، البيت 673" أو DER RITER ... MIT TEM DER LEWE VAREND IST" "الفارس ... الذي معه يسافر الأسد" "I WEIN بيت 2986". هذه الحاجة نفسها هي التي بعثت على نشوء التركيب الإنجليزي I AM GOING،   1 ليفي برول: رقم 88، ص157. 2 بلانرت: الفصائل النحوية في علاقتها بالسببية. بحث في لغة مدغشقر "رقم 34، مجلد 9 "1906" ص759-768". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 I was reading الذي شاع شيوعا هائلا. ويلاحظ في فرنسية القرن السادس عشر وجود محاولة لخلق استمراري من هذا القبيل بواسطة الفعل etre "كان" أو aller "ذهب". ولكنه اندثر بعد أن حكم عليه مالرب Malherbe وميناج menage بالإعدام. ومع ذلك فإننا نرى فواتير Voiture يقول: "cette prison qui va vous renfermant." "هذا السجن الذي يطبق عليك" ويقول لافونتن: "je me vais desalterant" "أطفئ ظمئي". الفرنسية التي تمتاز من بين جميع اللغات بثرائها في وسائل التعبير عن الزمن قد وجدت وسيلتين للتعبير عن الصفة وهي تستخدمهما مجمعتين منذ بضعة قرون1. إحدى هاتين الوسيلتين تنحصر في استعمال السابقة الفعلية re للدلالة على الحدث الوقتي في مقابلة الحدث الاستمراري. فكلمتا rabaisserm, rabattre "يخفض" لا تعنيان أن نخفض من جديد أو أن نزيد في الخفض بل تعنيان فحسب اتباع الرفع بالخفض دون اعتبار للزمن الذي يلزم لذلك. فإذا تمثل الحدث أمام الذهن في المدة التي يستغرقها، وحتى نهاية تنفيذه، استعملت الصيغة البسيطة abaisser أو abattre "خفض" كذلك: reveiller quelqu' un "إيقاظ أحد الناس" معناه جعله يكف عن النوم أو أن يصحو؛ وremarquer rne chose "علم شيئا" معناه أن يضع علامة لهذا الشيء وأن تبقي هذه العلامة. وفي اللغة الشعبية يميل الفعل المركب مع re في كل مكان إلى أن يحل محل الفعل البسيط عندما لا يراد إلا نتيجة الحدث: فالفعل "unir" في Unir deux personnes "يجمع بين شخصين" لم يعد يستعمل إلا في الاحتفال بالزواج، وفي غير ذلك يقال reunir "يجمع"؛ وremercier "يشكر" حل محل mercier "يشكر" الذي كان لا يزال يستعمل في القرن السادس عشر، relentir "يُبطئ أو يبطّئ" معناه تقليل السرعة، كذلك الأفعال remasser "يجمع بالالتقاط" وrecueillir "يلتقط أو يجني" وregarder "ينظر إلى" أخذت معاني جديدة تخالف معاني garder, cueillir, amasser وrettraper quelqu'un "يقبض على أحد   1 بربلنيه "Barbelenet": رقم 99، ص8 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الناس" يستعمل الآن في المعنى الحقيقي ولم يعد attraper "يلوم" يستعمل إلا في المعنى المجازي. ويقال rapportez أو remportez-moi "حرفيا كان يجب أن يكون المعنى: أحضر إليّ هذا من جديد" في معنى apportez أو Remportez "أحضر إلي هذا"، renfermez le chat "أحبس القط، أصلا أعد حبس القط" refermez la porte "أغلق الباب، أصلا أعد إغلاق الباب" وrentrez donc "ادخل" "أصلا ادخل من جديد" بدلا من entrez donc "ادخل" يقال لك ذلك في بيت لم تدخله من قبل إطلاقا prends garde de repandre "un liquide "احذر أن تريق "سائلا" أصلا أن تريق ثانية ... " إلخ. مثل هذه الأمثلة موجودة في الفرنسية القديمة، إذ نقرأ عند إيمري دي تربون Aimeri de narbone؛ "relez vos en" "انصرف" "أصلا انصرف ثانية" بدلا من allez-vous-en: فاللاصقة تزيد من درجة التعبير بشكل واضح. هذه العملية، وقد ظلت منتعشة بالحياة في الفرنسية، توجد في اللاتينية أيضا، بل إن أصلها سابق على اللاتينية نفسها، إذ أننا نعثر عليها أيضا في الجرمانية وفي البلطية السلافية. ولكن الفرنسية لا تقتصر على هذه الطريقة، بل إن لديها طريقة أخرى للتعبير عن فكرة صفة الفعل: وهي استعمال الفعل الانعكاسي "يقابل المطاوع في العربية من بعض الوجوه". قارن defiler "يمرون في صف" وtrotter "يركض" بالفعلين se defiler "حرفيا: يمرر نفسه في صف" se trotter حرفيا: "يركض نفسه أي يركض"؛ فترى أن الفرنسية تستخدم الفعل الانعكاسي وتضيف له لاصقة فعلية، واللاصقة في هذه المرة إما -e أو -en s'en aller: "ينصرف" "بالدقة يضع نفسه في حالة انصراف" وs'enfuir "يهرب "يضع نفسه في حالة هرب"" وs'envoler "يطير "يضع نفسه في حالة طيران" وS'ECRIER "يصيح "يضع نفسه في حالة صياح"". وS'ec rouler "ينهار "يضع نفسه في حالة انهيار"" إلخ. فهذه الأفعال، إذا قورنت بمقابلاتها البسيطة، تقدم لنا خير المثل على هذه الحقيقة. فالفرنسية إذن لا يعجزها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 التعبير عن الصفة ما دامت تجد الوسيلة إليه بمجرد أن تشعر بالحاجة إلى ذلك. غير أن الصفة ليس لها في الفرنسية فصيلة نحوية مطردة. إذ لو عرض علينا فعل فرنسي لم نستطع أن تتبين منه ما إذا كان يدل على الاستمرار أو على الشروع على نحو ما تتبين منه إذا كان يدل على المستقبل أو على غير التام. وإذا كانت هناك لغات كالروسية تغلب فيها فكرة الصفة إلى جد تصير معه قاعدة للنظام الفعلي، فإن هذه الفكرة ليست في الفرنسية واللاتينية إلا بقايا متناثرة أو أنها لا تسد إلا حادة عارضة. إذن تختلف الفصائل النحوية في الأهمية تبعا للغات. فالنظام الصرفي لا يمكن أن يحتوي إلا على عدد محصور من الفصائل التي تفرض نفسها والتي تعم وتظهر وإنما توجد في كل لغة، إلى حد كبير أو صغير، نظم أخرى تتداخل وتتقاطع ونراها تمثل، إلى جانب الفصائل النحوية التامة الازدهار، فصائل أخرى في طريق الفناء أو -على العكس من ذلك- في طريق التكوين. من جهة أخرى يمكننا أن نقيم بين الفصائل النحوية نوعا من الترتيب التدريجي: فبعضها ليست إلا صورا خاصة من فصائل أعم منها: فقد أمكننا مثلا أن نتكلم عن المبني للمعلوم والمبني للمجهول على أنهما فصيلتان نحويتان، ولكنا نستطيع أن نرجعهما إلى فصيلة واحدة دون عناء. نعم، نحن لا ننكر أن لغة تخلو من المبني للمعلوم ولا تستطيع مثلا أن تترجم جملة مثل je vous aime "أحبك"، ونعنى بذلك أنه يستحيل ترجمتها من الفرنسية ترجمة حرفية، لأن النسبة التي نعبر عنها بالفعل المسمى المبني للمعلوم يمكن التعبير عنها في تلك اللغة المفترضة ولكن في صورة مخالفة. كذلك ما نعنيه بمصطلح المضاف إليه في الإغريقية أو اللاتينية ليس له نظير في الصينية، وكذلك الفرنسية والغالية تخلوان من مثيل له. فإنا نقول في الفرنسية Le livre de peirre "الكتاب "بتاع" بيير" بدلا من liber petri "كتاب بطرس". والصينية تعبر عن هذه النسبة بين الاسمين بواسطة ترتيب الكلمات، فتضع المضاف إليه قبل المضاف فتقول Hantchaou، هن تشاو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 "دولة الهون" "حرفيا الهون دولة"؛ والغالية تستخدم عكس هذا الترتيب فتقول Aber yr afon "مصب النهر "حرفيا المصب النهر"" "انظر ص112" فمن الخطل أن نتكلم عن مضاف إليه في الغالبية أو في الصينية الفرنسية أيضا. ولكنا نعرف أن المضاف إليه الاسمي في اللاتينية يمكن الاستعاضة عنه بصفة: فنستطيع أن نقول uirtus caesarea "الفضائل القيصرية" بدلا من caesaris "فضائل قيصر". وقد صار ذلك قاعدة في اللغة الروسية. بل إن التركيب le liver de peirre "الكتاب "بتاع" بيير" ليس التركيب الوحيد المستعمل في الفرنسية، فإننا نقول أيضا: palais royal "القصر الملكي" أو livres sibyllins "الكتب السبيلية" وla maison peirre "البيت "بتاع" بيير" l'hotel-Dieu "بيت الله "حرفيا" البيت-الله" la rue Gambetta "شارع غمبتا "حرفيا": الشارع غمبتا"، فهنا أيضا لا توجد فصيلة نحوية للتعبير عن فصيلة عقلية واحدة. فالألمانية فيها مضاف إليه في VATER'S HANS أو DAS HAUS DES VATERS "بيت الوالد" ولكنها تستطيع كذلك أن تقول: MEINEM VATER SEIN HAUS "ل" والدي بيته "بمعنى بيت والدي""، وهذا تركيب مختلف كل الاختلاف. فإذا ما راعينا هذه الاختلافات التي ترجع إلى الطريقة التي بها تتكون الصورة الكلامية، جاز لنا أن نقرر وجود فصيلة عامة واحدة في كل اللغات التي تكلمنا عنها، هي فصيلة التبعية. ونضم المضاف إليه الإغريقي واللاتيني وترتيب الكلمات الصيني والغالي واستعمال الحرف "DE" في الفرنسية. وفضيلة التبعية التي تبدو لنا واحدة ينضوي تحتها فروع يبررها المنطق فنحن نقول في الفرنسية Sa beaute est eclatante "جمالها وضاء" أو La beaute en est eclatant "الجمال فيها "أو في ذلك" وضاء" تبعا لما إذا كان الكلام مثلا عن امرأة أو عن صورة زيتية، أو بعبارة عامة، عن شخص أو عن كائن غير حي. على حين أننا نقول من غير تفريق le pere de pierre "الوالد "بتاع" بيير" la culotte de pierre "السراويل "بتاع" بيير" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 دون أن نتخيل وجود خلاف في النسبة التي تجمع بين الكلمتين في كل من العبارتين. وعلى العكس من ذلك تميز اللغة المندنجية le mendingue، إحدى لغات إفريقية الغربية، بين afa "آفا" "أبوه" وa-at kursi "آ-تا-كرسي" "سراويله"؛ فضمير الملك يختلف في كلتا الحالتين، لأن الأب لا يتبع ابنه على نحو ما يتبع السراويل مالكه1. ففصيلة التبعية في هذه اللغة تزيد تعقيدا بتمييزها بين تبعية الملكية وتبعية غير الملكية. أما الفرنسية فلا تشير إلى هذا الفرق وإن كان يبدو مسلما به عند التفكير. يرجع الخلاف بين النحو والمنطق إلى أن الفصائل النحوية والفصائل المنطقية لا تلتقي إلا نادرا، فإن عدد الثانية لا يتفق مطلقا مع عدد الأولى؛ فإذا حاولنا أن ندخل في مسائل النحو شيئا من النظام بتصنيفها وفقا للمنطق، رأينا أنفسنا منساقين إلى توزيعها توزيعا تحكميا: فطورا نرانا نفرق بين مسائل ذات صفة نحوية واحدة في فصيلتين متميزتين من فصائل المنطق "وفي ذلك إكراه للغة"؛ وطورا نرانا نجمع في فصيلة نحوية واحدة مسائل لا يربط بينها شيء من المنطق "وفي ذلك إكراه للعقل". فالأيسر إذن أن تختار طريقة وسطا بين هاتين الطريقتين من طرق التصنيف. وفي ذلك تبرير لمسلك النحاة الذين لا نعدم أن نجد قيمة نحوية في مصطلحاتهم وإن كانت تحكميةوخالية من المنطق في غالب الأحيان. والشيء الوحيد الذي نطالبهم به هو أن نكون تصنيفاتهم، وقد ضحوا فيها بالمنطق، متفقة مع الأوضاع النحوية للغة التي يدرسونها، إذ أن الفصائل، وإن اختلفت من لغة إلى أخرى، لها في الواقع سلطان يطغي على نشاط العقل في اللغة التي توجد فيها. من اختصاص المناطقة أن يحددوا الكليات المنطقية وأن يقرروا ما إذا كان وراء الفصائل النحوية المختلفة الألوان فصائل منطقية تجري على كل اللغات وتفرض نفسها عليها جميعا تحكم تركيب المخ البشري. ولنفترض أننا قد وجهنا هذا السؤال   1 د. دلافس Delafosse رقم 4، مجلد 18" 1963" ص353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إلى رجل من رجال القرن السابع عشر مشبع بالفلسفة الديكارتية ومنطق البوررويال، فإنه يجب عنها بالإثبات دون أدنى تردد. قال ديكارت: "صدق الحس هو الشيء الذي قد وزع على الناس خير توزيع ... وهو الشيء الوحيد الذي يجعلنا آدميين ويميزنا من الحيوان، وإني لأميل إلى القوة بأنه يوجد كاملا في كل فرد", وقال لبرويير la bruyere مبالغا في فكرة الفيلسوف: "العقل في كل الأقطار موطنه. وإن التفكير ليستقيم في كل مكان يوجد فيه الناس" هذا التصور لعقل إنساني ذي قوانين ثابتة لا تتحرك، متماثل تمام التماثل في كل الأرجاء، كان محل تسليم الجميع في ذلك الحين. ولكنه في يومنا هذا يبدو محلا للنظر1. ومع ذلك فلا ينكر إنسان وجود بعض سمات أساسية مشتركة مهما اختلفت العادات العقلية بين شعوب الأرض المختلفة, فهناك منطق إنساني وتوجد كليات منطقية كبرى عند جميع البشر الذي يفكرون, وهي بطبيعة الحال أساس الفصائل النحوية, فمن أين تستمد هذه وتلك قيمتها؟ يعزو إميل دركهايم2 وجود الفصائل إلى نوع من الضرورة تقف بالنسبة للحياة العقلية موقف الالتزام الأخلاقي بالنسبة للإراة: يعني أن الفصائل ذات أصل اجتماعي وتتوقف على المجتمع. هنا نجد أثر العامل الاجتماعي الذي ظهر لنا بوضوح فيما سبق أنه أصل التغيرات الصوتية. فهو وحدة القادر على تفسير القانون الصوتي؛ فنوع الضرورة الذي يفرض على مجتمع بعينه أن يحركوا جهازهم الصوتي بصورة واحدة ليس له أصل أو ميتا فيزيقي، كذلك لا يمكن أن يفسر على أية عارض فردي ثم عمم؛ فليس هنالك من سلطة تكفي لأن تفرض محاكاة خاصة فردية، والقسر الذي تفرضه الصوتيات له من القوة لا يستطيع معه فرد أن يتخلص من نيرها، وكذلك الحال بالنسبة لسلطان الفصائل وكلاهما يستمد قوته من قوة الرباط الاجتماعي.   1 ليفي بريل: رقم 88 ص7. 2 رقم 10, عام 1909 ص747. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الفصل الثالث: الأنواع المختلفة للكلما ت 1 تبلغ الصعوبة في تصنيف أجزاء الكلم حدا يعوقنا حتى الآن عن الوصول إلى تصنيف مرض. وما زال نحونا التقليدي يعلمنا أن نقسمها إلى عشرة أقسام تبعا لتقليد قديم يرجع إلى مناطق الإغريق, ولكن هذا التصنيف لا يثبت أمام الامتحان؛ فإن تبرير تطبيقه على اللغة التي خلق من أجلها لا يخلو من عناء، فمن باب أولى أن توجد لغات كثيرة لا ينسجم معها هذا التقسيم إطلاقا, وبمناقشته عن كثب نرى أنفسنا مضطرين إلى تصحيحه. من المناسب قبل كل شيء أن نبعد من هذا التصنيف حرف التعجب INTERJECTION فإن في حرف التعجب مهما كانت أهميته في الاستعمال، شيئا يضعه بمعزل عن بقية أجزاء الكلم الأخرى، ولا يمكن أن يدرج معها في تصنيف واحد, فهو لا يخضع دائما للقوانين الصوتية، وكثيرا ما يشتمل على أصوات خاصة به، مثل المصمصات في كثير من اللغات الحديثة أو الانفجاري الاحتكاكي PFF "بف" في الفرنسية وليس له على العموم أي صلة بالصرف, بل يمثل شكلا خاصا من اللغة، اللغة التأثرية affectif وأحيانا الفاعلة actif فهو على كل حال لا يدخل في بنية اللغة العقلية, وسنلتقي به في الفصل التالي. بعد ذلك يجب أن نبعد الأصوات, فإن عددا كبيرا من "أجزاء الكلم" في نحونا ليس شيئا آخر, كذلك هذه الأدوات التي تسمى بحروف الجر وحروف الوصل، فإن الدور الذي تلعبه يمكن أن تقوم به في لغات أخرى عملية صرفية تختلف عنها كل الاختلاف, فالفرنسية تقول Le livre de pierre "الكتاب   1 انظر رزفادوفسكي "Rozwadowski": رقم 193 وجسرسن: رقم 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 "بتاع" بيير" ترجمة للعبارة اللاتينية liber petri "كتاب بطرس"، وتقول الفرنسية أيضا on desait que le comte etait mort "قيل إن الكنت قد مات" بينما تقول الألمانية "man sagte der graf sei gestorben" مكتفية بنصب الفعل "استعمال صيغة الـSubjonctif عن حرف الوصل dass أن بالعربية que بالفرنسية" في الإشارة إلى تبعية الجملة التابعة، ونرى أن دوال النسبة تتنوع في اللغة الواحدة؛ فالألمانية تستطيع أن تقول أيضا man sagte dase der graf gestorben ist حرف الوصل dass" كما تستطيع أيضا أن تقول: "man sagte der graf sei gestorben" "باستعمال الفعل في صيغة التبعية. واللاتينية تستعمل أيضا العبارتين: rogo venias "أرجو تعفو" أو rogo ut venia "أرجو أن تعفو". وقد ظلت الفرنسية وقتا طويلا تقول le bois le roi "الغابة الملك "يعني غابة الملك"" وle bois la dame "الغابة السيدة "غابة السيدة"" وذلك إلى جانب قولها: le chemin du bois "الطريق "بتاع" الغابة" l'arbre de la foret "الشجرة "بتاعة" الغابة". فالكلمات de "بتاع" وque "أن" وdass "أن" وut "أن" عبارة عن دوال نسبة تستعمل لبيان الصلات التي بين كلمة وكلمة أو جملة وجملة. حروف الجر تختلف في صفتها عن حروف الوصل بوجه عام ولكنا نعرف مع ذلك لغات تعبر بصورة واحدة عن بعض العلاقات بين كلمة وكلمة أو جملة وجملة على السواء. فالصينية تستعمل العنصر ti "تي" للدلالة على تبعية الأسماء كما تستعمله للدلالة على تبعية الجمل "انظر ص108". وأداة التعريف في اللغات التي فيها أداة للتعريف ليست إلا دالة من دوال النسبة، وليست الأداة على وجه العموم إلا اسم إشارة ضعف معناه، وتستعمل كوسيلة للتصنيف، فهي في الأسماء تبين النوع والعدد وفي أغلب الأحيان تدل على التعريف أيضا "انظر أواخر هذا الفصل" أي أنها تحتوي على كل الخصائص التي تجعل منها آلة نحوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وكذلك حالة الضمائر الشخصية: je lis أنا أقرأ تساوي Lego "أقرأ" وكذلك tu lis "أنت تقرأ" وil lit "هو يقرأ" تساويان في اللاتينية legis "تقرأ" legit "يقرأ". فالفرنسية تعبر بـje "أنا" وtu "أنت" وil "هو" عما يعبر عنه في اللاتينية بواسطة التصريف. فإذا كان الضمير قائما بذاته أو مؤكدا كما يسمونه، فإنه يلعب دور الاسم بالضبط، ولذلك وجب أن نسلكه في فصيلة الأسماء: ويمكننا للتحقق من ذلك أن نقارن الجملتين: Viens-tu, toi? "أأنت تأتي، أنت؟ " وviens-tu peirre" "أأنت تأتي، "يا" بيير؟ " أو moi, je suis grand et peirre, il est petit ""أما" أنا فأنا كبير و"أما" بيير فهو صغير". فالضميران toi "أنت "الثانية" وMoi "أنا "الأولى"" لهما القيمة التي لبيير بالضبط. كما أن الضمير الشخصي يقترب من الفعل في بعض الوجوه إذ أنه لما كان يقوم في كثير من الأحيان بدور الدالة على النسبة في الفعل كان إلى حد كبير مرتبطا في الفعل بفصيلة الأفعال ومعرضا لأن تتأثر صيغته بصيغة الفعل1. فالضميران الإيطاليان: elleno, eglino "هم وهن" قد أخذا نهاية فعل الغائب الجمع المقابلة لهما، وكذلك الحال في الغالية حيث يقال hwynt "هم" بدلا من hwy, وذلك تحت تأثير النهاية الفعلية ynt-. ونحن نعرف من جهة أخرى أن اللغات التي احتفظت بالمثنى في الفعل احتفظت به أيضا في الضمير حتى ولو هجرته في الاسم، وعلى العكس من ذلك اللغات التي فقدت المثنى في الفعل هجرته أيضا في الضمير حتى ولو استبقته في الاسم "انظر صفحة 134". فالضمير، وإن كان اسمي الاستعمال، يصيبه تأثير الفعل أحيانا ولكنه لا يكون قسما مستقلا من أقسام الكلم. والصفة من جهتها لا يمكن تمييزها من الاسم تمييزا واضحا. إذ يبدو أنهما في اللغات الهندية الأوروبية صادران عن أصل مشترك وأنهما في كثير من الحالات يحتفظان بصيغة واحدة. إذ لا شيء يدلنا على كون bonus "حسن" في   1 يوهان شمت: رقم 37، ص36 من المقدمة وص403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 اللاتينية صفة ولا على أن كلمة equus "حصان" اسم، أن علامة الإعراب واحدة فيهما. ولعله لا يستطاع التمييز بينهما ألا بالاستعمال "انظر أواخر هذا الفصل". ولكن يجب أن نضيف إلى ما تقدم أن من الاستعمالات ما هو مشترك بينهما على التساوي. فيمكن أن يقال: "أنا قوي" كما يقال "أنا ملك" و "الرجل عظيم" و "العظيم رجل" فالاسم والصفة يتبادلان الدور في كل اللغات، ولذلك لم يكن بينهما حد فاصل من الوجهة النحوية. فيمكن الجمع بينهما في فصيلة واحدة هي فصيلة الاسم. إذا تابعنا السير في عملية الاستبعاد هذه، لم يبق لدينا من أقسام الكلم إلا قسمان: الفعل والاسم وكل ما عداهما من أقسام ينضوي تحت لواء هذه الثنائية. وينبغي أن نعرف ما إذا كان الاسم والفعل يمثلان وظيفتين مختلفتين اختلافا جوهريا. إذا حصرنا نظرنا في مجموعة خاصة من اللغات كاللغات الهندية الأوربية، لم نتردد في الاعتراف بأن الاسم والفعل بينهما فرق أساسي. بل أن مجرد فكرة الخلط بينهما تعتبر من الحماقات. فالواقع أن الصرف في اللغات الهندية الأوربية يخص كل منهما بسلاسل من اللواحق وعلامات الإعراب تختلف في أحدهما عنها في الآخر. وذلك إلى حد أننا في السنسكريتية والإغريقية نعرف، تسع مرات من عشر ومن النظرة الأولى، ما إذا كانت الصيغة التي أمامنا اسما أو فعلا. وفي كل منهما يعبر عن الفصيلة الواحدة بطريقة تختلف عنها في الآخر، ومن ذلك الشخص والعدد. "كلامي" فالرمز الذي يرمز به للشخص الأول مختلف في كلتا الحالتين. وعلامة الجمع في الاسم لا تمت بصلة إليها في الفعل. فالواقع أن لدينا نظامين من التصريف متوازين، وكل منهما مستقل عن الآخر. غير أننا إذا انتقلنا من اللغات الهندية الأوروبية إلى اللغات السامية لم نجد هذا التمييز الفاصل. فالعربية ملأى بالعلامات المشتركة بين التصريفين الاسمي والفعلي. إذ نرى النهاية "-ُون" التي تستخدم في المضارع المسند إلى الشخصين الثاني والثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المذكرين في حالة الجمع تستخدم أيضا علامة للجمع في كثير من كلمات اللغة المذكورة. وفي حالة المثنى تستخدم لنفس الشخصين المتقدم ذكرهما العلامة "-آنِ" التي هي علامة الاسم المثنى الوحيدة. ولا تقتصر العلامة بين التصريف الاسمي والتصريف الفعلي في العربية على بعض وجوه الشبه في العلامات، بل إنها تمس جوهر الأشياء في ذاته. فهناك توافق غريب بين الحالات الإعرابية الثلاث "حالة المسند إليه وحالة المفعول المباشر وحالة المفعول غير المباشر" وبين حالات المضارع الإعرابية الثلاث "المرفوع والمنصوب والشرطي أو "المجزوم كما يسميه بعضهم"". وقد فطن نحاة العرب أنفسهم إلى هذا التشابه فنرى أثره في المصطلحات التي ابتكروها. مواطن الشبه بين الاسم والفعل في اللغات في اللغات الفينية الأجرية بلغت من الكثرة حدا جعل بعضهم يقرر -وإن كان على خطأ- أن لا خلاف بينهما. والحقيقة أن الفعل فيها من أصل اسمي في غالب الأحيان، ولا يزال يقع تحت سلطان العناصر الصرفية الاسمية في بعض الأحوال1. ففي الفجولية يقال: mini ميني "يذهب" ali "أَلي" "يقتل" يجيئان بنفس الصيغة التي تجيء عليها puyi "بويي" آخِذٌ" uri "ماسكٌ"، وفي الفنلندية antaa "يعطي" معناها الحرفي "معط". وليس ذلك إلا نتيجة لاستعمال الجملة الاسمية البحتة "انظر الصفحات التالية". ولكن هناك حقيقة أخرى أكثر أهمية ونعني بها الاشتراك في العلامات. ففي التشيريمية وفي المردفية تستعمل التاء في بناء الجمع من الأسماء وفي إسناد الفعل إلى ضمير الجمع للغائبين على السواء، ونجد ذلك حتى في الفنلندية في بعض لهجاتها حيث يقال menit "ذهبوا" menisis "قد يذهبون" في مقابلة meni "ذهب" وmenisi "قد يذهب" وذلك يشبه تمام الشبه kalat "السمكات" في مقابلة kala "السمكة" وpuut "الشجرات" في مقابلة puu "الشجرة" وفي المجرية حالات من هذا النوع عينه: ففيها vartak "انتظروا" kertak "طلبوا" جمعا لـvart "انتظر" وkert "طلب"، كما أن   1 انظر J. Szinnyei: رقم 28، مجلد 5 "1906"، ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 harsak "أشجار الزيزفون" وnevek "الأسماء" جمعا لـhars وnev. ولكنا لا نجد في اللغات الهندية الأوربية حالات من هذا القبيل. وهناك لغات أخرى كلغات الشرق الأقصى يعتبر عدم تميز الفعل من الاسم إحدى خصائص نحوها الجوهرية. ففي الصينية القديمة مثلا يمكن استعمال الكلمة اسما أو فعلا على السواء، وموضوع الكلمة وحده هو الذي ينبئ عن أي الاستعمالين أريد. ونجد مثالا تقليديا من هذه الحالة في الجملة: lao lao yeou yeou "لاَؤُو لاَؤُو يَيئو يَيئو" "عامل الشيوخ على أنهم شيوخ والأطفال على أنهم أطفال" حيث نجد الكلمة التي تستعمل للدلالة على شيخ والكلمة التي تستعمل لللالة على طفل هما نفس الكلمتين اللتين تستعملان للالة على "عامل الشيوخ" و"عامل الأطفال" ولكن الأمثلة التي لها هذه القوة في الطابع نادرة. فاستعمال الكلمة على أنها فعل بصحبه على العموم تغير في النغمة وبالتالي يحصل في الكلمة بتر في الحرف الأول إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا البتر هو الذي أنتج ما نراه اليوم من فرق بين النفس وغير المنفس. فيقال hao " حسن" hao "يحب" و tsang "كنز" وts'ang "يخفي" وtschouan "تعليق" tch'ouan "ينقل". وأخيرا يوجد في الاستعمال الحديث وسائل أخرى لتمييز الاستعمال الفعلي من الاستعمال الاسمي لأول وهلة. وإذا غضضنا النظر عن ترتيب الكلمات وعن أهمية تتابع الجملة على هذا النحو: المسند إليه فالفعل فالمعمول، فإننا نجد من اللواصق ما يرشدنا إلى طبيعة الكلمات؛ فالأسماء تتميز باللاصقة eul أو باللاصقة tseu "انظر ص117"؛ والأفعال تتميز باللاصقة tcho "مأخوذة من tchao "يطبق، يضع""، وذلك في مثل tso tcho "يجلس" وtchao tcho "يضع "ثوبا"" كما يتميز الفعل خيرا من ذلك باللواصق الزمنية Leao أو Kouo للماضي وyao للمستقبل. وإذا حدث أن استعملت الكلمة بذاتها فعلا أو اسما في الصينية، فإن المتكلم يفرق بجلاء بين هذين القسمين من أقسام الكلم. فالنحويون المحليون يميزون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بين الكلمات المليئة "انظر ص98" و"والكلمات الحسية" "houo tseu", "والكلمات الميتة" "ssen tseu" ويقولون بأن الأولى ذات معنى فاعلي والثانية ذات معنى انفعالي. فالأسماء والصفات تعتبر من الكلمات الميتة وعلى العكس من ذلك تعد الأفعال، وهي تستلزم الحدث، من الكلمات الحية. ومن نتيجة هذا المبدأ أن الفعل إذا استعمل مبينا للمجهول يمكن أن يعطي نفس التنغيم الذي للاسم، وبتغيير نغمته يصير كلمة ميتة. فعدم التمييز بين الاسم والفعل الذي يعزى إلى الصينية عادة، ظاهري أكثر منه حقيقيا. إذ لا يوجد إطلاقا تردد في معرفة القيمة الاسمية أو الفعلية في الكلمات التي تستعمل. هناك لغة تقرب من الصينية إلى حد كبير من هذه الوجهة، وهي اللغة الإنجليزية. فمعظم الأسماء في هذه اللغة يمكن استعمالها أفعالا أيضا، فهي تميل إلى التسليم باستعمال كل اسم أيا كان استعمالا فعليا. فيمكن لكلمة مثل fire "نار" أن تكون اسما أو فعلا دون تفريق، بل يمكنها أيضا بوصفها اسما أن تقوم بدور الصفة أو الاسم على السواء، وبوصفها فعلا لا تعني بالتمييز بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول. فهي في الحقيقة فكرة تجريدية تصلح لكل التطبيقات المشخصة التي تراد منها. تشهد بذلك الجمل الآتية التي لا تتغير فيها الصيغة الخارجية للكلمة بتغير قيمتها: put a fire in my room "ضع نارا في غرفتي"؛ I fire my room "أوقد غرفتي"؛ a fire fly "ذبابة نارية"؛ o people, so easy to fire "أيها الشعب السريع إلهابه". وقليل من الكلمات في الإنجليزية لا يمكن إخضاعها لهذه الخطة! فمن كلمة frown "حاجب" يمكن أن يؤخذ to frown "يعبس الحاجب" ومن book "كتاب" يمكن أن يؤخذ to book "يسجل في مذكرة" ومن bomb "قنبلة" يمكن أن يؤخذ to bomb "يقذف بالقنابل"، إلخ. ومع ذلك فيحدر بنا هنا ألا نترك أنفسنا فريسة للانخداع. نعم إن كلمة fire "نار" يصلح من حيث المبدأ أن تكون اسما أو فعلا دون تفريق ولكن ذلك لا تطعن في حقيقة كون فكرة النار التي تحرق بتميز عن فكرة عمل نار للإحراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فإذا قلت "توجد نار" أو "أشعل نارا"، كان في ذهني فكرتان متميزتان تثيران في ذهن سامعي أثرين مختلفين. لأني في الحالة الأولى أعبر عن حقيقة وفي الثانية أصدر أمرا. فليس يوجد إذن في الإنجليزية، كما رأينا أنه لا يوجد في الصينية، أي تردد حول تعيين قيمة كلمة مثل fire عندما يكون هناك محل لإظهار الفرق بين الحالتين. فالسامع يحس على الفور ما إذا كانت الكلمة اسما أو فعلا تبعا لاستعمالها في الجملة وعلى الخصوص تبعا لدوال النسبة التي تصحبها. ذلك أنى حسبما أقول a, "the" fire "أي بأداة التعريف أو أداة التنكير" أو to fire "مع سبق الكلمة بالحرف أنْ" أو my fire "مع إضافتها لضمير المتكلم" أو I fire مع "إسنادها لضمير المتكلم" أعين أي القيمتين أريد بالكلمة قيمة الاسم أو قيمة الفعل، فمجرد الفرق بين دوال النسبة يكفي لإظهار الفرق بين قيمتي الكلمة، وذلك دون أي تردد ممكن. فدوال النسبة "the, a" و"I" تقوم هنا بدور علامات الإعراب والتصريف في لغة كالإغريقية القديمة؛ فعبارة I fire "أشعل" تمييز الفعل من الاسم الذي يظهر دائما في الكلمة الإنجليزية أو الصينية إذا أخذت على انفراد، يتجلى على الفور إذاوضعت هذه الكلمة في جملة، فالمسألة ليست مسألة صيغة بل مسألة استعمال. وبعبارة أخرى يجب أن نواصل المسير حتى نصل إلى تكوين الصورة الكلامية حيث تتألف عناصر الكلم لكي نبرز التمييز بين الفعل والاسم. فإذا كانت هناك لغات لا تحتوي على صيغة متميزة لكل من الاسم والفعل، فإن جميع اللغات تتفق في التمييز بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية1. بالجملة الفعلية يعبر عن الحدث مسندا إلى زمن منظورا إليه باعتبار مدة استغراقه منسوبا إلى فاعل موجها إلى مفعول، إذا لزم الأمر: اسمع الموسيقي، بيير كان يشرب نبيذا، سيجر الحصان العربة، إلخ. فموضوع الجملة الفعلية أن   1 انظر على الأخص مييه: رقم 6 مجلد 14، ص1 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تأمر بحدث أو أن تقرر حدثا أو أن تتخيل حدثا؛ والأمر والإخباري والتبعي، تلك التي يجب أن نضيف إليها المستقبل والشرطي، كلها تمثل بدرجة كافية من الوضوح هذه الصفات الثلاث للجملة الفعلية. ويمكن أن تتكون هذه الجملة من كلمة واحدة: مثل الكلمة الفرنسية prends "خذ" واللاتينية ueniam "سآتي" والعربية قالوا. بل من المستطاع أن تكون هذه الكلمة الواحدة اسما؛ فعندما نقول "نارا! " أو "سكوت! " أو "وقوف! " أو "التفات! " ترانا نأمر بتنفيذ حدث بالضبط كما لو كنا نقول: "خذ" أو "تعالوا" أو "توقفوا". ولا يعبر عن الحدث في اللغة المنطقية غير الفعل. غير أن الأمر لا يدخل في اللغة المنطقية إلا جزئيا. فهو صورة اللغة الفاعلة "انظر الصفحة الأولى من الفصل الرابع". ويمكن التعبير عنه بصيحة. إذا أننا نتطلب السكون بقولنا "هس! " أو "صه! " ونحن نسير الحصان بقولنا "شيه! " فتلك صيغ أمرية لا تدخل في النظام النحوي للفعل. تحليل الجمل الفعلية يقدم لنا نوعا من الترتيب التنازلي لصيغ الفعل: فأولها الأمر الذي يظل من بعض الوجوه خارجا عن الفعل المنظم غلى حد أنه يمكن التعبير عنها بالاسم وبصورة أوسع بالمصدر، ثم الإخباري "حاضرا كان أو ماضيا" الذي يقرر وجود واقعة، وأخيرا صيغ الاحتمال أو الحدس. تختلف الجملة الاسمية كل الاختلاف عن الجملة الفعلية، فهي تعبر بها عن نسبة صفة إلى شيء: البيت جديد، الغداء حاضر، الدخول على اليمين، قمبيز ملك، زيد حكيم، والجملة الاسمية تتضمن طرفين: المسند إليه والمسند، وكلاهما من فصيلة الاسم. وقد أحس المناطقة من أتباع أرسطو بالفرق بين هذين النوعين من الجملة ولكنهم أرجعوهما إلى نوع واحد بأن حللوا الجملة الفعلية على نحو يدخل فيها فعل الكون؛ "فجعله الحصان يجري"= الحصان "يكون" جاريا. وذلك خطأ لم يجاره في طول العمر إلا القليل من الأخطاء، وقد شد من أزره الأفكار الميتافيزيقية التي اتصلت بها. فبعض الفلاسفة، وقد خدعوا باسم فعل "الكون" أخذوا يضعون الكون المطلق الذي يمثله فعل الكينونة في مواجهة العوارض التي تعبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 عنها المسندات. وقد بني منطق بأسره على وجود فعل الكينونة وجودا حتميا بوصفه رباطا ضروريا بين طرفي الجملة أيا كانت، وبوصفه تعبيرا عن كل إثبات وأساسا لكل قضية. ولكل علم اللغة لم يعضد هذا التركيب المدرسي Soclastique، بل نقضه من أساسه. فغالبية اللغات تشهد بأن الجملة الفعلية لا شأن لها بفعل الكون وبأن هذا الفعل نفسه لم يتخذ مكان الرباط في الجملة الاسمية إلا في زمن متأخر. الصورة المعتادة اللجملة الاسمية في الهندية الأوربية لا رباط فيها. وهي ما يسمى بالجملة الاسمية البتحتة. ففيها يوضع المسند إلى جانب المسند إليه لا أكثر ولا أقل، وقد تحدد موضع كل منهما بالنسبة لصاحبه بواسطة قوانين خاصة بكل لغة على حدتها. فالإغريقية تقول باطراد: "لأن الملك أكثر قوة" "الإلياذة، 1 بيت 80"، و"آخرون قريبون مني" "الإلياذة: القسم الأول، بيت 174" دون ذكر فعل الكينونة، ومثلها الفارسية القديمة إذ تقول: mana pita viahtaspa منايتاقشتاسْبَ "أبي قشتاسبا" والسنكريتية تقول: tvam varunas varuna "إنت فارونا" وقد احتفظت الروسية بالجملة الأسمية البحتة فتقول zavtrak' gogov "الغداء حاضر" أو dom' nov' "البيت جديد" وصيغة الصفة هي عين صيغة المسند؛ ولكن عبارة "البيت الجديد" يمكن أن تقال أيضا هكذا dom' novy. وهذه المغايرة يدل عليها في الإرلندية القديمة بموضع الطرفين فيقال infer maith "الرجل الطيب" maith infer "الرجل طيب، وتعطينا الفرنسية فكرة عن ذلك إذا قارنا عبارة les marrons chaude "القسطل الساخن" بعبارة chauds leg marrons "ساخن القسطل"، وهذه المغايرة مطردة في الصينية فعبارة ta kouk "تاكووك" معناها "الدولة العظيمة" ولكن kuok كووك تا معناها "الدولة عظيمة". معظم اللغات يعرف الجملة الاسمية البحتة، فهي في اللغات السامية والفينية الأجرية مطردة الاستعمال. فتقول العربية: "زيد عاقل"، كما تقول المجرية az eg kek الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 "السماء زرقاء"1. وانتشار الجملة الاسمية البحتة في الفينية الأجرية من الكثرة بدرجة جعلت من المستطاع أن يفسر بلغات هذه العائلة بقاء هذا النوع من الجملة في الروسية2. والجملة الاسمية البحتة هي القاعدة في لغات الأسرة البنتية كذلك3، فيقال في اللغة السواحلية مثلا Simab mui "سمبا مووي" "الأسد مؤذ". والذي يشير إلى الخبر هنا هو نبر الشدة الذي يقع على المقطع mu مُو. وفي بعض الأحيان يوضع ضمير بين الطرفين "المسند إليه والمسند" زيادة في بيان العلاقة بينهما مثل: mti u mkulu متى أو مكولو "الشجرة هي كبيرة"، وهذا هو السبب في أن الأهالي إذا تكلموا الفرنسية قالوا l'homme lui fort "الرجل هو قوي" بدلا من أن يقولوا I' homme est fort "الرجل يكون قويا".وهذا الضمير كثيرا ما يحل محله الضمير الثابت غير المحدد "i" الذي ينتهي بتركبه مع بعض العناصر الإشارية المختلفة إلى أن يصير فعلا رابطا في اللغة السواحلية حيث يقال: mti mi mkulu مْتِى مِي مْكُولُو "الشجرة تكون كبيرة". هنا نجدنا أمام طريقة لتكوين الفعل الرابط. وهذا الرابط في اللغات الهندية الأوربية على العموم عبارة عن فعل قديم قائم بذاته وأفرغ من معناه الحقيقي "راجع حوالي منتصف الفصل الخامس". إما إدخال الرابط في الجملة الاسمية في الجملة الإسمية فيمكن تفسيره بسهولة، إذ أن هناك فكرة في الواقع لا يمكن التعبير عنها بمجرد وضع المسند والمسند إليه أحدهما بجانب آخر، وهي فكرة الزمن. عندئذ صار استعمال الفعل، وهو رامز الزمن، أمرا ضروريا. فالمجرية إذا أرادت أن تترجم le ciel etati blen "السماء كانت زرقاء" تضطر إلى أن تقول az eg kek vala فتستعمل الماضي غير التام من فعل الكون الذي يدل على معناه ويؤدي عمل الرابط في الوقت نفسه. ويستعمل هومير الفعل المستقبل   1 Szimonyei رقم 211، ص403. 2 جوتيو، رقم 6، مجلد 15، ص225. 3 ساكلو Sacleux، رقم 6، مجلد 15، ص152 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فإذا ما أدخل الرابط في الجملة الاسمية عندما تدعو الحاجة إلى إدخاله للتعبير عن الصفة أو عن الزمن، أمكن إدخاله فيها أيضا في بعض الأحيان حتى عندما لا يحتاج المعنى إليه. فالجملة الاسمية البحتة في اللاتينية مثلا تعتبر من المستثنيات، إذ أنها لا تخلو من الرابط deus bonus est auarus est home "الله يكون كريما والإنسان يكون شَرِها" وكذلك الحال في الفرنسية: les marrons sont chauds "القسطل "يكون" ساخنا" وفي الإنجليزية life is short "الحياة "تكون" قصيرة" وكذلك في الأرمينية وبعض اللغات السلافية غير الروسية ... إلخ. ومن ثم ظن بعض النحاة أن الرابط عنصر أساسي في الجملة. ولكن تاريخ الكلمات نفسه يبرهن على فساد هذا الزعم. فالرابط في كل اللغات الهندية الأوروبية مأخوذ من أرومات فعلية بعدما ضعف معناها شيئا فشيئا. فالأرومة -es التي زودت الجملة الأسمية بالرابط منذ زمن قديم جدا تدل بمعناها الحقيقي على الوجود، على الحياة، واسم فاعلها sat يدل في السنسكريتية على كائن حقيقي وكلمة satyas المشتقة منه معناها "حق" ويمكننا أن نتتبع هذا العمل الانحلالي الذي أدى بفعل الوجود إلى أن يلعب دور الرابط. هذا إلى أن هناك لغات كثيرة لم تكتف بالأرومة -es للقيام بهذا الدور1. فلدينا عدد لا بأس به من الإبدال التي يستعاض بها عن فعل الوجود في القيام بدور الرابط. ومن أكثر هذا الإبدال شيوعا فعل معناه الحقيقي "ينبت، ينمو" وقد احتفظ بهذا المعنى في الإغريقية   1 انظر ماروزو marouzeau، رقم 100، ص151، وكذلك المراجع المذكورة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفي الإنجليزية القديمة leo معناه "أكون" مثل biu في الأرلندية، ومن هذه الأرومة اشتقت اللاتينية إحدى صيغ الماضي المسمى fuit: preterit "كنت"، كما اشتقت السلافية سلسة من صيغ فعل الكون "byti "أن يكون" bychu "كنت"، إلخ وكذلك استغلت أرومات أخرى غير هذه الأرومة؛ ففي الإغريقية yiyvouai قريب جدا من فعل الكون، مثل uersor "يوجد عادة" في اللاتينية، وكذلك stare "يستقر" في اللاتينية زودت الفرنسية بالماضي غير التام j' etais "كنت"، واشتقت الجرمانية من أصل معناه يقطن "في السنسكريتية vasati "يقطن"" جزءا من صيغ فعل الكون فيها "ich war" "كنت" gewesen "اسم المفعول من كان"". ولعل الأفعال التي يستعاض بها عن فعل الكون في الروسية أكثر تنوعا، فيقال فيها تبعا للمعنى الذي يراد إبرازه sidjet "أن يكون جالسا" lezet أن يكون راقدا"، stojat "أن يكون واقفا" sostojat "أن يكون مركبا" predstavljat'soboiu "يبدو كأن" إلخ1. ومع ذلك فليست الجمل التي تستعمل فيها هذه الأفعال إلا جملا شبه اسميه، لأن قيمة الرابط التي هي أساس استعماله في الواقع تمتزج بالمعاني الأصلية لهذه الأفعال. ولذلك كانت شديدة القرب من تلك الجمل الشائعة الاستعمال في اللغات القديمة والتى نرى فيها الصفة المسندة مصحوبة بفعل ما، مثال ذلك في اللاتينية ibant obscuri "هم يسيرون في الظلام"، وفي السلافية القديمة: pade nici "سقط على الأرض". مثل هذه الجمل يمكن تسميتها بالجمل الاسمية الفعلية، لأنها تجمع بين خصائص هذين النوعين من الجمل اللذين قابلنا بينهما فيما سبق, فهي في الواقع جمل اسمية ولكن، ادخل فيها فعل, ويوجد على العكس من تلك، جمل فعلية اسمية, وهي الجمل التي يستعاض فيها عن الفعل بعبارة اسمية، مثل الأمثلة التي تقدم ذكرها في الفصل السابق "إنه يكون لي رأي" بدلا من "أرى"؛   1 بوبيه سيرنسكي Boyer-Speranski، رقم 53، ص249 وما يليها. مثل هذه الأبدالات شائعة أيضا في البولونيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وفي اللاتينية opus est mihi "إنه تكون لي حاجة" بدلا من egeo "أحتاج"؛ وبعض اللغات لها ميل خاص إلى استعمال الجمل الفعلية الاسمية. فنجد في طرف الميدان الهندي الأوربي مجموعتين من اللغات يشيع فيهما استعمال الجمل الفعلية الاسمية: وهي مجموعة اللغات الهندية من جهة ومجموعة اللغات الكلتية في إرلندة وبريطانيا العظمى من جهة أخرى. نجد في السنسكريتية الكلاسيكية، بل ومن قبلها في اللغة المهابهاراتية mahabharata ميلا إلى الاستعاضة عن صيغ الفعل الشخصية باسم المفعول مصحوبا بصيغة من الرابط إذا اقتضى الحال, ويعتبر ذلك طغيانا من الجملة الاسمية على الجملة الفعلية أكثر مما يعد استعاضة بإحداهما عن الأخرى؛ لأن الفكرة التي يعبر عنها تظل هنا من الأفكار الخاصة بالفعل؛ إما حد أو حالة، ولا تكون صفة. هذه هي الحال عندما يقال KVA YOYAM USHITAS "بتنجالي" "أين قطنتم؟ " باستعمال اسم الفاعل ushitas مرفوعا مجموعا بدلا من usha الذي هو الفعل مسندا إلى جمع المخاطب, وتزيد نسبة الجمل التي من هذا القبيل يوما بعد يوم، وتبلغ درجة كبيرة في السنسكريتية الكلاسيكية التي من أبرز صفات الاستعمال فيها استعمال اسمي الفاعل والمفعول, وقد ساعد الاتساع في استعمال هذه الجملة على الاستعاضة بالمبني للمجهول عن المبني للمعلوم في حالات كثيرة "انظر صفحة 141". فنجد في القطع النثرية من المهابهارتية جملا مثل: maya vrta upadhyavas "اخترت سيدا" والترجمة الحرفية "بي مختار سيد" tvaya paraddham "ارتكبت خطأ" "حرفيا: بك مرتكب خطأ"، avabhyam apupo, dattas "نحن الاثنان أعطينا فطيرة" "حرفيا: بنا الاثنين فطيرة معطاة". أما في الكلتية فالمصدر هو الذي توسع فيه على حساب الصيغ الشخصية. إذ تفضل الصيغة الاسمية على الصيغة الفعلية في تقديم الكلمات التي تعبر عن الحدث في الجملة، كما نرى في الجملة الآتية المأخوذة من غالية الماينوجيون: gobeith yw gennyf, y neges yd eloch ymdanei, ychaffel "أؤمل أنك ستربح الصفقة التي ستذهب للمفاوضة فيها" "حرفيا: أمل لي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الصفقة التي ستذهب بصددها، ربحها". كذلك نرى في الإرلندية الحديثة في قصة رمويد ياد Diarmuid وجرين Grainne الشهيرة: cremd adhbhar na moicheirghe sin ort "لماذا استيقظت في هذه الساعة المبكرة؟ " "حرفيا: ما سبب هذا التبكير منك؟ " وكذلك: na biodh fios ar d-turais ag aon duine go teacht tar ats duinn aris "لا يعرفن أحد أننا في رحلة حتى نرجع" "حرفيا: لا تكونن معرفة عن رحلتنا لأحد حتى رجوع لنا من جديد". والأسماء الفعلية في اللغة الكلتية تقترب من الأفعال إلى حد يجعلها تقبل اللواصق الفعلية التي تستعمل في التصريف للدلالة على الزمن، فمثلا لما كانت اللاصقة الفعلية ry تشير إلى الماضي، أمكن أن يقال في الغالية الوسطى: gwedy clybot yn rufein ry oresgyu o garawn ynys brydein "عندما علم في روما أن كارون قد فتح الجزيرة البريطانية" "حرفيا: بعد معرفة في روما فتح كارون الجزيرة البريطانية". يوجد من بين استعمالات الاسم والفعل استعمالات متقابلة تعبر عن صورتين مختلفتين من صور التفكير، ولكن منها أيضا استعمالات تسير جنبا لجنب وتنتهي بأن يختلط بعضها ببعض. هذه المنزلة بين المنزلتين تحتلها الجمل الاسمية الفعلية والفعلية الاسمية التي تكلمنا عنها. والعنصر الأساسي في هذه الجملة كلمة تشترك بين الفعلية والاسمية. فأحيانا تكون فعلا من فصيلة ما يسمى بالمبني للمجهول في الصينية "أنظر الصفحة الخامسة من هذا الفصل"، وأحيانا تكون اسما ذا صفة فعلية، اسما أو صفة تدل على الحدث، يعنى مصدرا أو اسم فاعل أو مفعول. ويربنا التقليد الجاري في السنسكريتية والكلتية، أنه يستطاع التعبير في بعض الحالات عن فكرة فعلية بواسطة الاسم، وذلك بفضل استعمال الأسماء الفعلية المشار إليها. هذا الاحتمال يعرفه كل من تصدى لترجمة نص إغريقي أو لاتيني. ونرى مدارسنا نعلم تلامذة البلاغة الفن الذي به يستطاع في بعض الأحيان الاستعاضة باسم عن فعل أو العكس، وذلك إما ابتغاء احترام ترتيب الكلمات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 النص القديم وإما لباعث من الجمال أو التناسق. لذلك يجدر بنا أن نختبر عن كتب قيم الأسماء الفعلية. المصادر أسماء أحداث بمعنى الكلمة، ولكن أسماء الأحداث ليست كلها مصادر، إذ يوجد في معظم اللغات الهندية والأوروبية أسماء أحداث تبنى بواسطة لواحق تدل على أنها أسماء أحداث وهي على العموم تتصل مباشرة بأصل فعلي وتعتبر إلى حد ما جزءا من النظام الفعلي. وقد جعلتها صلتها الوثيقة بالفعل تحتفظ منه بأكثر من أثر. فنحن نعرف بماذا يتميز الاسم عن الفعل نحويا، وهو أن هذا يقبل معمولا منصوبا وذلك يقبل معمولا مجرورا. غير أن بعض اللغات تنصب معمول اسم الحدث. وقد احتفظت اللاتينية ببعض بقايا هذا الاستعمال إذ أننا نجد عند بلوت Plaute جملا مثل: quid tibi non atctio st? "ما مساسنا بك؟ " أو: quid tibi hanc rem curatio? "ما عناؤك من هذا؟ ". كذلك ينتسب المشتق إلى فصيلة الأسماء بأعم معانيها في دلالته على الشخص المقصود بالحدث، أي الشخص الذي يوجد الحدث أو يقع الحدث منه أو عليه، حسبما يكون مبنيا للمعلوم أمبنيا للمجهول. وتسمى هذه الأسماء بأسماء الفاعلين، ولكن اسم الفاعل على العموم كالمصدر لا يشير بصيغته إلى الفرق بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول "أنظر الصفحة السابقة". فاسم الفاعل يعمل أحيانا عمل الفعل في نصب المعمول. ففي اللاتينية: imitatus est eum "المحاكي إياه" مثله مثل: imitor eum "يقلده". وهذا العمل يمتد إلى مشتقات أخرى غير اسم الفاعل، فتقرأ لبلوت: Orator iusta "الطالب مطالب عادلة" ولا بد أن ذلك كان تركيبا شعبيا شائعا لأنه قد ظهر من جديد في عصور متأخرة: paccatorum ueniam promittor "الذي بعد بالغفران للمذنبين". ولكننا نجده في لغات أخرى أيضا، ففي السنسكريتية: data vasum "المعطى الطيبات" أو في الفارسية القديمة: ahuramazda thuvam daushta biya "فليحنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أما الاسم الذي يعبر به عن نتيجة الحدث أو موضوعه، فإنه يخرج من اسم الحدث نفسه في غالب الأحيان. فالقطع coupure هو ما فعل القطع couper كما أن الرعي pature هو فعل المرعى paitre والحجاز bordure ما حدث من فعل الحجر ولكن كلمة coupure تستعمل أيضا للجرح الذي يحدثه الطفل في إصبعه بمبراته، أو بمعنى قطعة قصت من صحيفة، ويطلق لفظ pature على العلف أو الغذاء bordure على حافة الجزء الخارجي للثوب أو على رفعة أرض فيها خضرة. فمعظم أسماء الحدث في الفرنسية يمكن استعمالها أسماء اشياء. وهذه حقيقة نجد لها أمثلة في كل اللغات الهندية الأوربية. تشتمل الفصائل التي استعرضناها على عدد كبير من الأسماء المشتركة. والواقع أن كثيرا من أسماء الاشياء المتداولة، بل ومن أسماء الحيوانات أصلها أسماء أحداث أو أسماء فاعل أو أسماء آلة ثم خصصت. فاسم الفاعل أو الصفة المشتقة من الفعل التي ليست إلا صورة أعم من اسم الفاعل قد قدمت عددا كبيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 نجد في الجملة الاسمية المقابل الصحيح لما يكون عليه اسم الحدث في الجملة الفعلية: أعنى اسم الصفة المجرد. ولنأخذ الجملتين: أعبد الله والله رحيم، فالرحمة صفة أن يكون الموصوف" رحيما، والعبادة هي فعل أن نعبد. وإذن فالاسم المجرد يخرج بطبيعة الحال من الجملة الاسمية. وهناك حالات يقترب فيها الاسم المجرد من اسم الحدث أشد الاقتراب. وذلك مثلا عندما يتصل اسم الحدث بفعل يكون معناه أو غل في الانفعالية منه في الفاعلية. فالجمل الفعلية التي تشتمل على فعل من هذا القبيل تقترب من الجمل الفعلية الاسمية التي تكلمنا عنها في صفحة 168 أو تستطيع أن تستبدل بها. ففي الدنمركية مثلا نجد أن اسم الحدث الذي يلحق الفعل Elske "يحب" هو kjoerlighed "حنان" "صفة أن يكون الإنسان kjoerlig "حنونا". وفي الفرنسية نرى كلمة endurance "التحمل" اسم حدث واسما مجردا في نفس الوقت: فمن الجملة الفعلية: "بيير يتحمل الجوع" ويمكننا أن نأخذ: تحمل الجوع "=حدث التحمل"، في حين يمكننا أن نأخذ من الجملة الاسمية بيير متحمل: تحمل بيير. فالتحمل إذن صفة أن يكون الإنسان متحملا، كما أن الرجمة clemence أو الصبر patience صفتا أن يكون الإنسان رحيما أو صبورا. يخرج الإنسان من فصيلة الأسماء المجردة "أسماء المعنى" إلى فصيلة الأسماء المشخصة "أسماء الذات". لأن الاسم المجرد كثيرا ما يستعمل بقيمة مشخصة. ذلك أن ما يعبر عنه اسم المعنى بقوة يظهر للعقل يسيرا عند تحققه في الواقع. لذلك كانت اللواحق التي تتميز بها الأسماء المجردة مثل Tut -أو tat- في اللاتينية وte في الفرنسية, وung في الألمانية توجد أيضا في بعض الأسماء المشخصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فليس الانتقال من المجرد إلى المشخص في مثل هذه الحال غالبا إلا الاستعاضة بالصورة عن الفكرة وتتيسر تلك الاستعاضة عمليا باستعمال الجمع أحيانا وباستعمال الكلمة صفة أحيانا أخرى. فجمع virtus الفضيلة" مثلا يستعمل في الدلالة على الأعمال الفاضلة "بل تطلق الكلمة باستمرار في لغة الكنيسة على "المعجزات"، وجمع كلمة laus مجد" يستعمل للدلالة على "المدائح، الأفعال أو الأقوال المرضية، المجيدة "laudes. وكلمة مثل "السعة" largesse أو التفضل" cmoplaisance تثيران في الذهن أفكارا مجردة. ولكنها جمعهما largesses "سعات" وcomplaisances "تفضلات" يدل على معان ذاتية، على وقائع يتحقق بها التجريد في الواقع، واستعمال الجمع هو الذي يغير قيمة الكلمة هذا التغيير. أما استعمال الكلمة استعمال الصفة فليس أقل من ذلك تأثيرا، فالعذوبة "douceur" عبارة عن صفة ما هو عذب، ولكنها الشيء العذب أيضا عندما نقول: Ce remede est une douceur "هذا الدواء عذوبة". وكذلك الكلمات الألمانية Bescherung "حدث الإهداء، هدية" Schande "عار" تطلق على أشياء في الجمل التي من هذا القبيل: das ist eine schione Bescherung "هذه هدية جميلة" وdies verfahren ist eine schande fur eine familie "هذا المسلك عار من أسرة " أي أنه عمل يجلب العار" ... إلخ. والنتيجة الأخيرة لتطور كلمة مجردة نحو الذاتية هي أن يعمل منها صفة. ففي جمل من قبيل: هذا الرجل طبية خالصة، وهذه المرأة هي الفضيلة بعينها، نرى كلمة bonte "طيبة" وكلمة vertu فضيلة" تلعبان دور الصفة. ومن ثم نرى أن من الصفات أحيانا ما كان أصلها أسماء فيما سبق. فكلمة uber "خصب" في اللاتينية ليست إلا الاسم uber "الثدي" قد حول إلى صفة. هذا الاستعمال خرج من تراكيب مثل ager uber "حقل هو ثدي" أي أنه ينتج بغزارة وبغذي. وهنا ينحصر التجديد في أن الاسم يصرف التصريف المتعدد للصفة. فبدلا من أن يقال: agri ubera حيث الاسم الثاني وضع بدلا من الأول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قيل: agri uberes. وذلك لأن الاتحاد الخادع في مثل: arua ubera قد مهد السبيل إلى هذا التجديد. بل قد تقابل أسماء مستعملة استعمال صفة التفضيل من الدرجة الأولى Comparatif أو من الدرجة الثانية superlatif، مع أن درجات التفضيل من اختصاص الصفات: ففي الألمانية الوسطى كلمة Scheder "أخسر" تفضيل من Schade "خسارة". والواقع أننا عندما نقول بالألمانية es ist Schade أو بالإنجليزية: it is a pity أو بالفرنسية: C'est dommage "هي خسارة" نحس ان الأسم وقد قام بدور الصفة يجب أن يكون في قدرته التعبير عن ذرجات التفضيل. كون الاسم يستطيع أن يصير صفة بتلك السهولة يرينا أنه لا يوجد فرق جوهري بين هاتين الكلمتين. مما لا ريب فيه أنه يوجد بين "بيير طيب" و"الطيبة فضيلة" ذلك الفرق الذي ينحصر في أن "طيب" تعبر عن الصفة بعد أن سارت فردية وشخصت في كائن ما هو بيير، وأن الطيبة" عبارة عن الصفة نفسها تصورت تصورا تجريديا. ومع ذلك فإني عندما أقول "طيبة بيير كثيرة" فإني بإضافتي لكلمة طيبة قد حددت الفرد الذي يتصف بها ويصير معنى الجملة نفس المعنى في قولنا "بيير طيب بكثرة". فالفرق بينهما ينحصر في بنية الصورة الكلامي لا أكثر من ذلك. لعلنا نفهم تعارض الاسم والصفة فهما أدق إذا قارنا جملتين تستعمل فيهما كلمة واحدة بعينها وفي ظيفتين مختلفتين1. فلنأخذ مثلا "الجرحى الألمان" و"الألمان الجرحى" أو "علماء صم" و"صم علماء". فليس من شك في أن الكلمات الأولى من هذه العبارات هي أسماء والكلمات التالية صفات. ذلك أنني إذا اعتبرت مجموع الجرحى فإنني أمير من بينهم طوائف من جنسيات مختلفة فأقوال الجرحى الألمان، الجرحى الفرنسيين، الجرحى الروس ... إلخ. وإذا نظرت إلى مجموع الجنود الألمان، فإني أمير من بينهم طوائف من الموتى وطوائف من الجرحى وطوائف من المختفين وطوائف من السالمين الخ، فأقوال الألمان الجرحى،   1 جسبرسن: رقم 229، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الألمان الموتى، الألمان السالمون إلخ، وكثيرا ما يقال في التعبير عن هذا الفرق بأن الصفة أشمل مضمونا من الاسم. وهذا حق ولكن على شرط أن تضاف إليه العبارة التالية: في نظر المتكلم. إذ لا يعنينا في الحقيقة أن نعرف ما إذا كان عدد العلماء أكثر من عدد الصم أو أن عدد الصم أكثر من عدد العلماء، إذا كان عدد الجرحى أكثر من عدد الألمان أو عدد الألمان أكثر من عدد الجرحى، بل ما إذا كان المتكلم ينظر إلى فصيلة العلماء أم إلى فصيلة الصم، إلى مجموع الجرحى "في مستشفى مثلا" أم إلى مجموع الألمان "في كتيبة مثلا". هذا الفرق في الشمول قد يوجد أيضا بين اسمين. فيقال من باب المعارضة: "الطفل الملك" أو "الملك الطفل"، فالكلمة الثانية في كل عبارة تقوم بدورو الصفة بالنسبة للأولى. إذ أن المتكلم ينظر في الحالة الأولى إلى فصيلة الأطفال أولا وقبل كل شيء وفي الثانية إلى فصيلة الملوك. فهما وجهتنا نظر مختلفتان. وتستطيع الصفة بدورها أن تصيرا اسما. وهذا يحدث كلما اضيف الوصيف العام الذي يعبر عنه بالصفة إلى فرد خاص، أي كلمات صارت الصفة- وهي شائعة بطبيعتها- معرفة. وهذا الفرق على درجة من الأهمية جعلت معظم اللغات تدل عليه صرفيا. ففي السنسكريتية وفي الإغريقية القديمة يكتفي بالنبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بالصفة لا يكون المعنى فقط أن هذا الشخص موصوف بالوقاحة ولكن سر هذه الصفة تتركز فيه، وهي التي تصنفه وتعينه. وذلك هو السبب في أن أسماء الأعلام التي أصلها صفات تستعمل بالتعريف, والمناديات من هذا القبيل أيضا، إذ ليس الذي يعنينا عندما ننادي أحدا أن نشير إلى أنه يملك هذه الصفة أو تلك بل أن نعينه فرديا بواسطة الصفة التي يمتلكها. وللصفة في الجرمانية كما في السلافية نوعان من التصريف وفقا لما إذا كانت منكرة أو معرفة، والصورة المعرفة هي التي تكون عليها الصفة، والقوطية مثلا في حالة المنادى مثل: atta whiha "أيها الأب المقدس"، brothrjus meinai liubans "يا إخواني الأعزاء". أما الفرنسية فتدل على التعريف بواسطة الأداة كما رأينا في الأمثلة السابقة وكما نرى في تعريف un monsieur impertinent "سيد وقح" إذ يقال monsieur l' impertinent "سيد الوقح" ولذلك يقال فيها أيضا: he le gros "هيه" السمين! "يعني أيها الضخم" أو le poilu أيها المشعر! يقال عادة للجندي"! l'enfle "المتورم"! "أيها المتورم". ومن ثم جاء استعمال الأداة في أسماء الأعلام من مثل: lebeau "الجميل" legrand "الكبير" وleroux "الأصهب". ولما كانت الأداة في الفرنسية تعبر عن التعريف، فإن في استطاعتها أن تعطي القيمة الاسمية لأية عبارة لغوية، فيقال: un porquoi "لماذا واحدة" des si "بضعة إذا" وdes msis "بضعة لكن", بل قد يمكن لجملة أن تصير اسما, إذ إنه لو أعطيت صفة العمومية إلى الجملة الفعلية وتصورت تصورا مجردا، لأصبحت رمزا اسميا, فالطفل الذي يحضر قيام قطار يسمع القاطرة تصفر ويرى العربات تتحرك، فيلخص ما انطبع في ذهنه بقوله: "وُو وُو ينطلق" جامعا بين هذا الانطباع المزدوج وبين التحرك. وتلك جملة فعلية, ولكن الطفل يعمم ويطلق على القطار اسم "وُو-وُو ينطلق"، فالقطار عنده شيء ينطلق محدثا وُو وُو, وقد يقول بعد ذلك الوُو-وُو ينطلق غادر مكانه، أو الوُو-وُو ينطلق كان مزدحما أو طويلا أو محملا بالبضائع، إلخ، فيمكن عمل اسم من الجملة الفعلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 هكذا يبرز أمامنا تصنيف للأسماء تدخل فيه جميع الأسماء والصفات "بما في ذلك بطبيعة الحال الصيغ التي تستعمل أحوالا adverbes de manidre",فعندنا   1 في مثل هذه التراكيب في اللغة الهنغارية انظر Szimonnei: رقم 211، ص244. 2 استوف: رقم 187؛ ف. مونييه: les composes suntactiques، باريس عام 1872. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 من جهة أسماء الأحداث وأسماء الفاعلين "والمفعولين" التي تحددها الجملة الفعلية والتي تشتق منها أسماء الآلة وأسماء الأشياء. ومن جهة أخرى عندنا في وضع مواز لهذه الأسماء المتقدمة أسماء الصفة مجردة كانت أو مشخصة "أسماء وصفات" كما تحددها الجملة الاسمية، وهي أيضا تمدنا بعدد كبير من أسماء الأشياء. كذلك قد أشرنا إلى وسيلة لتصنيف الأفعال أيضا وفقا لصفة الفعل المدلول عليها بالصيغة "إشارية أو أمرية أو تبعية "استقبالية أو شرطية"". والأسماء والصفات تمثل عناصر اللغة الحية وذلك في مقابلة الأدوات النحوية "من حروف جر وحروف وصل وأدوات وضمائر". فترى أنه لا يستحيل تصنيف الكلمات تصنيفا عاما يقوم على خطة يبررها المنطق ولا يناقضها نحو اللغات الهامة. فأنواع الكلمة المختلفة التي تكلمنا عنها تتميز غالبا في كل لغة بدوال نسبة خاصة. ولكن هذا التصنيف المنطقي ليس التصنيف الوحيد الذي تسمح به كلمات لغة من اللغات. فيمكننا أيضا أن نتصور تصنيفا سيكولوجيا لا يقوم فقط على طبيعة الدلالات المشتملة عليها الكلمات بل أيضا على مقدار الأهمية التي يعلقها العقل على هذه الدلالات1. والجانب السيكولوجي يعادل في غالب الأحيان الجانب المنطقي، وبانطباقهما على هذا النحو يوضح كل منهما الآخر. ولكن الأول أكثر تنوعا من الثاني في بعض الأحيان ويشتمل على فصائل لا يعني بها المنطق. هذا إلى أنه يمتاز بقبوله للإثبات التجريبي. إذ الواقع أن علماء النفس بدراستهم لظواهر الذاكرة يستطيعون أن يقيسوا كيفية "ارتباط" الكلمات بالمخ. ويمكن أن يستخلص من نتائج هذه الدراسة تصنيف للكلمات على حسب السرعة التي بها تمحى الألفاظ من الذاكرة. توجد وسيلة يسيرة لمعرفة الأهمية النسبية لعناصر جملة من الجمل. وذلك أن تقرأ هذه الجملة على عدة أشخاص مختلفين وأن تطلب إليهم أي الكلمات قرعت أذهانهم أكثر من غيرها وقبل غيرها, فنجد الأجوبة على العموم واحدة لا تتغير،   1 انظر فان جنيكن: رقم 77، ص62 وما يليها، مع ما يذكره اقتباسا عن يمينه BYMET. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وذلك أن الكلمات الحقيقية تقرع الذهن أكثر من دوال النسب، والأسماء أكثر من الأفعال، والأسماء المشخصة أكثر من الأسماء المجردة, فالكلمات التي تقرع الذهن أكثر من غيرها التي توقظ على الفور صورة بصرية ولا سيما أسماء الأعلام التي تطلق على أشخاص أو أماكن "على شرط أن يكون السامع عارفا لها". قل لإنسان مثلا: "أنا ذاهب إلى فلان" أو "لم أستطع أن أذهب إلى فلان" أو "ربما ذهبت إلى فلان"، فأول صورة تمثل أمام الذهن وبشكل طبيعي في هذه الأحوال الثلاث، هي صورة تلك المدنية الصغيرة في عشها السندسي، تتدرج سقوفها الشهباء على سفوح التل. ويرى عقود الجسر الحجري تحلق على السين، وعلى ضفتيه يرى ستارا من أشجار الحور العالمية أو يلمح المنارة الشاهقة التي تسيطر على المدينة أو ذلك المنزل الذي يألفه في أحد أحيائها العتيقة. والرؤيا هنا فورية تلقائية. وبعد ذلك كله تمثل في الذهن فكرة الرحلة والتفكير فيما إذا كانت تتم أو لا تتم. فالنفي ككل ما يدل على النسبة مجردة من كل قيمة شعرية. هذه الحقيقة لها نتائجها عند استعمال اللغة استعمالا جماليا, ومن الكتاب من لم ينتبعوا لها فوقعوا في أخطاء حقيقية فيما يختص بموسيقي الكلام, إذ لا يكفي لجعل القاريء يحس بأثر عكسي لانطباع ما، أن نلصق النفي بالكلمات التي تعبر عن هذا الانطباع. لأننا بذلك لا نقضي على الانطباع الذي نريد تجنبه، بل تثير الصورة التي نظن أننا قد أبعدناها. أراد أحد شعرائنا المعاصرين أن يصف حديقة تثقلها وطأة الشمس في ظهيرة يوم قائظ من أيام الصيف فقال: D'ENTRE LES rameaux que meut nul essor D'ailes et que pas une brise ne balance, dardent de grands rayons comme des glaives d'or "من بين الغصون التي لا تحرك خفقة واحدة من جناح". "ولا تميل بها نفحة واحدة من رياح". "تنبعث أشعة كبيرة كأنها سهام من ذهب". فهذه الأبيات جديرة بأن تعطينا صورة صادقة لخفقان أجنحة الطائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أو لسريان النسيم، وليس في مقدور النفي الذي يستعمله الشاعر أن يقصي هذه الصورة من ذهن القارئ. وكان دي هيرديا de Heredia أكثر توفيقا حين قال في بيت واحد: Tout dort sous les grands bois accables de soleil. "كل شيء نائم في هذه الغابات الشاسعة التي ناءت تحت الشمس". والدالة النحوية شيء آخر غير تلك التي يصح أن نسميها دالة التعبير. يمكننا أن نتصور دون عناء إقامة نوع من الترتيب التدريجي للكلمات وفقا لقيمتها الشعرية، يكون طرفه الأول اسم العلم الذي يستحضر في الذهن شخصا أو مكانا وطرفه الثاني دال النسبة الذي هو أداة نحوية بسيطة كحرف الجر أو أداة التعريف أو النفي, وبينهما يوجد كل هذا البعد الذي يفصل بين المشخص والتجريدي، وهذه المسافة تتضمن جميع المفردات. ونحن نعلم أن اختفاء الكلمات من الذاكرة يحدث في أثناء الانتقال من المشخص إلى المجرد وكان ت. ريبو Th. Ribot قد رتب اختفاء الكلمات من الذاكرة على هذا النحو: أولا أسماء الأعلام، ثم الأسماء المشتركة، ثم الصفات، ثم الأفعال, ولعل هذا الترتيب يحتاج إلى تعديل، لأن من خطئه أنه يقوم على التصنيف النحوي المعتاد. فبعض الأسماء المشتركة، بل وبعض الصفات تبلغ درجة من التشخيص تساوي درجة أسماء الأعلام, والقيمة التجريدية أو التشخيصية للأسماء يمكن أن تختلف باختلاف الأفراد، وتختلف كذلك باختلاف اللغات, فالفعل في اللغات القديمة بل وفي الفرنسية بصورتها الحاضرة يمثل دائما محملا بدوال النسبة التي تسلكه، إن قليلا وإن كثيرا، في فصيلة الكلمات المجردة، ومع ذلك فمن الأفعال ما يرسم صورة على نحو ما تفعله الأسماء تماما، وإن كان منها ما يخلو من كل قيمة مرئية. مما لا جدال فيه أن أسماء الأعلام بوجه عام هي أول ما ننساه، ونفقد الأسماء المشخصة "التي ليست في الغالب إلا أسماء أعلام" بأسرع مما تفقد الأسماء التجريدية أو الصفات. والمصدر في الأفعال يبقى حيا بعد موت الفعل الإخباري أما أكثر العناصر ثبوتا في الذهن فهي الأدوات النحوية. وبالاختصار نرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التجريدي أكثر بقاء من المشخص. ولعله يمكن تفسير ذلك بأن التجريدي ينفذ إلى المخ بعد مجهود عقلي ويتطلب من الذهن تركزا، أما المشخص فليس إلا انعكاس الأشياء في مرآة الشعور, وهكذا نرانا ننسى الكلمات المشخصة بأسرع من غيرها، مع أن الكلمة المشخصة في جملة من الجمل توقظ صورا أسرع مبادرة إلى ذهننا مما تفعل الكلمات المجردة. ولعل دقة تحدد الصورة يحمل الإنسان على ألا يتعلق بالإسم الذي يعبر عنها إلا قليلا. توزيع أقسام الكلم الذي قد يقام على هذه القاعدة يختلف اختلافا كليا عن التوزيع المعتاد. إذ فيه تجمع الأفعال والصفات والأسماء بل وحروف الجر والظروف معا وفقا لنهج جديد. فيجب أن نعتر كلمة plein "ملء" حرف جر في مثل: plein la rue "ملء الشارع" وplein les cheveux "ملء الشعر"، ولكن حرف الجر هذا أقل تجريدية من a ""إلى أوب"" في مثل: a lr rue "aller" ""الذهاب" إلى الشارع" أو "prendre" aux cheveux"""الإمساك" بالشعر". ويظهر أننا حتى الآن لم نتجه جديا إلى فكرة التصنيف على هذا النحو؛ فنكتفي هنا بالإشارة إلى إمكانها ووجاهتها. لأن في الوقوف عندها أكثر مما فعلنا اعتداء على ميدان المفردات الذي خصص له جزء على حدته من هذا الكتاب، وكذلك على ميدان اللغة الانفعالية الذي أفردنا له الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الفصل الرابع: اللغة الانفعالية لم ندخل في اعتبارنا حتى الآن إلا الصورة التي تصاغ فيها الأفكار صياغة منطقية، أعنى أننا لم ندرس اللغة إلا بوصفها اداة عقلية. ولكن الإنسان لا يتكلم ليصوغ أفكارا فحسب، بل يتكلم أيضا ليؤثر في أمثاله وليعبر عن حساسيته. أي أننا إذا اتخذنا قاعدة ما كان يدرس لنا في المدرسة من التفريق المثلث النواحي بين الذكاء والإرادة والحساسية، أمكننا أيضا أن نفرق بين اللغة المنطقية واللغة الفاعلة واللغة الانفعالية. فاللغة الفاعلة لم تدرس أو لم تكد تدرس حتى الآن. ومع ذلك فلها أهميتها التي تظهر لنا بجلاء حينما نحاول أن نتصور اللغة الإنسانية في مهدها "انظر ما تقدم في ص39". هذا إلى أنها في مجرى التاريخ تسير على قوانين خاصة بها؛ فميدانها من الوجهة النحوية هو ميدان الأمر في الفعل وميدان المنادى في الاسم، وكل منهما له في فصيلته صيغ واستعمالات خاصة. وإذا كنا فيما سبق قد جمعنا في صعيد واحد فعلا مثل: tais-toi "اسكت"! واسما مثل! Silence "سكون! " واسم فعل مثل: chut "صه! " فإن هذا الخلط لم يتأت لنا إلا لأن الأمر فيها جميعا يتعلق باللغة الفاعلة التي عندها تزول الحدود بين الفعل والاسم. واللغة الفاعلة مع كونها تستمد غذائها في أحيان كثيرة من اللغة المنطقية التي تستعير منها بعض العبارات النحوية الجامدة في صورتها، تستحق رغم ذلك أن تميز عنها، لأنها تقوم بدور قد قصر عليها وحدها وتملك آلات خاصة بها. ولكن لم يشرع في دراستها حتى الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أما اللغة الانفعالية فإنها ستشغلنا أكثر من هذا فإنها أصبحت، وخاصة منذ بداية هذا القرن، موضوع بحوث عميقة حددت معالم ميدانها وأوضحت طرائقها1. ومنذ زمن غير قصير كان ج. فن درجبلنتس G. VON DER GABELENTZ يقول: "الإنسان لا يستخدم اللغة فحسب للتعبير عن شيء، بل للتعبير عن نفسه أيضا". ومن ثم لا ينبغي أن ندخل في اعتبارنا فقط الصورة التي تصاغ عليها الأفكار، بل أيضا العلاقات التي توجد بين هذه الأفكار وبين حساسية المتكلم. وبعبارة أخرى يجب أن نميز في كل لغة بين ما يمدنا به تحليل التصورات وبين ما يضيف إليه المتكلم من عنده: بين العنصر المنطقي والعنصر الانفعالي2. ولا ينفك كلا العنصرين عن الاختلاط في كل لغة. وإذا استثنينا اللغات الاصطلاحية، واللغة العلمية منها بوجه خاص -تلك التي تعد خارج الحياة بطبعها- أمكننا أن نقول بأن التعبير عن أية فكرة لا يخلو مطلقا من لون عاطفي. والسلم الانفعالي نفسه لا يحوي نغمة واحدة تخلو من العاطفة، إذ ليس هناك إلا عواطف يختلف بعضها عن بعض. فمن النادر جدا -عندما تتسابق في ذهننا، ونحن في صدد التعبير عن فكرة ما، عدة عبارات مختلفة- أن تكون إحدى هذه العبارات عقلية محضة وأن تعبر عن استدلال منطقي بحت أو أن تصور حقيقة أو حادثا ما في بساطته العارية من كل لباس. أرى حادثا يقع أمامي فأصبح راثيا لحال صاحبه: "آه! المسكين! " وأصادف صديقا لم أكن أتوقع لقاءه فأقول له: "أنت! هنا! ".   1 راجع خاصة مؤلفات الأستاذين بلي BELLY وسيشيه Sechehoy التي أوحت إلينا بهذا الفصل إلى حد كبير. شارل بلي: "الدراسة المنهجية لوسائل التعبير" في مجلة: "اللغات الحديثة" "Neaere sprachen" مجلد 19؛ "علم الأسلوب وعلم اللغة العام" رقم 25، مجلد 128 "1912"، ص87-126"، ورقم 45 ورقم 46، وسيشيه رقم 122. وانظر كذلك فسلر vossler: رقم 218. ونجد تطبيقا عمليا لقواعد الأسلوب في مؤلفات الأستاذ لنسون Lanson: " توجيهات في فن الكتابة وفن النثر". 2 سيشيه: رقم 98، ص184 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فهذه الجمل ذات قيمة انفعالية واضحة كل الوضوح. فإذا صيغت في لغة المنطق الجدلية صارت: "أرثى لهذا المسكين" أو "يدهشني أن أراك هناك" تخيل أني استعملت في الواقع هاتين الصورتين من صور الجملة، أفتظن أنهما أيضا يخلوان من كل قيمة انفعالية، قيمة تختلف بلا ريب عما في جملتي التعجب اللتين قيلتا في تلهف وإن كانت لا تقل عنها قرعا للذهن؟ بل قد يحس الإنسان فيهما إما رغبة في استخراج المغزى الأدبي من الحادثة وإما تفريعا للدهشة الناجمة من مقابلة صديق وإما كبتا لحركة من الحساسية شديدة العنف تحاول أن تنطلق من عقالها. ولكن محاولة التخلص من إظهار العاطفة في هذه الحال ليست إلا إظهارا للعاطفة. لا تكاد توجد جملة، مهما كان حظها من الابتذال، لا تخالطها عناصر انفعالية. فإذا قلت: "بيير يضرب بول" بدا على أني أعبر بكل بساطة عن علاقة بين شخصين يجمع بينهما حدث الضرب, وهذا على الأقل كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم, ولكن الواقع أن مثل هذه الجملة لا يمكن مطلقا أن تكون عبارة منطقية عن علاقة ما، إذ إني أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية. فضرب بيير لبول لا يمكن أن يكون عديم الأثر بالنسبة إلى، إذ لو لم يكن له مساس بنفسي لما قلته. إذن فالجملة التي أنطق بها ذات قيمة تختلف عن القيمة التي تكون لها لو كنت قد قرأتها في كتاب من كتب التاريخ يدور فيه الكلام عن ملك ما اسمه بيير وملك آخر اسمه بول لا يعنيني من أمرهما شيء. ذلك أن القصص التاريخي موضوعي دائما. وهذا ما يجعله التلميذ الصغير، الذي يحفظ دروسه في التاريخ عن ظهر قلب، يقبل دون تقزز على تعداد الفظائع التي ارتكبها بنو البشر في تناحرهم بعضهم مع بعض، فهي لا تحركه لأنه يراها تقع في ماض سحيق تباعده عنه سنون طوال، وإذن فهو يتسلى بها. وعلى العكس من ذلك لا نستطيع أن نقرأ دون قشعريرة تسري في أجسامنا خبرا لجريمة عادية وقعت أمام منزلنا. فإني في المثال المتقدم أراني لدى نطقي بالجملة أحس في نفسي بعواطف مختلفة من الحنق أو العقاب أو التهديد أو الغضب أو الرضا أو التشجيع أو القبول أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الدهشة، وذلك تبعا لما إذا كان بيير وبول ابني أو طفلين غربيين عني وتبعا لسنهما وقوتهما وتبعا لميولي واتجاهاتي وتبعا لظروف أخرى كثيرة يمكن تصورها بسهولة. هذا العواطف يمكن بطبيعة الحال التعبير عنها بواسطة التنغيم أو تغير الصوت أو سرعة الحديث أو الشدة التي يركزها المتكلم على هذه الكلمة أو تلك أو بالإشارة التي تصحب الكلام1. فالجملة الواحدة تحتمل عند النطق مئات ومئات من وجوه الاختلاف التي تقابل أشد ألوان العاطفة خفاء. والفنان الدرامي الذي يقوم بدوره في المسرح عليه أن يجد لكل جملة التعبير اللائق بها والنغمة الحقة التي تناسبها. وذلك أوضح ما يلاحظ على مواهبه. فالجملة التي يقرؤها في صحيفة تعد ميتة، خالية من التعبير. ولكنه يتعشها بنطقه وينفث فيها الحياة. وإذن فمعرفة كلمات الجملة وتحليل عناصرها النحوية ليس معناه استخراج كل مكنوناتها. بل يبقى بعد ذلك تقدير قيمتها الانفعالية. إنه لواجب يفرض نفسه على العالم النفسي الذي يدرس طبيعة العواطف، وبدرجة مساوية على الفنان الذي يسعى إلى إبرازها على المسرح، وعلى العالم اللغوي ولكن بدرجة أقل. فهذه العواطف لا تعنى هذا الأخير إلا عندما يعبر عنها بوسائل لغوية. ولكنها على العموم تظل خارج اللغة، فهي بمثابة ضباب خفيف يطفو فوق عبارة الفكر دون أن يغير من صيغتها النحوية: نعم من الحق أن يقال إن جملة "بيير يضرب بول" لا ينطق بها في اللغة دون نوع من التنغيم يحدد من لونها. ولكن الجسم الإنساني أيضا يشغل دائما في الواقع وضعا ما؛ فلا يمكن تصوره على خلاف ذلك. والوضع الذي يسمي وضع الراحة ليس إلا وضعا من الأوضاع، فيجب على النحات أن يعرف الصورة التي تتخذها العضلات في جميع الأوضاع، ويترتب على ذلك أنه لا يمكن أن يوصف بالمغالاة مهما أنفق في دراسة تشريح الجسم الإنساني. ولكن الجراح الذي يشرح أجزاء الجسم يستطيع أن يستغنى عن أوضاع الحركة في هذا الجسم فليس في كل الحركات التي يمكن تخيلها إلا جسم واحد يتحرك. كذلك يستطيع العام اللغوي أن يسقط من حسابه.   