الكتاب: مناهج البحث في اللغة المؤلف: تمام حسان الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مناهج البحث في اللغة تمام حسان الكتاب: مناهج البحث في اللغة المؤلف: تمام حسان الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: جيلنا هذا الذي نعيش فيه، من أقل الأجيال المصرية حظا من الدعة والراحة والطمأنينة؛ لأن المرحلة التاريخية التي يمر بها هذا الجيل، تتطلب منه أقصى غايات اليقظة، ومنتهى آماد الجهد، لقد عاشت مصر قرونا طويلة في ظل الاستعباد، والخوف، والجهل، وفقدان الثقة بالنفس، فكانت الأجيال التي عاشت في هذه القرون تألف الاستعباد فلا تتعلق بالحرية، وترضخ للخوف فتعزف عن التعبير، ويغمرها الجهل فلا تبتكر في العلم، وتعوزها الثقة بالنفس فلا تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ذلك الطابع السلبي في الحياة المصرية، كان صفة غالبة في كل مجالات النشاط الفردي والاجتماعي؛ فقد المصري الاعتداد بالنفس في السياسة، فساسه كل طامع حتى المماليك، وفقد اعتداده بنفسه في العلم، فرضي بالقابلية دون الفاعلية: القابلية التي تقنع من المجهود العلمي بترديد آراء السلف، دون الإضافة إليها، والفاعلية المنتجة التي لا يستغنى عنها شعب يريد الحياة لنفسه، وفقد الاعتداد بالنفس في الحرب، فأصبحت جيوش مصر من غير أبناء مصر، وفقد الاعتداد بالشعب، فلم تقم في مصر ثورة واحدة، ذات خطر طوال هذه الآماد الطويلة، التي مرت على مصر المستعبدة الخاضعة. ثم هبت على مصر ريح جديدة شعبية وطنية، فنفخت في الصور، وهب الراقدون من موتهم حيارى في هذا الفزع الأكبر، لا يدرون أي طريق يسلكون ولا أي سبيل يقودهم إلى النجاة والفلاح، وتشعبت المسالك أمام الشعب بعد أن تثاءب، وتمطي ونفض عن نفسه غبار الموت، فوجد أمامه طريقا في الماضي يقوده إلى التراث العربي الخصب، ورأى أنه لو بعث هذا التراث، وأحياه لكان دافعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 لعزة جديدة لا تقل روعة عن التاريخ العربي نفسه، ووجد أمامه طريقًا في المستقبل، معالمه ما في أيدي الأمم من علوم، ومعارف يمكن أن ترقى بمصر إلى مستوى هذه الأمم ذات العلوم والمعارف، ثم رأى أنه لو سلك الطريق الأول فحسب، لا نقطع به التاريخ عن الحياة، ولو سلك الثاني فحسب لانقطعت به الحياة عن التاريخ، ففضل أن يأخذ بنصيب من التراث العربي يوحى إليه بالاعتزاز، ونصيب من الثقافة المعاصرة يمنحه العزة. إذًا فجيلنا الحاضر نهب بين الشرق والغرب، لا في الثقافة وحدها، وإنما هو كذلك في العادات وطرق المعيشة، وهذه النفس الموزعة بين الشرق، والغرب لا بد أن تكون نفسا قلقة غير ذات استقرار، حائرة تتطلب الهدى، وطموحة تتطلب وحدة الهدف ووضوحه، فإذا أضفنا إلى هذا العنصر من عناصر الحيرة والاضطراب، والقلق أن المقادير قد ألقت على كاهل جيلنا هذا، أخطر تبعة تلقى على الأجيال، ألا وهي تبعة البناء من الأنقاض، وتمهيد الطريق، ووضع معالمه للأجيال القادمة؛ تبين لنا مقدار خطورة هذا الجيل في التاريخ المصري الحديث. ولست بحاجة إلى أن أنبه إلى أن هذا الجيل أهل للقيام بهذه التبعات، فلقد هدم نظاما كان ثابتا كالطود، وأقام مكانه نظاما أثبت، وأقوى وأصلح، وجيلنا هذا هو الذي هاجم الجدب في الصحراء، والفساد في المجتمع، والرشوة في الحكم، والكسل في العمل، والتسويف في الإصلاح، والبلادة في الضمائر، وسيصل بعون الله إلى نتيجة باهرة لكل هجمة من هذه الهجمات. نحن إذا في تطور يجب أن يشمل كل مرافق حياتنا، من سياسية إلى علمية إلى اقتصادية إلى حربية إلى اجتماعية إلى غير ذلك، وواجب المصري من هذا الجيل ألا يقنع بما هو كائن، وأن يفكر تفكيرا مضنيا فيما يجب أن يكون، وهذا هو المعنى الذي حفزني إلى أن أحاول هذه المحاولة في تجديد مناهج البحث في اللغة بفروعها المختلفة، وهي محاولة أترك الحكم عليها للقارئ. ولست أريد أن أنهي القول في هذا التقديم، دون أن أنبه إلى بضع ملاحظات هامة، أولاها اعتذاري عما في هذا الكتاب من أخطاء مطبعية لم آل رغبة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 تجنبها، ولكن الكمال لله وحده، وسيجد القارئ قائمة بتصحيح هذه الأخطاء، فهو مرجو أن يطلع عليها، وأن يثبت كل تصويب منها في موضعه قبل البدء في القراءة. وثانيتها أنني قد حددت الرموز الأصواتية المستخدمة في دراسة اللغة العربية الفصحى بين صفحتي 6، 13، ولست بحاجة إلى تحديد الرموز الأصواتية للكلمات الإنجليزية، التي وردت في منهج الدلالة؛ لأن كل مثال منها قد صاحبته كتابة الكلمة المرادة بالهجاء العادي، وهذا الهجاء يعين المراد بالكتابة الأصواتية، وقد وردت كلمات من لهجات الكرنك، وعدن والقاهرة في أثناء شرح منهج الأصوات، وكان لا بد من كتابتها بالرموز الأصواتية لهذه اللهجات، ولكن المطبعة العربية فقيرة في هذه الرموز، ولذلك عمدت إلى ما في يدي منها فعلا، فحاولت اسغلاله في كتابة هذه الكلمات، وأظن القارئ سيجد تباينا بين استخدام هذه الرموز من لهجة إلى أخرى، وهو تباين يقتضيه اختلاف النطق بين هذه اللهجات. وأخيرا أرجو مخلصا أن تكون هذه المحاولة فاتحة محاولات أخرى في دراسة لهجاتنا العامية من جميع نواحيها، ومحاولات في التوسع في دراسة اللغة العربية الفصحى، بطرق البحث الجديدة الموضحة في هذا الكتاب، والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، إنه نعم المولى، ونعم النصير. تمام حسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 مقدمة الحاجة إلى منهج للغة : اللغة أخطر الظواهر الاجتماعية الإنسانية على الإطلاق، وكل تقدم اجتماعي كتب له الكمال إنما تم لوجود اللغة، تصو طائفة من الناس مجتمعة على عمل معين، لا يتم إلا بالتعاون بين أفراد هذه الطائفة؛ فذا التعاون يقتضي توزيعا للعمل بحيث يكون لكل فرد دوره الخاص الذي يقوم به، وبحيث يكون بعض الأفراد موجها، ورئيسا وبعضهم موجها ومرءوسا، وبحيث يلزم أن يتم اتصال من نوع معين بين الرئيس، والمرءوس لصالح العمل، ثم ابحث في خيالك وسوف لا تجد وسيلة للاتصال أنجح في هذا الباب من اللغة، وخير مثال لذلك العمل القائم الآن في كهربة خزان أسوان، والانسجام المطلق في العمل بين عمال المصانع، والتنظيم الدقيق للجهاز الحكومي؛ فكل أولئك أمثلة تتجلى فيها أهمية اللغة، كوسيلة