1 انظر بورون Bourdon: رقم 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 اختلافات النغمي والإشارات التي تحتملها إحدى الجمل مهما كانت، ما دامت لا تغير من بناء الجملة النحوي. غير أن هناك تختلط فيها العبارة الانفعالية بالعبارة النحوية إلى حد أن تغيرها، بدلا من أن تبقي ملتصقة بها مجرد التصاق. والانفعالية في اللغة تعبر عن نفسها على وجه العموم بصورتين: باختيار الكلمات وبالمكان الذي يخصص لها في الجملة يعني أن معيني اللغة الانفعالية الأساسيين هما المفردات والتنظيم. أما المفردات فستدرس على حدتها وسنرى الدور الرئيسي الذي تقوم بلعبه الانفعالية في تغيير معاني الكلمات. ولا يعنينا أن نذكر هنا إلا الحالات التي فيها جزء الكلمة الانفعالي يكون في اللاحقة، يعني في عنصر صرفي. وهذه حالة كثيرة الورود. فإذا وجدت كلمة على درجة عالية من قوة التغيير واشتملت هذه الكلمة على لاحقة ما، فالذي يحصل أن اللاحقة تتشرب هذه التعبيرية إلى حد أن تمتصها كلها، لتصير عنصر الكلمة المعبر. فاللاحقة aille-"آي" في الأصل لا توقظ أية فكرة؛ ولذا ظلت خالية من التعبير في كلمة مثل Bataille "بتي "موقعة". ولكن لما كانت قد وجدت في كلمات التحقير مثل CANAILLE" كنى "طغام"" وMARMAILLE "مر مي "عصابة أطفال" ... إلخ، فقد أخذت هي نفسها هذه القيمة التحقيرية، وليس منا من لا يحس معنى الاحتقار الذي ينبعث من PRETRAILE "بريتري "قسس" عندما يقصد تحقيرهم" وRADICAILLE "راديكي" "أصحاب الحزب الراديكالي" "عند إرادة التحقير". وكذلك اللاحقتان ard "آر" وasse "آس" لهما هذه القيمة في عدد من الكلمات غير قليل. ولواحق التصغير لأنها توحي بفكرة الكلمة التي تلصق بها في صورة مختزلة- تضم عادة إلى هذه القيمة عاطفة اللطف أو النفاسة أو عاطفة الحنان أو الانعطاف أو الإشفاق. فكلمة maisonette "دو يرة" وكلمة jardinet "بسيتين" لا يعنيان فقط منزلا صغيرا أو بستانا صغيرا، بل إن اللاحقتين ette, et تقومان فيهما حقيقة بدور دوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 العاطفة فالصرف يساعد هنا على التعبيرية فيفعل ما تفعله المفردات باستعمالها للصفة في مثل: "داري الصغيرة أو بستاني الصغير المسكين". طريقة ترتيب الكلمات تمس النحو عن قرب أيضا1. وتختلف اللغات اختلافا ملحوظا من جهة حريتها في ترتيب الكلمات. من هذه الوجهة يفرق غالبا بين نوعين من اللغات: اللغات ذات الترتيب الحر واللغات ذات الترتيب الثابت. وهو تفريق لا تبرره الوقائع. فالحقيقة أنه لا توجد لغة واحدة تسير في ترتيب الكلمات على حرية مطلقة كما لا توجد لغة واحدة ترتيب الكلمات فيها جامد لا يتحرك. فالإغريقية القديمة كالهندية الأوربية تعتبر من اللغات ذات الترتيب الحر. ومع ذلك فإذا أخذنا جملة لأفلاطون لم نستطع أن نجيل الكلمات فيها تبعا لهوانا كما نجيل القداح في الجعبة. كذلك مهما كان ثبات ترتيب الكلمات في الفرنسية أو الألمانية، في الصينية أو في التركية، فإن هذه اللغات تسمح بشيء من المرونة، ولا يحتم أن تصير غير مفهومة إذا غيرنا ترتيب الكلمات فيها. فالأمر في كلتا الحالين يتوقف على نوع التغيير الذي نجريه. والحقيقة أنه توجد لغات يلعب فيها ترتيب الكلمات دورا نحويا، والحرية في ترتيب الكلمات محدودة طبعا بقيمة النظام الصرفية "انظر ص111". وهناك لغات أخرى لا يفرض فيها النحو أي نظام إجباري، ولا تتأثر العلاقة المنطقية التي بين كلمات الجملة في شيء إذا غيرنا وضعها. تقول اللاتينية: Petrus Caedit paulum كما تقول العربية: "يضرب زيد عمرا" أو petrus paulum caedit أو "يضرب عمرا زيد" أو paulum Caedit petrus أو "عمرا يضرب زيد" دون أن يؤدي ذلك إلى تردد في معرفة الفاعل والفعل والمفعول، لأن التحليل المنطقي لا يرى في ذلك أي اختلاف, ولكن هذه الأوضاع الثلاثة ليست على درجة واحدة من الجودة. والمتكلم اللاتيني ما كان ليخطئ في اختيار خيرها. فالواقع أن دراسة الجملة عن المجلين من كتاب اللاتين يرينا أن نظام الكلمات فيها يسير تبعا لقوانين صارمة وإن كان من العسير استخراجها من خضم   1 انظر هـ. فيل H.weil: رقم 128 بالرغم من تفاقم عهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 تنوعها المجير؛ فالمسألة في كل حالة من الحالات مسألة حس أكثر منها مسألة مذهب نحوي. إذ إن هناك ترتيبا معتادا مبتذلا يطرق الذهن لأول وهلة1. وهذا الترتيب يمكن مخالفته، ولكن مجرد المخالفة ينبئ عن غرض ما، ذلك الغرض هو إبراز كلمة من الكلمات لتوجيه التفات السامع إليها. وتلك مسألة أسلوبية يمكن تتبعها إلى أقصى وقائعها، ومن ثم كانت دراسة التنظيم كثيرا ما تجوز على دراسة الأسلوب. هذا النوع من الدراسة في غاية الدقة، ويتطلب حسا لغويا مدربا، ولطفا عاليا في الذوق الأدبي، يضاف إليها معرفة نادرة بالظروف الفيولوجية للغة المدروسة. لذلك لم يمارس حتى الآن إلا في حيز ضيق. ففي ميدان الفيولوجية الكلاسيكية -وهو من أغنى الميادين بالبحوث- لم يقبل الباحثون على عمل تحقيقات منهجية حول موضع الكلمات في الجملة إلا منذ عهد قريب. بل إن المنهج الذي يناسب هذه المباحث لم يزل في بدء تحدده2. مما استقرت عليه الآراء في أيامنا هذه أنه ينبغي للنحوي الذي يريد دراسة التنظيم في لغة ما ألا يأخذ الجمل في مجموعها ليعرف النظام الذي يسير عليه في ترتيب الكلمات. بل عليه أولا وقبل كل شيء أن يميز أنواع الجمل المختلفة ثم يعين في كل نوع منها بعض المجاميع التي تسير على نظام ثابت. لأن الاستعمال لا ينحصر في الواقع في ترتيب كلمات الجملة كلمة كلمة، بل في تهيئة المكان لمجاميع من الكلمات ففي الجملة الاسمية مثلا يؤول الأمر إلى طرفين: المسند إليه sujet والمسند Predicat. والفعل، إذا كان مصرحا به "انظر ص166"، ينتسب إلى المسند، وموضع الفعل بالنسبة إلى المسند أمر ثانوي مستقل عن الأول. فالترتيب الطبيعي في اللاتينية هو homo avarus est "الإنسان بخيلا يكون" أو avarus est homo "بخيلا يكون الإنسان" تبعا لما إذا كان يراد إبراز فكرة الإنسان أو فكرة البخل،   1 ل. هافيه، Melanges Nicole:L. Havet، ص225-232. 2 انظر خاصة ماروزو: رقم 91 و11 "1906" ص209 وما يليها؛ وكيركس kieckers: "موضع الفعل في الإغريقية وفي اللغات القريبة منها" سترسبورج "1911" ورقم 30، مجلد، ص145 ومجلد 32ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والفرق على كل حال غير محسوس في غالب الأحوال: فالأمر يدور حول التعريف المجرد لبخل الإنسان لا أكثر ولا أقل. هذان الترتيبان يمثلان الطابع المعتاد للجملة الاسمية، ولا يحاد عنه إلا لأسباب قوية. فالتغيير المكاني التالي: HOMO EST AVARUS "الإنسان يكون بخيلا" يغير من قيمة الرابط، إذ تصير الجملة اسمه فعلية من نوع الجملة الفرنسية il se trouve bein "إنه يجده "يعني يجد نفسه" حسنا" il parait grand "إنه يبدو كبيرا" فالرابط هنا يأخذ قيمة أقل تفاهة من قيمته في الجملة الاسمية دون أن يصل إلى حد الاستقلال. ويمكننا أن نترجم الجملة السابقة على هذا النحو: il l'est avare "إنه يكونه بخيلا" أو il lui arrive d'etre avare "يقع له أن يكون بخيلا" أو il se trouve etre avare "وجد نفسه يكون بخيلا" ... إلخ. فالفصل بين جزأي المسند يبرز البخل على هذا النحو: avarus homo est "بخيلا الإنسان يكون" أو "بخيلا وجد الإنسان" أو إنه الذي يكون عيب الإنسان"، إلخ، وقصارى القول أن ترتيب الكلمات في الجملة الاسمية المشتملة على فعل الكون تبين على الترتيب أهمية المسند إليه أو المسند وقيمتي فعل الكون: كونه مجرد رباط أو فعلا معبرا عن الوجود. المجموعات الرئيسية في الجملة الفعلية هو المسند إليه والفعل والمفاعيل "مباشرة أو غير مباشرة" وكل مجموعة منها تشتمل على كلمة واحدة أو على عدة كلمات حسبما يكون المسند إليه مثلا مصحوبا بصفات أو بمخصصات أخرى وحسبما يكون الفعل مقيدا بظروف عديدة أو غير عديدة. فأول ما يعنينا أن نعرف ما إذا كان الفاعل يسبق الفعل أو ما إذا كان الفعل يسبق الفاعل ثم بعد ذلك كيف تقحم المفاعيل في الترتيب الذي يتقرر, وعندئذ نرى بعد أن نستثني الحالات التي يكون فيها لترتيب الكلمات قيمة صرفية "انظر صفحة 111". إن مكان المسند إليه ومكان الفعل يتوقف في كل لغة على تغلب بعض أنواع من الجملة تنتهي أن تفرض نفسها على الاستعمال. ويتضح أن ترتيب الكلمات حتى في لغات كالإغريقية أو اللاتينية أكثر ثباتا مما يظن لأول وهلة. وهكذا قد سلم الباحثون بأن بعض العبارات في الإغريقية تتبع ترتيبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لا يتغير. وكانت العادة في التوقيع على الأعمال الفنية أو في إهداء القرابين أن يوضع الفعل في وسط الجملة محوطا بالمسند إليه وتوابعه. ففي هذه الأحوال لا يوضع الفعل في نهاية الجملة إلا نادرا. وليس من شك في أنه يمكننا بمتابعة البحث أن نصل إلى معرفة الترتيب المعتاد في عدد كبير من أنواع الجمل في الإغريقية القديمة، وذلك لا يمنع من وجود ترتيبات عريضة تترك لتقدير الكاتب. أما في اللغات التي تسير على نظام ثابت في ترتيب الكلمات، دون أن يكون لذاك النظام قيمة صرفية، فإنه يمكننا بوجه عام أن نكشف عن البواعث التي أدت غلى هذا الثبات بواسطة الامتحان الدقيق لظروف اللغة نفسها, وفي العادة، لا بد أن يكون قد لزم لها وقت طويل حتى استقرت نهائيا على نظام معين, فالنظام الذي تسير عليه اللغة الكلتية تشهد به أقدم النصوص الإرلندية1، وهو الفعل: يوجد في صدر الجملة لا تتقدمه إلا السوابق الفعلية التي تستعملها الكلتية بكثرة، بعد ذلك يجيء المسند إليه ثم المفاعيل, ويظهر أن وضع افعل أمام المسند إليه على هذا النحو يرجع من جهة إلى أن الكلتية تقحم دائما ضمائر النصب التي تكثر كذلك من استعمالها بين سابقة العل والفاعل, ومن جهة أخرى إلى أن العادة في الهندية الأوروبية كانت قد جرت على وضع الضمائر الإلصاقية في المكان الثاني من الجملة "بعد أول كلمة منبورة, وذلك يطبع بطابع ثابت لا يتغير بداية الجمل التي تشتمل على لاصقة فعلية وفعل وضمير نصب وهي أكثر الجمل عددا، فهي إذن مقضى عليها أن تبدأ بالسابقة الفعلية فضمير النصب فالفعل، أما المسند إليه فلا يأتي إلا لاحقا لها. وما خلق هذا النظام المعتاد في ترتيب الكلمات في الجملة إلا الإبقاء على تقليد عتيق. ولكن يجب أن ننبه إلى أن هذا الترتيب تصيبه بعض القيود عند الاستعمال وأنه قد خرج عن صرامته بمضى الزمن. يختلف الأمر في الجرمانية بعض الاختلاف, فالألمانية تستعمل ترتيبين متساويين في الصرامة كلاهما، وفقا لطبيعة الجملة, فالفعل في الجملة الرئيسية يشغل المحل الثاني دائما, أما المسند غليه والمفعول "أو الخبر" فيمكن   1 فندريس: رقم 6، مجلد 17، ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وضعهما قبله أو بعده وفقا لرغبة المتكلم, وفي الجملة التابعة يقذف بالفعل دائما إلى آخر الجملة، بعد الفاعل والمفاعيل. فيقال إذن في الجملة الأصلية: der wolf lebt in walde "الذئب يعيش في الغابة" أو im walde lebt der wolf "في الغابة يعيش الذئب" der konig ist blind "الملك يكون أعمى" أو blind ist der Ronig "أعمى يكون الملك". ولكن يقال في الجملة التابعة: "man weiss dass" der wolf im walde lebt, der konig. blind ist ""يعرف أن" الذئب في الغابة يعيش، الملك أعمى يكون". وقد تم ثبات هذين الترتيبين شيئا فشيئا في غضون التاريخ. إذ نرى التعارض بين النظام المعتاد والنظم العرضية أكثر تعقيدا تبعا للأنواع المختلفة للجملة؛ فقد حصل تبسيط في ظروف لا نحسن معرفتها1. ولكن إذا كانت الألمانية قد عينت للفعل مكانا ما، فإنها قد احتفظت لنفسها بحرية التصرف كاملة بالنسبة للكلمات الأخرى. وكل نظام من النظامين له فيه قيمته الخاصة. وفيها إلى جانب النظام المعتاد الذي يبادر بطبيعة الحال إلى ذهن كل إنسان، إمكانيات لنظم متنوعة يختار المتكلم من بينها وفقا لإلهامه. ينحصر الفرق الأساسي بين اللغة الانفعالية واللغة المنطقية في تكوين الجملة. وهذا الفرق ينبثق جلبا عندما تقارن اللغة المكتوبة باللغة المتكلمة. فاللغة المكتوبة واللغة المتكلمة تبتعدان في الفرنسية إحداهما عن الأخرى إلى حد أنه لا يتكلم إطلاقا كما يكتب ولا يكتب كما يتكلم إلا نادرا, وفي كل حالة يوجد اختلاف في ترتيب الكلمات إلى جانب الاختلاف في المفردات, وذلك لأن الترتيب المنطقي الذي تسلك فيه الكلمات في الجملة المكتوبة ينفصم دائما في الجملة المتكلمة، إن قليلا وإن كثيرا؛ فمن اللغة المكتوبة مثل هذه الجملة: "يجب المجيء سريعا" و"أما أنا فلا وقت عندي للتفكير في هذه المسألة" و"هذه الأم تكره طفلها"؛   1 دلبروك: رقم 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ولكنها في اللغة المتكلمة تتخذ صيغة مختلفة كل الاختلاف تسعة أعشار الوقت، فيقال مثلا: "تعال بالعجل! " ... و"الوقت، إيه دا يا أخي! هو أنا عندي وقت، أنا علشان أفكر في المسألة دي! " و"ابنها! دهي بتكرهه، الأم دي! "1. ماذا يمكن أن يقال في جمل اللغة المكتوبة، تلك الجمل المنسقة بما فيها من جمل تابعة وحروف وصل وأسماء موصولة وكل ما تحتوي عليه من أدوات وأقسام! إننا لا نقول إطلاقا في اللغة المتكلمة: "بعد أن نخترق الغابة ونصل إلى بيت الحارس الذي تعرفه، بجداره الذي تكسوه أغصان اللبلاب سندور إلى اليسار ونسير حتى نجد مكانا مناسبا فنتغدى فيه فوق الأعشاب". بل يقال: "حنخترق الغابة، وبعدين نمشي لحد البيت، إنت عارفه، بيت الحارس، إنت واخد بالك منه كويس، البيت ده اللي جداره فارش عليه اللبلاب، وبعدين نحود عشمال، ونشوف مكان لطيف, وبعدين نتغدى هناك علحشيش". فالعناصر التي تسعى اللغة المكتوبة في أن تسلكها في كل متماسك تبدو في اللغة المتكلمة منفصلة منفصمة مقطعة الأوصال؛ بل إن الترتيب نفسه يختلف فيها عنه في الأولى كل الاختلاف. إذ ليس هنا ذلك الترتيب المنطقي الذي يمليه النحو الجاري، بل ترتيب له منطقه أيضا ولكنه منطق انفعالي قبل كل شيء، فيه ترص الأفكار لا وفقا للقواعد الموضوعية التي يفرضها التفكير المتصل بل وفقا للأهمية الذاتية التي يخلعها عليها المتكلم أو التي يريد أن يوحي بها إلى سامعه. فكرة الجملة بالمعنى النحوي تتلاشي في لغة الكلام. فإني عندما أقول: "الرجل الذي تراه هنالك جالسا على الرمال هو ذلك الذي قابلته بالأمس عند المحطة". أراني أستخدم طرائق اللغة المكتوبة فلا أصوغ غير جملة واحدة، ولكنني لو تكلمت لقلت: "شايف كويس الراجل ده, عندك هناك, قاعد قدامك على الرمل, أهو ده! أنا شفته امبارح, كان عالمحطة". فكم يوجد من الجمل هنا؟ من العسير أن نجيب عن هذا السؤال: فلو أني وقفت قليلا على كل موضع علم بشرطة لكانت   1 الجمل الفرنسية المقابلة لهذه الأمثلة مستعارة من شارل بلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الكلمات "عندك هناك"وحدها تكون جملة تماما كما لو كنت أجيب على سؤال يقول: "أين هذا الرجل؟ ". "عندك هناك" وجملة "قاعد قدامك ع الرمل" نفسها تصير مجموعة تتكون من جملتين لو أني توقفت قليلا بين الجزأين اللذين تتكون منهما: "قاعد قدامك" و""هو" ع الرمل" أو "إنه" جالس أمامك "وذلك" ع الرمل" فحدود الجمل النحوية هنا غير ثابتة حتى ليحسن أن نريح أنفسنا من تعدادها. ولكن إذا راعينا اعتبارا آخر، لم نجد عندنا إلا جملة واحدة. فالصورة الكلامية واحدة وإن كانت تحتمل المط والتوسع في الحركة إذا جاز لنا هذا التعبير. ولكن بينما تبرزهذه الصورة في اللغة المكتوبة كتلة واحدة، نراها في لغة الكلام تقطع أجزاء متتابعة تتناسب في العدد والشدة مع الانطباعات التي يحملها المتكلم نفسه أو مع الحاجات التي تحمله على التأثير على السامع. بقدر ما تستخدم اللغة المكتوبة نظام التبعية، تمارس لغة الكلام نظام الإلصاق. فالمتكلم لا يستعمل الروابط النحوية التي تحصر الفكرة وتطبع الجملة بطابع القضية المنطقية الضيق. ولغة الكلام مرنة خفيفة الحركة، تدل على صلة الجمل بعضها ببعض بإشارات مختصرة بسيطة، فالفرنسية تكتفي على وجه العموم لأداء هذه الوظيفة بحروف الوصل التي من قبيل et "و" وmais "لكن"، ذلك أن اللغات تميل في الدلالة على التبعية إلى استعمال عبارة وحيدة تطبق على كل الحالات دون تفريق. وهكذا نرى أن الهندية الأوربية في خلال التاريخ تخلق لها أدوات وصل وأن نظام الوصل يتكون ويستكمل. إذ لا بد أن التنغيم في البداية كان يلعب دوره، وكان يشار إلى الصلة بين جملتين بأن تعارض إحداهما بالأخرى وذلك بواسطة نغمة الفعل أو بواسطة بعض الأدوات التي كانت تتكرر في كل واحدة منهما وقد احتفظت بعض اللغات بمجاميع من الصيغ التي تختلف تبعا لما إذا كانت الجملة أساسية أو تابعة. ولكنه اكتفي بوجه عام بإعطاء الأداة "اسم موصول أو حرف وصل" وظيفة ربط الجملة التابعة وبالتالي جعلت الأداة الطابع المميز لهذه الجملة. ويكفينا للتحقق من ذلك أن ننظر إلى النجاح التام الذي صادفه حرف الوصل الفرنسي que "أن". وإن اللغة المكتوبة، التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 تبحث عن الدقة ولديها من الفراغ ما تنفقه في التحضير والتروي، تعقد مختارة طريقة التعبير عن صلة الجمل بعضها ببعض وفقا لألوان الفكر المختلفة الدقيقة. ولكن لغة الكلام تميل إلى اتخاذ رمز واحد تاركة لذهن السامع أن يعرف بالحدس نوع الصلة التي يقصدها المتكلم. لذلك قد نرى الحرف الواحد يعني في اللغة الواحدة "لأن" و"مع أن" و"لأجل أن" و"عندما". فالشعب الفرنسي يتجنب في لغة الكلام الصيغ whose" dont" "الإنجليزية" وauquel اسم الموصول بمعنى الذي له" وpour leuel "اسم الموصول بمعنى الذي من أجله" لأنه يراها ثقيلة مقلقة. يقنع في الدلالة على الوصل بالموصول que مع الإشارة في جملة الصلة نفسها إلى نوع الصلة التي يريدها. فبدلا من أن يقول "l'homme dont je connais la fille" أو "le patron pour lequel je travaille" أو Le pauvre a que je fais l'aumone" يفضل أن يقول: "l 'homme que je connais sa fille" "الرجل الذي أعرف ابنته" و" le patron que je travaille pour lui" "المالك الذي اشتغل له أو من أجله" و"le pauvre que je lui fais l'aumone" "المسكين الذي أقدم إليه الإحسان". هذه التراكيب وهي راسخة القدم في الفرنسية المتكلمة اليوم كانت مستعملة في اللغات الكلتية في العصور الوسطى1 وهي تبين جيدا استقلال لغة الكلام عن لغة الكتابة. تتميز لغة الكلام بأنها تقتصر على الاهتمام بإبراز رؤوس الفكرة، فهي وحدها التي تطفو وتسود الجملة، أما الروابط المنطقية التي تربط الكلمات بعضها ببعض وأجزاء الجملة بعضها ببعض فإما ألا يدل عليها إلا دلالة جزئية بالاستعانة بالتنغيم والإشارة إذا اقتضى الحال، وإما ألا يدل عليها مطلقا ويترك للذهن عناء استنتاجها. هذه اللغة المتكلمة تقترب من اللغة التلقائية: ويطلق هذا الاسم على اللغة التي تنفجر تلقائيا من النفس تحت تأثير انفعال شديد. ففي هذه الحالة يضع   1 وتقابلها كذلك في الألمانية في الأقاليم المجاورة لإقليم لافه lave انظر بها حل Behaghel رقم 144، ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المتكلم الألفاظ الهامة في القمة إذ لا يتيسر له الوقت ولا الفراغ اللذان يجعلانه يطابق فكرته على تلك القواعد الصارمة، قواعد اللغة المتروية المنظمة، وعلى هذا النحو تتعارض اللغة الفجائية مع اللغة النحوية. من المسائل التي تستحق النظر معرفة ما إذا كانت إحداهما سابقة بالضرورة على الأخرى، وإذا ما كانت اللغة التلقائية تختلط باللغة الانفعالية. فإذا صاح إنسان مشدوها من مقابلة غير منتظرة فقال: "أنت هنا! " أمكننا أن نقرر بشيء من التمحل أن هذه العبارة تقوم على أساس عبارة نحوية هي: "أنت "تكون" هنا! " أو "يدهشني أنك هنا". ولم يعدم النحويون على الأقل أن يفسروها على هذا النحو محتجين باستعارة نحوية أو بحذف أو تقدير. ولكن ينبغي لذلك ان نلجأ إلى لغة الطفل أولا وقبل كل شيء. فالطفل الذي يقول "بابا هنا" ليفهم أن أباه قد حضر أو أنه يوجد هنا، إنما يعبر فقط عن تقرير واقع. بعد ذلك عندما يأتيه التروي مع تلك الموهبة التي يحلل بها إدراكاته ويعبر عنها في اللغة تعبيرا كاملا، يقول: "بابا "يكون" هنا" أو "بابا وصل هنا"؛ أيمكن أن يستنتج من ذلك أنه يمكن الانتقال من لغة فجائية غير نحوية إلى لغة نحوية منظمة دون نقطة ارتكاز انفعالية؟ يخشي أن يكون في ذلك نوع من المغامرة. لأن الطفل لم يبدأ بعد بأن يخلع على جملته الفجة "بابا هنا" طابعا انفعاليا. بل إن الصيحات الأولى التي صدرت عنه كانت للتعبير عن رغبة أو إرادة أو حاجة. وأول ما قال "بابا هنا" كان ذلك للتعبير عن ابتهاجه برؤية أبيه أو عن رغبته في مجيئه. وإذن فقد نشأت العبارة الموضوعية "بابا هنا". في خلال تدرج الطفل بإقصائه للعنصر الذاتي ثم استطاعت بدورها أن تصير جديرة بالعبارة النحوية حين ضم فعل إليها، ولكن الطفل قد بدأ الصيغة انفعالية. يميل بعض علماء اللغة الذين هم علماء نفس في الوقت عينه إلى الاعتقاد بأن اللغة الانفعالية تسبق اللغة العقلية دائما عند الطفل1. وعندهم أن الذكاء   1 انظر خاصة سيشيه: رقم 122، ص67 وما يليها، وقارن ليفي بريل: رقم 88 ص27 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لا يستطيع تحويل الإحساسات والانفعالات إلى أفكار إلا تدريجا، وأن الفكرة تخرج من العناصر الانفعالية دون أن تقصيها إقصاء تاما, وأنه يتكون في داخل اللغة الفجائية التي هي انفعالية محضة نواة صلبة تنمو شيئا فشيئا كلما ازدادت الأجزاء المحيطة بها صلابة، وهذه هي اللغة المصطلح عليها أو النحوية، وتبقى هذه متداخلة في الأخرى، تستمد منها غذاءها باستمرار دون أن تصل إلى إنضابها بأية حالة. هذه النظرية نشوئية دينامية قبل كل شيء. تزعم أنها تفسر أصل النحو، يعني اللغة المنظمة، باستمرار العناصر البدائية غير الثابتة التي تكون ما قبل اللغة النحوية. وعندها أن هذه اللغة الأخيرة تستمر بقدر يزيد أو ينقص عند كل إنسان طول حياته، وإليها يجب أن ترجع ظواهر اللغة الانفعالية جميعها. ولكنها تستطيع هي الأخرى بطريق مضاد أن تنهل من منابع اللغة النحوية، وذلك مثلا عندما نرى أن جملة مكونة تكوينا منطقيا تصير، بفعل عكسي محض، صيحة صادرة عن غير شعور تحت تأثير ألم حاد أو رعب مفاجئ. والواقع أن اللغة النحوية المنظمة تنظيما منطقيا لا تستقل عن اللغة الانفعالية، فبين اللغتين تأثير متبادل. وقد رأينا أن ترتيب الكلمات في كل اللغات يتجه نحو الاستقرار، إما بأن يفرض النحو عليها ترتيبا لا يتغير، وإما بأن تكون العادة قد جرت باتخاذ ترتيب بعينه في جميع الجمل التي من نوع واحد. وهذا لا يمنع من أن يكون للانفعالية وسائل عدة للظهور في تكوين الجملة. فتارة نرانا نقذف قبل الجملة بكلمة أو بقسم من جملة، مع استئنافه بعد ذلك بواسطة عنصر صرفي، أداة كانت أو ضميرا، وتارة ندفع به إلى نهاية الجملة منعزلا عن السياق مع الإعلان عنه مقدما في بنية الجملة، وأخيرا قد يكون ذلك بفصم ارتباط الجملة بغتة وجعل نصفها التالي يسير على خطة جديدة لا صلة بينها وبين النصف الأول منها هذه الطرق المختلفة الشائعة في لغة الكلام كثيرا ما استعارتها لغة الكتابة وذلك, كلما اقتضى الأمر إحداث تأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فإذا نظرنا إلى قول لابرويير la Bruyere مثلا: "رجل موهبة وشهرة، إذ كان محزونا أو صارما، أخاف الشبان" أو "أحد النبلاء، إذا عاش عيشته في مقاطعته، عاش حرا، ولكن دون سند". رأينا أن جملته مما يستطاع تسميته بالكتابة الفنية، ولكن واضح فيها أنها تتخذ طريقة بناء شائعة في لغة المحادثة1، وأيضا: "هذا السد المسكين، لقد كان على جانب كبير من الطيبة" أو: "طفل عاقل، يعطيه الإنسان كل ما يريد". وتمارس لغات كثيرة هذا التركيب نفسه. فتراه في الألمانية في مثل: "der kirchhof, er liegt wie am gage" "فناء الكنيسة، لقد كان يمتد كأنه في وضح النهار". و"Die Glocke sie donmert ein machtiges eins" "الجرس، لقد قصف قصفة قوية". وفي الإنجليزية منه أمثلة كثيرة. ووجوده في الفارسية القديمة أمر معروف2. ويوجد باطراد في اللغات الملايوية البولينيزية, وأخيرا في الصينية؛ فبدلا من أن يقال wo me kien kouo t'a ti fang tseu "وُو ِمَ كَِيِنْ كو ُاوَ تاتي فَنْج تسَِوُ" "لم أر منزله" "حرفيا "أنا لا رؤية له منزل"". يمكن أن يقال: t'a fang tseu wo me yeou kouo "منزله، إنني لا أره". وواضح أن بين التركيبين في الأصل فرقا دقيقا كما يتبادر من الترجمة العربية نفسها، فالأولى مبتذلة ولا تعبير فيها، والثانية على العكس، تعبر عن لون من العاطفة إن قليلا وإن كثيرا. ولكن قد يحدث أن تفرض الثانية نفسها على الاستعمال إلى حد أن يستعاض بها عن الأولى، فتصير نحوية بعد أن كانت انفعالية. وهكذا يمكن أن يقال في الفرنسية: "Cet homme la, sa maison est belle" "هذا الرجل، بيته جميل". بدلا من "la maison de cette homme est belle" "بيت هذا الرجل جميل". ومن المعتاد في لغة كاللغة الأيرلندية أن يتعجل فيقال: "بيته "بتاع" هذا الرجل" بدلا من "بيت هذا الرجل". وفي الألمانية يمكن أن يقال بالاختيار: "das hans meines"   1 برينو Brunot رقم 53، مجلد 3، ص485. 2 مييه. قواعد الفارسية القديمة، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 vater ist schon" "البيت "بتاع" والدي جميل" أو meines vater's Haus ist schon "والدي بيته جميل"؛ وبعض اللهجات قد بنت لها تركيبا آخر إذ تقول: meinem vater sein Haus ist schon "لوالدي بيته جميل"، ذلك التركيب الذي يجمع بين عملية التعجل "باستعمال ضمير الملك" وبين استعمال حالة الجر بدلا من حالة الإضافة في الدلالة على الملكية. بل إن بعض اللهجات الألمانية المعاصرة لا تستعمل غير هذا التركيب، ففي كوبورج Cobourg مثلا1 عبارة mein vaters Haus "بيت والدي" غير معروفة، ويقال فقط: maen fader soe haos "حيث maen صيغة الجر والنصب، وصيغة الرفع mae". وهذا التركيب الشعبي اللهجي غير مجهول في اللغة الأدبية، إذ يقدم لنا جوته Goethe بعض أمثلة منه. فتلك سنة من سنن اللغة الانفعالية دخلت في اللغة النحوية، بل إن الفصائل النحوية نفسها يعبر عنها أحيانا بوسائل اللغة الانفعالية، وإن كانت بعض هذه الوسائل تستجيب لذلك بصفة خاصة. فقد رأينا عند دراستنا لفصيلة الزمن أن فيها مكانا هاما للتعبير عن الاستغراق duree. ولكنا نعلم أن ما ندعوه الاستغراق ليس إلا المظهر aspect الذي يأخذه في اعتبارنا حدث من الأحداث أي الزاوية التي يظهر لنا هذا الحدث من خلالها. فالمسألة هنا مسألة وجهة نظر أولا وقبل كل شيء، ولما كان اختيار وجهة النظر مسألة ذاتية، كان فيها نصيب من الانفعالية. ويوجد بين الأزمان التي يعددها نحويونا زمن ذاتي بأجلى معاني الكلمة؛ ونعني به الزمن المستقبل, فإننا عندما نعبر عن فكرة وقوع حدث في لحظة ما من المستقبل، لا نقف بتفكيرنا عادة عند التحقق الموضوعي للحدث، بل نكاد نشير دائما في نفس الوقت إلى الأحوال التي نجد فيها أنفسنا حاليا بالنسبة إلى ذلك الحدث المستقبل. على هذا النحو يوجد فرق بين المستقبل والماضي. فهذا الأخير زمن موضوعي، لأن الماضي أصبح لا يتعلق بنا وليس لنا أثر عليه، فهو كما يقال زمن تاريخي.   1 إدوارد هرمن Ed. hermann، بحوث إغريقية، جـ1 ليبسك, توبينر "1912" ص208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والمستقبل على عكس ذلك يحمل معه جميع ألغاز غير المتوقع، ويترك مجالا لمئات ومئات من عواطف الانتظار والرغبة والخوف والأمل. فإذا قلت "سأفعل ذلك غدا" فإني، برغم تأكيدي بأن هذا الحدث سيقع غدا على يدي، أحيط جملتي بجو ذاتي يلونها في عيني أنا بألوان متنوعة إلى حد أن الجملة تئول في غالب الأحيان إلى عبارة "أرغب أن" أو "أرضى أن" أو "أخشى أن" أو فقط إلى عبارة "أعتزم أن "أفعل ذلك"" إلخ. وتاريخ المستقبل في اللغات المختلفة يثبت صحة هذه الملاحظات1. فالزمن المستقبل كثيرا ما يعبر عنه بالإرادة أو الرغبة، يعني أن بعض عباراته من أصل انفعالي. فالصينية تصوع المستقبل بأن تلصق إلى الفعل العنصر yao "ياَؤُ" "فعل الإرادة" مثل wo yao lai "وُ وَياَؤُ لَيْ" "سأحضر" "حرفيا: "أنا إرادة حضور"", وتقول الإنجليزية I shall do أو I will do "سأفعل" "وأصلها أريد أن أفعل", والإغريقية الحديثة استعاضت عن المستقبل القديم بتركيب تحليلي يرجع إلى الفعل الدال على الإرادة "انظر ص108". والبلغارية تعبر عن المستقبل، منذ القرن الثالث عشر، بواسطة الفعل choteti "الإرادة" حيث تستعمله فعلا مساعدا2. وتقول بعض اللهجات الفرنسية: "Il ne vaut pas pleuvoir" "لا تريد أن تمطر" بدلا من "Il ne pleuvra pas" "لن تمطر". ومستقبلنا نفسه، من نوع aimera "سأحب" مشتق -كما هو معروف- من المركب amare habeo "حرفيا "حبا أملك"". وفيه يشير الفعل habeo "أملك" إلى النصب الذاتي الذي يعتزم المتكلم الاضطلاع به من الحدث. فكون المستقبل يعبر عنه بصيغ لها هذه الدرجة من التنوع، وهذه الكثرة من التجدد، برهان ساطع على أن هذا الزمن يحتوي على نصيب كبير من الانفعالية "انظر الصفحات الأولى من الفصل الثالث من الجزء الثالث". التكرار أيضا من تلك الوسائل التي نشأت في اللغة الانفعالية ثم صار.   1 مينان magnien، رقم 90 وريبزو Rebezzo رقم 227. 2 فندراك vondrak, رقم 217، مجلد1 ص178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بعد استعماله في اللغة المنطقية، مجرد سياسة نحوية، أما أصله فيجب البحث عنه في الانفعال الذي يصحب التعبير عن عاطفة قد دفعت إلى أقصاها. وفي كثير من اللغات ينحصر التفضيل الكلي في تكرار الصيغة. فواضح هنا أن الاستعمال النحوي قد تطور من الاستعمال الانفعالي. والتكرار لم يكن في الأصل إلا وسيلة لإعطاء العبارة زيادة في القوة. "هذا جميل، جميل". ولكن هذا الوسيلة قد أفرغت شيئا فشيئا من قيمتها الانفعالية، وبدا من السائغ استعمالها للدلالة على الوفرة والتجاوز، مستقلين عن التعبير عن أية عاطفة مثل "إنه سمين سمين" بدلا من "إنه سمين جدا" وهذا هو التفضيل الكلي بحذافيره، وهو لما يزل شائع الاستعمال حتى يومنا هذا في الحبشية مثلا، وفي الإغريقية الحديثة1. ومع ذلك فهذه الوسيلة لم تصرف في اللغات التي مثل اللغة الفرنسية مجرد وسيلة نحوية "إذ إن نحو الفرنسية يحتوي على وسائل أخرى للتعبير عن التفضيل الكلي" بل قد بقيت للتكرار فيها قيمته الانفعالية فعبارة: Il est gros gros "إنه سمين سمين" لا تؤدي بالضبط نفس المعنى الذي تؤديه عبارة il est tres gros "إنه سمين جدا". ويمكننا أن نحس الفرق بصورة أوضح من تلك إذا قارنا عبارتين مثل il n'est pas tres joli "إنه ليس وسيما جدا" وil n'est pas joil joli "إنه ليس وسيما وسيما" "كأن يريد أن يقول إنه ليس وسيما تلك الوسامة التي نسميها وسامة", فلو فرضنا أن هاتين الجملتين قيلتا بقصد التهكم لكان الإحساس بالتهكم في الحالة الثانية أشد منه في الأولى. التكرار الذي نقابله في النظام الفعلي للغات الهندية الأوربية أو السامية ذو أصل انفعالي لا شك فيه, وهو يستعمل في هذه اللغات استعمالات عديدة, فمن أوضح استعمالاته في الهندية الأوربية الدلالة على تحقق الحدث تحققا تاما وقد نشأ المسمى بالتام المكرر parfait redouble في الإغريقية القديمة حاملا لهذه القيمة2، فكان يدل بتكرار المقطع الأول من الأصل على تأكيد يقابل   1 برنو pernot، رقم 109، ص90، 160. 2 ي. فكرناجل J. wackernagel. رقم 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 التأكيد الذي تدل عليه صيغة الفعل من الناحية المعنوية. وتضعيف الفعل في السامية ينحصر في إطالة الساكن، أو في الاستعاضة عن الساكن البسيط بساكن مضعف "انظر ص48". والقيمة الانفعالية فيه واضحة جدا أيضا. ويقصد به الدلالة على الشدة1؛ فمن "خبط" في العربية يؤخذ خبّط "خبط بقوة" ومن كسر "كسّر" أحال إلى شظايا" إلخ. كما يوجد في الأسماء آثار لصيغة جمعية مؤغلة في القوم تقوم صياغتها على التضعيف، وأصلها الانفعالي واضح. هذه حالات سلك فيها التعبير عن العاطفة مسلكا نحويا حيث نرى المنطق يستعير لغة الانفعال. وعكس ذلك شائع أيضا, فيوجد في كل لغة متكلمة عدد من الكلمات الصغيرة التي لم تبق لها إلا القيمة العاطفية، وحظ المنطق فيها من الضآلة بحيث قد تستعمل أحيانا ضد معناها الحقيقي بل كثيرا ما نجد إلى جانب الكلمات عبارة كاملة من هذا القبيل فيها فعل ومسند إليه ومفعول, جمل صغيرة يستطيع المتكلم، بشيء من التحليل الأولى، أن يتعرف على الكلمات التي تكونها, وهي كل يقدم للذهن انطباعا عاطفيا لا أكثر ولا أقل. ومثل ذلك في الفرنسية عبارة "PAR EXEMPLE" "مثلا" التي يُدل بها على الدهشة و"VOUS SAVEZ" "أنت عارف" التي يشار بها إلى الموافقة, والقيمة التعبيرية لهذه العبارات تزداد قوة بقدر ما تتلاشى فيها القيمة المنطقية, ذلك أن الانتقال من المنطقي إلى الانفعالي يحصل ببلي الأول منهما ففي بادئ الأمر كان الإنسان يرى نفسه أمام فكرة تقال له فتدهشه فيجيب: "AH! PAR EXMPLE" "أه! مثلا؟ " مشيرا بذلك أنه ينتظر من محدثه مثلا توضيحيا. ثم جرت العادة بعد ذلك أن يجيب بقوله: "par example" "مثلا" كلما سمع خبرا غير منتظر لا يستطاع تفسيره بذاته, ولو لم يكن في الإمكان تقديم مثل لتعضيده؛ وأخيرا حل التعجب محل الاستفهام فصار القائل يقول: "par example" كما لو كان يصدر دهشة أو شكا أو تحديا أو غضبا أو رعبا. لم تقف اللغة عند هذا الحد. إذ إن من طبيعة صيغ اللغة الانفعالية أن تبلى   1 بركلمان Brockelmann رقم 148. مجلد 1، ص508. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بسرعة عجيبة، فلا تلبث أن يمحى منها الجزء الانفعالي ولا يبقى إلا عبارة عديمة اللون, ولغة الكلام ميالة إلى تزويد جملها بعدد كبير من الكلمات termes الخالية من التعبير والتي كأنها حشو بين الكلمات المعبرة، مثال ذلك في الفرنسية: "allez y tiens, n.htm'est - ce pas, voyez - vous, penses - tu "هيا إليه، خذ، أليس كذلك؟ أترى, أتظن" وكل منا يستطيع أن يفاجئ نفسه في محادثاته اليومية وهو يخلط كلامه بعبارات formules من هذا القبيل. هذه العبارات كانت منطقية فصارت انفعالية، وهي تنتهي عادة بأن تصير من الآليات. وآخر أطوارها هو الطور الذي تتجرد فيه مما كانت تحتوي من العنصر العقلي ومن العنصر العاطفي على السواء. فاللغة الانفعالية تنفذ في اللغة النحوية وتسطو عليها وتفككها. لذلك يمكن أن يفسر عدم استقرار النحو بفعل الانفعالية إلى حد كبير. فالمثل المنطقي الأعلى للنحو هو أن يوجد لكل وظيفة عبارة، وعبارة واحدة لكل وظيفة. ولتحقيق هذا المثل يجب أن تكون اللغة ثابتة ثبوت الجبر حيث يبقى الرمز، منذ أن يصاغ لأول مرة، ثابتا لا يتغير في جميع العمليات التي يستعمل فيها. ولكن الجمل ليست رموزا جبرية. فالانفعالية لا تنفك تكسو عبارة الفكر المنطقية وتلونها, إذ لا يكرر المرء مطلقا جملة واحدة بعينها مرتين، ولا يستعمل كلمة بعينها مرتين بنفس القيمة، لأنه لا يوجد مطلقا واقعتان لغويتان تتماثلان تماثلا تاما. ويرجع السبب في ذلك إلى ظروف دائبة على التعديل من أحول انفعاليتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الفصل الخامس: التغيرات الصرفي ة 1 النظام الصرفي في كل لغة حية لا يثبت على حال، ويمكننا أن نكون فكرة عن ذلك من الحقائق المذكورة في الفصول السابقة. بل إننا حتى إذا كنا ندرس لغة ميتة وحاولنا أن نقيم نظامها النحوي بعض الشيء رأينا فيها عددا من الشواذ ومن المتناقضات وذلك رغم استقرارها على يد النحاة. لسنا نتكلم عن "الأخطاء" الفردية التي تند أحيانا عن أقلام الكتاب مهما بلغ حرصهم، ولكن كل نظام صرفي فيه مواضع نقص لا تخلو منها أية لغة ولو كانت من أشد اللغات تثقيفا. ففي كل قاعدة من قواعدها شواذ لا يبررها منطق. وقصاري القول إن النظام الصرفي لدى كل متكلم يحمل في نفسه من أسباب التغيير بقدر ما يحمله النظام الصوتي. ولكن الطريقة التي يتم بها التغير في أحد النظامين تختلف عنها في الآخر. فالتغيرات الصرفية إنما تصيب الكلمات لا العناصر الصرفية، وذلك على عكس التغيرات الصوتية التي قد تصيب الأصوات مستقلة عن الكلمات "انظر ص64". ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن العناصر الصرفية تكون في أغلب الأحيان جزءا لا يتجزأ من الكلمة، بل يرجع ذلك على وجه الخصوص إلى أن السبب في التغيرات الصرفية ليس في الكليات العقلية، بل في استعمال اللغة لهذه الكليات. تنبعث التغيرات الصرفية دائما عن استعمال قد وقع، ومن ثم كانت محدودة الامتداد, فليس النظام إذن هو الذي يتغير، كما هي الحال في بعض التغيرات   1 انظر مييه: تطور الصيغ النحوية "رقم 42 "سنة 1912"، ص384". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الصوتية، وإنما الذي يتغير هو عنصر من عناصر النظام فحسب، وفي استعمال واحد من الاستعمالات. الفرق بين المسلكين يظهر في نتائجهما, فالتطور الصوتي عام شامل لا يترك وراءه بقايا، إذ أنه يستبدل حالا جديدة مكان حال قديمة "انظر ص66". أما التطور الصرفي فيندر أن يشمل جميع الحالات التي يؤثر فيها؛ فهو يدع إلى جانب الصيغ الجديدة التي يستحدثها عددا كبيرا من الصيغ القديمة التي تستمر في الاستعمال. وهكذا تترك كل حلقة من حلقات التطور الصرفي بقايا لها. فبالرغم من أننا قد استعضنا في الفرنسية بالمصدر courir "الجري" عن الصيغة القديمة courre، لازلنا نقول chasse a courre "صيد بالجري" كما لا تزال نستعمل مصادر من أمثال rompre "يكسر" أو moudre "يطحن". وجمع chacal "ابن آوى" على chacals لم يمنع من جمع cheval "حصان" على chevaux. وقد بقينا نقول في مضارع dire "القول" المسند إلى جمع المخاطب vous dites "أنتم تقولون" ولكنا نقول vous predisez "أنتم تنبؤون" وvous contredisez "أنتم تتناقضون"، في حين أن vous cotrefaites "أنتم تزيفون" قد بقيت متفقة مع vous faites "أنتم تعملون". ونقول أيضا I' Hotel Dieu "المأوى, الله" "بمعنى مأوى الله" وle monument Victor Hugo "المؤسسة فكتور هيجو "أي مؤسسة فكتور هيجو"" وla rue Gambetta "الشارع غمبتا "أي شارع غمبتا"" على حين نستعمل حرف الإضافة في غير ذلك فنقول la maison de Dieu "البيت "بتاع" الله" وles poesies de Victor Hugo "الأشعار "بتاعة" فكتور هيجو" وla politique de Gambetta "السياسة "بتاعة" غمبتا"، إلخ. فاللغة لا تكاد تشعر بنفسها، وهي على كل حال لا تشكو من هذه المتناقضات. يسود التغيرات الصرفية اتجاهان عامان: الأول مبعثه الحاجة إلى التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ويميل إلى إقصاء العناصر الصرفية التي أصبحت شاذة، والآخر مبعثه الحاجة إلى التعبير ويميل إلى خلق عناصر صرفية جديدة. إقصاء العناصر الصرفية الشاذة يكون بردها إلى القاعدة، أي أن الحاجة إلى التوحيد تقنع بطريقة القياس1. ويطلق القياس على العملية التي بها يخلق الذهن صيغة أو كلمة أو تركيبا تبعا لأنموذج معروف. فالطفل الذي يقول j' ai li "قرأت" على مثال j' ai ri "ضحكت" بدلا من j' ai lu أو يطلب إقصاءه من المائدة بقوله: deproche - moi "أقصوني" بناء من approcher "يقرب" يخلق صيغتين قياسيتين2. والقياس هو الذي يقود الجاهل الذي يريد أن يظهر بمظهر من يحسن الكلام إلى أن يقول: فلان يبني من فلانة قياسا على: فلان يتزوج من فلانة. الحقيقة أن القياس أساس لكل صرف, فالإنسان يتبع القياس دائما في كلامه, وما جداول التصريف والإعراب التي تذكر في كتب النحو إلا نماذج يطلب إلى التلميذ محاكاتها. فأنا أعرف أن المستقبل من finir "إنهاء" je finirai "سأنتهي"، وإذن فاليوم الذي يقابلني فيه مصدر ينتهي بـir مثل crepir "التجميد" وpolir "الصقل" وأحتاج إلى استعمال المستقبل منه لا أتردد في أن أقول: je crepirai "سأجعد" وje polirai "سأصقل" ولكني لو واصلت السير في هذا الطريق وبنيت المستقبل من venir "المجيء" على je venirai، لكنت قد خلقت خلقا قياسيا يأباه الاستعمال. ومع ذلك فالتاريخ يخبرنا أن بعض المبتكرات التي من هذا القبيل انتهت بالانتصار, فقد ظل الناس زمنا طويلا يقولون: je tressaudrai "سأرتعد" وje defaudrai "سأخور" من المصدرين tressaillir "الارتعاد" و Defaillir "الخور"، واليوم يبنى   1 انظر هنري Henry، رقم 82، وجيل Giles رقم 132، ص58؛ وهـ. أورتل H. Oertel رقم 127، ص150 وهـ. بول H. Paul، رقم 188، ص96؛ وقارن مييه رقم 9، مجلد 2، ص860. 2 وهذه الأمثلة تقابل ما نسمعه من بعض الأطفال في القاهرة حيث يقولون كرة أحمرة أو أصفرة بدلا من حمراء وصفراء طردا للقاعدة القياسية. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المستقبل منهما على الصيغة المطردة: je defaillirai, je tressaillirai. فقد قضى أثر التصريف المطرد بوجودهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 غير مفيد، والصيغ التي يقصيها القياس صيغ عليلة، بمعنى أنها غير مضمونة من الذاكرة لندرة استعمالها. والقياس لا يستطيع التغلب إلا عند ضعف الذاكرة. فالصيغة الشاذة النادرة الاستعمال تنسى وتصاغ من جديد تبعا للقاعدة المطردة. يخلق الأطفال في مرحلة تعلمهم للغة عددا كبيرا من الصيغ الجديدة، وذلك باستجابتهم لداعي القياس. ولكن الجزء الأكبر من هذه المبتكرات يصلح فيما بعد، لأنها في غالب الأحيان ليست إلا عوارض فردية، ناتجة عن حس غير صائب، أو عن معرفة ناقصة باللغة. ولكن بعضها ينطبق مع الحس اللغوي العام انطباقا يجعلها تنتهي بالاستقرار. وقد يحصل أن يتجه فجأة جميع الأفراد من جيل واحد إلى الوقوع في غلطة بعينها تفرض نفسها عليها كأنها قانون وتصير قاعدة. وعندئذ يصبح كل مجهود يقوم به المدرس في المدرسة عبثا. وهناك تراكيب بادية الخطأ شائعة الاستعمال حتى بين المثقفين، ويكاد الإنسان يدهش حين يعلم أن النحو قد سلم بها. النحو كثيرا ما يكون في صراع مع الحس الطبيعي للغة. ففي الأقطار التي يطغى فيها أثر النحاة لا تستسلم اللغة لفعل القياس إلا بصعوبة، إذ تخنق المبتكرات القياسية في مهدها ولا تستطيع الحياة. فهذه يجب لتغلبها أن تكرر غالبا وبصورة مطردة. وتقابل عندنا في الاستعمال اللغوي في القرن السادس عشر حيث لم يكن عمل النحاة قد بلغ من الاتساع والفاعلية ما بلغه منذ ذلك الحين عددا كبيرا من الأخطاء التي لم تستطع أن يكون لها قوة القانون1. فكان رابليه Rabelais يقول: je finois بدلا من je finissais "كنت أتمم"، ولكنا لم نحتفظ إلا بهذه الصيغة الأخيرة. وعلى العكس من ذلك استطاعت لغتنا الحاضرة رغم النحاة أن تفرض استعمال بعض التراكيب التي ظلت مردودة حتى هذا الحين. فكل الناس يقولون: je m'en rappelle "أتذكره" "حرفيا "استحضر منه إلي"" بدلا من je me le rappelle "أتذكره" "حرفيا "استحضره إلي""، وأصبح ذلك التركيب المتبرر: de facon a   1 برينو Brunot؛ 57 مجلد 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ce que "بصورة أن" "حرفيا "بصورة إلى أن"" تقال بل وتكتب بدلا من de facon que "بصورة أن". ويجب علينا أن نقرر، رغم أنفنا أن هذه الأخطاء تسير مع اتجاه اللغة الطبيعي. ومع ذلك فهناك صيغ تثبت أمام القياس، ومن أجل ذلك تسمى بالشاذة, إذ يحتوي نحو كل لغة من اللغات على قدر يزيد أو ينقص من الأسماء والأفعال الشاذة. وتسمى أيضا بالصيغ القوية في مقابلة الصيغة الضعيفة أو العليلة التي تستسلم للتنظيم الذي يفرضه القياس. هذه الصيغ القوية تبقى خارج القاعدة. وتدين بمقاومتها إلى شيوع استعمالها الذي يبقي عليها حية في الذهن ولا يطيق لها تغييرا. وهي تفرض نفسها بخصائصها الفردية، وإن كانت هي نفسها في أغلب الأحيان غير جديرة بأن تصير مثلا وأن تتخذ أساسا لعمل قياس. وهكذا كانت أشيع الأفعال استعمالا من الأفعال القوية بوجه عام في جميع اللغات، أي من الأفعال الشاذة. وفعل الكينونة أكثرها شذوذا لأنه أوسعها استعمالا، فالمقابلة بين IL EST "يكون" وils sont, "يكونون" موغلة في القدم، وتذكرنا في الصورة التي تعطيها إياها الكتابة على الأقل بمسلك للتصريف الهندي الأوربي لم تحتفظ به الفرنسية إلا هنا, وكان في اللاتينية بقايا من هذا النوع في أفعالها الكثيرة الاستعمال أما الفرنسية فلم يبق فيها إلا فعل الكون "etre" الذي لا يبدو أن هناك ما يهدد شذوذه. ليس معنى ذلك أن الصيغ القوية لا تستسلم للوهن مع الزمن. ففعل الكون في كثير من اللغات تبدو عليه آثار من عمل القياس عدلت من تصريفه، فصيغة الشخص الأول jestem "أكون" في البولونية قد عدلت على غرار الشخص الثالث Jest "يكون"؛ ولكن هذا العمل محدود على وجه العموم ولا يعوقه فعل الكون عن الاحتفاظ بمظهره الشاذ في مجموعه. واللغات الغنية بالتصريف القوي كالألمانية، أمامها مجال واسع للاحتفاظ به زمنا طويلا؛ لأن الصيغ الشاذة يسند بعضها بعضا. أغلب الظن أن اللغة تقضي على بعض هذه الصيغ شيئا فشيئا لتردها إلى القاعدة. إذ يمكننا أن نقيد قائمة كاملة بأفعال قوية صارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ضعيفة في القرون الأخيرة, وعددها في زيادة دائمة؛ لأن الصيغة الضعيفة التي تدخل في الاستعمال بجانب صيغة قوية تنتهي بالتغلب عليها, فبعض اللهجات تقول: ich verlierte "هكذا بالتصريف الضعيف" "فقدت" بدلا من ich vetlor "بالتصريف القوي"، ich sprangte "وثبت" بدلا من ich sprang "وثبت" وich fangte "أخذت" بدلا من ich fing وgefangt "مأخوذ" بدلا من gefangen. أما الحاضر الإخباري والأمر فقد انتهيا من تسوية تصريفهما في كثير من الأفعال، فالآن لم نعد نقول من: fliegen "السرقة" du fleugst "تسرق" er fleugt "يسرق" ولا من lugen "الكذب" du leugst "تكذب" er leugt "يكذب"، ويقال في بعض اللهجات nam "خذ" وhalf "ساعد" بدلا من nimm وhilf. وفي منهيم Mannhiem يقال: ich geb "أعطي" وdu gebsch "تعطي" وer gebt يعطي بدلا من ich gebe وdu gibst وer gibt1. وفي الإنجليزية حيث أثر القياس كان أشد عملا لا يوجد إلا عدد محدود من الأفعال القوية، هذا إلى أن ذلك العدد في تناقص مستمر، إذ نقرأ في Pickwick papers نقرأ على لسان مزخرف نزل هوايت هارت "he know'd nothing about parishes":white Hart "بدل knew" "إنه لا يعرف شيئا عن الدوائر القسسية", وكذلك the ghost "بدل when he saw"؛ ven he seed "عندما رأى الشبح ", إلخ. ومع ذلك فهذه الأفعال من أكثرها دورانا على الألسن. وأحيانا يعمل القياس عمله داخل تصريف بعينه, ففي الألمانية يقال في المفرد wurde "صار" بدلا من ward، قياسا على الجمع wurden "صاروا" وقد تم توحيد التصريف في الماضي غير التام الألماني في وقت مبكر، وكانت الغلبة فيه لحركة الماضي بوجه عام. إذ يقال wir warfen "كنا نرمي" قياسا على ich warf "كنت أرمي" "في الألمانية العليا القديمة wurfum, warf"؛ wir zogen "كنا نحدث" قياسا على ich zog "كنت أحدث"   1 بهاجل Behaghel. رقم 144، ص247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 "في الألمانية العليا القديمة: zoh, zu gum". وإذا كان الزوج: ward وwurden قد بقي إلى يومنا هذا فمرجع ذلك إلى أهمية الفعل werden "يصير" وإلى كثرة استعماله، وإذا كان الزوج: wurde, wurden قد خلق على هذا النحو مشتملا على نهاية الأفعال الضعيفة في حالة المفرد، فذلك تحت تأثير الأزواج: hatte, hatten "كان يملك، كانوا يملكون" وwollte, wollten "كان يريد، كانوا يريدون" وmusste, mussten "كان يلزمه، كان يلزمهم" إلخ", وهي أفعال تستعمل في بعض الأحيان أفعالا مساعدة. وليس معنى ذلك أننا لا نجد في تاريخ اللغات الجرمانية صيغا قياسية من نوع wurde. ففي الألمانية العليا القديمة، عندنا من الفعل beginnan "يبتدئ" الماضي غير التام bigonda أو bigunda "كان يبتدئ" وذلك إلى جانب bigan الأقل منهما استعمالا. ومن fundan "يجد"، تستعمل السكسونية القديمة الصيغة funda "كان يجد" في الماضي غير التام إلى جانب fand، كذلك تستعمل الإنجليزية القديمة funde في المفرد قياسا على الجمع fundun. ومع ذلك فخلق wurde جاء مستقلا عن هذه كلها. فكل حالة من الحالات الناشئة من أثر القياس تستدعي علاجا مستقلا؛ وإذا أردنا أن نفهم معنى القياس وجب أن نبحث عن النقطة التي يبدأ منها صدوره. نقطة البدء هذه تنحصر دائما في شكل من الصيغ موجودة في اللغة. وليس مدار الأمر هنا حول تنفيذ خطة كاملة يسعى العقل إلى تحقيقها على خطوات متتابعة. نعم. قد يكون من نتيجة العمل القياسي في بعض الأحيان التقليل من عدد الصيغ الشاذة، أي إضعاف النوع القوي, ولكن ذلك ليس قاعدة مطردة, فقد يحدث أن بعض الأفعال القوية تفرض نفسها إلى حد أن تتخذ نماذج وتجذب إليها بعض الأفعال الضعيفة. وفي أغلب الأحيان توجد بواعث خاصة لتبرير القياس وقد وقع ذلك أكثر من مرة في الألمانية حيث يشتمل التصريف القوي على فصائل عديدة واضحة الحدود, فالصيغة: ich frug "سألت" من fragen ابتكار قياسي قديم، وإن كان في سبيل الفناء، غير أننا نجد في لهجات عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ich jug "صدت" من jagen، وich kuf "اشتريت" من kaufen، إلخ. فهذه الأفعال دخلت في الفصائل المطردة للأفعال القوية, وعلى العكس من ذلك في الإنجليزية كما في الفرنسية ليست الأفعال القوية في الحقيقة إلا شواذ، وإلا مستثنيات منعزلة لا تكون نظاما يستطيع أن يؤثر على المتكلم, غير أنه قد يحصل أن تدخل هذه الأفعال الشاذة في مجاميع تتكون كل منها من فعلين أو من ثلاثة, فتقوى وتتساند بذلك، ومثال ذلك في الفرنسية الفعلان pondre "يبيض" وtonre "يجز" اللذان لم يكن بينهما أية صلة في الأصل "أصلاهما اللاتينيان tondere, ponere ينتسبان إلى نوعين مختلفين من التصريف" ولكنهما أصبحا يتبعان طريقة واحدة في التصريف, وكل ذلك ليس له من المنطق إلا حظ يسير. "فالعقل، وطبعه عدم الثبات، لا يتابع سيره في خط مستقيم. لماذا؟ لأنه يسعى لاقتناص الأقيسة؛ لأنه -وهو الذي لا يأبه للصلات الحقيقية بين الأشياء- يجري وراء علاقات خارجية, وهو في مسيره هذا لا يعرف دائما أين يذهب". هذه الفكرة لجان بول Jean Pual "في Tegebuch؛ 9 أغسطس 1782" يمكن تطبيقها على العملية التي ندرسها هنا, وأغلب الظن أن مرجع ذلك في الأصل الاتجاه إلى جعل الصيغ المختلفة صيغة واحدة، وهذا الميل نفسه يرجع إلى كسل طبيعي في العقل, ولكن هذا الميل إلى التوحيد لا يعد ميلا إلى التخصيص كما قيل في بعض الأحيان, إذ إن التخصيص قاعدة منطقية تقضي بأن يعبر بعلامة واحدة عن كل وظيفة نحوية وأن تعبر كل علامة عن وظيفة نحوية واحدة, وهو نوع من التطبيق المثالي للنحو على المنطق, ولقد رأينا فيما تقدم ما يمنع من تحقيق هذا المثل الأعلى, فالعقل لا يغير مطلقا نظامه الصرفي تغييرا كاملا، ولا يوجه مجهوده في الوقت الواحد إلا إلى جزء من النظام يعد جد ضئيل. ولما كان الأثر الواقع منه على الأجزاء المختلفة لا تقوده مطلقا إرادة منفذة لخطة منهجية، بل كان تابعا لوحي المصادفة والظروف المختلفة، كانت النتيجة في مجموعها خالية على وجه العموم من الترابط والتجانس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وتاريخ الزائدة ER في الألمانية من أقوى الأدلة على ذلك1. فهذه الزائدة التي يتميز بها عدد كبير من جموع الكلمات المحايدة ليست في حقيقة أمرها إلا لاحقة عممها القياس. ذلك أن بعض الفصائل المحايدة في الهندية الأوربية كانت تتميز باللاحقة ES التي نعثر عليها في اللاتينية "في صورة ER" في إعراب الكلمات من فصيلة GENUS "جنس" وجمعها GEN-ER-A إلخ. ففي الألمانية التي فيها يتغير حرف الصفير أيضا في مثل هذه الحالة إلى R, وجدت الكلمات المحايدة التي من هذا القبيل مزودة بنهاية جديدة ER وذلك بعد سقوط النهايات القديمة, وهذه النهاية الجديدة قد استطاعت أن تجعل الجمع مختلفا عن المفرد، ومن ثم صارت علامة مميزة للجمع. فهي إذن كانت زائدة قوية التعبير تحرص اللغة على ألا تفقدها، فمدتها بطريق القياس على عدد كبير من الكلمات المحايدة التي لم تكن في الأصل من الفصائل المحتوية على ES، فقياسا على KALB "عجل" التي تجمع على KALBER والتي تنتمي إلى فصيلة ES أمكن أن يجمع HAUS "بيت" على HAUSER وBUCH "كتاب" على BUCHERوFASS "برميل" على FASSER وGLAS "كوب" على GLASER وGELD "نقد" على GELDER وWORT "كلمة" على WORTER ومع ذلك فقد بقي عدد لا بأس به من الكلمات المحايدة التي تجمع على غير ذلك من MASS "مقياس" وجمعها MASSE وROSS, "حصان" وجمعها ROSSE وAUGE "عين" وجمعها AUGEN، إلخ. ومن جهة أخرى نعثر على الزائدة ER في بعض الكلمات المذكرة مثل: RAND "حافة" وجمعها RANDER وGOTT "إله" وجمعها GOTTER وWURM "دودة" وجمعها WURMER، إلخ. ومعنى ذلك أن القياس لم ينجح في إعطاء الزائدة التي خلقها وظيفة واحدة. وما الرأي في اللغات الصناعية المبنية على خطة منطقية قد وضعت مقدما، هذه اللغات غير ممكنة الوقوع إلا إذا كانت لغات خاصة: لغات فنية أو لوائح علامات. ففي هذه الحال يكفي الاتفاق بين الأشخاص المعدودين الذين يستعملونها   1 شتريتبرج STREITBERG، رقم 210، ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 للاحتفاظ بها كما خلقت دون تغيير, ولكن لا ينبغي لها أن تصير لغات حية؛ لأنها حينئذ لا تلبث أن يعتريها التغيير، فتنشأ بين الصيغ خلافات في القيمة، وتتغلب بعض الصيغ على بعضها الآخر، ويعمل قانون القياس عمله، وتحل الفوضى محل النظام الجميل. فالصيغ ذات الغلبة تصير مراكز إشعاع قياسي، وتجذب إليها غيرها من كل جانب لأسباب متنوعة، بعد ذلك توجد خطط قياسية متضاربة متقاطعة، لا يستطيع عقلنا القاصر أن يوفق بينها, ذلك أن اللغة المثالية حلم من الأحلام. تذكرنا ببستاني بذر في بقعة منظمة الأرجاء بذورا متماثلة كل التماثل وأخذ يولي كلا منها قدرا متماثلا من عنايته أملا منه في أن تنبت حديقته أشجارا متساوية الحجم تجري على نظام واحد وتثمر عددا متساويا من الأزهار والأثمار, بل إن هناك كثيرا من الأسباب التي تجعل الظروف البيولوجية تحيد عن سمتها، ومن هذه الأسباب ما يعلو على قدرة الإنسان؛ وكذلك الحال في اللغويات التي يقف فيها القياس في غالب الأحوال موقفا مغايرا للمنطق، على الرغم من أنه ينبعث من الحاجة إلى التوحيد ويستخدم التعليل العقلي بطريقة ترضي العقل1. الحاجة إلى التعبيرية كالحاجة إلى التوحيد من الحاجات التي لا تسد، ولكن العقل بسعيه إلى سدها يصلح من البلى الذي يلحق بالصيغ، وبالتالي يغير الصرف. في أثناء التطور الصوتي للغة من اللغات، تتآكل بعض العناصر الصرفية حتى تصبح غير صالحة للاستعمال، بل قد تبتر في بعض الأحيان بترا تاما. وعندئذ يجب ترميمها أو إحلال غيرها محلها. فإذا كانت اللغة من اللغات المعربة كاللاتينية وكانت الإصابة فيها واقعة على نهايتها "انظر ص88" وجب أن يتناول الترميم الإعراب بأسره. فالبقايا الصرفية التي يبقي عليها فعل القوانين الصوتية يندر أن   1 راجع عن اللغات الصناعية كوتورا وليو GOUTURAT ET LEAU, رقم 60 ورقم 10 سنة 1908، ص716، سنة 1911، ص509، وسنة 1912، ص1. انظر أيضا مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، سنة 1912، ص47-84. وانظر مناقشات BOUDOUIN DE COURTENAY للاعتراضات التي أثارها ترجمان ولسكين BRUGMANN ET LESKIEN. في ZUR KRITIK DER KUNSTLICHEN WEITSPRACHEN. ستراسبرج "1907" ومجدها في رقم 34. مجلد 4, ص385، وقارن رقم 22، ص365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 تكون على درجة من التعبيرية تجعلها صالحة للبقاء على ما هي عليه؛ لذلك نرى إعراب الاسم يختفي شيئا فشيئا في اللاتينية العامية في القرون الأولى من التاريخ المسيحي. ولم يبق منها من كل أنواع الإعراب إلا المخالفة بين الفاعل والمفعول التي بعثت بعد ذلك بفضل عملية القياس. كذلك تصريف الفعل في اللاتينية الحديثة يدين بمقدار كبير إلى القياس. والعلامتان الفرنسيتان ONS, EZ اللتان تميزان جمع المتكلم والمخاطب نتيجة لامتداد قياسي. كذلك الزائدة ISS في التصريف FINISSONS "ننتهي" وFINISSEZ "تنتهون" وFINISSAIS "كنت أنتهي" ليست إلا اللاحقة اللاتينية ISC الدالة على الابتداء والاستمرار، قد أخذت من بعض الأفعال وطبقت على هذه الفصيلة من التصريف وصارت رمزا لها. والزائدة U في أسماء المفاعيل EU "مملوك" "قديما EVU" وVU "مرئي" "قديما VEU" وLU "مقروء" وTENU "ممسوك" وROMPU "مفصوم"، إلخ قد جاءت من نهاية اسم المفعول اللاتينية utus، وهي صيغة نادرة الأمثلة في اللاتينية ولكن كان من اللازم في كل هذا إصلاح ما فقد بفعل البلى الصوتي، فأسماء المفاعيل القديمة Habitus وuisus وlectus وtentus وruptus إلخ، لم تظهر أو ما كان يمكن أن تظهر في الفرنسية في صورة خالية من التعبير الصرفي, ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى الامتداد القياسي لنهاية معبرة. ولكن كل ذلك لم يكن كافيا، ولقد كان من العسير محاولة مد جميع الفصائل النحوية بالتعبير بمجرد إنعاش التصريف اللاتيني بتطعيم قياسي؛ لذلك تدخلت عملية أخرى تنحصر في زيادة أهمية الحروف وفي التوسع في الأداة وفي استعمال الضمائر، وبالاختصار في خلق نظام بأسره من الكلمات المساعدة تستعمل استعمال العناصر الصرفية؛ لذلك نرانا اليوم نقول la soeur "الأخت" وde la soeur "بتاع" الأخت" وa la soeur للأخت "أو" إلى الأخت" أو je lis "أقرأ" وtu lis "تقرأ" وil lit "يقرأ" بينما كان اللاتينيون يقولون: soror وsororis وsorari وlego وlegis وlegit1.   1 ومعنى هذا أن اللغة الفرنسية تستعمل أدوات في حالات تستعمل فيها اللاتينية علامات الإعراب. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأصل التركيب الفرنسي موجود في اللاتينية على وجه التأكيد حيث تختص الحروف مثلا باستعمالات عديدة، بل وكثيرا ما تستخدم لشد أزر علامات الإعراب، غير أن a "إلى, ل" وde "من أو "بتاع" في الفرنسية رمزان نحويان يخلوان من كل قيمة ذاتية على عكس ad "إلى, ل" وde "من" في اللاتينية فقد احتفظتا بقيمة ظرفية واضحة. ومع ذلك فإن ad وde كانتا في اللاتينية عنصرين صرفيين منذ زمن طويل. لم تكتف الفرنسية بالحروف اللاتينية، فاضطرت إلى خلق حروف جديدة ففضلا عن التراكيب الظرفية أو الحرفية اللاتينية من مثل dans "في" وapres "بعد" وsous "تحت" وavec "ب" إلخ, استعملت كلمات أخرى موجودة في اللغة, فأخذت chez "عند" من الاسم اللاتيني cosa "بيت"؛ وما زلنا نجد في بعض الأقاليم الفرنسية أسماء أماكن من مثل chez, chez Rolland, pierre "بيت بيير وبيت رولاند". كما أن بعض أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات قد صارت حروفا حقيقية، مثل: pendant la nuit "أثناء الليل، أو في الليل" وvu les circonstances "نظرا للظروف "حرفيا منظورة الظروف"" nonobstant la defense "رغم الدفاع "حرفيا: الدفاع غير مانع"" excepte le dimanche "عدا الأحد" "حرفيا: الأحد مستثنى"". وmalgre la pluie "رغم المطر "حرفيا: مرغم المطر""، sauf erreur "عدا الخطأ" وplein la rue "ملء الشارع "حرفيا ملئ الشارع"". ونجد حالات مماثلة في عدد كبير من اللغات. فالتعبير عن حالة الإضافة يدل عليه في بعض لغات الهند الحديثة "كالسنغالية مثلا" بواسطة العنصر ge "ج" وهو العبارة المكانية السنسكريتية القديمة grhe "في البيت" وذلك كما لو قلنا في الفرنسية le livre chez pierre "الكتاب عند بيير" بدلا من le livre de pierre "الكتاب "بتاع" بيير" والزائدة الإعرابية المجرية vle التي يعبر بها عن الآلة والتي يمكن ترجمتها بالحرف الدال على الآلة "ب" مشتقة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كلمة مستقلة قديمة في حالة مفعول الآلية، وهي vayl أو vayd "بقوة، بواسطة". وفي الإنجليزية تعتبر الكلمات التالية حروفا حقيقية: concerning "خاصا بـ" وpast "بعد "حرفيا: ماض"" "half past two" "الساعة اثنتان ونصف. "حرفيا: نصف بعد اثنتين"" وفي الألمانية الكلمتان trotz "برغم" وbetreffend "خاص بـ" وفي الدنمركية الكلمة undtagen "ما عدا" إلخ. كل هذه الكلمات صارت "كلمات فارغة" بالمعنى المعروف في الصينية "انظر ص116". ذلك أننا إذا تركنا عملية القياس جانبا نجد الصرف يستعيض في الواقع عن خسائره بتحويل الكلمات المليثة إلى كلمات فارغة. فالأدوات النحوية التي تستعملها اللغات ليست إلا بقايا من كلمات مستقلة قديمة، أفرغت من معنها الحقيقي واستعملت مجرد موضحات أي مجرد رموز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وفي الألمانية: man sagt "كما في الفرنسية تماما"، وفي البريتنانية: neuz ket den "لا يوجد أحد"، وفي الأرمينية marth egav "هل جاء أحد؟ " وقد تعبر عن المعرف: "في الغالية: y gwr "هذا الذي، الذي"". الأفعال التي تسمى بالأفعال المساعدة كلمات مفرغة أيضا. ففي الإنجليزية فعل to do "يفعل" تستعمل أداة نحوية للاستفهام مثل do you see "هل ترى؟ " وللنفي مثل I do'nt see "لا أرى" وتستعمل الألمانية الفعل Thun "يفعل" استعمالا مشابها، في بعض اللهجات على الأقل مثل: er tat schiessen "أطلق "عيارا ناريا"" en tut sich wenden "استدار". والأفعال التي تستعمل أفعالا مساعدة هي غير الأفعال في كل اللغات بوجه عام. ففكرة "Vouloir" "يريد" أو devoir "يجب" تميل دائما إلى التعبير عن العرضية، عن الاستقبال "انظر ص199"، وفكرة "tenir" "يشغل" و"accouper" "يحتل" تستعمل للدلالة على الحدث المنتهي، ومن ثم التام. ومن هنا جاء في الإنجليزية I will go "سأذهب" وI shall find "سأجد" وفي الأرمينية الحديثة: bidi anem "سأفعل" وفي الفرنسية: j' ai conquis "افتتحت" وich habe gedacht "فكرت" في الألمانية ... إلخ. وإذا كنا في الكتابة نفصل الكلمة الفارغة عن الكلمة المليئة التي تصحبها، فتلك عادة كتابية محضة. يوجد في الفرنسية حالات تم فيها التحام الكلمتين، فصارت الكلمة الفارغة لاحقة من اللواحق. ففيها المستقبل والشرطي J' aimerai "سأحب" وje lisais " ... "ل" قرأت" وهما مأخوذان من تراكيب لاتينية متأخرة مثل: legere habebam وamare habeo. وظروف الحال عندنا تتكون بواسطة اللاحقة ment مضافة إلى الصفة، وهذه اللاحقة ليست شيئا آخر غير صيغة مفعول الآلية mente من كلمة mens "عقل". ونجد في اللاتينية منذ القرن الأول قبل الميلاد استعمالات لكلمة mente تعلن عن هذه الوظيفة، وظيفة التعبير عن الحال مثل: constanti mente وObstinata mente وLiquida mente "كاتول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فذلك الشيء نفسه قد وقع في الفرنسية بالنسبة لأداة النفي. ونحن نعرف إلى أي حد تسري عدوى النفي إلى الكلمات التي تلامسه. فالكلمات aucun "لا أحد" وPersonne "لا أحد" "وذلك في صدد النفي ومعناها في   1 بول شوري paul shorey، رقم 20، جـ5 "1910"، ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الإثبات: "شخص"" DU TOUT "بالمرة" من خير المثل في الفرنسية لما حدث في الإسبانية للكلمة NADA "لا شيء" "من: REM NATAM" ففي الفرنسية قيل في النفي أولا: JE NE VOIS POINT "لا أرى نقطة" je ne mange mie "لا آكل كسرة" وje ne marche bas "لا أمشي خطوة" je ne bois goutte "لا أشرب قطرة" إلخ. ففي كل هذه الجمل يعبر عن النفي بالأداة ne "لا" أما الكلمات المعمولة "المفاعيل: نقطة، كسرة ... إلخ" فإن معنى الجملة نفسه يبرر وجودها. غير أن قيمة النفي سرت في هذه المعمولات إلى حد أن أماتت قيمتها الحقيقية وصارت الكلمة، بعد أن أصبحت نفيا، تستعمل مع أي فعل لنفي أي حدث "أي ولو لم يكن فعل الرؤية أو الأكل أو ... إلخ" بقي من هذه الكلمات كلمة Pas "أصل معناها: "خطوة"" وكلمة point "أصل معناها "نقطة"" تستعملان أداتي نفي، ولكنهما لا يستويان في الاستعمال، أما goutte "أصل معناها "قطرة"" فقد بقيت في عبارات معدودة je n'entends goutte" لا أسمع مطلقا "حرفيا: لا أسمع قطرة"" je ce vois goutte "لا أرى مطلقا "حرفيا: لا أرى قطرة"" وmie "فتات، كسرة" اختفت تماما من لغة الكلام، ولكن الناس استمروا زمنا طويلا يقولون: je ne dors mie "لا أنام مطلقا "حرفيا: لا أنام كسرة"" وje ne souffle mie "لا أتنفس مطلقا "حرفيا: لا أتنفس كسرة""، وقد كان ذلك يصبح مستحيلا لو أنه بقي في شعور المتكلم شيء، مهما كان قليلا، من المعنى الحقيقي لهذه الكلمات. قبل أن تصير الكلمة مجرد لاحقة، تتفرغ من معناها الحقيقي شيئا فشيئا وبطريقة غير محسوسة. ويمكننا أن نلاحظ الطريقة التي يتم بها هذا العمل في اللغات التي لا زالت تمارس التركيب بصورة عادية. فقد صاغت الألمانية مثلا عددا كبيرا من الكلمات المركبة بواسطة كلمة mann "رجل" مثل: Bergmann "معدن "عامل مناجم"" وDienstmann "فاعل "العامل الذي يشتغل في الأعمال اليدوية"" وfuhrmann "حوذي" وkaufmann "تاجر" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وكذلك الحال مع كلمة Frau "امرأة" فيقال Hausfrau "خادمة" وWaschfrau "غسالة". فهذه كلمات مركبة تركيبا حقيقيا وتحس على أنها كذلك. غير أن وجود كلمتي Mann "رجل" وFrau "امرأة" منعزلتين يجعل السامع يحس التركيب بعض الشيء. وكون الكلمات التي يدخلان في تركيبها تجمع بواسطة Leute "ناس" فيقال: Dienstleute "فعله" وkaufleute "تجار" يقوى هذا الشعور. ومع ذلك فمن المؤكد أن عناصر التركيب تلك ليس لها في العقل نفس الأهمية فالنبر الذي يقع على أول العنصرين يقلل من شأن الثاني بالنسبة للأول، والنبر هنا يسير مع المعنى أولا وقبل كل شيء. ذلك أن العنصر الأول هو عنصر الكلمة الدال، وقيمة الثاني قيمة صرفية على وجه الخصوص. فنحن في الفرنسية نترجم الكلمات Bergamann "عامل مناجم" وFuhrmann "حوذي" وKaufmann "تاجر" بالكلمات mineur وvoiturier وnegociant، أي بوضع لاحقة بسيطة مكان الطرف الثاني من المركب الألماني، لاحقة لها نفس القيمة التعبيرية. أغلب الظن أننا لا نستطيع أن نقول بأن العنصر الألماني Mann لاحقة، ولكنه صائر إليها، ولعله يصير مع ذلك بكل ما تتميز به اللاحقة, فالعنصر الأول يجذب إليه التفات العقل كله، والثاني يقنع بدور لا يكاد يزيد عن دور اللاحقة1. نعثر في الألمانية على لواحق عدة خلقت بهذه الصورة. فقد كان يقال في الألمانية العليا القديمة ni scouuous the heit manno"؛ non respicis personam hominum" "إنجيل متى 22/ 15" ثم أخذت كلمة heit تدخل في التركيب، مثل: man-heit "الإنسانية" vip-heit " النسوية، النساء". وأخيرا أصبحت اليوم لاحقة من أشيع اللواحق "Mansch-heit "الإنسانية"، Schonheit "الجمال" إلخ". ويمكننا أن نجد نفس الطريقة إذا تتبعنا نشأة اللاحقين lich أو tum. فالأولى اسم قديم معناه "جسم، شكل" ولا يزال محتفظا به حتى اليوم في Liechnam "رمة" وLeichdorn "جسم في القدم   1 جانسمان Ganzmann: رقم 164، ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 "كالو""، ونجده في gleich "الذي له نفس الشكل، مشابه", وصار لاحقة في صورة lich في weiblich "الذي له صورة المؤنث" وleiblich "ما له صورة محببة", إلخ. واللاحقة tum نجدها اسما مستقلا في القرن التاسع في قصيدة أتفريد otfrid "في صيغة duam "حدث، وظيفة""؛ ثم قيل rihhiduam "امبراطورية"، "يعبر عنها الآن بـreichtum", ثم على سبيل التوسع، Deutschtum "الألمانية" وyankeetum "الأمريكانية" إلخ. ونعثر على هذا الاتجاه بعينه في الإنجليزية القديمة حيث نجد wefhad "النسوية" تقابل vip-heit في الألمانية القديمة، وcynedom "اليوم kingdom" تقابل konigtum "الملكية" وworoldic "اليوم worldly" تقابل weltlich "دنيوي". الكلمات التي صارت لواحق بعد أن أفرغت من معانيها الحقيقية، أخذت قيمة تجريدية جعلتها قابلة للتعبير عن فصيلة صرفية. فبعضها مثلا يعبر عن الصفة، وبعضها عن الحالة: بعضها يميز أسماء الحدث، وبعضها أسماء الفاعلين. هذه القيمة التجريدية لا تمنعها بعد أن نشأت من أن تتلون بألوان من العاطفة. فاللاحقة ard التي أخذتها الفرنسية من الجرمانية حيث تستعمل عنصرا ثانيا في بعض أسماء الأعلام المركبة "Richard, Eberhard, Bernhard"، هذه اللاحقة اتخذت في الفرنسية دلالة تهكمية؛ هذه الدلالة نشأت بعملية القياس، ولكن بعض الكلمات نجت من هذا القياس "مثل buvard "نشاف" foulard "منديل" فاحتفظت فيها اللاحقة بقيمتها العامة التجريدية التي لا يخالطها أي لون انفعالي. وهذا يدل على أن هذا اللون الانفعالي طارئ. الميزة الحقيقية للكمة الفارغة هي التجريد. فكلما أوغلت اللاحقة في صيرورتها كلمة فارغة، زادت قيمتها التجريدية إلى حد أن بعض دوال النسبة تنتهي إلى أن تصير مجرد رموز جبرية لا يمكن ترجمتها إلى لغة أخرى، وهذه حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 هذه الفقرة تسحب إسكانر؟؟؟؟؟؟؟؟ عندنا مثال من خير الأمثلة التي تلخص عمليات تكوين دال النسبة، وذلك في أداة الاستفهام الفرنسية ti "تي". جاستون باري Jaston paris أول من لفت الأنظار إلى أهمية هذه الأداة الكثيرة الاستعمال في اللغة المعاصرة1. فعبارة il aime "يحب" "وتنطق إيلَيم" "المسند فيها الفعل إلى ضمير الغائب المفرد إذا جعلت استفهاما كانت تصير في الفرنسية الوسطى aime-il؟ "هل يحب؟ "وتنطق: إيميل"" وكانت تستعمل على هذا النحو حتى أوائل القرن السابع عشر. وتحت تأثير جميع الغائب الذي ينتهي فعله بحرف التاء "ils aiment "يحبون" وتنطق إيلزيم؛ aiment-ils؟ "هل يحبون؟ " وتنطق إيمتيل" أقحم حرف التاء في صيغة المفرد عند الاستفهام لحفظها من الفناء الذي ينجم عن عدم التعبيرية. ومن ثم جاءت aime-t-il "إيمتيل" التي هي نتيجة لخطوة أولى في التوسع. غير أن الغائب مفردا وجمعا قد صار بهذه الوسيلة مميزا في حالة الاستفهام بالنسبة للشخصين الآخرين. فإن التاء لا توجد إلا في صيغة الاستفهام -إذ إن النطق في غيره em إيم "ils aiment, il aime" دائما في كلتا الحالتين- فصارت هذه التاء في الواقع علامة للاستفهام حرمت منها الأشخاص الأخرى "aime-je" "هل أحب"، aimons-nous "هل نحب"، aimet-tu "هل تحب" aimez-vous "هل تحبون". وأصبح المفرد المتكلم" "aime-je" في حالة نقص بين هذه الأشخاص بسبب ظروف صوتية، بل أصبح مبعدا في بعض الأحوال إبعادا واضحا وذلك في مثل "cours-je "هل أجرى؟ " وlis-je "هل أقرأ؟ " وpars-je "هل أنطلق؟ " وsers-je "هل أخدم؟ ", إلخ، وتعرض شخصان آخران، هما aimons-nous "هل نحب؟ " وaimez-vous "هل   1 رقم 18، مجلد 6، ص438، وقارن مجلد 7، ص599. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 تحبون" للالتباس بصيغة الأمر من الفعل المطاوع ولذلك فقدا جزءا كبيرا من قيمتها التعبيرية وقد كان ذلك ربحا لصيغة الشخص الثالث الاستفهامية التي أصبحت بها واضحة مع قصرها، ثم صار يستعمل أيضا مع الفعل مسندا إلى الظاهر مثل: pierre aime-t-il? "هل بيير يحب؟ " يزيد على ذلك أن نهاية الجملة il "إيل" صارت تنطق i "إي" تبعا لعملية صوتية معتادة "قارن coutil "نوع من النسيج" وnombril "سرة" وpersil "بقدونس" "وفيها جميعها لا تنطق اللام الأخيرة" فانقطعت بذلك الصلة التي تربطه بالضمير "il aime "إيليم"، aime-ti? "إيم تي" أو كان ذلك على الأقل في حالة ما إذا كان الفعل يبدأ بحرف حركة. وعلى ذلك صار يأخذ شيئا فشيئا قيمة عنصر مستقل أصبح خاصا بمعنى الاستفهام. وأخيرا ساعد على انتشار ti "تي" الاستفهامية وأكد نجاحها الميل الطبيعي في اللغة الفرنسية لوصل الفعل بضمير الفاعل بعروة وثيقة لذلك تقل الحالات التي يفصل فيها بينهما شيئا فشيئا: فبدلا من أن يقال je ld dis "أقوله" وtu le sais "تعرفه" "بالفصل بين الفعل والفاعل بضمير المفعول يقال في لغة الكلام je dis ca "أقول ذلك" وtu sais ca "أنت تعرف ذلك". وهكذا أصبحنا نتوقع اللحظة التي لا يفصل فيها بين الفعل وبين الضمائر: Je "أنا" وtu "أنت" وIl "هو" وnous "نحن" وvous "أنتم" وils "هم". ومن ثم صارت دلالة القلب "يعني تقديم الفعل وتأخير المسند إليه" على الاستفهام تتناقض شيئا فشيئا. وأصبح العنصر ti "تي" pierre, aime ti? "بيير، أيحب؟ " من أبسط العبارات وأنسبها في الدلالة على الاستفهام, فعممت في il aime-ti? "هل يحب؟ " ثم في j'aime-ti؟ "هل أحب؟ " وtu aimet-ti "هل تحب؟ " nous aimons-ti "هل نحب؟ " ces enfants s'aiment-ti "هؤلاء الأطفال، هل يحب بعضهم بعضا؟ " دون تغيير في نظام الفاعل والفعل الذي تتمسك به اللغة تمسكا قويا. فأداة الاستفهام ti "تي" تدين إذن في انتشارها إلى سلسلة من خطوات التوسع القياسي، ساعدتها في كل واحدة منها ظروف خاصة فأصبحت اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 رمزا تجريديا ذا صبغة عامة، إذ إنه يطبق على أنواع الجملة الاستفهامية كلها دون تمييز, وذلك هو رمز الاستفهام الوحيد الذي كانت اللغة الفرنسية في حاجة إليه. وقد رأينا كيف وصلت إلى خلقه وبأي قدر من المهارة المرنة الملحة قد خلقته. ولم يكن في الفرنسية تقاليد كتابية، ولو لم تكن اللغة تتلقى وتكتب اليوم على نحو ما يفعل بلغة قوم متبربرين، ما أتيح لنا أن نرى الأداة ti تفصل عن الفعل الذي يسبقها. ولصرنا نكتب كلا من العبارتين: j.htm'aime-ti "هل أحب" وj'aime-ti pas "ألست أحب" في كلمة واحدة هكذا Jemti "جِمَتِي" jemtipa "جَِمْتيبا" ولاعتبرت أداة الاستفهام وكذلك أداة النفي عنصري بناء أي لاحقتين على قدم المساواة مع اللواحق وعلامات الإعراب في الإغريقية واللاتينية. ولفقدنا كل وسيلة للكشف عن أصل ti "تي" أو pa "با"، ولاعتبرناهما أداتين نحويتين مجردتين من كل معنى ذاتي. ولعل الإعراب في الهندية الأوربية والسامية إنما نشأ من إلصاق عناصر مستقلة التكوين إلى الأصل، وهي عناصر كانت تحوم حوله ثم التحمت به على مرور الزمن1. ولكنها نجهل نقطة البدء التي تصدرت عنها. ولعله من العبث أن نحاول البحث عن الصيغة والدلالة البدائيتين لعلامة الإسناد في المتكلم الجمع أو مفعول الأداة، أو عن لاحقة الفعل الدال على الابتداء فالاستمرار أو الاسم المجرد. ولكن يمكن التأكيد بأن هذه العناصر التصريفية نتجت من امتداد قياسي لكلمات قديمة مستقلة، بعد أن شوهت تشويها قليلا أو كثيرا، ونزلت إلى حد الاقتصار على أداء دور الأدوات النحوية. فالنظم الصرفية لا تتجدد بغير هذه الوسيلة.   