من وسائل الاجتماع، وكأداة من أدوات تنسيق الجهود الفردية، ومزجها في مجهود جمعي عام. واللغة أخطر رابطة تاريخية، تربط بين الأجيال المختلفة من الشعب الواحد رباطا، يجعل وحدة هذه الأجيال حقيقة ملموسة على رغم اختلاف العصور، ذلك بأن اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات، والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الجيال واحدا بعد الآخر، فصفة الاستمرار لكل هذا لا تأتي إلا عن طريق اللغة، تورث معها، وتبقى ببقاء ما يدل عليها من المفردات والتراكيب، وإحساس الخلف بجهة شركة لغوية بينه، وبين السلف كفيل بخلق إحساس بالوحدة الشعبية بينه وبينه. منذا الذي يستطيع الآن في أي بلد عربي أن يقطع بعروبته الخالصة؟ وهل يستطيع الكثيرون أن يقطعوا بأنهم عرب في أنسابهم، ودمائهم؟ الواقع أن لبعض العرب الآن من العلم بتاريخ عائلته، ما يدعوه إلى الحزم بأنه غير عربي النسب، ولكنه مع ذلك يحس بعروبته، كما يحس صريح العروبة أو أكثر، لماذا؟ لأن العربية لسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كما ورد في الحديث؛ ولأن رابطة اللغة أقوى من أي رابطة اجتماعية أخرى، حتى إنها لتجعل المعاصرين من المصريين والعراقيين، والسوريين والتونسيين يفخرون في وقتنا هذا بمن غزا مصر والعراق، وسوريا وتونس في التاريخ العربي القديم؛ لأنهم يشعرون أن هؤلاء الغزاة من أسلافهم، وإن لم يكونوا كذلك من جهة النسب. واللغة سلاح من أقوى الأسلحة النفسية، للسيطرة على الأفكار والأشياء. وما أمر الدعاية بالخطب والإعلانات بالأمر الهين، وفي الانتخابات النيابية والمحاكمة، غالبا ما يكون الجانب الظافر أقدر الجانبين على استخدام سلاح اللغة، ويغشى المصلون من المساجد، ما تمتع بإمام مجيد لاستخدام هذا السلاح. وقد كانت القدرة على الخطابة في بعض الأحيان، سببا من أسباب الاختيار لعضوية مجلس الوزراء، وليس السحر وأثره على النفوس والأشياء بما يمكن إغفاله في هذا المقام، وحسبنا أنه يفرق بين المرء وزوجه، وأنه يجعل العصا حية تسعى، وكثيرا ما تكون الكلمة ملزمة، كما لو كانت قوة مجبرة، والهزل في نظر الفقه يوقع الطلاق والعتق، والتوقيع على ورقة قد يكون سببا في شقاء أو سعادة، وقد يحول مستقبل شخص ما إلى طريق غير الذي كان يسير فيه. والدعاء يستنزل رحمة السماء أو غضبها، ولقد كان السب في الذات الملكية -وما هو إلا حركات من حركات اللسان- كافيا لإيداع الشاتم في السجن مدة قد تطول أو تقصر، وما كان الشاتم لينزل هذا المنزل الخشن لولا حركات لغوية مماثلة تجري على لسان القاضي، ومن الناس من يشتري السلعة دون حاجة إليها؛ لأن البائع قد نجح في إقناعه بفائدة الصفقة، وتؤثر بلاغة اللغة وجودة الغناء بها في نفوسنا، حتى لنخرج عن المزاج المنقبض إلى المزاج المرح المنبسط. وقد تتصرف ونحن تحت هذا التأثير تصرفا، لا يسهل علينا لو لم نكن تحت تأثير اللغة. وقديما قالوا: الناس أعداء ما جهلوا. وإنك لترى الشخص الذي لا تعرفه وتجلس معه جنبا إلى جنب في القطار، فلا يهمك من أمر شيء، ولو لقي شدة وهو في حالة هذه لما دفعك دافع على التضحية من أجله، ولكنه إذا كان قد سبق فقدم نفسه إليك، وتحدث معك بعض الوقت، فقد يكون ذلك سببا كافيا من أسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 اهتمامك له، والبذل من أجله لتخلصه من هذه الشدة، وإنك لتقابل الشخص تعرفه وليس بينك وبينه صادقة، فيتوقف استمراره الصلة على بضع كلمات آلية ترددانها مثل صباح الخير، أو السلام عليكم، أو كيف الحال؟ تقولانها وأنتما لا تقصدان منها غير العمل في إنهاء الموقف، دون إضرار بالمعرفة السابقة، وإذا كان الناس أعداء ما جهلوا، فإن أكثر الأمم جلبا للأصدقاء، هي تلك التي تعمل على تعريف الأمم الأخرى بها، سواء في ماضيها أو في حاضرها، أو في آمالها الطموحة إلى المستقبل، فإذا كانت اللغة خير وسيلة لهذا التعريف، فما أخطر اللغة إذا! لأن الأمة تستطيع أن تكسب الأصدقاء لنفسها، إذا عملت على أن يكثر عدد العالمين بلغتها من الأجانب، وكل أجنبي يتعلم لغتك مكسب لك؛ لأنه يجد نفسه أكثر استعدادا للشعور، كما تشعر والتفكير كما تفكر، ويعطف على آمالك وآلامك التي تعلمها من قراءة لغتك، والكلام بها. فطن الأوربيون إلى ذلك منذ زمن بعيد؛ فأنشأوا مدارس لهم في البلاد الأجنبية تعلم لغاتهم؛ فكانت لغاتهم أول سلاح من أسلحة السيطرة على البلاد، التي استعمروها؛ لأن اللغة كانت القنطرة، التي عبرت عليها المسيحية من عقل الأوروبي إلى قلب الأفريقي والأسيوي، كما كان الإسلام من قبل يسير جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، ولعل المجلس البريطاني قد كسب لانجلترا من الأصدقاء، ما لم تحلم به سفاراتها وبعثاتها السياسية. فإذا كان للغة هذا الخطر على نفس المواطنين، والجانب فحري بدراستها أن تكون محل عناية، وموضع اهتمام، ولقد حاربنا المستعمرون قديما بأن غرسوا في نفوسنا احتقار اللغة العربية؛ فأفقدونا ثقتنا بأنفسنا وبتاريخنا ومستقبلنا، وأصبح الكلام بلغتنا موضع تندر، وتكلمت الأسرات العريقة إحدى اللغات الأجنبية تركية كانت، أم فرنسية أم غير ذلك، وولغ الناس في سمعة مدرس اللغة العربية، كما يعتدون على سمعة كل طائفة قليلة الدخل، ولحقت عدوى احتقار اللغة طائفة المحامين في مبدأ نشأتها، ولا تزال تلحق طائفة المسرحيين من الممثلين في بعض الأوساط، ولكن وزارة المعارف قد عملت في ربع قرن على أن تداوي بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 هذه الأدواء، وعلى رفع مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية، ففخر الناس بها، وتكلموها، وأعطوها حظا أكبر من العناية، ولكن وزارة المعارف -برغم رفعها مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية- خضعت للظروف السياسية، فهبطت بمستوى اللغة من الناحية الدراسية، ونتج عن ذلك أن انخفض المستوى التعليمي العام؛ لأن اللغة وهي أكبر وسيلة من وسائل التعليم، ترتفع بمستوى التعليم إذا ارتفع مستواها، وتنخفض به إذا انخفض مستواها. وعلى هذه الدعوى الأخيرة، أريد أن أبني دعوى أخرى، هي أن خير التلميذين تقبلا للعلم أكثرهما معرفة باللغة التي يتعلم بها؛ وأكثر اللغتين جلبا لأصدقاء الأمة من الأجانب، تلك التي تسهل دراستها، وتقوم على منهج