1 انظر خاصة هرت Hirt رقم 30، مجلد 17، ص36 وما يليها، وكذلك هـ. أورتي H. oertei وا. ف. موريس E.F. morris في: A'm examination of the theories regarding the nature and origin of Info-European inflexion. "رقم 22، مجلد 16، ص63-122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الجزء الثالث: المفردات الفصل الأول: طبيعة المفردات ومدا ها 1 لم ندرس فيما تقدم حتى الآن الكلمات من ناحية قيمتها المعنوية، أي من ناحية المعنى الذي تعبر عنه مستقلة عن الدور الذي تلعبه في الجملة. ومع أن دوال النسبة تكون مع دوال الماهية في غالب الأحيان جسما واحدا إلى حد يجعل تحليل الكلمة أمرا مستحيلا "انظر ص122"، فإن الصرف مستقل عن قيمة الكلمات المعنوية وقيمتها الصوتية على السواء. وما نسميه بالمفردات هو مجموع الكلمات في إحدى اللغات باعتبار قيمتها المعنوية. فهذه النظم الثلاثة. نظام النطق ونظام الصيغ النحوية ونظام المفردات تستطيع أن تصور منفصلة كل منها عن الآخرين، تحت تأثير أسباب مختلفة. وبعض اللغات تحدد مفرداتها دون أن تغير شيئا من صوتياتها أو من نظامها الصرفي. فنجد مثلا في الأردية الأدبية وهي فروع من الهندستانية " جملا بأسرها ليس فيها من الهندية إلا النظام النحوي، أما الكلمات فكلها فارسية. والغجر الأرمينيون يستعملون لغة أرمينية   1 ك. أ. أردمان k.o. Erdmann و157؛ روفادوفسكي Rozwadoski. رقم 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 نطقا ونحوا وإن كانت مفرداتها غريبة عن الأرمينية1. ذلك أن القالب النحوي الواحد يمكن أن تصب فيه مفردات مختلفة. العلم الذي موضوعه دراسة المفردات يسمى الاشتقاق Etymologie2. وتنحصر في أخذ ألفاظ القاموس كلمة كلمة، وتزويد كل واحدة منها بما يشبه أن يكون بطاقة شخصية يذكر فيها من أين جاءت ومتى وكيف صيغت والتقلبات التي مرت بها, فهو إذن علم تاريخي يحدد صيغة كل كلمة في أقدم عصر تسمح المعلومات التاريخية بالوصول إليه ويدرس الطريق الذي مرت به الكلمة مع التغيرات التي أصابتها من جهة المعنى أو من جهة الاستعمال. ومن ضياع الوقت أن نحاول البرهان على أهمية هذا العلم. فلم يأخذ العلماء في تأسيس الصوتيات والصرف المقارنين إلا بفضل ما وصل إليه الاشتقاق من نتائج. والاشتقاق والصوتيات والصرف يسند بعضها بعضا. فما دامت القواعد التي يجري عليها تتابع الأصوات والصيغ النحوية في صورة الاشتقاق، فإن هذا الاشتقاق الذي يطبقها تطبيقا صحيحا يقدم لعلم اللغة إحدى المساعدات. ولكن الاشتقاق يعطي فكرة زائفة عن طبيعة المفردات، لأن كل ما يعنى به هو أن يبين كيف تكونت المفردات. والكلمات لا تستعمل في واقع اللغة تبعا لقيمتها التاريخية؛ فالعقل ينسى خطوات التطور المعنوي التي مرت بها، ونقول ينساها إذا افترضنا أنه عرفها يوما من الأيام, وللكلمات دائما قيمة حضورية actuelle، يعنى أنه محدود باللحظة التي تستعمل فيها، ومفرد، يعني أنه خاص بالاستعمال الوقتي الذي تستعمل إياه3. وإذا تصفحنا قاموسا اشتقاقيا كان أول ما يلفت نظرنا بعد العدد الكبير من الكلمات التي لا يذكر لها أي اشتقاق جدير بالاعتبار، إنما هي وفرة المعاني غير   1 Finck فنك: Die Sprache der armenischen zigeuner، في نشرات أكاديمية سانت بيتر سبرج الدورية مجلد 8، رقم 5 "1907". 2 عن الاشتقاق انظر مؤلفات الأستاذ أ. توماس. وراجع أيضا توبيسن Thurneysen. رقم 214. 3 بلي bally، رقم 45 صفحة 21، 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 المنتظرة التي توالت على الكلمات, فأسماء رتبنا العسكرية مثلا من الكابورال Caporal "الأمباشي" إلى الجنرال general "لواء" مارة بالسِّرجن Sergent "جاويش" فالأدجودنت adjudant "الصول" فاليتينانت lietuenant "الملازم" فالصاغ "اليوزباشي" capitaine فالقومندان Commandant "البكباشي" تقدم لنا مجموعة من الأخلاط المتنافرة؛ وكذلك الحال في جميع التسميات التي نحار في تفسيرها على ضوء الاشتقاق وحده. فالاستعمال يخلع على كل كلمة قيمة محدودة دون أن يدخل في حسابه المعنى الذي كان لها في الماضي. فالماريشال marechal لقب أكبر مقام في نظامنا الحربي، جاءت من خادم الإسطبل "في الألمانية القديمة Marah-scalc, ومنها mariscalcus في لاتينية القرون الوسطي"، ولذلك يرى العالم الاشتقاقي أن ماريشال فرنسا Marechal de France والماريشال فران Marechal frrant "بيطار" يحملان اسما واحدا. من محض المصادفات أن كانت مجموعة واحدة بعينها من الأصوات تدل في لغة واحدة على العملية الحسابية "calcul" وعلى الحصاة الكلوية "Calcul" إذ إنهما يرجعان من ناحية الاشتقاق إلى كلمة واحدة. وعلى العكس من ذلك يرى العالم اشتقاقي كلمتين مختلفتين في الجملتين il loue une maison "يؤجر بيتا" وil loue la vartu "يمتدح الفضيلة". "مع أن الفعل المستعمل في الجملة الراهنة فعل واحد يستعمل في كلا المعنيين louer"، أو في il pratique le vol a la tire "يمارس السرقة بالخطف", وil pratique le vol plane "يمارس الطيران الشراعي". "الاسم المستعمل في المعنيين سرقة وطيران واحد هو Voler". ولكنها مصادفة كبيرة أيضا تلك التي جمعت في الفرنسية في مجموعة واحدة بعينها من الأصوات معنى الكلمة اللاتينية Locare "يؤجر" والكلمة اللاتينية أيضا laudare "يمتدح" وفكرة التلصص مع فكرة الجولان في الهواء أو فكرة التفكير الحسابي وفكرة الأحجار تتكون في داخل الكليتين. والمتكلم لا يفرق بين هذه الحالات الثلاث المتقدمة بعضها وبعض فاشتراك اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 في أكثر من معنى l'homoynymis يوجد مستقلا عما كان بين الكلمات من صلات تاريخية. أكثر من ذلك أننا حينما نقول بأن لإحدى الكلمات أكثر من معنى واحد في وقت واحد نكون ضحايا الانخداع إلى حد ما. إذ لا يطفو في الشعور من المعاني المختلفة التي تدل عليها إحدى الكلمات إلا المعنى الذي الذي يعينه سياق النص1. أما المعاني الأخرى جميعها فتمحى وتبدد ولا توجد إطلاقا. فنحن في الحقيقة نستعمل ثلاثة أفعال مختفة عندما نقول "الخياط يقص الثوب" أو "الخبر الذي يقصه الغلام صحيح" أو "البدوي خير من يقص الأثر". وكذلك الحال عندما أقول "لا تصاحب الآنسة س: إنها بنت" أو "السيدة س ولدت مولودا، إنه بنت" أو "أقدم لك بنتي", فإني أستعمل في الواقع ثلاثة كلمات لا يربطها بعضها ببعض أي رباط، لا في ذهن المتكلم ولا في ذهن السامع. في التسليم بأن للكلمات معنى أساسيا ومعاني ثانوية صادرة عن الأول إثارة لمسألة وجهة النظر التاريخية ووجهة النظر التاريخية تلك لا قيمة لها هنا. ربما رأى الشخص الذي يشمل اللغة بأسرها في تطورها واتساعها بنظرة واحدة أن الريشة التي من حديد جاءت من ريشة الأوزة، فهي عنده كلمة واحدة أخذت دلالتين مختلفتين على مرور الزمن. لذلك يجدر بقاموس يفخر بتتبعه لخط سير المعاني أن يضع تحت كلمة ريشة، معنى الريشة التي من "حديد" بعد معنى ريشة "الأوزة" ولكن الفرنسي الذي يتكلم لغته اليوم، لا يرى في هذين الاستعمالين في الواقع إلا كلمتين مختلفتين. ولا يوجد شخص واحد يحاول أن يشكو من الغموض عند سماعه جملتين من قبيل "يعيش من كد ريشته" و"اجتث له ريشة". وكل واحد يفهم دون تردد أن الكلام في الجملة الأولى عن أحد الكتاب وفي الثانية عن أحد الطيور. فالكلمتان مختلفتان كجميع المشتركات الأخرى. وفي اللغة كلمتان من "ريشة" تقابلان المعنيين السابقين كما يوجد   1 قارن ما يقول بولان PAULHAN فيما يقتبسه عنه ب. لروا B. LEROY رقم 87، صفحة 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أربع كلمات من "سو SO" "وإن اختلفت في الكتابة" في الجمل الأربعة الآتية: ILS ONT DEPOSE LEURS SEAUX "لقد حطوا دلاءهم" ILS ONT APPOSE LEURS SCEAUX "وضعوا توقيعاتهم" وLA NATURE NE FAIT PAS DE SAUTS "الطبيعة لا تقوم بوثبات" ces enfants sont des sots "هؤلاء الأطفال بلهاء"1. قد يعترض معترض فيقول بأنه قد مرت لحظة كان يحس خلالها بأن كلمة ريشه استعارة. ولكن هذه اللحظة لم تطل، فأية كلمة في اللغة الجارية ليس لها إلا معنى واحد في الوقت الواحد. إذ لما كانت ريشة الأوزة تستعمل في الكتابة، كان الذي قال "آخذ ريشتي لأكتب كلمة" قد استعمل كلمة ريشة بمعنى أداة للكتابة، ولم يقصد استعمال استعارة، وسامعه لم يقدر غير هذا التقدير. الاستعارة تشبيه مختزل، تقديرها يحتاج إلى مجهود يستطيع الإنسان أن يسلم به له لمؤلف يقرؤه عندما يتوفر له الوقت، ولكنه في المحادثة لا يملك الوقت الكافي لهذا العمل. فاللغة في حاجة إلى تحديد ووضوح. وأكثر ما يجب تجنبه عند الكلام إنما هو اللبس. والجناس في حد ذاته مسلك غير طبيعي، فهو عمل فني يتطلب انتباها خاصا ككل إنتاج فني. وأولئك الذين يقبلون على هذا النوع من الممارسة يعرفون جيدا ضرورة تحضير الجو وإيقاظ عقل السامع ليكون على بينة مما يجري فيقف بالمرصاد لاقتناص النكتة العقلية. فلو كانت الكلمة تمثل دائما في الكلام بكل معانيها الممكنة لأحسن السامع في المحادثة على كل حال ذلك الأثر المضايق الذي تحدثه في نفسه سلسلة من الجناسات. لا شك أن هذه النتيجة تصدم المتشددين الذين يعلقون أهمية كبيرة على اختيار الاستعارات، والذين يقولون بإقصاء كل تلك التي لا تأتلف ائتلافا تاما مع سياق النص، وقد يعترضون بأن فن الأسلوب لم يوجد عبثا. نعم، نحن نوافق أنه ليس من التجاوز في العناية بالأسلوب أن تعاب هذه الاستعارات المتنافرة التي كثيرا   1 الكلمات التي تدل على دلو وتوقيع ووثبة وأبله واحدة في نطقها ولكنها مختلفة في رسمها. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ما تثقل الخطب الرسمية والمقالات التي تنشر في صغار الصحف. فجعل "عربة الدولة تسبح على بركان" أو وصف فنانة مبتدئة بأنها "كوكب من العشب، يغني "رغم حداثته" بأنامل فنان ناضج" ليس من العناية بالأسلوب في شيء. وكل اللغات تحتوي على عبارات عوجاء من هذا القبيل تذكر أحيانا للتفكه وإثارة الضحك. وكلنا يعرف الجملة الألمانية der zahn der zeit, der Schon so manche Thrane getrocknet hat, wird auch uber diese wunde Gras wachsen lassen وترجمتها الحرفية "ناب الدهر الذي كثيرا ما جفف من دموع, سيجعل العشب ينمو على هذا الجرح أيضا". لا شك أن مثل هذه الجمل تثير الضحك، ولكنها لا تضحك إلا بعد تفكير، أما في حرارة الارتجال فإن وجه الإضحاك فيها لا يبدو دائما. وخطؤها أنها تجمع بين كلمات لا تأتلف إذا كانت مستعملة مجازيا. ولكن من يدخلها في كلامه يستطيع أن يقول في الدفاع عن نفسه بأنه لم يسع إلى عمل استعارات. وإنما أراد أن يستعمل عبارات مصنوعة stylisees في الحال. والواقع أن كلمة واحدة منها تليق بالغرض الذي وضعت له إذا أخذت على حدة. ولكن تراكمها في مكان واحد هو الذي يدعو إلى الضحك منها1. كل منا معرض للوقوع في أخطاء من هذا القبيل إذا لم يراقب نفسه. فنجد الكثير منها عند الخطباء الذين يرتجلون. بل إن الكتاب ذوي المواهب ليسوا بمنجي عن الوقوع فيها. فقد أحصى الألمان الكثير منها في شعر شيلر. ولكنها لا تعاب حقا إلا عندما يكرر منها عدد كبير أو عندما تثير صورا مغرقة في إثارة الضحك كما في الأمثلة السالفة. غير أن المتشددين يعيبون على كل العبارات التي فيها استعارة غير مؤتلفة أو مزادة بين كلمات لا تتزاوج. ومع ذلك إذا سمعنا هذه الأشياء من أفواه عامة الشعبة، لا ينبغي لنا أن نعجل بالاحتكام إلى محكمة العقل ضدها على أنها من سوء الاستعمال. فإن عددا كبيرا من العبارات الجارية التي تجيزها القواميس ويستعملها خير الكتاب قد نتج من استعمالات مجازية ممسوخة. أليس من الخرق أن يقال: يملأ غرضا "يعني "يحقق غرضا" أو   1 إردمان Erdmann ورقم 157، ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 خربت ثوبها بمعنى "abimer"" أو يحتضن صناعة أو يتمتع بصحة سيئة؛ فالمتشددون على حق حين يرفضون هذه العبارات. ولكن من الخرق أيضا أن نتكلم عن مرساة سكة الحديد debarcadere de chemin der fer "حيث لا ينزل من القطار في قارب، والمرساة deparcadeir أصلها للخشبة التي تصل بين السفينة والشاطئ" أو عن الوصول إلى بلدة كذا arriver "حيث لا يوجد شاطئ لعدم وجود نهر، وأصل معنى arriver الوصول إلى rive أي الشاطئ" أو عن الاستياك بفرشة شعر أو عن اعتناق مبدأ من المبادئ ولا دخل فيه للعنق. ومع ذلك فهذه كلها من خير عبارات اللغة، لا نحس فيها شيئا مما يخالف المنطق، وقد يعترينا الدهش حين نعلم أن بعض المتشددين من أعضاء الأكاديمية كانوا في القرن السابع عشر يخطئون عبارة "أغلق الباب" مدعين أنه يجب القول "ادفع الباب" أو "اغلق الغرفة"1. كذلك لا نحس خبثا -اللهم إلا إذا قصدنا إلى ذلك قصدا- في مسميات مثل "براغيت الست" أو "فسية العفريت" أو "حظيرة الحزب"؛ لأن أصل الاستعارة قد اختفى من الاستعمال الحالي، إذ صارت أسماء تدل على نوع من الحلوى، أو على ظاهرة جوية أو على مستقر لجماعة ما وبالتالي على مبادئها. كما في وسعنا أن نقول: "نقرن زيدا بعمرو" دون أن نسيء إليهما، لأن قيمة الكلمة الاشتقاقية قد اختفت. الذي يعين قيمة الكلمة في كل الحالات التي ناقشناها إنما هو السياق، إذ أن الكلمة توجد في كل مرة تستعمل فيها في جو يحدد معناها تحديدا مؤقتا. والسياق هو الذي يفرض قيمة واحدة بعينها على الكلمة بالرغم من المعاني المتنوعة التي في وسعها أن تدل عليها، والسياق أيضا هو الذي يخلص الكلمة من الدلالات الماضية التي تدعها الذاكرة تتراكم عليها، وهو الذي يخلق لها قيمة "حضورية".   1 سانت إفرمن saint-Evremond؛ Comedie des Academiciens الفصل الثالث المنظر الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولكن الكلمة بكل المعاني الكامنة توجد في الذهن مستقلة عن جميع الاستعمالات التي تستعمل فيها مستعدة للخروج والتشكل بحسب الظروف التي تدعوها. تنوع الاستعمالات التي تصلح لها الكلمة لا تخلع عليها قيمة عامة. إذ لا يوجد بين القيم المختلفة التي تصلح لها الكلمة قيمة وسطى. بل كل واحدة منها موجودة بأسرها، لا تنتظر لتعزز وجودها إلا إشارة واحدة. وإذا كان هناك شيء من التردد، فإن ذلك التردد لا يرجع إلى القيمة نفسها بل إلى الظروف التي تتدخل فيها. في ذهني مثلا كلمة "بنت" Fille. فمعانيها التي أشرنا إليها سابقا لا يختلط بعضها ببعض, بل تبقى كل منها تحت تصرفي ساعة أحتاج إليها. ومع ذلك فليس عندي في ذهني إلا كلمة واحدة هي Fille "بنت". هذه الكلمة نفسها ليست منعزلة، بل مسجلة في ذهني مع كل حالات السياق التي سبق أن أدخلتها فيها، ومع كل الارتباطات التي تصلح للاشتراك فيها: "بنات وبنين"، "بنت طيبة"، "بنت أم"، "بنات الملجأ"، إلخ. فأراني أربطها في آن واحد بعدة عائلات من الكلمات. وهي تثير في نفسي عددا من التصورات يكبر أو يصغر تبعا لقوة مخيلتي، وكل هذه التصورات تشع منها في جميع الجهات. ليس في الذهن كلمة واحدة منعزلة. فالذهن يميل دائما إلى جميع الكلمات، إلى اكتشاف عرى جديدة تجمع بينها. والكلمات تتشبث دائما بعائلة لغوية بواسطة دال المعنى أو دوال النسبة التي تميزها، أو بواسطة الأصوات اللغوية التي تتركب منها لا أكثر من ذلك. فنحن نشعر بأن الكلمات: إعطاء، عطية، عطاء، معط، معطى" ... إلخ، تكون عائلة قائمة بذاتها تتميز بعنصر مشترك، هو الأصل "ع ط ي" مهما تنوعت معاني المشتقات. كذلك الكلمات bonasse "مصطفاوي" وblondasse "شقراوي" وcocasse "مضحكاوي" وjaunasse "أصفراوي" وdegueulasse "مقرفاوي" "وهذه الأخيرة عريقة في العامية" ترانا نربطها بعضها ببعض بواسطة اللاحقة asse "آس" التي تدل على السخرية. ولكن من الكلمات إعطاء، معط, ومعطى, إلخ تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مجموعات أخرى. فإعطاء ترتبط بإحلال وإعظام ... إلخ, ومعط يرتبط بها مغن ومزر ... إلخ, ومعطى ترتبط بها كلمات مثل مرضى وملقى ... إلخ. فهناك إذن تداخل بين المجموعات. اجتماع الكلمات تبعا لأصواتها يؤدي دورا هاما فيما يسمى الاشتقاق الشعبي "انظر ص79" فالذهن يميل إلى أن يصل بين الكلمات تبعا لشكلها الخارجي وأحيانا على عكس ما يقتضي المعنى، بل على عكس ما يقتضي العقل السليم. وقد تسوق مشابهة غامضة بين كلمة وكلمة أخرى أشيع استعمالا أو أكثر شهرة إلى التقريب بينهما، ومن هنا تنشأ بعض التشويهات الغريبة: فالتسمية اللاتينية culcita pucata ومعناها الحرفي "ملحفة ذات غرز" Couverture piquee صارت في الفرنسية courte pointe "الغرزة القصيرة" بدلا من Coulte pointe "الغرزة المشكوكة" مع أن فكرة القصر لا صلة بينها وبين تعريف المادة التي نحن بصددها. والرقص الإنجليزي المسمى countrydance "رقص الريف" مع أنه منقول من فرنسا، دخل اسمه في اللغة الفرنسية من جديد بصيغة contredancse "عكس الرقص" وهي عبارة لا معنى لها. ونحن نعرف الصيغ الظريفة التي تأخذها أسماء الأمراض والأدوات الفنية في أفواه العامة، فهي كنز لا يفنى من التسلية للمشتغلين بتسجيل الطرائف. وإذا كانت عبارة la liqueur a piocer "خمرة النوم" التي تقال بدلا من laqueur opiacee "خمرة بالأفيون" وهي عبارة لذيذة موفقة المعنى فإنه لا يوجد أي مبرر لإطلاق lait d'anon "ليدانون" "لبن الحمارة" على الدواء المسمى Laudanum. وقد ذكرت حالة أطلق فيها اسم chantepleure "غناء البكاء" على نوع ما من الأقماع لا علاقة له مطلقا بالبكاء ولا بالغناء حتى أصبح اسمه في تغيراته المتتابعة من خير المثل للاشتقاق الشعبي الذي ليس للمعنى فيه أية أهمية. وأسماء الأعلام "ونعتبر أسماء الأعلام هنا بمعناها الأوسع انظر ما يلي في آخر هذا الفصل" مسرحا خصيبا لمثل هذه التشويهات. ومن أمتع هذه التشويهات ذلك الذي جعل من pipe de kummer "عليوم كومبر" اسم صانعه pipe d'ecume de mer "kummer" "عليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 زبد البحر" "ومن تسميته بالألمانية Meerschaum، وجاء من التسمية الإيطالية "mala aethiopica" pomi dei Mori التعبير الفرنسي Pommes d'amou "تفاح الحب" "ومن ثم love-apples في الإنجليزية وliebesapfel في الألمانية" كما جاء من التسمية الإنجليزية "Aunt sallay العمة سلي، اسم للعبة". التسمية الفرنسية ane sale "الحمار المملح" وجاء من الطليانية girasole "اسم نوع من الخضروات" الكلمة الإنجليزية Jerusalem اسما لهذا النوع من الخضروات، وصحف اسم جبل الهيميت Hymette في اليونان إلى Il matto ""المجنون في لغة البندقية في القرون الوسطى"" ومنها جاءت التسمية المتداولة الآن في الإيطالية السويسرية Trello-vonuno "جبل المجنون" هذه كلها أمثلة بينة من ترابط الكلمات التي يحصل في الذهن. فحدوثه بصورة غير شعورية عادة لا يمنع من أنه بالغ الأثر. وإذا استقصينا نتائج هذه التغيرات خرجنا من الميدان اللغوي إلى ميدان الفلكلور: فكم من الأساطير ولدت من أحداث لغوية كتلك التي أشرنا إليها هنا1. فبالقرب من جرينوبل قلعة تسمى سان فران Saint-vrain حرف اسمها إلى سن فنان Sans-venin "دون سم" فنسجت حولها أسطورة منشؤها هذا الاشتقاق الشعبي. فالاسم وهو مطية الأفكار، يؤدي بتلاعب التشابه والجرس إلى مقاربات تغرر بالعقل. هذه أشياء يرفضها العقل السليم، ينظر فيها الإنسان فيظنها من خيال الأطفال ولكنها تأخذ سيما الحقيقة. لذلك ذهب البعض إلى أن الأساطير إنما نشأت من مرض في اللغة، وقد نجح في البرهان على بعض الحالات2. ولكن لقصص الأولياء أيضا نصيبها من مسئولية ذلك في غالب الأحيان؛ فكثير من القديسين المعروفين بشفاء المرضى في ريفنا يدينون ببركاتهم إلى أنواع من الجناس ساعدت عليها صيغ أسمائهم. كذلك يطفح الطب الشعبي   1 مكس ملر، رقم 104، مجلد 2 ص91-92، ص317، نيروب NYROP رقم 146، ص222. 2 بريال، رقم 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بالوصفات الناشئة عن اللعب بالألفاظ، فترابط الأفكار يخلق أدوية من نوع الأمراض HOMEO-PATHIQUES، ذلك أن الكلمات لها دائما قيمة رمزية إن قليلا وإن كثيرا1. أشرنا فيما سبق إلى ما بين اللغة الانفعالية واللغة المنطقية من علاقات؛ فكلتاهما تختلطان في الاستعمال الذي يستخدم الكلام. ولكن هذا المزج يكون على أثبت حال في ميدان المفردات منه في أي ميدان آخر. فالكلمة لا تحدد فقط بالتعريف التجريدي الذي تحددها به القواميس. إذ يتأرجح حول المعنى المنطقي لكل كلمة جو عاطفي يحيط بها وينفذ فيها ويعطيها ألوانا مؤقتة على حسب استعمالاتها. بل حتى عند أقل الناس خيالا وأبعدهم عن التأثر يختلط بالمعنى التجريدي العام الذي تبين عنه الكلمة، ألوان خاصة هي التي تكون قيمتها التعبيرية. إذا أردنا تحليل هذه القيمة اكتشفنا فيها خصائص متنوعة وأصولا عديدة فهي تنشأ أولا من اتفاق يتكون بين معنى الكلمة والأصوات التي تتألف منها. نعم أغلب الظن أنه لا يوجد اليوم من يرى رأي الرئيس دي بروس de Brosses أو رأي كوردي جبلان court de gebelin من أن الكلمات تكونت في الأصل من أصوات مساوية للأفكار وأن fleuve "النهر" مثلا يدين باسمه إلى أن الحرفين ف ل f1 اللذين يحتويان حرفا مائعا يوقظان الإحساس بشيء "يسيل" إذ لا يوجد أي تطابق مبدئي بين الصوت والمعنى، فالمفردات لم تخرج من مجموعة من أسماء الأصوات. ولا نظن أحدا يضم صوته إلى مقولة رجل الكنيسة الذي يزعم أن الأسماء يجب أن تتفق وطبيعة الأشياء، كما يقول سان توماس الأكويني: "momina debent naturis rerum congruere" ولكن إذا كان هذا الاتفاق فرضا لا قيمة له في تفسير بناء المفردات، فإن هذا الغرض يحتفظ بقيمته كاملة من حيث أنه يقرر الطريقة التي يجري عليها   1 عن القيمة الرمزية للكلمات انظر ميير meyer، رقم 30، مجلد 12، ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 عقلنا1. فمن الحمق أن نحكم بوجود علاقة ضرورية بين الحرفين ف ل f1 مجتمعين وبين فكرة السيلان إذ إن الكلمات ruisseau "مجرى" وriviere "جدول" وtorrrent "سيل" التي تعبر أيضا عن فكرة السيلان بقدر ما تعبر عنها كلمة fleuve "نهر" لا تحتوي على مثل هذين الصوتين، وأن كلمة fleur "زهرة" التي لا تكاد تتكون إلا من هذين الحرفين أيضا لا توقظ في الذهن إطلاقا فكرة السيلان. ولكن من الحق أن كلمة fleuve "نهر" معبرة لأن الأصوات التي تكونها صالحة تمام الصلاحية لإثارة الصورة التي تمثلها. فالواقع أن هناك بين الأصوات ومركبات الأصوات فروقا في القدرة التعبيرية، وهذا هو سر الكلمات التي تعبر بأصواتها عن معناها oinomatopees؛ فالكلمة الألمانية kladderadatsch "كلادراداتش" تمثل جيدا مجموعة من الآنية بعضها فوق بعض وقد سقطت شظايا، والكلمة الفرنسية patapouf "باتابوف" تمثل كيسا محشوا بالملابس يسقط على درج السلم، وكلمة "pan" "بَنْ" تثير الصوت الجاف الذي يصدر من طلقة مسدس، وpoum "بوم" ذلك الصدى الممتد الذي ينبعث من طلقة مدفع. وكل الموسيقيون يعرفون أن النغمات المختلفة تناسب التعبير عن الأحاسيس المختلفة إن قليلا وإن كثيرا، فهذا السلم أليق من غيره ببساطة الحقول، وذلك بالعذوبة الرقراقة اللذيذة، وذاك بجهد الرجولة الصارم. وفطرة المؤلف تجعله يختار في كل حالة النغمة اللائقة، لذلك كان من الحق أن الانتقال بالقطعة من نغمة إلى نغمة يشوه طابعها في بعض الأحيان. ولكن لا يستطيع إنسان أن يقرر أن المؤلف العبقري ليس في وسعه أن يعبر عن العاطفة التي يحسها بأية نغمة من النغمات. كذلك فن الشاعر يستطيع أن يحمل أصوات الكلمات كل تعبيرية تروقه: "الكلمة الخالقة للفكرة تصير بعناصرها الصوتية خالقة للبيت من الشعر وتخضع الكلمات الثانوية التي   1 جرامون Onomatopees et mots expressifs: Grammont، في رقم 17، مجلد 44، ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 تصحبها لتبعية نغمية" "بك دي فوكيير Becq de fouquieres" فالشاعر في وسعه أن يحدث تأثيرات غير منتظرة بكلمات يظنها البعيد عن هذا الفن غير جديرة بمثل هذا الاستعمال، وذلك بواسطة ألوان من الإعداد والمقابلة محكمة التنسيق. كل كلمة أيا كانت توقظ دائما في الذهن صورة ما بهيجة أو حزينة، رضية أو كريهة، كبيرة أو صغيرة، معجبة أو مضحكة، تفعل ذلك مستقلة عن المعنى الذي تعبر عنه، وقبل أن يعرف هذا المعنى في غالب الأحيان. اذكر اسم إنسان ما أمام شخص لم يره قط، فإنه يكون عنه فكرة في الحال، فكرة زائفة على وجه العموم. فإذا ما قدمت له هذا المجهول، أجابك على الفور "أهو هذا! ما كنت أظنه هكذا" مثل هذا الشيء نفسه يحصل بالنسبة لكلمات اللغة. فإدراكنا للأشياء خاضع لانطباعات فجائية منبعثة من الاسم الذي يدل عليها. إننا عندما نقيم ائتلافا بين الاسم والشيء، نسير على عادة نفسية قديمة قدم العالم نفسه. فقد ظل الاسم زمنا طويلا يعتبر جزءا لا يتجزأ من الأشياء، وليس فقط علامة قد توضع عليها: كان يشترك معها في خصائصها. فلم تكن العلامة تميز عن الشيء. فعبارة nomen omen تذكرنا بهذا الرأي العتيق، ونجد منه آثارا في تحريم المفردات وفي التشويهات الناجمة من هذا التحريم. في ذلك الحين كان للاسم أهمية بالغة. فنرى في سفر التكوين تلك الأهمية البالغة التي تعلق على أسماء إبراهيم وسارة وإسحاق. وفي بلاد الإغريق كان أجاكس Ajax المنكود الحظ يحمل في اسمه رمز مقدوره "سوفوكل، أجاكس Ajax، بيت 430". واسم أوليس Ulysse يحمل في طياته بعض سمات أخلاق جده "انظر الأودسة، كتاب 19، بيت 406". فالكلمات إذن لم تكن مجرد علامات لا خطر لها، بل كانت لها قيمة سحرية، هي التي تفسر قوة الرقي واللعنات. والكلمة المكتوبة كانت بطبيعة الحال أبلغ أثرا من الكلمة الملفوظة، لذلك سنعود إلى الكلام عن قوة الكلمات السحرية في الفصل الخاص بالكتابة. ولكن الكلمة المجردة كانت كفيلة بإحداث آثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 جسام ولا سيما إذا كانت مسلوكة في بيت من الشعر، حيث تثبت الكلمات وتنظم بواسطة الوزن، أليس فرجيل virgile هو الذي يقول: "إنه يمكن إنزال القمر من السماء بجملة منظومة" Carmina uel coelo possunt deducere lunam؛ "8، بيت 69". وكانت تنسب إلى الشعراء الأقدمين قوة مخوفة تتلخص في الاسم la satire "الهجاء". هذه الكلمة لا تثير في أذهاننا، نحن المتحضرين، غير فكرة تمرين أدبي عدا عليه الزمن بعض الشيء، ولكنه على كل حال لا يملك خيرا لإنسان. غير أن الهجاء في وقت ما كان يتقمصه ساحر، وكان الهجاء لعنة فادحة تصيب من يوجه إليهم. ونحن نعرف ما كان لأهاجي أرشيلوك Arcbiloque من نتائج. فهذا العاشق المطرود قد استطاع بقصائده الهجائية أن يلقي اليأس في قلب والد معشوقته وأن يقوده إلى الانتحار، وأقسى من ذلك أنه استطاع أن يفعل مثل هذا مع الفتاة نفسها. ورواة هذه القصة يحكونها لنا على أنها أسطورة من الأساطير، تشيد بموهبة أرشيلوك وإن لم تشد بخلقه. ولكن ليس من العدل في شيء ان نأخذها على أنها أسطورة، بل يجب أن نأخذها بنصها وحرفها. فالحق أن أرشيلوك قضى بالموت على ليكمبيس Lycambes ونيوبوليه Neobule؛ إذ قذفهما بلعنة سحرية لم يستطيعا منها خلاصا. وإن الشاعر الهجاء لم ينفصل عن الساحر الآثر إلا في العصور المتأخرة بفضل تقدم المدينة. أما في الأصل فكانا شيئا واحدا، وقد ظل الناس في كثير من الأقطار حينا طويلا لا يميزون بينهما. ففي جالية أسكتلندة يطلق على القضاء حتي يومنا هذا كلمة Ortha المنقولة عن الكلمة اللاتينية ORATIONEM منذ عهد قديم، ويقال عن الساحرة Tha facal aice "لها كلمة"، وذلك إشارة إلى قوتها1. فالواقع أن معرفة الإنسان للأشياء بأسمائها إمساك لها في قبضته، وإذن فعلم المفردات علامة القوة. لذلك كان سحرة الآثار دافيدا المتطببون يقولون في رقاهم: "أيتها الحمى! لن تفلتي مني، فإني أعرفك باسمك! " والأمر الذي يوجه إلى   1 ج. هندرسن G. Henderson: نفايا من الاعتقاد عند الكلتيين: "1911". ص11، 18، 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الداء ليفارق المريض أبلغ دلالة من ذلك. ففي معرفة اسم المرض شفاء من نصفه، ولا ينبغي لنا أن نسخر من هذه المعتقدات البدائية، فإنها لا تزال سارية حتى يومنا هذا، إذ لا زلنا نعتقد في أهمية الألفاظ التي تعبر عن تشخيص الأمراض. "عندي ألم شديد في الرأس يا دكتور. فيجيب الطبيب: عندك GEPHALALGIE "صداع" أو إني سيئ الهضم يا سيدي الطبيب، فيجيب هذا الأخير: عندك DYSPEPSIE "عسر هضم". مثل هذه المحاورة الجديرة بإحدى روايات موليير تتكرر كل يوم في عيادات الأطباء. قد يقال بأن الاسم الفني يحدد المرض بأكثر مما يفعله الاسم العاي وأنه يدل على مجموعة أعراض معينة وأن "الصداع" ليس مرادفا لوجع الرأس وعسر الهضم ليس مرادفا لسوء في الهضم. ولكن الواقع أن الطبيب لا يفعل أكثر من أن يضع كلمة معمية مكان كلمة عادية مبتذلة يفهمها هؤلاء المرضى جميعا، والمرضى يشعرون بالارتياح حينما يعلمون بأن رجل الطب قد عرف الداء الخفي الذي يشكون منه، عرفه باسمه. إنها علاقات قياسية، تلك العلاقات التي تتقابل وتتقاطع حول الكلمات، وهي التي تقوم بين الأصوات والأفكار والأشياء، هذه هي النتائج التي يتركها في المفردات عمل العقل. وإذن فالكلمة التي تطفو في الشعور لا تكون كلمة منعزلة. فإنها متى مثلت أمامنا، ولو في صفة واحدة منعزلة من صفاتها مع بقاء صفاتها الأخرى في الظلام، جرت وراءها جحفلا من المعاني والعواطف التي ترتبط بها بعرى دقيقة على استعداد دائم للكشف عن نفسها. فالكلمات التي تختزنها في ذهننا تشارك في حياتنا العقلية والعاطفية كلها. لذلك ربما كان من الممتع معرفة مقدارها1. بعض اللغويين طرحوا هذا السؤال، وحاولوا أن يجيبوا عنه بالأرقام. فزعم مكس ملر مثلا استنادا على شهادة قسيس في إحدى القرى أن مجموع الكلمات التي يستعملها فلاح إنجليزي أمي لا يتجاوز ثلاثمائة كلمة. وآخرون لم يعدموا أن يحتجوا   1 نص مكس ملر رقم 103، ص287 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بمفردات شكسبير التي تبلغ 15000 كلمة عند بعضهم و24000 عند البعض الآخر. ويقال إن الكلمات التي استعملها ملتن MILTON تتراوح بين 7000 إلى 8000 كلمة. وأن قصائد هوميروس تحتوي على حوالي 9000 كلمة والعهد القديم على 5642 كلمة والعهد الجديد 4800 كلمة. وهذه أرقام لا تدل على شيء ذي خطر. إذ يجب أولا وقبل كل شيء أن نقصي المؤلفات الأدبية من حسابنا. طبعا نستطيع أن نعرف على وجه الدقة عدد الكلمات التي تؤلف الإلياذة والأودسة أو مسرحيات شكسبير أو راسين. ولكن من العبث أن نزعم أننا بذلك نحدد مفردات هومير أو شكسبير أو راسين. فمن الكتاب المبرزين من يضيقون دائرة مفرداتهم عن قصد؛ لذلك كان من غير الحق أن نحكم بمآسي راسين على سعة لغتنا كما يكون من غير الحق أن نحصي عدد سكان فرنسا بعدد النخبة المختارة من رجالها. ولكن لغة الكتاب على وجه العموم تزداد ازديادا صناعيا بعدد من الكلمات يقتنصها مصادفة من بعض مقابلاته أو من البحث في الكتب، وذلك إذ لم يخترعها اختراعا. فهل لنا أن نعد من مفردات فكتور هوجو كلمة JERIMADETH الشهيرة التي ليست إلا "مسخرة"، وكثيرا غيرها من أسماء الأعلام التي وإن كانت واقعية فليس لها في دماغ الشاعر، إلا وجود عرضي زائل. وإذا غضضنا النظر عن أسماء الأعلام، فكم من كلمات مشتركة استخرجها الشاعر من القاموس ولم تكن بالنسبة إليه إلا نبعا عرضيا مؤقتا. فينبغي ألا نخلط بين مفردات الكاتب وبين قاموس الكلمات المستعملة في مؤلفاته. فمثل هذا القاموس يعد خليطا دائما فيه كلمات السادة تجاورها كلمات السوقة والمصطلحات الفنية تجاور ألفاظ الحياة اليومية. في كل قاموس أنواع عديدة من المفردات يختلط بعضها ببعض إذ تضاف إلى مفردات الكاتب الخاصة به والتي يستعملها في كلامه المعتاد، أنواع أخرى من المفردات منها الحوشي والعلمي والعامي وهي التي تمد أسلوبه بالثراء وتجعل له قيمته في غالب الأحيان. لا يعرف إنسان مقدار مفرداته، ولا توجد أية طريقة لتقديرها. إذ لا يكفي أن نستعرض كلمات القاموس كلمة كلمة لنرى الفكرة التي تثيرها في ذهننا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إذا كانت تثير فكرة ما. إذ إننا في مثل هذه الحال نضع أنفسنا في ظروف مخالفة للواقع كل المخالفة. فالكلمات لا تصف في ذهننا كما تصف في أعمدة الكتاب. ولا يتأتى لنا أن نجيل نظرنا في تتابعها وأن نستعرضها كما يستعرض القائد الجند في صفوفهم. ولا نعرف بالضبط من أي مستقر يخرجها نشاطنا العقلي ليسلكها في الجمل وليصبها كامل الإعداد في أعضائه الصوتية. فالكلمة لا توجد منعزلة في الذهن إطلاقا بل تكون جزءا من مجموعة ذات امتداد ما نستعير منها قيمتها. ولكن تكون المجاميع يرجع في نفس الوقت إلى علل نحوية أو سيكولوجية أو تاريخية أو اجتماعية مما يجعل من العبث كل محاولة لإحصاء المفردات. إحصاء المفردات ولو من وجهة نحوية خالصة، يعد أمرا متعذرا. فقد بينا مقدار العسر الذي يعترضنا في تعريف الكلمة، ومقدار الصعوبة التي نلاقيها غالب الأحيان في تحليل عناصرها. بالطبع ينبغي لنا عند تعداد المفردات أن نقصي دوال النسبة، ولكن هناك كلمات كثيرة ليست إلا دوال نسبة، كما أن من دوال النسبة ما يعتبر كلمات. فالنفي مثلا أكثر من مجرد لاحقة تشير إلى جنس أو إلى وظيفة نحوية، فإذا اعتبرناه من دوال النسبة بخسناه حقه من غير وجه. ومع ذلك فالنفي لا يعبر عنه في كثير من اللغات بكلمة منعزلة مستقلة؛ فعندما تقول الإرلندية في نفي domelim "آكل" nitoimelim "لا آكل" وتقول اللتوانية في نفي neszu "أحمل" neneszu "لا أحمل" لا نرى أن ندخل في اعتبارنا في كلتا الحالتين إلا كلمة واحدة، ولكنها كلمة تحتوي على دال نسبة منفي. عدد الكلمات لا يمكن أن يحد نحويا بفضل فصائل اللواحق. فقد استطعنا في الفرنسية، حيث اللاحقة eur بقيت حية، أن نأخذ من promener "التنزه" promeneur "متنزه" ومن marcher "المشي" marcheur "مشاء" ومن trotter "العدو" trotteur "عداء" ومن ثم لا نهتم بأن تكون كلمة galopeur "عداء" موجودة أو غير موجودة، لأننا إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 احتجنا إلى استعمالها فهمنا محدثنا على الفور، إذ إن العناصر التي تكونها ليست غريبة عليه. فحتى لو لم توجد الكلمة في القاموس، وجب عدها بين كلمات اللغة الفرنسية، إذ إنها توجد بالقوة في ذهن الفرنسيين جميعا. إذن فهناك عدد من الكلمات التي أشعر بها حاليا والتي لم أستعملها إطلاقا، وربما لن أستعملها أبدا، ولكنها مع ذلك تكون جزءا من مفرداتي إذ إنها تحضر طبيعيا في ذهني إذا احتجت إليها، وأفهمها على الفور إذا استعملت أمامي. ومع ذلك فهذا المثال الفرنسي أقل حجية مما في لغات أخرى كاللتوانية، حيث تؤخذ الأسماء المجردة وأسماء الفاعلين بالمراد من إحدى الصيغ الفعلية كما يؤخذ منها المستقبل أو صيغة التبعية. من هذه الوجهة، التي هي وجهة نظر النحو، تعتبر المفردات غير محدودة. وهي ليست أقل بعدا عن التحديد من وجهة نظر الاستعمال المعنوي البحت للكلمات. فقد رأينا فيما سبق أن الكلمة لها على وجه العموم من المعاني بقدر ما لها من الاستعمالات. ولكن كل معنى منها مستقل عن المعاني الأخرى، إذ إنه لا يكون في ذهننا عند استعمال الكلمة إلا معنى واحد. يمكننا إذن أن نقول بأنه يوجد في المفردات كلمة مختلفة بقدر ما يوجد من استعمالات لكل كلمة من كلماتها. ولما كان عدد الاستعمالات التي تصلح لها كل كلمة لا يحد، إذ إن الاستعمال العام يخلق استعمالات جديدة كل يوم، وجب أن نقرر أن مفردات اللغة تزداد دون حد ما دامت اللغة حية. فكل كلمة فيها ينبغي لها أن تعد مرات عديدة، مرات يستحيل تحديدها. إذا اعتبرنا المسألة من وجهة نظر أخرى، وجدنا كثيرا من الكلمات لا يصح أن تعد بين المفردات. هناك نظام تصاعدي للكلمات يسمح بتمييز الفعل من الصفة أو من الاسم، والاسم المشترك من اسم العلم "انظر الصفحة الأخيرة من الفصل الثالث". هذا النظام التصاعدي له ما يبرره سيكلوجيا، ولكنه يخلق فروقا محسوسة بين الكلمات فما الذي يصوره لنا اسم من أسماء الأعلام؟ لا شيء في أغلب الأحيان. فكم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 شخص بين أكثر الناس ثقافة عنده فكرة صحيحة محدودة عمن يسمى بركليس أو من يسمى أغسطس، وعن المدعو لويس الرابع عشر أو عن فريدريك الثاني. نحن نسمي علماء أولئك الذين يختزنون في دماغهم سلاسل من أسماء الأعلام ويستطيعون عند الطلب توزيعها بالتجزئة إزاء إعجاب الجهلة والبلهاء. ولكن كم من هذه الأسماء نفسها توقظ في أذهانهم أفكار واضحة؟ ليست تلك الأسماء في غالب الأمر بمثابة حمل ثقيل يحشون به أدمغتهم. فليس من الحق إذن أن نعد في حساب المفردات ما لا يصح أن يعتبر إلا تمرينا للذاكرة. وكثير مما يقال بأنه من الأسماء المشتركة ليس في واقع الأمر إلا من أسماء الأعلام. فإني أعرف أن الكلمات الآتية: etourneau "زرزور" والـlinotte "عصفور التيل" والـemerillon "يؤيؤ" والـautour "صقر" كلها أسماء طيور لأني قابلت هذه الكلمات أو تلك مصادفة في أوصاف بعض المناظر الخلوية أو عند تصفحي لكتاب من كتب التاريخ الطبيعي، ولكني لا أستطيع أن أكون لنفسي أية فكرة عن هذه الطيور؛ فأسماؤها لا توقظ في ذهني أية صورة محددة، إنها طيور، وذلك كل ما أستطيع أن أقوله عنها، وإنه لكثير. فهناك أسماء أخرى كثيرة أحار فيما إذا كانت تدل على حيوانات ثديية أو على زواحف أو أسماك، فيما إذا كانت نباتا أو معدنا، حتى أصل إلى بعض الكلمات المنسية في أركان ذاكرتي فأعثر عليها مصادفة ولا أعرف عنها شيئا مطلقا، لا أعرف عنها إلا أنها كلمات فرنسية. وهكذا إذا تابعنا امتحان المفردات، وتحليل الكلمات التي تحتوي عليها كلمة كلمة وتصفيتها، أدركنا أن متاع الرجل المتعلم المثقف منها يحتوي على عدد كبير من الكلمات التي يزدحم بها رأسه دون جدوى. ولكن الكلمات   1 فندريس. sur qulques difficultes de l'etymologe des noms porpres في Melanges litteraires publles par la faculte des lettres de clermont ferrand عام 191، ص329-337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 تتدرج بصورة غير محسوسة من تلك التي نشعر بها شعورا تاما ونستعملها في حياتنا اليومية إلى تلك التي دخلت ذاكرتنا عرضا ولا تؤدي لنا أية خدمة. فإذا أردنا عند إحصائنا للكلمات أن نضحي بنصيب، فإلى أي يجب أن نقف في تعيين هذا النصيب؟ أيجب أيضا أن نضيف إلى كل ذلك ما يثقل مخنا من أحمال من جراء معرفة لغات أجنبية؟ إن حاذق اللغات الأجنبية هو الذي يستطيع أن يعبر عن فكرة واحدة بعينها في عدة لغات. وترجمان فندق من الفنادق المختلطة يعرف أسماء الأشياء المتداولة بثلاثة أوجه مختلفة، أو أربعة أو خمسة. فهذا تمرين للذاكرة تفرضه عليه مهنته. أفنقول إن مفرداته تبلغ ثلاثة أو أربعة أو خمسة أمثال خادم الفندق الذي لا يتعامل إلا مع أبناء لغة واحدة؟ نعم إذا أدخلنا في حسابنا هذه الحقيقة الواضحة، وهي زيادة الحمل الذي تضطلع به ذاكرته. ولكن الواقع أن مفرداته في هذه الحال ليست أكثر ثراء، بل إنه يملك أنواعا مختلفة من المفردات تتلاصق بعضها ببعض ويتراص بعضها فوق بعض دون أن تندمج عادة، كما أن استعمالها رهن الظروف. هناك حاجات مشتركة بين جميع الناس، ولهذه الحاجات مفردات تكاد تتساوى في عدد الكلمات في كل مكان. يقال بإن الفلاح الأمي لا يحتاج في حياته إلى أكثر من ثلثمائة كلمة، فلنسلم بهذا الرقم، وإن كان لا يجادل في أنه دون الواقع بكثير. وعندئذ يتحتم علينا أن نقول بأن السيد لا يكاد يستخدم أكثر من هذا القدر في حديثه العادي. ولكنها ليست نفس الكلمات التي يستعملها الرجل الشعبي، وهذا هو كل الفرق. غير أن السيد قد يعرف لغة الشعب أيضا وقد تتاح له فرصة استعمالها. وبذلك يكون له نوعان من المفردات، نوع للصالون ونوع للمزرعة1. وإذا كان جنديا عرف لغة الثكنات، وإذا   1 رجل البلاط الذي يتكلم لغة السوقة له عندي فضل العارف باللغات الأجنبية "دكلو Duclos"؛ Considerations sur les moeurs. الطبعة الخامسة. باريس "1767، ص212". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 كان يشارك في علم من العلوم، عرف مفرداته الفنية. وإذا فرضنا أنه يعرف لغة أجنبية أو لغتين، أضيفت مفرداتها إلى ما في ذهنه من قبل: أنواع من المفردات مختلفة، إذ إنها ناتجة عن حاجات مختلفة وتستخدم للتفاهم مع أشخاص مختلفين. أوضح ما يلاحظه الإنسان عند اختباره للمفردات عن كثب، هو التعقيد البالغ للمتاع الذي يحمله الشخص في دماغه من الكلمات فليست العناصر التي تكونها في مستوى واحد دائما، لا نحويا ولا سيكولوجيا، ولا من ناحية الاستعمال الذي تستعمل فيه، ولهذه النقطة الأخيرة خاصة. ذلك التعقيد هو الذي يجعل للمفردات أهميتها. وسنتكلم عنه عندما ندرس بنية اللغات. أما الآن فسنراه يفسر لنا التغيرات التي تتعرض لها المفردات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها 1؟ يوجد في تطور اللغة فرق بين الصوتيات والصرف والمفردات. فالنظام الصوتي يستقر منذ الطفولة ويستمر طول الحياة، فالإنسان يحتفظ حتى آخر حياته بمجموعة الحركات التي تعودت عليها أعضاؤه الصوتية منذ طفولته اللهم إلا أن يحدث له عارض ناتج من التعليم، وذلك في حالة أن يتلقن نطقا أجنبيا يحل محل النطق القومي. النظام الصرفي ثابت أيضا. نعم إن استقراره يتطلب وقتا أطول، ولكنه بعد أن يستقر لا يعتريه تغير يذكر. ذلك بأن الصرف لا يتغير في أثناء جيل واحد، بل هو كالصوتيات إنما يتغير في الانتقال من جيل إلى جيل. فالنظام الصوتي والنظام النحوي إذا ما اكتسبا مرة بقيا طول العمر، ويدينان باستقرارهما إلى استقرار ذهنية المتكلم. أما المفردات فعلى العكس من ذلك لا تستقر على حال، لأنها تتبع الظروف. فكل متكلم يكون مفرداته من أول حياته إلى آخرها بمداومته على الاستعارة ممن يحيطون به. فالإنسان يزيد من مفرداته ولكنه ينقص منها أيضا ويغير الكلمات في حركة دائمة من الدخول والخروج. ولكن الكلمات الجديدة لا تطرد القديمة دائما، فالذهن يروض نفسه على وجود المترادفات والمتماثلات   1 انظر على وجه العموم: بريال BREAL، رقم 55؛ ونيروب، رقم 105، مجلد 4 ورقم 186 ويابرج JABERG، رقم 38 مجلد 25، ص561 وما يليها "وذلك عن مراجع المسألة وتاريخها". وانظر خاصة ا. لتريه E. LITTRE: COMMENT LES MCTS CHANGENT DE SENS "مع مقدمة وتعليقات لميشيل بريال، باريس 1888"؛ ا. مييه. COMMENT les mots changent de sens. رقم 2، 1905-1906، ص38؛ وباول PAUL، رقم 188، فصل 4، وبرسون PERSSON، رقم 190، مجلد 2، ص968 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ويوزعها على وجه العموم على استعمالات مختلفة. فالكلمتان الفرنسيتان chaire "كرسي" "ولكنها تقال لكرسي الأستاذية أو كرسي الخطيب ... إلخ" وchaise "كرسي"؛ أو sieur "سيد "للاستعمال العادي" وseigneur "سيد" "تطلق على النبلاء أو على من لهم أتباع، أو من يعطي لهم لقب السيادة من جهة رسمية" ليس لهما نفس القيمة. ذلك بأن الحياة تشجع على تغير المفردات لأنها تضاعف الأسباب التي تؤثر في الكلمات. فالعلاقات الاجتماعية والصناعات والعدد المتنوعة تعمل على تغير المفردات وتقضي على الكلمات القديمة أو تحور معناها وتتطلب خلق كلمات جديدة. ونشاط الذهن يستدعى دائما للعمل في المفردات. وبالاختصار فإن الأسباب التي تؤدي إلى تغير الظواهر ليست في أية مادة أكثر تعقيدا ولا عددا ولا تنوعا منها هنا. لا تكاد تفكر في تغير المفردات حتى يتجه ذهننا في التو إلى حياة الكلمات "la vie des mots" وإلى الكتاب الصغير الذي كتبه أرسين درمستتير Arsene Darmsteter بهذا العنوان1. ولكن العنوان ليس أحسن ما في هذا الكتاب. هذا الكتاب. فعبارة حياة الكلمات نفسها عبارة موقعة في اللبس وكثيرا ما أدت إلى تفسيرات لو سمعها دار مستتير لما فاته أن يحتج عليها. إذ لا يعقل أن تعتبر الكلمة اعتبار الكائن الحي. فالشبه بينهما ظاهري فقط. لأن الكلمات لا تولد وتموت على الصورة التي بها يولد الإنسان ويموت. فقد نستطيع استثناء أن نعين السنة التي فيها دخلت في الاستعمال كلمة لم تكن معروفة حتى هذا العهد؛ مثلا كلمة chandail يرجع ظهورها إلى عام 1894م2؛ ويعزى خلق كلمة pudeur "حياء" إلى الشاعر ديبورت Desportes3, وكلمة bienfaisance "إحسان" إلى الأب   1 رقم 62. 2 كليدا cledat رقم 59، الطبعة الرابعة ص117. 3 فوجلا Vaugelas؛ Remarques sur la langue francaise, ملاحظة رقم 527، طبعة سنة 1738، مجلد 3، ص348. ويلاحظ أن كلمة pudeur مما استعمله منتي Montaigne, وEssais، 2/ 15 و3/ 5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 دي سان بيير de saint-pierre1. وكلمة obscenite وهي من خلق المتحذلقات، كانت تبدو لمعاصري موليير Moliere كأنها خلق جديد"2. وأحدث من كل هذا rescape "ناج" التي دخلت الفرنسية على أثر نكبة الكوريير courrieres "في سنة 1906" وكلمة indesirable "غير مرغوب فيه" التي دخلت على أثر مغامرة غرامية منع صاحبها من دخول الولايات المتحدة. ولكن الأمر في الحالة الأولى يتعلق بانتشار كلمة في الفرنسية المشتركة وكانت مستعملة فقط في مقاطعة "با, دي, كاليه" pas, de, calais؛ وفي الثانية باستعارة كلمة من اللغة الإنجليزية. فعندنا "إدخال" لكلمتين في الفرنسية، ولكن في ظروف لا تشبه الميلاد في شيء. استبدلت الفرنسية كلمة tete "رأس" مكان الكلمة القديمة CHEF المأخوذة من CAPUT اللاتينية، وكلمة JUMENT "فرس" مكان كلمة IVE المشتقة من EQUA اللاتينية. فلنفترض، وإن كان افتراضا بعيد الاحتمال، أن كلمة CHEF عادت إلى الاستعمال بمعنى TETE "رأس"، وأن IVE احتلت مكان منافستها الموفقة JUMENT "فرس"، أيمكننا في هذه الحال أن نتكلم عن عودة كلمة مريضة هي "CHEF" إلى الحياة، وعن بعث كلمة بعد موتها وهي كلمة "IVE" ذلك ما لا نستطيعه بأية حال، بل كل ما هناك هو إدخال كلمتين جديدتين في المفردات ولا يمكن أن يقال بوجود صلة بين كلمة IVE التي كانت في العصور الوسطى وكلمة IVE الجديدة التي ابتكرت في أيامنا هذه بواسطة الهوى أو الحاجة. وقد تنتقل كلمة من لغتنا إلى الخارج، وتصير مفقودة بالنسبة لنا، ثم تعود إلينا بعد قرون. مثال ذلك كلمة FLIRT "مغازلة" وكلمة BUDGET "ميزانية" اللتان تعتبران عندنا اليوم مستعارتين من الإنجليزية، ولكنا نعلم أن فرنسا موطنهما الأصلي، وأنهما عبرا البوغاز إلى إنجلترا منذ زمن قديم. ومع ذلك فمن غير الحق أن ننظر بعين الجد إلى ذلك المجاز الذي يشبه الكلمات بالمسافرين الذين يعبرون الحدود في اتجاه ما ثم يعودون إلى عبرها من جديد في اتجاه مضاد.   1 فولتير VOLTAIRE؛ SEPTIEME DISCOURS SUR L'HOMME. 2 نقد مدرسة الزوجات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ذلك بأن الكلمة التي وفدت علينا من إنجلترا ليست هي الكلمة الفرنسية القديمة fLEURETTE "زهيرة" وإنما جاءتنا كلمة إنجليزية FLIRT "مغازلة" أدخلناها في لغتنا الحديثة. وليست كلمة BOGETE "كيس صغير" القديمة هي التي استرجعناها في صيغة BUDGET "ميزانية" وإنما جاءتنا كلمة مخالفة، كلمة أجنبية، كلمة تدل، فضلا عن ذلك، على شيء آخر غير ما تدل عليه الأولى. ومع ذلك فعلم الاشتقاق الذي يقص أثر الكلمات في خلال العصور والأقطار ذو فائدة عظمى. نعم من المتفق عليه أن الكلمات لا تحيا حياة مستقلة، ولا وجود لها إلا في ذهن بني الإنسان. ولكن هذا النشاط الذهني الذي لا يكف عن العمل ينعكس في المفردات. فلنعب الغلطة التي تؤدي إلى أخذ الصورة المنعكسة في المرآة على أنها شخص حي، لأن الصورة لا حياة لها. ولكن هذا لا يطعن في أن المرآة تقدم لنا بأمانة تامة سلسلة الحركات التي نعملها أمامها. ومن المسموح به أن نحكم على هذه الصورة أو أن نفسرها على نحو ما نحكم على الشخص الذي يعكسها تماما. وهذا التعليل الساذج يكفي لتبرير قيمة النتائج التي يمكن أن ننتظرها من الاشتقاق. ومع ذلك فهناك شرط لا بد منه. ذلك أن الاشتقاق لا يعتبر عمله منتهيا عندما ينجح بقوة الصبر في أن يقرر تاريخ بضع كلمات قد أخذت على انفراد. اشتقاق الألفاظ منفردة لا فائدة منه في حد ذاته، فالحالة الخاصة، مهما ثبتت علميا ليست إلا ملهاة يتسلى بها إذا لم يستخرج منها مبدأ عام يستطاع تطبيقه على حالات أخرى. ونحن نعلم أنه يوجد من بين الاشتقاقات حالات كثيرة لا تؤدي إلى نتائج عامة. فلا يهمنا كثيرا أن تكون كلمة الـECHALOTE "نوع من البصل" مأخوذة من اسم مدينة عسقلان Ascalon, أو أن hussard "جندي من الفرسان" مأخوذة من اسم العدد "عشرين" بالمجرية، أو أن ليون lyon معناها مدينة الإله لوج "lug" فذلك يمكن أن يفيد منه من يدرس زراعة الخضار أو المؤسسات الحربية أو الأساطير الكلتية، ولكنه لا يفيد العالم اللغوي في شيء, فالعالم اللغوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لا يهتم بالاشتقاق إلا ليجمع أكبر عدد ممكن من العمليات المعنوية المتشابهة بقصد أن يستخرج منها القوانين العامة التي بمقتضاها يتطور معنى الكلمات. هذه القوانين لا تكون إطلاقا في الكلمات بعضها. وغلطة دومستير أنه أوهم بوجود نوع من المنطق الداخلي الذي يحكم التغيرات المعنوية للكلمات. فيظهر أن نظر المؤلف لم يمتد إلى أبعد من تلك التجريدات السكولاستية التي تنحصر في الاستعمالات المجازية أو في تسمية الأشياء الجديدة بأسماء قديمة, ولم يصل إلى الحقائق الواقعية المشخصة التي تمثلها الكلمات. الكلمات على ما هي مرتبة في الذهن ليست منعزلة. وميل الذهن إلى تجميعها إلى عوارض، كعوارض الاشتقاق الشعبي التي تصب الكلمات في صيغتها "انظر ص232". وأثر التجميع على معنى الكلمات أقوى منه على صيغتها. عرى الأسرة المعنوية تمسك كل كلمة في معناها التقليدي، أو إذا حدث لكلمة من كلمات الأسرة الرئيسية تحول في معناها، جذبت معها الكلمات الأخرى إلى المعنى الجديد. فلما تخصصت كلمة habit، ومعناها "حالة، هيئة" في معنى اللباس"، أصاب الفعل habiller "الوضع في هيئة ما" نفس التخصص؛ وهاتان الكلمتان جذبتا إليهما مشتقاتهما ومركباتهما habilleur "من يلبس" وhabillement "الإلباس" وdeshabiller "انتزاع الملابس" إلخ، والكلمتان pondre أو ponte تحولت كلتاهما في وقت واحد من فكرة "الوضع" عامة إلى فكرة "وضع البيض" في الكلام عن طائر أنثى. فالإحساس بالأسرة اللغوية أمسك هذه الكلمات مجتمعة. أما إذا تراخت عرى الأسرة أو انفصمت. لم يبق شيء لمنع المعنى من أن يضل الطريق: فالكلمة اللاتينية captiuus احتفظت بمعنى "أسير" خلال تاريخ اللغة اللاتينية بأسره، لأنه كان يوجد إلى جانبها الفعل capio "آخذ". وفي الفرنسية لم يبق الفعل capio بينما بقيت كلمة captiuus المشتقة منه، ولكن في حالة العزلة تلك، فلما لم تبق لها سنادة من الأصل الذي اشتقت منه وأصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 غير مرتبطة هائلة صرفية محدودة، تطورت تطورا سريعا فأصبحت chetif "بائس، ضعيف"، هذا التطور في المعنى الذي ساعد عليه انحلال المجموعة التي كانت تنتسب إليها الكلمة أصلا، يرجع بعض الشيء إلى وجود كلمة petit فكلمة "صغير" "والتي أدت إلى خلق مؤنث منها بصيغة CHETITE في بعض اللهجات". فكلمة CHETIF، وقد انتزعت من منبتها. غرست على شكل ما في مكان آخر ووصلت بمجموعة معنوية أخرى. في الألمانية العليا القديمة كانت بعض الصفات التي تصاغ بمساعدة اللاحقة -i- تملك إلى جانبها ظرفا يحتوي على اللاحقة -o- مثل FESTI "ثابت" وFASTO "بثبات"؛ SKONI "جميل" وSKONO "بجمال" ولكن هذه الصياغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المزدوجة لم تثبت على مر الزمن، وصار الظرف يصاغ من الصفة مباشرة، ومن هنا ورثت الألمانية، بعد سقوط النهايات، زوجين مختلفين من الكلمات هما: FEST "ثابت" وSCHON "جميل" "وهما صفتان"، FAST وSCHON "وهما ظرفان"، فلم تعد الصلة يحس بها بين كل كلمتين. فساعد ذلك على تطور معنى الظرفية: وFAST أخذت معنى "تقريبا" وSCHON أخذت معنى "قد DEJA" "قارن في الفرنسية A LA BELLE HEURE "لحسن الحظ" وDE BONNE HEURE "مبكرا"؛ أما إذا أرادت الألمانية في أيامنا هذه أن تقول "بثبات أو بجمال" قالت FEST وSCHON. ترينا هذه الأمثلة مقدار الأثر الذي تخضع له الكلمات من جراء الكلمات الأخرى التي من نفس الأسرة اللغوية يحدث في الدماغ عمل غير شعوري يثبت الكلمات في بعض المعاني وبعدها للاستعمالات التي توجه إليها. وفي الاستعمال تتعرض الكلمات إلى تغيرات أخرى في المعنى، والتغير في هذه المرة يأتي من سياق النص. تزود كل كلمة في لحظة استعمالها تزويدا تاما بقيمة وقتية تبعد عنها جميع القيم الناتجة من الاستعمالات الأخرى التي تصلح لها الكلمة. ومع ذلك فإن استعمال الكلمات يقوم بواسطة هذا التنوع نفسه، بتأثير دائم على دلالتها. وهذا يتجلى في صورتين: الأولى تنحصر في أن الاستعمال الثابت لكلمة بعينها في نص واحد بعينه يمكن أن يخدع الذهن، إذ إنه لما لم يكن لديه الوسيلة لتحديد قيمة الكلمة بالمقارنة، فإنه يتعرض لتغيرها. ومن جهة أخرى قد يؤدي الاستعمال المتكرر لنفس الكلمة في نصوص مختلفة إلى إبلاء قيمتها او إلى تغييرها. عندما نسمع جملة أو نقرؤها نرى الكلمات التي تشتمل عليها يفسر بعضها بعضا. فإذا كانت منها واحدة غير مألوفة لنا -والواقع أن هناك دائما فترة في حياتنا نسمع فيها الكلمة لأول مرة- حاولنا بطبيعة الحال تفسيرها معتمدين على سياق النص، وهذه هي الخطة التي يتبعها التلاميذ عندما يحاولون ترجمة نص أجنبي، نص لاتيني أو ألماني مثلا. هذه الفكرة التي نحصل عليها بالتخمين قد تكون زائفة. ولكنها تصحح في غالب الأمر، لأن الكلمة نفسها تقابلنا بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ذلك في جمل أخرى مع كلمات أخرى تحدد لنا معناها. وعلى هذا النحو يثبت في الذهن معنى كل كلمة. وهناك كلمات محدودة الاستعمال لا تظهر مطلقا إلا في صحبة بعض الكلمات الأخرى. وفرصة الخطأ في هذه الكلمات أوسع. لأن الاستعمال لا يقدم لنا الوسيلة لتحديد قيمتها. وفي هذه الحال كثيرا ما تبتعد الكلمة عن دلالتها الأصلية بسبب المعنى الزائف الذي يضاف إليها. فكلمة fruste كانت لا تقال في الأصل إلا وصفا للعملة التي مسح رسمها، وصار يفهم من عبارة monnaie fruste عملة خشنة الصنع خالية من الفن والدقة. ثم صارت تطلق بطريق التوسع على الرجل الفظ الغليظ غير المهذب. فهذا الذي تغلب هو معنى زائف، ولعل الذي ساعد على ذلك شبه صوتي غامض بين هذه الكلمة وبين الكلمتين:rustre وrustaud "خشن"1. الواقع أن الذهن يسعى إلى تحديد معنى الكلمات بجميع الوسائل التي في متناوله. ولكنه يخدع أحيانا إذا وجهته بعض ظروف خاصة في طريق غير مستقيم. فالصفة emerite كانت تطلق في الأصل على الموظف الذي يحال إلى المعاش. ثم صاروا يحاكون اللاتينية حذلقة فيطلقون عبارة professeur emerite على ما نسميه الآن "أستاذ شرف" ولكنهم راحوا يفسرونها على أنها تدل على "الجدارة" merite أو سمو المقام؛ فأصبحوا الآن يصفون الأستاذ بأنه emerite إذا أرادوا وصفه بالامتياز. وهذا ضد المعنى الأصلي، ولكنه استقر إلى حد أننا لن ندهش إذا سمعنا الناس يتكلمون عن فارس emerite أو طيار emerite. والآن بعد أن توسعت هذه الكلمة في استعمالاتها ودخلت في نصوص متنوعة، فقد امتدت أمامها الفرصة للاحتفاظ بالمعنى سليما وإن كان قد أضيف إليها عن طريق الخطأ. ومع ذلك نلاحظ أن معنى الكلمة يزيد تعرضا للتغير، كلما زاد استعمالها   1 كتب حديثا أحد أعضاء الأكاديمية كتابا نقرأ فيه الجملة الآتية يلخص فيها صورة بطل من أبطال الحرب: L'ensemble est solide, dominateur et fruste "هو على الجملة متين، متسلط خشن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكثر ورودها في نصوص مختلفة. لأن الذهن في الواقع يوجه كل مرة في اتجاهات جديدة، وذلك يوحي إليه بخلق معان جديدة ومن هنا ينتج ما يسمى بالتأقلم polysemi. يجب أن نفهم من هذا الاسم قدرة الكلمات على اتخاذ دلالات متنوعة تبعا للاستعمالات المختلفة التي تستعمل فيها، وعلى البقاء في اللغة مع هذه الدلالات. وعندنا مثال جميل عن التأقلم في كلمة bureau "مكتب" إذا كانت تدل في الأصل على نوع من نسج الصوف الغليظ المسمى etoffe de bure ثم أطلقت على قطعة الأثاث التي تغطي بهذا النسج، ثم على القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال التي تعمل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، وأخيرا على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات. وخلق معنى جديد لا يقضي بالضرورة على المعاني السابقة، فهنا يمكن لكل المعاني أن تبقى حية في اللغة إذا استثنينا الأول منها "نوع من النسيج". وحركة التغيرات المعنوية لا تسير دائما في خط مستقيم، بل تسير في كل الاتجاهات حول المعنى الأساسي، وكل واحد من المعاني الثانوية يمكن أن تصير بدوره مركزا جديدا للإشعاع المعنوي1. مهما تعددت الاستعمالات التي تصلح لها الكلمة وتنوعت، فإن أحدها يطغى غالبا على ما عداه، وهو الذي يعين معنى الكلمة الأساسي على النحو الذي يسجل عليه في القاموس. فإذا اتفق أن وجد استعمالان غالبان أو أكثر ولم يكن في الإمكان تداخلهما، فمعنى ذلك أننا أمام كلمتين مختلفتين، كما هي الحال في الأمثلة المذكورة في الصفحة الثالثة من الفصل الأول بالجزء الثالث. ولكن هذا المعنى الغالب لا يستطيع أن يضمن لنفسه البقاء مطلقا، فهو محوط بمعان ثانوية تتحفز دائما للظهور عليه واحتلال مكانه. المعنى الجديد ينمو شيئا فشيئا، ويحل نفسه محل القديم، كما يمتص فرع الشجرة العصير إلى أن يدوي الجذع الأساسي. وعندئذ تجد الكلمة نفسها وقد تغير معناها.   1 درمست Darmesteter رقم 62، ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254   1 عن هذه الأمور انظر: ت. هدسن وليمز T. Hudson williams رقم 21, مجلد 26، ص22 ونلدكه، Noldeke، رقم 29، جـ3، ص279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 هناك نقابل شيئا يمكن أن يقارن في الصرف بالصيغ القوية والصيغ الضعيفة، فبين الكلمات من حيث المعنى نوع من النظام التصاعدي يحتوي على معان قوية ومعان ضعيفة. فالأولى، وهي ليست أقدم المعاني بالضرورة، تفرض نفسها على العقل بمجرد ذكر الكلمة، وتدين بقوتها إلى أهمية استعمالها، أما الثانية فتبقى في الظل لأنها نادرة الاستعمال أو خاصته، ولا بد لإخراجها من الظلام، من مساعدة كلمة أخرى تضيئها وتظهر قيمتها؛ ولكن نظام المعاني التصاعدي هذا لا شيء فيه من الإطلاق والثبات. فهو خاضع لنزوات الاستعمال جميعها، تلك التي تولد التأقلم. ترجع أحيانا التغيرات المختلفة التي تصيب الكلمات من حيث المعنى إلى ثلاثة أنواع: التضييق والاتساع والانتقال. فهناك تضييق عند الخروج من معنى عام إلى معنى خاص مثل "pondre "يبيض" وsevrer "يفطم" وtraire "يحلب""؛ وهناك اتساع في الحالة العكسية أي عند الخروج من معنى خاص إلى معنى عام مثل "chercher "يبحث عن" وgagner "يربح" وtriompher "ينتصر""؛ وهناك انتقال عندما يتعادل المعنيان أو إذا كانا لا يختلفان من جهة العموم والخصوص "كما في حالة انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو من السبب إلى المسبب أو من العلامة الدالة إلى الشيء المدلول عليه إلخ، أو العكس". ولسنا في حاجة إلى القول بأن الاتساع والتضييق ينشآن من الانتقال في أغلب الأحيان، وأن انتقال المعنى يتضمن طرائق شتى يطلق عليها النحاة أسماء اصطلاحية "METAPHORE "الاستعارة" SYNECDOQUE "إطلاق البعض على الكل" أو METONYMIE "المجاز المرسل بوجه عام" أو CATACHRESE "المجاز المرسل بعلاقة الشبه أو غيره عند عدم وجود اسم للشيء المنقول إليه" إلخ". ونجد أمثلة منها في جميع الكتب المدرسية1، وهذا يغنينا عن بحثها هنا تفصيلا.   1 انظر خاصة درمستتير: رقم 62، وبريان: رقم 55. وراجع كذلك ل. كليدا: Revue de philologie francaise et provencale. مجلد 9 "1895" ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ولعل من الأفيد أن نذكر بإيجاز كيف تفسر أنواع التغير الثلاثة بظروف الحياة نفسها. الكلمات العامة لا تكاد تستخدم في الاستعمال بقيمتها العامة، اللهم، اللهم إلا إذا كان ذلك عند الفلاسفة، فكل واحد من المتكلمين يطلقها على نوع خاص من أنواع النشاط. وقد تكلم علماء اللغة عن المعاني المختلفة لكلمة عملية2. فإن معناها يختلف تبعا لما إذا كان الكلام في الجراحة أم في المالية أم في الفن الحربي أم في شئون الغابات   1 نيدرمان niedermann: رقم 30 "Anzeliger", مجلد 18، ص75. 2 تريان: رقم 55، ص285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أم في الرياضة، وتبعا لذلك نعرف ما إذا كان يدور حول قطع عضو من أعضاء الجسم أو عقد صفقة من صفقات البورصة أم قيادة كتيبة من الجيش في ميدان القتال أو تعليم الأشجار التي يجب أن تقطع أو حل مسألة حسابية. وإذا تكلم علماء اللاهوت في عملية الروح القدس، أرادوا معنى آخر غير هذه جميعا. وكلمة "موسم" أيضا من الكلمات التي تحتمل استعمالات مختلفة كل الاختلاف. فهناك موسم ما عند كل من مدير الفندق وصاحب "الفلا" وتاجر الفاكهة وزارع النبيذ والخياطة، بل وعند كل تاجر أو صانع، فلكل واحد من هؤلاء "موسم" وهو الفترة التي يكون فيها نشاط العمل على أشده، وتختلف هذه الفترة باختلاف أنواع النشاط وباختلاف الأماكن. وفي جزء من بمبروكشير PEMBROKESHIRE من بلاد الغال يطلق الموسم على الفترة التي ترى فيها خيل اللقاح تجوب الإقليم، وهذا وحده كاف للدلالة على إقليم معنى بتربية الخيل خاصة، فكل شخص فيه يهتم بمسألة اللقاح، فتشير الكلمة إلى الموسم بمعناه الحق في نظر المتكلم، كما رأينا في كلمة "العملية" حيث يرجعها كل واحد من المتكلمين الذين افترضناهم إلى الموضوع الذي يألفه. ويمكننا أن نسوق أمثلة من هذا القبيل لجميع الكلمات العامة، بل لجيمع كلمات اللغة، لأن معنى الكلمة مهما أوغل في التخصص، يمكن دائما التضييق من سعته أو من تخصيصه كما يقولون. أندر من ذلك حالة التعميم وإن كانت موجودة أيضا. وينحصر التعميم في إطلاق اسم نوع خاص من أنواع الجنس على الجنس كله. وهذه هي حال الأطفال الذي يسمون جميع الأنهار باسم النهر الذي يروي البلدة التي يعيشون فيها؛ هكذا يفعل الطفل الباريسي عندما يصيح وقد رأى نهرا JE VOIS UNE SEINE "أرى سينا" وتلك غلطة طفل لا يدوم لها أثر. ولكن هناك أخطاء مماثلة قد استمر بقاؤها. ففي السلافية الجنوبية صار اسم الوردة يطلق على الزهرة عموما1: في الصربية ROZA، وفي الكرواتية ROZICA. امتد أثر هذه الواقعة   1 شوخارت SCHUCHARDT، رقم 203، وقارن موركو MURKO، رقم 33 مجلد 2 ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 امتدادا جعل كلمة BLUME "زهرة" تختفي من اللهجات الألمانية المجاورة ويحل محلها كلمة ROSE "أصل معناها "وردة"" فيقال die wiese ist voll rosen بمعنى "الحقل مملوء بالأزهار". وبطريق العدوى صارت اللهجات الإيطالية في إقليم فريول frioul تطلق اسم الوردة على كل زهرة أيا كانت، واضطرت إلى أن توجد للوردة اسما جديدا، هو rosar أو garoful di spine, هذه الحالة التي لها أهميتها فيما يتعلق بانتشار الحالات الخاصة بالمفردات، تبرهن على وجود بعض الفصائل المعنوية التي فيها تختلط بسهولة النسب الكامنة بين الأجناس والأنواع. هذه المجاميع هي التي يكثر فيها بصفة خاصة انتقال المعنى بسبب التجاور. فكل كلمة من كلماتها لها مضمون خاص بها وتدل على شيء خاص objet. ولكنها أمام العقل تشترك جميعا في انتسابها إلى مجموعة عامة، ولما كانت فكرة العموم تطغى على المعاني الخاصة، فقد يحدث للعقل أن ينتقل من أحد المعاني إلى الآخر. وهذه الظاهرة تقع بصورة خاصة في أسماء النبات والحيوان وأسماء أجزاء الجسم والأمراض والألوان. اختلافات المعنى التي تلاحظ على اسم واحد من أسماء الألوان بين لغة وأخرى ترجع في غالب الأمر إلى أنواع من التخصص "انظر الصفحة السابقة"، ولكن الاتجاه الذي ندرسه هنا يستطيع أن يؤدي دوره أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أسماء أجزاء الجسم تعتبر "الميدان التقليدي لانتقالات المعنى"1. فنرى عددا كبيرا منها يتأرجح في اللغات المختلفة. وينتقل بسهولة من عضو إلى عضو أو من جزء إلى آخر: فكلمة coxa معناها "أعلى الفخذ" في اللاتينية، ولكن قرينتها coss تطلق في الإيرلندية على "القدم"، ونجد الخطوة الوسطى بينهما في الكلمة الألمانية Hachse "وهي أفضل من Hechse "أعلى الساق jarret" وفي مشتقات الكلمة اللاتينية "الكلمة الفرنسية cuisse "فخذ"، والكلمة الغالية المستعارة coes "بنفس المعنى""، فنرى أن الكلمة قد استمرت في النزول من أعلى العضو إلى أسفله. وأصل واحد هو الذي أعطانا الكلمة اللاتينية mentum "ذقن" والغالية mant "فك" والألمانية Mund "فم"، أما الكلمة الفرنسية bouche "فم" فقد جاءت من اللاتينية bucca التي تدل على "الخد" ... إلخ. قد يوجد في بعض هذه الأمثلة استعارة أو بتعبير أفضل، انتقال شعوري. فالذهن قد يضيف مختارا اسم أحد الأعضاء إلى العضو الذي يجاوره لقصد المزاح أو لسبب آخر. ويمكننا أن نقطع بوقوع الاستعارة إذا كانت الألفاظ تثير فكرة   1 ميرنجر Meringer: رقم 33، جـ3، ص46، ونسونر zamer؛ Romanische forschungen، رقم 14 "1903" ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 حلسية وفي هذه الحالة يمكن تفسيرها إما بوازع من الحياء وإما على العكس بسوء القصد. فقد يطلق الشخص على ثديي المرأة لفظ "النحر" أو "المعدتين" حسبما يكون مهذبا أو جلفا. وأسماء أعضاء الجسم المخزية، وبصفة عامة الكلمات التي تطلق على أفعال مشهورة بقذارتها أشد من غيرها تعرضا للنقل1. ويمكننا أن نقول إن الكلمات القذرة عامة كثيرة التبادل، اللهم إلا إذا كانت الكلمة المخجلة نفسها قد أطلقت على مدلولها بطريق استعارة معلومة للمتكلم، إذ في هذه الحالة لا يوجد سبيل لإطلاقها على عضو آخر. وهي ألفاظ يجمع بينها كونها كلمات قذرة، وهذا تعريفها، فيمكن أن تستعمل دون قيد للدلالة على أي جزء من الجسم ما دام قذرا. إذ قد يكفي وجود شبه بعيد أو جوار تافه لا يحس ليبرر انتقال الكلمة من معنى إلى آخر. وكل اللغات فيها أمثلة من هذه الظاهرة، فترك للقارئ مهمة البحث عنها بنفسه.   1 مار ستراندر Marstrander: رقم 30، مجلد 20، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يمكننا أن نتنبأ بنشوء علم دلالة عام، وذلك بتركيز المعلومات المستقاة من كل لغة عن تغيرات المعنى، فيسمح لنا هذا العلم بإرجاع تلك التغيرات إلى بضع قواعد -لا من وجهة نظر منطقية كما فعل العلماء حتى الآن- بل من وجهة نظر سيكولوجية وذلك يتطلب الابتداء من الأفكار التي تعبر عنها الكلمات لا من الكلمات نفسها. ليس من المصادفة بطبيعة الحال أن كان يعبر عن فكرة "المرة" في غالب الأحيان بالكلمة التي تدل على الرحلة؛ فيقال للعامل الذي ينزل براميل في كهف المنزل أو يصعد خشبا في الغرفة العليا منه: كم رحلة قمت بها؟ بدلا من "كم مرة نزلت أو صعدت؟ " والكلمتان uicissim, uices في اللاتينية اشتقتا من كلمة تدل على الرحلة، وكلمة رحلة نفسها تستخدم في صورتها اللهجية yadze للتعبير عن "مرة" في مقاطعة الفاليه valais السفلى "سويسرة" وفي القوطية تستعمل كلمة sinths التي معناها الحقيقي "رحلة" لتكوين الظروف العددية فيقال ainamma sinths "مرة" وtrim sinshams "ثلاث مرات"، وتستعمل في معنى "مرة" كلمة allvart في اللتوانية وfecht في الإيرلندية وgwaith في الغالية وفي الألمانية السفلى reise والاسكندناوية gang، وكل هذه الكلمات معناها الحقيقي "رحلة" وواضح أن هذا يفسر بتطور المعنى الطبيعي تطورا مستقلا في كل بلد من البلاد التي وردت فيها هذه الظاهرة على حدة. ومع ذلك فهناك تسميات من هذا القبيل لا يمكن أن يكون مجرد ورودها في لغات مختلفة دليلا على أنها نتيجة لاتجاه واحد بعينه، وإن كان مستقلا في كل حالة عنه في الأخرى. من ذلك اسم belette "ابن عرس" وهو حيوان ثديي صغير من أكلة اللحوم؛ فإنه في كثير من اللغات، كما في الفرنسية، مأخوذ من الصفة "جميل". فهو في الألمانية Schontierle "الدويبة الجميلة" وفي الدنمركية kjonne وفي البريتانية kaerell وفي الأسبانية "الغاليمية" garridina بل وفي البسكية andereder، ومعناها الحرفي "السيدة الجميلة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 "andere "سيدة" وeder "جميلة"". فليس من المعقول أن تكون هذه الفكرة نفسها قد عرضت في وقت واحد في أذهان كل هؤلاء الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة1. بل إننا هنا أمام مثال من خلق الكلمات بالمحاكاة، وبعبارة أدق من استعارة الكلمات بواسطة الترجمة، الأمر الكثير الوقوع في حالة اتصال اللغات بعضها ببعض. "انظر الفصل الرابع من الجزء الرابع". ويحدث أن ترتبط الكلمة بأسطورة فتنتشر معها وتساعدها على البقاء. وفي هذه الحالة تترجم المفردات عن واقعة فلكلورية، فلا يمكن إذن تتبع الطريق التي مرت به الكلمات إلا بدراسة الفلكلور. كذلك يحدث كثيرا أن تنتشر عبارة تجريدية في الأقاليم المجاورة بواسطة نوع من النقل يشبه أن يكون نسخا. فالفعل الإنجليزي to become "يصير" مثل الفرنسي devenir تماما، والفعل الغالي digwyddo "يصل"، مثل اللاتيني accidere "فالصيغة cywddo "يسقط" مثل cadere". وسندرس هذه الحالات فيما بعد، في الفصل الخاص باحتكاك اللغات. فهي على العموم تختلف كل الاختلاف عن الحالات التي نحن في صدد دراستها هنا، وإن لم يكن من السهل تعيين حد فاصل بين النوعين. فمثلا عندما نرى الفعل "يقع" يستعمل للتعبير عن فكرة "الإعجاب" في الألمانية "gefallen" وفي الإيرلندية "dofuit lemm "يعجبني" حرفيا "يقع لي""، وذلك دون وجود صلة تاريخية بين العبارتين، ففي هذه الحال لا يسعنا إلا أن نقول بوجود استعارتين متماثلتين نشأت كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى في كلتا اللغتين. فكرة الألم تجتمع بسهولة مع فكرة العظم، كما تجتمع فكرة القسوة بفكرة القوة. فالصفة الألمانية القديمة sero "أليم, موجع" التي لا تزال تستعمل في لهجات الجنوب "صربيا وبفاريا" بمعنى "مجروح، مكتئب" لم تستبق في الألمانية الأدبية إلا للتعبير عن التفضيل المطلق. ولعلنا نستطيع بسهولة أن نتصور خط سيرها. فقد قيل في أول الأمر sehr krank "مريض جدا" sehr betrubt "مكتئب جدا" قبل أن يقال sehr gross "كبير جدا" وsehr gut   1 رقم 33، مجلد 2، ص190، هامش رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يمكن أيضا الانتقال دون عناء من فكرة الإشفاق إلى فكرة الحنان. فتأمل البؤس يصحبه دائما إحساس بالحدب. لأن الإشفاق والود ينبعان من موضعين متجاورين في القلب الإنساني. فيقال حدبا: MON PAUVRE PETIT "صغيري المسكين" إذ لما كانت فكرة المسكنة وفكرة الصغر مرادفتين للضعف، كانتا توحيان بالحنان والإشفاق معا. وفي كثير من اللغات تستعمل كلمات واحدة للتعبير عن كل هذه العواطف دون تفريق؛ وتنتقل من أحداها إلى الأخرى. فالصفة bleiths تعنى في القوطية "مدر للشفقة"، وقرينتها في الألمانية العليا القديمة Blidi معناها "ظريف" ويظهر أن أصلها هو أصل الكلمة السنسكريتية mrityati "يذوب، يتفكك"، فالفكرة الأساسية هي فكرة الإشفاق التي تندي القلب وتلينه. لكن الطيبة لا تكون بلا ضعف، وبالإغراق في الطيبة يصبح الإنسان "مغفلا" كما يقول المثل الفرنسي في صراحة قاسية. والكلمات التي تمت إلى الطيبة والعذوبة والهدوء في كثير من اللغات قد استعملت للدلالة على البلاهة فالبساطة، وهي فضيلة في الخلق، تعد نقصا في العقل أيضا. وقاصر العقل يوصف في الفرنسية بأنه simple "بسيط" وفي الألمانية بأنه einfaltig "بسيط" والكلمات bonasse وdebonnaire "مبالغ في الطيبة" تحملان اليوم محملا سيئا وقد ساعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 على انحدار المعنى في الكلمة الأولى وجود اللاحقة asse التي تحمل معنى تحقيريا لا شك فيه. ولكن ليس هناك أي أثر خارجي ساعد على تطور الكلمات silly في الإنجليزية وalbern في الألمانية وgwirion في الغالية "في الجزء الشمالي" والأولى منها معناها في الأصل "هادئ، مأمون الجانب" "قارن soelig في الإنجليزية القديمة وselig في الألمانية" والثانية "حسن العشرة طيب" "في الألمانية العليا القديمة alawar" والثالثة "صادق الود، بريء" "وما زالت تستعمل في جنوب الإقليم"؛ واليوم تطلق الكلمات الثلاث ويراد بها الغبي أو الأخرق. وقد وقع نفس التحول بالنسبة للكلمة الفرنسية innocent "بريء"، ولكن بواعث دينية زادتها سوءا على سوء. ذلك أن سخرية مواطنينا دأبت تنصب على أولئك الأشخاص الذين وهبوا أنفسهم لله ليمن عليهم بشهادة من بساطة العقل، إن لم تكن من النفاق, وإلى هذا الاتجاه الخالي من التبجيل تدين الكلمتان benet, وcretin بمعناهما التحقيري "فالأولى منهما جاءت من beni "مبارك" والثانية من Chretien "مسيحي"". كل التغيرات المعنوية التي أشرنا إليها ليست سيكولوجية إلا جزئيا حيث أن المادة التي تدل عليها الكلمة تعين على هذا التغير بطبعها. فالشخص التعس يستدعي الحدب عليه بطبيعة الحال، والرجل الطيب فيه استعداد لضعف الشكيمة وأحيانا لبساطة العقل؛ والعنف يفترض القوة والقدرة، ويبطش بطش الرفيع العظيم فيمكننا القول بأن العقل إنما اتبع في انتقاله من فكرة إلى أخرى السبيل الذي خطته التجربة في الحياة، فاختصر في كلمة واحدة سلسلة بأسرها من الملاحظات، ومع ذلك فإن نصيب العقل يعد على جانب من الخطورة بحيث يخول لنا أن نتكلم هنا أيضا عن تحولات سيكولوجية؛ إذ لا يكفي للملاحظة أن تمون بالتجربة، إذا لم يستطع العقل أن يستخرج منها النتيجة المناسبة. فتفسير صفات المسالمة التي تبدو على رجل طيب تفسيرا سيئا وتمجيد قسوة الظالم عن أنها من عظائم الأمور والعطف على البائسين، أليست كلها ميولا يستجيب لها كل إنسان إن قليلا وإن كثيرا؟ إذا وجدنا اللغة تعبر عنها، أمكنا أن نقول بأنها تكشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عن خلق المتكلم: فهي علامة الخلق الساخر أو المستعبد أو الرحيم، وبها نستطيع أن نميز الأشخاص على ما بينهم من اختلاف. الانحدار الذي يصيب الكلمات "يعكس بطريقة ملموسة إما الاحتقار الذي تكنه الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض وإما البغض المتبادل بين الأوطان والأجناس وإما التعصب الأعمى من جانب الجماهير وإما عدم احترام المتعصبين لآراء غيرهم, فالناس يتباغضون ويتناحرون ويتبادلون الاحتقار ويتنابذون بالألقاب، واللغة حارس أمين على آثار هذه الحماقات المستمرة"1. فالكلمات BRIGAND "قاطع طريق" وRIBAUD "إباحي" وASSASSIN "قاتل" GRIVOIS "خليع" التي كانت تطق في أول أمرها على بعض الكتائب العسكرية تدين بمعناها الحالي إلى غلظة الأخلاق الحربية واستهتارها، كما تدين كلمة cuistre "قديما "طباخ" وكلمة goujat "قديما "خادم"" إلى احتقار السيد لخادمه؛ والكلمات bouquin "مستعارة من الفلمنكية boecken "كتاب"" وLIPPE "مستعارة من الألمانية LIPPE "شفة" وROSSE من الألمانية ROSS "حصان"". وHABLEUR "من الأسبانية Hablar "يتكلم" تحمل على التهكم الساخر الذي يرتبط بكل ما يأتي من الخارج. ومما تجدر ملاحظته أن كلمة parlar في الأسبانية "المشتقة من parler الفرنسية بمعنى "يتكلم"" لا تقال إلا لتدل على أمر سيئ. وكلمة madame "سيدة" قد بقيت كلمة نبيلة في الإنجليزية والفرنسية، أما في الألمانية التي دخلتها بطريق الاستعارة، فقد صارت عامية سوقية: ففي برلين تعتبر Madamchen من ألفاظ السوقة2. يمكننا أن نتصور علما لسيكولوجية الشعوب يقوم على اختيار التغييرات المختلفة التي تشاهد في اللغات التي يتكلمونها خاصة بالمعنى. وقد تكون هذه   1 نيروب Nyrop: رقم 105، مجلد 4. 2 جوستاف كوهين: "خطاب بمناسبة افتتاح كرسي اللغة الفرنسية وأدبها بجامعة أمستردام". باريس شامبيون "1912" ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الدراسة مضنية، ولكنها تستحق ما ينفق فيها من عناء. بل من الممكن ألا نخرج منها بنتيجة محددة وأن نصل في النهاية إلى أن نكشف عند جميع الشعوب اتجاهات سيكولوجية واحدة على وجه التقريب، هي ميول العقل الإنساني نفسه. ولكن قد نصل أيضا إلى إقامة بعض الحدود وتحديد بعض دقيق الفروق. فأغلب الظن مثلا أن تكشف لنا المفردات الإنجليزية عن احترامهم للأشياء الدينية وللأشخاص الذين كرسوا للدين أنفسهم أكثر مما نجد منها في مفردات الفرنسية. وقد تطلعنا هذه الدراسة على بعض الفروق بين الألمانيين والفرنسيين. فكلاهما مثلا في حديثه العائلي يألف إطلاق أسماء بعض الحيوانات على الأشخاص، ولكن الفرنسي يخلط بهذا الاستعمال عاطفة من السخرية والاحتقار، أو القذف. أما الألماني -وهو أكثر عاطفية من صاحبه- فيفضل أن يلونها بلون من العطف. فالمحامي هلمر Helmer من أبطال رواية لإبسن Ibsen يبدو للفرنسي مضحكا، إذ ينادي امرأته كل حين بالعصفورة أو بالسنجاب. ولكن هذه الألفاظ التي تدل على الملاطفة لا تعد جارحة في اللغة الإسكنديناوية ولا في اللغة الألمانية. وعلى العكس من ذلك، يميل الفرنسي إلى أن يربط أفكارا مخزية أو فاحشة بالأسماء التي تدل على أشخاص من الجنس اللطيف, وقد أصيبت برشاش هذا الانحراف أسماء الأعلام Jeanneton, Goton, Catin والأسماء المشتركة garce وgouge وdonzelle وFille "تدل في الأصل على معنى بنت أو امرأة، والآن أصبحت من الشتائم المقذعة", ولن تلبث كلمة demoiselle "آنسة" أن تصاب بما أصيبت به سابقاتها. إن أعنف الكلمات التي يتأتى للغضب أو البغض أن يستخدمها، قد تستعمل أحيانا في الملاطفة، فتستخدم استخدام عبارات المداعبة اللطيفة البريئة من كل احتقار أو ملام. فمن المألوف أن يدعى الطفل polisson "فاجر" أو petit coquin "الخبيث الصغير" ويوصف الصديق بأنه bon bougre "المعتوه الطيب" أو Vieille canaille "الوغد العجوز" كذلك الكلمات luder أو Schelm في الألمانية وctverak في التشيكية يمكن أن تقال على سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الملاطفة، وهي شتائم في الأصل. ولكن الأم الفرنسية لا تنادي طفلها: "mon" "petit pouilleux" "يا صغيري المقمل" كما تفعل الألمانية إذ تقول بلا حرج mein Lausbube، فهناك شيء من الفرق؛ ولكن هذه الاستعمالات رهن بالعرف بل وقصيرة الأجل. ويمكننا بسهولة أن نستخرج من الألمانية بعض العبارات الأليفة التي تبدو لنا خالية من الروح مثل das ist mir wurst und egal "هذا لا يعنيني"؛ وnicht die Bohne بمعنى "كلا، مطلقا! " وkein Bein "لا أحد" إلخ. ولكن العبارات الفرنسية مثل "la jambe" أو "la barbe" أو "la ferme" ليست أكثر منها تميزا وذكاء. وإذا كان في وسع التغيرات المعنوية أن تعرفنا بالسيكولوجية، فإنها ليست أقل قدرة على تعريفنا بظروف الشعوب الاجتماعية. تفسر الروابط العائلية أيضا الاستعمال المجازي لبعض أسماء القرابة الذي تقابله في كثير من اللغات. فكون كلمة nepos تطلق في اللاتينية على السفيه وكلمة Schwager تطلق في الأنية على سائق عربة البريد يمكن تفسيره على أنه نوع من المزاح، ويطلق اسم "العم" في الألمانية على شيخ محبوب فعال للخير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 واسم العمة على الشخص العابس الكثير التقريع "die Tante voss" في كل هذه الاستعارات تبدو بكل بساطة روح الخبث التي هي صورة من صور البصيرة الشعبية. وبالعكس عندما تستعمل الكلمة الدالة على ابن الأخ "أو ابن الأخت" للدلالة على المنافس كما في السنسكريتية "bhratrivyas" فإن هذا الاستعمال يكشف لنا عن نظام عائلي كانت فيه العلاقات بين العم وابن أخيه مختلفة اختلافا شاسعا عما هو سائد في عائلات اليوم.   1 يذكر في الوثائق خاصة بالقديس بتريس Saint Patrice أن حصانا بيع بـcumal من النقود. "Codex Ardmachannus, to 17 ba". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فنرى هنا أن بعض العوامل الاجتماعية تتدخل في تطور المفردات، تلك العوامل التي لم نكن قد قابلناها حتى الآن إلا مصادفة. وستظهر في صورة أوضح في الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها نشرت دراسات عديدة تبين كيف تغير الألفاظ معانيها. ولكن هذا السؤال يمكن أن يدال على وجهه الآخر. فهناك مجال أيضا لدراسة كيف تغير المعاني الكلمات، أو بعبارة أصح كيف تغير الأفكار أسماءها. وإذا درسنا المفردات في جميع اللغات التي نعرف تاريخها، أمكننا بكل يسر أن نكون مجاميع من هذا القبيل، لأن المفردات في كل اللغات قد خضعت لهذا التجديد إن قليلا وإن كثيرا. وأسباب هذا التجديد معقدة، وأحيانا تند عن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بحث، ذلك لأن حالات الكلمات جد غريبة، تتوقف على عوارض يستحيل أن تتنبأ بها قبل وقوعها كما يستحيل أن نتخيلها بعد وقوعها إذا لم يمدنا التاريخ بما يدل عليها. ومع ذلك فهناك أسباب عامة لتجديد المفردات، تستطيع أن تفسر الجزء الأعظم من حالاتها. ويمكننا اعتبار هذه الأسباب من وجهين, من وجهها الفردي في سيكلوجية المتكلم نفسه، ومن وجهها الاجتماعي في الاستعمال الغوي الذي تقوم به البيئات الاجتماعية. يتخلص المتكلم عادة من الكلمات التي لم تعد كافية للتعبير عن المعنى الذي نيط بها التعبير عنه، لأنها ضعفت وبليت. وهذا البلى نفسه يمكن أن يرجع لأسباب صوتية أو لأسباب معنوية. الكلمات القصيرة ينقصها التعبير غالبا. وإذن فالتغيرات الصوتية بتقصيرها للكلمات تعرضها للبلى. لذلك لم يعد عندنا في الفرنسية ولا في أية لغة رومانية أخرى، اثر للكلمة اللاتينية os "فم". واستعضنا عن الكلمة القديمة ive "من eque" بكلمة jument "فرس" التي هي أقوى منها بنية. ونعرف أن اللاتينية العامية اضطرت إلى إطالة بعض الكلمات بواسطة اللواحق لتحفظها من الضياع: فالكلمات auris, opis وsol صارت apicula وauricula وsoliculus، ومنها جاءت الكلمات الفرنسية abeille "نحلة" وoreille أذن" وsoleil "شمس". فاللاحقة هنا ليست لها أية قيمة تصغيرية، كما قيل أحيانا، بل القصد منها إنما هو تزويد الكلمات بالحجم، أي بالمادة التي كانت تنقصها. ولولا عملية التطعيم اللغوي تلك، لمات عدد كبير من الكلمات بعد أن لفظها الاستعمال؛ ومثل ذلك كلمة ains التي يبدو أن لبرويير la Bruyere كان يأسف عليها، فإذا كانت هذه الكلمة قد هجرت، فذلك بسبب صيغتها، فهي وحيدة المقطع، وتبدأ بحركة وتتكون فقط من حركة أنفية، فكان مصيرها الهلاك. هناك أيضا ميل لطرح الكلمة التي صارت بسبب عوارض صوتية، كبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الشبه بغيرها. فنعالج العقبات الناجمة من تشابه الكلمات بواسطة الاستعاضة عن إحدى هذه الكلمات بكلمة جديدة. ومثل ذلك الكلمة التي تمثل صوتيا الكلمة اللاتينية Serrare "ينشر"، فإنها لم تبق حتى اليوم إلا في أماكن متفرقة من الأقاليم المتكلمة بالفرنسية1، وكانت من قبل ذات ميدان انتشار مترامي الأطراف متلاصق متجانس. فإذا كانت قد استعيض عنها في كثير من الأماكن بكلمات متأخرة عنها في الاشتقاق ومأخوذة من الأصول اللاتينية secare أو resecare أو sectare فذلك لأنها كانت تشبه الفعل serare "يغلق" شبها يكاد يكون تاما، وكان هذا الشبه يتقدم شيئا فشيئا نحو التماثل الكامل. ونشأ عن ذلك شيء من العسر حاولت اللغة أن تتخلص منه في كل الأماكن التي كانت تستعمل الفعلين معا. يرجع التجديد في هذه الحالات جميعا إلى عارض صوتي. ومع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في أهمية الصوتيات. إذ من النادر أن تستطيع وحدها تفسير كل شيء فالكلمات التي تركها الاستعمال لصيغتها كانت تحتوي أحيانا على دواعي أخرى لهذا الترك. واللغات نفسها كثيرا ما تقاوم. فالسياق يحمي الألفاظ المتماثلة من خطر اللبس، وهذا يسمح بالإبقاء عليها دون إضرار. وتستطيع اللغة حماية الكلمات القصيرة وتعضيدها بأن تسندها بكلمات أخرى بصفة دائمة. فالصفتان sain "سليم" وsauf "معافى", لا توجد إحداهما بمعزل عن الأخرى بل تتحدان معا، وبهذا تأتي لهاتين العاجزتين أن تقويا على المقاومة, فيقال sain et sauf "سليم معافى". وليس أعلام الأماكن من الأسماء التي يسهل على الإنسان أن يتركها للضياع؛ فإذا كانت وحيدة المقطع حاولت اللغة أن تحافظ عليها بأن تضيف إليها أسماء مشتركة تسندها. وبذا صارت الكلمات ain "اسم نهر" وEu "اسم مدينة" وBatz "اسم قرية" على الصورة الثانية: la riviere d'Ain "نهر الإين" وla ville d'eu "مدينة أو" la bourg de Batz "قرية باتز". وأحيانا بإضافة عنصر إليها يمد من طولها؛ فيقال في Bourg "اسم مدينة   1 جلبرون: رقم 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 "بور"" Bourg -en- Bresse "أو أن يقال بكل بساطة Bourk بنطق الكاف المتطرفة: بورك", هذه كلها أنواع يعالج بها البلى الصوتي. وليس البلى المعنوي أقل خطورة من ذلك. فكثرة الاستعمال تبلي الكلمات في معناها وفي صيغتها، ولا سيما إذا كانت من الكلمات المعبرة، لأن قيمتها التعبيرية تتضاءل بسرعة في الاستعمال. فتصبح الكلمة معتمة بالية. وفي حالة التعبير عن انفعالات النفس مثلا، نرى أقوى الكلمات تخطو نحو الخمول شيئا فشيئا حتى تنتهي بالإهمال، لأنها لم تعد معبرة. ويمكننا تحقيق هذه الحقيقة في حالة التعبير عن الكمية، ولا سيما الكمية الكبيرة، وبالتالي عن التجاوز والخروج عن الحد. فالكلمة الفرنسية beaucoup "كثير" حلت محل الكلمة القديمة moult "من multum"؛ ونحن نعرف أن beaucoup نفسها قد استعيض عنها في اللغة الجارية بعدد كبير من الأبدال مثل un grand nombre "عدد كبير" وune foule "جمهور" وdes quantites "كميات" وdes tas "أكوام" و"des flottes" "أساطيل إلخ؛ وذلك تبعا لموضوع الكلام ولدرجة التعليم عند المتكلم أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 "مجنون للغاية" أو ultra-reactionnaire "رجعي فوق الحد" أو تستعمل ظروفا مثل parfaitememt "تماما" أو completement "كلية" أو absolument "مطلقا" أو tout a fait "للغاية"، إلخ. ووفرة ظروف التفضيل تلك في الفرنسية أمر معروف، حتى لقد يتعذر إحصاؤها، لأن كل شخص يخترع منها ما شاء له هواه. وبعض هذه الظروف يمكن أن يفسر من تلقاء نفسه، مثل grandement وfameusement وextraordinairement وepatamment. ولكن الصفة التي اشتق منها الظرف كانت تضعف بقدر ما كانت تقوى القيمة التفضيلية. فكأن العقل قد أهمل الأصل ليركز انتباهه في اللاحقة ment التي أصبحت جزء الكلمة الرئيسي. ويكفي للتعبير عن التفضيل المطلق على وجه العموم أن يدل الأصل على شيء فيه فكرة القوة والخشونة أو الغلظة، ومن ثم استعملت للتعبير عن التفضيل المطلق هذه الظروف: rudement وsalement وbonnemet وterriblement وeffroyablement وfurieusement, إلخ. وهذا غير مقصور على الفرنسية. فالألمانية المتداولة قد تصف امرأة بأنها FURCHTBAR NETT لطيفة بإزعاج، بشكل مزعج، يعني "لطيفة جدا" أو FURCHTBAR SUSS "حلوة بشكل مزعج"، وتستعمل عبارات مثل HUBSCH ARTIG "خبيث بشكل جميل، خبيث جدا" وHUBSCH GESUND "سليم بشكل جميل، سليم جدا ... "؛ وذلك كما تقول الإنجليزية PRETTY DIRTY "قذر بشكل لطيف "قذر جدا"". ولما لم يكن في الألمانية والإنجليزية علامة خاصة توصل بالظرف، كانت قيمة الكلمات FURCHTBAR وHUBSCH وPRETTY متوقفة فقط على مكانها ونبرها وعلى كونها لا تنفصل من الصفة التي تتبعها والتي تكون معها كلمة واحدة بالنسبة للعقل. فنحن في الواقع أمام خلق لدالة نسبة، ولكنها حالة نسبية تعبيرية "انظر 180، 186". كل الكلمات التي لها قوة تعبيرية أيا كانت، معرضة لضعف قيمتها، وهذا بدوره يبعث على التجديد، وكم في كل لغة من عبارات تدل على شيء كريه ثقيل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 يقال في الفرنسية وحدها ENNYUANT وEMBETANT وFATIGUANT وCRISPANT وESQUINTANT وETREINTANT وASSOMMANT وTUANT وRASANT وBARBANT وCANULANT، إلخ، وهي كلمات غير مترادفة وتنتمي إلى لغة أوساط متنوعة، ولكنها جميعا تتنافس في الدلالة على ما تدل عليه، وستبلى هي الأخرى أيضا بكثرة الاستعمال حتى يضطر الحال إلى اختراع غيرها. إذا كانت الفكرة أو الشيء من الأفكار أو الأشياء التي تثير إلى جانب قيمتها الأساسية قيما ثانوية تبعا للأوساط والظروف، وجدنا عنها في اللغة عبارات متنوعة. وتدخل النقود في هذه الأشياء، فلها في كل لغة عبارات عديدة، فيقال عنها في الفرنسية: de la galette وde la braise وdu pognonوde la douille وdu beurre وde l'os وdu peze وdu platre إلخ؛ وفي الألمانية تستخدم الكلمات Draht وKies وMoos, مرادفة للكلمة Geld وبالطبع يعبر عن فعل "نقد" بصورة مختلفة تبعا للأوساط، فيقال في الفرنسية verser وcasquer وcracher وeclairer إلخ وفي الألمانية blechen وbluten وberappen. ونجد في اللغات المختلفة للتعبير عن فكرة tromper "يخدع" صورا متنوعة من هذا القبيل. والضوضاء تنجم عن أسباب مختلفة، ومن ثم تنوعت طرق التعبير عنها؛ فيقال في الفرنسية du potin وdu barouf وdu chahut وdu raffut وdu petard وdu chambard وفي الألمانية Radau وRandal وkrakehl إلخ. قد يحتج بأن الكلمات التي ذكرت هنا، كلها من العامية الخاصة argot والعامية الخاصة تنحصر في استعمال مفردات خاصة. ولكن هذا احتجاج باطل، لأن العامية -كما سنرى في فصل لاحق- تنتج من ظروف طبيعية للغة، واللغة الخاصة ليس معناها لغة اصطناعية بأية حال. فمسالك العامية الخاصة مسالك طبيعية لا غبار عليها. وإذا كانت الحاجة إلى التجديد أظهر في العامية الخاصة منها في غيرها، فمرجع ذلك إلى استعمال هذه العامية الخاصة لغة للكلام، والتعبيرية في لغة الكلام ضرورة دائمة "انظر الفصل الثاني من الجزء الرابع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 على أنه لا يوجد حد فاصل بين العامية الخاصة وبين اللغة التي يتكلمها جميع الناس. فكم من ألفاظ تعد من أنبل الكلمات وأوغلها في الروح الأدبية، قد استعيرت من العامية الخاصة! من ذلك كلمة tete "رأس" بالنسبة لكلمة caput, وإذا انتزعت tete من عرشها يوما لتحل محلها bobine أو fiole، كان ذلك انتصارا جديدا تسطره العامية الخاصة في قائمة انتصاراتها. فتسمية الرأس باسم إناء من الآنية أمر طبيعي وقع في لغات أخرى، ولا سيما في الجرمانية، حيث تشترك كلمة kopf "رأس" مع الكلمة اللاتينية cupa في أصل واحد، والاسكندناوية اشتقت kollr "رأس" من Kolla "إناء". وأسماء أجزاء الجسم كثيرا ما تبعث على استعمال استعارات من هذا القبيل، وإن لم تكن كلها في ذلك سواء. فاسم "القدم" مثلا قد بقي واحدا لا يتغير في كثير من اللغات، ولكن اسم السيد تجدد أكثر من مرة، واستعيض في الدلالة عليها بأسماء تدل على الكلابة والملقط والملعقة، إلخ1. ويرجع ذلك إلى أن اليد تستخدم في أمور أكثر تنوعا من القدم، وخاصة في أمور تبعث هي نفسها على التجديد في التعبيرية. فلفكرة الأخذ مثلا عبارات عديدة في كل اللغات. فكرة "التكلم" أيضا" تختلف بدورها باختلاف العواطف التي تثيرها2. والأفعال التي معناها "تكلم" تبلى بسرعة. فها نحن أولاء في سبيل إحلال causer محل parler "يتكلم". والفعل parler نفسه دخيل متأخر على اللاتينية "parabolare"؛ أما الفعل القديم loqui فقد مات منها، وهذا الفعل loqui نفسه كان تجديدا في اللاتينية "أو الإيطالية الكلتية" في معنى "يتكلم" العام. واللغات الكلتية الحديثة الأساسية الثلاث تستعمل للتعبير عن هذه الفكرة ثلاثة أفعال مختلفة هي: labhraim في الإرلندية وsiarad في الغالية وkomps في البريتانية، ويقال في الإنجليزية speak وفي الألمانية sprechen وفي القوطية   1 أولسين Uloszyn، رقم 33، مجلد 2، ص200. 2 ميشيل بريال michel Breal، رقم 12، مجلد 14 "1901"، ص113؛ وكارل د. بك Karl D. Buck، رقم 19، مجلد 34، ص1-18 و125-154، ا. مييه: رقم 6. مجلد 20 "1916"، ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وأحيانا يرجع التجديد إلى الرغبة في المخالفة. فهناك أشياء تسلك أزواجا ويصر الذهن على التفريق بين أفرادها إلى أحد أنه إذا تشابه اسما فردين من هذه الأشياء نتيجة مصادفة ما، اختفى أحدهما وحل غيره محله ليبقى التمييز بين المسميين واضحا. هذه هي الحال مع التمييز بين الجنسين في بني الإنسان وفي الحيوان. والزوج الأساسي الذي اتخذ مثالا يحتذى في كل ما عداه، هو الأب والأم اللذان لهما في كل الحالات وفي كل الأماكن اسمان مختلفان "من حيث الأصل بالطبع". ووفقا لهذا المثال سمي عدد آخر من الأزواج بأسماء مختلفة: الزوج والزوجة، الأخ والأخت، العم والعمة، إلخ. وأغلب الظن أن الاحتفاظ بهذه المخالفة على هذا النحو من العناية يرجع إلى ميل عام في الذهن. وقد احتفظت الفرنسية بالكلمتين fils "ابن" وfille "بنت" اتباعا للاتينية، ولكنها عند مقابلة الجنسين أحدهما بالآخر، لا تستعمل الآن fils "ابن" بل garcon "صبي" فيقال: filles et garcon "بنات وصبيان". هذا إلى أن اللاتينيين بخلقهم للزوج filia filius، قد خالفوا الاستعمال الجاري في الهندية الأوربية، هذا الاستعمال الذي احتفظت به اللغات الجرمانية والسلافية وكذلك الإغريقية. فالكلتية لم تبق الأسماء القديمة، ولكنها احتفظت بالمقابلة، في الإرلندية mac، وفي البريتانية map "ابن" وفي الإرلندية ingen وفي البريتانية merc'h "ابنة". الكلمة اللاتينية dominus "سيد" ومؤنثها domina "سيدة" قد أصبحتا في الفرنسية صيغة واحدة كان المقصود منها أن تطلق على الجنسين. وقد بقيت لنا ذكرى من dame مذكرا في صيغة التأفف dame المختصرة من عبارة Dame-Dieu "السيد الإله" وفي اسم vidame "نائب السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 "وهو لقب لنائب الأسقف في الأمور المدينة قديما""، ولكنها ليست أكثر من ذكرى. فلم يبق إذن في اللغة إلا الكلمة المؤنثة وخلق لها مذكر جديد هو monsieur "سيد". وقد وقع هذا الشيء بعينه في الألمانية؛ فالكلمة الألمانية frau "سيدة" "frouwa في الألمانية العليا القديمة" كان لها مذكر إلى جانبها، وهو fro "في القوطية frauja". وقد مات هذا المذكر ضحية أيضا لشدة شبهه بالمؤنث الذي يقابله. وتستعمل الألمانية اليوم Herr "سيد" في مقابلة frau كما تستعمل الفرنسية monsieur في مقابلة madame والإنجليزية Gentleman في مقابلة lady. وهذه المقابلة شائعة في أسماء الحيوانات. فاللاتينية تقول: equa, equus ولكنها تقول: taruus وaries, vacca "أو ueruex" وouis وcatus وfeles؛ uerres وscrofa. والفرنسية تقابل cheval "حصان" بـjument "فرس" كما تقابل الألمانية: Pferd بـStute والإنجليزية horse بـmare ومع ذلك كان في وسعنا أن نقول: chevale "حصانة" كما نقول chatte "قطة" أو chienne "كلبة". ونحن كذلك الذين خلقنا le mouton "الخروف" وla brebis "النعجة"، le bouc "الجدي" وla chevre "العنزة"، le porc "الخنزير" وla truie "الخنزيرة" وle cerf "الوعل" وla biche "الوعلة"، le sanglier "الخنزير البري" وLa laie "الخنزيرة البرية"، le coq "الديك" وla poule "الدجاجة"، le lievre "الأرنب البري" وla hase "الأرنبة البرية". فهي صورة خاصة من الإحساس بتقابل النوعين، تلك التي تلعب في كثير من اللغات دورا هاما. لا تستطيع السيكولوجية، حتى في الأمثلة السابقة، أن تفسر لنا كل شيء. فالبلى الذي يصيب الكلمات يرجع دائما, ولو بمقدار قليل، إلى البيئة الاجتماعية التي تستعملها. وإذن يجدر بنا أن نناقش مسألة تجديد المفردات من الوجهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الاجتماعية. فالأسباب الاجتماعية واضحة جدا في تغير الكلمات مراعاة للياقة1. إذ ليس من اللائق أن يتكلم في أحد المجتمعات عن أفعال معروفة بالفظاظة أو بأنها مما يجرح الحياء، وتستبعد الألفاظ التي تعبر عنها من بين المفردات التي يستعملها الأشخاص المهذبون. فللتعبير عن هذه الأفعال عبارات متنوعة تبقى مستعملة حتى تصير بدورها خشنة وجارحة للأذن. لذلك لم نستبق نحن كلمة واحدة من مشتقات الفعل اللاتيني mingere "يبول"، والفعل pisser الذي استعضنا به عن السابق لم يعد هو الآخر يستعمل في مجتمع راق، بل يستعاض عنه بالفعل uriner الذي هو أقل منه خشونة. ولم ينج الفعل vomir "يقيء" من الضياع إلا ما له من صفة طيبة، ولكنه تعبير خشن ويستعاض عنه بأبدال مثل: rejeter وrendre وs'expliquer إلخ. والألمانية أيضا تستعيض عن ausbrechen بـsich uber-geben. والذي يقطع بكون الكلمة لائقة أو غير لائقة إنما هو العرف. واللفظ بذاته يختلف حاله في إقليم عنه في الآخر. فكلمة pissoir "مكان البول" في الألمانية أقل منها جرحا للأذن في الفرنسية. لأن استعارة كلمة من الخارج تخفف من افتضاح الشيء الذي يعبر بها عنه، فهي تلعب دور الكناية. وهناك أفكار يعبر عنها غالبا بالكناية، ومنها فكرة الموت، فبدلا من mourir "يموت" تقول الفرنسية perir "يفنى"، passer "يمر", trepasser "يعبر" deceder, "معناها الأصلي "يذهب"" s'endormir "ينام" rendre son ame a Dieu "يرد روحه إلى الله"، إلخ؛ أو تستعمل فقط partir أو s'en aller "ينطلق" وكان يقال في القوطية usqiman، ويقال في الألمانية vergehen وerblassen وverbleichen. هذه العبارات المخففة تصور شبح الموت في صورة أقل إيلاما. عدد الكلمات الجارحة وطبيعتها يختلفان باختلاف البيئات والعهود. فيزداد عددها بالطبع في عصر الرقة حيث يصطبغ المجتمع بالصبغة التي تضفيها عليه النساء. ويصل الحال إلى التضييق من دائرة المفردات شيئا فشيئا، حتى لا يتكلم   1 انظر هـ. شلتس H. Schulz، رقم 36، مجلد 1، ص129-173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الناس إلا تلميحا. ولما كان يتحتم عليهم دائما أن يجدوا كلمات للأشياء كلما دعت إلى ذلك فرصة، فإنهم يضطرون إلى تجديد المفردات. وقد عدل الأطباء منذ حين عن استعمال كلمة "عملية" operation التي صيرها الاستعمال قاسية مخوفة. لا يسمعها المريض حتى يتصور الآلات المرعبة والملابس الملوثة بالدماء والجسم وقد طواه الألم طيا. فكلمة operation "عملية" ضحية الصور التي تثيرها. لذلك يسود الميل إلى الاستعاضة عنها بكلمة intervention "تدخل" لأنها أنضر جدة منهان وأكثر تحفظا وأشد غموضا أيضا، لا يهلع لسماعها قلب المريض. والكناية euphemisme ليست إلا صورة مهذبة متحضرة مما يسمى تحريم المفردات "انظر ص237". فكثيرا ما يقع لدى المتوحشين أن يكون لبعض الألفاظ طابع من السرية والخفاء يمنع بعض الأفراد من استعمالها. ولكن ليس في لغاتنا الأوربية شيء من هذا التحريم. فقد قضت المدنية على تلك البقايا المتبربرة. غير أننا إذا رجعنا إلى تاريخ أكثر اللغات مدنية، وجدنا حواث من هذا التحريم لا تقل صراحة عما عند الأمم المتوحشة1. تعد الجهة اليسرى عند كثير من الشعوب جهة السحر، جهة القوى الخفية التي لا يحسن إيقاظها. لذلك كثيرا ما قضى بالتحريم على اسم اليسار وكانت نتيجة هذا التحريم الإضطرار إلى استعمال العبارات الملفوفة والاستعارات للتعبير عن اليسار. فإن كان العدد الأكبر من اللغات الهندية الأوربية قد احتفظت لذلك بكلمة واحدة للدلالة على اليمين، فإنها تستعمل للدلالة على اليسار كلمات متنوعة، لا تستعمل الكلمة منها في غالب الأحيان في أكثر من لغة واحدة أو لغتين، وهي حتى في هذه اللغات نفسها قد تعرضت بدورها للأقصاء والاستبدال.   1 مييه: Quelques hypotheses sur les interdictions de vocabulaire dans les langues indo-europopeems "عام 1906". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 التي تستخدم للدلالة1. ففي الإرلندية اثنا عشر اسما للدب ومثلها "للسالمون": ونحن نعرف، من مصادر أخرى، أنهما من الحيوانات التي جعل منها الخيال الشعبي تابوهات TABOUS. وحيوانات الصيد على العموم تحاط بقوى سحرية، فما أكثر تابوهات الصيادين. كذلك يدل بالمترادفات في غالب الأحيان على الحيوانات البرية. لا ينحصر الأثر الناجم من تحريم المفردات في استبدال كلمة مكان كلمة فحسب بل يتعداه أيضا إلى تشويه الكلمات الموجودة. فتغيير حرف من الكلمة أو نقله يخفف ما تنطوي عليه من الخطر أو مما لا يليق دون أن ينقص ذلك من قيمتها الدلالية. وفي استطاعة كل إنسان في هذه الحال أن يفهم المراد على الفور. فالحجاب لا يستر إلا الجهات الجارحة والمؤذية للحياء، ويشف عن معالم الكلمة الكبرى ولونها العام. ونرى الشتائم في كثير من اللغات تصاب بشيء من التشويه المقصود الذي يمكن من إدخالها في أرقى الأوساط، مثل BIGRE أو FICHTRE ويقال: PARDIENNE، PARGNIEU, PARBLEU, PALSAMBLEU بدلا من PAR LE SANG DE DIEU "بدم الإله" أو PAR DIEU "بالله". هناك أصل هندي أوربي بمعنى "قاع أو عمق" ومنه الكلمة الفرنسية monde "عالم". هذا الأصل يقدم لنا في اللغات الهندية الأوربية المختلفة تشويهات فريدة في بابها. فقد أحصى منها ثماني صور أو تسع، لا يختلف بعضها   1 رينان Renan، رقم 110، ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 يجب ألا نهمل من حسابنا عند دراسة الأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى تجديد المفردات نوع النشاط الذي يمارسه المتكلمون. فالكلمات التي تنتمي إلى نشاط المجموعات الاجتماعية "عقليا كان أو يدويا" يطلق عليها كلمات الحضارة. كلما تحقق أي تقدم في الصناعة الإنسانية ترجم عن نفسه باستعمال آلات وإجراءات جديدة يقابلها خلق كلمات جديدة بقدرها. التغيرات التي تطرأ على الآلات تنعكس في المفردات بطبيعة الحال. فالجرمانية المشتركة كانت فيها كلمة تدل على الخبز، نعثر عليها في الفترة القديمة لكل لهجة من لهجاتها، وهي في القوطية hlaifs "في حالة الإضافة hlaibis". وكان لهذه الكلمة من الأهمية بقدر ما للشيء الذي تدل عليه. وقد استعارها اللتوانيون والسلافيون: ويشهد بأهميتها في الجرمانية نفسها عدد المركبات التي اشتقت منها:   1 فندريس: رقم 6، مجلد 18، ص308. 2 نجد أمثلة من هذا التشويه الذي يرجع إلى مراعاة اللياقة أو الآداب في كاديير Cadiere، رقم 58، ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ففي الإنجليزية القديمة hlafward "حارس الخبز" "في أيامنا هذه لورد" وhloefdige "عاجنة الخبز" "في أيامنا ليدي Lady" وفي النروية القديمة witandahalaiban "إلى سيد الخبز" "في نقش مكتوب بالحروف الرونية، وهي أقدم الكتابات الجرمانية". ولكن هذه الكلمة كانت تدل على الخبز غير المختمر فلما اهتدوا إلى تخمير العجينة، اضطروا إلى استعمال اسم جديد للدلالة على هذا الإجراء الجديد في صنع الخبز. فكانت كلمة brot في الألمانية العليا القديمة، braudh في الإسلندية القديمة، وهي كلمة غير موجودة في القوطية، ولا يعثر عليها في الإنجليزية القديمة إلا في عناء كبير. وقد بقيت الكلمتان المتنافستان في اللغات الجرمانية الحديثة، ولكن أحدثهما هي الأكبر أهمية؛ فهي الكلمة الألمانية Brot "خبز" والإنجليزية bread, أما الثانية فبقيت كلمة شبه شعرية أو للاستعمال في معنى خاص، وهي loaf "الجمع loaves في الإنجليزية وlaib في الألمانية، ومعناها "رغيف". فخلق كلمة جديدة لا يتحتم عليه هلاك القديمة، ولكنه يقذف بها غالبا في جزء خاص من المفردات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284   1 المقصود به الجواد الذي يعلق في مقدمة العربة فيكون سابقا غيره من الخيل. المعربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 تعدد الاستعمال يؤدي إلى خلق كلمات مختلفة. فإذا صرفنا النظر عما في الفرنسية من عبارات العامية الخاصة التي تطلق على النقود "انظر ص274", وجدناها تستعمل عددا كبيرا من الكلمات للدلالة على النقود بالنسبة للطائفة الاجتماعية التي تضاف إليها؛ ففيها les gages لأجرة الخادم وle traiement لمرتب الموظف وla solde لمرتب الضابط وle pret لمرتب الجندي وles appointements للموظف في غير الحكومة وles honoraires لأتعاب الطبيب أو المحامي وles emoluments لأجر صاحب الوظيفة العامة "كالمأذون مثلا" وle salaire للعامل وla paye لأجر المشتغل باليومية وles rentes لدخل صاحب الدخل الثابت وles dividendes لأرباح الأسهم المالية وl'indemnite للمكافأة البرلمانية وles mensualites لشهرية الصحفي وle casuel لعوائد القسيس وles feux لأتعاب الممثل وle secours لما يعطى للمحتاج، إلخ. هذا فضلا عن الكلمات الناقصة مثل retribution وsubvention وgratification وallocation, إلخ. في هذه المفردات المتنوعة ينعكس مجتمعنا الحالي في تعقده. أما كلمة epices "بالنسبة للقاضي" وكلمة benefice "بالنسبة لرجل الدين" فقد أصبحتا لا تمثلان شيئا، إذ فقدا المعنى الذي كان لهما في النظام القديم. واللتوانية، وهي لغة شعب زراعي، فيها خمس كلمات للدلالة على اللون الأشهب. ولكن هذه الكلمات ليست من المترادفات، لأن كلا منها تقال عن شيء خاص, فيقال: pilkas للصوف والأوز وszirvas أو szirmas للخيل وszemas للبقر zilas لشعر "الإنسان" والحيوان الداجن ما عدا الأوز والخيل والبقر. أما أسماء الألوان الأخرى، وإن كانت أقل تنوعا، ففيها مقابلات مشابهة، فعند الكلام على البقر يقال: zalas "أحمر" بدلا من الكلمة المعتادة raduonas؛ ويقال: dwrylas "أسود" بدلا من judas، إلخ. وفيها للدلالة على "المبقع أو الأبلق" عدد من الكلمات بقدر ما يوجد فيها من الفصائل الحيوانية. وهذا يستلزم قوما أخصائيين في تربية الحيوان للون الوطاب عندهم أهمية كبيرة. فكل طائفة من مربي الحيوانات تميل إلى خلق مفردات خاصة بأسماء ألوان الحيوان الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 يشتغلون به. وفي النهاية تستفيد اللغة المشتركة من هذا الانفصال الذي خلقته اللغات الخاصة. في كل العهود التي كونت فيها الأرستقراطية طبقة مغلقة تحيا حياة الصالونات وتعتز بجمال اللغة، أدت هذه الحال إلى نشوء مفردات نبيلة أبعدت منها كل كلمة سوقية. يقول Duclos1: "وهم وإن استووا في العقل مع غيرهم ظلت لهم "لطبقة البلاط" على غيرهم من سواد الناس ميزة التعبير بعبارات خير من عباراتهم وجمل أشهى إلى النفس". هذه المفردات المختارة التي كانت تسمح بتعيين طبقة المتكلم على الفور تبدو لنا اليوم كأنها كل ثابت وتعطينا فكرة الشيء الكامل المنتهي. والواقع أن هذه المفردات كانت تخلق يوما بيوم من جمل عابرة تتفتح في الصباح لتموت في المساء, كانت تولد من تلميح من التلميحات أو من نكتة أدبية أو من حادثة تافهة اشتبك فيها أهل هذه الطبقة. ونحن نعرف هذه المفردات اليومية مما كتب الكتاب عنها بقصد التهكم منها على وجه العموم. فموليير في سنة 1659 يهجو في روايته les Precieusesridicules "المتساميات المضحكات" لغة الصالونات المتكلفة في عصره. وبورسو Boursault في Mots a la mode "كلمات موضة" في سنة 1694 ودلانفال d'Allainval في l'Ecole des bourgeois "مدرسة الأعيان" في سنة 1728 يتهكمان بدورهما بلغة معاصريهما المصطنعة. وهذه الأنواع الثلاثة من المفردات يختلف بعضها عن بعض. وإذا تصفحناها رأينا مقدار السرعة التي بها يعلو نجم بعض الكلمات ثم ينخفض. فمدام جوس دي بورسو Josse de Boursault لا يدع لسانها استعمال كلمة joli "لطيف"؛ وتستعيض عن كلمة grand "كبير" بكلمة "gros"2؛ إذ يظهر أن هذه الكلمة كان لها حظ عظيم بين تلك الطبقة، ولكن لمدة قصيرة فقط، لأننا نرى المحامي بريس Brice, شقيق   1 considerations sur les moeurs الطبعة الخامسة، باريس "1767" ص211. 2 برينو Brunot، رقم 57 مجلد 4، ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مدام جوس، وهو يهتم مثلها بلغة القصر ولكنه أعرف منها بها، نراه يذكرها بأن هذه الكلمة قد انقضى عهدها فيقول: Laissez mourir en paix un mot agonisant; Hors chez quelques laquais qu'il est en etalage, En aucun lieu du monde il n'est plus en usage ... "Gros" est un mot proscrit, ma soeur ... "هذه كلمة محتضرة فدعيها تمت في سلام" "إذ لم يبق لها استعمال في أي مكان في العالم" "إلا لدى بعض الخدم يتحلون بها ... " ""Gros" كلمة مقضي عليها، يا أختاه ... " والصعوبة في هذه الحالة بالنسبة للشخص الذي لا يعيش في تلك المحيطات، هي في أن يكون على علم دائم بما يقال فيها. فكم من أشخاص وأشخاص يفتخرون بأنهم يتكلمون لغة "أولاد البلد" وأنهم مشبعون بالروح الباريسي, ثم ينكشف لهم أن الكلمات التي يستعملونها قد ماتت من الاستعمال منذ العام الماضي، وها هو ذا السيد هوميه Homais صيدلي يونفل "من شخصيات فلوبير في مدام بوفاري" كان يقول: Faire flores أو bazar, turne أو Breda-street أو je me la casse بدلا من "je m'en vais" في وقت كانت هذه العبارات قد فقدت جدتها عند أولاد البلاد. لغة المغازلة أيضا من أسرع اللغات تجددا. وليس من العسير أن نجد تطور العادات ينعكس في الصور المختلفة التي تقدمها لنا هذه اللغة، ويجب عند تفسيرنا لها ألا نهمل العلاقات الاجتماعية بين الجنسين ففي عهود الثروة والبذخ كانت توجد أرستقراطية أنيقة تخص الحب بكل عنايتها وتجعل منه سلوتها المعتادة. في هذه البيئة تكونت في داخل اللغة الأرستقراطية مفردات خاصة بمسائل الغزل. هكذا كان الحال في فرنسا في العصور الوسطى، في الجنوب أولا ومن بعده في الشمال. ففي القرن السابع عشر نشأت عدة مفردات غزلية متتابعة تلي بعضها بعضا منذ قصر رمبوييه I'hotel de Rambouillet بخريطته المسماة "إقليم العاطفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الناعمة" حتى صالونات سو Sceaux عند دوق المين، ثم اجتماعات "التمثيل temple" عند آل فندوم vendome. وقد دخل الكثير من هذه المفردات في آداب العصر مثل la gloire et les soins وles appates et les feux وles cruautes وles rigueures وles alarmes وغيرها من العبارات التي تبدو للفرنسيين اليوم مضحكة بالية. ونعتبرها في مجموعها ممثلة للغة الحب التي لم يستطع كاتب في مقام راسين نفسه أن يتجنبها. ولكن الواقع أنها ليست جميعا من عصر واحد، بل لكل منها تاريخها وفترة صعودها وسقوطها. واليوم حيث لا توجد أرستقراطية تكون طبقة منعزلة عن الأمة، وحيث انتشار الطبقة الوسطى جعل الغزل في متناول جميع الطبقات الاجتماعية، توجد أيضا لغة الحب، ولكنها لغة مشتركة تستعير مفرداتها من العاميات الخاصة ومن رطانات جميع الأوساط، فليس هناك إذن لغة للغزل بمعنى الكلمة، لأن الغزل لم يعد مقصورا على طبقة من الطبقات. هكذا نرى أنفسنا مسوقين في دراستنا لتغير المفردات إلى أن ندخل في حسابنا تأثير أنواع اللغة المختلفة بعضها على بعض. فهذه الكلمات الفرنسية الشائعة مثلا قد جاءت من ثكنات الجنود؛ جيء بها منها لأنها أكثر تعبيرية من غيرها وأقوى دلالة على ما يراد أن يقال. وتلك الكلمة الأخرى استعيرت من لغة الصالونات. وهناك أيضا الحالات التي تفرض فيها لغة أجنبية على جاراتها، بما لها من سلطان، نوعا من التجديد ولو جزئيا. وهذا يفسر وجود عدد ضخم من الكلمات اللاتينية في لغات كالـbrittonique أو الألمانية العليا القديمة. فهذه الكلمات لا تدل دائما على فكرة جديدة أو شيء جديد، وإنما هي في غالب أمرها قد حلت محل كلمات كانت تستعملها لغة متبربرة، ولكن السلطان أتاح النصر للكلمة اللاتينية فالسلطان آخر الأسباب الاجتماعية في تجديد المفردات، ولا ينبغي لنا أن ننساه "انظر الصفحة الرابعة من الفصل الرابع في الجزء الرابع". العمليات اللغوية التي بها تتحدد المفردات يمكن إرجاعها بسهولة إلى بضعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أنواع عامة. والموارد التي يمكن للغات أن تستنبطها من ذات نفسها محدودة عندما يلجأ الإنسان إلى كلمة عامة فينوط بها، بواسطة التخصيص، استعمالا خاصا، أو إلى كلمة ما فيدير معناها بواسطة الاستعارة أو النقل, ويكون بذلك قد فعل كل ما في وسعه في حدود المفردات الموجودة في اللغة. وهذا خلق للمعاني لا أكثر من ذلك. طرائق الاشتقاق والتركيب تزيد إمكانيات التجديد زيادة هامة، لأنها تتيح خلق الكلمات. فالمشتق بعد أن يخلق يصير كأنه كلمة جديدة وينطبق في الحال على الشيء الذي خلق له. من ذلك كلمة bottine "حذاء طويل" التي اتخذت معنى مخالفا جدا لمعنى botte "تزلك". وكذلك الكلمات chausson "شبشب" وchaussette "جورب" وchaussure "حذاء" ليس بين بعضها وبعض ولا بينها وبين أصلها chausse "نوع من السراويل" علاقة من حيث المعنى وهذا هو شأن الكلمات المركبة التي تتحد عناصرها فجأة فلا توقظ في الذهن إلا تصورا واحدا. ومن الطرق الشائعة عند تسمية شيء جديد أن يطلق عليه اسم مخترعه أو مروجه أو بائعه أو من ساعد على نجاحه بأية وسيلة من الوسائل وإلى هذه الطريقة ندين بكثير من الكلمات الفرنسية: calpin "مفكرة جيب" guillemet "علامة اقتباس" وbarene "جدول حسابات" godillot "نوع من الأحذية" وquinquet "نوع من المصابيح" وcatogan "شريط لربط الشعر" "وهذه الكلمات مستعارة من الإنجليزية، ولكنها صنعت بالطريقة التي نتحدث عنها" وbottin "دليل" وpoubelle "صندوق القمامة" وgibus "نوع من القبعات" وpepin "مظلة" وriflard "مظلة كبيرة" وsil houette "رسم خطي" وfontange "عقدة من الشريط يزين بها الشعر" ولا يتحتم لاستخدام هذه الطريقة أن يكون الشيء جديدا، بل تطبق أيضا على شيء معروف من قديم ولكن صار اسمه في حاجة إلى تجديد لسبب من الأسباب. وإذا لم تكف هذه الطرق اتجه الناس إلى الاقتراض فيلجئون إلى المفردات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المجاورة التي قد تنمي إلى لغات مختلفة المشارب؛ فيستعيرون من الرطانات ومن العاميات الخاصة ومن اللغات الإقليمية ومن اللغات الأجنبية، والأخذ من هذه اللغات يحدد دائما بظروف خاصة، تعين الاختيار أو تنظمه. كلمات الحضارة بوجه خاص معرضة للاستعارة، حيث تحمل في نفس الوقت مع الشيء الذي تدل عليه، فالشيء يقوم لها مقام المركبة التي تحملها في بعض الأحيان إلى آفاق بعيدة rem uerba sequuntur. وإذا أحصينا الكلمات التي استعارتها من اللاتينية شعوب الشمال والبريتانيون والإرلنديون والإنجليز السكسون والألمان والبلطيون والسلافيون، وجدناها كلها تقريبا واحدة، بل وجدنا أن عددا كبيرا مما استعاره اللاتينيون أنفسهم من الإغريق1 فيمكننا أن نفترض أن الكلمة إذا ما تجاوزت حدود لغتها، انفتح أمامها الطريق لطول الطواف، لأنها لم تطلب في الخارج إلا لأنها تدل على شيء جديد خاص بالبلد الذي جاءت منه، ومن ثم كان من الطبيعي أن نتوقع رؤيتها في كل مكان يطلب فيه هذا الشيء. وإلى جانب المفردات المجاورة تسيطر كثير من اللغات على معين خاص تنهل منه ما شاءت، وذلك هو معين اللغات العلمية واللغات الميتة، فاللاتينية كانت في كل العصور مصدرا لتجديد المفردات في لغات أوربا الغربية، ومفرداتنا الفرنسية تطفح بالكلمات اللاتينية التي أدخلت فيها شيئا فشيئا تبعا للحاجة المتجددة بعد أن عدلت صيغتها وفقا لبعض القواعد التي تنظم النقل إلى الفرنسية من اللاتينية، والتي لا تزال كامنة في إحساسنا اللغوي. كما كانت اللاتينية أيضا نبعا فياضا للغة الإنجليزية، وللغة الألمانية ولكن بصورة مصغرة، لأن الألمانية تكتفي بنفسها بفضل ما فيها من لهجات عديدة غنية وبفضل نظام التركيب الذي يسمح لها بزيادة مفرداتها زيادة واسعة.   1 انظر ج. لوت j. Loth, رقم 89؛ وفندريس, De Hibernicis vocabulis, quae a Latina lingua origenem, duxertunt باريس 1902؛ ف. كلوجه F. kluge؛ vorgeschichte der Altgermanischen Dialelkte, الطبعة الثانية، ستراسبورج، 1897 ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والإغريقية كانت معينا للغات السلافية، وخصوصا الروسية، التي كان لها معين آخر دائم لتجديد مفرداتها يتمثل في اللهجات السلافية القديمة التي ظلت متصلة بعضها ببعض تحت تأثير الكنيسة "انظر ما يلي في الفصل الثالث من الجزء الرابع". هناك صعوبات جمة تعترض تجديد مفردات أساءت استعمالها بعض اللغات. فقد أخذ على الإنجليزية تضخم مفرداتها وإسرافها في المترادفات التي لا يلبث الاستعمال أن يطرحها ليطلب غيرها من جديد من اللاتينية التي تعد مستودعها المعتاد، وذلك فضلا عن المستودعات الفرعية التي هي اللغات الأجنبية بالنسبة للإنجليزية. والفرنسية أيضا لا تخلو من ملام التهالك على اتخاذ الكلمات الجديدة ولما تزل الكلمات القديمة في حيوية تامة وكافية للتعبير. وهذا عيب ينجم دائما من رخاء الحال الذي يمكن اللغة من استعارة كل ما ينقصها كما تشاء، حتى ما يطلب منه لاستعمال مؤقت. من النادر في هذه الحال أن تلجأ اللغة إلى صنع الكلمات من أساسها بتركيب مجاميع من الأصوات اللغوية بعضها مع بعض، لأنه يعتبر عملا غير مفيد. فكل ما تعمله أنها قد تغير وضع العناصر الصوتية في هذه الكلمة أو تلك. وهذه طريقة معروفة في العامية الخاصة، ولكن العامية الخاصة تشوه ولا تخلق. فالخلق أمر في غاية الندرة1. وإذا ذكر منه بعض الأمثلة، فإنما تذكر على سبيل التندر، مثل gaz "غاز" التي اخترعت في القرن الثامن عشر، وfelibre "شاعر يقرض الشعر بلغة الأوك" وrococo "نوع من الزخرفة"2؛ ومن ذلك أسماء بعض المستحضرات والسلع والآلات، مثل كلمة kodak "كوداك" فقد خرجت كما هي من دماغ مخترعها. ولكنا لا نستطيع أن نصنع عددا من مثل   1 جسبرسن، رقم 133، فصل 5، 6. وانظر ر. م. مير R. m. meyer، رقم 30، مجلد 12، ص257. 2 درمستتير Darmesteter، رقم 63، مجلد 1، ص23؛ وج. باريس G. Paris؛ Penseurs et poetes ص 94، ولكن قارن جنروا Jeanroy، رقم 18، مجلد 33، ص463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 هذه الكلمات دون أن تعرض اللغة للخطر. فقيمة هذه الكلمات بالضبط كقيمة اسم العلم الذي لا يوقظ في ذهن السامع أية فكرة محددة إذا لم يعرف الشخص الذي يحمله. لذلك يجب أن تحاط بسياق يكون لها بمثابة تفسير توضيحي. وإذن لا يمكننا أن نزيد في عددها دون حذر. ولكنها إلى جانب ذلك صعبة الصنع. فلا شيء أصعب من صنع كلمة دون الاهتداء بوسائل الاشتقاق والتركيب المعتادة في اللغة التي يتكلمها الصانع1 ولئن صح ما قيل من أن كلمة gaz فيها صدى كلمة Geist "روح"، كنا في هذه الحالة أمام تشويه لكلمة موجودة بالفعل. وكذلك الحال بالنسبة لكلمة jingo وهي كلمة إنجليزية تطلق على من يظهر بمظهر المتطرف في الوطنية، يقال إنها جاءت من صيغة سب، هي by jingo التي كانت قد حلت محل by jove، وهذه بدورها استعيض بها عن صيغة أخرى كان طلبة جامعة إكسفورد يكثرون من استعمالها. أم الكلمات التي من قبيل Kodak وrococo فلها قيمة تعبيرية لا تنكر، ذلك أنها كلمات أشبه بأسماء الأصوات، وتدخل في فصيلة من الكلمات تعتبر اليوم ثابتة النظام والقواعد2. فكلمة "كوداك" تصور لنا صورة، هي صورة سمعية, حتى كأننا نسمع صوت المفتاح الذي يفتح الآلة لالتقاط الصورة ويغلقها. فهل أحس مخترع الكلمة هذه القيمة وأراد أن يحاكيها؟ إن هذا لجائز، ولكنه غير ضروري. غير أن هناك دائما اتفاقا غير شعوري يقوم بين الأصوات والأشياء. فالانطباع الذي تحدثه كلمة غير معروفة يمكن أن يختلف من سامع إلى آخر، ولكن هناك انطباعا على كل حال، إن قليلا وإن كثيرا. وإنما يقاس الفرق بدرجة حساسية السامع، أو خياله، أو مجرد حالته العصبية. فالذي يطلق اسما مصنوعا من أوله إلى آخره على شيء أيا كان قد يكون مستهديا بتوافق نفسي بين الأصوات والشيء نفسه. هذا إلى أن كلمة "كوداك" متمشية مع قواعد اللغة التصويرية, فالسواكن تحتوي على   1 رينان، رقم 110، ص147. 2 جرامون GRAMMONT؛ ONOMATOPEES ET MOTS EXPRESSIFS في رقم 17 مجلد 44، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 نفس الحركة الصوتية، والحركات فيها نفس الجرس الذي قرره الأستاذ جرامون وهذه الكلمة تعد على درجة من حسن الصياغة تجعلنا نتساءل عما إذا كان في الإمكان صياغتها على غير ما هي عليه. ولعل القدرة على خلق الكلمات ليست إلا نوعا من الخداع, وهذه النتيجة تؤدي بنا إلى القاعدة اللغوية الكبرى التي تقول: إن اللغات تسير على تحوير العناصر الموجودة لا على الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الجزء الرابع: تكون اللغات الفصل الأول: اللغة والغات ... الجزء الرابع: تكوين اللغات الفصل الأول: اللغة واللغات التحليل الذي قمنا به حتى الآن للأجزاء المختلفة للغة لا يستطيع أن يعطينا عنها إلا فكرة جزئية غير كاملة. فتقسيم اللغة إلى عناصر ثلاثة هي الأصوات والصيغ النحوية والكلمات، تلك العناصر التي خصصنا لدراستها الفصول السابقة، ما هو إلا تقسيم اصطناعي محض؛ لأن هذه العناصر ترتبط بعضها ببعض ولا توجد منفصلة إطلاقا مهما بدا من اختلافها. بل تنصهر كلها في تلك الوحدة التي هي اللغة نفسها. فالعالم اللغوي إذن لا ينتهي من مهمته بمجرد أن يفرغ من تحليل هذه العناصر بل يبقى عليه أن يدرس كيف يكون شأنها عندما تجتمع أو بالاختصار، كيف تؤدي اللغة وظيفتها. ولكن على من يتصدى لإقامة نظرية عامة للغة أن يحذر الوقوع في خطر مزدوج. ذلك أن اللغة، تبعا لذلك التناقض اللغوي الذي درسه فكتور هنري1، واحدة وعديدة في آن واحد، واحدة لدى كل الشعوب، ولكنها متعددة بتعدد جميع الأفراد والذين يتكلمونها. من المسلم به أنه لا يتكلم شخصان بصورة واحدة لا تفترق. واللغة محدودة   1 رقم 83، ص5 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بحدود الفرد عند العالم الصوتي لأنه لا يستطيع ملاحظتها إلا في خصائصها الفردية وليس من عيوب علم الأصوات الوصفي أن يقصر البحث اللغوي على دراسة الظواهر الفردية فإن من يسعى أيضا إلى اكتشاف عواطف النفس وانفعالاتها وأهوائها منعكسة في اللغة، تبدو هذه الأشياء أمام عينه باعتبارها ظواهر فردية. نعم ما دام الرمز قد اتفق على التسليم به، فقد صار ذا قيمة عامة. ولكن الأحداث الخاصة التي تتمخض عن الرموز والتي تعلن عن وجود الرموز ولما نزل في حالة يصح أن نسميها حالة الميلاد، لا يمكن أن تدرك إلا واحدة واحدة في مظاهرها الفردية. ومع أنه من غير الصواب أن يقال بأن التجديد اللغوي يصدر عن الفرد فمن الحق الذي لا ريب فيه أن كل فرد يدخل في اللغة جزءا من التجديد خاصة به. فليس من الباطل إذن أن يقال بأنه يوجد من اللغات بقدر ما يوجد من الأفراد. ولكن ليس من الباطل أيضا أن يقال بأنه لا توجد إلا لغة إنسانية، لغة واحدة في أساسها في جميع الأقطار والأصقاع. وهذه هي الفكرة التي تعرب عنها محاولات علم اللغة العام. ففيه يحاول العلماء وضع مبادئ تنطبق على كل لغة أيا كان نوعها. والواقع أن النظام الصوتي عند كل الشعوب يخضع لقوانين عامة واحدة، والفروق التي تلاحظ بين شعب وشعب ناتجة من ظروف خاصة، أما العبارة الصرفية ففيها كثير من التنوع، ولكن الأنواع الأساسية الثلاثة أو الأربعة التي ترجع إليها هذه التنوعات ليست على إطلاقها، إذ إننا نراها في مجرى التاريخ تتحول من نوع إلى آخر. لذلك لم يكن واحد منها كافيا لتمييز لغة لكائن إنساني. أما المفردات فإنها ترتكز على القاعدة القائلة بأن يضاف إلى كل مجموعة ما من الأصوات اللغوية فكرة ما، وهذه القاعدة واحدة في كل مكان ونافذة المفعول بالنسبة للغة في عمومها. فوضع نظرية عامة للغة تصطدم إذن منذ البداية بالصعوبة الناجمة من كون العالم اللغوي لا يعرف إلى أي مدى يحدد دراسته وإلى أنه يبقى مترددا بين الاعتبار الفردي وبين الاعتبار الجنسي بأسره. ومع ذلك فإن هذه الصعوبة تهون بمجرد أن نحاول تصور اللغة في حقيقتها الواقعية لا في حقيقتها التجريدية. إذ لما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 اللغة وسيلة للعمل كانت لها غاية عملية، فيجب إذن أن ندرس الروابط التي تصلها بمجموع النشاط الإنساني، بالحياة نفسها لندركها تمام الإدراك. أشرنا فيما سبق إلى "حياة اللغة"، وأبنا ما تحتمل هذه الاستعارة من بعد عن الصواب ومن إيقاع في اللبس، ولكن برغم ذلك يمكننا استعمالها على أنها فرض يوجه البحث ويجعل العرض التعليمي سائغا. ولكن المسائل التي جعلناها موضوع بحثنا حتى الآن ليست إلا تجريدات خلقها عقول علماء اللغة، وإنه لمن سوء التعبير، أو يكاد، أن نعبر بحياة اللغة عما هو خال من الحياة، عن الأصوات والأشكال النحوية والكلمات. فالحياة التي نحن بصددها الآن إن هي إلا مجموعة الظروف التي بين حدودها تموج الإنسانية، ما هي إلا الحقيقة الواقعية في تطوراتها التي لا تنتهي. واشترك اللغة في الحياة بهذا المعنى أمر بين، بل أكثر من البين. ولكن ليس أمامنا في هذه الحال نظام نظري يتكون من مبادئ تجريدية. بل نرانا أمام لغات تتكلم على سطح البسيطة بصور متنوعة. الفرق بين اللغة LANGAGE واللغات، أن اللغة هي مجموعة الإجراءات الفسيولوجية والسيكولوجية التي في حوزة الإنسان لتمكنه من الكلام. أما اللغات "الألسن" LANGUES فهي استعمال هذه الإجراءات بصورة عملية. فيجب إذن، للوصول إلى تعريف كلمة لغة "بمعنى اللسان LANGUE" أن نخرج من محيط الفصول السابقة وأن ندرس الدور الذي تقوم به اللغة بمعنى LANGAGE في المجتمعات الإنسانية المنظمة. أول فكرة تتبادر إلى الذهن هي فكرة الربط بين اللغة والجنس. بل إن المتن الكبير الوحيد الذي ألف في علم اللغة العام. ونعني كتاب فريدرش ملر Friedrich Muller1 ينبني على هذه الفكرة. ففيه تستعرض لغات الشعوب المجعدة الشعر واحدة فواحدة ثم لغات الشعوب الملساء الشعر، فهو يصنف اللغات وفقا للمميزات الإتنولوجية. ولا شيء أشد غرابة على القارئ من هذا الترتيب، ولكن المبدأ الذي يقوم عليه، وهو أمر أكثر خطورة، لا يثبت طويلا أمام   1 رقم 185، وانظر أيضا بيرن Byrne: رقم 131، مجلد 1، ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 البحث إذ أن الأحكام التي تطلق على الأجناس يجب أن تؤخذ دائما بكثير من التحفظ1 فمهما قيل في الدور الذي تلعبه التغيرات التي تصيب الجنس في تلك التي تصيب اللغة، فلا نستطيع أن نقول بوجود روابط ضرورية بين هاتين الفكرتين إذ لا ينبغي الخلط بين المميزات الجنسية المختلفة التي لا يمكن تحصيلها إلا بالدم وبين النظم من لغة ودين وثقافة التي تعد أعيانا قابلة للنقل، تعار وتتبادل2. ونحن نرى بمجرد إلقاء نظرة على خريطة لأوربا اللغوية في العصر الحاضر أن وحدة اللغة تظل تحتها أخلاطا من الأجناس. فالزنجي أو الياباني الذي يربى في فرنسا في ظروف واحدة مع الأطفال الفرنسيين يتكلم الفرنسية كأنه أحد أبنائها. وهذه الحقيقة تكفي لجعل كل محاولة تعمل للتوحيد بين اللغة والجنس عبثا لا طائل وراءه. أفنذهب على الأقل إلى القول بأن كل لغة تقابلها عقلية معينة؟ الواقع أن علم النفس يتكلم عن عقلية فرنسية وعقلية ألمانية، فلا بد أن تعبر اللغة عن الفرق الذي يفصل بينهما، إذا صح أن اللغة ليست في الواقع إلا التعبير عن العقلية. هذا المنطق الذي لا غبار عليه من حيث المبدأ عسير التحقيق لأنه يصطدم باعتراضات عديدة. أول ما يجب تجنبه الحكم باختلاف العقلية باختلاف الدماغ. لأننا إن فعلنا ذلك أقحمنا من جديد فكرة الجنس في مسألة سيكلوجية. فحتى في حالة المقارنة بين الزنجي والأبيض لا نجد أي دليل على أن لون البشرة أو شكل الشفتين يقابله دماغ خاص ينتج تفكيرا مختلفا عن تفكيرنا. هذا المنطق، على أية حالة، لا يمكن تطبيقه على أفراد كلهم من الجنس الأبيض ليست بينهم اختلافات جنسية أساسية وإننا نعرف أن لون العينين أو البشرة أو شكل الجمجمة كلها لا تقدم لنا مقياسا يصلح للتمييز بين الألماني والفرنسي من الوجهة الجنسية نفسها. فمن باب أولى من الوجهة اللغوية. ومع ذلك فليس من شك في أن كلا من الشعبين له عقلية خاصة، وأذواق وعادات وأمزجة وطنية، ولكن   1 ا. رينان رقم 111. 2 هويتني WHITNEY رقم 129، ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 هذه الأمزجة الوطنية ومثلها اللغات عليها طابع النتائج لا طابع الأسباب. كذلك من التحكم أن تعتبر اللغة وليدة العقلية أو العقلية وليدة اللغة؛ لأن كلتيهما وليدة الظروف ونتائج الثقافة والمدنية. لم نرد بالوصول إلى تلك النتيجة أن تثبط من هم أولئك الذين يحاولون ربط الفكرتين معا. إذ من الجائز أن تكون اللغة والعقلية نتاجا لأسباب واحدة وأن تكون المميزات التي تميزها واحدة دون أن يترتب على ذلك صدور إحداهما عن الأخرى. فإذا كانت اللغة علامة مميزة لصورة من صور التفكير. كان من الممكن أن نصل بتحليل مقارن للغات إلى سيكولوجية للأجناس. وهذه كانت فكرة هردر HERDER في مؤلفه عن أصل اللغة، وفكرة غليوم فون همبولت WILHELM VON HUMBOLT وشتينتال STEINTAL أيضا. وفي أيامنا هذه عاد العالم اللغوي الألماني ف. ن. فنك1 F. N. FINCK إلى فكرة هردر محاولا تكميلها وفي رأيه أنه لا يجب علينا أن ننظر إلى اللغات إلا بوصفها آثارا معبرة عن عقل الشعوب. وأن اللغات ليست إلا تصويرات، لا تقدم أمام عين العالم السيكولوجي أية حقيقة واقعية ملموسة. وأن من الخداع لأنفسنا أن ندرسها على أنها حقائق واقعة فيجب أن تطبق عليها طريقة ذاتية محضة بألا نبدأ من اللغة التي ليست إلا نتيجة، بل من العقل الذي يخلق اللغة. هذه الطريقة خير الطرق لدراسة بعض نتاج النشاط النفساني PSYCHIQUE كالمعتقدات الشعبية. وهي نفس الطريقة المتبعة في دراسة الخوف أو الحلم أو الإيمان فها نحن أولاء بهذا الرأي قد ابتعدنا عن علم اللغة. ويمكننا أن نجيب فنك بأن اللغة حقيقة واقعة مهما كانت الحال2. فاللغة بصوتياتها وبكيانها الصرفي لها وجود خاص مستقل عن استعدادات المتكلم النفسية واللغة تفرض بنفسها عليه في صورة نظام قد أعد من قبل، في صورة آلة وضعت في يده. وهو يستخدمها لغايات شتى, فيستعملها في حاجات سوقية أو يستخرج منها آثارا تدل على الحدق وتدعو إلى الإعجاب. ولكنها في كل الحالات آلة   1 رقم 155. 2 نفسه رقم 2 مجلد 1، ص664. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 واحدة بعينها، ومهمة العالم اللغوي هي بالضبط أن يدرس ما في هذه الآلة من جوهري ومن دائم. ومن ثم كانت الطريقة الموضوعية التي يحاربها فنك صالحة للتطبيق في علم اللغة تمام الصلاحية، واللغة في وسعها أن تدرس مستقلة عن العقلية. فضلا عن ذلك فليس من المؤكد أن الأسباب التي تؤثر على اللغة تحدث في العقلية آثارا مماثلة. فالأجزاء الجوهرية الدائمة في اللغة تتحول وفقا لقواعد ليس للعقلية فيها أي نصيب. وهذا بالذات هو ما أدى إلى الافتراض بأن للغة حياة مستقلة عن كل حياة نفسية أو فسيولوجية أو اجتماعية. والواقع أن الفروق التي نلاحظها في فترة ما من التاريخ بين لغتي شعبين، حتى ولو كانتا من أصل واحد، يمكن تفسيرها بظواهر لغوية خاصة بتطور كل واحدة من اللغتين، وبالتالي لا تسمح لنا بحال أن نصدر حكما ما على عقلية الشعبين. هذه الملاحظة تنطبق على أوضح الصفات التي يمكن أن تميز بين لغتين فترتيب الكلمات في الجملة مثلا عملية لها دلالاتها الفائقة، لأن جذوره، على ما يظهر، ناشبة في أبعد أعماق الشعور اللغوي، إذ إنه هو الأصل في تحضير الصورة الكلامية. ومع ذلك فنحن على تمام المعرفة من أن بنية الجملة في الألمانية أو الإرلندية أو الأرمينية الحديثة ناتجة من تطورات صرفية خاصة بهذه اللغات "انظر ص190" وكلما أوغل المؤرخ في الرجوع إلى الماضي، اكتشف في بنية التنظيمات الشديدة الاختلاف أثر قوانين داخلية يفسرها تطور كل لغة من هذه اللغات. كذلك دأب العلماء، وهم على حق، على مقابلة اللغات التي تمارس التركيب باللغات التي تلجأ إلى الاشتقاق، إلى مقابلة الإغريقية باللاتينية أو الألمانية بالفرنسية مثلا. فالذي يبدو لأول وهلة أن هذين النوعين يمثلان نوعين مختلفين من العقلية، إذ أن العقل في الحالة الأولى بعد أن يحلل التصور يعبر بالتفصيل عن العناصر التي تنتج من هذا التحليل، بينما لا تشير الحالة الأخرى إلا إلى مظهر واحد من مظاهر التصور تاركة للسامع البحث عن المظاهر الأخرى. ولكن الواقع أن هذين المسلكين ينتجان من عادات قد تطورت إن قليلا وإن كثيرا، هذا إلى أنهما لا يتنافيان بل يستعملان معا في كل لغة بدرجات مختلفة. إذ يكفي في إحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 اللغات أن يتغلب نوع ما على غيره في فترة من الفترات، ليتضاعف استعماله بعد ذلك في العصور التالية. فهذا أثر مباشر لتنافس الطرق الصرفية، لا يتوقف بأية حال على اختلاف العقلية. لأن العقلية في الحالتين واحدة، وإنما تختلف العبارة فقط. فكون إحدى اللغات تقول Liber petri "كتاب بطرس" والأخرى تقول: le livre de pierre "الكتاب "بتاع" بيير" لا يحتم أن يكون الشعبان اللذان يتكلمان هاتين اللغتين يختلفان في تصور علاقة الملكية، وإنما يختلفان فقط في التعبير عنها. ولهذا الاختلاف أسباب تاريخية. فنسعى إلى معرفة عقلية الشعب من خصائص لغته مشروع فاشل إذا راعينا وسائل البحث التي نملكها في حالاتنا الراهنة. بل إن المفردات نفسها لا تعكس العقلية إلا في صورة جزئية. فالفرنسية مثلا ليس فيها إلا كلمة واحدة louer "يؤجر" و"يستأجر" لترجمة الفعلين الألمانيين miethen "يستأجر" وvermiethen "يؤجر" ومعنى كل منهما على عكس معنى الآخر. وفي هذا ما فيه من لبس غير مستحب في اللغة الفرنسية، ولكن الألمانية بدورها لا تملك غير فعل واحد Lehnen للتعبير عن الفعلين الفرنسيين preter "يعبر" emprunter "يستعير" ونعرف لغات أخرى تعبر بكلمة واحدة عن "البيع" و"الشراء" معا1. فهل في ذلك ما يشير إلى الصورة التي تدرك عليها هذه الشعوب الإجارة والإعارة والبيع؟ كلا. فالمفردات في أية لغة لا تعرض مطلقا وجوه التفكير كاملة. بل يوجد دائما من الكلمات أقل مما يوجد من الأفكار، والاستعمال الجاري يكتفي دائما بالعبارات التقريبية، لأن لديه من الوسائل ما يجنبه الوقوع في اللبس. إذ إن السياق يوضح معنى كل كلمة، وإذا لم يكف السياق، لم تعدم اللغة أن تجد وسيلة لتجنب هذه النقص. فالفرنسية في الواقع لا تشكو غموضا في كلمة louer ولا الألمانية في   1 تقول الصينية مثلا mai وmai, ولا فرق بين هاتين الصيغتين إلا في التنغيم "جبلنتس Gabelentz؛ Chinische Grammatik؛ 1888, فقرة 230، أخذناه عن اقتباس لجسبرسن، رقم 134، ص84-85". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 كلمة lehnen، كما لا تشكو البريتانية من كونها لا تملك إلا كلمة واحدة "glas" للتعبير عن "الأخضر والأزرق" وتستعمل نفس الكلمة لتقول: "السماء زرقاء" و"الفاصولية خضراء". يبدو إذن أننا نخطئ حينما نرى في أي جزء من أجزاء اللغة صورة لعقلية بعينها. ولا يعني هذا أنه لا توجد أية رابطة بين العقلية واللغة، بل إن اللغة تستطيع في بعض الأحيان أن تعدل من العقلية وتنظمها. فعادة وضع الفعل في مكان بعينه دائما، يمكن أن تؤدي إلى صورة خاصة في التفكير وأن يكون لها أثر في طرق الاستدلال. والتفكير الفرنسي أو الألماني أو الإنجليزي خاضع للغة إلى حد ما. فإن اللغة إذا كانت مرنة خفيفة مقتصرة على الحد الأدنى من القواعد النحوية، سمحت للفكرة بالظهور في وضوح تام وأتاحت لها حرية الحركة. وعلى العكس من ذلك تختنق الفكرة من التضييق الذي يصيبها من لغة جامدة ثقيلة. ولكن عقلية المتكلمين تتصرف لتعتاد أي شكل من أشكال اللغة. لذلك كان من المحال تحديد اللغة بمزاج الأمة التي تتكلمها. فدراسة الدور الاجتماعي الذي تقوم به اللغة هي خير ما يعطينا فكرة عن ماهية اللغة. أصبح تكرار القول بأن الإنسان كائن اجتماعي أمرا مبتذلا. لعل من أول السمات على الطبيعة الاجتماعية في الإنسان تلك الغريزة التي تدفع على الفور والأفراد المقيمين معا إلى جعل الخصائص التي تجمعهم مشاعة بينهم، ليتميزوا بها عن أولئك الذين لا توجد لديهم هذه الخصائص بنفس الدرجة. هذه الغريزة في غاية القوة، نعثر عليها في كل الأقسام التي تنقسم إليها أية هيئة اجتماعية، وترجع في أصلها إلى حقيقة التجمع نفسه. فإذا التقى فرنسي وفارسي في جزيرة مهجورة نسي كل منهما الفروق التي تفصل بينهما وسعيا بطبعهما إلى الاتحاد، لأن المساواة في العزلة تنمي الزمالة بينهما. ولكن لو أن فارسيا جاء إلى فرنسا زائرا ووجد نفسه في مكان ككور لا رين COURT LA REINE, ورآه بعض الفرنسيين، لأوحت إليهم على الفور عاطفة الوطنية التي من شأنها أن تقوي وجود الجماعة بهذه الجملة المشهورة. كيف يمكن لإنسان أن يكون فارسيا؟ وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قابل جندي منعزل من جنود الخيالة جنديا آخر من جنود المشاة تآخى الجنديان دون عناء، مع أننا نعرف أن المدن التي تضم ثكنات لكلا السلاحين كثيرا ما تكون ميدانا لمشاحنات ناجمة من هذا الاختلاط حتى تضطر السلطات أحيانا إلى التدخل لحفظ الأمن. بل لسنا في حاجة إلى التمثيل بسلاحين مختلفين قد يفترقان أحيانا في العمل وفي التقاليد وفي الاختيار. فكثيرا ما تشتد المنافسات في داخل فرقة واحدة بين كتيبة وكتيبة أو جماعة وجماعة أو غرفة وغرفة، لا لشيء إلا لاختلافهما في ساعات العمل أو القيادتين أو في رقم "العنبرين", فأتفه الفروق تزكي نار المنافسة. فكأن الناس إذا ما تجمعوا بحثوا عن أتفه الأسباب التي تقدمها لهم الظروف لإثبات تجمعهم بمعارضة غيرهم. في هذه الحالة لسنا في حاجة إلى الاحتجاج بوجود باعث من الزهو الذي يبعث عليه الشعور بوجود تفوق ما، وإن كانت روح الجماعة تصطحب غالبا برضاء داخلي. إذ إنها تنطوي على شعور بالعزة يدفعها إلى استثارة الآخرين وإذلالهم. ولكن هذه العواطف تنتج من روح الجماعة ولا تخلقها. والذي يقوي من روح الجماعة هو وجود التجمع، وهذا التجمع نفسه ليس فيه شيء شخصي ولا تدخل في حسابه قيمة الأشخاص منفردين. إذ يكفي لأي دخيل أن يحتل مكانا في الجماعة لتعترف له بالحقوق التي للآخرين, وكل ما تفعل به لدى دخوله أن تفرض عليه نوعا من البلاء التأديبي الذي لعله بقية باقية من الرياضة الصوفية القديمة. وأخيرا لا تقوم الجماعة التي من هذا القبيل على نظم شرعية. والرباط الذي يجمع بين أعضائها لا يرجع إلى اتفاق سابق ولا إلى إرادة مقصودة، وإنما ينحصر في الاتفاق في العمل والمصالح والحاجات، وتزداد قوة الجماعة إذا وجدت بحانبها جماعات أخرى تختلف عنها في الأعمال والمصالح والحاجات. تلعب اللغة دورا ذا أهمية عظمى في الجماعة الاجتماعية مهما كانت ومهما كان مقدار امتدادها. فاللغة أوثق العرى التي تجمع بين أعضاء هذه الجماعة. وهي على الدوام رمز ما بينهم من تشارك وحارسه الأمين. وأية آلة أفعل من اللغة في توطيد وجود الجماعة؟ فاللغة بمرونتها وتنوع حياتها ولطف سريانها واختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 استعمالها وسيلة للاتفاق بين الجماعة وعلامة لأعضاء هذه الجماعة، بها يعرف بعضهم بعضا ويهرع بعضهم إلى بعض. كل عضو في الجماعة يشعر بأنه يتكلم لغة معينة ليست لغة الجماعات المجاورة. فللغة إذن وجود مستقل في الشعور المشترك بين أولئك الذين يتكلمونها جميعا. وهذا التعريف، وهو ذاتي محض في مظهره، يستند إلى كون هذا الشعور بالاشتراك في اللغة يضاف إليه شعور آخر في وجدان المتكلمين بوجود مثل لغوي أعلى يسعى كل منهم من جهته إلى تحقيقه1. فكأن هناك عقدا ضمنيا أقامته الطبيعة بين أفراد الجماعة الواحدة ليحافظوا على اللغة في الصورة التي توجبها القاعدة. وكثيرا ما ترجع هذه القاعدة إلى الاستعمال، وهذا لا يخلو من الصواب. ولكن الاستعمال غير التحكم، بل هو ضده على خط مستقيم لأن الاستعمال خاضع لمصلحة الجماعة، وهي هنا حاجتها إلى أن تكون مفهومة. فكل فرد يدأب بغريزته وعن غير شعور منه على الوقوف في سبيل ما هو تحكمي حتى لا يدخل في الاستعمال. وإذا وقعت مخالفة من جانب فرد منعزل، أصلحت على الفور، والسخرية اللاذعة كفيلة بإمساك الجاني عن التفكير في المعاودة. ولا يمكن أن تصير للمخالفة قوة القانون إلا إذا كان أعضاء الجماعة كلهم على استعداد لارتكابها، أي أن يشعروا بها على أنها قاعدة، وفي هذه الحالة لا تصبح مخالفة. والصرامة التي بها تفرض القاعدة نفسها في غاية القوة، يستوي في ذلك كل الجماعات اللغوية وفي كل اللغات. قد نسمع في بعض الأحيان أشخاصا، وأشخاصا مثقفين، يظهرون دهشتهم من أن يكون للغة الفلاح قواعد ونحو. فهم يتخيلون أن القواعد لا توجد إلا في الكتب التي توزع على تلامذة المدارس، وهذا خطأ. لأن الكلام الريفي، أو اللهجات كما يسمونها، فيها قواعد أشد صرامة في غالب الأحيان مما في اللغات التي تتلقن من كتب النحو. وفي اللغات المكتوبة دون   1 انظر عن المثل الأعلى للسلامة اللغوية نورن Norren: رقم 23 مجلد 1 "1892", وسيتالا setala: رقم 28، مجلد 4 "1924" ص2-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 سواها يوجد التردد ونقاش العلماء, وكما يقول هوراس Horace؛ "Grammatici certant". ولكن الذين يتكلمون اللهجات لا يترددون. انظر إلى فلاح يتكلم عن لهجة القرية المجاورة، تجده يكتشف فيها فروقا لا يكاد يحسها الغريب عنها، وتسمعه يؤكد بخيلاء أنه هو وأهل قريته وحدهم هم الذين يتكلمون صحيحا، وأن الصحة تنعدم بمجرد أن تعبر إلى الشاطئ الآخر من النهر أو أن تنتقل إلى سفح الوادي الآخر. فالطبقات الشعبية على العموم عندها عن لغتها فكرة محددة، ويحسون في إرهاف نادر المثال أقل مخالفة للقاعدة. وقد وجد مالرب Malherbe أدق حس لغوي عند طغام البور أو فوان port-au-foin، حتى كان يتخذهم أساتذة له1. ونحن نعرف أخبار المغامرة التي وقعت في سوق أثينا ليتوفراست وكان من لسبوس. كان يسأل عن ثمن إحدى السلع، ففطنت امرأة من الشعب إلى أنه غريب على لغتها2. فالشعب هو الذي يجب أن يستشار عند التردد في حالة من حالات الاستعمال، والمجامع اللغوية هي التي تستطيع أن تناقش وأن تقرع الحجة بالحجة لتعرف ما إذا كانت كلمة "أوتومبيل" automobile مذكرة أم مؤنثة، وكل ذلك من الأمور النظرية. أما من الناحية العملية، فإن الشعب لم يتوان عن الحكم بتأنيث الكلمة. وإذا كانت قد مرت به فترة من التردد، فذلك لأن الجنس لا تبدو آثاره في كثير من الحالات "انظر ص131". ومعنى ذلك أن الكلمة لا جنس لها في بعض استعمالاتها، ولكن الشعب جدد جنسها في كل ما يحس فيها وجود الجنس مثل: une belle, une grande automobile أو "سيارة جميلة، سيارة كبيرة" l'automobile est vetre ou grise "السيارة خضراء أو رمادية". فهذا التوخي للسلامة وتلك الثقة في تثبيت الاستعمال هما اللذان يقرران اللغة في مجموعة بعينها من البشر. ومع ذلك فلو بحثنا عن تحقيق كامل للغة لم نجده في   1 Memoires pour la vie de malherbe تأليف المركيز دي راكان Marquis de Racan: فقرة 47. 2 شيشرون: برونس، فصل 46، 172، كنتيليان quintilien؛ 8، 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أي مكان1. فكثير من الناس يتكلمون الفرنسية. ولكن لا يوجد شخص واحد يتكلم الفرنسية ويصلح أن يكون مثالا ومقياسا للآخرين، فما نسميه الفرنسية لا يوجد في لغة الكلام عند أي كائن إنساني. لذلك كان من اللغو أن نتساءل في أي مكان تتكلم الفرنسية في أسمى صورها. فالفرنسية الحسنى "فكرة" بالمعنى الذي يستعمل فيه لبرويير la Bruyere هذه الكلمة أي أنها خرافة، مثلها مثل حكيم الرواقيين الذي كان كاملا جميلا طيبا سليم العقل والجسم. إلا إذا انتابته نوبات البلغم. كذلك فرنسيتنا الحسنى نراها تحت رحمة زلة من زلات الذاكرة أو لحن أو خطأ. فهي مثل أعلى يبحث عنه ولا يمكن العثور عليه، إنها قوة فعالة لا يستطاع تحديدها إلا بالهدف الذي تتجه نحوه، هي حقيقة بالقوة لا تخرج إطلاقا إلى حيز الفعل، وصيرورة لا تصل أبدا إلى الاستقرار. يمكننا أن نلخص ما تقدم بأن اللغة هي الصورة اللغوية المثالية التي تفرض نفسها على جميع الأفراد في مجموعة واحدة. لكن يبقى علينا في هذه الحالة أن نعرف المجموعة. والواقع أن الفصول التالية في جملتها مخصصة لهذا الموضوع، لأن خصائص اللغة تتوقف على طبيعة المجموعة وعلى مقدار امتدادها. إذ يوجد في فرنسا إلى جانب اللغة الأدبية التي تكتب في كل مكان والتي يزعم المثقفون بأنهم يحققونها في كلامهم. مجموعة من اللهجات مثل الفرنش كنتيه والليموزنيه اللتين تنقسمان بدورهما إلى لهجات محلية عديدة. وهذه لغات أخرى يقابلها عدد مساو لها من التجمعات. هذا إلى أنه يوجد داخل مدينة واحدة كباريس، عدد من اللغات المختلفة تسير كلها جنبا إلى جنب. فلغة الصالونات مثلا ليست لغة الثكنات، ولغة الأعيان ليست لغة العمال، وهناك رطانة المحاكم والعامية الخاصة التي تتكلم في حواشي المدنية. وهذه اللغات يختلف بعضها عن بعض إلى حد أنه قد يعرف الإنسان إحداها دون أن يفهم الأخرى. تنوع اللغات يرجع إلى تعقد الروابط الاجتماعية. ولما كان من النادر أن   1 مييه: رقم 93، ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 يعيش فرد محصورا في مجموعة اجتماعية واحدة، كان من النادر أيضا أن تبقي إحدى اللغات دون أن تنفذ إلى مجموعات مختلفة. إذ يحمل كل فرد معه لغة مجموعته ويؤثر بلغته على لغة المجموعة المجاورة التي يدخل فيها. لا تتكلم أسرتان متجاورتان لغة واحدة إطلاقا. ولكن هذا الخلاف اللغوي الذي يفرق بينهما حاليا طفيف لا يكاد يحس حتى ولو كان يحمل في طياته جراثيم انفصال في المستقبل، لذلك كان لنا الحق في ألا ندخله في حسابنا في حالته الراهنة. هذا إلى أن اللغة التي تتفاهم بها الأسرتان فيما بينهما تصير إلى الوحدة حتما، إذ إن الروابط المتبادلة تعمل منذ اليوم الأول على إضعاف الفروق بينهما وتكوين نواة مشتركة. ولنتخيل أخوين يعيشان معا ولكنهما لا يمارسان مهنة واحدة. فكل منهما يحتك في مصنعه بمجموعات مختلفة ويأخذ عنهم اللغة بالضرورة مع عادات. التفكير والأعمال وآلات المهنة. وبذلك ينشأ في كل يوم بين الأخوين اختلاف لغوي يؤدي بهما -إذا لم يريا أحدهما الآخر زمنا طويلا- إلى التحقق من أنهما يتكلمان لغتين مختلفتين، ولكن هذا الاختلاف يزول كل مساء بفضل عودة الصلة بينهما من جديد. وعلى هذا النحو يجدان نفسيهما خاضعين لتيارين متعارضين يتبادلان التأثير عليهما ولا يفصل أحدهما عن الآخر إلا بضع ساعات ويجدان أن اللغة التي يتفاهمان بها في حاجة دائمة إلى التطهير من عناصر التفرقة التي تفد عليها من الخارج. هذا مثل طيب لصراع التوازن الذي هو قانون تطور اللغات جميعا. فهذان ميلان متعارضان يوجهان اللغة في طريقين متباينين1. وأحد هذين الميلين يتجه نحو التفريق. فتطور اللغة على نحو ما أجملناه في الفصول السابقة يؤدي إلى انفصالات تزداد مع الزمن تعددا, وتكون النتيجة تفتت اللغة تفتتا يزداد بازدياد استعمالها، إذ تضطرها إلى هذا التفتت مجاميع الأفراد التي تترك وشأنها دون احتكاك بينها. غير أن هذا التفريق لا يصل إطلاقا إلى تمامه، لأن سببا حيويا.   1 مييه: التوحيد والتفريق في اللغات "رقم 42، 1911، ص402". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يوقفه في الطريق، إذ أنه بإمعانه التدريجي في الحد من امتداد المجموعات التي تستخدم اللغة وسيلة للتفاهم بينها، ينتهي بحرمان اللغة من قيمتها الجوهرية، فتحطم اللغة نفسها وتصير غير قادرة على إيصال الناس بعضهم ببعض. لذلك يقوم ميل آخر يعمل دواما على مناهضة التفريق، وهو الميل إلى التوحيد الذي يعيد التوازن. ومن صراع هذين الميلين تنتج أنواع اللغات المختلفة، من لهجات ولغات خاصة ولغات مشتركة، تلك التي ستكون موضوع دراستنا منذ الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة 1: يمكننا دائما أن نحدد لغة ما من الوجهة المكانية بمقابلتها بلغات من فصيلة مختلفة. فنحن نعرف حدود الفرنسية في الأماكن التي ترتطم فيها بالألمانية أو بالبسكية أو بالبريتانية، هذه الحدود يمكن رسمها ما بين قرية وقرية، بل في داخل القرية نفسها، كثيرا ما يفصل بين اللغتين واد من الوديان أو جدول ماء أو مجرد شارع. فيمكننا إذن أن نتكلم عن لغة فرنسية أو ألمانية أو إيطالية أو مجرية أو صربية. كل هذه اللغات يتعارض بعضها مع بعض وتجدد بعضها بعضا على وجه الدقة. ولكنا نعاني بعض الصعوبة إذا حاولنا أن نرسم حدودا بين الفرنسية والبروفنسالية أو بين الألمانية العليا والألمانية السفلى أو بين الصربية والبلغارية. لأننا هنا لم نعد أمام لغتين من أصلين مختلفين وصلت بينهما مكانيا مصادفات التاريخ، بل أمام لغات منبعثة من أصل واحد وقد فرقت بينها ظروف تاريخية. فالانتقال بين إحداهما والأخرى انتقال غير محسوس، وليس هناك معارض جسيمة   1 عن مسألة اللهجات انظر أسكولي ASCOLI؛ L'ITALIA DIA LETTALE "اللهجات الإيطالية"، رقم 41، مجلد 8، ص99-120؛ ل. جوشا Gibt es: l'Gauchat Muandartgrenzen? "هل توجد حدود لهجية؟ ", رقم 25 مجلد 111 ص365-403. "1904"؛ تابولت Tappolet: "في أهمية الجغرافيا اللغوية" نشر في Festschrift Morf ص385 وما يليها؛ ي: هوبر J. Huber: "الجغرافيا اللغوية" رقم 3، مجلد1، ص89 وما يليها، وانظر خاصة مؤلفات الأساتذة جيليرون وبابرج وترنشيه. أما عن "اللغات الخاصة" عامة فانظر لاش Lasch: نشرات جمعية علم الإنسان بفينا "Mitteilungen der anthrop, Gesellschaft", فينا "1907"، فان جنيب Van Gennep رقم 14 "1908" مجلد 1، ص327، رقم 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بين لغتين وضعت إحداهما في مواجهة الأخرى، وزودت كل منهما بوسائل للتعبير مختلفة. والصعوبة تعظم وتعظم إذا أردناأن نضع حدودا بين اللهجات التي في داخل مجال لغوي واحد. أصبح اليوم من المقرر أن الخصائص اللغوية لا ينسجم بعضها مع بعض من حيث التوزيع، وبعبارة اخرى، أن الخطوط التي تفصل بين خاصية وأخرى، ليست هي نفس الخطوط التي تفصل بين خاصيتين أخريين. ويكفينا للتحقق مما نقول أن نرجع إلى إحدى الخرائط اللغوية لاستيضاحها. فأطلس فرنسا اللغوي1 يعطينا عن كل حالة بعينها حدودا مختلفة. ولنتخيل عددا من القرى، عشر قرى مثلا، مفرقة في إحدى المقاطعات الفرنسية في رقعة تتكون من بضعة أميال مربعة. فنرى أن سكان هذه القرى يتكلمون لغة واحدة، بمعنى أن لهجتهم تمثل مظهرا خاصا من اللغة الفرنسية، وقد نتجت تاريخيا، من تطور مستقل لنفس اللغة في مجال متصل. ولكنا نجد فروقا ذات بال بين قرية وأخرى، حتى ليمكننا أن نميز لهجةكل قرية منها بوصف مخالف لغيرها2 من حيث الصوتيات ومن حيث النحو ومن حيث المفردات. ومن النادر جدا ألا تمتد إلى حد ما خصائص إحدى هذه القرى إلى القرى المجاورة. ولكن الحدود الجغرافية لكل واحدة من هذه الخصائص على حدتها، لا تكاد تتفق إطلاقا مع الحدود الجغرافية لأي خاصية أخرى تؤخذ على حدة أيضا. فنجد مثلا بين هذه القرى خمسا أو ستا تنطق "a" "فتحة" حيث تنطق القرى الأخرى "e" "فتحة ممالة"، ثم نجد خمس قرى أو ستا تنطق o "ضمة مفتوحة" حيث تنظق القرى الأخرى u "ضمة صريحة". ولكن الخط الذي يفصل بين أولئك الذين ينطقون a والذين ينطقون e ليس هو الخط الذي يفصل بين من ينطقون o وبين من ينطقون u؛ فالقرى التي تمارس التغيير ليست واحدة، ومعنى ذلك أن التوزيع يختلف.   1 الأطلس اللغوي لفرنسا، وانظر جيلبيرون وروك: رقم 76. 2 جوشا: "الوحدة الصوتية في عامية إحدى القرى" نشرت في: Festschrift Morf، ص175-232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 يوجد مثلا في مقاطعة اللاند1 Landes بالنسبة لنطق كلمة joug "نير" أربع مناطق غير متساوية تماما، وموزعة على هذا النحو: والتقسيم يقوم أولا على نطق "j" "جـ" بدلا من y "ي" التي في أول الكلمة وثانيا على نطق iw بدلا من u. ومناطق هذا الظواهر الصوتية لا تساير بعضها بعضا. ولكنها لا تساير ظاهرة أخرى صوتية مثل ظاهرة تبادل d "د" وz "ز" التي تشطر المنطقة إلى شطرين متقاربين2: laide laize ولا تساير ظاهرة صرفية مثل ظاهرة الاقتصار على واحد من الزمنين الماضيين دون الآخر. إما الماضي البسيط "il ecrasa" وإما الماضي المركب "Il a ecrase", تلك الظاهرة التي يكون حدها الفاصل خطا متعرجا يقطع المقاطعة بصورة غريبة3. وإذا درسنا مفردات المقاطعة نفسها، وجدنا لاسم المستنقع "etang" أربع كلمات مختلفة "Gourgue, pesque, clote, estan" 4، وثلاثا لاسم الغراب "croque, corbe, courbas" 5" ومناطق اسم الغراب لا تساير مناطق اسم المستنقع. وإذن فتوزيع حالات المفردات فيها نفس الشذوذ الذي في توزيع الحالات الصوتية أو الصرفية. كانت نتيجة هذه الحال أن كثيرا من علماء اللغة ذهبوا إلى أن اللهجات لا وجود لها فعند هؤلاء العلماء أن الحالة اللغوية التي تنتج من تطور اللغة لا يمكن أن تتصور إلا في مظهرين: مظهر اللغة، تلك الوحدة الشاسعة التي تئول إليها   1 مييرديه: رقم 102، ص245. 2 المرجع السابق: ص249. 3 نفس المرجع: ص199. 4 نفس المراجع: ص208. 5 نفس المرجع: ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 صور التكلم المحلية جميعها، ومظهر صور التكلم المحلية التي إليها تتفتت اللغة. هذا بصفة عامة رأي علماء اللغات الرومانية الذي قام بعرضه في صورة فائقة جاستون باريس وبول ميير منذزمن. يقول الأول: "لا يوجد أي حد حقيقي يفصل بين فرنسي الشمالي وفرنسي الجنوب، فصور التكلم الشعبية عندنا تمتد على أرض الوطن من طرف إلى آخر كأنها بساط نضحت ألوانه المتنوعة في كل نقطة منه بعضها على بعض وأصبحت درجات لا يكاد يتميز بعضها من بعض"1. هذا أيضا هو الرأي الذي تصير إليه "نظرية الأمواج" wellentheorie ليوهان شمت johann schmidt2. فهو يقرر أن كل ظاهرة لغوية تمتد على سطح القطر امتداد الأمواج، وأن كل موجة في تقدمها التدريجي غير المحسوس ليس لها حد معين. ويستند في نظريته على دراسة اللغات الهندية الأوربية حيث الخطوط التي تفصل بين كل خاصية لغوية وأخرى لا تنطبق على الخطوط التي تفصل بين خاصيتين لغويتين أخريين، وذلك كما هي الحال في اللغات الرومانية: ولكن الأستاذ مييه قد دافع بحق عن اللهجات الهندية الأوربية2. فأبان أنه يمكننا أن نقوم بتقسيم لهجي، حتى في زمن الهندية الأوربية. وهذا التقسيم يقوم على المبدأ القائل بأن من حقنا أن نتكلم عن وجود لهجات كلما رأينا عددا كبيرا من الخطوط التي تفصل بين الخصائص، ينطبق بعضها عن بعض ولو بشكل تقربي. فهناك لهجة محددة في كل منطقة يلاحظ فيها وجود خصائص مشتركة. وحتى عندما لا يمكن رسم خطوط دقيقة للفصل بين منطقتين متجاورتين فإنه يبقى أن كلا منهما تتميز في مجموعها ببعض السمات العامة التي لا توجد في الأخرى. فالبروفنسالية والفرنسية ليستا في حقيقة الأمر إلا لهجتين من لغة واحدة. وإذا لم يكن في وسعنا أن نرسم على الخريطة خطا محددا يبين أين تنتهي الفرنسية وتبدأ البروفنسالية، فإن كلا من اللهجتين في مجموعها قد اشتملت على خصائص عديدة واضحة إلى حد يجعلنا في مأمن من الخلط بينهما.   1 دوزا: رقم 65، ص217 وما يليها، مع إشارات بالرجوع إلى شوخارت وأسكولي وجاستون باريس وب ميير. وقارن جاستون باريس: رقم 106، ص334. 2 رقم 199؛ وقارن برجمان: رقم 31، مجلد1، ص226 وما يليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يمكننا أن نوجد في داخل المجال الفرنسي نفسه تقسيما لهجيا باختيار بعض السمات الخاصة التي تكفي لتمييز اللهجة. فالفرنسية البيكاردية تمتاز عن فرنسية الإبل دي فرانس باحتفاظها بالـC الانفجارية "ك" التي صارت صوتا صفيريا "ش" في المجال الفرنسي. فتقول البيكاردية kar, kamp, keval بدلا من cher champ, cheval. نعم إن هذا المقياس النافذ في التمييز بين البيكاردية والفرنسية ليس صالحا كما أبان بول ميير، للتمييز بين البيكاردية وبين جارتها الشمالية أعني الفرنسية البلجيكية "الولونية wallon" أو بينها وبين الترمندية جارتها الغريبة ولكن يوجد بين البيكاردية والفرنسية البلجيكية أو النرمندية خصائص أخرى مميزة تمكننا من وضع حدود إجمالية بين هذه اللهجات. لذلك لا يقع المتكلمون في الخطأ. فالتقسيم اللهجي يرجع إلى إحساس حقيقي لدى سكان الإقليم الواحد، إحساس بأنهم يتكلمون بصورة ما ليست هي الصورة التي يسير عليها سكان الإقليم المجاور. والبيكارديون القدماء كانوا يشعرون بأن فرنسيتهم البيكاردية لهجة تختلف عن فرنسية الإيل دي فرانس بقدر ما تختلف النرمندية عن الولونية "الفرنسية البلجيكية". وذلك لأن البيكاردية في مجموعها بالرغم من اختلاف صورها في المجال الواسع الذي تتكلم فيه، فيها سمات مميزة غالبة تميزها في أذهان الذين يتكلمونها بالنسبة للهجات المجاورة. وهذا يفسر لنا وجود مؤلفات أدبية مكتوبة بالبيكاردية1. أغلب الظن أن اللغات الأدبية التي تعتمد على إحدى اللهجات أي التي تقوم على أساس لهجي لا تمثل، كما سنرى فيما بعد "ص342"، تمثيلا صادقا صورة التكلم لأي بلدة من بلدان المنطقة. وهذا يصدق على فرنسا في العصور الوسطى كما يصدق على بلاد الإغريق القديمة. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك عدم وجود اللهجة. بل إنها توجد بقدر ما توجد اللغة المشتركة فلها نوع من الوجود المثالي. ففي الفرنسية لا يكتب سان ألكس Saint Alexis في نفس اللهجة التي يكتب فيها سان ليجيه Saint leger أو ال كانتيلين دي سانت أولالي la la Cantilene de Saint Eulalie.   1 رقم 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وفي بلاد الإغريق كانت لهجة الملحمة غير لهجة القصيدة الغنائية، وفي الدرامة كانت تستعمل لهجتان مختلفتان، واحدة للحوار والأخرى للغناء الجماعي. فأساس هذه اللهجات من حيث الأصل لغة أحد الأقاليم الإغريقية سواء أكان ذلك الإقليم في الجزر أم في القارة، وسواء أكانت هذه اللغة واسعة الانتشار أم محصورته. وكان في كل منهما من السمات الخاصة المميزة ما يكفي لتسميتها لهجة. ولكن استعمال الشعراء لها صيرها لغات أدبية، واللغات الأدبية التي من هذا النوع لا تختلف عن اللغات الخاصة إلا قليلا. بعد أن عرفنا اللهجة على هذا النحو يجدر بنا، قبل أن ندرسها في صلاتها باللغة المشتركة، أن نقول كلمة عن اللغات الخاصة. واللغات الخاصة نتيجة للانفصال الاجتماعي، مثلها في ذلك مثل اللهجات ولكن من وجهة نظر أخرى. نعنى باللغة الخاصة تلك اللغة التي لا يستعملها إلا جماعات من الأفراد وجدوا في ظروف خاصة. ومثال ذلك حالة "المحضر" أو حالة القاضي. فهذان الموظفان يستعملان في تسبيب حيثياتهما أو في تحريرها لغة بعيدة جدا عن اللغة الجارية، هي اللغة القانونية. ولدينا مثال آخر في لغة الطقوس الدينية: فكثيرا ما يستخدم المؤمن في خطابه لله لغة خاصة، كالكاثوليك إذ يستعملون اللغة اللاتينية. فيجب أن نسلك اللغات الدينية بين اللغات الخاصة. وأخيرا أنواع الأرجو les argots "اللغات العامية الخاصة" كلها لغات خاصة, فطلبة المدارس والصناع والأشقياء يستعملون فيما بينهم لغة متفقا عليها. ومن اللغات الخاصة أيضا تلك اللغات التي تتميز من اللغة الجارية ويستخدما عدد محصور من الأفراد للتفاهم الذي فيه شيء من السرية وكل هذه اللغات تشترك في كونها خاصة بالنسبة للغة مشتركة بعينها، وباختبار تكونها يتضح لنا أنها تنشأ جميعا عن ميل واحد، وهو ترويض اللغة على مشاغل المجموعة التي تستعملها. تعتبر بعض هذه اللغات الخاصة لغات مختلفة عن اللغة العادية. ومنها اللاتينية التي ظل العلماء زمنا طويلا يستخدمونها في علاقاتهم الدولية فهم قد اختاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لغة ميتة للتفاهم مع غيرهم من العلماء، وفعل قسيسونا مثلهم في مخاطبة الله. وظلت اللغة السنسكريتية في الهند لغة البنديتيين، أي لغة المثقفين. ويمكننا أن نعد من لغات العبادة التي تختلف عن اللغة الحية اللغات الإغريقية والسلافية القديمة والأرمينية، أو القبطية التي ظلت اللغة الدينية لقوم يتكلمون في شئونهم العادية اللغة العربية، وهي لغة من أسرة أخرى. وهذا يفسر ببواعث خاصة, بالحاجة إلى إمكان التفاهم مع أناس من أقطار مختلفة في حالة اتخاذ اللاتينية لغة للعماء، أو باتباع التقاليد وأكثر من ذلك بالحاجة إلى تمييز القدسي من الدنيوي، وذلك كما في حالة اللغات الدينية "انظر ص321". وعلى الجملة فإن اللغات الخاصة تقوم على الرصيد المشترك للغة حية ... ولكن بعضها لغات ميتة موت اللاتينية، ومن ذلك لغة المحاكم. فكل مصطلح فيها اتخذ له دلالة نهائية، على رجال المحاكم أن يحفظوها وأن يتبوعها دون أن يغيروا شيئا منها. فهي ليست في نهاية الأمر إلا لغة فنية كلغة الأطباء عندما يحررون نشرة طبية وعلى العموم، كلغة العلماء من كل نوع عندما يعالجون مادة علمهم. واللغات الفنية تدين بوجودها إلى الحاجة للدلالة على أشياء أو أفكار لا أسماء لها في الاستعمال الجاري، ولكنها أيضا ترجع إلى الحاجة للدلالة "بصورة علمية" أي بمصطلح دقيق يرفع كل لبس، على أشياء مما تعبر عنه اللغة العادية تعبيرا جيدا. لذلك نراها أحيانا تخترع كلمات خاصة وأحيانا تستعمل كلمات اللغات العادية في معنى خاص، كما يفعل علماء الطبيعة حين يتكلمون عن "الكتلة" أو "السرعة" أو "القوة" وبهذا تنجو اللغات الفنية نحو اللغات العامية الخاصة1. صارت كلمة "عامية خاصة" "argot" في الأيام الأخيرة مصطلحا غامضا. والواقع أنها ليست إلا اسما آخر للغة الخاصة. ويوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة. والعامية الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها في تغير دائم تبعا للظروف والأمكنة. فكل جماعة خاصة وكل هيئة من   1 انظر عن العامية الخاصة ف. ميشل: "دراسات في الفلولوجيا المقارنة عن العامية الخاصة". باريس 856، سينبان: رقم 119 ومؤلفات مارسل شفوب ودورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أرباب المهن لها عاميتها الخاصة. فهناك عامية التلامذة الخاصة، وهي غير واحدة في كل المدارس بل وتختلف أحيانا باختلاف الفصول في المدرسة الواحدة، وهناك عامية الثكنات الخاصة التي تختلف باختلاف الأسلحة بل وباختلاف الثكنات أيضا، وهناك عامية الخياطات الخاصة وعامية الغسالات وعامية عمال المناجم وعامية البحارين. وأخيرا هناك عامية الأشقياء الخاصة. وهذه هي التي أطلق عليها كلمة "عامية خاصة" "Argot" لأول مرة. فقد كان يوجد عندنا حتى بداية القرن التاسع عشر هيئة منظمة حقة للأشقياء وكانت لها لغتها الخاصة المتفق عليها والتي كان يعمل كل عضو من أعضاء الهيئة على المحافظة عليها. هذه هي العامية الخاصة "argot" ومن قبل كانت تسمى jargon لأن الكلمتين كانتا في الأصل بمعنى واحد. وتسمى بالإنجليزية cant وبالألمانية Rotwelsch أو Gaunersprache وبالإيطالية Furbesche وبالإسبانية germania وبالبرتغالية calao وبالرومانية smechereasca، إلخ. والذين يدرسون اللغة الخاصة ما زالوا يتخذون لغة الأشقياء أساسا لدراستهم، ولكنها أرض لا يوجد أقل منها تحديدا. وذلك لأن الأشقياء لا يكونون الآن جماعة مغلقة يستطيع أعضاؤها أن يفرضوا على أنفسهم وحدة لغوية تامة. فالذين يتكلمون العامية الخاصة الآن ينتسبون إلى جميع الآفاق الاجتماعية. وما يسمى عالم الأشقياء يشتمل على ممثلين لكل الأقاليم وكل الطبقات وكل الأوساط. وإذا اجتمع المجرمون، اجتمعوا في وحدات منعزلة لحاجات عابرة، لا يعترفون برئيس يستطيع، كما استطاع ملك تون roi de Thunes أو كوسر الكبير grand cosere أن يفرض عليهم إرادته. وليس يميزهم أي شيء خارجي، بل يختلطون بحياة الجميع، بالرغم من أنهم يعيشون على هامش المجتمع الشرعي. فكيف يوجد في هذه الظروف لغة للمجرمين محددة تحديدا دقيقا؟ تنحصر خصائص العامية الخاصة في اختلاف مفرداتها بوجه خاص. والواقع أنها تنشأ من تخصص اللغة المشتركة، ولما كانت لا توجد إلا بمعارضتها لهذه اللغة المشتركة، وجب أن تحس الصلة بين اللغة العامة والعامية الخاصة بصفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 دائمة ما دامت العامية الخاصة مستعملة والتشويه الصوتي أو الصرفي مهما قل ينتج عنه قطع الرباط الذي يصل العامية الخاصة باللغة المشتركة التي خرجت منها. هذا إلى أن الصرف والأصوات يكونان نظامين لا يستطاع مسهما بشيء دون تغييرهما من أساسهما. فلا عدوان للعامية الخاصة عليهما. طبعا قد يقع للعامية الخاصة أن تتبع بعض عادات في النطق تساعد على تمييزها. فالعامية الخاصة المستعملة في الأطراف الباريسية تحتوي على بعض الخصائص الصوتية التي تكفي للتعريف بطبقة المتكلم الاجتماعية. ولكنا هنا أمام حقيقتين مختلفتين يجب علينا أن نميز بينهما, إذ أن النطق الطبيعي في الأحياء الباريسية المتطرفة ليس هو النطق الفرنسي المعتاد. فالأطراف لها أصوات خاصة لا علاقة لها بالمفردات. وقد نسمع بعض العمال يتكلمون فرنسية لا شائبة فيها بتنغيمات أهل الأطراف، وأناسا من علية القوم يتكلمون كلمات من العامية الخاصة مع نطق لا يعلو عليه نطق. فإذا اجتمع نطق الأطراف ومفردات العامية الخاصة في متكلم واحد، فمعنى ذلك اجتماع نوعين مستقلين من الخصائص بطريق الاتفاق. يمكننا إذن أن نحصر الفوارق التي تميز العامية الخاصة في المفردات. ولكن يبقى علينا أن نبين كيف تنشأ تلك الفروق بين المفردات. فايسر الوسائل أن تستعمل كلمات اللغة الجارية استعمالا خاصا. وقد قلنا سابقا إن الكلمات العامة التي مثل Travail "عمل" وouvrage "مشغل، عمل، صنعة، تصنيف ... إلخ". وoperatiou "عملية" تتخذ بالضرورة معنى خاصا في أفواه الذين يستعملونها وفقا لنوع المهنة التي تستخدمها فيها هذه الالفاظ. فظاهرة التخصص المعنوي ذلك هي أساس العامية الخاصة "انظر ص256". الاستعمال الاستعاري من الوسائل المحببة إلى العامية الخاصة، وكذلك استعمال اسم العلم في وظيفة الاسم المشترك. وهاتان الخطتان معروفتان في اللغة الجارية "انظر ص287"، فهما لا يميزان العامية الخاصة من اللغة الجارية في شيء ولكن طريقة تطبيقهما قد تسمح بشيء من التمييز؛ فالواقع أن الاستعارة والنقل يستعملان في العامية الخاصة بتواتر خاص، إذ أن الاستعارات فيها تبلى بسرعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وتحتاج إلى كثيرة التجديد، حيث أن الغرض من استعمالها هو توسيع شقة الخلاف التي تفصل بين العامية الخاصة واللغة المشتركة والمحافظة على بقاء هذا الخلاف، فلا يدهشنا إذن أن تستهلك العامية الخاصة من الاستعارات أكثر مما تستهلك أية لغة أخرى. كذلك كثيرا ما تكون هذه المبتكرات شعورية وعرضية. وهنا نلمس عن كتب أكثر الخواص تمييزا للعامية الخاصة عن اللغة الجارية. إذ أن العامية الخاصة مع كونها لغة طبيعية من حيث مبدؤها ومن حيث تكوينها فإنها تقارب اللغات الاصطناعية وتتزود من المبتكرات الفردية. فتفوق عضو من الجماعة يفرض على الآخرين تسمية ناجمة من ظروف خاصة في حياة الجماعة، وهكذا يشاطر الهوى الفردي في خلق كلمات جديدة. وهذا كله غير كاف. فوسائل اللغة العادية لا تكفي، مهما شد من أزرها فعل الأفراد الخاص، لتزويد العامية الخاصة بذلك التيار الدائم من الكلمات التي تحتاج إليها. وهنا تتدخل المفردات الأجنبية بمد يد المساعدة. ويجب أن نفهم كلمة أجنبية هنا بمعناها الواسع الذي يشمل كل ما ليس من اللغة المشتركة التي ترتكز عليها العامية الخاصة. وهكذا تستطيع المساهمة في تكوين العامية الخاصة وتجديدها صور التكلم المحلية المنتشرة في جميع أرجاء القطر، وكذلك اللهجات ولهجات اللهجات التي تعتبر بدورها لغات مشتركة صغيرة خاضعة للغة القطر العامية، بل واللغات الأجنبية التي تتكلمها الأقطار المجاورة. "فعامية ألمانيا الخاصة" ROTWELSCH مثلا ملأى بالكلمات اليهودية الألمانية والجرمانيا GERMANIA "في أسبانيا" فيها عناصر غجرية هامة جدا، والـSMECHEREASCA تضيف إلى أساسها الروماني عناصر مجرية وروسية ويهودية ألمانية وغجرية، ونقابل هنا وهناك في الـcant كلمات إرلندية، مثل twig "الفهم" من "الإرلندية twigin "أفهم"". وفي العامية الخاصة بمدرسة البوليتكنيك توجد كلمة ألمانية هي Schiksal "مصادفة، قدر"1. والعامية الخاصة الفرنسية على وجه العموم تحتوي على كلمات أجنبية قليلة العدد "عربية، غجرية، يهودية ألمانية"؛   1 مارسل كوهين: رقم 6، مجلد 15، ص170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 أما أساسها فمستعار من عناصر أهلية، ولكن اللهجات الإقليمية ممثلة فيها بأكثر من الفرنسية المشتركة1. يترتب على هذا التنوع في تكوين العامية الخاصة، أننا نجد فيها كثيرا من الكلمات الحوشية، إذ الواقع انه إذا دخلت كلمة في العامية الخاصة بواسطة التخصص المعنوي أو مجرد الاقتباس، حافظت التقاليد في غالب الأحيان على بقائها فيها حتى بعد انقراضها من اللغة الجارية. وقد يدهش الإنسان مثلا حين يعلم أن الكلمة الألمانية القديمة lutt "صغير" تستعمل في عامية الألمانية الخاصة بدلا من كلمة "klein" أو أن الفعل occire "يقتل" الذي اختفى من الاستعمال منذ قرون ما يزال يستعمل في العامية الخاصة الفرنسية بدلا من الفعل tuer. وهذه حوشية. ومثل هذه الحالات لا تكون في كثير من الأحيان حوشية إلا في مظهرها فحسب إذ هي في حقيقة الأمر مستعارة حديثا في نصوص أدبية، ومن العسير في بعض الأحيان أن نميز بين الخطتين. والأخذ عن الكتب أمر فردي في غالب الأحيان، وهو إحدى الوسائل الاصطناعية التي تدخل في تكوين العامية الخاصة. وهذه الوسائل على درجة كافية من التنوع. وتنحصر مثلا في تشويه مظهر الكلمات الخارجي. وهكذا يستعيضون عن لاحقة من لواحق اللغة الجارية بلاحقة خاصة بالعامية، وذلك كقول العامية الخاصة الفرنسية epismar بدلا من epicier "بدال" وauverpin بدلا من Auvergant بدلا من Aurergnat "أو فرني" وكقول الألمانية في عاميتها الخاصة kofmich بدلا من kaufmann "تاجر". وبعض التشويهات الأخرى ليست إلا توسعا في التغيرات الصوتية المطردة. وإن الأسباب المذكورة في صفحة 89 لتفسير المبالغة في العوارض الصوتية لتجد مجالا خصبا في العامية الخاصة. ففيها يستطيع المتكلم بوجه خاص أن يسمح لنفسه بنطق الكلمات في صورة مختزلة. لأنه يخاطب عددا محصورا من المتكلمين، كلها ممهد الذهن لفهمه،   1 انظر الدراسة القيمة التي كتبها الأستاذ إرنو عن العامية الخاصة البريتانية، رقم 8 مجلد 14 ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكلهم متفاهم معه مقسما. ومن ثم يجيء هذا العدد الضخم من حالات الحذف والإسقاط والتبسيط وحذف النهايات، هذه العوارض الصوتية التي تجعل العامية الخاصة لا يفهمها إلا العارفون. ومن جهة أخرى تجد ظواهر التشابه والتخالف والنقل المكاني في العامية الخاصة المتكلمة ميدانا خصيبا لا يعترض انتشارها أية عقبة من القواعد. وأخيرا نعثر في العامية الخاصة على تشويهات مصطنعة غير مرتبطة بظروف اللغة الطبيعية, ومثال ذلك le javanais, le loucherbeme الجافانية. ففي الحالة الأولى ينقل الحرف الأول منها إلى آخرها ويستعاض عنه بحرف ل "l" ثم يضاف إلى الكلمة بعد هذا التشوية لاحقة من اللواحق العامية الخاصة؛ وفي الحالة الثانية يقحم مقطع ما في داخل الكلمة "ar أو oc أو al أو am إلخ"، ولكن الغالب أن يكون المقطع المقحم av أو va ولعل هذا هو أصل الاسم الجافانية "javanais". اللوشيربيم le loucherbeme حديثة العهد نوعا لأنها ترجع إلى بداية القرن التاسع عشر على الأكثر، أما الجافانية المستعملة بين طغام باريس فيظهر أنها أقدم منها عهدا، ولكن الطريقة التي تنبني عليها هاتان العاميتان الخاصتان أقدم منهما بكثير، إذ لا بد أنها قد استخدمت في كل زمن وفي كل مكان احتاج فيه قوم إلى تغيير لغتهم. ويوجد في البنجاب اليوم قبيلة من اللصوص خلقت لنفسها لغة إلى تغيير لغتهم ويوجد في البنجاب اليوم قبيلة من الصوص خلقت لنفسها لغة خاصة بإقحام المقطع ma في داخل الكلمة المستعملة في اللغة البنجابية1. وهي طريقة من أبسط الطرق وفي متناول كل إنسان. فقد رأينا في ص293 أن خلق كلمات جديدة أمر في غاية العسر. فإذا لم يكن لدى القائمين بهذا الأمر منبع من المفردات المجاورة ينهلون منه ما شاءوا من كلمات جديدة، أمكنهم أن يعدلوا الكلمات الموجودة بالفعل تبعا لقاعدة مطردة. وهذه الطريقة التشويهية مستعملة في عدد كبير من العاميات الخاصة. فتلاميذ المدارس كثيرا ما يستعملون الجافانية، وقد شوهد استخدام هذه الطريقة في بعض المؤسسات التعليمية بالأقطار الجرمانية والسلافية.   1 T. G. Bailey on the secret words of the culuas "proceedinge of the Asiatic Society of Bengab, 1902". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 هناك شخصية محوطة بالألغاز لا نعرفها إلا باسم مستعار ضخم الدلالة، هو اسم فرجيليوس مارو virgilius Maro النحوي الذي عاش على ما يظهر في القرن الخامس بعد الميلاد. يقال إن هذا الرجل اخترع لغة خاصة ظلت شائعة الاستعمال زمنا طويلا بين تلامذة المدارس الإيرلندية. وكانت تقوم هذه اللغة على تشويه الكلمات الجارية بأنواع من تضعيف المقاطع أو بترها أو نقلها. وبمضي الزمن تحورت وتمخضت عن لغة أخرى أمشاج سميت "لغة الشعراء" berla na filed بالإيرلندية. وهي عامية خاصة اختلطت فيها على غير قاعدة كلمات مستعارة من اللاتينية والإغريقية والعبرية وكلمات أهلية أهملها الاستعمال أو استمدت من النصوص العتيقة. وكلمات مأخوذة من الاستعمال الجاري بعد قلبها أو تشويهها. هذه اللغة، التي لا زالت تحت يدنا منها عينات عسيرة التفسير في غالب الأحيان، بقيت بقوة التقاليد زمنا طويلا تستخدم في المدارس الإيرلندية كلغة سرية. ولكنا نجهل إلى اي حد كانت تتكلم، ولعلها لم تكن إلا نظاما من نظم الرسم، كلغة السحرة وكتاب التعويذات. الرقى السحرية التي نعثر عليها في قبور اليونان وإيطاليا وإفريقية مكتوبة على ألواح من الرصاص، تطبق في غالب الأحيان هذه الخطط نفسها: استعمال الكلمات الأجنبية أو تشويه الكلمات الأهلية1. ولكن الباعث هنا يختلف؛ إذ يبغون من وراء ذلك الاتصال بالعالم الآخر، ومن ثم يدخلون في تحرير النص اعتبارات لا صلة لها باللغة. هذه الملاحظة تؤدي بنا إلى أن نقول كلمة عن اللغات الخاصة التي تنشأ عن بواعث خفية. السياح الذين طافوا بالأقطار البدائية وعلماء الأجناس الذين ينسقون أخبار السائحين يحدثوننا عن أهمية اللغات الخاصة غير المتحضرة. إذ يوجد في داخل اللغة الواحدة لأسباب دينية أنواع مختلفة من المفردات، ووجهة الخلاف فيها تنحصر في طريقة استعمالها وفي الأغراض التي تستعمل فيها، والواقع   1 أودولن Audollent؛ Defixiomumtabellae، باريس 1904. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 "أن مجال التقديس عند هؤلاء المتوحشين أوسع منه عندنا. إذ لا يوجد نشاط اجتماعي أيا كان دون أن يساهم وقتا ما في طقس من الطقوس السحرية الدينية، ويجب من الوجهة النظرية استعمال لغة خاصة كلما جدت مناسبة من هذه المناسبات. هذه اللغات الخاصة التي لا تستعمل إلا لوقت محدود، ذات طابع انفصالي في غالب الأحيان، أو على الأقل إنما تتكون "إلا في الحالات النادرة" من عدد يقل أو يثكر من العبارات المحرمة الاستعمال، أي من تابوهات TABOUS لغوية"1. فكل ما كان ذا صفة قدسية، وبالطبع كل ما مثل الألوهية في جميع صورها، وأيضا كل ما دل على الرؤساء والموتى والأشياء المخصصة لهم والحيوانات التي تمثلهم، إلخ، كل هذا يدعو إلى استعمال لغة خاصة. وتستعمل أيضا في الأفعال التي تعمل طابع التقديس عامة كالصيد البحري والبري والملاحة والحرب، وفي بعض الأفعال الخاصة التي تدين بطابعها التقديسي إلى أهمية مكانية أو زمنية. فيوجد في أندونيسيا لغات خاصة بالباحثين عن الكافور وبالباحثين عن الذهب. من أكثر أنواع التخصيص شيوعا، ذلك التخصيص الناجم من اختلاف الجنسين. فالنساء لا يستعملن اللغة التي يستعملها الرجال، وحتى عندما يفهمن الكلمات التي يستعملها الرجال لا يكون لهن الحق في النطق بها فلا بد إذن من وجود نوعين من المفردات متوازنيين تماما حتى يصير لكل شيء اسمان تبعا لجنس المتكلم. فعند الكاريبيين مثلا يتكلم الرجال اللغة الكاريبية CARAIBE والنساء الأرواكية AROWAK2. وأحيانا يتعدد الاختلاف في الطبقة الاجتماعية. فعند سكان جاوا الأصليين يتكلم الرئيس إلى مرؤوسيه باللغة النجوكية NGOKA, ويجيبه المرؤوس باللغة الكرومية KROMO3.   1 فان جنب VAN GEMM, رقم 14، 1958، ص327 وما يليها؛ ور. لاش R. LASCH؛ MITTERI, DER ANTHROPOL GESELLSCH. فينا "1907". 2 ل. آدم. L. ADAM؛ DU PARLER DES HOMMES ET DU PARLER DES FEMMES DANS LA LANGUE CARAIBE. 3 فون در كابلنتس VON DER CABELENTZ، رقم 163، ص244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وفي بعض الأحيان تختلف اللغات أيضا باختلاف الأعمار. فعند الماسيين MASSI في إفريقية الشرقية يقسم السكان الذكور بحسب أعمارهم إلى طبقتين، لكل طبقة منهما تقاليدها الصارمة التي تحرم عليها بعض الأطعمة وبالتالي استعمال بعض الكلمات1. ولا يجوز لمن هم أكبر سنا أن يمسوا ذيل حيوان مقتول أو رأسه، ويجب أن يستعملوا ألفاظا خاصة للدلالة على هذا الذيل أو هذا الرأس. كما لا يباح لمن هم أصغر سنا أن يأكلوا من قرع الكوسة أو من القرع الأحمر. ومن أشنع الأخطاء أن ينسى أحدهم فيسمي أمام الآخر أحد الأفعال المحرمة على الأخير. وهذه التقاليد ناشئة من اعتبارات دينية: إذ ينظر إلى المجموعتين على أنهما شطرا وحدة سرية، هي مجموع أفراد القبيلة الذكور. فيبين الفرق بين الشطرين بالاختلاف في الأفعال وهذا يؤدي بالضرورة إلى الاختلاف في المفردات. هذا الظاهرة تدخل مباشرة في دائرة الأعمال الترويضية التي لها أهميتها عند المتوحشين وهناك طقوس خاصة تصحب الانتقال من مرتبة من مراتب السن أو من المراتب الدينية إلى مرتبة أخرى. يقصد بها فصل المبتدئ من وسطه السابق لإدماجه في الوسط الجديد، ومن ثم يجيء استعمال اللغات الخاصة التي تبقي كلمة أو غير كاملة حتى بعد اندماج المريد في الوسط العام. تعارض العالمين عالم الحقيقة وعالم الغيب، أو عالم الخير وعالم الشر يعد أساسا لعدد كبير من الأديان. وهذه المثنوية كثيرا ما تخلق انفصالا في اللغة. فيوجد في الأفستا عشرون كلمة بصورة مزدوجة، تستعمل واحدة من كل زوج عند الكلام على هر مزد، إله الخير والأخرى عند الكلام على أهريمان، إله الشر2. وقد يكون للفعل الواحد -في عالم الحقيقة أو في عالم الغيب- وجهان، فإذا دخل في عالم السحر دل عليه بكلمة متميزة جديدة. وموضوع التضحية التي   1 الكابتن مركر CAPIT, MARKER؛ DIE MASAI, ETHNOGRPHISCHE MONOGRAPHIE EINES OSTAFRIKANESCHEN SEMITENVOLKES "1910"، ص71 ينقل عنه س. فايست S. FEIST: رقم 24، مجلد 37 ص113. 2 انظر درمسنتير، رقم 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 يقوم القسيس بتنفيذها هو المساعدة على العبور من عالم إلى عالم1. لذلك كانت تقتضي التضحية في كل الأقطار استعمال لغة خاصة، وهي التي نسميها اللغة الدينية. وإذن فاللغات الدينية في أوربا الحديثة تقوم في أصلها على أسباب سحرية، ترجع بنا إلى رياضات البدائيين وعقائدهم. هذا إلى أنه يجب ألا نبالغ هنا في الفرق بين المتوحشين وبين المتحضرين. فالأسباب التي تدفع بهؤلاء وأولئك إلى خلق اللغات الخاصة، أسباب واحدة. وفي أعرق لغاتنا مدنية حالات من التخصيص لو وجدناها في إقليم الزمبيزي أو في سومطرة لما ترددنا في إرجاعها إلى العقلية الغيبية، وتحريم المفردات على ما له من أهمية في تكوين جميع المفردات الأوربية القائمة، خطة غيبية خالصة، وكم من أناس حولنا يتجنبون نطق هذه الكلمة أو تلك مخافة أن يحل بهم العارض الذي تدل عليه الكلمة، كما أن عبارة absit omen عبارة وحشية، وما القدرة التي تضاف للاسم إلا بقية من تلك العقلية الغيبية. بل لا نعدم أن نجد بيننا تلك اللغات الخاصة بالنساء. إذ يوجد في بعض الأحيان عند يهود ألمانيا الذين يستعملون اللغة اليهودية الألمانية، نوعان من المفردات لتمييز ما هو يهودي مما هو غير يهودي2. ولكن هناك أيضا فروقا في استعمال اللغة تبعا لاختلاف الجنسين، فالرجل يلقي التحية أو يرد عليها بالعبرية، أما المرأة فتستعمل في ذلك الألمانية دائما. من جهة أخرى يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت اللغات الخاصة التي لا يزال يستعملها أرباب بعض المهن المميتة في الأقطار المتوحشة برهانا على عقلية غيبية. وكما أن سكان الملايو عندهم لغة الباحثين عن الذهب أو الباحثين عن الكافور، فعندنا أيضا تلك العامية المهنية الخاصة التي تستعمل في صناعاتنا على اختلافها. وفي بريتانيا تنوولت لغة الخياطين3 "longaje kemener" بالدرس، كما   1 هوبرت وموس Hubert et maus؛ Essai sur la nature et la fonction du secrifice في رقم 85، ص1-130. 2 إرنست ليفي Ernest levy: رقم 6، مجلد 18، ص333. 3 إرنو، رقم 8، مجلد 34، ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 تنوولت في إيرلندة وأسكتلندة لغة صانعي الصهاريج "shelta" ولغة غيرهم من أبناء المهن الأخرى1. فلعل هذه اللغات لغات غيبية قديمة مثل le berla na filed؛ ولكن بقاءها يفسر بتقاليد هذه الطوائف الخاصة وحاجاتها، وهي طوائف تعزلها أعمالها عن بقية الناس. اللغات الخاصة تنشأ من الانفصال الاجتماعي، لذلك كانت -من حيث المبدأ- لغات طبيعية كاللهجات تماما. ولكنها تقوم دائما على مادة لغة مشتركة، وتظل عادة تستمد منها غذاءها.   1 انظر رول. بست R.L Best؛ Bibliography of lrish Philology and Literature. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الفصل الثالث: اللغات المشتركة أشرنا في آخر الفصل الأول "ص307 و308" إلى أحد يعتبر توحيد اللغة ضرورة اجتماعية. ولولا مقاومة المجتمع للتفكيك اللغوي لأصبح العالم أمام حشد من صور التكلم التي لا تزيدها الأيام إلا تفرقا. ولكن الذين يتكلمون إحدى اللغات يميلون دائما إلى المحافظة عليها كما هي، وكذلك التبادل الكلامي الذي يحدث باستمرار بين أعضاء مجموعة اجتماعية واحدة يؤدي إلى توحيد اللغة. ومن هنا تنشأ اللهجات، وكذلك اللغات المشتركة التي تسير مع اللهجات جنبا لجنب. ومع ذلك فهناك خلاف بين تكون اللغات المشتركة واللهجات. اللهجات تنشأ فجاءة من التعاون الطبيعي للأحداث اللغوية. إذ توجد اللهجة في كل مكان توجد فيه صور تكلم متجاورة ذات خصائص مشتركة وتشابه محسوس في المظهر العام لدى المتكلمين. فاللهجات لا يمكن تحديدها إلا على وجه التقريب. وقد قلنا إننا إذا جمعنا كل المعايير اللغوية، لم نستطع بها أن نخط حدودا للهجة من اللهجات. فالعالم اللغوي لا يسير على قاعدة حين يختار الظواهر التي بمساعدتها يقسم الخريطة إلى أقسام لهجية. وشأن اللهجات كشأن الأقاليم الطبيعية التي ينقسم إليها قطر من الأقطار1. فإذا لم تستخدم هذه الأقاليم أساسا لتقسيم سياسي، بقيت حدودها دائما غير ثابتة. فسكان مقاطعة السين والمارن لا يزالون يتكلمون عن ألبري Brie والجاتينية Gatinais والمنتوا Montois ولكن هذه الأسماء المختلفة لا تمثل اليوم أي إقليم تحديدا دقيقا، وإن دلت على بعض الخصائص   1 قارن جلوا Gallois؛ Regions naturelles et noms de pays باريس، كولان 1908. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الجغرافية، ولكن كان يمكن الكلام فيما مضى عن حدود كنتية ألبري Comte de Brie، أما المنتوا -على الأقل- فلم تكن في يوم من الأيام أكثر من عبارة جغرافية. كذلك اللهجة تتضح حدودها إذا كانت تطابق تقسيما سياسيا، وتبقى هذه الحدود في غالب الأحيان زمنا طويلا بعد زوال الظروف التي أدت إلى تحديدها1. لذلك يلاحظ في بعض أقاليم ألمانيا الحالية، أن حدود الخصائص اللغوية تتطابق في بعض النقط التي تتفق فيها هذه الحدود مع الحدود السياسية السابقة لسنة 1789. وهذه الحدود ترجع في عمومها إلى القرن السادس عشر، بل إلى القرن الخامس عشر، وقد كانت حدودا دينية في نفس الوقت، حتى إن الأثر الديني يتعاون مع الأثر السياسي في تعيين حدود اللهجة. وكذلك الحال في بريتانيا الفرنسية، حيث تتفق حدود لهجات ليون Leon، وكرنواي Cornouailles وترجييه Treguier التي لا تزال واضحة في كثير من النقط، مع تقسيمات الإقليم الدينية والسياسية القديمة. ومما يلفت النظر أن نهر مرليه Morlaix الذي يفصل بين لهجة ليون ولهجة ترجييه هو الذي كان يفصل بين الإبرشيتين فيما مضى، وأن مدينة مرليه التي تقع على ضفتي النهر المسمى بهذا الاسم تنقسم لغويا إلى قسمين لهذا السبب. وهذا لا يعني أن سكان الضفتين لا يفهم بعضهم بعضا، ولكن هناك عددا من الخصائص المشتركة مجتمعة في منطقة تنتهي في تلك النقطة، والخطوط اللغوية التي تتطابق بعضها مع بعض تتطابق أيضا هنا مع تقسيم إداري قديم، كما هي الحال في اللهجات الألمانية. ومع ذلك فمهما كانت أهمية العوامل السياسية والاقتصادية فإن اللهجة أولا وقبل كل شيء كيان لغوي. وحتى عندما نحسب حساب الظروف الخارجية في تكوين اللهجات، يبقى أن هذه الظروف تستند جوهريا إلى التطوير الطبيعي لعناصر اللغة.   1 ل. فيفر: Hisoire et dialectologie في مجلة Revue de la Synthese historique مجلد 12، ص429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وهذا غير الحال في اللغة المشتركة. لأن الظروف الخارجية هي التي تحددها وتدين بوجودها إلى انتشار قوة سياسية منظمة، أو إلى تأثير طبقة اجتماعية غالبة أو إلى تفوق أحد الآداب، ومهما كان الأصل الذي تعزى إليه نشأتها، فهناك دائما أسباب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تبعث على استبقائها. "المدنية وحدها هي التي تستطيع أن تنشر اللغة بين كتل عظيمة من البشر"1. ولا تتفكك اللغة المشتركة وتتفتت إلا إذا تراخت العرى الاجتماعية التي كانت تمسكها. وإذن فمن الممكن أن ندرس على انفراد تكون اللغات المشتركة وأن نبين بأمثلة من التاريخ الأسباب التي تبعث على نشوئها وازدهارها وذبولها. تقوم اللغات المشتركة دائما على أساس لغة موجودة، حيث تتخذ هذه اللغة الموجودة لغة مشتركة من جانب أفراد مختلفي التكلم. وتفسر الظروف التاريخية تغلب هذه اللغة التي اتخذت أساسا وتعلل انتشارها في جميع مناطق التكلم المحلي المختلفة. ولكن على العالم اللغوي أن يبدأ بالعمل لتحديد هذه اللغة.   1 ا. رينان: رقم 111، ص101. 2 مييه: رقم 93، ص243-244. وقارن كرتشمير kretschmer رقم 177؛ وThumb رقم 213، وهفمان: رقم 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فقد كانت البونية منذ انتشارها على شواطئ آسيا الصغرى قد صارت لغة مشتركة، وهذه اللغة نعرفها من هيرودوت الذي يمثلها لنا خير تمثيل. فمع كوننا نعرف بشهادة هذه المؤرخ أنه كان يوجد في الدوديكابول Dodecapole عدد من اللهجات المحلية التي يختلف بعضها عن بعض، فقد كان فيها أيضا لغة مشتركة تظل اللهجات المحلية. ولكن الظروف السياسية لم تمكن هذه اللغة البونية المشتركة من الوصول إلى الأهمية التي وصلت إليها اللغة الأتيكية فيما بعد. فقد صارت الأتيكية في الفترة التي بين الحروب الميدية وقيام الإمبراطورية المقدونية في حالة تسمح لها بأن تمد العالم الهليني جميعه بلغة مشتركة، وذلك بفضل هذا التعاون الفائق الذي أنتجته عدة أسباب معقدة. ويجب أن نذكر بين الأسباب التي ساعدت لهجة الأيتكيين على هذا التغلب، ذلك الدور الأساسي الذي آل إلى أثينا بعد سقوط الإمبراطورية الفارسية. ولكن زاد من قون الأتيكية وإشعاعها شهرة شعرائها وفنانيها، فكان لأثينا -بوصفها مركزا سياسيا وأدبيا وفنيا على السواء- شرف تأسيس اللغة المشتركة التي ظلت منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن التاسع بعد الميلاد، أداة للتفكير عند جميع الإغريقيين. هذه اللغة خرجت من اللهجة الأتيكية كما كانت تتكلم في حدود الإقليم، فهي لا شيء أكثر من تهيئة اللهجة الأتيكية لاستعمال سكان ذوي لهجات بل ولغات مختلفة. في إيطاليا القديمة تختلف الظروف بعض الشيء1. فاللاتينية التي صارت لغة إيطاليا المشتركة وأخيرا لغة العالم الغربي بأسره، كانت لغة روما أولا وقبل كل شيء، أي لغة المدينة في مقابلة لغة الريف المجاور واللهجات القاصية على السواء. وقد بدأت لغة المدينة Le sermo urbanus بالتضييق على اللغة الريفية le sermo rusticus قبل أن تحل محل اللهجات المجاورة بعد أن غزتها في عقر دارها، مثل السابية le sabin والمرسية le marse، ثم محل لغات إيطاليا الأخرى من أسكية l'osque وأمبرية l'ombrien وأترسكية l'etrusque   1 شتلتس Stolz، رقم 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وكلتية le celtique وإغريقية. وهنا أيضا نقابل أهمية المدينة بوصفها عاصمة سياسية. من العاصمة أيضا خرجت الفرنسية المشتركة. فأهمية باريس السياسية والمنطقة الباريسية تفسر لنا بدرجة كبيرة انتشار لهجة الإيل دي فرانس l'Ile de france أي "الفرنسية" في الأقاليم المجاورة وذلك بانضمام هذه الأقاليم إلى المملكة، وصيرورتها في نهاية الأمر أداة للتبادل الذهني من دنكرك إلى بربنيان ومن برست إلى شامونكس. وفرنسية الإيل دي فرانس لم تمتد فحسب على اللهجات التي تشترك معها في أسرة واحدة، أي اللهجات المشتقة مثلها من اللاتينية، بل اتخذت أيضا لغة مشتركة لدى الفلمنكيين والبريتانيين، مع أن لغتيهما الطبيعيتين من أصل جرماني أو كلتي؛ كما نفذت بوصفها لغة مشتركة في إقليم الباسك في الجنوب الغربي من فرنسا، على أنها لم تقتصر على حدود فرنسا السياسية، إذ إن بعض الأجزاء البلجيكية والسويسرية يدخل في المجال الفرنسي من الوجهة اللغوية، وذلك دون أن نتكلم عن الجاليات القديمة أو الحديثة التي تعمل على انتشار الفرنسية فيما وراء البحار1. وتاريخ هذه الفرنسية المشتركة وتاريخ تكوينها وانتشارها الجغرافي يتصل اتصالا وثيقا بتاريخ فرنسا السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فلا يستطاع فهم أحدهما دون معرفة الآخر. ولكن الفرنسية إنما خرجت من العاصمة، ومن طبقة اجتماعية بعينها من طبقات العاصمة، وهي البرجوازية. وهذه حقيقة أبان عنها برينو Brunot في وضوح بالغ2: إن لغتنا المشتركة على النحو الذي استقرت عليه في القرن السابع عشر، هي لغة البرجوازية الباريسية، برجوازية "المدينة"، وقد سلم بها القصر ثم الأقاليم، والكتاب الكبار باستعمالهم إياها زودوها بالقدرة على فرض نفسها نهائيا وعلى استمرارها. لذلك لا نكاد نحس فيها أثرا للهجات. الإسبانية المشتركة نشأت واستقرت قبل الفرنسية بزمن طويل. إذ كانت   1 انظر la langue francaise dans le monde "نشر الأليانس فرنسيز" باريس 1900. 2 رقم 57، مجلد 3 "La formation de la langue francaise". انظر أيضا روسيه Rosset، رقم 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 شبه الجزيرة عند الفتح العربي "عام 711" ميدانا لثلاث مجاميع من اللهجات يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا: الغاليسية في الغرب والقسطلانية في الشرق ومجموعة وسطى تشغل منطقة شاسعة. والإسبانية المشتركة خرجت من لهجة من لهجات الشمال، لهجة قسطلة القديمة La Vieille- Castille القريبة من الأقاليم البسكية. اتجه انتشار القسطلانية نحو الجنوب، لأسباب يبررها التاريخ السياسي، وكان انتشارها في شكل هلال أخذ يزحف على لهجات المجموعة الوسطى شيئا فشيئا. ومع ذلك فقد بقيت عن يسار القسطلانية بمعناها الضيق وعن يمينها بقايا من هذه المجموعة تتمثل حتى أيامنا هذه في لهجتي الليون le leon والأرجون l'Aragon، اللتين تتشابهان تشابها غريبا. وقد صارت القسطلانية لغة أدبية في القرن الثالث عشر بفضل الملك ألفونس العاشر "1252-1284" الذي كان يحتل بالنسبة لأسبانيا الذي يحتله دانتي بالنسبة لإيطاليا. فالأسبانية المشتركة إذن نتيجة لتفوق قسطلة في السياسة والآداب. وهذا التفوق لم يمتد إلى البرتغال التي صارت دولة مستقلة منذ نهاية القرن الحادي عشر. واللهجات البرتغالية كانت تنتمي دائما إلى مجموعة الغربية. من ثم كانت البرتغالية القديمة تختلط بالغاليسية. ولكن الأهمية التي وصلت إليها لشبونة في القرن السادس عشر بوصفها العاصمة، وتأثير الشاعر الكبير كامونس "Camoens"؛ "1525-1580" جعلا الغلبة اللهجة المنطقة الوسطى في القطر الذي صارت فيه لغة البرتغال الأدبية المشتركة. أما اللهجة التي تتكلم اليوم في غاليسيا، فعليها سيما البرتغالية القديمة وقد توقفت عن التطور, ومع ذلك فهي مملوءة بالآثار اللغوية الأسبانية1. إذا قارنا الإنجليزية المشتركة بالفرنسية أو الأسبانية، وجدناها تحمل منذ بدايتها آثار اللهجات المختلفة2. وهذا ناتج من وقع مدينة لندن التي نشأت فيها الإنجليزية المشتركة في نقطة تجعلها ملتقي لمختلف اللهجات. هذا إلى أن تكون اللغة   1 تدين بالمعلومات التي نوردها في هذه الفقرة إلى الأستاذ أمريجو كاسترو Amerigo castro الذي تفضل فبعث بها إلينا، وانظر ليني دي فاشكنشلوس leite de Vasconcellos رقم 127. 2 و. هورن W. Horn، رقم 169، 170؛ مرصباخ Morsbach رقم 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 المشتركة صادف وقوعه فترة نمو لندن المفاجئ حيث أخذت تتلقى بين أحضانها طوائف المهاجرين على اختلافهم، يفدون عليها من كل الأقاليم ويمتزجون بالسكان السابقين. هذه الهجرات أدت إلى شحن اللغة المشتركة بآثار اللهجات، حتى لنجد نطق الإنجليزية في القرن السابع عشر لم يثبت بعد، وأنه يشتمل على كثير من وجوه الخلاف. ولا تزال بقايا منه موجودة حتى اليوم. ولكن هذه الهجرة الإقليمية أنعشت تبادل السكان بين العاصمة والأقاليم، ذلك التبادل المفيد الذي أدى أجل خدمة لانتشار اللغة المشتركة. وإذن فإنجلترا تدين أيضا بتوحيد لغتها توحيدا نسبيا إلى أهمية عاصمتها، ولكن ذلك كان في ظروف تختلف اختلافا محسوسا عن الظروف التي تكونت فيها الفرنسية. فهذه الأخيرة أقوى توحيدا. نشأت في أيامنا هذه لغات مشتركة في شبه جزيرة البلقان، والمستقبل وحده كفيل بتعديل حدودها أو بتوسيعها، ولكنها أيضا نشأت من وجود عاصمة. فاللهجات الصربية الجنوبية كثيرة الاختلاف عن الصربية التي تكتب وتتكلم في بلغراد1. فالنبر فيها في غير موضعه في الأولى، والكم غير مرعي والإعراب مبسط للغاية. وتعتبر هذه اللهجات من وجهات شتى خطوات وسطى بين الصربية والبلغارية، إذ من المستحيل عمليا أن نخط حدا لهجيا بين اللغتين. ولكن توجد -منذ نهاية الحروب البلقانية- لغة صربية مشتركة تغير على اللهجات الجنوبية وتبتلعها داخل الحدود السياسية لمملكة الصرب. ونحن مثلا على علم تام بالطريقة التي بها تحل اللغة الأدبية المشتركة محل اللهجة المسماة بالإيكافية l'ikavien2. وينحصر التغير الأساسي في إحلال المجموعة الصوتية iye "إيبي" محل i "-ي" وييسر هذا الإحلال في بلاد الصرب وجود الوحدة   1 ا. بروخ O. Broch؛ Die Dialekte des sudlichsten serbiens فينا "1903" linguist-Abteilung "schriften der Balkan-Commission" مجلد 3. 2 هـ. هرت H. Hirt؛ Der ikavische Dialeket im konigreiche Serbien "رقم 39، phil. hist. klasseK، مجلد 146، 1903". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 العائلية، ألا وهي الزدروجا la zadruga1. إذ يجب ألا يكون في داخل الزدروجا إلا لغة واحدة، ولكن التزاوج يدخل في الزدروجا باستمرار نساء أجنبيات عن الإقليم، يتكلمن لغات مختلفة، وبهذا تضعف مقاومة اللغة المحلية، وبمقدار ضعفها يزداد أثر اللغة المشتركة. وعلى هذا، تصير اللغة الأدبية لغة الكلام بين جميع الصربيين المقيمين بالمملكة. وفي ألمانيا -حيث العاصمة حديثة العهد وليس لها أثر غير منازع على مجموع الأقاليم الألمانية- قام انتشار اللغة المشتركة على أسباب مستقلة عن كل وحدة سياسية. فالألمانية المشتركة أولا وقبل كل شيء لغة كتابة، تدين بنجاحها إلى أسباب دينية، كما تدين بأصلها إلى الرغبة في الاستعمار2. فبحركة الإصلاح انتشرت ألمانية لوثر في المنطقة الألمانية السفلى بأسرها؛ وفي نهاية القرن السادس عشر كان لا يستعمل في هذا المجال لغة مكتوبة أخرى غير اللغة الأدبية المشتركة. وكان الانتشار بطيئا في أقاليم جنوب ألمانية الكاثوليكية وفي سويسرة البروتستنتية. غير أن لوثر نفسه إنما استخدم آلة قد مهدت منذ زمن طويل. إذ كان يوجد منذ القرن الرابع عشر في مستشاريات المدن أو مستشاريات الإمارات الألمانية، ميل لاتخاذ لغة مشتركة تختلف عن اللهجات الإقليمية. والمستشارية الإمبراطورية هي الأولى التي سنت هذه السنة3. إذ أخذت على عاتقها أن تتجنب الخصائص اللهجية وأن تستعمل لغة واحدة في جميع الأقاليم التي تحت سلطانها. وهذا واضح في عهد الإمبراطور شارل الرابع في صميم القرن الرابع عشر. وقد استمدت لغة المستشارية قوة عظيمة من كونها لغة استعمار أولا وقبل كل شيء. إذ الواقع أن الألمانية كانت تحتل الأراضي السلافية قدما بقدم وتحل محل اللغات السلافية. فتكونت الألمانية المشتركة في مدن الاستعمار في ألمانيا   1 "الزواج إحدى الوسائط الإنسانية الدائمة بين اللغة والتاريخ المحلي". تراشيه Terracher، رقم 124، ص10 من التمهيد: وص228. 2 كلوجه kluge: رقم 175، 176؛ وجتياهر Gutjahr؛ Die Anfange der neuhochdeutschen schriftsprache vor Luther، هال "1910". 3 سوسن Socin: رقم 206، ص164، 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الشرقية، تلك اللغة التي وصلت بفصل الإصلاح الديني إلى أهميتها الأدبية، واستقرت بفضل اكتشاف المطبعة وصارت لغة الكتابة في ألمانيا المثقفة بأسرها. وتاريخ الروسية يختلف عن ذلك اختلاف محسوسا1. فقد ظلت اللغة السلافونية -وهي التي استعملها مترجمو الكتاب المقدس الأقدمون- لغة الكتابة في روسيا طوال العصور الوسطى. هذه السلافونية وهي تقوم على أساس اللهجات السلافية الجنوبية "في إقليم سالونيك" قد أصابها في روسيا شيء من التأقلم، ولكنها لم تتحد إطلاقا مع الروسية نفسها. وإذا كان أناس من أنصاف المثقفين قد كتبوا بلغة أقرب إلى لغة الكلام، فإن اللغة الأدبية بقيت دائما لغة الكنيسة. ولم تأخذ اللغة في التخلص من هذا الأثر السلوفاني إلا منذ بطرس الأكبر، حيث حذت حذو لغات أوربا الغربية ولا سيما الفرنسية والألمانية، وسايرت الاستعمال السائد في روسيا الوسطى على النحو الذي كانت توجد عليه في العاصمة القديمة موسكو. فتكونت في غضون القرن التاسع عشر لغة أدبية فيها آثار سلافونية ولكنها تستند في جوهرها على لغة الكلام المستعملة. اتخذت البولونية لغة أدبية منذ القرن الرابع عشر، ولكنها لم تزدهر بهذه الصفة إلا في القرن السادس عشر، في إقليم كراكوفيا "بولونيا الصغرى". ومع ذلك فإن البولونية الأدبية والمشتركة ليست لغة هذا الإقليم، وإنما خرجت من إقليم بوسن Posen ومن جنيسن Gnesen "بولونيا الكبرى" التي تعد مهد البولونيين الجنسي في القرن العاشر. فمن بيع مجاميع اللهجات الكبرى الأربع، المازوفية mazovien والبسنانية pasnanien والكراكوفية Cracovien ولهجة بولونيي رويتنيا Ruthenie2. اتخذت البسنانية وحدها أساسا للغة الأدبية   1 ا. بده E. Budde. تاريخ مجمل للروسية الأدبية المعاصرة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر "بالروسية"، وهو ما تحتوي عليه الكراسة الثانية عشرة من Enciklopedija slavjonskoj filologif، بطرسبرج، 1908. 2 انظر كازيميرنتش Casimir Nitsch؛ Mova ludu polskiego: كراكوفيا "1911". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 المشتركة، ولكن هذه اللغة تطورت في بولونيا الصغرى، وتم تكوينها في الجزء الشرقي من المنطقة، في روتينيا أي في أرض مستعمرة لم تكن تنتمي في الأصل إلى بولونيا الجنسية. وأخيرا توجد لغات مشتركة من أصل أدبي محض. مثل الإيطالية1 التي استقرت لغة مشتركة ابتداء من القرن الرابع عشر بفضل هيبة الكتاب العظام وتأثيرهم، مثل دانتي وبترارك وبوكاشيو، وذلك في وقت لم يكن لإيطاليا فيه أية وحدة سياسية. وأغلب الظن أن هؤلاء الكتاب استعملوا اللغة التي كانت تتكلم حولهم، ومن ثم أطلق اسم اللغة التسكانية lingua toscana على اللغة الأدبية الإيطالية. ولكن هذه التسمية لا تفرض أن تكون إيطالية الكتب قد أتت من انتشار لهجة إقليمية. فاللغة التي رفعها دانتي إلى مرتبة اللغة الأدبية، والتي صارت لغة إيطاليا المشتركة، كانت أولا وقبل كل شيء لغة مدينة هي فلورنسا، ولغة المجتمع الراقي في هذه المدينة. واللغة التسكانية نفسها فيها خصائص لم تدخل في اللغة الأدبية، فهي مثلا الـC "ك" إلى SPIRANTE إذا وقعت بين حركتين فتقول FUOHO بدلا من fuoco وla hasa بدلا من la casa. ومع ذلك فمن الحق أن نلاحظ أن أسبانيا عديدة مختلفة النواحي جعلت من فلورنسا la terra promessa "أرض الميعاد" للغة الإيطالية المشتركة. فهذه المدينة فضلا عن نبوغ كتابها وأهميتها كمركز أدبي واقعة بين بولني Bologne وروما، مما رشحها لتكون همزة الوصل بين المدن الثقافية في إيطاليا. ولغة فلورنسا من جهة أخرى كانت مزاياها الذاتية ترشحها أكثر من غيرها للقيام بدور اللغة المشتركة, إذ كانت أقرب من غيرها إلى اللاتينية، وبذلك كانت تيسر لكل متعلم الانتقال من لهجته إلى اللغة المشتركة. وهذا كله مهد لانتصار التسكانية lingua toscana   1 دوفديو Dovidio؛ Lingua e dialetto "رقم 41، مجلد 1، ص564-583"، وج. اسكولي G. Askoli؛ Il toscano e il linguaggio letterarion degli italiani "رقم 41 مجلد 8، ص121-128"، وبيو راجنا pio rajna؛ Origine della lingua italiana "Manuale della letteratura italiana" تأليف دنكو D'Ancona وبتشي Bacci، مجلد 1، الطبعة الثانية "1908"، ص15-24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 هذا الانتصار الذي تم حين راح Bembo البندقي نفسه يستعملها في مؤلفاته في القرن الرابع عشر. طريقة تكون اللغات التي قدمنا منها عدة صور تؤثر على العلاقة التي تكون بين هذه اللغات وبين اللهجات فإذا لم تكن اللغة المشتركة نفسها إلا لهجة أظهرتها الظروف على اللهجات المجاورة، سهل عليها ابتلاع هذه اللهجات في وقت وجيز لأن اللهجة التي اتخذت أساسا، لها من السلطان ما يفرضها على اللهجات الأخرى. وأغلب الظن أنها تفقد على وجه العموم ما فيها من صفات موغلة في الخصوصية، فقد تخلصت الأتيكية مثلا من بعض خصائصها البينة عندما صارت اللغة الهلينستية. ولكن اللهجات الأخرى من جانبها تبلى سريعا باحتكاكها باللغة المشتركة. فاللهجات تمحي حدودها شيئا فشيئا إلى أن تنتهي بالاندماج في اللغة العامة، اللهم إلا إذا أمدتها ظروف خاصة بحيوية تطيل في عمرها في صورة لغات خاصة أو لغات أدبية فلم يبق عندنا في فرنسا الشمالية لهجات بمعنى الكلمة، لم يبق هناك من وسيط بين اللغة المشتركة والتكلم المحلي الذي يسمى رطانة patois، والبيكاردي لم يعد في وسعه أن يتصور غير نوعين من اللغات: رطانته الخاصة واللغة الفرنسية المشتركة، وقد تعلم هذه الأخيرة في المدرسة وتطلع عليه كل صباح في صحيفته اليومية. هذا إلى أن طريقة التكلم المحلية تمتلئ يوما بعد يوم بالعناصر التي تستعيرها من اللغة المشتركة. ولكن إذا اتفق لبعض العناصر المحلية أن تدلف إلى اللغة المشتركة، فليس معنى هذا أننا نواجه بقايا لهجية أو أمام لهجة جديدة في سبيل التكوين، بل نواجه اللغة المشتركة نفسها في مظهر محلي. ويجب أن نرجع قرونا إلى الوراء لنعثر على نصوص مكتوبة بالبيكاردية. فاللهجة البيكاردية قد انقرضت من يوم أن فقد المتكلمون بها الأحساس باستقلال اللهجة وهيبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وتشربت اللاتينية في إيطاليا عددا من اللغات التي لا نعرف عنها اليوم شيئا يذكر، كما تشربت اللهجات المجاورة للهجة روما. وقد نجحت بعض الجهود التي بذلها فريق من علماء اللغة في أن يستخرجوا من مفردات اللاتينية ومن نظاميها الصوتي والصرفي بعض سمات لهجية، ولعل لهجات إيطاليا الحديثة تحتفظ ببعضها حتى الآن2. توجد إذن بين اللهجات التي تدخل في إعداد اللغة العامة درجات يجب التمييز بينها. فأكثرها مبادرة بالاختفاء أقربها إلى اللغة التي اتخذت أساسا للغة المشتركة. هذه الملاحظة التي تبدو مبتذلة، لها أهميتها في دراسة احتكاك اللغات "انظر أواخر الفصل الرابع". ومن ثم كان هناك فرق محسوس بين الأثرين اللذين وقعا من الدنمركية ومن الفرنسية النرمندية على اللغة الإنجليزية3. فبنية الإنجليزية لم تتأثر بهذه الأخيرة إلا قليلا، أما الدنمركية فقد تركت فيها أثرا عميقا: فتمزيق النظام النحوي وتبسيطه قد وقعا في الأقاليم التي كان يقيم فيها الدنمركيون قبل وقوعهما في الأجزاء الجنوبية وهي الأجزاء التي نزل فيها النرمنديون قبل ذلك بقرنين من الزمان. نعم يجب أن نلاحظ أن عدد النرمنديين في إنجلترا كان قليلا   1 ثمب THUMB، رقم 213. 2 انظر دراسات ج. مول G. Mohi؛ Chronologie du latin vulgaire وأربو Ernout؛ رقم 70 ودي ريبزو de Ribezzo؛ Reliquie italiche mei dialetti dell italia meridionale في "Atti accad. Arch lett. Bell. arti, Napoli 1, 1908", 3 جسبرسن 134، ص170-173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 نسبيا، وأنهم كانوا يكونون فيها طبقة خاصة، ولكن إذا صرفنا النظر عن هذه الظروف الاجتماعية والسياسية، وجدنا أن الاختلاف الذي أشرنا إليه آت من درجة القرابة بين اللغات التي نحن بصددها. فقد كان بين الإنجليزية والدنمركية من جهة النظام النحوي وجوه شبه لم تكن بين الإنجليزية والفرنسية النرمندية. واللغات المشتركة التي هي لغات كتابة قبل كل شيء كالألمانية والإيطالية تختلف في وضعها عن اللهجات اختلافا كافيا. فالقاعدة التي تقوم عليها اللغة المشتركة لا تتعارض مع اللهجات، إذ إنه لا تميل لهجة أيا كانت إلى الاعتداء على اللهجات الأخرى. وذلك لأنهما لغتان مختلفتان تسيران جنبا إلى جنب. والشعور بوجود وحدة لغوية أوسع من اللهجة المحلية وأضيق من وحدة اللغة المشتركة، يوجد في البلاد كلها دون أن يصاب بضعف يذكر. ففي بييمنت وفي اللمبارديا لا تتفق لغة الحديث ولغة الكتابة، وهذه الأخيرة تتسم بطابع الاصطناعية والحوشية، فهي حقا لغة ميتة لا تلقائية فيها، ولا Securezza كما يقول اسكولي1. كذلك في ألمانيا يمكننا حتى اليوم أن نتكلم عن اللهجات. وهي فيها تشغل مكانا وسطا بين الرطانة المحلية واللغة المشتركة، وتتمثل في الشعور الشعبي على أنها لغة مناطق على جانب من الاتساع وإن كانت حدودها غير بينة. ولهذه اللهجات مكانها في الآداب وفي الصحافة. واللغة المشتركة تتأثر بها لأن نطقها غير موحد في كل مكان وتختلف صورة التكلم بها باختلاف الأقاليم. وجدنا أن كل ألماني يتأثر في نطقه للغة المشتركة باللهجات إن قليلا وإن كثيرا. فالألمانية المشتركة تكتب بصورة واحدة في كل مكان، ولكنها تنطق بصور مختلفة إلى حد يسمح للسامع بتعيين أصل المتكلم من نطقه. أما الاختلافات التي تلاحظ في نطق الفرنسيين من أهل الأقاليم، فتعتبر تافهة إذا قورنت بآثار اللهجات في الألمانية. ومع ذلك فقد سبق أن قلنا إنه لا يوجد فاصل مطلق بين الألمانية المشتركة، وهي لغة كتابة، وبين اللهجات الإقليمية. والواقع أنه يوجد، كما يتوقع، تبادل   1 اسكولي Ascoli، رقم 41، مجلد 8، ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 دائم بين هذه وتلك، فهناك تداخل من كلا الجانبين في الجانب الآخر. ومن نتائج هذا التداخل أنه يقلل من حدة الخصائص اللهجية، حتى ليحق لنا أن نتنبأ هنا، كما في الحالة السابقة باختفاء اللهجات. بعد زمن ما قد يطول وقد يقصر ولكن يجب علينا عند الكلام على تنافس اللهجات واللغات المشتركة ألا نسقط من حسابنا حقيقة جوهرية لم نقل عنها شيئا حتى الآن، وهي الثبات النسبي لكل منهما. لما كنا سنفرد للغة المكتوبة فصلا خاصا فيما بعد، لم يكن لنا أن نتكلم عنها هنا إلا بمقدار اتصالها بتطور اللغات المشتركة. واللغة المكتوبة تمثل دائما تقاليد وقواعد محافظة. بالطبع قد توجد التقاليد دون الكتابة. فقد كان عند الجوليين، كما يروي قيصر, رسوم يفضي بها القسس شفويا إلى ذاكرة تلاميذهم، وعلى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 النحو كانت تنتقل من جيل إلى جيل. وفي الهند كانت النصوص الدينية، قبل وجود الكتابة، تنتقل بالطريق الشفوي دون أن تصاب بأدنى تغيير. ولكن من البدهي أن التقاليد، إذا اعتمدت على الكتابة، ازدادت قوة وقدرة على المقاومة. ينبغي ألا نخلط بين "لغة مكتوبة" و"لغة أدبية". فقد يجتمع المعنيان أحيانا في لغة واحدة. ولكنهما قد يتعارضان ويتضاربان. اللغة المكتوبة في غالب الأمر عبارة عن اللغة المشتركة، أما اللغات الأدبية فتتميز عن هذه الأخيرة في غالب الأحيان؛ لأن رجال الأدب في كثير من الأقطار، من شعراء وقصاص يكونون طبقة منعزلة لها تقاليدها وعوائدها وامتيازاتها, وفي هذه الحال كانت للغتهم كل خصائص اللغة الخاصة، وكانت تتطلب تهيئة وترويضا وتثقيفا مهنيا. بل كان يتفق أن يكون الدور الذي يقوم به الشاعر دورا شبه ديني، وأن تكون بعض اللغات الأدبية لغات دينية في نفس الوقت, وقد حفظت السنسكريتية مثلا هذا الطابع زمنا طويلا. ولعل الخصائص التي نعثر عليها في القصائد الغنائية الكبرى في بلاد اليونان ترجع إلى كونها تقوم على لغات دينية خاصة. بل لقد وجد في كثير من الأقطار لغات أدبية مقصورة على استعمالات معينة مع بعدها عن كل تأثر ديني, ولغة الملحمة اليونانية صورة من هذه اللغات الأدبية الخاصة التي تكونت بفعل الشعراء وانتهت بالاستقرار الدائم, فكان كل من يضع بين شفتيه بوق الفروسية في بلاد الإغريق ينفخ فيه لغة لا تتصل بأية واحدة من اللغات المتكلمة، وقد سار أبلون الرودسي وكونتوس الأزميري على تقاليد هوميروس. كذلك كان من المتواضع عليه في أثينا أن تستعمل لأجزاء الغناء الجماعي في التراجيدية لغة معينة مصبوغة بالأصباغ الدورية وإن لم تمثل في جوهرها لهجة دورية معينة. وفي الهند وجدت لغات أدبية على أساس ما من اللهجات، وكانت لا تستعمل إلا في أنواع أدبية معينة, ولا يستعملها من الشعراء إلا طوائف خاصة, وكانت تتميز عن اللغة المشتركة باختلافها عنها. وسكان الملايو الذين لا يتكلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لغة هندية أوربية عندهم لغة أدبية خاصة تسمى الكاوية Kawi، وهي مفعمة بالعناصر السنسكريتية1. ولكنا نستطيع -حتى بغض النظر عن الحالات التي تستمد فيها اللغة الأدبية أصلها من اللغة الخاصة- أن نفهم بسهولة الفرق الذي يفصل بين اللغة الأدبية واللغة المشتركة, والواقع أن خاصية اللغة المشتركة الأساسية تنحصر في أنها لغة وسطى تقوم بين لغات أولئك الذين يتكلمونها جميعا, وإذا انتشرت اللغة المشتركة في قطر بأسره. أخذت العناصر المشتركة الداخلة في تكوينها في الازدياد، وأدى ذلك بالضرورة إلى النزول بمستواها، فبالرغم من الأثر البالغ الذي تقوم به النخبة العقلية، فإن العناصر التي تستعيرها اللغة من الطبقات السفلى من السكان تزداد بانتشار اللغة, وتصير بالتدريج كثيفة رتيبة لا لون لها, وعندئذ تتميز بالخصائص السلبية، أي بالضعف والسوقية. ولكن الأديب في حاجة إلى أداة شخصية يعبر بها عما يوجد في ذكائه وحساسيته من عناصر خاصة، يقول موريس بريس M. Barres: "اللغة وقد قدت للاستعمال الشائع لا تستطيع التعبير إلا عن الحالات الخشنة". وكان لفلوبير في الكتابة طريقتان، تبعا لما إذا كان يحرر كتابا لصديق أو يكتب عملا أدبيا بأسلوبه المتوتر. "فالكتابة الفنية" رد فعل دائم ضد اللغة المشتركة، وهي إلى حد ما نوع مما يسمى بالأرجو "argot", اللغة الخاصة الأدبية، وهي في كل حالاتها مغايرة للغة الكلام رغم تنوعها العديد ورغم اختلافها عند البرناسيين عنها عند الرمزيين وعنها عند كتاب عصور الانحلال. هذه اللغات الخاصة المنزوية في صوامعها المقصورة على عدد قليل من المريدين لا تعنينا هنا. وكل ما نستطيع أن نقوله عنها إنها في بعض الأحيان تغذي اللغة المشتركة ببعض التراكيب أو ببعض الكلمات. ولكن علينا هنا أن نبحث الحالة التي تكون فيها اللغة الأدبية واللغة المكتوبة شيئا واحدا، والتي فيها تعتبر اللغتان معا نواة للغة المشتركة.   1 انظر الكتاب الشهير تأليف و. فون هميولت v. von Humboldt؛ Uber die kawisprache auf der insel java، برلين 1836-1839. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 النصيب الذي ساهم به الكتاب الفرنسيون في تكوين اللغة المشتركة عندنا كبير جدا, فاللغة التي نتعلمها في المدرسة ندين بها إلى المجهود المزدوج الذي قام به الأدباء والنحاة1, فهم الذين خلقوا لنا هذه الأداة الجميلة، وسهروا عليها بحدب شديد عاملين على ألا يعلوها الصدا، فيغير معالمها, وقد يبدو لنا أن تطهير اللغة الذي دام قرونا عديدة عمل جدلي رخيص، مغرق في الادعاء والتظاهر، ولكن الفوائد التي نجنيها من هذا العمل تحملنا على الاعتراف بالجميل لمن قاموا به. فأصبح لدينا بفضل أساتذة المدارس الذين درجوا على دراسة الكتاب، خير قالب نصوغ فيه أفكارنا، وصارت لنا لغة كل كلمة من كلماتها لها معناها اللائق، وكل تركيب من تراكيبها قد انفرد بدقائق ولطائف لا تبارى؛ إذ إنهم أقصوا عن اللغة كل ما يجرح الطبع السليم والذوق الحسن، ودأبوا على إخضاعها لقواعد العقل واللياقة فجعلوا منها، على حد قول بوهور Bouhours، أداة قادرة "على إمساك أشد المواد قوة ورفع أشدها ضعفا"، وبالاختصار جعلوها منذ البداية قديرة على الاستجابة لكل مطالب العقل, وقد استفادت اللغة المشتركة أجل فائدة من الأعمال التي قاموا بها. استفادت الوضوح والأناقة والدقة مع التنوع، وكما قال ريفارول Rivarol "لقد استفادت تلك الأمانة المتصلة بعبقريتها". كبار الكتاب يصنعون بالكلمات ما كان يصنعه الملوك القدماء بالنقود، يفرضون القيمة التي يريدونها ويحددون لها السعر الذي على كل فرد أن يقبله. وبذلك ينفذ فينا شيء من عقليتهم، وإذا تكلمنا الفرنسية فإن بسكال ولارو شفوكو ولا برويير وبوسويه ومنتسكيو وفولتير, هم الذين يملون علينا الكلمات التي نستعملها. وكل منا حين يكتب يعترف على غير شعور منه من ذكرياته المدرسية، مهما قل تعليمه. وهذا الكاتب المعاصر الذي نعرفه مثالا ليست لغته إلا نسخة من كتابنا الكلاسيكيين، فهو يصلح أن يتخذ مثلا يحتذى من كل من يحاول الكتابة بالفرنسية، لأنه يحقق على وجه الكمال المثل الأعلى للفرنسية   1 انظر برينو Brunot، رقم 57، مجلد 4, ص219 وما يليها، وراجع أيضا الكسيس فرنسوا Alexis francois؛ La grammaire du purisme et l'Academie francaise au 18 e siecle باريس "1905". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الأدبية، في صورتها العامة و"المشتركة", والواقع أننا نتبين طابع أساتذتنا العظام بكل حذافيره في جميع مؤلفاته من طريقة استعماله للكلمات وكيفية وصلها بعضها ببعض وفي تركيب الجملة ووزنها. نعم يجب على من يتصدى لتقدير هذا الفن الخفي أن يكون ذا ذوق مدرب, ولكنها لذة كبرى تلك التي يشعر بها حين ينظر في هذا النسج الجميل اللامع فيستطيع أن يتبين كل خيط من خيوطه ويميز مصدره، ومن المؤلم حقا أن نفكر في أنه قد يأتي يوم لا يوجد فيه من يستطيع تذوق هذه اللذة، وذلك إذا تخلى التعليم، في تغيره طبيعة وغرضا، عن العناية بالنخبة المختارة, عندئذ نقصر الجلافة الشعبية عن فهم قيمة هذا النسج فتطأ بأقدامها محملا دقيق الصنع تناسقت ألوانه حتى كأنه لوحة رسمت "بالباستيل". ذلك بالطبع لأن كل صورة فنية فيها شيء من الشخصية بعيد عن إدراك الجماهير، هذا إلى أن خلق صورة "مشتركة" مهما كانت درجة كمالها، ليس إلا فترة في تاريخ اللغة. وأن اللغة المكتوبة أيضا في تأخر دائم بالنسبة للغة المتكلمة. تكوين اللغات المشتركة معناه فترة من التوقف في تطور اللغة. إذ تتبلور الصيغ والتراكيب وتتحجر، وتفقد طواعية الحياة الطبيعية، ولكنا نخدع أنفسنا إذا افترضنا أن اللغة تستطيع التوقف. والذي يحملنا على هذا الظن أنها لغة اصطناعية توضع بجانب اللغة الطبيعية، والبون بين اللغتين يكون ضئيلا في بادئ الأمر، ثم يعظم مع الزمن، حتى يأتي يوم يصير فيه هذا البون صدعا عميقا. ويمكننا أن نقارن خلق اللغات المكتوبة بتكون طبقة من الجليد على سطح نهر. فالجليد يستعير مادته من النهر، بل بعبارة أوضح ليس الجليد إلا ماء النهر نفسه، ومع ذلك فليس هو النهر. وإذا رأى الجليد أحد الأطفال ظن أن النهر غير موجود وأن تياره قد توقف عن المسير. وهذا خداع! فالماء تحت طبقة الجليد لا يزال يجري منحدرا في طريقه نحو السهل، وإذا تكسر الجليد رأينا الماء ينبثق فجأة ويتلاطم مزمجرا. هذه صورة من تيار اللغة, فاللغة المكتوبة هي طبقة الجليد التي فوق النهر، والماء الذي يتابع جريانه تحت الجليد الذي يحبسه هو اللغة الشعبية والطبيعية. والبرودة التي تنتج الجليد وتبغي احتجاز النهر، هي مجهود النحويين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والمربيين، وأشعة الشمس التي تعيد إلى اللغة حريتها هي قوة الحياةالتي لا تقهر، تتغلب على القواعد وتحطم قيود التقاليد. الفرنسية الحالية تبرر التشبيه السابق بصورة مرضية. فالبون الذي بين لغة الكتابة ولغة الكلام لا تزيده الأيام إلا اتساعا. فالتنظيم والمفردات ليست واحدة في كلتا الحالتين. بل إن الصرف نفسه يحتوي على بعض الفروق, فالماضي المحدد "أو البسيط". PASSE DEFINI والماضي غير التام من صيغة التبعية IMPARFATI DU SUBJONCTIF لم يعد لها استعمال في لغة الكلام. ولكن اختلاف المفردات بوجه خاص هو الذي يكاد وضوحه يعشي العيون. فنحن نكتب لغة ميتة، تلك اللغة ترجع إلى كتاب القرن السابع عشر ويمثلها اليوم في أتم صورها ذلك الكاتب المعاصر الذي أشرنا إليه. ولكنا نتكلم لغة غير ذلك. ومفرداتنا الجارية قد تغيرت منذ القرن السابع عشر1. والفرق بين الكلمات التي تتكلم والكلمات التي تكتب يذكرنا بالفرق بين الكلمات السوقية وكلمات النبلاء، فنحن نأنف من كتابة معظم الكلمات التي تستعملها في المحادثة. والشخص الذي يتكلم كما يكتب يبدو لنا كأنه كائن متكلف، والأشخاص الذين من هذا القبيل في تناقص مستمر. ظلت الطبقات العليا وقتا طويلا محتفظة بحوشية اللغة التي توحي بها استعمالات اللغة المكتوبة، وكانت الطبقات السفلى وحدها هي التي يشاهد فيها نشوء لغة فجائية تعمل على تحديد عناصر اللغة التعبيرية. واليوم نرى لغة الطبقات العالية التي كان وجودها غير طبيعي تختفي لتحل محلها اللغة الشعبية. والمتشددون جميعا ينعون هذا "السقوط"؛ ولكنها شكوى عقيمة2. لأن اللغة المكتوبة نفسها لم تصبح في مأمن من الإصابة, فالصحف اليومية التي يحررها على عجل أناس غير مثقفين في غالب الأحوال، أخذت تكثر شيئا فشيئا من استعمال عبارات اللغة   1 انظر ف. كوهين f cohen؛ les transformations de la langue francaise pendant la deuxieme moitie du 18 e siecle "1740-1789"، باريس "1903". 