مقبول. ولقد منيت الدراسات اللغوية العربية مدة طويلة بسمعة الصعوبة، وأحيانا بسمعة التعقيد، يشهد بذلك تلاميذ المدارس من جهة؛ وهؤلاء الذين لم يتخصصوا في اللغة من جهة أخرى، والجانب المستشرقون من جهة ثالثة، ولعل نعت الدراسات العربية هذه النعوت، إنما جاءها لعدم التجديد في منهجها؛ فما ورثناه عن آبائنا من خلط في التفكير اللغوي، لا يزال كما هو لسببين: أولهما الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، "وتلك نظرة جعلت الأتراك في مرحلة من المراحل يقفلون باب الاجتهاد، أو بعبارة أخرى يحرمون البحث العلمي تحريما تاما"، والسبب الثاني ضيق النظرة إلى اللغة العربية، واعتبارها مرتبطة بالقرآن احتراما أو امتهانا، وقد أدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم ليلزم استعمال ما جاء في المعاجم فحسب، ولا يسمح للوليد من الكلمات أن يدخل حظيرة الاستعمال اللغوي. ولم يعدم العالم العربي في مختلف العصور، من يدعو إلى التجديد في منهج الدراسات اللغوية؛ ولعل أول محاولة لها خطرها في هذا الباب، هي محاولة ابن مضاء الأندلسي الظاهري المذهب، الذي دعا إلى اعتبار ما هو مستعمل فحسب من سيغ اللغة، دون الحاجة إلى التقدير والتعليل، وقد كثرت هذه المحاولات في العصر الحديث؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 حتى إن بعض هذه المحاولات، جاءت من أكثر الهيئات الثقافية محافظة على القديم وغيرة عليه، ألا وهي الأزهر، على أن هذه المحاولات قامت دائما على الذكاء، والاجتهاد الشخصيين ولم تقم على فلسفة لها عمقها في فهم اللغة. ولست أدعي لنفسي قسطا من الذكاء الشخصي، أكبر من حظ هؤلاء الذين قاموا بهذه المحاولات، بل إنني لا أسمح لنفسي -وهم أساتذتي الأجلاء- أن أساوي ذكائي بذكائهم الذي أشهد لهم به، ولكنني لا أستطيع أن أغمط حق النظرية، التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي نظرية جاءت نتيجة تجارب القرون في الغرب، فهيكلها غربي، وتطبيقها على اللغة العربية هو القسط الذي أنا مسئول عنه في هذا الكتاب. ولقد جئت في هذا الكتاب بشرح مناهج الفروع الرئيسية في الدراسات اللغوية، وكم كنت أود أن يتسع الزمان، والمكان لدراسة فصول ثلاثة أخرى هي: 1- التركيب والتحليل في اللغة. 2- المستوى الصوابي والمجتمع اللغوي. 3- الأبجدية "وظيفتها وتاريخها وإصلاحها"، ولعل المستقبل كفيل بأن أخصص لهذه الفصول الثلاثة مجلدا مستقلا، أقوم فيه على شرحها. ويقوم تطبيق النظرية في هذا الكتاب على اللغة العربية الفصحى أولا، وقبل كل شيء، وحين يقضي المقام بالتمثيل من اللهجات العامية، يجد القارئ أن معظم الأمثلة، قد جاءت من لهجة الكرنك بمديرية قنا، وقد درستها لرسالتي التي حصلت بها على الماجستير من جامعة لندن، ولهجة عدن في جنوب بلاد العرب، وقد حصلت بدراستها على الدكتوراه من نفس الجامعة، فأما ما عدا ذلك من ذكر لهجات أخرى، فأمثلته مقتبسة من بطون المراجع، أو من ذاكرتي السمعية. وتبدو الحاجة ملحة في أيامنا هذه إلى بناء الدراسات اللغوية على منهج له فلسفته، وتجاربه إراء للروح العلمية الخالصة من جهة، وتوفيرًا