2 انظر خاصة E. Deschanel رقم 67، ب. ستايفر p. Stapfer. رقم 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 المتكلمة، بل وصيغها, فالعبارة الخاطئة je m'en rapplle "استحضر منه في ذاكرتي" والتركيب المتبربر de facon a ce que "بصورة إلى أن" قد أصبحا فيها من الاستعمالات الجارية. وفي كل يوم تطالعنا فيها "أخطاء أخرى" ليست أقل خشونة من تلك. وقد أمكن لبعضهم أن يستخرج من إحدى الصحف الباريسية الواسعة الانتشار تراكيب مثل: "avec cette brusquerie dont il ne se depart pas" و"Cette affaire ressort de la prefecture de police" و"il demanda a ce que" و"au point de alors il s'enfuya", "vue pecunier" إلخ. ونلاحظ أننا نجد في هذا الخليط المتبربر آثارا عديدة من اللغة المكتوبة, فمثلا عبارتا ressortir وse departir ليستا من استعمالات لغة الكلام، واستعمال الماضي البسيط، إحدى خصائص اللغة المكتوبة. فقد كان في عزم هذا الصحفي الذي ارتكب هذه الأخطاء وفي شعوره أن يكتب بلغة الكتابة، ولكن نقص ثقافته جعله يبني لغته المكتوبة من عناصر اصطناعية وزائفة في غالب أمرها. وعلى هذا النحو كان جرجوار دي تور Gregoire de tours -الذي كانت لاتينيته مشحونة بالأخطاء التي ترجع إلى اللغة المتكلمة حوله- لا يزال يستعمل الفعل اللاتيني المسمى deponert على الرغم من أنه كان قد اختفى من اللغة المتكلمة منذ زمن طويل, إذ إن الكثير من أفعال هذه الفصيلة لا يوجد في اللاتينية الكلاسيكية1. ولكن يجب علينا، إنصافا للصحافة الفرنسية، أن نعترف بأن بعض الصحف الكبرى قد احتفظت باللغة الأدبية، حيث يتبع محرروها قواعد اللغة المكتوبة دون أن يحيدوا عنها قيد شعرة. وإذا كان عدد هذه الصحف في هبوط فإن تمسكها بالسلامة اللغوية لا يزداد إلا صرامة؛ وذلك رد فعل منها ضد تيار العامية الجارف، ومن ثم تزداد عنايتها بنقاء اللغة قوة على قوة. ولذلك السبب كانت الصحف الباريسية لا تكتب لغة واحدة بمعنى الكلمة. فالصحف الشعبية لا تكاد تكتب غير اللغة المتكلمة مصبوغة بالصبغة الأدبية إن قليلا وإن كثيرا. وعلى العكس من ذلك لا تستعمل الصحف الكبرى إلا اللغة التي كان   1 بونيه Bonnet، رقم 50، ص402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يستعملها خير كتابنا في مؤلفاتهم: "اللغة الفرنسية الأدبية" النقية. ولكن هذه الفرنسية الأدبية لغة تتعلم. فشدة اختلافها عن اللغة المتكلمة يتطلب مرانا كثيرا ما يطول زمنه، وممارسة على أكبر جانب من الحذر, وليس في مقدور أحد أن يقرر إلى متى ستظل المحافظة قائمة، وأعني بذلك المحافظة على تعلمها. وعلى كل حال يمكننا أن نتكهن للفرنسية الأدبية بمصير كمصير اللاتينية، أي أنها ستبقى ولكن بصفتها لغة ميتة، قد جمدت قواعدها ومفرداتها إلى الأبد. أما اللغة الحية فستتطور مستقلة عنها كما فعلت اللغات الرومانية. وكل ما يبقى للغة المكتوبة من عمل هو أن تصير مستودعا يزود اللغة المتكلمة بالمفردات "قارن ص291". وفي هذه الحالة تنشأ لغة أدبية تخالف اللغة العامية كما هي الحال في اللغة العربية حيث يوجد نوعان من اللغة يخالف أحدهما الآخر، وفي الصين حيث تخالف لغة المندريين mandarins اللغات المتكلمة1. ولو تحقق إصلاح الرسم عندنا لتجلى أمام أعيننا الفرق بين هاتين اللغتين الفرنسيتين جلاء تاما. فوجود الفرنسية الأدبية لا يمنع من أن تتكون تحت سطحها لغة مشتركة, فاللاتينية العامية التي منها خرجت اللغات الرومانية كانت تختلف عن اللاتينية الكلاسيكية التي كانت لا تزال تكتب في زمن أوزون Ausones وكلوديان Claudien. وكان إلى جانب الإغريقية المشتركة في العصر الهلينستي لغة أدبية اصطناعية، يختلف نظامها الصرفي عن النظام الصرفي للأولى فضلا عن اختلاف المفردات بينهما. الواقع أنه يمكن أن توجد عدة لغات مشتركة بعضها فوق بعض. ففي الهند القديمة صارت السنسكريتية التي كانت في الأصل لغة دينية، لغة أدبية مشتركة في اليوم الذي جاءت فيه دولة دخيلة فأباحت استعمالها في الأمور الدنيوية. وهي اليوم لغة العلم، لغة الثقافة العالية والدين على السواء، فما زالت تقرأ في المعابد وتلقى نصوص بها مثل المهبهاراتا Le Mahabharata والبورانا les Puranas، كما لا يزال الكاثوليك يتمسكون بالنصوص اللاتينية في الكنيسة. ولكن لا حاجة بنا إلى القول بأن السنسكريتية تمتد إلى ما وراء منطقة اللغات   1 شتيننتال Steinthal، رقم 207، ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الهندية، إذ إنها لا تضم شبه الجزيرة الهندية فحسب حيث يستعملها أناس مختلفو الأجناس واللغات، بل لقد حملها المبشرون البراهمة والبوذيون إلى جميع الأماكن التي وصلوا إليها في أداء رسالتهم. وجود السنسكريتية لم يمنع من وجود لغات مشتركة أخرى. فقبل أن تتطور السنسكريتية إلى لغة أدبية بزمن طويل -وهي لم تصبح كذلك إلى حوالي ميلاد المسيح- وجدت لغات أحدث منها استعملت استعمال لغات مكتوبة مشتركة وكان الملك أسوكا Acoka قبل الميلاد بمائتين وخمسين عاما يستخدم هذه اللغات في كتاباته على أنها لغات رسمية، كما كانت تستخدم مع السنسكريتية نفسها لغات أخرى في كتابة النصوص البوذية على أنها لغات دينية، وذلك كاللغة البالية مثلا، وأخيرا كانت تستعمل في الدراسة بصورة عادية مع السنسكريتية بعض لغات أدبية "les prokrits" تذكرنا بما كانت عليه لغة الشعر الغنائي ولغة الملحمة في بلاد الإغريق1. ولكن كان يوجد تحت سطح اللغات البركريتية2 منذ عهد سحيق، ولا يزال يوجد حتى الآن لهجات ورطانات محلية. وقد وصل بعضها إلى درجة من الأهمية جعلتها تستخدم في الحاجات الأدبية، وذلك مثل الهندية والبنغالية والماراتية. بل يوجد اليوم في الهند لغة مشتركة، وهي الهند ستانية التي لا تمثل في حقيقة الأمر أية لهجة حقيقية. يمكننا أن نختتم هذا الفصل بذلك المثال من لغات الهند. فهو يوضح خير توضيح صلات اللغات المشتركة بعضها ببعض وباللهجات المحلية، وترينا مقدار الصعوبة التي يلاقيها من يحاول رسم حدود بين العناصر التي تكونها، وإلى أي حد يتداخل بعضها في بعض دون توقف. ذلك لأن تكون اللغات المشتركة وتطورها وتحللها تتوقف على أسباب تاريخية غريبة عن اللغة، أي على حركات المدنية نفسها.   1 ف. لكوت F. Locote؛ Essai sur Cunadhdya et la Brhatkatha ص40-59. 2 انظر جون بلك، Jules Bloch، رقم 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها 1 تطور اللغة المستمر في معزل عن كل تأثير خارجي، يعد أمرا مثاليا لا يكاد يتحقق في أية لغة. بل على العكس من ذلك فإن الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة لها كثيرا ما يلعب دورا هاما في التطور اللغوي. ذلك لأن احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، واحتكاك اللغات يؤدي حتما إلى تداخلها. وها نحن أولاء نرى تحت أعيننا وبالقرب ما أقاليم جمع فيها التاريخ على هويته شعوبا تتكلم لغات مختلفة، وفي الأقاليم التي من هذا القبيل يقتضي التوسع في التبادل التجاري وضرورة الاتصال معرفة لغات عدة معرفة جيدة. وكانت شبه جزيرة البلقان في كل عصورها ولا تزال حتى الآن ملتقى لكثير من اللغات، ومن الأجناس والجنسيات والأديان. ففيها اليوم أجناس مختلفة من سلافيين وإغريقيين وألبانيين ورومانيين وأتراك ويهود وأرمنيين. وكلهم يكونون جماعات كبيرة أو صغيرة. وهناك إغريق في تراقيا ورومانيون في مقدونيا وألبانيون في اليونان. والحدود السياسية لا تنطبق في أي مكان على الحدود الجنسية ولا على الحدود الدينية. فكل من الديانات الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلامية واليهودية تضم سكانا ينتبسون إلى أجناس مختلفة وجنسيات متباينة. واللغات التي   1 هـ. شوخارت: رقم 203 وا. وندش: Zur Theorie der Mischsprachen und Lehn worter, رقم 40، ليبترج 1897، ص101-126. وانظر عن المسائل النظرية. شوخارت: Kreolishe Studien "رقم 30 1882-1890" مجلد 101، 105 و116 و122"؛ ورقم 38، مجلد 12 و13 "ص476 و508". ومجلد 15، مجلد 6 "1912". وسايس: رقم 138، مجلد1، ص219، حيث توجد به أمثلة للغات المختلطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 تساهم بنصيبها في تماسك الجنسية تضيف إلى كل هذا عنصرا آخر من عناصر التعقيد؛ فالصربية والبلغارية والإغريقية والألبانية والرومانية والتركية والأرمينية والأسبانية التي يتكلمها اليهود، تعيش كلها جنبا إلى جنب. ولكنا لا نشير هنا إلا إلى اللغات التي لا تتكلمها إلا المجاميع الكبيرة بصرف النظر عن اللهجات. لا بد أن هذه الحالة التي تعتبر استثنائية في أوربا الحديثة كانت قاعدة يسير عليها التاريخ في غالب الأحيان. والنتائج اللغوية التي تنجم عنها كبيرة الخطر لأنه إذا احتكت لغتان إحداهما بالأخرى. أثرت كل منهما على صاحبتها. حتى ذهب بعض علماء اللغة بناء على هذه الحقيقة، إلى أنه لا توجد لغة غير مختلطة ولو إلى حد ما فعلينا إذن أن نناقش الظروف التي يمكن فيها اختلاط اللغات والنتائج اللغوية التي تنجم عن هذا الاحتكاك. من الخطأ أن نتصور كون المنافسة بين لغتين متماستين تحدث دائما على وتيرة واحدة في كل الحالات، لأن قوة اللغات ليست واحدة، ومن ثم كانت تختلف قدرتها على المقاومة. لنفرض أننا بصدر لغتين من ذوات المدنية العظيمة كالألمانية والفرنسية. فاللغتان كلتاهما قويتان، تستويان في القوة. وبينهما اختلافات في البنية على جانب من الأهمية. فإذا ما تعرضتا للمنافسة، لم يكن لهذه المنافسة آثار لغوية، وإنما تكاد تنحصر آثارها في الميدان الاقتصادي. والمدرسة هي المكان الذي يهيأ فيها الكفاح بينهما، لذلك نسمع أن الألمانية قد طردت الفرنسية من هذه القرية، أو تلك المدينة من المدن السويسرية أو أن العكس قد حدث في قرية كذا أو كذا1. وليس هنا موضع بحث مزايا اللغتين في ذاتهما فسكان هذه القرى كان في متناول   1 تسمرلي zimmerli؛ Die deutsch-franzosische Sprachgrenze in der Schweiz "الجزء الأول رسالة في جونتجن، 1891، والجزء الثاني، جنيف وبال 1895 و1899". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أيديهم أداتان متساويتان في المتانة والصلاحية، فاختاروا من بينهما أصلحهما لحاجات أعمالهم. ذلك بأنه ينشأ هناك ميل إلى نقل الحدود اللغوية بحسب الجهة التي ترد منها العلاقات الاقتصادية فالمصلحة العملية هي وحدها الحكم في مثل هذه الحالة، وهي التي تحكم لهذه اللغة أو لتلك، وقد تبقى اللغتان زمنا طويلا في حالة تعادل. فضلا عن الظروف الاقتصادية يجب أن ندخل في حسابنا الموقف السياسي. فبعض الشعوب تتمسك بهذه اللغة دون تلك ويرخى لها عمدا عنان التفشي مدفوعا في ذلك بعاطفة وطنية أو بقصد إظهار استقلاله أو بنفوره من دولة مجاورة. ومن المؤكد مثلا أن مركز كل من الفلمنكية والفرنسية في بلجيكا لا يتوقف على الظروف الاقتصادية فحسب، بل تضاف إليها بواعث سياسية ينبغي للعالم اللغوي ألا يسقطها من حسابه. ومنذ عشرين سنة تتمشى في إيرلندا حركة تتجه إلى إحياء اللغة الوطنية القديمة يقوم أصلها على بواعث سياسية، وهي التخلص من لغة الإنجليز، أعدائهم التقليديين، والفرنسية لم تتكلم يوما في الألزاس بقدر ما كانت تتكلم في فترة انضمامها إلى الأمبراطورية الألمانية. أما حينما كانت مقاطعة الألزاس جزءا من فرنسا قبل سنة 1871، ولم تكن مضطرة إلى اتخاذ لغة بعينها، فلم يكن لدى الألزاسيين باعث قوي على ترك لهجاتهم المحلية الجرمانية. كذلك تخضع المنافسة اللغوية في الأقطار البلقانية لأسباب سياسية إلى حد كبير، ولكن الدين بدوره يقوم فيها بدور هام. واللغة الأرمينية تدين بقسط كبير في حيويتها إلى وجود كنيسة أرمينية مستقلة. فالشعور المنبعث من وجود جماعة دينية يزيد مقاومة اللغة قدرة. وفي مستعمرة الكاب، كان المهاجرون الفرنسيون من البروتستانت في سنة 1688 يكونون ربع سكان المستعمرة، ولما كانت الهولندية وحدها هي اللغة المسموح بها في الأمور العامة والسياسية والدينية، فقد اختفت الفرنسية بعد مضي قرن واحد. هناك أيضا عامل عاطفي آخر له قوته العظيمة في المحافظة على سلامة الكثير من اللغات وبقائها, هو عامل الهيبة. فما كان للاتيني أن يرضى بتعلم إحدى اللغات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 المتبربرة "Quorum nomina uix est eloqui ore Romano "Pompon Mela III,3". لذلك قضت اللاتينية في إيطاليا نفسها على الأترسكية والأسكية والأمبرية. وقد وصلت هيبة اللاتينية إلى حد جعل بلاد الجول بعد فتحها بقرن على الأكثر ترسل من لدنها أساتذة للخطابة إلى روما. وإرادة الإغريق في ألا يضحوا لغتهم أمام لغة فاتح يحتقرونه، هي التي حفظت الإغريقية خلال العصور، فلم تستطع التركية يوما أن تحل محلها، أو حتى أن تنال منها. كان الإغريق يتكلمون لغة الفاتح في حاجاتهم الإدارية، ولكن لم يحدث إطلاقا أن la lingua del cuore سلمت لـla lingua del pane كما يقول الإيطاليون. كثيرا ما يكون لهيبة اللغة ما يبررها من قيمتها الذاتية, وهذه القيمة في حالة اللغة الإغريقية تعتبر شيئا كبيرا لأنها تفوق بكثير كل ما يمكن أن يضاف للغة التركية من فضل فالتركية، وهي لغة الفاتحين، ليست بأية حالة من لغات الحضارة، وما كانت تستطيع الكفاح ضد اللغة الإغريقية التي تمثل ثقافة من أعرق الثقافات. نستبين ما لقيمة لغة في ذاتها من أهمية في كثير من المواضع. ويمكننا على وجه التقريب أن نقدر لكل لغة درجتها في هذا الصدد. فالأرمينية تتقهقر أمام الروسية في أوربا, ولكن البولونية صمدت للروسية في غرب الإمبراطورية القيصرية, فهما لغتان متساويتان في القوة وليس في وسع إحداهما أن تتغلب على الأخرى. والقدرة على الانتشار التي نشاهدها في بعض اللغات الهندية الأوربية أو السامية كاللغة العربية مثلا ترجع بلا شك إلى أسباب معقدة، ولكن القيمة الذاتية للغة لها في ذلك نصيب. إذا بذرت لغوية منعزلة بطريق المصادفة في بيئة تتكلم لغة مختلفة، لم يكن لهذه البذور حظ كبير في أن تبقى سليمة وربما عاجلتها اللغة المحلية فامتصتها، إذا كانت هذه الأخيرة لغة ثقافة. فنحن نعرف مقدار الصعوبة التي تلاقيها منعزلة بطريق المصادفة في بيئة تتكلم لغة مختلفة، لم يكن لهذه البذور حظ كبير في أن تبقى سليمة وربما عاجلتها اللغة المحلية فامتصتها، إذا كانت هذه الأخيرة لغة ثقافة. فنحن نعرف مقدار الصعوبة التي تلاقيها بعض الطوائف الجنسية في الولايات المتحدة للاحتفاظ بسلامة لغاتها أمام اللغة الإنجليزية، وحتى الألمانية المتكلمة هناك قد سارع إليها العطب، إذا أصبح المتكلمون بها يقولون مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 Milch gleicht der Onkelnit وهي ترجمة حرفية للعبارة الإنجليزية Uncle does not like milk "العم لا يحب اللبن"1. وحوالي منتصف القرن الثامن عشر نزلت بأسبانيا جالية شوابية واستقرت في سفح السيرا مورينا Sierra Morena. واليوم لا نجد في هذه البقاع أثرا للألمانية اللهم إلا في بعض أعلام الأسر2. كذلك لم تستطع الفرنسية التي كانت يتكلمها الفرنسيون الذين نزحوا إلى ألمانيا أو إلى الأقاليم المنخفضة بعد العدول عن مرسوم نانت أن تقاوم تأثير اللغة المحيطة بها زمنا طويلا. وفي شمال فرنكفورت توجد بضع قرى -كان سكانها من الفرنسيين ولا يزالون- ولكنهم يتكلمون اليوم لغة القرى المجاورة، أعني الألمانية, وعلى العكس من ذلك لا تزال الألمانية صامدة منذ القرن الرابع عشر في وادي الحتشية Gottschee أي في قلب المجال السلوفاني3، وليس من شك في أن الظروف الاقتصادية قد ساعدت على بقاء الألمانية، هذا فضلا عن تلك الهيبة التي شد من أزرها العصبية الوطنية للألمان أمام التيار السلافي. غير أنه يضاف إلى كل هذا أن الألمانية من حيث الحضارة أقدر على الإشعاع من السلوفانية. فاللغتان لا تستويان في القدرة على الكفاح. نعم يمكننا أن نفهم بسهولة كون السلوفانية التي تملك جميع الأراضي المحيطة لم تتأثر بألمانية الجتشية، ولكن احتفاظ الألمانية بمراكزها لا يمكن أن يفسر إلا بضعف السلوفانية من وجهة النظر التي نحن بصددها. لنتجه الآن إلى بحث الأثر الذي يمكن أن تحدثه لغة مشتركة تمثل مدنية منظمة تنظيما قويا على مجموعة من اللهجات المحلية لا وحدة لها ولا تماسك بينها. وتتمثل لنا هذه الحالة في مركز البريتانية والفرنسية في مقاطعة بريتانيا. فالمنافسة بين البريتانية والفرنسية لا تشبه بحال منافسة الفرنسية والألمانية في سويسرا.   1 بومجرتنر Baumgartener؛ Die deutsche sprache in amerika نقله عنه مييه في رقم 4، مجلد 18، ص116. 2 س. فيست S. Feist: رقم 26، مجلد 36، ص344 هامش. 3 أد. هوفن AD. Hauffen؛ Die deutsche Sprachinsel Grammatik der Gottscheer H. Tschinkel Gottschee, graz "1875" Mundart, Halle "1908". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 إذ في هذه الحالة الأخيرة تتقدم اللغتان وتتقهقران على نحو ما يفعل جيشان متجابهان فتأخر إحداهما أو تقدمها معناه انتقال في الحدود. ذلك أن الناس إما أن يتكلموا الفرنسية أو الألمانية. أما الحدود اللغوية بين البريتانية والفرنسية فلم تكن تتغير منذ قرون، رغم التقدم الأكيد الذي ربحته الفرنسية في بريتانيا1. وقد لوحظ أن البريتانية في القرن الحادي عشر الميلادي لم تكن تتعدى الحدود الجغرافية التي تحدها في يومنا هذا. وهي تتكون من خط يكاد يكون مستقيما يتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ويبدأ من بلوها Plouha على الشاطئ بين بميول Paimpol وسان برييه Saint-Brieuc ويسير حتى مصب الفيلين مارا بكنتان من أسفل وبالفن من أعلى. وعن يمين هذا الخط لا تكاد تتكلم إلا اللهجات الفرنسية المسماة "gallots" وحدها منذ تسعة قرون أو عشرة. ولنرجع الآن إلى تشبيه الجيشين المتجابهين الذي أشرنا إليه. فليس أمامنا هنا معركة منظمة ولا أرض يكسبها الغالبون باضطرارهم المغلوبين إلى التقهقر. وإنما يوجد فقط انضمام دائم لعدد كبير من عناصر إحدى اللغتين إلى الأخرى، حتى ينتهي الحال بأن تفقد إحداهما كل جنودها الوطنيين. وهذا توغل سلمي، لا حرب فيها ولا غزو. ولنحاول لبيان ذلك أن نبحث الموقف في غرب الخط الذي رسمناه منذ قليل. فهناك قد توغلت الفرنسية في كل اللهجات البريتانية دون استثناء. ولغة المدينة تحمل معها تيارا جارفا من الكلمات الجديدة التي تمثل أشياء وأفكارا وعادات جديدة. كما أن الآداب والدين قد ملآ البريتانية بالكلمات الفرنسية، وذلك منذ نهاية القرن الخامس عشر. وهذا آت من أن الفرنسية هي التي تقدم للبريتانيين بالطبع نماذج لكتب العبادة والتهذيب فظلت البريتانية تنحصر شيئا فشيئا في الاستعمالات الزراعية والخاصة. وأخذت الخدمة العسكرية وتعليم الفرنسية في المدارس يعجلان هذه الحركة منذ نصف قرن. وفي نفس الوقت حصل شيء من التطور في ظروف المنافسة بين اللغتين.   1 انظر بول سبلو paul sebillot؛ Revue d'Enthnographie يناير عام 1886، ج. لوث رقم 8، مجلد 24، ص295 ومجلد 28 ص374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ظل التوغل زمنا طويلا يقوم على نوع من التسرب غير المحسوس، إذ كانت البريتانية تتلقى على غير شعور منها عددا من الكلمات الفرنسية يزداد يوما بعد يوم, ولكن البريتانيين كانوا يوالون الكلام بالبريتانية، ولو طعمت بالكلمات الفرنسية. أما اليوم فقد أصبحت غالبية البريتانيين العظى تتكلم اللغتين، ومن ثم انتقل ميدان المنافسة بين اللغتين إلى أذهان المتكلمين أنفسهم على شكل ما. وفي هذه المنافسة خطر على البريتانية. إذ إن الفوائد التي يمكن الحصول عليها من معرفة الفرنسية تفوق كثيرا تلك التي يمكن الحصول عليها من معرفة البريتانية وحدها, ولكون الفرنسية لغة برجوازية وتستعمل دون سواها في مجتمعات المدن فإنها تغري بنات الحقول بالتكلم بها، كما تغريهم ثياب الطبقة الراقية بلبسها. ولكن يضاف إلى ذلك أن روابط السكان البريتانيين بالمجتمع البرجوازي تزداد يوما بعد يوم. فمنهم الموظفون في كثير من الأعمال وخدم المنازل الذين يتكلمون الفرنسية مع مخدوميهم, واتساع السياحة قد جعل من الأجنبي ومن البرجوازي مورد رزق للمواطنين، وهذا يجعل التكلم بالفرنسية ميزة وضرورة في آن واحد. ونوع الحياة يؤثر كذلك على اللغة. فيلاحظ أن البريتانية على الشواطئ أقل منها ثباتا في الداخل، وذلك لأن البحارين يشتغلون بالطبع بعيدين عن محل إقامتهم، ولأنهم يجدون أنفسهم كل يوم في علاقات مع أفراد يتكلمون إما لغات أخرى وإما لهجات مخالفة بعض الشيء. فكان من مصلحتهم أن يستعملوا في هذه العلاقات لغة مشتركة كالفرنسية. وأخيرا لأن الجزء الساحلي من بريتانيا هو الجزء الذي تمر به طرق المواصلات الكبرى وتقع عليه المدن الرئيسية، وبالتالي هو الجزء الذي يقوم فيه التبادل التجاري ويرتاده السائحون بصورة دائمة1. وهكذا صارت الفرنسية لغة مشتركة بالنسبة لمقاطعة بريتانيا في حين أن البريتانية بلهجاتها المتعددة لم تصل يوما إلى هذا المركز. فالتناحر بين البريتانية والفرنسية يرجع إذن في نهاية الأمر إلى فعل الأسباب الاقتصادية، ولكن قوة كل من اللغتين هي التي تحدد ظروف التناحر الخاصة.   1 La Basse - Bretagne: Camille Vallaux, باريس 1907. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 يمكن أن تتنبأ باندثار البريتانية ولكن يجب ألا تتعجل القول به. لأن البريتانية ما زالت متماسكة وازدياد السكان -وهو كثير في بريتانيا المتكلمة بالبريتانية- له أثره القوى في بقاء اللغة، هذا فضلا عن تمسك البريتانيين بتقاليدهم القومية. كما أن ميزة التكلم بلغتين قد تشجع البريتانيين على استعمال البريتانية فيما بينهم. فهي لغة خاصة جاهزة تصلح ضمانا للاستقلال, وبوصفها لغة خاصة يمكنها أن تعيش زمنا طويلا للاستعمال بين طوائف معينة مثل صيادي "السردين" أو عمال الملاحات البحرية أو قاطعي الأردواز أو تجار الخيل، وفي هذه الصورة لا يستطيع إنسان أن يتنبأ لها بمقدار الزمن الذي يمكن أن تعمره، لأنها تستطيع حينئذ أن تتجدد وأن تقوى، على شرط أن تكون هناك جماعة عديدة من الناس تعمل على الاحتفاظ بسلامة اللغة الخاصة. ومع ذلك فهناك بعض الأركان التي اندثرت منها البريتانية. فجماعات العمال في إنبون Hennebont لا تتكلم اليوم غير الفرنسية. وأكثر دلالة من ذلك حالة شبه جزيرة Guerande التي لا نرى فيها اليوم من يتكلم البريتانية من البريتانيين إلا تلك القرى الأربع التي تكون بلدة باتز Batz، وسكانها عامة من عمال الملاحات. وحتى في هذه القرى نرى أن حالة البريتانية قد أصبحت في سوء لأن محيط هذه الدائرة اللغوية يضيق شيئا فشيئا من جهة، ومن جهة أخرى نرى عدد الأفراد الذين يتكلمون البريتانية في داخلها في قلة مستمرة: حتى أنها صارت لا تستعمل الآن بين الأفراد الذين تقل سنهم عن خمسين عاما، وأصبح الأطفال لا يفهمون والديهم فنستطيع أن نتنبأ باللحظة التي تختفي فيها البريتانية نهائية من هذا الركن من الأرض. ونحن نعرف لغات أخرى انتهت إلى هذا المصير. فالصربية أو الفندية وهي لهجة سلافية، تتكلم اليوم في شيريفالد "lusace" Spreewald؛ في حين أن أختها البولابية Polabe التي كانت تتكلم في وادي الألب الأسفل قد ماتت منذ القرن الثامن عشر. واليوم لا نرى أي أثر للبروسية، وهي لهجة بلطية كانت تحيا على الشاطئ بين دانتسج وكينجر برج في نهاية القرن السادس عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 واختفت عمليا في إنجلترا الكرنوالية، وهي لهجة كلتية، كانت تحتل في العصور الوسطى شبه جزيرة كرنوول Cornwall كلها بما فيها ديفون Devon المعروفة الآن، وتصل حتى في مجال اللغة الغالية عبر قناة برستول. إذ إن السيدة التي قيل إنها آخر من تكلم الكرنوالية، واسمها دللي بنتريث Dally Pentreath، قد توفيت في السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1777 في سان بول بالقرب من بنزانس Pensance في سن الثانية بعد المائة. ولكنه قد أمكن للباحثين في قلب القرن التاسع عشر أن يتلقفوا من أفواه الفلاحين بقايا أدعية وشتائم وأطرافا من جمل بالكرنوالية، وفي سنة 1875 كان يوجد من بين الشيوخ من يستطيع أن يعد حتى العشرين بالكرنوالية1. وهنا نتساءل عما يقصد بموت لغة من اللغات وإلى أي درجة يسمح لنا بتحديده. ذابت البولايية في الألمانية، كما ذابت الكرنوالية في الإنجليزية وفي عهدنا الحاضر تذوب البريتانية شيئا فشيئا في الفرنسية. وقد بقيت في إنجليزية كرنوول آثار كثيرة من لغة الإقليم القديمة، وذلك بغض النظر عن الكلمات الكرنوالية القديمة ومجاميع الكلمات التي أبقت عليها التقاليد. كذلك نجد أثر البريتانية في الفرنسية المتكلمة في بريتانيا وأثر الإرلندية في الإنجليزية المتكلمة في إيرلندة2، ففضلا عن كون المفردات مشربة بكلمات وتراكيب مأخوذة من اللغة المحلية. نجد هذه اللغة تفعل فعلها في النظام الصوتي بل في بعض تفاصيل النظام الصرفي أيضا، كترتيب الكلمات واستعمال حروف الجر مثلا. وهكذا نرى النبر في كثير من الأحيان يوضع في الفرنسية المستعملة في المدن البريتانية على الطريقة البريتانية ويحتفظ بالشدة التي يتميز بها في البريتانية. فعندما يتكلم الفرنسية أهل كمبير Qumper ينبرون المقطع السابق للأخير نبرا قويا، ويقلبون الحروف المجهورة في آخر الكلمة ولا سيما الرخوة منها إلى مهموسة   1 رقم 8، مجلد 3، ص289. 2 Joyce: الإنجليزية كما نتكلمها في إيرلندة. لندن، الطبعة الثانية "1910". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فيقال: "une chemisse, neuf un fromache" "حيث قلبت الزاي والفاء والـ ج إلى س، وف، وش على التوالي"؛ ويستعملون الفعل faire "يعمل" فعلا مساعدا حقيقيا على نحو ما يستعمل ober في البريتانية فيقال: pour que le diable s'irrite بدلا من faire le diable s'irriter، ويدخلون على معمول الفعل المبني للمجهول الحرف Avec "بالبريتانية gant" فيقال tue avec son voisin "بدلا من: par"، إلخ. كذلك يقال في إنجليزية إيرلندة اتباعا للاستعمال الإرلندي "I will take it of you" بدلا من "from you" أو "he went against his father" بمعنى "to meet his father" أو "what way are you?" بمعنى "كيف حالك؟ " أو "on the head of it" "بمناسبة ذلك"، وهما ترجمة للعبارتين الإرلنديتين ann a cheaun وcad chaoi bh-fialu tu? وهكذا نرى البريتانية والإرلندية مع تشربهما للعناصر الفرنسية والإنجليزية، تؤثر كل منهما في اللغة التي تغير عليها. هل يأتي يوم تتوغل فيه الفرنسية في البريتانية حتى تصير الأخيرة كأنها لهجة متأخرة لا تكاد تبدو أكثر تخصصا من غيرها وإن احتفظت بخصائص مختلفة؟ لو صح هذا لكان من المستحيل تحديد تاريخ لموت لغة؛ لأن في هذه الحال يبقى دائما من اللغة المندثرة أشياء من النطق وتراكيب نحوية، وعلى الأخص تبقى كلمات منعزلة تبدو كأنها استعارات أخذتها الفرنسية من البريتانية، وهي في الحقيقة بقايا من اللغة البريتانية تحيط بها عناصر فرنسية مستعارة، حتى يأتي حين لا يعرف المتكلم ما إذا كان يتكلم البريتانية وقد أشبعت بالفرنسية أو الفرنسية وقد بقيت فيها آثار من البريتانية. ولو أن البريتانية قد ذابت في الفرنسية كما تذوب قطعة السكر في مقدار من الماء، لربما جاز لنا أن نقول إن البريتانية لم تعد توجد. ولكن ألا يكون ذلك حكما على ظاهر الحال فحسب؟ إذ الواقع أن البريتانية قد تعتبر موجودة ما دامت بعض العناصر المستعارة منها باقية في الاستعمال ولكن لا يصح في هذا الحال أن تعتبر اللغة الجولية لغة ميتة لأن الفرنسية فيها قليل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الكلمات الآتية منها، ويجب أن نقول إننا نتكلم إلى جانب اللاتينية عددا من اللغات الأخرى، معروفة أو غير معروفة، وهي اللغات التي اختلطت باللاتينية أو الفرنسية. تفسير الوقائع على هذا النحو يتفق مع النظرية القائلة إن كل اللغات تعتبر لغات مختلطة ولو إلى حد ما ولكن هناك نظرية أخرى1 تذهب إلى أن الإنسان لا يتكلم مطلقا في الوقت الواحد إلا لغة واحدة، وأن وحدة اللغة المتكلمة تستقر بكل بساطة في شعور المتكلم، ولا عبرة بعد ذلك لما يكتشفه التحليل في هذه اللغة من عناصر أجنبية، نعم، من الممكن أن تذوب لغة في أخرى، ولكن هذا لا يمنع من أن المتكلم إذا أراد الانتقال من هذه إلى تلك وجد أمامه خطوة يجب عليه أن يخطوها، ولا بد من أن تقابله لحظة يشعر فيها بأنه يترك اللغة الأولى ليتخذ الثانية. فالفرنسية لغة لاتينية والإنجليزية لغة جرمانية، مهما كانت التأثيرات الخارجية التي أثرت عليهما، لأننا نشعر بأننا نتكلم لغة أسلافنا، ولأننا إذا رجعنا بالتاريخ إلى الوراء حتى نصل إلى اللاتينية المشتركة أو الجرمانية المشتركة، وجدنا سلسلة متصلة الحلقات من الناس كان في عزمهم وشعورهم أنهم يتوارثون لغة واحدة بعينها. هاتان نظريتان متعارضتان. فإذا أردنا أن نوفق بينهما، وجب علينا أن نبحث إلى أي حد تستطيع العناصر الأجنبية أن تفسد وحدة اللغة التي تضاف إليها. لندع جانبا استعارة المفردات التي تتبادلها اللغات فيما بينها, فمن خصائص هذه المستعارات أنها لا تحتم كون المتكلم يتكلم اللغة التي استعيرت منها أو حتى معرفته بها, وشباننا الرياضيون الذين تمتلئ لغتهم بالكلمات الإنجليزية نطقا صحيحا. فاستعارة المفردات، مهما اشتد أمرها، يمكن إذن أن تظل مسألة خارجة عن اللغة.   1 انظر مييه: رقم 42، مجلد 15، ص403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ولكن هناك أنواع من الاستعارة تستلزم وجود توغل داخلي بين النظامين اللغويين وهي حالات النسخ التي قدمنا لها بعض الأمثلة "انظر ص263". ينتج النسخ عادة من اختلاط صورتين كلاميتين تنتمي كل واحدة منهما إلى لغة مختلفة، وقد اختلطتا على المتكلم. وقد يقع هذا الاختلاط في كلمات أو في تراكيب، ولكن السبب فيها جميعا واحد. فالتلميذ الصغير الذي يخطئ فيترجم donne-moi ma vache "أعطني بقرتي" بقوله da mihi mia vacca "وذلك برفع بقرة" أو PEIRRE EST LE ROI "بيير هو الملك" PETRUS EST REGEM, فإنه يكون متأثرا بكون كلمة MA VACHE "بقرتي" أو LE ROI "الملك" يستعملان في الفرنسية بصورة واحدة في حالتي المسند إليه والمسند أيا كان. وهذا عين ما يحدث عندما يترجم السلوفاني الجملة الإيطالية dammi la mia vacca بقوله: dajmi moja krava "باستعمال الرفع بدلا من النصب". وليس هذا ما يصح أي نسميه بالخلط بين الحالات، ذلك الخلط الذي تبقى فيه حالة الفاعل وحالة المفعول متميزتين مهما كان تركيب الجملة، بل هو خلط الصور الكلامية حيث نرى المتكلم يتكلم الإيطالية بالسلوفانية1. وهذا ما حصل، مع اختلاف طفيف، للكاتب السويسرى ك. ف. مير K. F. Meyer حين كتب Er ist kranker als du nicht denkst "حرفيا: "إنه أكثر مرضا مما لا تتصور"". فهذه الغلطة ترجع إلى أن الكاتب يتصور التفضيل في صورة سلبية على نحو ما يفعل الفرنسيون والإيطاليون عادة، فهو قد جمع بين تفكير روماني وتعبير جرماني. هذا النوع من الخطأ واسع الانتشار. فقد ينسخ نظام الجمل، وبذلك ينتقل ترتيب الكلمات أحيانا من بعض اللغات إلى لغات مجاورة لها. فالألمانية النمساوية مثلا تسير على حرية كبيرة في ترتيب الكلمات، وذلك تحت تأثير اللغات السلافية إذ نراها لا تحجم عن وضع المسند أو المفعول في رأس الجملة فتقول Guten Morgen wusch'ich Ihnen "نهارا سعيدا أتمنى لك" أو Recht hat Er "حق عنده" وGut ist's gegangen "بخير لقد مر ذلك"، إلخ، وذلك وفقا لما يقال في   1 نقلنا هذا المثال والأمثلة التالية عن شوخارت رقم: 203، ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 السلافية. وقد نسمع في بوهيميا من يقول: Schwester haben wir ganz kleine "أخوات لنا صغيرات جدا" وذلك على حد قول التشيكية sestru mama malickou. وفي جنوب النمسا يتجلى تأثير السلافية في موضع النفي بوجه خاص مثل: nicht scheut er sich ihn zu verleumden "لا يستحي من أن يغتابه"، وهذه ترجمة عن السلوفانية ne se sramuje gabroekovati. إذا تعود إنسان على الكلام بلغتين مختلفتين تعرض عن غير شعور منه لاستعمال طرق التعبير الخاصة بإحداهما عند الكلام بالأخرى. ففي الغالية يعبر عن التفضيل المطلق في الصفات باستعمال iawn "حقيقي" التي تقابل الكلمة الإنجليزية very؛ ومن ثم كانت عبارة da iawn "حسن جدا" صورة من العبارة الإنجليزية very good واستعمال الظروف التي تضاف للفعل لتعديل معناه تعد صفة تتميز بها اللغات الجرمانية. ولكنها نجدها في الأقاليم المجاورة للإنجليزية والألمانية حيث ترجع إلى تأثير هاتين اللغتين. ففي الغالية نجد عبارة cael allan صورة من to find out وعبارة dy fodi fyny صورة من to come up، وعبارة torri i lawr صورة من to break down وعبارة rhoddi i fyny صورة من to give up. وفي جائيلية أسكتلندة cuir as ترجمة حرفية لعبارة to put out وعبارة cuir air ترجمة للتركيب "to put on"، إلخ. واللادينية Ladin وهي لهجة رومانية تتكلم في إقليم الجريزون بسويسرا، تقول متأثرة بالألمانية drizzer our "ينفذ" "من الألمانية: aus-richten" أو gnir avaunt "ينتج" "من الألمانية vor-kommen" أو vain aint "يختبر" "من الألمانية ein-sehen" وهنا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى الحدود بين المفردات والنظام الصرفي. تبدو بعض حالات من النسخ أقرب إلى النظام الصرفي من تلك الحالات المتقدمة، بل منها ما يؤثر في هذا النظام. فقد نشأ في بعض اللهجات المحلية البولونية المعرضة للاحتكاك بالألمانية، نوع من الماضي غير المحدد يصاغ بمساعدة فعل الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حيث يقال: ja to mom sprezedane "بالفرنسية j'ai vendu "بعت"" من الألمانية: ICH HABE VERKAUFT وذلك بدلا من الصيغة البولونية الصحيحة SPRZEDATEM1. يوجد في إقليم كمبوبسو CAMPOBASSO مستعمرة صربية كرواتية أقبلت من إليريا حوالي القرن الخامس عشر، ولا تزال حتى اليوم تتكلم لهجة من نوع الاستكافيه stokavien، وقد لوحظ عليهم استعمال الأداة الإيطالية في جملة سلافية كلها: da mi kaze le pute "كي يريني الطرق". والسلوفانية لم تستعر من الألمانية أفعالا وظروفا وأدوات وأسماء أعلام فحسب. بل لقد خلقت لها أداة تعريف، وكثيرا ما تستعمل المبني للمجهول على مثال الألمانية2. ويبدو في برتغالية مينجالور Mangalore في الهند ميل إلى الدلالة على الملكية باستعمال S متأثرة في هذا باللغة الإنجليزية. حيث بدءوا بقولهم governor's casa على مثال governor's house ثم قالوا governador's casa، وهكذا أصبح في حوزة البرتغالية دالة نسبة إنجليزية. ونحن نعرف أنه كثيرا ما لوحظ في لغات مختلفة أصلا ومتجاورة جغرافيا، وجود خصائص صوتية مشتركة "انظر ص81, 82". وكذلك الحال بالنسبة للنظام الصرفي. فاستعمال مفعول الآلة استعمال المسند الذي يوجد في الفنلندية، قد انتشر في اللغات الهندية الأوربية "السلافية والبلطية" التي احتكت باللغات الفنلندية3. وهذا لا يمنع من اختلاف اللغات السلافية عن اللغات الفنلندية من جهة النظام الصرفي. ومع ذلك فمثل هذا النوع من الاستعارة يمس سلامة هذا النظام وما دامت الاستعارة مقصورة على عدد قليل من التراكيب أمكن اعتبارها من استعارة المفردات، أما إذا صار التركيب المستعار مثالا يحتذى وفرض على   1 كازمير نيتش casmir nitsch؛ Mova ludu polskiego كراكوفيا "1911" ص136. 2 فيست Feist: رقم 26، مجلد 36، ص323. 3 مييه: رقم 4، مجلد 12، ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 العقل صورة كلامية معينة، كانت اللغة في هذه الحال قد أدخلت في نظامها وسيلة صرفية جديدة. وقد يصل الأمر باللغة إلى إقصاء وسيلة سابقة إقصاء تاما. لنفرض مثلا أن البرتغالية اتخذت التركيب homem's casa على طول الخط بدلا من a casa do homem فلن يغير هذا بطبيعة الحال من النظام الصرفي العام للغة، لأنه لم يتغير فيه إلا عجلة واحدة، إلا قطعة واحدة دخلت عرضا في آليته. ولكن إذا أصيب النظام الصرفي البرتغالي بعدد من هذه التغيرات، أفلا يمكن أن يأتي وقت لا يستطيع فيه المتكلم أن يحس تماما ما إذا كان يتكلم الإنجليزية أم البرتغالية، ولا يستطيع العالم اللغوي في هذه الحالة أن يحكم بهذا أو بذلك؟ كان يمكننا أن نستمد من دراسة بعض اللغات المختلطة معلومة قيمة تساعدنا في الإجابة عن هذا السؤال. ومثل هذه اللغات موجودة بالفعل، ولكنها بكل أسف توجد في ظروف تقلل من قيمة الاستشهاد بها. فقد ذكرنا مثل اللغة الغجرية الأرمينية التي اتخذت نظام الأرمينية الصرفي بأكمله مع استبقائها لمفرداتها، أي أنها الأن ليست إلا الأرمينية بمفردات غجرية. وهذا المثل يجد له ما يعضده في غجرية إنجلترا. ففي التاريخ القديم كان الغجر في إنجلترا يتكلمون لغة غجرية محضة، وبعد ذلك احتفظوا بمفرداتهم الغجرية وأخذوا يركبونها في الجمل مستعملين دوال النسبة الإنجليزية. فمثل هذه الجملة kowova te jal adre mi Duvelesko keri kana merova "أتمنى أن أذهب إلى بيت الله عندما أموت". صارت في الغجرية الحديثة1 l'dkom to jal adre mi Duvel's ker when manbi mer's هاتان الحالتان تتطابقان ويجب أن يفسر بطريقة واحدة. ولكن غرابتهما تجعل الناظر يرتاب في كونهما اصطناعيتين ولو جزئيا على الأقل. وقد تظننا أمام تعمية يراد بها جعل الإنجليزية والأرمينية بكلمات غير مفهومتين وذلك بالاستعاضة عن الكلمات الإنجليزية والأرمينية بكلمات غجرية وإذا صح ذلك لم يجز لنا أن نقول: إن الغجر قد اتخذوا النظام الصرفي للغة   1 بيشل Pischel وينقله عنه شوخارت: رقم 203، ص8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 غير لغتهم، بل إنهم شوهوا الإنجليزية أو الأرمينية. وعندئذ يكون من المجازفة أن تخرج من هذه الحالة بنتيجة نهائية. ولكن من خصائص اللغات المختلطة أن تكون أيضا لغات بالية على وجه العموم وهذه الحقيقة تساعدنا على أن نفهم تكوينها فهما دقيقا. تبادل التأثير الذي تخضع له اللغات المحتكة بعضها ببعض ينشأ عنه تبادل البلى. لأن حاجة الأفراد إلى إيجاد وسيلة عاجلة للتفاهم تدفعهم إلى القيام بتضحية مشتركة، وذلك بأن يبعد كل فريق من لغته ما هو خاص بها وحدها وألا يبقي إلا السمات العامة التي تشاركها فيها اللغات المجاورة. بلاد القوقاز في وقتنا الحاضر كجزيرة البلقان ميدان لاختلاط اللغات فالتترية والأرمينية والجرجية والشركسية تغمرها باللهجات المتنوعة، تلك اللهجات التي يختلف بعضها عن بعض إلى حد يعجز اللغويين أحيانا عن تحديد ما بينها من قرابة. والسبب الأساسي في التغير السريع الذي يطرأ على هذه اللغات يقوم على تأثير اللغات المجاورة فيها. وهذه الحال تقدم لنا خير المثل على البلى الذي يحدثه الاحتكاك فنقابل في الجزء الجنوبي الشرقي من الداغستاني، على ضفتي نهر السامور، سلسلة من اللهجات التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الكورينية. وتعمر هذه اللهجات اللغتان الأرمينية والتترية شيئا فشيئا، فتضيفان من مجالها تدريجيا، وحتى في داخل الدائرة الضيقة التي تتكلم فيها هذه اللهجات، نرى هاتين اللغتين المتجاورتين قد نالتا من سلامتها، وليس البلى على درجة واحدة في كل مكان ولكنه محسوس على كل حال، ويذكر أ. در A. Dirr -وهو خير من درس هذه المسألة1- أن تبسيط النظام الصرفي أظهر نتائج هذا العمل. أكد جريم Grimm منذ 1819 أن فقدان النحو2 نتيجة حتمية لصراع اللغات. والواقع أن هذه النتيجة ليست حتمية. ولكنا نشاهد وقوعها في كثير   1 Mitteilungen der anthropol. Gesellschaft in wien, ص301، ومجلد 40، ص22. 2 Deutsche Grammatik ص32 من المقدمة، ص177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 من الأحيان. فاللغات التي تنتقل تفقد على وجه العموم خصائصها الفردية بأسرع من غيرها وذلك لأنها معرضة لتأثيرات متعددة ومتنوعة تقع عليها من لغات تختلف عنها كثيرا في غالب الأحيان. والانتقال في غالب أمره سبب في التحلل اللغوي. وهذا يفسر لنا الاختلاف المشاهد بين اللهجات الإغريقية في المستعمرات واللهجات الإغريقية في بلاد الإغريق نفسها. إذ يجب أن نضيف إلى الأسباب الوجيهة حقا التي ذكرت لتفسير هذا الاختلاف "انظر الصفحات الأخيرة من الخاتمة" تأثير اللغات غير الإغريقية التي كانت مستعملة في الأقطار التي مد الإغريق إليها نشاطهم. فيمكننا أن نسلم بأن تبسيط النظام الصرفي نسبيا وتحطيم بعض السمات الصوتية في لهجات هذه المستعمرات يرجعان إلى مجاورة تلك اللهجات للغات مختلفة، حتى ولو لم نسلم بأن تلك اللغات قد أثرت في بنية اللهجات نفسها. ذلك أن الناس الذين كانوا يتكلمون هذه اللغات قد أخذوا يتكلمون الإغريقية، ففرضوا على الإغريق عادات جديدة اطمأن إليها الإغريق أنفسهم بمضي الزمن، ولا سيما وقد كانوا قليلي العدد.   1 ا. فنديش E. WINDISCH المرجع السالف الذكر، ص104 وص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 اللغة المسماة PIDGIN-ENGLISH التي تعد لغة مشتركة في مواني الشرق الأقصى واللهجة التي يطلق عليها BROKEN-ENGLISH "الإنجليزية المكسرة" التي يتكلمها سكان سيراليون الأصليون، تعد كل منهما أيضا لغة مختلطة كالسبيرية1. وأساس البدجن إنجلش، اللغة الصينية التي تتميز بضآلة نحوها. وما هي في حقيقة أمرها إلا اللغة الصينية بمفردات إنجليزية. فقد تمكن القائمون بهذا الأمر أن يكونوا من المفردات الإنجليزية -وهي خير ما يصلح لهذا الغرض- جملا تسير في ترتيب الكلمات على مثال الجمل الصينية. وينتج من ذلك في غالب الأمر مركب عجيب يبرهن على وجود تشابه محسوس بين اللغتين. فعندنا في هذه الحالة لغة تقوم على أساس المزج، ولكن خلو هذه اللغة من النحو خلوا يكاد يكون تاما قد رشحها بصورة عجيبة للقيام بالدور الذي ألقي على عاتقها. ولغات المولدين أيضا يمكن أن تعد أمثلة للغات المختلطة. وهي تستند على لغة أوربية إما الفرنسية أو الأسبانية أو الإنجليزية، ولكن هذه اللغات قد تجردت من خصائصها الصرفية فأصبحت في حالة تشبه حالة الغبار فهي رمال ذهبت عنها المادة الجيرية، وأحجار لا ملاط بينها، ومادة متحللة لا قوام لها. ذلك لأن حاجة السكان الأصليين في معاملتهم التجارية إلى التكلم مع التجار الأجانب قد دفعتهم إلى تعلم اللغة الأجنبية التي حلت بمضي الزمن محل لغتهم الأصلية. ولكن هذا التعلم لم يكن كاملا على الإطلاق؛ بل كان يقتصر على السمات السطحية للغة، وعلى العبارات التي تدل على الأشياء الشائعة الاستعمال والأفعال الضرورية للحياة. أما عنصر اللغة الداخلي بما فيه من تعقيدات دقيقة، فلم يهضمه إطلاقا المواطن الأصلي. يمكننا أن نقول إن لهذه الظاهرة عللا اجتماعية. فكلام المولدين كلام قوم منحطين ومرءوسين، لم يعمل رؤساؤهم يوما على جعلهم يتكلمون لغة صحيحة ولم يريدوا   1 هناك مثل من لهجة أل. pidgin-eng في "C. G.":Leland Pidgin-english, singsong in the China-english dialect. الطبعة الخامسة "1900". وعن "الإنجليزية المكسرة" انظر: F. w. H. Higeod: رقم 136, وعن عربية مدغشقر انظر G. Ferrand رقم 6، مجلد 13، ص413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أن يعملوا ذلك إطلاقا. فتعتبر لغاتهم من اللغات الخاصة إلى حد ما، على النحو الذي كانت عليه اللغات الغجرية الآنفة الذكر، ولكن مع اختلاف الأسباب، ولكن يبقى أن لغات المولدين تعتبر لغات مختلطة كالسبيرية والبدجن إنجلش والإنجليزية "المكسرة"، وقد نتجت من اختلاط لغتين أو أكثر، ولما كانت خالية من نظام صرفي مميز لها، لم يكن في وسع واحدة من اللغات الداخلة في تكوينها أن تدعيها لنفسها. فهذا مثل حقيقي من الخلاسية اللغوية. وسنرى النتائج التي تنجم عنها في الفصل التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الفصل الخامس: القرابة اللغوية, والمنهج المقارن 1: استعمال عبارة "القرابة" في مسائل اللغة يؤدي إلى لبس كبير، وكثيرا ما أوقع في الخطأ أشخاصا من غير العارفين بالأمور اللغوية. بل أخطر من ذلك أن بعض علماء اللغات أنفسهم قد أخذوا أحيانا هذا التعبير المجازي، على علاته وراحو يضعون القوائم بأنساب اللغات على طريقة أوزييه Hozier. وظن بعضهم منذ ذلك الحين أنه في حل من القول بأن اللاتينية قد ولدت الفرنسية أو الإيطالية، ومن الكلام عن اللغات الأمهات واللغات البنات واللغات الأخوات. وكلها مصطلحات سيئة لأنها تعطي فكرة زائفة عن علاقة اللغات بعضها ببعض. إذ لا شيء من الشبه بين قرابة اللغات وبين التتابع أو التولد بالمعنى الفسيولوجي لهذه المصطلحات. لا يتأتى لإحدى اللغات أن تلد لغة أخرى، وليس في وسع أي عالم لغوي أن يحدد الساعة التي وقع فيها هذا الميلاد. فإذا قلنا إن الفرنسية قد خرجت من اللاتينية، فمعنى ذلك أن الفرنسية هي الصورة التي صارت إليها اللاتينية خلال العصور في إقليم من الأقاليم. وإذن فليست الفرنسية في كثير من الوجوه إلا اللاتينية نفسها. وكلما أو غلنا في تاريخ اللغة الفرنسية، وجدنا حالات متنوعة يتلو بعضها بعضا وتقربنا شيئا فشيئا من اللغة اللاتينية. ومع ذلك فمن المحال أن نعين الحد الذي تنتهي عنده اللاتينية وتبدأ الفرنسية. وتاريخ اللغة الفرنسية   1 انظر مييه: le probleme de al parente des langues "رقم 42، مجلد 15 "1914" ص403؛ ومؤلفات شيوخارت المذكورة في الفصل السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 مشحون بالثغرات، فهناك فترات لا نعرف عنها إلا القليل، وكانت ذات أثر حاسم في تكوين هذه اللغة. ومن جهة أخرى لم تكن الحركة التي ابتعدت بالفرنسية عن اللاتينية متماثلة الأجزاء، ومع ذلك فبين اللاتينية والفرنسية، رغم تنوع الأحوال التي تقلبت على الفرنسية، استمرار تاريخي هو الذي يكون القرابة بين اللغتين. وهذا هو الوجه الأول من وجهي المسألة، ويمكننا أن نسميه بالتتابع. وهناك وجه آخر يجب أن يحسب حسابه، وهو الوجه الوضعي Synchronisme. يمكننا بسهولة بناء على ما قلناه في الانفصال الطبيعي لإحدى اللغات، أن نطلق مصطلح القرابة اللغوية أيضا على لهجتين خارجتين من لغة واحدة. فقد يحدث في بعض المناطق أن تنقسم لغة من اللغات، التي يتكلمها أصحابها في صورة واحدة لا اختلاف فيها، إلى عدد من مجاميع اللهجات تتميز كل منها ببعض الخصائص التي تمتد إلى عدد من المجاميع المجاورة. عندئذ يقال بأن هذه المجاميع ترتبط بصلة القرابة، وتظل كذلك مهما كانت التغيرات التي تصيب كل واحدة منها. ومهما عظم البون بين اللغة المشتركة المبدئية وبين اللهجات التي خلقها الانقسام، فإنه يجب التسليم بوجود القرابة ما دامت ثابتة تاريخيا. ولا ينبغي لنا أن ندخل في حسابنا هنا تلك الفوارق التي تفرضها الحالة السياسية أو الاجتماعية على اللغة فالقرابة اللغوية تضم دون أي تمييز اللهجات التي نزلت إلى طبقة اللغات المحلية. أو الرطانات أو العاميات الخاصة بأرباب الصناعات وتلك اللهجات التي ارتفعت إلى مصاف اللغات المشتركة. فالبيكاردية والبواتية والنورماندية كلها قريبة بعضها من بعض، وقريبة أيضا للفرنسية، لهجة الإيل دي فرانس التي صارت لغة مشتركة لأقاليم مترامية الأطراف. وإذا كان من يتصدى لتأريخ اللغة الفرنسية يهتم بتمييز جميع الفروع التي تنطوي عليها هذه اللغة، فإن من حق من يريد أن يشمل تطور اللغة بنظرة عامة أن يعتبرها وحدة متحركة خلال العصور التي مرت بها. والواقع أن التغيرات التي أصابت اللغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ترجع في معظمها إلى تطورها الذاتي. أما تفتت اللهجات وتكوين اللغة المشتركة وامتدادها إلى اللغات المحلية حتى تتوغل فيها شيئا فشيئا، ذلك العمل الواسع الذي أجملنا تاريخه فيما تقدم، فكل هذا قد وقع داخل اللغة الفرنسية نفسها دون أن يقلق إطلاقا صلات القرابة التي بين لهجاتها1. ومع ذلك فالقرابة درجات. فالبروفنسية le provencal مثلا لغة مشتركة تضم عددا كبيرا من اللهجات المحلية التي تسير معها جنبا إلى جنب. ونحن نعرف أن هذه البروفنسية نشأت من توحد لهجات محلية، وهذه اللهجات نفسها خارجة من المصدر نفسه الذي خرجت منه لهجات شمال فرنسا، أي أنها هي الأخرى من اللاتينية. فمما لا يحتاج إلى بيان إذن أن تكون صلة القرابة بين اللهجات البروفنسية المحلية بعضها وبعض أوثق من القرابة التي تجمع بين أية واحدة من هذه اللهجات نفسها وبين إحدى اللهجات الفرنسية المحلية. ذلك لأن الفرنسية والبروفنسية تجتمعان في طور بعينه من أطوار اللغة يعد سابقا عليهما. فهما حالتان مختلفتان من لغة واحدة. وقد ظلتا على اختلافهما في خلال العصور، وهذه اللغة الواحدة يمكننا أن نسميها لاتينية الجول العامية. وإن كانت التسمية لا تعنينا كثيرا. ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تحقيق القرابة بين اللغتين، اضطررنا إلى أن نؤلف بين الوجهين اللذين أشرنا إليهما فيما تقدم, الوجه التتابعي والوجه الوضعي. ولكن هذا التأليف قد يمتد بنا إلى ما وراء ذلك، قد يتسع في الزمان والمكان حتى يشمل جميع اللغات الرومانية الصادرة عن اللاتينية أيضا. فاللغة التي سميناها لاتينية الجول العامية ليست إلا صورة خاصة قد لا تختلف إلا قليلا عن اللاتينية العامية العامة التي أخرجت الإيطالية في إيطاليا والأسبانية في أسبانيا والبرتغالية في البرتغال والرومانية في رومانيا ولغات أخرى أقل أهمية من هذه اللغات. كل هذه اللغات تعتبر لغات مشتركة صقلتها التقاليد الأدبية، وعملت   1 انظر مير لوبكه Meyer Lubke رقم 181؛ وبورسييه Bourciez رقم 51 وتسونر zauner: رقم 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الظروف السياسية على بقائها وتعميمها وكل منها تضم عددا كبيرا من اللهجات وفروعها وقرابة هذه اللهجات جميعا بعضها ببعض "بغض النظر عن اختلاف اللغات المشتركة" وقرابة اللهجات المحلية كلتاهما على درجات كثيرة. إذ إن بعضها لا يزال أكثر اقترابا من البعض الآخر، لأن اختلاف كل منها عن صواحبها لم يتحقق إلا منذ عهد قريب. ولكن فريقا منها، قد انفصلت لهجاته منذ عهد بعيد، فلم يبق بينها تشابه كبير. وذلك كما لو قارنا رطانة برتغالية برطانة رومانية مثلا. ويقوم التباعد على وقوع تطورات مستقلة، وذلك بغض النظر عن التأثيرات الخارجية التي لا نتكلم عنها الآن، ومع ذلك فليست البرتغالية والرومانية في نظر العالم اللغوي إلا صورتين من لغة واحدة هي اللاتينية. ونحن نعرف هذه اللاتينية. فيجوز لنا إذن أن نقدر الطريق التي قطعته حتى وصلت إلى اللغات الرومانية المستعملة اليوم، وأن نحدد درجات القرابة على ضوء التغيرات التي وقعت وعلى أهمية كل منها. ولسنا في حاجة إلى بيان المعونة الهامة التي تقدمها للباحثين في هذه اللغات معرفتهم بالتاريخ السياسي والاجتماعي, فهي رقابة دائمة ووسيلة قيمة لتحديد التاريخ الدقيق لكل تقلب من التقلبات التي مرت بها الشعوب واللغات في آن واحد, ولكن الوثائق التي في متناول يدنا تقف عند اللاتينية؛ فلسنا نعرف شيئا عن حالات اللاتينية السابقة للقرن الثالث قبل الميلاد أو حوالي ذلك التاريخ, وبهذا نفقد خير وسيلة للتحديد وخير ضمان نستند عليه في تحقيق قرابات تقوم على ظروف اللغة والتاريخ معا. ومع ذلك ففي وسعنا أن نرقى في بحثنا إلى ما قبل اللاتينية بفضل المنهج المقارن الذي يجب علينا الآن أن نحدد مداه1. ليس المنهج المقارن إلا امتدادا للمنهج التاريخي في أعماق الماضي السحيق.   1 انظر مييه sur la methode de la grammaire comparee رقم 1، 1913 ص1-15, والنتائج الأساسية يعرضها بوضوح برتستنكي porzezinski رقم 192 ص39-80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وينحصر في نقل منهج التفكير الذي يطلق على العهود التاريخية إلى عهود لا نملك عنها أية وثيقة. رأينا أن اللغات الروماية الحالية إنما نتجت من تطور اللهجات الخارجية من اللاتينية تطورا مستقلا وإن كان متوازيا. وتقوم وحدة اللغات الرومانية على مجموعة من السمات المشتركة بين كل هذه اللغات، ومن هذه السمات نعرف قرابتها, ومعظم هذه السمات كانت توجد في اللاتينية نفسها على اختلاف بينها في درجة الظهور، وبعضها ناتج من حالات تجديد مشتركة، ولكن هذا السمات التي نعثر عليها في كل اللغات الرومانية يمكن -إذا لم يوجد لها نظائر في اللاتينية نفسها- أن تعتبر بقايا من تلك الحالة اللغوية غير المعروفة لنا تماما والتي تسمى باللاتينية العامية، وهي الواسطة بين اللاتينية الكلاسية واللهجات الرومانية, فهناك إذن نحو مقارن للغات الرومانية, وهذا النحو لا يمكننا من إقامة صلات مباشرة من التتابع بين هذه اللغات وبين اللاتينية فحسب، بل يسمح لنا أيضا بإقامة البنية النحوية لحالة لغوية تقل الوثائق التي لدينا عنها أو تنعدم تماما. ولكن اللاتينية نفسها ليست لغة منعزلة لا رابطة بينها وبين لغات أخرى. بل يحتوي نحوها على سمات مشتركة بينها وبين الإغريقية. سمات لفتت أنظار القدامى أنفسهم. وأدرك المحدثون أن الإغريقية واللاتينية تتصل بمجاميع أخرى من اللغات تشمل أراضي واسعة وتمتد من السنسكريتية في الهند إلى أقصى طرف أوربا الغربية. وأطلقوا على هذه اللغات اسم اللغات الهندية الأوربية لما لم يجدوا لها اسما آخر. وبالطبع يجب أن تفهم هذه "اللغات" بالمعنى الذي أعطيناه لهذه الكلمة فيما سبق. فهي مجموعات لغوية أمكن لكل منها أن تصل في فترة من فترات التاريخ إلى نوع من الوحدة، ولكنها جميعا قد انقسمت وتباينت خلال العصور على النحو الذي أشرنا إليه. تمكن العلماء بجمعهم للسمات المشتركة بين هذه اللغات أن يكونوا ما يسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 بالنحو المقارن للغات الهندية الأوربية1. ذلك النحو الذي يضم إلى سلسلة طويلة من أنحاء مقارنة أضيق منه دائرة، ونعني نحو اللغات الرومانية المقارن، ونحو اللغات السلافية المقارن ونحو اللغات الجرمانية المقارن، إلخ. وينتهي كل واحد من هذه الأنحاء المقارنة إلى إعادة تكوين حالة لغوية في صورة إجمالية غالبا. وهذه الحالات اللغوية المبعوثة التي تسمى بالجرمانية المشتركة2 والسلافية المشتركة مثلا، وكل منها تعتبر في منطقتها نظيرة اللاتينية العامية "أو الرومانية المشتركة". التي انتهى إليها نحو اللغات الرومانية المقارن. وعلماء اللغات الرومانية يجدون في بقاء اللاتينية سنادة قوية يعتمدون عليها في استنباط نتائجهم، لذلك يحق لعلماء اللغات الجرمانية والسلافية أن يندبوا سوء حظهم لعدم وجود وثائق من الجرمانية المشتركة أو السلافية المشتركة يقابلون بها نتائج بحثهم. ولكن ينبغي لنا ألا نبالغ في فقر العالم اللغوي الجرماني أو السلافي بالنسبة للعالم الروماني. فهذا الأخير لا يرجع إلى اللاتينية إلا للتثبت من نتيجة وصل إليها، ولكنه يقيم فروضه دون رجوع إليها، وأحيانا يسره أن يبين بالبرهان أنه على حق في استنتاجه رغم معارضة اللاتينية الكلاسية الموجودة في النصوص. أما اللاتينية نفسها فلا يستعملها علماء اللغات الرومانية إلا للاستعانة بها على إعادة بناء هذه اللاتينية العامية التي تعد نقطة البدء في عملهم ونقطة الانتهاء أيضا. ولما كان علماء اللغة الذين يعيدون بناء الهندية الأوربية لا يشتغلون بوجه عام إلا في لغات مشتركة أعيد بناؤها بطريق الفرض أيضا، كانوا مضطرين إلى إبراز عمل أكثر إجمالا من عمل سابقيهم. فالهندية الأوربية التي عملها علماء اللغات ليست لها حقيقة واقعية: بل ليست كما قيل فيها إلا "نظاما من المقابلات".   1 انظر خاصة برجمان Brugmann ودلبروك Delbruck، رقم 15، ومييه رقم 94. ومؤسس النحو المقارن في اللغات الهندية الأوربية العالم الألماني فرنستس بوب FRANZ BOPP, رقم 145. ومن بعده شليشر رقم 195. وانظر أيضا دي سوسير F. de Saussure رقم 121، وهيرت Hirt رقم 166، 167، وبشتل Bechtel رقم 143؛ وهبشمان Hubschmann، رقم 171، وشريدر Schrader، رقم 200، 201، وفيست رقم 158 و159. 2 ف. كلوجه F. Kluge رقم 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ويترتب على ذلك أن أعلم العلماء بالهندية الأوربية لا يستطيع أن يعبر بها عن جملة بسيطة من قبيل "الحصان يجري" أو "البيت كبير". وأقصى ما يصل إليه في الحذق بها ينحصر في قواعد البنية النحوية, فلا يوجد إذن من يستطيع أن يتكلم الهندية الأوربية. ولكن على العالم اللغوي أن يعرف ما هي فصائل هذه اللغة وكيف كانت تعبر عنها، وماذا كانت قيمة اللواحق والخواتم فيها. وهذا هو المهم لأنه يسمح لنا بإقامة الروابط التاريخية التي تجمع هذه اللغات بعضها ببعض على وسائل لغوية. فمع أن المنهج المقارن يولي وجهه شطر الماضي السحيق، فإنه في الواقع لا يؤتي ثمرته إلا في اتجاه عكسي، لأنه يوضح تفاصيل اللغات الثابتة بالوثائق. وأظهر نتيجة لنحو اللغات الهندية الأوربية المقارن تنحصر في تحديد صلات القرابة بين هذه اللغات1. فكل اللغات الفارسية واللغات السلافية والجرمانية والرومانية والكلتية، إذا اعتبرت من الوجهة الزمنية، تبدو للعالم نتيجة لسلسلة متتابعة من التباين لحالة لغوية واحدة سابقة عليها جميعا، وتسمى بالهندية الأوربية. هل يمكننا أن نرجع بالتاريخ إلى أبعد من هذا؟ لا شيء يمنع من الاعتقاد في إمكان ذلك. بل إن بعض علماء اللغة المحدثين مقتنع به تمام الاقتناع. ونحن نعرف كيف تكون نحو اللغات الهندية الأوربية المقارن بضمه إلى عدة أنحاء مقارنة أخرى. وإذن فإننا إذا ثابرنا على تفتيش تاريخ اللغات واستخراج القواعد العامة التي تبنى عليها. فقد نصل إلى أن نعيد بناء لغات مشتركة أخرى تكون بالنسبة للهندية الأوربية كالسلافية المشتركة بالنسبة للجرمانية المشتركة أو اللاتينية بالنسبة للإغريقية. أو كالفرنسية بالنسبة للإيطالية إذا لم نرد التوغل في الماضي. لوحظ منذ زمن طويل وجود بعض مواضع من الشبه بين الهندية الأوربية والفينية الأجرية, وقد وجدت في ميدان السامية -حيث قطع البحث المقارن   1 عن اللغات الهندية الأوربية الجديدة التي اكتشفت بعض وثائقها في أوائل القرن الحالي في آسيا الوسطى، انظر خاصة: مييه وسيلفان ليفي، رقم 5، "1910-1913" ورقم 6 مجلد 17 و18؛ وجوتيو: رقم 5 "1911" ورقم 72 مكرر. وترى عرضا لمجموع النتائج كتبه مييه في مجلة Revue du Mois أغسطس عام 1912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مرحلة لا بأس بها- بعض سمات خاصة فيها وجوه شبه غريبة بالهندية الأوربية؛ حتى استنتج بعض اللغويين من ذلك إمكان وجود أسرة لغوية تضم اللغات السامية واللغات الهندية الأوربية1. فتكون كل منهما تمثل مجموعة لغوية واحدة، وتكون الفرنسية في حقيقة أمرها هي العربية أو الحبشية كما ثبت بالبرهان أنها هي نفس الروسية والفارسية والإرلندية. ولا ينبغي أن تثنينا عن هذه المحاولة تلك الخلافات الصارخة الموجودة بين هذه اللغات، لأنه إن كان في افتراض أسرة هندية أوربية سامية شيء من الجرأة، فليس مبعث هذه الجرأة أن ذلك الفرض يرجع إلى أصل واحد لغات مختلفة تمام الاختلاف. فالحقيقة الواقعة أن السامية تظهر منذ الآن أقرب إلى الهندية الأوربية من سائر المجاميع اللغوية التي حددت معالمها حتى الآن. أفيمكن لهذه بدورها أن تتداخل شيئا فشيئا حتى تنصهر في وحدات واسعة يضاف بعضها إلى بعض؟ 2 إن هذا السر في ضمير المستقبل؛ إذ إن هناك عددا كبيرا من اللغات التي لم يطبق عليها المنهج المقارن بعد أو التي لم يقل فيها كلمته الأخيرة. من ذلك نرى مقدار المدى الذي يستطيع المنهج المقارن أن يصل إليه، ولكنا نرى أيضا مقدار النقص الذي ينطوي عليه, فهو يستند على مبادئ لغوية فحسب، ولا يستطيع أن ينتظر من العلوم المجاورة إلا معونة ضئيلة. إذ يجب علينا أن نحذر الخلط بين القرابة اللغوية كما نستخرجها من المنهج المقارن, وبين القرابة الجنسية وقرابة المدنية. فهذه ثلاث مذاهب من الدراسة مختلفة. يشتغل في ميدان ما قبل التاريخ ثلاث طوائف من العلماء، وكل طائفة منها تعمل مستقلة عن الأخريين. وهؤلاء هم: علماء الأنتروبولوجيا وعلماء الآثار وعلماء اللغة, فالأولون تحت يدهم الهياكل العظمية والجماجم، وأصحاب الطائفة   1 هرمان مولر: رقم 184 وكتابه Indo - europaeisk - semitisk Sammenlignende Glossarium; كوبنهاجن "1909"، وبدرسن: رقم 30، مجلد 22 ص341؛ كوني: رقم 13. 2 ترومبتي Trombetti رقم 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الثانية أمامهم أدوات الحضارة من حلي وأسلحة وآنية وآلات متنوعة في أشكالها ومواد صنعها، وبالاختصار كل ما بقي من عدد ما قبل التاريخ وعتاده؛ أما اللغويون فيشتغلون بمقارنة الأصوات والكلمات, والطوائف الثلاث جميعا يعنون بجمع الأشياء التي يشتغلون فيها جمعا منهجيا. وترتب كل طائفة أشياءها في سلاسل تحاول إن استطاعت أن تقيم بينها روابط تاريخية أو نسبية. ولكنهم لم يصلوا حتى الآن إلى شيء يذكر في التنسيق بين سلاسلهم وسلاسل أصحابهم. فليس هناك مقياس مشترك. يقدم لنا النحو المقارن نظاما تصنف فيه اللغات في أسرات تبعا لخصائصها, فبمقارنة الأصوات والصيغ تتجلى ضروب التجديد الخاصة بكل لغة في مقابلة البقايا الباقية من حالة قديمة. وقد نجح اللغويون في أن يحددوا ما قبل تاريخ اللغات الهندية الأوربية، ولكنهم لم يصلوا إلى معرفة من كانوا يتكلمونها, ولم يستطيعوا أن يحددوا أسلاف الإغريق أو الجرمان أو اللاتينيين أو الكلتيين, وإنما يعرفون فقط التغيرات التي مرت بها الجرمانية والإغريقية واللاتينية والكلتية حتى وصلت إلى الحالة التي تكشف عنها النصوص. أما الأسماء التي أطلقوها على اللغات التي أعادوا بناءها فتحكمية، قد اتفقوا عليها مجرد اتفاق, فكلمة "الهندية الأوربية" إذا خرجت من الاستعمال اللغوي لم يبق لها أي معنى، ومثلها الكلمات "إيطالية مشتركة" و"كلتية مشتركة" "وجرمانية مشتركة". فهذه الكلمات إنما تمثل دلالات لغوية، ولا معنى لها إلا في ذهن العالم اللغوي. كذلك المصطلحات التي يستعملها علماء الآثار لا يصح لها أن تخرج من ميدان علم الآثار. فالعالم الأثري الذي يكون مجموعة من الزهريات أو من الحراب ذات الطابع المعين ويحدد منطقتها الجغرافية، يحار كيف يجيب إذا ما سئل عن اسم المدينة التي تنتسب إليها. فالعدد أشياء عديمة النسب، عديمة النسب إلى حد اضطر العلماء إلى الاصطلاح على تسميتها باسم المكان الذي يكشف عنها فيه. وعلماء الآثار يتكلمون عن دلاء هلشتات أو عن حراب التين أو عن الزخارف الفلانوفية أو عن أثاث أونيتتس. كذلك يتكلم علماء الأنتروبولوجيا عن الإنسان النياندرتالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أو جمجمة الشايل -أو- سان. ويقارنون في شوب الأرض المختلفة بين ذوي الجماجم المستطيلة وذوي الجماجم المستديرة دون أن يستطيعوا تعيين اللغة التي تقابل كل قسم من أقسامهم الأنتروبولوجية. ذلك لأن وجود الجمجمة بين يدينا لا يستطيع بحال أن يعرفنا شيئا عما كانت تحتويه في صنوقها العظمي ولا عن أنواع الترابط بين الكلمات والأفكار التي كانت تتكون فيها، ولا عن الصور الكلامية التي كانت تنشأ في مراكزها المخية, وقد قلنا فيما تقدم "ص297": إن تحقيق الرابطة بين اللغة والجنس أمر مستحيل كذلك لا يمكننا أن نعرف أي الأدوات كانت تستخدم لدى الشعوب التي نعرف لغتها، ولا إلى أي حد توجد صلة بين مختلف اللغات ومختلف المدنيات. فالذي نعلمه علم اليقين وقامت في صحته البراهين شيء واحد فقط: هو أن اللغة الواحدة قد تتكلمها أجناس متباينة، وأن من الأقوام من يتكلمون لغات مختلفة ويستعملون جميعا أدوات واحدة. كما أن أي تقدم يحصل في ميدان العدد لا يبقى مقصورا على شعب واحد؛ حتى ليستحيل علينا حساب الحركات الجنسية بأوربا فيما قبل التاريخ وفقا للتتابع العصور الأثرية "العصر الحجري وعصر البرنز وعصر الحديد". فلم تكد المطبعة تخرج من يد المخترع حتى انتشرت في أقطار مختلفة الأجناس واللغات كألمانيا وإيطاليا وفرنسا. وإذن فليس التوفيق بين النتائج التي تقدمها فروع العلم الثلاثة التي تكلمنا عليها أمرا عسيرا من الوجهة العملية فحسب، بل يعد أمرا مستحيلا من الوجهة النظرية أيضا. فالقرابة اللغوية لا تستطيع أن تعول على عون يذكر من قبل علم الآثار أو علم الأنتروبولوجيا, وكل ما يستطيع أن يعلقه العالم اللغوي على فروع العلم المجاورة من أمل هو أن تمده بفرض يسير على هديه أو بوسيلة للتأكد من صحة بحوثه. وليس أمامه للبرهان على القرابة إلا الوسائل اللغوية. ولكن المنهج المقارن إذا ترك لوسائله الخاصة، صار أحيانا عديم الجدوى؛ لأنه يفترض أن تطور اللغات قد وقع بصورة مطردة متصلة لم يصبها عارض خارجي, ومع أنه امتداد للتاريخ، فإنه يتحدى التاريخ، إذ لا يستخدم إلا مقررات نظرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ويتخذ من التاريخ صورة مبسطة تنحصر في سلسلة متتابعة مطردة من الأسباب والمسببات عاطلة من كل ما يخلع على التاريخ طابعه الحقيقي، وهو التعقد والتنوع. وقد يكون هذا المنهج مدفوعا إلى ذلك بضرورة حتمية، لأنه في جهله بالظروف السياسية والاجتماعية التي فيها تطورت اللغة، يبنى ما قبل تاريخها بوسائل لغوية. وهو في هذا الميدان يشعر بقوته؛ لأن التجربة قد دلت على اتصال الرواية اللغوية. ولكن عدم وجود مقررات محددة عن ظروف التطور التاريخي يضعف كثيرا من النتائج التي نحصل عليها بوساطة المنهج المقارن والخاصة بتحديد القرابة اللغوية وهذا هو ما اضطرنا إلى تحديد هذه القرابة بواسطة وجوه الشبه الموجودة في اللغات, وتلك طريقة خطرة. فقد يوجد في الطبيعة أحيانا أقرباء يشبه بعضهم بعضا إلى حد يعجزنا عن التفريق بين الواحد منهم والآخر. ولكن المتماثلين ليسوا جميعا من الأقرباء، وكذلك الحال في المسائل اللغوية، فكثيرا ما تكون وجوه الشبه من عوامل الخداع. يمكن للمفردات بتمامها أن تتغير، دون أن يغير ذلك من بنية اللغة الصوتية أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 النحوية تغييرا محسوسا. ومن المهم جدا أن نعرف مفردات اللغة التي نريد دراسة المدينة التي تمثلها وبذلك تكون المفردات جسرا بين اللغة وعلم الآثار, ولكن هذا الجسر يؤدي من كلتا ناحيتيه إلى طريق مغلق؛ لأننا لا نستطيع أن نستدل من المفردات على طابع اللغة، حتى ولا على الطابع الذي تنضوي تحته أدوات المدنية. ولنذكر المثل التالي من اللغات الهندية الأوربية التي نحن بصددها. نحن نعرف في غرب أوربا وجنوبها نوعين كبيرين من المفردات يرجعان إلى ما قبل التاريخ، ولكن الخطوط التي تفصل بينهما لا تطابق الخطوط التي تفصل بين اللهجات. وأحد هذين النوعين -ويسمى بالمفردات الغربية- يمتد في الميدان الإيطالي والكلتي والجرماني ويختلط في الميدان البلطي السلافي، ولا سيما في بلاد البلطيق، بمفردات شرقية بحتة، والثاني -ويسمى بمفردات البحر المتوسط- يمكن العثور عليه في الإغريقية على وجه الخصوص ولكنه اصطدم بالمفردات الغربية وحل محلها جزئيا في أهم لهجة من اللهجات الإيطالية، وهي اللاتينية لذلك نجد في الكلتية والجرمانية وفي الإيطالية إلى حد ما عددا كبيرا من الكلمات المشتركة. ولكن هذه اللغات الثلاث تختلف في درجة القرابة بينها من وجهة البنية النحوية, فالصلة الصرفية1 وثيقة بين الكلتية والإيطالية، وثيقة إلى حد دفع بعض اللغويين إلى القول بوحدة إيطالية كلتية. أما الجرمانية فتختلف بنيتها النحوية عما في الكلتية اختلافا شديدا؛ وإذا كانت تقرب من الإيطالية في بعض الوجوه، فإنها أيضا تقرب من السلافية البلطية في وجوه أخرى. وقصارى القول أن الروابط الصرفية بين هذه اللغات لا تتفق مع الروابط التي بين مفرداتها. وهذا القول يسري أيضا على الروابط الصوتية، بل قد يبدو غريبا أن ندخل الصوتيات في هذا المضمار. لأن التغيرات الصوتية تقع، على ما يبدو، بطريقة آلية مستقلة عن إرادة المتكلم، بل وعلى غير شعور منه، ولكنها أيضا تقع باضطراد محدود من حيث المبدأ وتنوع محير في نتائجه، إلى حد يجعل من العسير علينا أن نجد فيها خصائص لنوع معين من اللغات. يضاف إلى ذلك أنه لما كان الإطلاق   1 انظر دوتان Dottin: رقم 68، وهرت: رقم 167، وفيست: رقم 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 من أظهر خصائص التغيرات الصوتية، لم يكن في إمكاننا هنا أن نقسم الصيغ إلى ضعيفة وقوية كما هي الحال في النظام الصرفي، والصيغ القوية كما نعلم شهود عدول على حالات قديمة قد تغيرت, فهذه البقايا هي التي تعلن عن أصول النظام الصرفي وتسمح لنا بمعرفة روابط القربى, ولكن النظام الصوتي لا يدع بقايا، ولذا لا يعرفنا بشيء من هذا القبيل. ولا يكون الدارس في منأى من المصاعب حتى عندما يقصر دراسته على الظواهر الصرفية. لأن النظام الصرفي أيضا ينطوي على حالات من اللبس؛ لأن الدارس عندما يقيم القرابة على وجوه الشبه في البنية النحوية، يفترض أن هذه البنية تتغير بصورة مطردة مستمرة. ولكن ما الذي يضمن لنا هذا الاستمرار؟ نحن نعرف مقدار المؤثرات الخارجية التي يتعرض لها النظام الصرفي, فإذا لم تصب هذه المؤثرات إلا الأجزاء الثانوية والسطحية من النظام، بقي لنا عدد كاف من السمات المميزة التي تسمح لنا بتحديد القرابة. ولكن يمكننا أن نتصور حالة قصوى تصل فيها اللغة بعد أن يتكرر التأثير عليها، إلى أن يتركب فيها بدرجة متساوية مزيج صرفي من أسرتين متقاربتين, وهذه هي نفس الحالة التي تخيلناها من قبل وأطلقنا عليها اسم الخلاسية، وهي حالة شديدة الندرة, ونحن نعرف من ميدان التاريخ الطبيعي، وإن كانت ظروفه مختلفة جدا عن ظروفنا، مقدار الصعوبة التي يلاقيها العالم في تصنيف مادته إلى أسرات بسبب الخلاسية التي تعمل دون توقف على كسر النظام والوحدة. ففي حالة الخلاسية اللغوية يصير النظام الصرفي مقياسا غير ذي جدوي. كذلك يصبح هذا القياس غير ناجع إذا كانت التغيرات الصرفية قد وقعت بسرعة خاطفة، أو إذا كانت الحالات التي نعرفها منها يفصل بعضها عن بعض آماد بعيدة حتى أصبحت اللغتان اللتان تنتسب إليهما هذه الحالات لا تشتركان في شيء من الوجهة الصرفية وإن كانتا ترجعان إلى أصل واحد, فلو أننا لا نعرف من الفرنسية إلا الحالة التي عليها اللغة المتكلمة في صورتها الحاضرة، وكنا فضلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 عن ذلك نجهل اللغات الرومانية الأخرى واللاتينية لكان من الصعب علينا أن ندلل على أن الفرنسية لغة هندية أوربية لأنه لم يبق في الفرنسية من الهندية الأوربية إلا بعض تفاصيل من البنية مثل المقابلة il est "هو يكون" ils sont "هم يكونون" "في النطق Ison, ile" أو مثل -ولعل ذلك أدل- صيغ أسماء العدد أو الضمائر الشخصية، مع بعض المفردات كأسماء القرابة. هذا كل ما بقي في الفرنسية من الهندية الأوربية. ومن يدري لعلنا نجد فيها أدلة أقوى من تلك تبعث على وصلها بالسامية أو الفينية الأجرية. وقد يوجد فوق سطح المعمورة لغات هندية أوربية لا نعرفها، إذ إنها فقدت كل قرينة تشير إلى أصلها، وذلك لأنها لا تاريخ لها، ولأن استعمالها مقصور على أقوام أميين. فإذا ما طبقنا عليها الطريقة الصحيحة لم نستطع الاستدلال على قرابتها للإغريقية أو اللاتينية أو السنسكريتية. ولكن هذه الطريقة تفرض علينا أيضا أن نقول باستحالة البرهان على عدم وجود قرابة ما بين لغتين من اللغات. ويمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك. وذلك أننا إذا أردنا استخدام النظام الصرفي في الاستدلال على القرابة اللهجية، وجب أن يكون هذا النظام متميزا قاطعا في الدلالة وإلا فقد يستحيل الاستدلال, ومن ثم كان لا بد من تحديد القرابة اللغوية على درجات، وهذه الدرجات لا ترجع إلى الصلات التاريخية التي بين اللغات، وإنما ترجع فقط إلى درجة تميز البنية الصرفية. فهناك لغات معقدة النحو، فيها متاع عديد من دوال النسبة المتنوعة ومميزات الفصائل واللواحق التي ترتبط كل واحدة منها بمكان معين والتي تطبع الجملة بسلسلة من الخصائص المميزة، ومن هذا القبيل لغات المجموعة البنطية. ومثل هذه اللغات تتطلب مجهودا شاقا ممن يبغي إجادتها، ولكنها تمتاز بخصائص صرفية واضحة المعالم. فإذا صادفنا في كل مكان على وجه البسيطة لغة تحتوي بنيتها على نفس الخصائص الصرفية وتستخدم وسائل الإلصاق والتصنيف بعينها أو وسائل أخرى يرجع اختلافها عنها إلى تغيرات صوتية طبيعية، كان لنا الحق في أن نقرر انتساب هذه اللغة إلى العائلة البنطية وأن نستخدمها في النحو المقارن لهذه المجموعة اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 غير أنه توجد من جهة أخرى، لغات لا نحو لها، ينحصر نظامها الصرفي في وسائل غير ملموسة، من تركيب كلمات منعزلة. وقد ذكرنا من أمثلة هذا القبيل لغات السودان ولغات الشرق الأقصى فالخصائص الفردية تكون في هذه الحال أقل وضوحا، لأن الوسائل التي تقوم على ترتيب الكلمات فضلا عن كونها أقل تنوعا من دال النسبة الصوتية فإن قيمتها في الدلالة أقل من قيمة هذه الأخيرة. لأنه إذا كان الأمر إنما يدور حول وضع هذه الكلمة أو تلك في مكان ما من الجملة، كما هي الحال في الإيرلندية التي تضع الفعل على رأس الجملة, أو التركية التي تضعه في نهايتها، فقد يمكن اعتبار هذا الترتيب بصفة عامة نتيجة لتأثيرات آلية بعضها صرفي، ومن ثم يمكن تفسيرها بحالة اللغة العامة. أما إذا كان الأمر يتعلق باتجاه عام يخضع مكان الكلمات إلى الروابط التي توجد بين الأفكار المراد التعبير عنها، كما هي الحال في الصينية، كان هذا الاتجاه موسوما بشيء من العقلية والإطلاق يجعله ممتعا جدا في نظر من يسعى إلى تكوين نظرية عامة وإنسانية عن كليات العقل, ولكنه لا يساعد العالم اللغوي المؤرخ الذي يحاول أن يستخلص من لغة ما التفاصيل الخاصة التي تفصلها عن غيرها. وفي الوقت نفسه يستحيل تحديد القرابة اللغوية في مثل هذه الحالة المتطرفة، إذ يرى الباحث نفسه مضطرا في تحديدها إلى التعويل على المفردات، وهي كما رأينا خطة محفوفة بالأخطار. فالصينية تقول مثلا: WOO PU PHA THA وترجمته الحرفية بالفرنسية هي: moi pas craindre lui "بالعربية: أنا لا خوف هو" وهي فرنسية من نوع خاص تسمى فرنسية "الزنجي الصغير" le francais petit-negre. ولكنا نعرف من سكان إفريقية الغربية الأصليين من يتكلمون الفرنسية دائما على هذه الصورة, فلو أنهم تكلموا الصينية لتكلموها بهذه الطريقة عينها, دون اختلاف اللهم إلا في استعمالهم لكلمات أخرى، أي في حالتنا تلك في استعمالهم لأصوات أخرى، ففي "لغة الزنجي الصغير" قد تختلف المفردات فتكون فرنسية أو صينية مثلا، ولكن الصورة الكلامية فيها واحدة دائما لا تختلف، ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 لا نستطيع أن نميز فيها طريقة التفكير الفرنسية عن طريقة التفكير الصينية. كيف نعمل إذن عندما نريد أن نصنف في عائلات بعض اللغات التي تكاد تخلو من النحو كاللغات التي أشرنا إليها، ولا سيما إذا كانت مفرداتها قد تغيرت بفعل الأحداث الخارجية؟ وهذه هي الحال مثلا في لغات إفريقية الغربية المشار إليها التي تتنوع مفرداتها إلى أقصى حد بفعل الظروف التاريخية والتي تتفق كلها من حيث الفقر النحوي أو تكاد1. فلما كان لا نعرف الحالات السابقة لهذه اللغات ولا نعلم من تاريخها ما يتجاوز خمسين عاما، لم يكن في وسعنا تحديد أصل مفرداتها ولا تكوينها, إذ لا يوجد لدينا في هذه الحال أية وسيلة لتصنيف هذه اللغات في أسرات؛ أو إذا أقدمنا على تصنيفها كان عملنا ينقصه كثير من التحقيق والتدقيق. فنحن هنا ضحايا لانعدام الوثائق، وضحايا أيضا لطريقتنا التي تحرم علينا أن نطلب إلى فروع المعرفة الأخرى ما نستعيض به عن نقص الوسائل اللغوية. يجب أن نستخلص من هذه الاعتبارات أن التدليل على القرابة اللغوية شيء نسبي. ويتوقف أولا وقبل كل شيء على وفرة الأدلة اللغوية التي تكون، بعد أن يشهد لها التاريخ السياسي أو الاجتماعي. مجموعة لها قيمتها من البراهين، ولكن هذا الاستدلال في حالة اللغات المجهولة التاريخ يتوقف أيضا على ثراء القواعد النحوية وتنوعها، وأخيرا كثيرا ما تضطرب القرابة في داخل الأسرة الواحدة من جراء تأثير اللهجات بعضها على بعض. قد يجيب بعض النظريين من علماء اللغة بأن هذا أمر ضئيل الأهمية؛ لأن القرابة اللغوية في نظرهم موجودة بصفة مطلقة، بغض النظر عن كل استدلال, ويرجعون ذلك إلى شعور الأفراد وإرادتهم في أن يتكلموا لغة آبائهم, والواقع أن مبدأ الشعور بالاستمرار اللغوي هذا يكفي في معظم الحالات في تقرير وجود القرابة اللغوية في حد ذاتها, ولكن لا يمكننا أن نقطع باستحالة وقوع خطأ ما من جانب المتكلمين؛ لأننا إذا سلمنا بقيام الخلاسية التي تدمج خصائص لغتين مختلفتين   1 دلفوس: رقم 4، مجلد 16، ص386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 لتخرج منهما لغة واحدة، فقد يصادف أن ينتقل المتكلمون من نظام لغوي إلى آخر بصورة غير محسوسة, وبذلك يغير الجيل الجديد لغته دون إدراك منه. وهذه بالطبع حالة قصوى لا يمكن عادة أن تقع بين أمم متحضرة ولكنها غير مستحيلة الوقوع في بعض الظروف اللغوية والاجتماعية, فلا يمكننا هنا أن نغض النظر عنها, ويجب أن نعترف بسوء أثرها على القرابة اللغوية, إذ إنها لا تعمل على جعل الاستدلال على القرابة مستحيلا فحسب، بل أيضا تؤدي إلى طمس معالم هذه القرابة واختفائها. من حسن الحظ أن معظم لغات الأرض. ولا سيما اللغات الثاتبة التاريخ، قد أمكن تحديد قرابتها بدقة مدهشة؛ حيث نجح العلماء في تكوين عائلات لغوية كبيرة، كالهندية الأوربية1 والسامية2 والفينية الأجرية3 والبنطية4 والملايوية اليولينزية5، إلخ. نعم قد تكون صلات القرابة داخل كل أسرة موضعا للجدل من جهة التفاصيل في بعض الأحيان، ولكن المبدأ الذي تقوم عليه لا يقبل الريب. وليس من شك في أن تقدم الفيلولوجيا المقارنة سيؤدي إلى ازدياد عدد الأسر اللغوية الصحيحة التكوين.   1 برجمان BRUGMANN, ودلبروك DELRUCK: رقم 150؛ مييه: رقم 94. 2 بروكلمان: رقم 148. 3 شينييه SZINNYEI: رقم 212. 4 مينهوف MEINHOF: رقم 179. 5 برند شتنر BRANDSTETTER؛ MONOGRAPHIEN ZUR INDONESISCHEN SPRACHFORSCHUNG, لوسبرن 1906 وما يليها. قارن أيضا ج. فران G. FERRAND: رقم 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الجزء الخامس: الكتابة الفصل الأول: أصل الكتابة وتطوره ا 1: إذا كانت مسألة أصل اللغة لا تنطوي على حل مرض، فإن الأمر على خلاف ذلك في مسألة أصل الكتابة؛ لأن هذه الأخيرة يمكن مواجهتها بطريق مباشر وفي وسع الباحث أن يحيط ويلم بها في مجموعها, وذلك لأن أصل الكتابة قريب منا نسبيا, ولم تعرف لنا اللغات القديمة إلا منذ سجلتها الكتابة، ولكنا نعرف الكثير منها منذ تلك اللحظة عينها؛ وكثيرا ما يكون أول نص منها يقع تحت أيدينا هو أول النصوص التي سجلته الكتابة, ولدينا من جهة أخرى لغات لم تكتب إلا في أيامنا هذه، بل وتحت أبصارنا, ومن ثم كان في وسعنا أن نضع يدنا على الوسائل التي بواسطتها تصير اللغة المتكلمة لغة مكتوبة، وهي في عنفوان حياتها، وأن نقدر نتائج عملها. ومع ذلك يجب علينا لفهم مسألة أصل الكتابة، أن نتخلص من عوائدنا العقلية بوصفنا قوما متحضرين. فالذي في ذهننا هو أن القيمة الرمزية للكتابة   1 راجع عامة ف. برجيه ph. Berger: رقم 48؛ ودنتزل Dantzel: رقم 151؛ وليفي بريل: رقم 88؛ والفصل الأخير من كتاب: تاريخ شعوب الشرق لمسبيرو. وعن الوسائل المادية التي أدت إلى خلق الكتابة واستكمالها، انظر الفصل الخاص بتصوير الفكر في كتاب دي مورجان De Morgan: البشرية قبل التاريخ ص271 وما يليها، الذي يكمل بنصه وصوره التوضيحية محتويات فصل الكتابة الذي نحن بصدده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أمر طبيعي. إذ لا يلزم لأطفالنا إلا بعض المران وشيء من التفكير ليفهموا أن ما يرونه مكتوبا بالمداد الأسود على الورق الأبيض ليس إلا صورة الكلمات التي تسمعها آذانهم, ولا يمر بهم وقت طويل حتى يتعودوا هذه الرياضة الذهنية التي تنحصر في التوفيق بين الرسم والصوت وفي الجمع في دائرة الإدارك بين التصورات البصرية والتصورات السمعية, والزمن الذي قضيناه في طفولتنا لإخضاع عقلنا لهذه الرياضة كان من القصر بحيث لم يبق منه شيء في ذاكرتنا. فالفكرة التي في أذهاننا عن اللغة المكتوبة، قد حصلناها دون مجهود، وبصورة قريبة من الطبيعة. ومع ذلك فمن المؤكد أن هذه الفكرة ليست طبيعية بالنسبة للإنسان. فنحن نجني ثمار التحسسات العقلية التي قام بها أسلافنا الغابرون، فهم الذين سهلوا مهمتنا بتحضيرهم لعقليتنا. فما أكثر ما بذلوا من وقت ومن مجهود في تمرين الدماغ الذي ورثونا إياه، تمرينا جعلنا لا نشعر حتى بوقوع هذا التمرين. نحن نعرف أن بني الإنسان بدءوا بكتابة الأفكار قبل أن يكتبوا الكلمات؛ لأن الصورة استعملت في أول الأمر علامة للأشياء, ولكنهم لم يعثروا على هذا الاستعمال نفسه في أول لفتة؛ لأنه يستلزم كون الإنسان قد أدرك القيمة العقلية للعلامة الكتابية, ولكنا نعرف أن بعض المتوحشين لا يزالون حتى يومنا هذا يوحدون توحيدا تاما بين الصورة والشيء, وهذا التوحيد الذي يبدو لنا غريبا لا يرجع إلى خداع أو إلى خلط فاحش، بل يرجع إلى أن المتوحش يدرك جميع الأشياء سواء في ذلك المواد وصورها بصورة غيبية, ففي غيبيته يتكون العالم الخارجي من سلسلة من الظواهر مزودة بصفات خفية، وليست الصفات المتبادلة بينها مما يخضع للتناقض, وكأن نشاطه هو مشتبك بسدى العالم الخارجي, فلا يقوم بفعل دون أن يكون له أثره في الكون المرئي وغير المرئي, وما نسميه بالخرافة -وهي تنحصر في إعطاء أتفه الأحداث معنى غيبيا وفي إيجاد صلة خفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بين أشد الحوادث اختلافا- هي الحالة العادية لعقل المتوحش. وذلك على أعظم جانب من الأهمية بالنسبة لاستعمال العلامات. لنفترض أن متحضرا علم طريقه بغصن شجرة أو خط صليبا على الرمال أو فوق صخرة ما, فإنه في هذه الحالة يكون مسوقا بباعث عقلي محض، كأنه يقصد إلى العثور على طريقه عند العودة أو إلى إعطاء إشارة ما إلى زملاء له يتبعونه. أما في ذهن المتوحش فإن مجرد رسم علامة ما يؤدي إلى تعقيدات غيبية ويوحي ببواعث مختلفة كل الاختلاف, فإذا ترك غصنا في طريقه مثلا, فذلك لتملك الأرض التي يطؤها أو لإفساد سحر ومنع تأثيره أو لاجتذاب روح أو إقصائها أو لتضليل عدو خفي بسد طريقه عليه، أو لإعطائه وسيلة يستفيد منها في الإضرار بك؛ وبالاختصار يرى في هذا العمل حدثا كبيرا يؤدي إلى نتائج حسنة أو سيئة ذات أصداء واسعة في هذا الكون الفسيح. كذلك صورة الحمار أو صورة الكلب لا توقظ في أذهاننا بوصفنا متحضرين إلا فكرة الحمار أو الكلب دون شيء سواها, ولكنها بالنسبة للمتوحشين هي الحمار بعينه أو الكلب بعينه, فإذا كانت الصورة تمثل حيوانا ضارا أو عدوا عاديا بدل أن تمثل كائنا لا ضرر منه فما أثقل النتائج التي تؤدي إليها! عندئذ يجري على لغة العلامات جميع الأحداث السحرية التي للغة المتكلمة، من تحريم ومن كنايات مثلا فيصير من الخطر أن يرسم نمر أو فرس من أفراس البحر بقدر ما يكون من الخطر في تسميتها؛ لأن الصورة كالاسم تكون جزءا من ميدان الوجود الغيبي1 وقد تدفعهم عاطفة مضادة لتلك، ولكنها من أصل غيبي أيضا، إلى أن يعنوا بمعرفة تصوير العدو أو الحيوان المخوف لاستمالته والتلطيف منه أو لاتخاذه حليفا ثمينا. فنرى بعض المتوحشين يرسمون على أسلحتهم ثعبانا أو ببرا معتقدين أن هذا الحيوان أو ذاك يخلع على المادة التي يرسم عليها جزءا من قدرته, فما دام الرمح أو الطرس قد زينا على هذا النحو فقد اكتسبا قوة سحرية؛ فالببر مثلا يهبهما القوة والثعبان يمنحهما المكر الذي يفسد حيل الأعداء, وبهذه   1 دانتزل: رقم 151، ص67 وص72-73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الطريقة تتكون مجموعة كاملة من الأحجبة والتمائم التي تترجم بواسطة الصور الرمزية عن إدراكات المتوحشين الغيبية. من المبالغة الواضحة أن نحصر نشاط البدائيين العقلي في مثل هذه الحدود الضيقة. فلنترك له إذن شيئا من السعة ولنسلم بأنه في بعض الأحيان ينفض عن نفسه نير المشاغل الغيبية. فقد تكون العلامة عندهم أيضا نوعا من الانعكاس الخارجي تشهد بحاجتهم اللاشعورية إلى إظهار ما في باطنهم، إلى إبراز نفسيتهم ومن هذا القبيل مثلا ذلك العبث التافه الذي يقوم به العابر عندما يحفر اسمه على الجدران بسن مبراته، أو تلك الحركات التي يقوم بها المتنزه، وقد أثملته الشمس والهواء الطلق، عندما يقرع جزوع الأشجار بطرف هراوته فيسقط براعمها. بل لنسلم للبدائي بقابليته للمتع الفنية. ولم لا؟ فالرسوم التي خطتها على عظام الرنة أيدي أناس من عصر المغارات يذكرنا كمالها التام بفناني اليابان. فلنا أن نفخر بعمل هؤلاء الأسلاف الغابرين الذين سبقوا أوتامارو OUTAMARO وهكساي HOKSAI بآماد وآماد، فلماذا ننفي عنهم إحساسهم باللذة عندما قاموا بهذا العمل لا لشيء إلا لشعورهم بالارتياح لما هو جميل؟ فعندما نريد أن نحلل بدقة منابع النشاط العقلي عند البدائيين، يجب علينا بلا ريب ألا نسقط من حسابنا الأفعال التفكيرية والبواعث الفنية. ولكن هذا لا يمنع من وجود اختلاف جوهري بين البدائي والمتحضر. فقد يجوز لهذا الأخير أن يحيد عن القواعد التي يفرضها العقل، ولكنه عندما يثوب إلى نفسه ويعود إليه توازنه، فإن عقله يرجع بطبيعة الحال إلى الإدراك المعقول للأشياء، بل إنه لا يدرك حماقته إلا باستعمال عقله. أما البدائي فحالة عقليته الطبيعية هي الحالة الغيبية. فالغيبية تحيط بها من كل جانب وتغذيها وتسندها. وحتى عندما يبدو أنها قد خرجت منها لحظة ما، فإنها تبقى غائرة فيها بجذور عميقة. فكرة البدائي عن العلامة تستبعد كل إمكان لكتابة ككتابتنا، لأن كتابتنا تقوم على مبدأ عقلي؛ فتاريخ نشوء الكتابة يفترض إذن كون العقلية المعقولة قد تخلصت من العقلية الغيبية, وهذا لا يقع دفعة واحدة, ولعل نقطة البدء تنحصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 في كون العلامة تحتمل في نفس الوقت تفسيرات عدة وتصلح لغايات كثيرة1 فكون العلامة تميمة محملة بالقوى السحرية لا يمنع من كونها صورة مادية لأحد الأشياء وأنها تظهر أمام العقل على هذا النحو. ففي هذه الحال يمكن أن تستبعد عن العلامة الخصائص السحرية شيئا فشيئا، وفي هذا إخضاع للتصورات الذاتية والغيبية للتصورات الموضوعية والمعقولة، وأخيرا الاستعاضة بهذه عن تلك. فرأس الببر المحفور على خشب الرمح قد وضع عليه حقا ليزوده بقوة سحرية، ولكنه في الوقت نفسه يتيح لصاحب السلاح أن يتعرف سلاحه، إذا كانت أسلحة الجيران لا تحمل هذه العلامة، وبذلك يصبح الرأس علامة الملكية, وغصن الشجرة الملقى في الطريق لغاية سحرية يمكن أن يكون مفيدا في تعليم الطريق، فيصير عند اللزوم علامة للتذكرة. من ذلك نرى أن الحدث الغيبي يدخل فيه عنصر معقول يتدرج فيه نحو الغلبة شيئا فشيئا حتى ينتهي بالسيادة, ومن ثم كان أولئك الذين يرون في علامات الملكية وإشارات التذكرة مبدأ الكتابة على حق في رأيهم2. ولكنا في حالة العلامات التذكارية لسنا من الكتابة إلا في منتصف الطريق لأنها إذا كانت تستخدم لتمثيل بعض صور الفكر، فإنها لا تعبر عن الفكر نفسه مطلقا. ولدينا مثل شهير على ذلك في عصا الرسل "Stick messages" المستعملة عند الأستراليين. فهذه العصا المغطاة بالحزوز تستخدم في إبلاغ تعاليم وأوامر، وأحيانا في إبلاغ سلاسل من الأوامر على جانب كبير من التعقيد. ولكن لا يستطيع تفسيرها إلا العارفون. فعصا الرسول لا يمكن فهمها دون الرسول نفسه. وهي أولا وقبل كل شيء وسيلة يتخذها المرسل لمنع الخطأ والخيانة. فهي بمثابة مرشد ومعين للذاكرة. إذ إن تركيب هذه الحزوز يقدم خطة رياضية مصورة للرسالة التي يجب أن تؤدي، وهيكلا عظيما للحديث. فهي تشير إلى   1 دنتزل. رقم 151، ص48. 2 ا. فان جنب: مجلة التقاليد الشعبية "1906"، ص73-78، ورقم 74 السلسلة الثانية، باريس 1909. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 عدد الأفكار وإلى تسلسلها بعضها من بعض، ولكن الأفكار نفسها غير موجودة فيها. الأفكار غير موجودة فيها بالنسبة لكثيرين من الناس على الأقل، إذ يمكننا أن نتصور دون عناء أن يقوم بين المتراسلين اتفاق سري لا يعلم به حتى الرسول نفسه، وبمقتضاه يمثل كل حز فكرة معينة, وفي هذه الحال نكون أمام كتابة حقة، كتابة بدائية محدودة الوسائل، ولكنها تسمح بإيصال فكرة بين شخصين في صورة مادية، وهذا على وجه التقريب هو تعريف الكتابة. ومن هذه الفصيلة، فصيلة "عصا الرسل" ما يسمى بالكبوات البيروية quippos des pruviens والومبومات الإيروكوية Wampums des Iroquois. والقراء يعرفون ما يراد بهذين المصطلحين. فالكبوات حبال مصنوعة من خيوط الصوف المختلف الألوان تعقد عليها في أبعاد مختلفة عقد على جانب كبير من التعقيد فإذا ما ركبت ألوان هذه الحبال مع سمك العقد ومواضعها وجمعت كل الحبال بعضها مع بعض بطريقة متفق عليها، أمكن الحصول على وسيلة لتمثيل الأفكار تمثيلا رمزيا، ولبيان تسلسلها بعضها من بعض, هذه الكبوات قد لعبت دورا هاما في "خطابات إحدى البيرويات" لمدام دي جرافيني، لذلك كان لها الحق في أن تحتل مكانها بين الآداب الفرنسية. أما الومبومات فهي عقود القواقع المرصوصة بعضها فوق بعض، وتركيبها يكون أشكالا هندسية. ويقال إن بعضها يشتمل على ما لا يقل عن 6000 إلى 7000 حبة، وأطول واحدة عرفت منها تتكون من 49 صفا من القواقع, ونلاحظ أن الكبوات والومبومات تستخدم عنصرا جديدا، وهو اللون الذي يزيد الوسائل تنوعا ومن ثم يساعد على سهولة التعبير. ومع ذلك فإن الكبوات والومبومات، مهما بلغت من درجات الكمال. لم تكن إلا وسائل للتذكرة. وحتى لو ثبت أنها كانت تستطيع الإيحاء ببعض الأفكار، فمن غير الممكن تشبيه تراكيبها بتراكيب أي نظام من نظم الكتابة؛ لأن هذه النظم تهدف إلى التعبير عن جميع الأفكار, والذي منع من تطور كتابة مشتقة من الكبوات والومبومات إنما هي المادة التي تكونهما. فهي لا تحتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 أي استكمال من الوجهة العملية, ويؤكد بعض المؤلفين أن الكبوات على الأقل، تستطيع أن تنجح في تكوين مركبات أبجدية؛ ولكن من المحقق أنهم يقصدون محاولات متأخرة عملت قياسا على الأبجدية الأوربية, وعلى هذا النحو أنشئت في إيرلندة الأبجدية الأوجامية على نسق الأبجدية اللاتينية وذلك بواسطة حزوز تحفر على حواف أحجار مرفوعة, ولكن مثل هذه المحاولات كان نصيبها الفشل المحقق. أما الكتابة فقد تدرجت في طريق آخر, وابتدأت من الصورة التي تجعل العين تحس بفكرة الشيء، ولا سيما الصورة المرسومة على الحجر أو الصلصال أو على لحاء السحر أو الرق. اليوم الذي فيه اعتبرت العلامة تمثيلا موضوعيا هو يوم ميلاد الكتابة, فيمكننا أن نقول بأن أول نقش إغريقي هو المجذاف الذي نصبه أوليس على قبر البينور Elpenor "الأودسة 11/ 77 و12/ 25" فهذا المجذاف قد نصب لتعريف المارة بمهنة المتوفى، على نحو ما تشير لافتات الحوانيت عندنا وما هو من قبيلها إلى نوع التجارة وصفة السلع، وكما تشير لوحات النذور التي تعلق في الكنائس على بواعث عرفان أصحابها، فهذا المجذاف كان شعارا. وقد استخدمت الإنسانية زمنا طويلا هذا النوع من اللغة الشعارية حتى في العهود التاريخية إلى أن صرنا لا نرى فيها إلا نوعا من الدلالة الرمزية. تشهد بذلك تلك الرسالة التي يقول هيرودوت "ج4 ص131" بأن السيتيين بعثوا بها إلى دارا والتي كانت تتكون من طائر وفأر وضفدعة وخمسة سهام. فقد كان ذلك إعلانا مصورا أمكن للحكيم جبرياس Gabryas أن يفسر معناه. وقد خطا الإنسان خطوة شاسعة نحو الأمام عندما عرف يرسم ويتخذ من الصورة شعارا للشيء فقد استطاع بتركيبه لسلسلة من الصور أن يصور حديثا متماسكا متتابعا, ولدينا بعض هذه الصور المتكلمة في النقوش المصورة التي اكتشفت على صخور إسكنديناوة والتي ترجع إلى عهد ما قبل التاريخ، ونجد منها أيضا ما يزال مستعملا حتى يومنا هذا بين سكان أمريكا البدائيين1. ويشبه   1 دي مورجان: المؤلف سالف الذكر، ص272-273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 هذا بعض صور مقاطعة الإبينال Epinal؛ ويمكننا أن نأخذ عن هذا النوع من الكتابة فكرة خيرا من كل ما تقدم إذا تصورنا حادثة يومية نراها تعرض في السينما بدلا من أن نقرأها في صحيفة. من هذا كله نشأت الكتابة التصويرية ideographique، وهي أول كتابة نعرفها وإليها ترجع جميع نظم الكتابة المستعملة بين بني الإنسان, وتنحصر في تمثيل كل فكرة أو كل شيء بعلامة مساوية, ويمكننا أن نكون فكرة عما كانت عليه في بدايتها بفضل ثلاث كتابات نعرفها الآن معرفة تامة، وهي الكتابة الصينية والكتابة المسمارية والكتابة الهيروغليفية, ولكن ينبغي لنا أن ننبه إلى أن هذه الكتابات الثلاث جميعها لم تبق تصويرية محضة، وأن تصوير الفكرة أو الشيء لا يلعب في أقدم ما نعرفه فيها إلا دورا محصورا، ذلك بأن التصوير فيه وجوه كثيرة من القصور ويترك للعقل مجالا شاسعا للتكميل. ولو فرضنا أن جميع الأفكار في لغة ما قد زودت اليوم بعلامات متساوية متميزة وهو ما لا يمكن تحقيقه عمليا فإن هذا النظام المعقد يصبح قاصرا في الغد، لأنه يتعذر عليه أن يصور جميع ألوان الفكر الدقيقة التي لا تحدد وأن يتبع تطورها الدائم, فالكتابة التصويرية عندما تستقر وتثبت نهائيا تصير ثوبا جامدا يسجن الفكر بين جوانبه، فلا يتوانى الفكر عن تحطيم العقبة وجعل حطامها غير صالحة للاستعمال. مثل هذه الكتابة لا تصلح على أحسن الحالات إلا لعلم من علوم الباطنية قد حدد على صورة لا يراد له التحول عنها قيد أنملة؛ لهذه الكتابة أن تكون نوعا من الرموز الجبرية لأعمال المعامل, ولكنها لا تستطيع بأية حال أن تكون أداة لتبسيط المعرفة وتعميمها ولا للتربية الشعبية ولا للتقدم الاجتماعي, والكتابة الصينية أو الهيروغليفية من خير الأمثلة على ما نقول, فنحن نعرف مقدار ما يوجه إليهما من نقد على الرغم مما تناولهما من إصلاح. لعل المزية الوحيدة التي تستطيع الكتابة التصويرية أن تفخر بها، هي أن قراءتها في متناول أناس يتكلمون لغات مختلفة. فقانون الإشارات الملاحية يقرؤه جميع الملاحين بطريقة واحدة وإن فهموه بلغات مختلفة. والكتابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 التصويرية، وهي تمثل الأفكار لا الأصوات، لها نفس المميزات التي لقانون الإشارات, وذلك أنها تسقط وساطة الكلام وتصور لغة التفكير لا لغة الكلام. ومن اليسير أن نبين تفاهة هذه الميزة. فقانون الإشارات لا يطبق بطبيعة وضعه إلا على عدد محصور من المعاني المهنية المحدودة، أي التي لا يعتريها التغيير، ويمكن لعدد من الناس ذوي المهنة الواحدة أن يصطلحوا عليها بسهولة, ولكن هذا القانون لا يمكن تعميمه بحال, ولأجل أن يكون للكتابة التصويرية قيمة عامة، يجب ألا تتكون إلا من علامات يمكن لكل إنسان قادر على التفكير أن يدركها على الفور, وهذا سراب خداع لأنه لا يمكن تحقيقه إلا بالنسبة للمعاني المشخصة، كمعاني الطائر والقلم والثور والعين والشمس, ولكن صعوبته تبدأ عندما يدور الأمر حول المعاني المجردة. لأننا إذا رمزنا لهذه المعاني بصور تحكمية، رأينا أنفسنا نبتعد عن مبدأ الكتابة التصويرية، وإذا استخدمنا في ذلك صور الأشياء المشخصة، بأن نتخذ مثلا من القلم رمزا للعدالة ومن الثور رمزا للغنى ومن العين رمزا لسلطة الملكية، كنا قد أوجدنا على الفور ما يوقع القارئ في اللبس. وماذا يكون الحال بالنسبة للمعاني النحوية، والكتابة التصويرية لا تملك وسيلة التعبير عنها؟ نعم، قد يمكن لبعض اللغات ألا تتأثر بهذا النقص الخطير، وهي اللغات عديمة التصريف. فإذا كانت الروابط النحوية تنحصر في ترتيب الكلمات، أمكن للكتابة التصويرية أن تعبر عن النحو. إذ يمكننا أن نتصور بسهولة وجود علامة لكل من فكرة أنا، وإرادة، وأكل، ولحم؛ وفي هذه الحال يمكن للكتابة التصويرية أن تصور بسهولة جملة قصيرة مما يسمى لغة الزنجي الصغير على هذا النحو: أنا إرادة أكل لحم "moi vouloir manger viande". إذ لا يلزم حينئذ إلا تحديد الترتيب الذي يجب أن تقرأ عليه علامات هذه الكتابة، لأن النظام الصرفي في هذه الحال ينحصر كما قلنا في ترتيب الكلمات. ولكن ذلك لا يذهب بنا بعيدا، لأن اللغة مهما تجردت من النحو، فإنها تحتوي على معان نحوية أولية لا يمكن للكتابة التصويرية أن تعبر عنها بصورة طبيعية، مثل التمييز بين الفرد والجنس وبين الاسم والفعل والدلالة على زمن الفعل وصفته وعلى النفي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 إلخ. فإذا صورنا هذه المعاني بعلامة خاصة تضاف إلى علامة الفكرة. كالأس يضاف إلى الحرف الجبري، كنا قد أدخلنا في هذه الكتابة مبدأ جديدا، هو مبدأ التفريق بين العلامات الفارغة والعلامات المليئة, وبذلك تنعقد الكتابة التصويرية باتباعها نظامين مختلفين، لأننا إما أن نضيف إلى العلامة الدالة على الفكرة معالم خاصة تشير إلى القيمة الصرفية؛ وفي هذه الحال يكون عندنا نوع من الصور تتغير أشكالها تبعا للاستعمال الذي تتخذه في الجملة الكلمة التي تشير إليها هذه الصور والتي يضاف إليها عناصر جديدة، وهذا يعقد الصور ويجعلها لا تنتهي عددا فتصير الكتابة غير قابلة للاستعمال, وإما أن نتبع الصورة الأساسية بعلامة أو ببضع علامات يشار بها إلى القيمة النحوية, ووجه الصعوبة في ذلك يرجع إلى وجوب استعمال علامات عديدة يضاف بعضها إلى بعض للتعبير عن معنى واحد, والطريقة الأولى أنسب للغات ذات المقطع الواحد، والواقع أنها تستعمل بالفعل في كتابة لغات الشرق الأقصى كالصينية, ولكن الحقيقة أنها حتى في الصينية تمزج بالطريقة الثانية. وذلك لأنه من العسير حقا أن نكتب لغة لا نراعي فيها إلا مبدأ التصوير. لا توجد كتابة تصويرية واحدة قد بقيت على ما هي عليه. ولعل ذلك يرجع إلى قصور هذه الكتابة قصورا بينا، ولكنه يرجع كذلك إلى ذلك التطور الضروري الذي جعل من اللغة المكتوبة وسيطا طبيعيا بين لغة التفكير ولغة الكلام. العقل في متناوله وسائل متنوعة للترجمة عن التفكير، فكان لديه الإشارة والصوت، ثم خلق الصورة بعد ذلك سمحت له هذه الوسائل باستعمال العلامات الاصطلاحية التي كانت تطبق من قبل -بشيء من التحوير- على حالات مختلفة، ولكنها كانت تتداخل في غالب الأحيان, ولعل مرجع ذلك إلى أنه كانت توجد حالات تستطيع الإشارة فيها أن تعبر عن الفكرة خيرا من الصوت، وعن الصوت خيرا من الصورة. ومع ذلك فلم تلبث القيمة الرمزية للصوت أن تنجح في أن تصحب القيمة الرمزية للصورة على وجه العموم وأن تحل محلها عند الحاجة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 حتى أصبحت الصورة والصوت بديلين متبادلين, وعندما وصلا إلى درجة التعادل، أمكن للعقل أن ينظر إلى الصورة على أنها شعار الصوت، ثم على أنها أداة لتثبيته بالكتابة, وعندما صار اسم الشيء بدوره مرتبطا بالشيء، انتهى أيضا بأن صار مرتبطا بالصورة التي أيقظت فكرة هذا الشيء. فالعلامة التي كانت تمثل الشيء صارت أيضا علامة الصوت الذي يعبر عن هذا الشيء, وبهذا نشأت الكتابة الصوتية. لنفرض أن لدينا علامة كتابية، وأن هذه العلامة الكتابية صورة خنزير، وأنها لم تكن تدل في الأصل إلا على "الخنزير" "بالفرنسية pore بَوُر" فلما كانت هذه العلامة تقرأ "بُور" فإنها قد تنتهي بتمثيل الاسم الذي يحمله هذا الحيوان في الفرنسية "بور" لا تمثيل الحيوان نفسه، وبالتالي بتمثيل الصوت الذي يكون هذا الاسم. ومن ثم فقد تستعمل في الكتابة الصوتية لكل كلمة تتكون من هذا الصوت، فتستعمل لكتابة الصوت "بور por" دون أي اعتبار آخر، سواء أكان ذلك للدلالة على الخنزير pore أم على الميناء port أم على ثقوب البشرة pores؛ بل أكثر من ذلك قد تستعمل في الكلمات التي تتكون من عدة مقاطع للدلالة على هذا المقطع por "بُور" بصفة عامة ودون اعتبار للمعنى؛ فنراها تدخل في كتابة "trans por" ter"" "ينقل" و"col "por" teur" "بائع متجول" و""por" nographe" "صورة مخلة بالآداب"، إلخ، وهذه هي الطريقة التي تستخدم في المجتمعات التي تعقد للتسلية، فإذا أريد مثلا الدلالة على معنى كلمة "مألوف" رسمت صورة للماء وصورة لكوز من اللوف. ولكن هذا الذي يعتبر تسلية وهوى تحكميا في هذا النوع من اللعب، ليس في الكتابة التصويرية إلا اصطلاحا محددا بقواعد صارمة. ومع ذلك فإن في هذه الكتابة وجهين من النقص خطيرين, وذلك أن عدد العلامات في مثل هذه الكتابة لا يمكن إلا أن يكون محدودا للأسباب التي ذكرنانها آنفا، في حين أن عدد الأفكار لا يمكن أن يحد, فعدد الأفكار يتجاوز بالضرورة عدد العلامات، لذلك يجب أن يصطلح على الدلالة بالعلامة الواحدة على أفكار عديدة, والمعتاد في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الحالة ألا يجمع تحت العلامة الواحدة إلا الأفكار المتجاورة، مجازية كانت أو حقيقية. لذلك نرى الكتابة المسمارية لا تشير بالقرص إلى الشمس فحسب، بل أيضا إلى النور والبريق والبياض والنهار، وفي الكتابة الهيروغليفية تشير العين أيضا إلى النظر والسهر والعلم. ولما كان يدل على كل واحدة من هذه الأفكار في الكلام بصوت يخالف الصوت الذي يدل به على الأخرى، أصبح للعلامة من القيم الصوتية الجديدة بقدر ما تدل عليه من أفكار, فقد تمثل العلامة الواحدة في الكتابة المسمارية خمسة عشر صوتا أو عشرين صوتا مختلفا، وهذا ما يعبر عنه العلماء بقولهم إن العلامة الواحدة متعددة الأصوات Polyphone. وعلى العكس من ذلك قد يقع في كل اللغات أن يعبر بصوت واحد عن أشياء مختلفة كل الاختلاف. ومن هذا القبيل في الفرنسية الصوت بور pore الذي تكلمنا عنه "por, pore, port", وكذلك الصوتvin؛ " vainc," vint, vingt, vin" والصوت sin؛ "sein, saint, seing, ceint, cinq" إلخ، فالكتابة التصويرية تدل بطبيعة الحال على كل واحدة من هذه الكلمات بعلامة مختلفة. أي أنها تدل على الصوت por بثلاث علامات وعلى الصوت vin بخمس علامات وعلى الصوت sin بست علامات, وقد عد العلماء ست عشرة علامة في الكتابة المسمارية للدلالة على المقطع تو tou. وهذا ما يعبرون عنه بقولهم، إن العلامات المتعددة تشترك في التعبير عن صوت واحد homophones. فاشتراك عدة علامات في التعبير عن صوت واحد ودلالة العلامة الواحدة على أصوات عدة عيبان متضادان كان يمكن لنتائجهما أن تتعادل فيمحو بعضها بعضا. وهذا ما يقع في بعض الأحيان. ولكن الأمثلة التي ذكرناها تكفي للدلالة على الصعوبات المستعصية التي اعترضت سبيل القائمين بفك طلاسم هذه الكتابات1.   1 عن تاريخ فك طلاسم الكتابة المزمارية، انظر مينان: الكتابات المسمارية، باريس 1864، وأشهر الأسماء التي تذكر في هذا الصدد هي: جروتفند وبيرنوف ولاس وهـ. رولينسن وأوبرت. أما فك طلاسم اللغة الهيروغليفية فيرجع الفصل فيه أولا وقبل كل شيء إلى شامبليون المعروف بالصغير؛ ويأتي بعده ش. لينرمان، دي روجيه، سلفوليني, ليبسيوس، بيرسن، بروجسن ومسبيرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 لما اتخذ الأشوريون الكتابة المسمارية أصلحوا عيوب الدلالة على أصوات عديدة بعلاقة واحدة وذلك باستعمال مكملات صوتية, فنراهم بعد أن يكتبوا الكلمة كتابة تصويرية يعينون نطقها بكتابة المقطع الأخير منها كتابة صوتية، وهذا المزج بين الكتابة التصويرية والكتابة الصوتية من خصائص الكتابة الأشورية ومن أسباب التعقيد فيها؛ وقد استلزمه ذلك النقص الأساسي الذي يرجع إلى التعبير عن أصوات مختلفة بعلامة واحدة polyphonie1. واشتراك علامات عدة في التعبير عن صوت واحد يؤدي أيضا إلى عيب لا يقل خطورة عن العيب السابق, وذلك أنه يوقع في حيرة الاختيار بين عدة أفكار يعبر عنها بصوت واحد, وقد ابتكروا نظام المفاتيح لتلافي هذا العيب, والمفاتيح هي العلامات التكميلية التي تضاف إلى الصور الصوتية لتعيين معناها, فبدلا من أن يدل على النطق الحقيقي للصورة بتكملة صوتية، يستعمل المفتاح للإشارة إلى المرادف المطلوب من بين جميع المترادفات التي قد يتجه إليها الذهن, ولنرجع إلى المثل السابق لتوضيح ما نقول، فنفترض أن هناك صورة كتابية تدل على هذا الصوت por "بور" كما هو في الفرنسية فلكي يؤمن اللبس، تضاف إلى الصورة علامة خاصة يدل بها على أن المقصود هو الحيوان pore أو الميناء البحري port أو حمل شيء ما port أو انتصاب القامة port أو ثقب من ثقوب البشرة pore. فهذه العلامة هي مفتاح اللغز. والصينية هي التي طبقت هذه الطريقة تطبيقا منهجيا كاملا. وقد قلنا بأن الصينية، وهي لغة لا تصريف فيها، أكثر اللغات قبولا للكتابة التصويرية. ولتلافي اللبس الناجم من التعبير بصور مختلفة عن الصوت الواحد، اخترعت الكتابة الصينية أنواعا من الأسس تركبها مع الصورة الصوتية لتعين بها معنى الكلمة، هذه الأسس كانت فيما مضى غير محدودة العدد، فقصر عددها في سنة 1616 على 214 أس، واستقر عددها على هذا الوضع منذ ذلك الحين، ويطلق عليها في الصينية اسم pou أي "أقسام" أو "طبقات". والواقع أنها مميزات   1 انظر فوسي Fossey: رقم 72، المجلد الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ولكن الكتابة الهيروغليفية كان حتما عليها أن تصير كتابة صوتية بعد حين، وخاصة لأنها كانت تستعمل في تسجيل لغة ذات تصاريف. وأول مرحلة أمكن الوصول إليها في هذا السبيل هي مرحلة المقطعية. وهي مرحلة على جانب من الأهمية لأنها تبرز لنا أهمية المقطع "انظر ص85", ولكن لا ينبغي أن يغرب عن بالنا أن المقطعية كانت من مستلزمات تطور الكتابة التصويرية نفسه. فهذا الأمر يوجد بطبيعته في اللغة الوحيدة المقطع، إذ إن كل كلمة من كلماتها تتكون من مقطع واحد, أما في اللغات الأخرى فإن الأمر ينتهي إلى نفس النتيجة بسبب أن كل صورة كتابية كانت تستعمل للدلالة على مقطع واحد "هو المقطع الأول على وجه العموم" من الكلمة التي تمثلها تلك الصورة. وهذا هو السبب في أن أسماء الحروف في الأبجدية السامية مثلا هي بعض أسماء الأشياء المختلفة التي يبدأ اسمها بالحرف المقابل، وكذلك الحال في الأبجدية الأجامية عند الإرلنديين. وفضلا عن ذلك تمتاز المقطعية بالاختصار؛ لأنها تسجل السواكن المبدئية للمقاطع بدقة ويمكن أن يكتفي بها على وجه الإجمال بالنسبة للغات التي ليس فيها مجاميع من السواكن والتي يمكن فيها تعيين نغمة الحركة بواسطة اعتبارات صرفية كما هي الحال في اللغات السامية. ومن ثم أمكن لهذه المرحلة الوسطى أن تكون مرحلة نهائية في كثير من الحالات. فلم تلجأ السامية إلى الإشارة إلى الحركات إلا في عصر متأخر، عندما بدأ يستعمل اللغة أناس لا يعرفونها معرفة تامة. وجدت المقطعية مكانا لها في الشرق الأقصى أيضا, فقد استخرج اليابانيون من الكتابة الصينية الجارية، بعد محاولات كثيرة لا يعنينا أن نتكلم عنها في هذا المقام، أبجدية تتكون من سبع وأربعين علامة ويطلقون عليها اسم "كاتا-كانا". "kata-kana". ولكنهم لا يستعملونها بصفة مطردة، لأن نظام الكتابة الجارية عندهم مرحلة وسطى بين الكتابة الصينية والكتابة المقطعية. أما أهل كوبا فقد اتخذوا كتابة مقطعية من أصل آرامي وجعلوا منها كتابتهم الوطنية "انظر أواخر هذا الفصل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 تعتبر الكتابة القبرصية أيضا من الكتابات المقطعية، وقد نجح العلماء في فك طلاسمها بفضل استعمالها في تسجيل اللغة الإغريقية1؛ لذلك كان ما لدينا مسجلا بهذه الكتابة نصوصا إغريقية على وجه الخصوص. وأصل هذه الكتابة غير معروف، ولكن من المحقق أنها ابتكرت لتسجيل الإغريقية، وإن كانت لا تسجلها إلا بصورة ناقصة. وقد استعيض عنها في قبرص نفسها بالإنجليزية الإغريقية. الأبجدية الحرفية آخر مرحلة في سبيل استكمال الكتابة, وقد أدت إليها الحاجة إلى رقم الحركات دون اضطرار إلى زيادة العلامات التي كانت تكون الأبجدية المقطعية. إذ أخذت الأبجدية المقطعية السامية في وقت من الأوقات تزود برموز لرسم الحركات نسميها matres lectionis "علامات الضبط" وذلك لتيسير القراءة. وقد أحسنت الأبجدية الإغريقية استغلال هذه الرموز حتى خلقت منها علامة لكل حركة, وقد كتب ربنان أن "الإبجدية الحرفية من خلق الساميين"2. ولم تلبث الأبجدية الإغريقية، بعد استكمالها على أيدي اليونيين، أن انتشرت في كل بلاد الإغريق على وتيرة واحدة. وقد نقل الإغريق الأبجدية إلى جهة الغرب.   1 عن فك طلاسم النقوش القبرصية انظر بريال، Jurnal des savants أغسطس وسبتمبر 1877. 2 رقم 111، ص114. 3 les civilisations prehelleniques dans le bassin de la: Dussaud mer Egee. الطبعة الثانية، ص434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ففي إيطاليا انتقلت الأبجدية إلى اللاتينيين وإلى الأترسكتين من كوميس Cumes, وهي مستعمرة من مستعمرات أوبين دي شالسيس Eubeens de chalcis ودخلت الأبجدية وادي الرون على أثر تأسيس مرسيليا، ولا زلنا نعثر فيه على نقوش جولية مكتوبة بالحروف الإغريقية وترجع إلى بدء التاريخ الميلادي. أما من الناحية الشرقية فإن الآرامية هي التي قامت بدور نشر الأبجدية، وهو دور عظيم تبرره ظروف التاريخ, ولكن التغير الذي طرأ على الكتابة هو الذي ساعد على القيام بهذا الدور. فكما أن استعمال الأوراق البردية والحاجة إلى الإسراع في الكتابة قد أديا إلى تحول الكتابة الهيروغليفية في مصر إلى كتابة هيراطيقية ثم إلى كتابة ديموطيقية، فإن الكتابة الفينيقية قد أخذت عندما استعملت في الآرامية صورة جارية وعملية، إذ استدارت الزوايا وانمحت رءوس الحروف، وصارت الشرط المتطرفة تنتهي بنوع من الذيل يدور حول نفسه, وقد امتدت الأبجدية الآرامية إلى الهند, إذ إن معظم النظم الكتابية المستعملة في آسيا الوسطى مشتقة منها. هذا وقد أمكن لها أن تصل إلى الشرق الأقصى، فهي التي تكون الكتابة الكورية التي تستعمل حتى اليوم. الكتابة الحرفية، وهي آخر مراحل التطور الكتابي، انتشرت في أوربا ابتداء من التاريخ المسيحي بفضل الإغريق والرومان, والذي يفسر هذا الحادث سبب تاريخي، وهو انتشار المسيحية, فإن الحواريين الذين لقنوا المسيحية للشعوب الوثنية علموهم أيضا قراءة النصوص المقدسة، واضطرهم ذلك إلى تكوين أبجديات على نسق الأبجدية التي كانوا هم أنفسهم يقرءون بها هذه النصوص, ومن ثم اتخذت الأبجدية الإغريقية مثالا للأبجدية القوطية بفضل فلفيلا wulfila. وللأبجدية السلافية بفضل سيريل Cyrille وميتود Methode. أما الألمانية القديمة والإنجليزية القديمة والإيرلندية القديمة فقد اشتقت كتابتها من الأبجدية اللاتينية. نحن نعرف على وجه العموم الصورة التي تكونت بها هذه الأبجديات المختلفة ففلفيلا مثلا بدأ بأن أخذ من الأبجدية الإغريقية جميع الحروف التي تعبر عن أصوات موجودة في لغته، واحتفظ لها بقيمتها, وبالنسبة للأصوات الأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ومهما يكن من شيء، فهناك خلاف جوهري بين الأبجديات المشتقة من الإغريقية والأبجديات المشتقة من اللاتينية. فالأولى قد وضعت بدقة تامة وقام بها أشخاص ذوو حس مرهف بالروابط الصوتية فأظهروا في تسجيلهم لفروق النطق الدقيقة مهارة فائقة, ومن كانت الأبجدية القوطية التي قام بها فلفيلا wulfila أداة لائقة وعلى جانب كبير من الدقة، والأبجدية السلافية التي وضعها سيريل وميتود تعتبر تحفة حقيقية. فما أوسع الفرق بينها وبين أبجدية الإنجليزية السكسونية أو الإيرلندية! فهؤلاء قد ظلوا قرونا طويلة يفتشون عن وسيلة يطبقون بها الأبجدية اللاتينية على لغتهم، ولكنهم لم ينجحوا قط في مسعاهم. والحقيقة أن وسائل الأبجدية اللاتينية كانت تقصر على الغرض الذي هدفوا إليه, فالنظام الصوتي لكل من هاتين اللغتين يختلف عنه في اللاتينية أشد اختلاف إذ تحتوي اللاتينية على عدد هام من الأصوات الانفجارية، مجهورة كانت أو مهموسة؛ أما الإيرلندية فتمتاز بالأصوات الاحتكاكية، هذا إلى أنها أكثر تنوعا في الأصوات من اللاتينية. والكتابة الإيرلندية قامت شيئا فشيئا ممزقة وعلى فترات، تكونت بعد تحسسات طويلة وبعد سلسلة طويلة متتابعة من الإجراءات الناقصة غير المتصلة؛ لذلك كان تفسيرها يتطلب دائما مجهودا من القارئ, فهي عكس الكتابة القوطية على خط مستقيم، تلك الكتابة التي نشأت دفعة واحدة وبطريقة منهجية في ذهن مبتكرها. ولكن لا ينبغي لنا من ذلك أن نضيف إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 هذا المبتكر فضل هذا النجاح كاملا, إذ إن المادة التي كانت موضع دراسته كانت أكثر قبولا للنجاح, فالقوطية كما عرفنا إياها فولفيلا، ذات اطراد نحوي جميل، يكشف عن لغة مشتركة قد سويت واستقرت؛ أما الإيرلندية فكانت على جانب لا يوصف من الفوضى في اللحظة التي حاول فيها أهلها أن يثبتوها بالكتابة, ويمكننا أن نقرر نفس الشيء بالنسبة للسلافية القديمة في مقابلة الألمانية القديمة أو الإنجليزية القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الجزء الخامس: الكتابة الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها ... تعبر على نحو ما عن الأفكار العامة والطبقات الاجتماعية والطبيعية والكليات العقلية, فعلى هذا النحو تتكون الحروف الصينية من عنصرين: الأولى صورة الفكرة ideogramme التي صارت صورة صوتية phonogramme، وتعبر عن الصوت المقطعي الذي يكون الكلمة، والثاني بمثابة مفتاح المشكلة ويعين معنى الكلمة. اللغات التي من أجلها اخترعت الكتابة المسمارية والهيروغليفية أول ما اخترعت، كانت لغات تصريفية؛ لذلك لم تنجح فيها إلا بقدر ضئيل تلك الطريقة التي استعملت في تكميل الكتابة الصينية. ومع ذلك فإن المصريين باختراعهم للمميزات، قد أوجدوا ما يعادل الأقسام عند الصينيين, فالصورة الهيروغليفية التي تقرأ ankh تدل إما على "الحياة"، وإما على "الأذن" فإذا ما أريد بها أن تدل على هذا المعنى الأخير بالذات صحبت بصورة الأذن التي تؤدي وظيفة المميز, ومن ثم نعثر في الكتابة المصرية -حتى بعد أن صارت كتابة صوتية محضة- على بعض المميزات المتفرقة التي أبقت التقاليد على استعمالها أما الكتابة المسمارية فلم تخل يوما -حتى في أوج انتشارها- من بعض حالات اللبس, ولتسهيلها من الوجهة العملية اضطر أهلها إلى جعلها مقطعية، وعلى هذه الصورة نراها تستعمل في تسجيل إحدى اللغات الهندية الأوربية، وهي الفارسية القديمة وذلك في نقوش دارا. ولكنها على وجه العموم كانت أقصر الكتابات التصويرية عمرا، وسمارية الأشمينين كانت آخر مثال منها, إذا لم تلبث أن استعيض عنها في كل مكان بكتابات صوتية، ولا سيما بالكتابة الآرامية المشتقة من الأبجدية الفينيقية. أما الأبجدية الفينيقية -نحو ما نراها على شاهد ميسا Mesa القبري "وهو اليوم في متحف اللوفر" ذلك الشاهد الذي يرجع إلى ما قبل المسيح بتسعمائة سنة فإن البعض يعدها صورة مشوهة من الكتابة الهيروغليفية, ولكن هذا التشويه قد وقع بالتدريج على خطوات عدة, وقد بينا فيما سبق كيف يصل التطور الطبيعي بالصورة الفكرية إلى أن تصير صورة صوتية, وقد استقرت بعض الكتابات كالصينية في منتصف الطريق بين الخطتين بفضل نظام من التراكيب العلمية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم أحسن بنو الإنسان في كل العصور أهمية اللغة المكتوبة، فأرجعوا أصل الكتابة إلى الوحي الإلهي. إذ اعتقد العبريون أن موسى تلقاها من ذات الإله، وعزاها المصريون إلى الإله توت "أفلاطون، فيدروس: 274"، ووضع الإغريقيون اختراع الكتابة في نسق مع ممارسة الزراعة واكتشاف النار، فرفعوا كدموس Cadmus إلى مرتبة تريتوليم Triptolieme أو بروميتيه Promethee. ولكن ليس معنى هذا أن الأولين من بني الإنسان قد صدمتهم فائدة هذا الابتكار، أو أنهم أحسوا الخدمات التي يمكن أن يؤديها إلى سلالتهم؛ بل لقد رأوا في الكتابة إجراء غيبيا أثار انتباههم بخصائصه المخوفة, فالكتابة بالنسبة إليهم كانت علما, والعلم قد أثار دائما خوف البشر، وهم على حق في ذلك لأنه يسمح لمن يستحوذ عليه بفعل الشر والخير على السواء. أولئك الذين بدءوا باستعمال الكتابة كانوا يستعملونها في عمليات شبه سحرية, فالكتابة في أصلها كانت طريقة من طرق السحر, وقد احتفظت اللغة المكتوبة بهذه الصفة زمنا طويلا، فكتابة اسم على قطعة من اللحاء أو من إهاب حيوان، كان معناها إمساك الكاتب لصاحب الاسم تحت تصرفه، معناها قسره وتقييده, معناها القدرة على رفعه أو خفضه، على نجاته أو إهلاكه تبعا لإرادته, وأول ما خط من سطور تحتوي على اسم أحد الأشخاص، كان ضربا من الرقى: تعاويذ يقصد بها النجاح أو الشفاء، الإخضاع أو الإضرار. وإذا كانت الكلمة الملفوظة لها قوة سحرية "انظر ص238" فالكلمة المكتوبة من باب أولى. ومن ثم كان الكتاب الأولون من السحرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الكتابة والقدر SORT لا ينفصلان عند كثير من الشعوب؛ فالكتابة عند الكلتيين والجرمانيين من عالم "الغيب" "بالقوطية RUNA", وهي ضرب من ممارسة السحر1, وقطعة الخشب التي تحفر عليها الحروف كانت تستخدم في نفس الوقت للأذى السحري, وظل المعنيان مختلطين حتى أيامنا هذه في مفردات الأرلنديين والبريتانيين, وكما أن كلمة Buchstabe "ومعناها الحرفي: عصا من الزان" تدل على "الحرف" في الألمانية، فإن كلمة crann-chur "قذف الخشب" معناها "القدر" في الإيرلندية، وكذلك كلمة coel-bren "حرفيا: خشب النبوءة" في الغالية2. وحتى بعد أن تجردت الكتابة من كل صفة سحرية، ظلت محاطة بهالة من الخوف والاحترام. ذلك أن الناس قد احتفظوا بما للنص المكتوب من خرافة, وقد استغل الدين والقانون هذه العاطفة ليفرضا على أذهاننا النص المكتوب الذي لا يعتريه تحويل أو تبديل والحرف الذي يتحدى ما يقتضيه العقل, ونرانا لا نزال نكرر: "هذا مكتوب" أو "لقد كان ذلك مكتوبا" كما لو كنا نشاطر الشرقيين عقليتهم التي تتصور المقدور مسجلا في كتاب كبير تطوى منه في كل يوم صفحة، هذا على أن أهمية النص المكتوب شيء طبيعي, إذ إن المكتوب يبقى، على حين تتبدد الألفاظ. والكلمة إذا سجلت عندما تخرج من بين حواجز الأسنان، استقرت إلى الأبد كأنها وثيقة إثبات، وبعد كل هذا فإن الإنسان يؤخذ "بما كتب". فالكتابة بعد أن لم تصبح رباطا سحريا، قد بقيت رباطا على كل حال. وهكذا نرى أن الاستعمال يتفق مع التقاليد في تأكيد اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة. والواقع أنهما لا يختلطان أبدا. ومن الخطأ أن تظن أن النص المكتوب يعتبر تمثيلا دقيقا للكلام. فلسنا على عكس ما يتصور كثير   1 نكل Neckel؛ Zur Einfuhrung in die Runenforschung Germ. Rom. Monatschrift، مجلد 1، 1909. 2 ج. لوث j. Loth؛ le sort et l'ecriture chez les Anciens Celtes. "مجلة العلماء، سبتمبر 1911، ص403 وما يليها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 من الناس, نكتب كما نتكلم؛ بل إننا نكتب "أو نحاول أن نكتب" كما يكتب غيرنا, وإن أقل الناس ثقافة يشعرون، بمجرد وضع أيديهم على القلم، بأنهم يستعملون لغة خاصة غير اللغة المتكلمة، لها قواعدها واستعمالاتها كما أن لها ميدانها وأهميتها الخاصين بها "انظر ص340". وهذا الشعور له ما يبرره. اللغة المكتوبة هي الطابع المميز للغات المشتركة. واللغة المشتركة بطبعها في نزاع دائم مع اللغة المتكلمة؛ لأن هذه الأخيرة في خضوعها للتأثيرات الفردية، تميل دائما إلى الابتعاد عن المثل الأعلى الذي تحتذية اللغة المشتركة, واللغة المكتوبة معرضة بدورها لضربات اللغة المتكلمة؛ لأن اللغة المشتركة تعتمد في مقاومتها على الكتابة أولا وقبل كل شيء, ومن جهة أخرى تستعمل الكتابة في التعبير عن كثير من اللغات الخاصة، بل لا وجود لبعض هذه اللغات الخاصة إلا في صورة مكتوبة. ولهذا الاعتبار أيضا كان الخلاف بين الكلام والكتابة أمرا مقررا ثابتا. هذا الخلاف يتجلى في أوضح صوره في مسألة الرسم, فلا يوجد شعب لا يشكو منه إن قليلا وإن كثيرا, غير أن ما تعانيه الفرنسية والإنجليزية من جرائه قد يفوق ما في غيرهما, حتى أن بعضهم يعد مصيبة الرسم عندنا كارثة وطنية1. لذلك يهمنا أن نعرف مدى هذا الشر والأسباب التي أدت إليه وأنواع الدواء التي يمكن أن يعالج بها. لعرض هذه المسألة على خير وجوهها، يجدر بنا أولا أن نتساءل إلى أي حد يمكن للرسم أن يخفف من وطأة الخلاف القائم بين الكلام والكتابة، وإلى أي   1 انظر خاصة ارسن در مسنتير: مسألة إصلاح الرسم، في Memoires et documents scol. الكراسة رقم 73، باريس 1888" وفرديناند برينو: إصلاح الرسم باريس 1905؛ ل. هافيه: تبسيط الرسم "Revue bleue 11 مارس سنة 1905"؛ م. بريال: كلمة أخيرة في الرسم "نفس المرجع"؛ موريس جرامون: تيسير الرسم الفرنسي، رقم 17، نوفمبر وديسمبر 1906، ص537، وما يليها. وترى عرضا كاملا للمسألة في دوتنس Dutens، رقم 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 درجة تستطيع الكتابة أن تمثل النطق. فبعض أنواع الرسم تدين بتعقيداتها إلى الرغبة في تعليم القارئ نطق الكلمات على أدق صورة ممكنة, وتنشأ هذه التعقيدات في غالب أمرها في الخارج. فالعناية التي تبذلها اللغة في تسجيل الأصوات ترجع إذن إلى انتشار اللغة بين أقوام لم يكونوا يتكلمونها بسليقتهم, وهكذا تطور استعمال النبرات على الكلمات الإغريقية في مصر، حيث كان يتكلم الإغريقية أناس من غير الإغريق، فكانوا في حاجة إلى العناية بمعرفة الموضع الذي ينبر في الكلمة, وكذلك كان بدء تعليم الكتابة السامية بالحركات في بلاد الحبشة لما دخلت فيها اللغة العربية, إذ إن النصوص الحبشية الأولى مكتوبة بخط سيئ خال من الحركات، فالكتابة الحبشية أول كتابة سامية اتجهت إلى تعليم الحركات، وهذا شيء لا بد منه بالنسبة لقوم لم يتعودوا بعد النظام الصرفي السامي المعقد. وكان ذلك تقدما لا ريب فيه، جعل من الكتابة صورة من الكلام أقرب إلى الحقيقة. ومع ذلك فلا يوجد رسم واحد يمثل اللغة المتكلمة كما هي, فإننا إذا تصورنا رسما مما يسمى بالرسم الصوتي، وقد زود بحروف متنوعة وبعلامات للتشكيل، فإن هذا الرسم لا يتيح معرفة النطق الحقيقي معرفة تامة لشخص لم يسمع الكلام باللغة التي يقرؤها. ومن ثم كان من المعتاد في كتب الأصوات أن تصور الأصوات اعتمادا على لغة معروفة للقارئ لا على الجهاز الصوتي للإنسان, وهذه الطريقة أبسط وأدق من غيرها, فيقال إن هذه العلامة أو تلك تمثل الـTH "ث" الإنجليزية الرخوة، أو الراء البارسية أو الـCH الألمانية الصلبة "خ", وأفضل من ذلك أن يقال مثلا إن الحركة الفلانية هي الـa "الفتحة" الفرنسية في كلمة كذا إذا نطقت على الطريقة الباريسية. وإن كان لا يستفيد من هذا التحديد من لم يسمع كلام إنجليزي أو ألماني أو باريسي. ولكن هذه الوسيلة أيضا غير كافية. لأن القارئ، مهما سوعد بمقابلات دقيقة في اللغات التي يعرفها، لا يستطيع إدراك أصوات لغة جديدة وأن يقوم بتحقيقها دون أن يسمع نطقها بنفسه. ذلك لأن اللغة المتكلمة من التعقيد بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 تشتمل على أكداس من تفاصيل الشدة والتنغيم والنطق الفجائي، مما لا يستطيع رسم تصويرها مهما بلغ من درجات الكمال. ففكرة عمل رسم صوتي يطبق على جميع اللغات سراب خداع؛ لأن تنوعات النطق من الكثرة بدرجة يستحيل معها أن يكون الرسم غير تقريبي, وهذا ما نراه في المحاولات التي عملت لإيجاد رسم واحد منسجم لكتابة الأعلام الجغرافية, فقد اصطدم القائمون بهذا الأمر بتلك الصعوبة الدائمة، وهي أن الرسم لا يخلو أبدا من الإيقاع في اللبس1. بل إن علماء اللغة يلاقون أشد العناء في وضع نظام ينطبق على اللغات التي يدرسونها2. إما إذا أردنا أن نصل بمبدأ الرسم الصوتي إلى غايته الحتمية، فإن ذلك يؤدي بنا تقريبا إلى عمل نظم من العلامات المختلفة لكل لغة على حدتها؛ لأنه لا يوجد إلا القليل من اللغات التي تتفق في نظامها الصوتي وفي نظام حركات جهازها النطقي فلا يكاد يوجد صوت واحد مشترك بين الإنجليزية والفرنسية, وإذن يجب وضع علامات مختلفة لرسم الإنجليزية. وهذا يؤدي بنا إلى أن نجعل عدد علامات الرسم غير محدود, لكل ذلك كان من الخير أن ندع الأمور على ما هي عليه، إذ إنه يتحتم على من يريد معرفة قيمة العلامة أن يكون قد سمع الكلام باللغة التي هو بصددها كما بينا سابقا. نضيف إلى ذلك أن أتم نظم الرسم لا تستطيع مطلقا أن تصور الخصائص اللهجية، وأنه لا يمكننا أن نشير في الكتابة مثلا إلى خصائص النطق التي يتميز بها أهل البيكاردي أو الفرنش كنتيه، بله أهل مرسييا أوجسكونيا. وهذه صعوبة أولى. وهناك صعوبة ثانية ترجع إلى أن الرسم الصوتي يصاب بالقصور على مرور   1 انظر كرستيان جرنييه: طريقة عقلية عامة لرسم الأسماء الجغرافية، يمكن أن تطبق على جميع الكتابات المستعملة في العالم، باريس 1899. 2 برجمان Brugmann، رقم 30، مجلد 7، ص167؛ هـ. هرت H. Hirt في صعوبة الرسم، رقم 30، مجلد 21، ص145، وكرستيان برتولومار Chr. Barthalomar رقم 30, مجلد 21، ص366؛ ي. فكرناجل، رقم 30، مجلد 22، ص310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الزمن وبسرعة تختلف باختلاف اللغات, إذ إن السبب الأساسي لأزمات الرسم ينحصر في استحالة مسايرة الرسم لحركة اللغة، وذلك في نفس الوقت خير شهادة على اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة. فاللغة المكتوبة تتطور دون توقف1. أما اللغة المكتوبة فمحافظة بطبعها، لا لأنها تعبير مشخص للغة المشتركة وقد قننها النحاة فحسب، بل أيضا لأنها لا تستطيع التغير بنفس السرعة التي تتغير بها اللغة الكلامية. نعم إن قوة التقاليد تصير أمرا خطيرا عندما تحميها المدرسة والآداب وإجماع المثقفين, ولكن التقاليد هنا ليست العقبة الوحيدة في سبيل تطور الكتابة, فالثبات ضروري للغة المكتوبة، لأنها تعتبر لغة مثالية حددت معالمها نهائيا, ولا يمكن المساس بها إلا بعد فوات الأوان, فمهما عنينا بجعل هذا الكساء مرنا مطابقا لحنايا الجسم الذي يكسوه، فلن نستطيع مطلقا أن نخضعه لنزوات الطبيعة وأن نجعله ينمو بنمو الجسم لأنه شيء ميت يغطي كائنا حيا. يدهش الإنسان أحيانا من إبطاء اللغة النقية في مسايرتها للتقدم الذي تقوم به اللغة الكلامية في ميدان الصرف والمفردات, فالأكاديمية لم تجز حتى الآن عبارات من قبيل "je m'en rappelle" أو "de facan a ce que"، مع جريانها في الاستعمال منذ قرن, ولكن لا أهمية لذلك، ما دامت هذه العبارات قد أصبحت اليوم من المقررات, وكثير من الاتجاهات المتنوعة التي تبدو في اللغة يكون مصيرها الإخفاق, وإذا كان الاتجاه جديرا بالبقاء فإنه يتطلب وقتا طويلا للوصول إلى غرضه، فإذا فرضنا أنه سجل في نفس اليوم الذي وصل فيه إلى غايته، كان القيام بهذا العمل متأخرا عن أوانه، ما دام هذا الاتجاه قائما مؤثرا منذ زمن طويل، وكذلك الحال بالنسبة للرسم، فإنه لا يعتمد بطبيعة الحال إلا الصور التي محصت وثبتت بالاستعمال مهما كانت دقته ومسارعته نحو التقدم. ولكن من العسير أن يكون الرسم دائما دقيقا سباقا إلى التقدم, إذ يجب   1 عن تاريخ النطق في الفرنسية انظر تورو Thurot رقم 126، وروسيه: رقم 112؛ وعن النطق في الإنجليزية. انظر إليس Ellis رقم 23، 1873-1874. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 التفريق بين اللغات بالنسبة لهذا الاعتبار. ويدهش الإنسان أحيانا بحق عندما يرى اختلاف لغات مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والأسبانية من حيث قيمة الرسم. فرسم الألمانية لا يعد رديئا ورسم الأسبانية جيد جدا، أما رسم الإنجليزية أو الفرنسية فسيئ, ولا يمكن أن يسبقهما في هذا المضمار إلا رسم لغة التبت أو اللغة الإيرلندية, وقد ذكر بعض علماء اللغات الكلتية على سبيل التسلية رسم بعض الكلمات الإيرلندية من قبيل saoghal وlanamhain وOidhche وcathughadh التي تنطق على وجه التقريب sil وlanun وi وcahu. وبهذا تستطيع الإيرلندية أن تستثير غيرة الفرنسية التي تكتب oiseau ما تنطقه wazo والإنجليزية التي تكتب وenough وknight وWrought وتنطق enaf وnaft وrot. ولكنا لا ينبغي لنا أن ننسى الظروف المخففة في حكمنا على هذه اللغات، فالاختلافات التي نلاحظها بين الرسوم المختلفة ترجع إلى أسباب تاريخية. لنلاحظ أولا وقبل كل شيء أن اللغات المشتركة التي تعبر عنها هذه الرسوم قد تكونت في عهود على جانب من القدم, ثم لنلاحظ بعد ذلك أن التطور الصوتي في بعض اللغات أسرع منه في غيرها وأنه يغير نطق الكلمات تغييرا تاما؛ فالإيطالية والأسبانية قد بقيتا أقرب إلى اللاتينية من الفرنسية بكثير. والإنجليزية قلبت النظام الصوتي الذي ورثته عن الجرمانية, ولنلاحظ على وجه الخصوص أن الظروف التي نشأت فيها الرسوم كانت تختلف في كل قطر عنها في الآخر, وقد أثر على الرسم كثير من الأسباب الخارجية بل والفردية, مثل ذلك تأثير المصلح الديني الغالي سالسبوري Salisbury الذي صارت ترجمته للكتاب المقدس في سنة 1567 حجة، فالعادة التي أدخلها في كتابة الضمير الذي لا ينطق إلا i "اِي" على هذا النحو ei ظلت متبعة حتى أيامنا هذه. وفي روسيا أثر تقاليد اللغة السلافية القديمة، وهي لغة دينية كانت من القوة بحيث جعلت الروسية الحديثة تكتب حالة من حالات الإضافة togo في حين تنطقها tavo, وتأثر الرسم عندنا في نهاية القرن السادس عشر بأثر العلماء المشربين بالروح الكلاسيكية ومسائل علم الاشتقاق. فهم أول المسئولين عن المتاعب التي نعاني اليوم نتائجها، ولكنهم كانوا على اتفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 مع روح العصر الذي عاشوا فيه, وهذه الحالة النفسية بذاتها قد وقعت في أيرلندة حيث وضع الرسم بعد محاولات عديدة قام بها قوم من المتحذلقين المفتونين بحب التقاليد, ففي غضون القرن السادس عشر قامت محاولات لإصلاح رسم اللغة الغايلية في المخطوطة الشهيرة التي قام بنسخها السير جيمس مكجريجور Sir james Macgregor، عميد لسمور lismore "في أرجيلشير Argyllshire، وبفضل هذا الكتاب يمكننا أن نحكم بمقدار اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة في ذلك الحين, ولكن لا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير ما في الرسم الأيرلندي من تعقيدات فجزء كبير منها يرجع إلى غلطة مبدئية تنحصر في اتخاذ الحروف علامات لتحديد نطق الحروف الأخرى, وهذا قد طبع الكتابة بطابع ممل، ولكن يمكن التعود عليه بعد قليل من الممارسة, والدليل على جودة الرسم التقليدى في بعض الأحيان أننا نستطيع بشيء كثير من الدقة أن نقرأ النصوص الأيرلندية المعقدة التي ترجع إلى عهد مخطوطة عميد لسمور، بينما نعجز عن تحديد ما لبعض رسوم هذه المخطوطة نفسها من قيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ينطقون الكلمات Chaptel "سلالة" وdompter "يروض" وsculpter "ينحت" promptement "على الفور" بالمجموعة الصوتية pt "بت"، وهو نطق غير سليم. وهناك ما هو أنكى من ذلك؛ فإن كلمة lais القديمة -وهي من فعل laisser "يدع"- قد كسيت رداء جديدا لم يكن من حقها أن تلبسه، فصارت تكتب legs بحرف g، وذلك تحت تأثير الفعل leguer "يودع". واليوم ينطقها الكثيرون بهذا الحرف كما ينطقون اسم العلم Laygues, ومن ثم نرى أن الرسم من العوامل التي تؤدي إلى تغيير المفردات1. فنراه يفصل بين festoyer وfete وبين legs وlaisser بينما نراه يصل forsene ""متهور غضبا"" بكلمة force "قوة" وذلك بكتابتها forcene كما أنه يحرف الاشتقاق بعض الأحيان؛ فإن الاستعمال السيئ لـ"ge" بدلا من "j" قد أوجد كلمة Gageure التي ينطق بها سواد الناس في عصرنا هذا على وزن beurre، مع أنها مشتقة من gager "راهن" بواسطة اللاحقة ure مثل picure "لدغة" من piquer "لدغ" وmouillure "تبلل" من mouiller "بلل". وإذا أردنا أن نعدد هنا آثام الرسم في الفرنسية فلن نستطيع الانتهاء منها2. وإن المناقشات التي دارت حديثا حول هذا الموضوع قد سمحت بتسجيل قوائم بهذه الآثام وإن في مادتها من الغزارة ومن الشهرة ما يعفينا من محاولة ذكرها في هذا المكان. وهي دائما في سبيل الزيادة، لأن أزمة الرسم تتوقف على الظروف الاجتماعية التي تتطور فيها اللغة، فبمقدار اتساع الخلاف بين الفرنسية الأدبية والفرنسية الكلامية "انظر ص343-344" تزداد حدة الشر؛ لأن عددا من الكلمات التي تستعمل الآن في المحادثة سيترك نهائيا اللغة المكتوبة وعندئذ لا يحفظ إلا من الكتب ولا تعمل على الاحتفاظ بسلامة نطقها أية رواية شفهية، فتصبح هذه   1 عن وجود حالات من هذا القبيل في الألمانية انظر Behaghel تأثير الكتابة في مفردات اللغة، مجلة اتحاد اللغة الألمانية، مجلد 18، ص35-40 وص 68-76. 2 ا. جازييه A. Gaziera: الرسم عند آبائنا وعند أطفالنا في Melanges de litterature et d'hsitoire، باريس "1904" ص321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الكلمات بمثابة الكلمات الأجنبية التي تدخل في اللغة بواسطة الكتب, فنحن نقول rail "شريط السكة الحديد" أو wagon "عربة القطار" متأثرين بالصورة المطبوعة فنطبق النطق الفرنسي على الرسم الإنجليزي؛ ولكنا نقول Bifteck على النطق الإنجليزي، لأننا أخذنا هذه الكلمة عن الرواية الشفهية. وكلمة gageure كل صحفية مثل كلمة rail وكلمة wagon؛ وهذا يفسر لنا ما طرأ عليها. فالكتاب يعكس دائما في اللغة رد فعل الصورة المكتوبة على الصورة الشفوية. وفي إنجلترا أيضا يعلن تباين اللغتيين عن نفسه منذ زمن طويل. فرطانات الأقاليم الإنجليزية مشربة جميعها باللغة الأدبية من تأثير الكتب والصحف بوجه خاص. وهذه اللهجات ليست في غالب أمرها إلا اللغة الأدبية بعد أن صبغت بالصبغة اللهجية كما هي الحال في فرنسا "انظر ص336 و337". غير أن صبغ اللغة الأدبية بالصبغة اللهجية يعرض صاحبها للوقوع في الأخطاء, وهذا مثل نموذجي من تلك الأخطاء؛ كلمة light التي تنطق lait في اللغة المشتركة لا تزال تنطق lixt في شمال القطر وبالقياس على ذلك راح أهل الأقاليم ينطقون كلمة delight كأنها dilixt بدلا من dilait مع أنها من أصل آخر غير الكلمة الأولى، وقد يجمعون بين الخطتين فيقولون في Light؛ Laixt, وهي طريقة أخرى لصبغ اللغة بالصبغة اللهجية على نحو خاطئ1. تأثير الرسم على النطق في الألمانية أشد منه في الفرنسية أو الإنجليزية، وهذا يرجع إلى أن الألمانية المشتركة لغة كتابية أولا وقبل كل شيء "انظر ص332" ففي إبان تكوين اللغة المشتركة سوى النطق على الرسم في غالب الحالات؛ لأن الرغبة كانت تتجه في ذلك الحين إلى إقامة نطق عام، لا هو نطق إقليم معين ولا نطق مجموعة اجتماعية بعينها، فالاستعمال كان يتجه ولا زال يتجه إلى تطبيق الألمانية الكلامية على رسم الألمانية الأدبية. فمن ذلك مثلا، أن الحركة المركبة ie في الألمانية العليا الوسطى صارت i طويلة "ي" دون أن يتغير الرسم لهذا السبب، ولكن لما كانت المستشارية السكسونية تكتب je بدلا من ie عندما تكون   1 و. هورن: رقم 169، ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 في مبدأ الكلمة، فقد أدخل هذا الاختلاف في النطق أيضا، ومن ثم نرى jemand "بعض الناس" وje في مقابلة niemand "لا أحد" وnie "لا"1. ومع ذلك فإن الألمانية تمتاز عن الفرنسية والإنجليزية بأن الرسم بعد أن استقر فيها بقي ثابتا. أما في الفرنسية فإن التباين الذي بين الفرنسية الكتابية والفرنسية الكلامية لا يزداد مع الأيام إلا اتساعا. لا يمكننا إلا أن نمتدح المجهودات التي تبذل لإصلاح عيوب الرسم. وحجة القائمين بها تتلخص فيما يلي: الرسم الفرنسي عبارة عن نظام توافقي قام بوضعه جملة وتفصيلا طائفة من متحذلقي العلماء. وما وضعه التوافق يستطيع التوافق أن يلغيه. وليس في إصلاح رسم اللغة إضرار باللغة نفسها. بل إن في ذلك تخليصا لها من داء ينخر في جسمها وتوفيرا لوقت ثمين يضيع على أولادنا هباء منثورا وتسهيلا للأجانب الذين يتعلمون لغتنا. وكلها أسباب وجيهة وكنا نتمنى لو أنصت لها الناس في كل مكان, ولعله كان يلزم لذلك أن تكلف لجنة من العلماء المختصين بالبحث عن الوسائل الناجعة في إصلاح الرسم في الفرنسية، وأن يكون ذلك بصفة دائمة, كما يفعل الأطباء إذ يسهرون على المريض حتى شفائه التام. وهذا العمل يستلزم وقتا طويلا، إذ لا ينبغي أن يسار فيه إلا ببطء شديد, إذ إن هناك أسبابا كثيرة تبعث على التبصر في هذا الأمر. وسنشير فيما يلي إلى بعضها. فإذا قمنا بإصلاح شامل دفعة واحدة كنا قد استبدلنا مكان اللغة المكتوبة التي تعودنا عليها لغة كتابية أخرى جديدة, ويترتب على هذا أن نطرح وراء ظهرنا دفعة واحدة جميع المطبوعات التي نشرت بالفرنسية منذ قرون، وهو أمر مستحيل، هذا إلى أن مثل ذلك العمل يوجب على جيل أو جيلين من الفرنسيين أن يتعلموا لغتين بدلا من لغة واحدة، وإن هناك من العادات والتقاليد الأدبية ما لا يستطيع المرء أن يغيره بجرة قلم واحدة. وطبعا من الواجب جعل الفرنسية   1 و. برونه: في توحيد اللغة الألمانية، في Akademische Festrede, هال "1905". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أسهل تحصيلا وأقرب منالا بالنسبة للأجانب. وعلى الفرنسيين الذين يرجون لقطرهم مستقبلا استعماريا ناجحا، أن يفكروا في صعوبة كتابتهم الكفيلة بأن ينفر منها من يريد تعلمها من سكان إفريقية الوسطى أو الشرق الأقصى, ولكن يبدو أن صعوبات الكتابة الإنجليزية لم تعرقل نجاح الإمبراطورية الإنجليزية, وإنه ينبغي بذر الاضطراب في العادات التي درج عليها مواطنونا في سبيل إرضاء بعض الأجانب. والواقع أن أقل تغيير في قواعد الرسم كفيل بزعزعة العادات المكتسبة زعزعة ضارة؛ لأننا إذا طبقنا الحد الأدنى من الاصطلاحات التي يقترحها المصلحون, لم تبق صفحة واحدة مكتوبة بالفرنسية ودون أن تتغير تغيرا تاما, ويتحتم على العين والفكر أن يظلا ساهرين على تصحيح ما يقع من أخطاء حتى يصابا في نهاية الأمر بالملل, ولكن يمكن الإجابة على تلك الاعتراضات بأن الصعوبات الناشئة لا يمكن أن تؤثر على أكثر من جيل أو جيلين، وأن ما نعمل نحن على نسيانه من العادات القائمة يوفر على أحفادنا مئونة حفظه, وهذه إجابة وجيهة, ومع ذلك فإن الاعتراض ينبهنا إلى مقدار التبصر الذي يجب أن نراعيه في كل إصلاح للرسم. فإذا ما اقتصرنا على التبسيط التدريجي حسب خطة موضوعه, فإننا نكون قد احترمنا حقوق اللغة الكتابية التي لا ينبغي لنا أن نهدرها. يميل بعض العلماء إلى اعتبار اللغة المكتوبة خادما مطيعا للغة الكلام, وهذا رأي طائفة من علماء الأصوات وأساتذة اللغات الحية الذين يهتمون بالحد من تطرف أساتذة المدارس، أولئك الذين يحصرون اللغة كلها في اللغة الكتابية. ولكن هل يجوز لنا حقا أن نقول بأن تلك الكلمة المكتوبة تنطق على هذا النحو وأن تلك الكلمة الملفوظة تكتب على ذاك؟ وهل توجد الكلمة في الصوت المنبعث من الفم أم في الكتابة التي تسود وجه الصحيفة؟ الواقع أنها بالنسبة لكل شخص متحضر توجد في هذه وفي تلك على السواء, فكثير من المتحضرين يتفاهمون فيما بينهم بالكتابة أكثر مما يتفاهمون بالكلام. وأغلب الظن أننا إذا رجعنا إلى أصول الكتابة وجدنا أن اللغة المتكلمة هي المنبع الذي استمدت منه اللغة الكتابية. فعندما اعتزم فلفيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 wulfila أن يسجل لغة القوطيين اجتهد في أن يوجد لكل صوت من أصوات اللغة صورة كتابية مناسبة. وبهذا المعنى يصح لنا أن نقول إن الكتابة قد اقتفت أثر النطق, ويسير الحال على هذا المنوال في أيامنا عندما يعمد أحد الجوابين إلى تسجيل لغة من لغات البدائيين لم تكن قد كتب من قبل, طبعا لا يدرك الأمي من الكلمة إلا صورتها السمعية، ولكن عندما تنتشر الكتابة ويفرض تعلم القراءة على جميع أبناء القطر تزداد أهمية الكلمة المكتوبة شيئا فشيئا. واليوم لا نستطيع أن نتصور اللغة دون صورتها الكتابية. ولا تظهر الكلمات أمام أذهاننا إلا في الثوب الذي يخلعه عليها الرسم. فيمكننا أن نقول هنا إن العضو قد خلق الوظيفة، وأية وظيفة؟ وظيفة بلغت من الطغيان حدا جعل اللغة المكتوبة تفوق اللغة الكلامية وضوحا عند بعض الناس، وهم أولئك الذين نطلق عليهم اسم البصريين, فنسمع بطلا من أبطال دي موسيه يقول بأنه لا يستطيع أن يفهم بوضوح إلا ما كان مكتوبا بالخط المستدير المجسم, هذه الفكاهة المسلية يمكن أن تنطبق على كثير من الناس, فهذا مثلا لا يفهم صفحة يسمعها ولا يحسن فهمها إلا إذا قرأها, وذلك لا يستفيد من درس يلقى عليه إلا إذا هُيِّئ له بعد ذلك أن يرى فحواه مطبوعا أمام عينيه. إن هذه حالة قصوى تلفت النظر بندرتها, ولكن إذا راقب كل منا نفسه بعض الشيء، تحقق من قربه منها إن قليلا وإن كثيرا. عندما نسمع حديثا ما نلاحظ في أغلب الأحيان أن الكلمات تقرع في نفس اللحظة جهازنا البصري بقدر ما تقرع جهازنا السمعي، بمعنى أن الأثر الواقع على المراكز السمعية ينتقل بدوره إلى المراكز البصرية, وحينئذ نبصر الكلمات التي تسمعها أذننا, بل نحن أيضا عندما نتكلم نرى الكلمات التي نلفظها، فتمر أمام عقلنا كأنها مسطورة في كتاب مفتوح, والصورة التي تتخذها على شفتينا محددة غالبا بالمنظر الذي تظهر فيه أمام عقولنا. لذلك كان من خير الوسائل لتجنب أخطاء النطق أن نرجع إلى صورة الكلمة البصرية التي تصحب دائما صورتها السمعية في ذهننا, وكذلك صورة الكلمة البصرية يصحبها عند القراءة إحساس سمعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فنرانا نغني لأنفسنا جمل الكتاب الذي نقرؤه, وعندما نكتب، نرى قلمنا يتبع الإشارات التي يمليها على الصوت الداخلي, فيمكننا أن نقول بأنه في أثناء النشاط اللغوي لدى الشخص المتحضر العادي، تشترك صورة اللغة جميعها في العمل. اللغة الكتابية إذن ذات أهمية عظيمة في سيكولوجية اللغة، فما دمنا نعلم القراءة والكتابة للأطفال، يجب ألا نسقط من حسابنا حقوق اللغة الكتابية وإن تعارضت أحيانا مع حقوق اللغة الكلامية، ولكن هذه الحقيقة لا تستبعد إمكان إصلاح الرسم. إذ من الطبيعي أن نعمل على تضييق الشقة بين اللغة الكتابية واللغة الكلامية. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن الحصول على تعادل تام بين اللغتين أمر مستحيل؛ وإذا كانت الكلمة توجد في الصورة الكتابية وفي الصورة الكلامية على السواء، فلعله ليس من الشر أن يوجد في الرسم بعض وجوه من الشذوذ والنفور والعيوب, فبذلك تحفر صورة الكلمات في الذاكرة بطابع أعمق, وإن غرابة اللباس تعبر بشكل أوضح عن الفكرة التي ترتديه. يقول فولتير: "الكتابة صورة الصوت، فكلما قربت منه في سيماها، كانت خيرا" وهذا القول لا يصدق إلا من الناحية النظرية، ولا يمكن أن يتخذ مبدأ وطريقة إلا عندما يحتاج الأمر إلى وضع كتابة للغة جديدة، أما في لغة كاللغة الفرنسية، فإننا نحد من نطاق الكتابة دون مبرر، إذا أردنا أن نجعل منها صورة للكلام نعم أغلب الظن أن اللغة المكتوبة قد ولدت من اتفاق قام بين بضعة أفراد, ولكن هذا الاتفاق قد امتد حتى شمل المجتمع بأسره وفرض نفسه عليه بقوة صارمة, وليس العقل هو الذي ينظم حياتنا الاجتماعية، بل العادة, وحجج الفلسفة كلها عبث في عبث أمام قدرة العادة. فعندما أريد الاستفادة في العمل من نور النهار أطول مدة ممكنة، كان المعقول أن تغير مواعيد العمل، لا أن تغير الساعة، ومع ذلك فإن الساعة هي التي غيرت، لأننا لم نقبل أن نتناول طعام الغذاء في الساعة الحادية عشرة إلا إذا أطلق على هذه الساعة اسم الظهر, فنحن عبيد العادات الاجتماعية إلى هذا الحد والرسم هو إحدى هذه العادات بالنسبة لكل شخص متحضر, فلا يمكن إصلاحه إلا بأشد الحذر وباستيحاء العادة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 خاتمة: تقدم اللغة تقدم لنا الكتابة مثالا فائقا على تلك الأدوات التي يخلقها الإنسان والتي تستكمل مع الزمن وجوه الكمال التي يستلزمها الاستعمال أو يوحي بها فبين العلامات التي كانت تحفر بالأمس على الأحجار وبين الحروف التي تطبع اليوم على الورق تقدم شاسع لا ينحصر في الناحية المادية وحدها. يتوقع الإنسان أن يصل إلى مثل هذه الخاتمة في دراسة اللغة باعتبارها نتيجة عمل عقلي قامت به الأجيال المتوالية. أليست أداتنا اللغوية أيضا تسير في طريق الإصلاح المستمر؟ والتراكيب المتنوعة التي يصب فيها العقل الأصوات لكي تترجم عن الأفكار، ألم تحقق هي أيضا شيئا من التقدم في خلال الأجيال؟ واللغة تبدو لنا في حركة دائمة، أهي حركة خادعة تبلى مكانها في مجهودات عقيمة؟ أم أن اللغة تهدف نحو غاية مثالية لا تني تقترب منها في كل خطوة من خطوات تطورها؟ نحن نعرف تاريخ بعض اللغات في خلال فترات واسعة ممتدة, ونراها في غالب الأجيال تتغير بسرعة عظيمة, فنحن إذن على حق أن نتساءل عن معنى هذه التغيرات، أو بعبارة أخرى أن نعرض على بساط البحث مسألة تقدم اللغة. ولكن من المناسب أولا وقبل كل شيء أن نحدد ماذا نعنى كلمة "تقدم اللغة" فأولئك الذين يستعملونها لا يفعلون أكثر من إدخالهم في علم اللغة مصطلحا من تاريخ الأدب, إذ إن العادة قد جرت وقتا طويلا على اعتبار معنى التقدم في الأدب دينا ومذهبا؛ فكان الناس لا يرون في تطور الأنواع الأدبية genres litterraires إلا صعودا نحو الكمال أو انحدارا إلى الانحلال. وهذا هو الرأي الكلاسيكي الذي يذهب إلى أن الفن والذوق بعد أن يصلا إلى درجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 كمالهما لا يسعهما إلا الانحدار والفساد, وعلماء الفيلولوجيا الكلاسيون قد نقلوا هذه الفكرة إلى الدراسة اللغوية متخيلين أنه يوجد في تاريخ الإغريقية واللاتينية نقطة كمال وصلت إليها هاتان اللغتان بعد مجهودات طويلة، ومن بعدها سارتا في طريق الاضمحلال. ففي اللاتينية كان شيشيرون هو المقياس، ومع ذلك كان يروق لهؤلاء الباحثين أن يفتشوا في كتاباته عن مواضع النقص، فأبعدوا من آثاره الخطابات التي كان يكتبها لأصدقائه على أنها كم مهمل لا يليق بقدره, واللاتينية الحقة عندهم تتلخص في طائفة من الخطب والدراسات الفلسفية التي تركها الخطيب الكبير وقد يضيفون إليها شروح قيصر وتراجم كرنليوس نيبوس Cornelius Nepos أما بقية الكتاب اللاتينيين فكانوا موضع ريب أو رفض صريح. فلكريس lucrece كان خشنا قليل العناية، وبلوت plaute متبربر لم يصقل بعد، وسلوست Salluste موبوء بالحوشية، وتيت ليف Tite-live يفوح بالريفية وTacite غريب الأطوار مشتت الذهن، كأنه يجد لذة في الإكثار من الأخطاء اللغوية. وكانوا لا يقدرون مؤلفي العصر الإمبراطوري إلا بمقدار اقترابهم, بواسطة التقليد الأعمى، من لغة شيشيرون التي قرروا أنها مقياس اللغة اللاتينية. ويمكننا أن نقول هذا القول بعينه في اللغة الإغريقية, وهذه الطريقة في معالجة اللغات القديمة تقوم على الخلط الكريه بين اللغة الأدبية واللغة بوجه عام، اللغة التي يتكلمها جميع الناس في القطر كله والتي تتغير مع الزمن. نعم، لعلماء اللاتينية أن يقرروا مثالا أعلى للغة اللاتينية وأن يفرضوه على طلاب هذه اللغة في موضوعاتهم الإنشائية. فهذه خطة النحو المذهبي الذي يتلخص في هذه العبارة التقليدية: قل كذا ولا تقل كذا, واتباعها يتفق مع تقاليد الكتاب اللاتينيين الذين كانوا يرون في شيشيرون استاذا ومثالا يحتذى, ولكن هذه الخطة الصناعية لا ينبغي أن تطبق على دراسة اللغة. ومع ذلك فهذا ما كان يعمله لغويو القرن المنصرم1 الذين كانوا يقررون   1 ولا سيما شليشر: رقم 197، ص34، ورقم 198، مجلد 1، ص13-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 على عاتقها أن ترد إلى اللغات الحديثة اعتبارها وترى أن أكمل اللغات هي تلك التي قطعت في التطور أطول شوط وهي بذلك لا تؤدي إلا إلى إيقاظ تلك المعركة الخالدة، معركة القديم والجديد، بتطبيقها على المسائل اللغوية, وتتجدد هذه المعركة كل خمسين عاما، فتكشف لنا عن ميل الناس إلى الأشياء المتناقضة وعن الإغراء الذي توجهه إليهم الأشياء القديمة والأشياء الحديثة كل بدورها. ولا شك أن بعض اللغات الحديثة كالفرنسية والإنجليزية تتمتع بأوفى قسط من المرونة واليسر والطواغية فالفرنسية تمتاز خاصة بدقتها ووضوحها، لا تطيق التبذل ولا الإغراق في المبالغة ولا ذلك البريق الذي تجيزه لغات مجاورة، وإنما مسعاها الأول إلى الدقة الذي لا تحتاج إلى مزيد من شرح ولا تدعو حالتها إلى اعتذار عن تقصير على حد تعبير فولتير. ولكن هل يستطيع إنسان أن يدعي أن اللغات القديمة كالإغريقية أو اللاتينية تقل عنها شأنا؟ وإذاكان علينا أن نختار من بين سائر اللغات تلك اللغة التي تستحق أن تكلل بالغار، فمن يجرؤ على تضحية اللغة الإغريقية؟ ومن ذاق مرة حلاوة هذه اللغة ذات الجوهر الرباني، وجد كل لغة عداها، إما تافهة وإما مرة. ولسنا نتكلم عن الأفكار التي جعلت تلك اللغة وعاء لها، ولا تلك الآداب التي تعتبر بحق مدرسة للحكمة والجمال, و"كنزا من دواء الروح" كما كان يتكلم المصريون عن كتبهم, فاللغة الإغريقية في شكلها الخارجي، دون أي اعتبار آخر، تعد متعة عقلية معدومة النظير وليس ائتلاف النغم ورقة الأصوات وثراء المفردات كل مزاياها، بل ليست أقوم ما فيها من مزايا, ففي ميدان النحو تمتاز الإغريقية من بين سائر اللغات بدقة دوال النسبة فيها التي ترهف تركيب الكلمات، وبالمرونة الخفيفة التي تميز تنظيمها وتعمل على إظهار التفكير في كل قيمته وتحيط بكل حناياه ومنعرجاته، وتكشف بشفافيتها عن كل دقائقه, ولا نعلم أن الوجود قد رأى أداة أكمل منها في التعبير عن الفكر الإنساني. ولكن إذا علمنا أنه قد أمكن للغات أخرى من نوع آخر أن توفى بالحاجات المتنوعة التي تطلبتها أفكار لا تقل عن الأفكار الإغريقية ثراء وتعقيدا، رأينا أنه من العبث أن نبحث عن المثل الأعلى للكمال اللغوي في نوع من اللغات دون سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وقد يكون من المسلى أن يقوم إنسان بالبرهان على أن اللغة التي كتب بها هومير وأفلاطون وأرشميد تفوق لغة شكسبير ونيوتن ودارون أو تتخلف عنها. فقد أمكن لكل هؤلاء أن يعبروا تعبيرا تاما عما أرادوا التعبير عنه، ولكن بوسائل مختلفة. وكلهم يتساوون في الفضل لأن كلا منهم أمكنه أن يجد في لغته العبارة المساوية لفكرته, والواقع أننا لا نعلم إطلاقا لغة قد قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها, فلا ننصت إذن إلى أولئك المؤلفين العاجزين الذين يحملون لغاتهم مسئولية النقص الذي في مؤلفاتهم، لأنهم هم المسئولون على وجه العموم عن هذا النقص. نعم، إن من حسن طالع الكاتب أن يجد أمامه تقاليد يسير عليها وأن يستعمل لغة قامت بتحضيرها وصقلها سلسلة طويلة من الكتاب, ولكن الأمر هنا لا يعدو الاختلاف في درجة الصعوبة. يقول ديكارت Descartes في "حديث المنهج": "أولئك الذين يفكرون خير تفكير ويهضمون أفكارهم خير هضم ليجعلوها واضحة مفهومة، يستطيعون دائما أكثر ممن عداهم أن يفهموا الآخرين آراءهم ولو لم يتكلموا غير البريتانية السفلى". ومع ذلك فإن المسئولية لا تقع كلها على موهبة الكاتب وحدها. إذ يجب أن نعمل حسابا للوسط الذي يعيش فيه أيضا. إذ لما كان المتكلم لا يتكلم إلا ليسمع والكاتب لا يكتب إلا ليقرأ، كان من الضروري للكاتب أن يجد له جمهورا على درجة من الثقافة نسمح له بفهمه. لقد قال نوفون Buffon في مثل ذلك: "لم نصل إلى الكلام الجدي والكتابة الجدية إلا في الصورة المستنيرة". ولو أن بريتانيا أراد أن يكتب مؤلفا فلسفيا بلغته, لتيسر له ذلك على أرجح الفروض؛ ولكن البريتانيين، أو الذين يتكلمون منهم البريتانية على الأقل، لا يحفلون بالفلسفة لسوء الحظ، كما أن الفلاسفة لا يفهمون شيئا في البريتانية على وجه العموم. ولذلك يخشى على صاحبنا ألا يقرأه إنسان ولا يفهمه إنسان, فطاقة اللغة تتوقف على عدد الذين يمارسونها ودرجة تعلمهم, وهذا هو السبب في أن اللغات الكلتية أقل قيمة من اللغات الرومانية أو الجرمانية, ومع ذلك فقد استطاعت الإيرلندية والغاية طوال عصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 عديدة أن تعبرا عن أفكار شعرية فائقة الجمال، لعلها آصل ما خلفته العصور الوسطى من هذا القبيل, وقد نأسف على أن دافيد أب جويليم Dafydd ab Gwilym لم يكتب بالإيطالية كما كتب دانتي أو بالألمانية كما كتب فلفرم فوق إيشنباخ Wolfram von Eschenbach: فكان يستطيع اليوم أن يتذوق شعره عدد كبير من الناس, ولكن ما معنى ذلك؟ أين يذهب مجد هومير أو أفلاطون في اليوم الذي يزول فيه تعلم الإغريقية من المدارس؟ لا شك أن نعيق الغراب وتغريد العندليب يستويان تماما يوم لا يجدان أحدا يصغى إليهما. إذا تابعنا المناقشة المتقدمة, أقحمنا أنفسنا في طريق لا يؤدي إلى غاية, فقيمة اللغات من الناحية الجمالية أو النفعية لا يصح أن يكون لها حساب في الكلام على تقدم اللغة. فموهبة الكتاب تستطيع في فترة من النشاط الأدبي القوي والرخاء الوطني والسيادة السياسية، أن تخلع على اللغة درجة من الكمال تكاد تكون مطلقة وبالتالي حالا من الهيبة تفرضها على الكون بأسره. وهذا ما تيسر للإغريقية في العهد الأتيكي وللاتينيه في عهد أغسطس وللفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر, ولكن ينبغي في الكلام على مسألة تقدم اللغة أن نغض النظر عن مثل هذا الكمال المؤقت الذي قد تصادفه هذه اللغة أو تلك, بل إن فكرة الكمال بعيدة عن تقدير التقدم إلى حد أننا لا نستطيع تبريرها إذا أردنا تطبيقها على جزء واحد من أجزاء اللغة، كالأصوات مثلا أو الصور النحوية. تمتاز بعض اللغات على بعضها الآخر بالانسجام والعذوبة، ويمتاز بعضها على غيره بسهولة النطق. ومع ذلك فليس القصد إلى تزويد النطق ببعض المزايا التي تنقصه هو الذي يتحكم في مصير التغيرات الصوتية. هذا إلى أن تقدير هذه المزايا يرجع إلى حد كبير إلى الذوق الشخصي، ومن ثم يدخل في المناقشة عنصر ذاتي من شأنه أن يزيفها من أساسها. كذلك ليس من اليسير أن نبرر فكرة التقدم في ميدان النظام الصرفي، إذا اقتصرنا في ذلك على البنية النحوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 كان ميدان البحث اللغوي منذ أربعين عاما يخضع للنظرية القائلة بأن اللغات تمر بحالات ثلاث على التتابع: حالة العزل وحالة الإلصاق وحالة الإعراب. وكان من المسلم به أن كل لغة من اللغات المعروفة كانت على إحدى هذه الحالات الثلاث وفقا لمرحلة التطور التي عرفناها فيها. ومعنى ذلك أن هذه النظرية كانت تسعى إلى حصر التقدم اللغوي في النظام الصرفي1. ما سبق أن قلناه عن تغيرات النظام الصرفي والروابط التي بين دوال النسبة والكلمات، يكفي للحكم على ما في تصور تاريخ اللغات على هذا النحو من زيف. لسنا ننكر أن العناصر النحوية آتية في غالب الأحيان من بلى كلمات قديمة كانت قائمة بذاتها. وأننا قد نجد في المفردات أصل اللواحق، بل والزوائد التي عمل الزمان على إلصاقها بالكلمات المنتهية بها، ومن ثم كان إلصاق العناصر التي كانت منعزلة في بادئ أمرها يسمح للغات بأن تجدد نظامها الصرفي. ومن جهة أخرى، كثيرا ما يعمل البلى الصوتي على اختزال طوال الكلمات وهدم الإعراب وإرجاع الكلمات التي كانت قد صارت متعددة المقاطع إلى حالة وحدة المقطع، أي إلى إحياء حالة الإلصاق من جديد. ولكن هذه الحالات المختلفة تنشأ عن أسباب تعمل جميعها في وقت واحد في كل اللغات: أسباب تؤثر على كل نقطة في النظام الصرفي ويتوقف إخفاقها أو نجاحها المؤقتان على ظروف خاصة بكل لغة. هذا إلى أن التغير لا يكون تاما إطلاقا فكيرا ما تبقى الصيغ القديمة إلى جانب الصيغ المستحدثة. حتى لنلاحظ في النظام العام للغات التي لها تاريخ طويل والتي عانت تطورا ضخما كالفرنسية أو الإنجليزية مزيجا من النظم التي تضم حالات مختلفة. وهكذا كانت وحدة المقطع تعتبر في يوم من الأيام من مميزات اللغة الإنجليزية. والواقع أن الإنجليزية تمتاز بصيغها القصيرة التي قد تصل إلى وحدة المقطع، بخلاف صيغ الإنجليزية القديمة المكدسة بالمقاطع والمثقلة باللواحق والزوائد. وهذه نتيجة البلى الصوتي الذي كان بعيد المدى في الإنجليزية. وكان يمكن للغة   1 انظر خاصة هو فلاك: رقم 84، مستيلي: رقم 182، وسيس: رقم 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 أن تقاوم هذا البلى كما فعلت لغات أخرى. فاللغات الرومانية مثلا تتجنب وحدة المقطع بإضافة اللواحق, إذ تقول في الفرنسية Soleil "شمس" حيث كان يقوم اللاتينيون Sol، واستعضنا بالفعل Gemir؛ "il gemit: يئن" عن الفعل القديم geindre؛ "il geint يئن" "مقطع واحد" وقد لوحظ أن اللغة الأسبانية لا تكاد تحتوي على كلمة واحدة تتكون من مقطع واحد. ومع ذلك فلا ينبغي لنا أن نبالغ في وحدة المقطع الإنجليزية التي ليست في غالب أمرها إلا مسألة ظاهرية محضة1. ولنحاذر أن نخدع هنا بالكتابة أو بالعادات التي يفرضها علينا استعمال كتب النحو والمعاجم. فكثير من بين الكلمات الإنجليزية التي يمكن تمييزها بالتحليل النحوي، ليس لها وجود مستقل، وكثير منها ليست إلا دوال نسبة أولا توجد إلا في تراكيب ثابتة متصلة بدوال نسبة لا تستطيع الانفصال عنها. فجملة I DO'NT KNOW لا تحتوي على كلمات أكثر مما في اللاتينية nescio. إذ إن العنصر know -وهو أكثر عناصرها دلالة- لا يستعمل منفردا. وكذلك العناصر الأخرى ليس لها وجود مستقل, وإنما هي أدوات نحوية غير قائمة بذاتها، ولا توجد إلا بوصفها عناصر من مجاميع قائمة بذاتها، هذا إلى أن وحدة المقطع في الكلمات الإنجليزية الأصل قد تضاءلت في وسط الكلمات التي استعارتها اللغة من اللاتينية والفرنسية. ونحن نعرف مقدار ترحيب الإنجليزية باستقبال الكلمات الأجنبية التي تراها مفيدة أو صالحة. هذه العادة تسمح لها بألا تستعمل الاشتقاق في مفرداتها إلا لماما, فبينما نراها تترك جانبا كبيرا من الكلمات الوحيدة المقطع الموروثة من المتاع القديم على ما هي عليه دون أن تضيف إليها لواحق أو مزيدا من العناصر العرضية، نراها في الوقت نفسه تستقبل بين مفرداتها عددا كبيرا من الكلمات الفرنسية أو اللاتينية المتعددة المقاطع عن طريق الاستعارة. كما أن معارضة حالة التصريف بحال العزل أو الإلصاق تبدو وهما من الأوهام إذا رجعنا إلى الصورة الكلامية التي فيها تختلط هذه الحالات المختلفة في تأليف   1 جسبرسن: رقم 133، ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 يوفق بينها. فالمتكلم إنما يتكلم بجمل لا بكلمات منعزلة. والفرق الوحيد الذي يوجد بين اللغات ينحصر في مكان دوال النسبة، وفي طبيعة الرباط الذي يربط هذه الدوال بالكلمات. وهو اختلاف عرضي لا جوهري. فلا نستطيع أن نستخلص منه قاعدة لتصنيف اللغات، ومن باب أولى لا يمكننا أن نرى فيه عنصرا نقيس به مسألة التقدم اللغوي. ولا ينبغي أن ننسى أن كل تجديد لغوي لا يمكن أن يكون إلا ضئيلا. إذ لا يوجد في الميدان اللغوي كسب دائم يوفر اللغة التي نحصل عليه ثراء نهائيا. فالربح المكتسب عرض زائل في كل الأحوال وكثيرا ما تقابله خسائر من ناحية أخرى. لقد رأينا كيف تمكنت الفرنسية من خلق أداة استفهام لها. ولزم لهذه الأداة، كي تحيا وتشتد وتنمو، تعاون ظروف عدة كلها عرضية. ويمكننا أن نتنبا، دون أن نتعرض لخطأ كبير، بأن هذه الأداة بدورها ستفقد عن طريق التطور الطبيعي هذه التعبيرية التي تملكها الآن وتصير عديمة القيمة ثم تخرج من الاستعمال. هذا هو تاريخ كل ما تكونه اللغة. ونحن نعرف كيف نشأت أدوات الاستفهام اللاتينية، على ما لها من صلاحية وقوة في التعبير، وكما أننا نعرف أيضا كيف بادت. فعبارة Num uides "لعلك ترى؟ "، إذا نطقت بنغمة الاستفهام صارت عبارة استفهامية في حالة توقع جواب منفي "كلا" وعبارة Videsne "لا ترى؟ " إذا نطقت بنغمة الاستفهام صارت استفهامية كأنها "ألست ترى؟ " وذلك في حالة ما يكون الجواب المتوقع بالإيجاب: "بلى". وكان ذلك ربحا قيما للغة اللاتينية ولكنه لم يدم، إذ لم يلبث أن تلاشى بفعل البلى الصوتي الذي حرم ne, num من قوتهما التعبيرية. فالتقدم، إذا صح لنا أن نستعمل هذه الكلمة، لم يكن إلا عابرا. الخسائر أيضا لا يمكن أن تفسر بافتراض التقدم. فما يؤسف له أن الفرنسية الحديثة قد صيرت الزمنين الماضيين اللذين كانت تملكهما وهما الماضي المحدد والماضي غير المحدد، زمنا واحدا. مع أن الخلاف الذي كان يفرق بينهما كان خلافا حقيقيا، وكان استعمالها يمكن القارئ من البيان عن معان دقيقة، اختفت اليوم من الوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 لاختفاء ما يعبر به عنهما, ونحن نعرف السبب الذي أدى بأحد هذين الزمنين "وهو الماضي المحدد على وجه العموم" إلى الضياع؛ وذلك أن الزمنين قد تكافآ وتعادلا؛ لأن الماضي غير المحدد "من قبيل j'ai fait"، كان في بادئ أمره زمنا مركبا ثم اتحد جزآه وفقد القيمة الحرفية التي كانت لا تزال تحس في فعله المساعد. ومن الممكن أن تشعر اللغة، بعد أن تعالى أثر هذا النقص، بالحاجة إلى التعويض عنه، فتصل يوما بوسيلة، إلى التمييز بين القصص البسيط الذي كان يعبر عنه فيما مضى بالماضي المحدد "il fit" وبين الحدث الذي كان يعبر عنه بالماضي غير المحدد "il a fait". ولكن سنظل حتى هذه اللحظة نتكلم لغة جردت من أحد عناصرها المفيدة. أما عن الماضي التابع غير التام l'imparfait du subjunctif فلا يمكن لأحد أن يشعر بمثل هذا الأسف على فقدانه؛ ومع ذلك فقد كان هذا الزمن يقوم بكثير من الخدمات الجليلة، إذ كان يسد فراغا كبيرا في نظامنا الفعلي بتكميله لسلسلة الأزمان. ومع ذلك فلا معنى للأسف عليه. لقد اختفى بالرغم من جهود المدرسة لحفظه من الضياع، إذ راح هو أيضا ضحية لاتجاهات لا تستطيع الإرادة الإنسانية لها دفعا. وإذا كانت قائمة الأرباح والخسائر على هذا النحو في كل تطور صرفي، فلن تستطيع الوصول إلى تحرير معنى التقدم, فكل تغير يقع على اللغة لا يصيب إلا جزئية خاصة من جزئياتها، وليس له في ذاته أثر عام. نعم، لا شك أننا إذا نظرنا إلى لغة واحدة في فترتين من تاريخها، وجدنا أنفسنا أمام حالتين مختلفتين؛ فنلاحظ أن العناصر التي تكونها قد تغيرت وتبدل مكانها وانقلبت، ولكن الأرباح والخسائر تكاد تتعادل في مجموعها, وقد بينا فيما سبق لماذا لا نستطيع اللغة مطلقا أن تصل بتطورها الطبيعي إلى الكمال المنطقي الذي يمنح منحا إراديا للغات قد وضعت وضعا صناعيا من أولها إلى آخرها "انظر ص213". فالحالات المختلفة لكل تطور صرفي تذكرنا بالصور المختلفة التي نراها في الكالبيدوسكوب kaleidoscope الذي يمكن للإنسان أن يحركه دون خطة مرسومة فيتغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ترتيب العناصر التي تكونه دون أن نحصل من هذا التغيير على شيء آخر غير ترتيب جديد. ومع ذلك فإن كل شيء يتوقف على اليد التي تحرك الآلة. والتطور اللغوي يعتمد اعتمادا وثيقا على الظروف التاريخية، فبين التطور اللغوي والظروف الاجتماعية التي تتطور فيها اللغة صلة وثيقة. إذ إن تطور المجتمع يستتبع تطور اللغة في طريق معينة. لذلك يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان تاريخ اللغة يمثل مرآة ينعكس فيها تاريخ الحضارات، وإذا نظرنا إلى مسألة تقدم اللغة هذه النظرة، رأيناها تبدو أمام أعيننا في وضع جديد، يجدر بنا الآن أن نناقشه. كثيرا ما لوحظ أن تطور اللغات يزداد سرعة بازدياد انتشارها في الخارج وبازدياد عدد الناس الذي يتكلمونها وتنوعهم. إذ إن انتشارها في أقاليم تحتك فيها بلغات أخرى يعرضها لأن تفقد خصائصها الموغلة في الذاتية، والتأثير الذي يقع عليها من الخارج يؤدي بها إلى التغير السريع. فإذا ما قارنا لهجة موطن أصلي بلهجة مستعمراته، تبين لنا أن هذه الأخيرة قد فقدت بعض القواعد النحوية الخفية الدقيقة؛ ذلك لأن التقاليد قد أبقت عليها في مهبط رأسها، ثم تلاشت بهجرتها بعيدا عن موطنها. من ذلك أن الاختلاف بين I shall وI will لم يعد له وجود في الإنجليزية المتكلمة في أمريكا؛ فلا يقال الآن إلا I will. ومن جهة أخرى نرى أن حمل اللغة بعيدا عن موطنها يساعد الاتجاهات الكامنة فيها على التفتح بصورة أسرع وأكمل مما لو بقيت في مكانها, ومن ثم ظهرت بعض المستحدثات في الفرنسية المتكلمة في كندا قبل أن تظهر في غرب فرنسا الذي هاجرت منه الفرنسية إلى أمريكا في القرن السابع عشر، فالفرنسية الكندية تبدو فرنسية حوشية في بعض نواحيها، ولكنها في البعض الآخر تسبق فرنسية فرنسا نفسها، إذ إنها تخلصت قبل هذه الأخيرة من بعض السمات الميتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 التي عملت التقاليد على إبقائها1. كذلك الهولندية التي يتكلمها البوير قد سبقت هولندية هولندا في طريق التطور2. اللغات التي لا تتنقل تعد لغات محافظة على وجه العموم, إذ إن اللغات التي لا تتكلم إلا في مساحة محكمة الحدودة بعيدة عن ملتقى طرق المواصلات الكبرى -التي تختلط فيها الأجناس- ذات طابع حوشي بين في غالب الأحيان. فاللتوانية أكثر اللغات الهندية الأوربية حوشية، لأنها لغة قوم زراعيين يقطنون إقليم غابات فقير، في معزل عن الأقطار الأوربية الكبيرة. وأصلح الأماكن للمحافظة على سلامة اللغة هي الأقاليم الجبلية وأطراف أشباه الجزر حيث يضؤل التأثير الخارجي. ومن ثم احتفظت البسكية بطابعها لانحصارها بين وديان البرينيه، وكذلك البريتانية لتحصنها وراء المحيط. يؤثر المسكن أيضا على تطور اللغات. فإذا كان السكان مخلخلين متفرقين، فإن هذا التبدد يساعد على الانقسام إلى لهجات. وإذا كان السكان يعيشون متجمعين في محلات ومدن، فإن هذا النوع من الحياة يساعد على خلق اللغات المشتركة التي ليست في واقع الأمر إلا منزلة وسطى بين لغات الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تضمها المحلة أو المدينة. ومن ذلك نرى أن التأثير الاجتماعي لا يعوق تطور اللغة أو يعجل به فحسب، بل أيضا يعين اتجاه هذا التطور ومداه. وكل ما قلناه فيما سبق عن أحوال اللغات المشتركة واللهجات واللغات الخاصة يصلح تمثيلا لهذا المبدأ العام. وتوجه العوامل الاجتماعية نشاطنا العقلي أيضا. فتاريخ اللغات حين يشمل فترة طويلة من الزمن، يسمح لنا بأن نتبين بعض تأثير التطور الاجتماعي على عقلية البشر, وقد لاحظنا مثلا اتجاه اللغات العام نحو التخلص من الخصائص الغيبية لتسير في سبيل العقلية ونحو نبذ التعبير عن الأفكار المشخصة لترقي صعدا في معارج التجريد, ونحو اللغات الهندية الأوربية في أقدم صورها أكثر ذاتية   1 جدس Geddes؛ Study of a Candian French dialectونقل عنه Meyer Lubke في Germ-rom - Monatschrift مجلد 1، ص133. 2 هـ. ميير H. meyer؛ Die Sprache der Buren، جوتنجن "1901". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وتشخيصا مما صار إليه فيما بعد، ففكرة الزمن في الهندية الأوربية تكاد تنحصر في التعبير عن الناحية الذاتية، أي في الدلالة على زمن الاستغراق، وبمرور العصور اتجهت إلى التعبير عن فكرة الزمن بمعناه الحقيقي، أي فكرة اللحظة. وبحث لغات البدائيين يعضد هذه الملاحظة المستخرجة من التاريخ. فهذه اللغات تقدم لنا حالة لغوية ليس فيها نصيب أو لا يكاد يكون فيها نصيب لما نسميه بالمدنية. فهي مفعمة بالفصائل المشخصة والخاصة وبذلك تختلف عن لغات المتحضرين، التي تسير فيها الفصائل دائما نحو التدريج والتعميم. ذلك أن البدائي يعبر بدقة نادرة عن جحفل من التفاصيل المادية التي تغيب عنا. ويوجه إلى الاعتبارات المكانية مثلا نصيبا من الالتفات يفوق النصيب الذي نوجهه نحن إلى الاعتبارات الزمنية, إذ إن الحدث يمثل في ذهنه محصورا بخير, والروابط المكانية التي بين الأشخاص والأشياء يعبر عنها في لغته بفصائل خاصة كالروابط الزمنية أو أكثر منها1. ونحن نعرف أن الزمن أرفع من المكان في مرتبة التجريد, ومن ثم نرانا نحن المتحضرين نسقط من نظامنا الصرفي فكرة الحيز المشخصة ونقبل بارتياح على التعبير عن فكرة الزمن المجردة. وهذه نتيجة للمدنية. لذلك نرى الطريقة التي تتلاشى بها الفصائل التشخيصية من اللغات تعضد أهمية الدور الذي تلعبه المدنية هنا, ومن أوضح الحالات التي من هذا القبيل حالة المثنى في الإغريقية "انظر ص 134". فاستعمال المثنى في اللهجات مرتبط بدرجة المدنية, والهجات التي فقدت هذا العدد منذ فترة ما قبل التاريخ هي نفس اللهجات التي كان يتكلمها أكثر الناس ثقافة. فلهجات المستعمرات سبقت في ذلك لهجة الوطن الأصلى، ونجد اللهجة الواحدة تحتفظ بالمثنى في القارة وتفقده عندما تستعمل في آسيا الصغرى أو في الجزر. هذه القاعدة عامة وتخلو من الاستثناء إذا غضضنا النظر عن بعض اللهجات كالأتيكية حيث تتدخل تأثيرات خاصة وثانوية، وإن كان تعرف هذه التأثيرات تعرفا جيدا يعضد القاعدة. ولهجات العواصم كما قلنا من قبل، أشد محافظة من لهجات المستعمرات؛ لأن الأخيرة تمثل لغة صفوة سكان   1 رقم 88 ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 المدن الإغريقية، لغة العنصر الذي يعد أكثر العناصر نشاطا وذكاء وحيوية ففي المستعمرات بدأت عوامل الحضارة في الازدهار، وكان الأدب في مقدمة هذه العوامل, وعلى هذا، فالاحتفاظ بالمثنى يبدو كما لو كان دليلا على حضارة متأخرة، واختفاؤه على العكس من ذلك يدل على تقدم الحضارة. ولكن ينبغي لنا ألا نبالغ في أهمية المثل الذي استعرناه من اللغة الإغريقية، لأن هناك أسبابا أخرى، لغوية خالصة، تفسر بدورها أن المثنى قد اختفى في المستعمرات قبل أن يختفي في العواصم "انظر ص364". ولكن المثل الذي ضربناه باللغة الإغريقية ليس مقصورا عليها، إن تاريخ معظم اللغات ليؤيده، وحتى تلك اللغات التي لا تنضوي تحت لواء المجموعة الهندية الأوربية. ونفس بدعة حذف المثنى تراعى أيضا في اللغات السامية والفينية الأجرية. فاللغات التي تعد من أقدم اللغات السامية تقدما. لغات الحضارة القديمة كالآشورية والعبرية والآرامية والحبشية، لم تعد تستعمل المثنى إلا في بعض كلمات ذات دلالة مزدوجة، أما اللغة العربية -التي كانت حتى القرن السابع الميلادي لغة بدو ذوي حظ يسير من الحضارة- فقد احتفظت بالمثنى في الاسم والضمير والفعل، ويمكننا أن نقول أيضا: إن درجة الحضارة تحدد درجة الاحتفاظ بالمثنى في تاريخ اللغة العربية. وفي المجموعة الفنية الأجرية، نرى أن اللهجتين اللتين احتفظتا بالمثنى هما أقل اللهجات تطورا وهما اللهجتان الفوجولية والأستياكية، ولم نعد نعثر للمثنى على أثر لا في الهنغارية ولا في الفنلندية, وإذا هبطنا درجات في سلم الحضارات، وجدنا لغات تستعمل المثلث، كما هو الحال في لغات بعض الشعوب الأمريكية أو الأسترالية1. ومما لا يحتاج إلى تنبيه أننا حين ندرس هنا العمليات النفسية التي تعد العدة للغة، فإننا نغض النظر عن الظروف النحوية التي تتكون فيها اللغة لأنهما شيئان تجب العناية بالتفرقة بينهما. إن ضعف التشخيص لا يحول دون التعقيد النحوي, وليست هناك أية صلة تقام بين طبيعة أطوار النفس وبين العدد أو بين ما في الفصائل النحوية من تعقيد. فالفصائل النحوية تعتمد قبل كل شيء على   1 رقم 88، ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الذاكرة والذاكرة عند البدائيين نامية عادة نموا كبيرا. لقد فرضتها عليهم حاجيات كبيرة الأهمية وضرورات حيوية بالنسبة لهم, فنشاطهم العقلي لا تعاونه تلك الطرق العديدة التي تحل في سهولة ويسر عند المتحضرين محل الذاكرة, وتورثها الكسل دون أي ضرر في ذلك, ويخيل إلي أنه لم يهتم بعد بدراسة أثر الذاكرة في تطور اللغات. مع أننا نشاهد بعض لغات غير المتحضرين قد ملئت بالصيغ المتنوعة وظلت بهذا الوضع زمنا طويلا جدا، فنظمها الصرفية شديدة التعقيد أو أن مفرداتها كثيرة الثراء، ومثل هذه اللغات مرتبطة دون شك بتطور عجيب للذاكرة, ومن الطبيعي أن تكون الذاكرة محافظة, وعلى هذا فليس البناء النحوي هو الذي يكشف عن آثار اختلافات الحضارة، وإنما يكون ذلك في العناية التي يعبر بها عن التفصيلات المشخصة, فهناك رابطة بين درجة الحضارة والطابع المشخص إلى حد ما لأطوار النفس. وبما أن ظاهرة سير اللغة نحو التجريد مرتبطة بتطور الحضارة فإنها ترينا كيف يجب علينا أن نفسر الأمثلة السابقة. إننا نعلم تماما أن اللغة تعد بمثابة انعكاس للضمير البشري، وأنها تعرفنا صورة النفس التي تحملها, ونفس الإنسان المتحضر أكثر قابلية للتجريد من نفس الإنسان البدائي؛ لأن ظروف حياة المتحضر توجه العقل إلى الاعتبارات المجردة على حساب كل ما هو مشخص فالتجارة تستلزم الحساب وبعبارة أخرى التفكير، وتطور الحياة السياسية تحبذ عادة ذوق الآراء العامة، وتمرين الفكر ينتقل بطبيعة الحال من الأمور المشخصة إلى الأمور المجردة ونستطيع أن نحكم على ذلك بأنفسنا، فلو أننا وازنا بيننا وبين أناس قريبي الجوار منا فأية فروق تتضح لنا من وجهة نظر التجريد بين العقليتين؟ والفلاح الأمي الذي يتكلم الفرنسية مثله تقريبا مثل غير المتحضر الذي ليس في متناول يده للتعبير عن آرائه غير اللغة الفرنسية. وإن عقليته للتصورها أداة ناقصة. وعلى هذا فهو لا يعجز عن أن يستكمل ما فيها من نقص ليجعلها صالحة لاستعماله, فهو يحيد بها عن المجردات ليسلكها في المشخصات التي يهتم بها دون سواها. إنه ليدخل فيها مثلا أسماء الأصوات وصيغ التعجب، وإنه ليحل المفردات محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الفصائل المشخصة إذا غابت؛ وهو يقضي على كل ما هو قطعي ومنطقي في جملنا بإساءة نطقها وتفكيك أوصالها. لا ينبغي لنا أن نعجب حين نرى لغة غير المتحضرين تفيض بالمصطلحات المشخصة التي يذهلنا ما فيها من تنوع وتحديد, وهي حالة نجدها في كل اللغات الريفية. لقد شوهد ذلك في اللغة الليتوانية، حيث ألفت قصة بأسماء أصوات متتابعة1, ونستطيع أن نجد ذلك أيضا في رطانات الريف الفرنسي فلنوازن بين قصة تؤلف بالرطانة الريفية الخالصة وبين خطاب يلقيه في مدرسة المناطقة أحد كتابنا السياسيين ممن عاشوا في القرن الثامن عشر, فالقصة تفيض بالمشخصات، وهي مفككة، ممجوجة لا منطق فيها إلا أنها رغم هذا كله جد معبرة. أما الخطاب فينطوي على تتابع عبارات مجردة وعامة، متسلسلة كما لو كانت قضية منطقية. هذا ضربان من اللغة يمثلان ضربين من التفكير, ويجب ألا نطرب من فكرة أن لغاتنا الكبرى ذات الحضارة قد خلت تماما من كل تصوف, إذ ليس هذا إلا في الظاهر فحسب؛ لأن عنصر التصوف ليس في اللغة وإنما في الفكر, أو على الأصح فإنه إذا وجد في اللغة فقد وجد من قبل في الفكر, ومع ذلك، فلسنا في حاجة كبيرة إلى البحث طويلا في لغة الأميين من عشيرتنا لنرى عنصر التصوف يظهر أمامنا في خير مستقر له, فسلطان الاسم وخلق قصص أسماء الأعلام واستعمال الصيغ والرقى السحرية، ومنع استعمال المفردات في "فلكلور" ريفنا، أيعد هذا كله شيئا آخر غير عقلية المتخلفين عن الحضارة وقد تفتحت في لغة المتحضرين؟ ولكن بعد هذا كله, لو أننا تصورنا طوفانا سياسيا أو اجتماعيا قد اكتسح الحواجز الموجودة اليوم بين المجموعات البشرية وخلط ممثلي الطبقات والجنسيات والأجناس المختلفة بعضهم ببعض، وقضي على حضارتنا القديمة واستبدل بها حضارة جديدة تقوم على أسس أخرى، لو صح هذا كله ألا تكون اللغة أول   1 Schallnachahmungen und Schallyerba im Litauischen: Liskien رقم 30 مجلد 13، ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ما يصاب بهذا التعبير؟ وهذه العقلية الصوفية والمشخصة التي كاد يقضي عليها في لغاتنا الكبرى المشتركة، ألن تعود لها قوتها لتشكل لغاتنا من جديد وفقا لها وتفرض عليها عاداتها؟ وماذا تصبح إذن اللغة الفرنسية؟ لا أكثر ولا أقل من لغة قوم تخلفوا عن الحضارة. ستسلك طريقا مضادا للطريق الذي سلكته من قبل والذي أدى بها إلى حالتها الراهنة, ستنتقل من التجريد إلى التعبير بالمشخصات، وستمتلئ بالفصائل الصوفية والذاتية. هل سيكون هناك ما يدعو إلى تقدم اللغة أو أنها تدور حول نفسها وتتأخر عما هي عليه؟ لا هذا ولا ذاك، على الأقل وفقا لوجهة النظر اللغوية, وليس لنا أن نقيم وزنا للمزايا أو الأضرار، التي تعد نسبية، لتغير حضارة من الحضارات، حتى ولا للعودة إلى ما يسمى التبرير, وليس لنا الحق في أن نعد لغة من اللغات عقلية ومجردة في مرتبة أعلى من لغة مشخصة وصوفية، لا لشيء إلا أنها لغتنا, إننا في مثل هذه الحالة نواجه عقليتين مختلفتين لا تعدم كل منهما أن تكون لها مزاياها, ولا شيء يدل على أن أهل سريوس لا ينظرون إلى عقلية المتحضر كما لو كانت مرادفة لفساد النوع. ومن هذا، نرى كيف ينبغي لنا أن ندرك افتراض التقدم اللغوي, التقدم بالمعنى المطلق لا سبيل إليه كما لا سبيل إلى التقدم المطلق في الأخلاق أو في السياسة. هناك أوضاع مختلفة يتلو بعضها بعضا، وفي كل وضع منها تسيطر بعض قوانين عامة يفرضها توازن القوى الموجودة, وهذا ما يصيب اللغة. نستطيع أن نرى في تاريخ اللغات بعض تقدمات نسبية. فهناك لغات تتلاءم مع بعض حالات الحضارة إن قليلا وإن كثيرا. فالتقدم يتكون من أن اللغة تتلاءم وحاجات المتكلمين بها على خير وجه, ومهما يكن هذا التقدم حقيقيا، فإنه لن يكون نهائيا إطلاقا. إن صفات لغة من اللغات تظل قائمة طالما احتفظ أهلها بنفس عاداتهم في التفكير، وإلا فهذه الصفات قابلة للفساد والاندثار والضياع. ومن الخطأ أن نعد اللغة كائنا مثاليا، تتطور مستقلة عن البشر، وتتبع أغراضها الخاصة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 إن اللغة لا توجد خارج أولئك الذين يفكرون ويتكلمون إنها تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي؛ ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه الناس. غير أن الضمير الفردي ليس إلا عنصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانيه على كل فرد من الأفراد, وعلى هذا فتطور اللغات ليس إلا مظهرا من مظاهر تطور الجماعات, فليس لنا أن نرى فيه سيرا في طريق متصل نحو غاية محددة, وإن دور اللغوي لينتهي حينما يعلم أن اللغة لعبة تتقاذفها القوى الاجتماعية وردود أفعال التاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 المراجع أولا: المجلات ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ثانيا: الكتب ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الملاحق : الملحق الأول : إن كتابا في علم اللغة فرغ من تأليفه عام 1914 يستدعي عدة تصحيحات ليجاري حالة العلم عام 1924. فقد حدث في السنوات الأخيرة، ولم يكن ذلك مجرد مصادفة أن كان علم اللغويات العام موضوع مؤلفات متنوعة، لم تر من قبل ما يماثلها عددا أو قيمة. فكتاب "دراسة في اللغويات العامة" تأليف الأستاذ فرديناند دي سوسير، الذي نشر عام 1916 "الطبعة الثانية عام 1922" لم يمكن الانتفاع به إلا بعد أن تم تأليف هذا الكتاب، اللهم إلا بذكره مرجعا مرة أو مرتين في ذيل الصفحات، وهو ينطوي على نظرات مبتكرة عميقة، كان من المفيد أن توضح بها عدة فصول من كتابنا هذا. وحينما قارب هذا المؤلف نهاية طبعه، نشر الأستاذ م. مييه "علم اللغة التاريخي وعلم اللغة العام" وهو مجموعة مقالات، يكون مجرد إلحاقها بعضها ببعض عنصر مذهب فيه سعة وانسجام. وبما أن معظم هذه المقالات قد ظهرت من قبل في مجموعها مختلفة، فقد أفدنا منها وأشرنا إليها مع ذكر مواضع النشر الأصلية وظهر في نفس الوقت كتاب صغير يسمى "اللغويات أو علم اللغة" جعل فيه مؤلفه الأستاذ مروزو بصورة يسيرة واضحة المشاكل التي درسها اللغويون في متناول الجمهور. وظهر بعد طبع مؤلفنا هذا، كتابان في الطبقة الأولى يحمل كل منهما نفس العنوان "اللغة": أحدهما تأليف الأستاذ سيير1 والآخر تأليف الأستاذ جسبرسن2. وكم كان المؤلف يود لو أنه استطاع الرجوع إليهما ليغذي ويزين بهما الكثير من المسائل التي عرض لها، وكان يود لو انتفع بكتاب الأستاذ   1 language, An Introduction to the study of speech, نيويورك عام 1921. 2 Language, its nature, development and origin. لندن عام 1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ترومبتي "Elementi di glottologia في مجلدين، بولونيا 1922" حيث تدعم معلومات لغوية، تكاد تكون مطلقة، نظرية شخصية لتطور اللغة. وقد كون بعض تلاميذ الأستاذ شوخارت Schuchardt، بجمع منتخبات اختيرت في ذوق سليم من مؤلفات أستاذهم الواسعة، كتابا صغيرا لعلم اللغة العام يفيض بمعلومات قيمة ومفيدة. وهذا المؤلف Hugo-Schuchardt- Brevier "هال 1922" هو حقا كما يدل عليه عنوانه الثاني "ein vademekun der allgemeinen sprchwissenschaft". ويتناول الأستاذ فرديناند برينو علم اللغة العام في كتابه "الفكر واللغة" "باريس 1922" دون أن يخرج من النطاق الفرنسي؛ وهو يطبق منهجا جديدا لدراسة العوامل اللغوية بترتيبها وفقا للأفكار التي يراد التعبير عنها. والنقد الذي يوجهه إلى التبويب التقليدي القديم يتفق مع بعض الملاحظات الواردة في باب الفصائل النحوية. وهناك توجيهات كثيرة ومفيدة تؤخذ من كتاب الأستاذ ميارديه Millardet "علم اللغة واللهجات الرومانية" "مونبليه وباريس 1923"؛ فقد تعرض فيه لمسائل أساسية تتناول المنهج اللغوي تعرضا صريحا وناقشها في حماس. وأخيرا يقدم Festschrift wilhelm Streitberg الذي ظهر حديثا "هيدلبرج 1924" كما يتبين من عنوانه الثاني عرضا لحالة علم اللغة في أيامنا هذه، وللواجبات التي تعرض للعاملين في هذا الميدان, ويلخص الأستاذ يونكر تلخيصا وافيا الآراء السائدة في ألمانيا عن علم اللغة العام. لا نريد أن ندعو القارئ للرجوع إلى هذه المؤلفات المختلفة، فهي -حتى حين تعرض آراء تشبه ما بسط هنا- تتناولها من وجهة نظر مختلفة مع فهم القيم والنسب فهما يختلف كل الاختلاف؛ فكل منها يحتوي على أمثلة جديدة كان يمكن الاستفادة منها بإدخالها في هذا الكتاب أو استعمالها بدلا من الأمثلة الواردة فيه, إلا أنه ليس من بين هذه المؤلفات ما يبدو بطبيعته متطلبا تغييرا للطريقة العامة التي اتبعناها في مؤلفنا هذا؛ وفي ذلك دليل على أن علم اللغة قد بلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 درجة لا يمكن معها أن يتصور له كل إجمالي إلا في صورة واحدة, ولعل جزءا واحدا فقط يتطلب بعض التعديل؛ وهو الجزء الأول الذي خصص للأصوات، وذلك لأنه رتب فعلا وفقا لنظام قد يبدو الآن قديما, فبعد مؤلف الأستاذ جرامون المسمى "المماثلة" "باريس شامبيون 1924" -ذلك الكتاب الذي يمهد به لمؤلفه في "علم الأصوات العام" الذي نترقب صدوره- نرى طريقة أيسر وأقرب أيضا إلى المنهج العلمي في جمع الأحداث. وقد كان ترتيب هذا الكتاب يحتمل فصلا سادسا في آخر الجزء الرابع يخصص لتوزيع الأسر اللغوية على أرجاء العالم، إلا أننا استبعدناه لأسباب عملية. غير أن الفكرة التي لم تكن ليشار إليها هنا إلا إشارة يسيرة، قد تحققت اليوم بكل ما تتطلبه من إطناب بفضل كتاب "اللغات في العالم" الذي نشرته جماعة من اللغويين "عند الناشر شامبيون" تحت إشراف الأستاذين مييه وكوهين, والحجم الذي اقتضاه هذا المرجع الكبير يبرر القرار الذي اتخذناه في عدم معالجة المسألة في كتابنا هذا. وقد كان على المؤلف أن يبرز في صورة أوضح وأن يزيد مذهبه ثباتا، وأن يجعل هذا المذهب على الأخص أكثر ملاءمة لتقدم علم النفس، نظرا لما أبداه كثير من الفلاسفة من الاهتمام بهذا الكتاب, والكتاب الذي ينشره الآن الأستاذ دي لا كروا ويصدر في نفس الوقت مع هذه الطبعة "الفكر واللغة" "باريس، ألكان 1924"، يجعل هذه الرغبة عديمة الجدوى؛ لأن اللغويين جميعا سيسرون بالعون الذي يمدهم به أخصائي مذهب قريب من مذهبنا, ومن جهة أخرى، نرى فيلسوفا ألمانيا هو الأستاذ. أ. كسرير قد نشر حديثا "عام 1933" كتابا عنوانه: philosophie der symbolischen Formen, Itr Teil, die Sprache، يمس فيه نقطا جوهرية من علم اللغة العام. ولو أن الظروف قد أتاحت طبعة جديدة لهذا الكتاب، لا مجرد نشر جديد كما هي الحال هنا، لاضطر المؤلف إلى أن يدخل عليه عدة تصحيحات وإضافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وقد وجد في الملاحظات المنطوية على كثير من اللطف والتي وجهها إليه الأساتذة جرامون، نييدرمان، ل. كليدا، فيجو بروندال، أ. دوزاوج. اسنو اقتراحات مفيدة كل الفائدة, وقد وجه إلى المؤلف كثير من الأصدقاء والزملاء -أمثال الأساتذة لالاند، مركو، ماير طبير، أم كسترو، ي. بود- بيانات وملاحظات يشكرهم عليها كل الشكر, ومن جهة أخرى فإن قائمة المراجع قد زاد في السنوات العشر الأخيرة زيادة كبيرة جدا، وسنقتصر فيما يلي على ذكر أهم التعديلات التي يجب أن ندخلها على نص هذا الكتاب مصحوبة بذكر أهم المراجع. ص29، يضاف إلى الهامش رقم 1: V. Henry: رقم 83: F. Ribezzo Eco della cultura، نابولي، ك: 15 "1916". ص36، هـ2, يضاف: G. Ballet, Le langage interieur et les diverses formes de l'aphasie، باريس 1888؛ Foix في Le Traite, de pathologie mentale de sergent، مجلد 5؛ Dejerine Traite, de medecine: Gilbert et Thoinot, Semiologie مجلد 31، Semiologie nerveuse, le chapitre sur l' aphsie. ص38، فيما يتعلق بالأنتروبولوجيا قبل التاريخ، انظر الآن الكتاب المفيد من تأليف الأستاذ L'homme fossile, elements de: Boule paleontologie humaine، باريس، ماسون 1920. ص39 يضاف إلى هامش 1: "the genesis of speech: fred Newton scott "Publications of the Modern language Association of America مجلد 23، 4، 1908، ص1-29". ص50، سطر 9، اقرأ: أسنانية "السين S الفرنسية والثاء الإنجليزية Thick أو thank في th، في وضع مخالف لطرف اللسان". ص66، س11، أضف بعد الأوسية: وقد لوحظت أيضا في مجموعة لغات البنتو. ص78، س22، أضف إلى آخر السطر: وفي مقاطعة Aberdeen "في أسكتلندة" تنطق الـW. Grant et l. M. Dixon wh: f. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 Manual of Modern Scots، كمبردج، 1921، ص 32". ص81، س5، أضف: انظر vesp: Stetone، 8، 22. ص88، هـ1، يضاف: وص172، 5؛ قارن Vondrak رقم 217، ج1، ص243. ص89، هـ2، يضاف Psichari، رقم 6، مجلد 5، ص349. ص104: في كل ما يتعلق بالمسائل التي يتناولها الجزء الثاني انظر الآن: "فلسفة النحو" تأليف جسبرسن The philosphy of Grammar "لندن 1924". ص125، هـ1، يضاف: Zur Logik der Sprachwissenschaft. H. J. pos هيدلبرج عام 1922. ص131، هـ1، يضاف: مميه: "اللغويات التاريخية واللغويات العامة: ص211. ص132، س4: للتفرقة بين المادة الحية والمادة غير الحية في الأسبانية والرومانية. انظر: Elements de linguistique romane: Bourciez الطبعة الثانية الفقرات 236، 381، 499، 531، وانظر Linguistique: Millardet et dialectologie romane، ص451. ص148، س5: قارن der Schwund: kr. Sandfeld - Jensen des infinitivs im rumanischen und den Balkanspraehen؛ "Rumanske Studier، مجلد 1 عام 1902". ص164، س1: ومن هنا يأتي ما وقع فيه بسكال من خطأ، إذ يعترض على إمكان وجود تعريف للكائن بحجة أن كل تعريف لهذه الكلمة يجب أن يبدأ بـ"أنه C'est" وفي هذا افتراض لما يطلب إثباته "de l'Esprit geometrique" ص176، س1: لأحداث مشابهة في اللغة الروسية، يرجع إلى Boyer Speranski، رقم 53، ص16، هـ5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ص182، فيما يختص باللغة الفاعلة، يرجع إلى Der Wor-: Wegner tsatz رقم 30 مجلد 39، ص1-25. ص182، هـ1: يضاف Aufsatze zur romainis: Leo Spitzer chen Syntax und stylistik، هال عام 1918. ص188، هـ2: يضاف L'ORDRE DES MOTS EN: J. MAROUZEAU LATIN رقم1، LES FORMS NOMINALES باريس 1922. ص197، س10: قارن هـ. بول، رقم 188، ص285 وما بعدها. ص205: فيما يختص بالقياس، كمبدأ للمحافظة، يرجع إلى فرديناند دي سوسير، رقم 121، ص242. ص208: في المقابلة بين النحو وحصر المفردات أي بين المقعد وغيره، انظر فرديناند دي سوسير، رقم 121، ص187. ص234، هـ2: الكلمة لمكس مولر. هـ3، يضاف إردمان، رقم 157 ص107. ص235، س15: انظر COURT DE GEBELIN: "العالم البدائي، تحليله ومقارنته بالعالم الحديث، منظورا إليه من ناحية التاريخ الطبيعي للكلام، أو أصل اللغة والكتابة مع رد نقد مجهول". باريس 1775. ص257، هـ2 يضاف: مييه "لغويات تاريخية ولغويات عامة" ص244. ص263-264: توجد أمثلة أخرى في "QUELQUES FAITS: DOTTIN DE SEMANTIQUE DANS LES PARLERS DU BAS-MAINE"؛ "MELANGES WILMOTTE, باريس، شامبيون 1909". ص266: فيما يختص بما بين اللغتين الألمانية والفرنسية من فرق في علاقات كل منهما بروح المحافظة، انظر الملاحظات الدقيقة التي أبدتها مدام دي ستايل Mme de Stael في كتابها: De l'allemagne، الجزء الأول، الفصل 12. ص272: يضاف هامش ما يلي: فرديناند برينو: رقم 57، مجلد 1، ص131؛ مييه: "لغويات تاريخية ولغويات عامة" ص264. كل الفصل يتطلب مراجعة على ضوء الآراء التي أوردها الأستاذ جيلييرون Gillieron في كتبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 "Genealogie des mots qui ont designe l'abeille". باريس 1918. "la faillite de l'etymologie phonetique" نيففيل 1919؛ "Les etymologies des etymologistes et celles du peuple". باريس 1922. ص280، س10، 11: يقرأ Sicb erbrechen بدلا من ausbrechen ص280، س20: usqiman "يقتل" ويضاف Verbleichen وdahinscheiden وdahingehen "يموت". ص282، فقرة: "لا ينحصر الأثر الناجم ... " فيما يختص بهذه الفقرة راجع إدمان: رقم 157، ص114. ص288، الفقرة الأخيرة: قارن Uber einige wor-: leo Spitzer ter der Liebessprache, ليبزج 1918. ص289: يمكن أن تشير أيضا إلى تأثير لغة الصيادين، قارن Nicolas Edgar "les expressions figurees d'origine cynegetique en francais" أبسالا، عام 1906. ص307: في الشروط التي يجب أن تتوافر للغة مشتركة عالمية، انظر خاصة مييه: "اللغات في أوروبا الحديثة"، باريس 1918. ص310: في الجغرافيا اللغوية، يرجع إلى كتاب صغير قيم للأستاذ دوزا "الجغرافيا اللغوية" "باريس، فلامريون 1922". ص314: عن لغة الشعر في العصور الوسطى، يرجع إلى Gertrud Wac-Dialekt und Schriftsprache im Altfranzosischen: ker؛ "Beitrage zur geschichte der romanischen sprach und litteraturen رقم 2، هال عام 1916". ص315: عن العامية الخاصة، انظر الأستاذ G. Esnault: "مجلة الفيلولوجيا الفرنسية والأدب" مجلدات 27 و28 و35، وكتابة: Le poilu tel qu'il se parle، باريس 1919. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ص318: يدخل في رطانات الطلبة الألمانية عدد كبير من كلمات اللهجات "قارن studentensprache: Kluge ص65". ص320 الأستاذ شيرون في مجلة "المدرسة الفرنسية في الشرق الأقصى، رقم 5 و47" ذكر وجود لغات خاصة يستعملها في التوشكان باعة الخنازير والحبوب والنوتية والمغنيات، وكل هذه اللغات مشوهة من الأنامية. ص331، هـ1 يضاف Manual de pronun-: Navarro Tomas ciacion espanola، مدريد 1918، compendio de: J. J. Nunes, grammatica historica portuguesa لشبونه 1919. ص333، هـ3: يضاف Deutsche Sprachges-: F. kluge chichte, werden und wachsen unserer Muttersprache von ihren Anfangen bis zur gegenwart. ليبزج عام 1920. ص336: أما فيما يختص بالعلاقات بين إنجليزية أسكتلندة والإنجليزية العادية فيرجع إلى Manual of modern Scots. W. Grant et J. M. Dixon "كمبردج 1921" أما فيما يتصل بمسألة اللغات في النرويج، فيرجع إلى Bakmal og talemaal i Norge: Ragnual dlversen "1560-1630" كريستيان 1921، وخاصة يرجع إلى A. Burgun "التطور اللغوي في النرويج منذ عام 1814" كريستيان 1919-1921. ص337، هـ2: يضاف Alle fonti del Neola:- M. G. Bartoil tino estratto dalla Miscellanea di studi in onore di Attilio Hortis تريستا 1910. ص348، هـ1: يضاف "Language Rivalry and: G. Hempl speech differenciation in the case of Race - mixture". "من دراسات الرابطة الأمريكية للفيلولوجيا، مجلد 29، 1898"؛ وارجع الآن إلى دراسات الأستاذ مار Marr ونظريته عن "اليافثية" التي تقول بوجود عدة لغات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 مختلطة "Recueil Japhetique بترغراد 1922-1923؛ Japhetitische Studieu zur Sprache und kultur Eurasiens، ليزج, برلين". ص352: توجد اليوم جماعة من السكان تتكلم اللغة البروفنسية في فرتمبرج ببورست "في نيوهنجستت" وفي بناشي, سرّ، قارن Morosi، رقم 41 مجلد 11، ص393 وNeu Hengstett "Burset", Ges: A. Rosoger chichte und sprache einer Waldenserkolonie inWurttemberg Greifswald 1883. ص365: فيما يختص باللغة الأسبانية التي يتكلمها سكان جزائر ماريان، انظر مقال العالم الدنمركي k. Wulff. في Festschrift v ثومسن 1912. ص393، الفقرة الثانية: انظر التطور الذي يعد شديد الغرابة لنظام الكتابة الذي اخترع في أيامنا هذه في الكمرون بواسطة نجوبا، ملك الكمرون "دلافوس مجلة علم الأجناس والتقاليد الشعبية، 1923 رقم 9". ص395، هـ1، يضاف: أدولف قطاوي بك: شامبليون وفك رموز الهيروغليفية، القاهرة 1922، وخاصة sottas وDriotton مقدمة في دراسة الهيروغليفية، باريس 1922. ص411, هـ2: Melanges linguistiques: G. paris, باريس، شامبيون 1906-1909 "ملحق: تاريخ الرسم في اللغة الفرنسية". ص427، يضاف: لبيان المستقبل "H. L. Hencken: "اللغة الأمريكية" الطبعة الثانية، نيويورك 1921، ص178-179". ويضاف إلى الهامش: Louvigny de Montigny: اللغة الفرنسية في كندا، أتاوا عام 1916. ص429، هـ1 يضاف: ليفي بريل: العقلية البدائية باريس 1922. ص438: Elements de linguistique romane: E. Bourciez الطبعة الثانية، 1923. Densusianu، "تاريخ اللغة الرومانية" المجلد الأول، باريس 1901، المجلد الثاني، الجزء الأول، باريس 1914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ص443، Die Bedeutung des wortes: K.O. Erdmann الطبعة الثالثة، ليبزج 1922 Geschichte der Griechis-: O. Hoffmann chen Sprache، الطبعة الثانية، عام 1916. ص445، Einfuhrung, etc: w. Meyer-Lubke الطبعة الثالثة، هيدلبرج 1920. ص446،O schrader؛ Sprachvergleichung und Urgeschichte الطبعة الثالثة، 1907وص447 Romanische Spra-:A. Zauner chwissenechaft، المجلد الثاني الجزء الأول، الطبعة الرابعة 1921، المجلد الثاني الطبعة الثالثة عام 1914. ص448, يضاف Nutidssprog hos boern: O. Jespersen og voxne، كوبنهاجين 1916. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الملحق الثاني : لقد انقضى على تأليف هذا الكتاب عشرون عاما ظهر خلالها في جميع البلاد عدد من النظريات أو الاكتشافات الجديدة التي غيرت علم اللغة. وعليه يجب إدخال زيادة محسوسة على الملحق القصير المكون جزئيا من قائمة مراجع، والذي أضيف إلى الطبعة الثانية؛ ليتعرف القارئ كل التقدم الذي تم في هذا الميدان, وإن أردنا أن نجعل الكتاب مجاريا للحالة الحاضرة وجب مراجعة جميع الفصول مراجعة دقيقة، وإعادة كتابة بعضها، وسنقتصر هنا على بعض البيانات الأساسية أما فيما يختص بعلم اللغة فهناك كتابان على درجة من الأهمية ييسران ما يتعلق به تيسيرا كبيرا: أحدهما هو الكتاب السنوي للجرمانية الهندية الأوربية Indogermanisches Jahrbich، وهو يفسح حاليا مع المجلة التي يصدر عنها Indogermainsche Farschungen مكانا لعلم اللغة العام يتسع يوما بعد يوم. والآخر هو نشرة الجماعة اللغوية Bulletin de le societe, de linguistique التي يقوم الأستاذ مييه بتحرير الجزء الأكبر منها، وحيث يبين كل سنة في عناية كبيرة قيمة المؤلفات التي تظهر حديثا. ومجموعة بياناته التي بلغت حدا كبيرا من التنويع والثراء تمدنا بتاريخ حقيقي للاتجاهات، كما أنها تعرض الآراء عرضا نقديا في نفس الوقت. وقد وفق لغويون من جميع البلاد إلى تنظيم أول مؤتمر دولي لهم عقد في لاهاي عام 1928، فعاد ذلك على دراستهم بأجل الفوائد, وعقد مؤتمر ثاني في جنيف عام 1931، ثم ثالث في روما عام 1933، وينشر دائما لهذه المؤتمرات تقريرات مفصلة، والتقرير الخاص بثالثها لا يزال تحت الطبع. وتقدم هذه المؤتمرات بفضل برامجها التي توضع في حكمة نتائج ذلك العلم الذي قد أصبح علما بالفعل مع بيانات مفيدة لهذا العلم الذي لا يزال في دور التكوين, وهذه المؤتمرات تساعد في نفس الوقت على تنظيم بعض المسائل العملية كمسألة المصطلحات التي عينت لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 لجنة. وقد أقدم المسيو ماروزو في شجاعة على القيام بأول محاولة لهذا العمل في معجمه للمصطلحات اللغوية "باريس عام 1933". وقد تكون خلال السنوات الأخيرة مركزان للدراسات اللغوية أولهما مفتوح على مصراعيه للمسائل التي تتعلق بالنظريات وبالطريقة العلمية؛ أحدهما في أوسلو وهو يصدر مجلة Sprogvidensk Norsk Tidskeift for والآخر ببراج، وأعمال المركز اللغوي ببراج قد فتحت الطريق لمنهج جديد سنتحدث عنه فيما بعد وأخيرا تكونت في أمريكا جماعة لغوية وهي تنشر فضلا عن نشرة لغوية دورية خاصة عنوانها "اللغة" مجموعات من الدراسات في موضوعات معينة. وهذه المراكز الجديدة تظهر حيوية الدراسات اللغوية في العالم، أما وجد قبل الآن من هذه المراكز اللغوية فلم تنقطع عن العمل والإنتاج. وبعد ما نشر في علم اللغة العام مما سبق ذكره فقد شاهدنا أيضا في السنوات الأخيرة ظهور المبادئ في النحو العام principes de grammaire generale كوبنهاجن عام 1929 للأستاذ lovis Hjelmslev ومؤلف الأستاذ A. pagliaro؛ "cenni sloricie summario di bnguistia arcoeuropea, questioni teoriche "روما عام 1930" ومؤلف الأستاذ بالي Bally "اللغويات العامة واللغويات الفرنسية" باريس عام 1932 ومؤلف الأستاذ بلومفيلد Bloomfield "اللغة" نيويورك عام 1933. وهذه المؤلفات وبينها اختلافات واضحة من عمل لغويين أخصائيين، ولكن المشكلات اللغوية ما زالت موضع اهتمام الفلاسفة وخاصة علماء النفس الذين يدين لهم اللغويون بمعلومات قيمة. وإذا لم تتكلم عن كتاب الآنسة دي لاجونا Mille de Languna: الكلام، وظيفته وتطوره Speech, its function and development نيوهيفن عام 1927، فقد ظهر في السنوات الأخيرة مجلد ثالث للأستاذ كاسيرير philosophie der symbolischen ormen "phenomenologie der Erkenntnis" برلين عام 1929، وظهرت طبعة جديدة تنطوي على زيادة كثيرة للكتاب القيم تأليف الأستاذ دي لاكروا "اللغة والفكر" باريس عام 1930. ويختل علم النفس أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 مكانا واسعا في مؤلف عالم لغوي هو weisgerber عنوانه Muttersprache und Geistesbildung جوتيجن عام 1929. ومما يظهر إظهارا أوضح ما بين علماء النفس واللغة من اتفاق مجد هو نشر مجلد من مجلة علم النفس عام 1933, خصص للغة. وقد عرض فيه مساعدون أتوا من كل البلاد آراء مبتكرة تتعلق بعدة مسائل أساسية في علم اللغة. ويبو أن علم الأصوات هو الذي طرأ عليه أعمق التجديدات. لقد أنشأ جماعة من اللغويين ينتمون إلى هيئة براج، منهجا جديدا هو "الصوتيات" "la phonologie" مستوحين في ذلك الآراء التي ذكرها من قبل بودوان دي كورتنيه وفرديدناند دي سوسور. فالصوتيات تتميز عن علم الأصوات "la phonetique" بأنها ترجع دراسة الأصوات إلى حيز الأحداث اللغوية. والصوتيات تنظر إلى الأصوات لا كوحدة قائمة بذاتها ولكن وفقا للدور الذي تؤديه كعوامل لها دلالتها في النظام اللغوي, وقد حفز تطبيق هذا المبدأ على القيام بعدة بحوث نشرت خاصة في أعمال المركز اللغوي ببراج فأظهرت إنتاجه الخصب. وفي نفس الوقت كان الأستاذ أدوارد هرمان يناقش من جديد مسألة القوانين الصوتية في: Lautgesetz und Analogie "Abhanblungen der Gesellschaft der wissens chaften" جوتنجن 1931، بينما كان فان جنكن يعمل على إبراز أهمية الوراثة في التغيرات الصوتية وخاصة في "تقرير مقدم غلى المؤتمر الدولي الثالث للغويين". وتتصل بالأصوات دراسة وزن الشعر التي تناولها من جديد فيما يختص بالفرنسية الأستاذ بول فرييه "الشعر الفرنسي، مجلدان، باريس 931-1932". وتناولها من وجهة نظر عامة الأستاذ أ. دي جروت في "العروض العام والوزن" "la metrique generale et la rythme" "نشرة الجمعية اللغوية مجلد 30، ص202" وفي كتاب "الوزن der Rythmus "نيو فيلو جوس عام 1934". وقد نشر الأستاذ ب. فوشيه "عام 1927, ستراسبورج" "دراسات في علم الأصوات العام" حيث يتناول بنوع خاص اتحاد حروف اللين بعضها مع بعض وتداخل الحروف الساكنة. غير أن أهم كتاب خصص لعلم الأصوات هو بلا ريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 كتاب الأستاذ موريس جرامون Traite de phonetique "دراسة في علم الأصوات" باريس، 1933، الذي كان ينتظر صدوره بفارغ الصبر؛ وقد عرض فيه المؤلف بصورة كاملة نظريته الخاصة التي تسود جميع أعماله العلمية مدعما ذلك بالأمثلة. وهذه النظرية قد تعدل أو تناقض أيضا بعض النقط في المعلومات التي بسطناها هنا في الفصول المخصصة لعلم الأصوات. ومراجع الفصول الأخرى تتطلب إضافات جديدة، نورد فيما يلي أهمها: ص125، Albert Sechehaye: "محاولة في دراسة التكوين المنطقي للجملة" باريس عام 1926، ف. بروندال Ordklassernes,Studier over de sproglige kategorier، كوبنهاجن 1928. ص135، G. Guillaume؛ Temps et mode, theorie des aspects, des modes et des temps، باريس 1929. ص118، F. Boillot؛ Psychologie de la constrution dans la phrase francaise moderne. باريس، عام 1930؛W. Havers؛ Handbuch der erklarenden Syntax، هيدلبرج 1931. ص246، ظهر الجزء الخامس والأخير من كتاب نيروب: Ordenes liv عام 1932. ص295، أتو جسبرسن: "النوع البشري، الأمة والفرد من وجهة نظر لغوية" أوسلو 1925. ص308، فيما يتعلق بمسألة لغة دولية مساعدة، انظر أعمال المؤتمر الثاني للغويين، ص72 وما يليها. ص330، ا. دوزا: تاريخ اللغة الفرنسية، باريس 1930، و. فون وتربرج "تطور وتركيب اللغة الفرنسية" ليبزج, برلين 1934؛ ويوالي الأستاذ فرديناند برينو نشر كتابه العظيم "رقم 57" وقد ظهر الجزء الأول من المجلد الثامن عام 1934. ص333، Die deutsche sprache، الطبعة الثانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 ميونخ 1933؛ alois berntK؛ Die Entstehung unserer Schriftsprache برلين، عام 1934. ص367، ا. مييه: "الطريقة المقارنة في اللغويات التاريخية"، أوسلو 1925، والمسائل الخاصة بالقرابة اللغوية وبالجوهر قد تجددت بدراسة الأستاذ كر. سندرفيلد: "لغويات بلقانية، مسائل ونتائج" باريس 1930. ويرجع أيضا إلى دراسة الأستاذ جكبسون في أعمال الهيئة اللغوية ببراج، المجلد الرابع، ص234 عن خطوط الحدود الصوتية. ص373، Herman Jacobsohn؛ Arier und Ugrofinnen, جونتجن 1922؛ Albert cuny؛ Etudes pregrammaticales sur le domaine des langues indo-europeennes et chamito-mitiques باريس 1924. ص383، فيما يتعلق بالنحو المقارن للغات القوقازية، نشر الأستاذ ديمزيل مجموعة من الدراسات "باريس، شامبيون، 1932، و1933" تواجه وتناقش عددا من المسائل الجديدة. ص405، فيما يختص بالرسم نرى أن كتاب فان جنكن: Grondbegineslen van de schrijfwijze der nederlandsche taal "هيلفرسوم 1931" وإن كان قد كرس خاصة للغة الهولندية إلا أنه يقدم آراء شخصية ذات طابع عام. ويجدر بنا أخيرا أن نذكر كتاب الأستاذ هـ. بدرسن: "علم اللغة في القرن التاسع عشر" "مطبعة جامعة هرفارد 1931"، وهو مترجم عن اللغة الدنمركية، ويعرض فيه الأستاذ القدير ما قام به لغويو القرن الماضي من أعمال مقدرا لهم ما بذلوا من جهود علمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الملحق الثالث : لقد بدا لنا من المفيد أن نقدم في ملحق ثالث بعض البيانات المتعلقة بأهم المطبوعات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وذلك ريثما يتيسر لنا أن نقوم بمراجعة دقيقة على الأقل لمختلف فصول هذا الكتاب إن لم يكن بصياغتها من جديد، وهو أمر نرجو أن يتم تحقيقه بعد أن مضى خمسة وعشرون عاما على صدوره. فالفترة الحالية هي بالفعل من أخصب الفترات، ونشاط العلماء -في جميع أنحاء ميدان علم اللغة الفسيح- بعيد كل البعد عن التواني، بل هو يبعث كل يوم على ابتكارات جديدة تمحص الطرق القديمة أو تبتكر طرقا جديدة بدلا منها. وكان بعض تلاميذ وأصدقاء الأستاذ أنطوان مييه قد عزموا على أن يظهروا بالاتفاق معه، ملحقا لكتابه "اللغويات التاريخية واللغويات العامة" الذي يرجع صدوره إلى عام 1921، وذلك بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده السبعين. وقد ظهر في أواخر عام 1937 مجلد ثان يضم المقالات ذات الطابع اللغوي العام التي نشرت بين عامي 1921 و1936, ولكن لم يتيسر للأستاذ مييه أن تقر عينه بتمام هذا العمل؛ لأن الموت فاجأه في 21 من سبتمبر عام 1936، بعد أن قاسى المرض شهورا طويلة، فترك فقده فراغا كبيرا في الدراسات اللغوية أحست به جميع الأقطار. فهو لم يكف حتى اليوم الأخير من حياته، لا عن الاطلاع على أقل الأعمال التي يقوم بها غيره فحسب، بل كان يساهم بدراساته الخاصة في تقدم هذا العلم, وقد خصصت له "جماعة علم اللغة" كتيبا يقع في ثمان وستين صفحة، ويشمل فضلا عن ترجمة حياته، بيانا كاملا لمؤلفاته قد رتب وفقا للتواريخ والمواد "باريس، كلينكسك 1937". ويظهر لنا هذا الكتيب في نفس الوقت قيمة الرجل وأهمية أعماله العلمية. وقد تابعت المؤتمرات الدولية، التي كان مييه أول العاملين على عقدها والذي ظل يحبذها في حماس، جلساتها الدورية في توفيق كبير. فقد عقد المؤتمر الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 للغويين اجتماعاته في كوبنهاجن عام 1936، وتعد العدة الآن لعقد مؤتمر خامس في صيف عام 1939 في بروكسل. وفي نفس الوقت تتابعت المؤتمرات الدولية لعلم النفس وعلم الأجناس. وقد نال علم اللغة فيها مكانا له أهميته. كل ذلك عدا المؤتمرات التي خصصت لدراسات معينة مثل الشرقيات والرومانيات والسلافيات. وتعقد لعلم الأصوات مؤتمرات خاصة منذ عام 1932، "عقد ثالثها بمدينة جاند "بيلجيكا" عام 1983" وقد نالت للمرة الأولى دراسات أسماء الأعلام وأسماء الأجناس والأماكن شرف مؤتمر دولي عقد بباريس عام 1938. وهذه المؤتمرات المختلفة يتبعها نشر أعمالها العلمية مثل: "أعمال المؤتمر الدولي الثالث للغويين، فلورنسا 1935"، وهي تطلع الناس على الآراء والاتجاهات الجديدة والمناقشات التي دارت حولها. يمكن أن نجد أيضا فائدة كبيرة في كتب "المنتخبات" التي يزداد عددها يوما بعد يوم، تلك الكتب التي تقدم هدايا لعلماء بارزين في الاحتفالات اليوبيلية. وقد كرم في السنوات الأخيرة الأساتذة: ا. بوازاك، ا. كوك، يابرج، تابوليه جريرسون، ماثيسيوس، ميسكولا، سلفيردا دي جراف، وديروسو وغيرهم من العلماء، لقد كرموا بمختارات يستطيع اللغويون أن يستمدوا منها الشيء الكثير من المعلومات. والمختارات التي قدمت أخيرا للأساتذة هرمان هيرت وب. كرتشمير وبدرسن وفان جنيكن وبالي، لها أهمية كبيرة من جهة العدد وتنوع المواد التي تناولتها. وهناك نوع من المختارات يتكون من جمع أعمال مختلفة يوزعها المهدي في كتب يصعب في الغالب الحصول عليها، ونحن نوصي بها خاصة، لكبير فائدتها. وقد كون على هذا النمط "لينجويستيكا" للأستاذ أتو جسبرسن وkleine Schriften للأستاذ wilhelm Schulze "عام 1933". وقد ازدادت المجلات اللغوية في السنوات الأخيرة ازديادا كبيرا. ويحسن أن نذكر كثيرا l'Archivio gloltologico Italiano، وظهور Studi Baltici ومجلة المركز اللغوي بكوبنهاجن، والمجلة اللغوية ببوخارست، ومجلة الدراسات الهندية الأوربية ببوخارست أيضا, وقد تابع المركز اللغوي ببراج نشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أعماله، فقد ظهر مجلد سادس بمناسبة المؤتمر الدولي الرابع للغويين وقد أهدى إلى هذا المؤتمر. ومحاضرات المعهد اللغوي بباريس، الذي يعقد جلسات سنوية، تظهر بانتظام في مطبوعات منفصلة "ظهر الجزء الخامس منها عام 1938". أشرنا فيما سبق إلى تقدم علم الصوتيات, وهذا المذهب الجديد الذي أصبح ينتمي إليه المركز اللغوي ببراج، قد بعث على وضع كتاب جامع في الموضوع هو الصوتيات للأستاذ Van Wijk "عام 1939"، فضلا عن عدد وفير من الدراسات التي تناولت جزئيات الموضوع. أما النحو المقارن بالمعنى الصحيح، الذي يعد في غنى عن تجديد طرقه، فقد ضم إلى ثروته عام 1935 كتابين مبتكرين لهما فيه أثر بعيد، وضع أولهما الأستاذ Kurylowicz "دراسات هندية أوربية". وهذان المؤلفان يدينان بما ورد فيهما من آراء جديدة إلى اكتشاف وتفسير النصوص الحديثة التي فك رموزها الأساتذة هرونزي وسومير وفردريك وغيرهم، والتي وضع لها كتابا في النحو كل من الأستاذين سترتفان ودلابورت. ومما يجدر الإشارة إليه بين الكتب العامة التي ظهرت أخيرا علاوة على الفراغ من "نحو الهندية الجرمانية" لهيرمان هيرت، كتابي الأستاذين Buhler؛ Sprach-theorie, die Darstellungsfunktion der Sprache "عام 1934"، وHjelmslev؛ La Categorie des cas "عام 1935". ودراسة عوامل تركيب الجمل ولا سيما في علاقاتها بالأسلوب فقد تناولها الأستاذ ماروزو في كتابه: Traite de stylistique appliquee au latin "عام 1935" وفي كتابه: "ترتيب الكلمات في الجملة اللاتينية، الجزء الثاني، الفعل "عام 1938". ولم يكن عدم ذكرنا لكتاب الأستاذ W. Sehmidt؛ Die sprachfamilien and sprachenkreise der Erde. "عام 1926" إلا مجرد النسيان. وقد كانت "اللغة" الفرنسية في المدة الأخيرة موضوع مؤلفات مختلفة ذات طابع عام، قام بها لغويون ممن عرفت مقدرتهم العلمية. ويؤسفنا حقا أن يبقى "تاريخ اللغة الفرنسية" غير كامل، وهو ذلك المؤلف الجليل الذي وضعه المرحوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الأستاذ فرديناند برينو، الذي وافاه أجله في أوائل عام 1938، ولم يظهر من كتابه هذا شيء بعد المجلد السادس عشر, ويحتل الصدارة، من بين الأعمال الشاملة، تلك الدراسة الواسعة التي قام بها الأستاذان داموريت ويبشون: "من الكلمات إلى الفكر، بحث في نحو اللغة الفرنسية" وهو كتاب ينطوي على عدد وفير من الملاحظات العميقة التي تتعلق بتركيب اللغة الفرنسية للتخاطب في أيامنا هذه وعن اتجاهات اللغة، وقد ظهر الجزء الخامس عام 1936. ومن المؤلفات ذات الموضوعات المعينة. يجب علينا أن نذكر أعمال الأستاذ بلنكنبرج: "نظام الكلمات في اللغة الفرنسية الحديثة" والأستاذ س. دي بوير: "مقدمة لدراسة تركيب الكلام في اللغة الفرنسية" وك. ساندفيلد: "تركيب الكلام في الفرنسية الحديثة" وهي مؤلفات ظهرت من بضع سنوات، وهناك مؤلف حديث وضعه الأستاذ جوجنهايم: "نظام نحوي للغة الفرنسية". وقد نشرت الآنسة دوران نتائج بحث يعد شديد الابتكار هو: "النوع النحوي في الفرنسية". وندين للأستاذ أنطوان جريجوار بدراسة هامة عن "التدريب اللغوي" ظهر عام 1936. وقد ازدادت قائمة المراجع الخاصة بلهجات فرنسي المستعمرات بكتاب ألفته الآنسة سلفان "لهجة فرنسي هايتي" عام 1936، وهو مؤلف يقوم على أسس لغوية متينة. ويجدر بنا أن نشير أخيرا إلى نشاط إليالا "International "IALA" Auxiliary Language Association "الرابطة الدولية للغة المساعدة"، وهي بجانب عنايتها بإيجاد واختيار أفضل لغة مساعدة للتخاطب الدولي, تعنى عناية شديدة بمقترحات اللغويين المتخصصين, وهي حين تحقق الأغراض التي تسعى إليها تفيد اللغويين المختصين بالدراسات التي تقوم بها, وقد أصبحت بعض مطبوعاتها تقدم نتائج مفيدة للغويات عامة وخاصة ما كان يتصف من هذه المطبوعات بطابع إحصائي. ج. فندريس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الفهرس : صفحة ح -هـ تقديم: كلمة للمعربين 1 - 21 تصدير: اللغة وأداة التفكير للأستاذ هنري بر 24-28 مقدمة: للأستاذ ج. فندريس 29-42 تمهيد: أصل اللغة مشكلة أصل اللغة تتجاوز الطرق التي في حوزة علم اللغة، وهي تدخل في دائرة التاريخ البدائي للبشرية. اللغة -وهي نظام من العلامات يستخدم في التخاطب بين الناس- تعد نظاما يتطلب وجوده تحقيق ظروف معينة سيكلوجية واجتماعية. الجزء الأول: الأصوات: 43-61 الفصل الأول: المادة الصوتية. الترتيب الفسيولوجي للأصوات التي يمكن أن يحدثها الجهاز البشري والإشارة إلى التغيرات الأساسية التي تقبلها الأصوات. 62-82 الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغيراته. الأصوات التي يصدرها كل شخص يتكلم تكون نظاما صوتيا، تتغير عناصره بطريقة غير محسوسة، مطلقة ومنظمة. قوانين واتجاهات صوتية. التفرقة بين التغيرات بالتطور والتغيرات بالإبدال. 83-103 الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية. تنوع العناصر التي تكون الكلمة الصوتية، أثر بعضها في البعض الآخر. الصورة اللفظية والجملة. العوارض التي تنتج في تحقيق الصورة اللفظية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الجزء الثاني: النحو: الصفحة 104- 124 الفصل الأول: الكلمات والأصوات. التفرقة بين دوال النسبة ودوال الماهية. الفروق بين دوال النسبة فيما يختص بطبيعتها ومكانها وبالرابط الذي يربطها بدوال الماهية. لا يمكن تعريف الكلمة إلا إذا انتبهنا إلى التغيرات الصرفية. 125- 154 الفصل الثاني: الفصائل النحوية. دراسة الفصائل النحوية الأساسية من حيث "النوع والعدد والزمن والحالة الفعلية"، العلاقة بين الفصائل النحوية وصعوبة التوفيق بين النحو والمنطق. 155- 181 الفصل الثالث: الأنواع المختلفة للكلمات نقد التصنيف الجاري لأجزاء الكلام. المقابلة بين الاسم والفعل. محاولة تصنيف منطقي يقوم على تحليل للجملة الاسمية والجملة الفعلية. بيان تصنيف سيكلوجي. 182- 202 الفصل الرابع: اللغة الانفعالية أهمية التأثير في اللغة. الطرق اللغوية التي يعبر بها عن التأثير. نظام الكلمات. العلاقات بين اللغة الانفعالية واللغة النحوية. 203- 224 الفصل الخامس: التغيرات الصرفية الظواهر العامة للتطور الصرفي. الاتجاه إلى التوحيد وطريقة القياس. الاتجاه إلى التعبيرية وتحول الكلمات المستقلة إلى أدوات نحوية. الجزء الثالث: المفردات: 225- 245 الفصل الأول: طبيعة المفردات ومداها علم الاشتقاق. القيمة الحالية الغريبة للكلمات التي نستعملها حين نتكلم كيف تتجمع الكلمات في الذهن. رمزية الكلمات. تعذر إحصاء المفردات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الصفحة 246-270 الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها؟ حياة الكلمات والتأقلم. تغير المعاني بالتخصيص وبالتعميم. شروط إيجاد دلالة عامة. 271- 294 الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها؟ البلى الصوتي والبلى المعنوي للكلمات. التحريم والتورية. الأسباب الاجتماعية لتغير المفردات. كيف تخلق كلمات جديدة؟ الجزء الرابع: تكون اللغات: 295- 308 الفصل الأول: اللغة واللغات اللغة يجب أن تعرف مستقلة عن الجنس وعن عقلية المتكلمين بها على أنها الصورة اللغوية المثالية التي تفرض على جميع الأفراد الذين ينتمون إلى مجموعة واحدة. تنوع اللغات بعكس تعقد العلاقات الاجتماعية. 309- 325 الفصل الثاني: لهجات ولغات خاصة تعريف اللهجات. توزيع اللهجات وحدودها. تعريف اللغات الخاصة: اللهجات العامية واللغات الدينية. 326- 347 الفصل الثالث: اللغات المشتركة توجد اللغات المشتركة من الاتجاه إلى التوحيد اللغوي. الأنواع المختلفة لتكون اللغات المشتركة. العلاقة بين اللغات المشتركة وبين هذه اللغات واللهجات. 348-366 الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها النتائج المختلفة لصراع اللغات وفقا لقيمتها الذاتية. كيف تموت اللغات؟ شروط تكوين لغات مختلطة. 367-383 الفصل الخامس: القرابة اللغوية والمنهج المقارن كيف يجب علينا فهم القرابة بين اللغات؟ مظهر التتابع ومظهر الوضع. قيمة المنهج المقارن في تكوين الأسر اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الجزء الخامس: الكتابة: الصفحة 384- 402 الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها تفترض الكتابة إدراكا عقليا للعلامة الكتابية. الكتابة المرسومة والكتابة التصويرية والكتابة الصوتية. المقطعية والأبجدية. 403 الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم المظاهر العامة للغة المكتوبة؛ علاقاتها بلغة الكلام. الفقر في الرسم؛ إلى أي حد يمكن إصلاح الرسم؟ 417 الخاتمة: تقدم اللغة ضرر إدخال فكرة الكمال بمعناها الأدبي في علم اللغة. تغير العناصر المختلفة للغة لا يؤدي إطلاقا إلى كمال دائم في اللغة. تطور اللغات ما هو إلا انعكاس لتطور المجتمعات، فبأية حيطة يجب علينا أن نقبل الافتراض القائل بتقدم اللغة؟ 435 المراجع 449 الملاحق: الأول والثاني والثالث 468 فهرس المواد 472 التصويب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471