لجهود عشاق اللغة من جهة أخرى، فقارئ اللغة العربية في الوقت الحاضر، يجد نفسه أمام أمشاج من الأفكار غير المتناسبة يأتي بعضها من المنطق، وبعضها الآخر من الميتافيزيقا، وبعض ثالث من الأساطير، ورابع من الدين وهلم جرا، ومن هنا كانت الرغبة ملحة إلى تخليص منهج اللغة من هذه العدوى، حتى يسلم لقارئ اللغة نص في اللغة واللغة فحسب، غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 معتمد على أسس من خارجها، تلك هي الرغبة التي أملت هذا الكتاب، وستملي غيره إن شاء الله. وكم أود أن يمنح المجمع اللغوي هذا النوع من الدراسات قسطا من العناية بعد أن بدأت الجامعات في الاحتفال به، وكم أود أيضا أن يتسع صدر الجامعة، وكيسها لإنشاء معامل لهذه الدراسة في كلية دار العلوم وغيرها؛ وسوف لا يكلفها ذلك كثيرا من المال، وفي دار العلوم الآن نواة لهذا المعمل لا ننتفع بها، لعدم وجود أجزاء أخرى متكاملة معها، والله سبحانه وتعالى أسأل أن ينفع بهذا الكتاب؛ وأن يوفقنا إلى أن نتبعه ما وعدنا به من فصول أخرى عن اللغة، إنه سميع مجيب. المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تعريف بالرموز المستعملة في هذا الكتاب : لا تكفي رموز الأبجدية العربية بنفسها للقيام بدراسة أصواتية لا للغة العربية الفصحى، ولا لأي لهجة من اللهجات العامية، ذلك؛ لأن رموز هذه الأبجدية قاصرة قصورا عظيما من وجهة نظر العلل، وقصورا أقل شأنا من وجهة نظر الصحاح. أما من جهة العلل، فلم تعن الأبجدية العربية بها لا من الناحية الأصواتية، ولا من الناحية التشكيلية؛ بل جعلت لها رموزا إضافية تابعة لرموز الصحاح، وتدل على الحرف أكثر مما تدل على الصوت، وحسبنا أن نعلم أن الفتحة القصيرة مثلا ذات أصوات ثلاثة في العربية الفصحى أحدهما مفخم، وثانيها أقل تفخيما، وثالثها مرقق ومع ذلك لم يعن واضعوا الرموز العربية بهذا؛ بل وضعوا لكل أولئك خطا يوضع فوق رمز الحرف الصحيح، قلما يستعمل في أيامنا هذه إلا في ظروف خاصة، ومواقف معينة، ولكن رموز الأبجدية العربية للصحاح، إن قصرت عن غرض هذا الكتاب، وهو الدراسة المفصلة للقيم الأصواتية في الحرف الواحد، فلن تقصر عن الأغراض العملية، التي خلقت من أجلها؛ بل إن المرء ليستطيع أن يدعي أن الأبجدية العربية، ربما كانت من أوفى النظم الكتابية في العالم بالغرض الذي وضعت له، ذلك بأنها تضع لكل حرف من حروفها رمزا كتابيا خاصا، وهو أمر لا يستطيع كثير من لغات العالم أن يفاخر به. فرق إذا بين أن نضع رموزا للأصوات، وأن نضع رموزا للحروف فالأصوات في كل لغة من لغات العالم أكثر من الحروف، ومن هنا يتحتم أن تكون رموز الأولى أكثر من رموز الثانية، وإذا كانت رموز الحروف ثابتة العدد؛ لأن عدد الحروف لا يزيد، ولا ينقص فإن رموز الأصوات ليست كذلك، وليس تغير عدد رموز الأصوات نتيجة لتغير عدد الأصوات نفسها، كما قد يبدو من سياق الكلام، فعدد الأصوات ثابت أيضا، ولكن الزيادة والنقص في هذه الرموز، إنما تأتي من إرادة واضعها أن يمثل الكثير من صفاتها، فيضع له الكثير من الرموز، أو أن يكتفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بالصفات الهامة فحسب، فيضع لها رموزا أقل فأقل مايدل عليه الرمز المنفصل هو الاختلاف في المخرج، أو في الشدة والرخاوة، والتركيب والتوسط أو في الجهر والهمس؛ ولكن الباحث قد يريد أو يبين أمورا إضافية في النطق كالتفخيم والترقيق، وكالإجهار والإهماس، وكالتحليق والإطباق والتغوير وكالهمز، وكالشدة الأنفية، فيضيف إلى الرمز ما يوضح هذه الملامح الإضافية فيه، ومن هنا تكثر رموز الأصوات بحسب هذه الإضافة. ووضع الرموز اصطلاح لا أكثر ولا أقل، أي أن العلاقة بين الرمز ومدلوله علاقة اعتباطية، لا منطقية ولا طبيعية، ووضع الرمز ككل نواحي الاصطلاح بحاجة إلى الإيضاح قبل الاستعمال؛ فيوضح صاحب الاصطلاح معناه، وقيمته حتى لا يوجد حيرة القارئ في تطبيقه واستعماله، يقول شوخارت1: "للحيرة في تطبيق الاصطلاح من الأثر على البحث العلمي، ما للضباب على الملاحة، بل هي أكثر خطرا؛ لأن الناس قلما يحسون بوجودها". ومن هنا أرى لزاما علي -وعلى كل من يستعمل الاصطلاحات الجديدة على القارئ- أن نقدم بين يدي القارئ تعريفا بها، وتحديدا لها، وإنما اكتفيت في هذا المقام بتحديد الرموز؛ لأنني قد أتيت مع الاصطلاحات الأخرى، بتحديد جاء في عرض القول، وفيما يأتي إيضاح للرموز الأصواتية المستعملة في هذا الكتاب.   1 Ulman. p. 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 رموز الأصوات : "b": يدل هذا الرمز على صوت شفوي شديد، مجهور هو صوت الباء، وقد يرد للباء أكثر من صوت واحد من جهة التفخيم والترقيق، والإجهار، والإهماس في اللهجات العامية، ولكننا اكتفينا بهذا الرمز ليدل على كل هذه الاحتمالات، لعدم تأثيرها تأثيرًا ذا خطر على المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 رموز الحروف ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 استقلال المنهج اللغوي : سوف يرى من يتتبع تاريخ الدراسات اللغوية، أن هذه الدراسات كانت جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي القديم، وسوف يرى قارئ الفلسفة اليونانية، أن هذه الفلسفة قد افترضت اللغة اليونانية مقياسًا للغات العالم، وبنت على ذلك اعتقادات تخطئه الدراسات اللغوية الحديثة، هو أن دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها، وطرقها صادقة على كل لغات العالم؛ إذ أن هذه اللغات تجري على مقياس اليونانية1، وهذه الدراسات اللغوية القديمة تختلط إلى حد كبير جدا بالنظريات المنطقية، والميتافيزيقية، ولقد اعتبر كتاب اللغة من الإغريق الجملة حكما منطقيا، واعتبروا طرفي الإسناد النحوي بنفس الطريقة، التي اعتبروا بها الموضوع والمحمول في المنطق، وإن من من يقرأ ما كتبه أرسطو في المقولات والعبارة، والتحليلات الأولى والثانية ليجدها مليئة بالنظرات، التي تخلط بين التفكير اللغوي، والفلسفي، خذ مثلا من كلامه في مقولة الكم: ويقال نفس الشيء عن الكلام، فمن الواضح أن الكلام ذو كمية؛ لأنه يقاس بالمقاطع الطوال والقصار، وأقصد بذلك الكلام المنطوق2"، ويقول: في الفصل العاشر من المقولات: "إن الأزواج المتقابلة التي تنضوي تحث مقولة الإضافة تتضح بنسبة كل فرد منها إلى الآخر؛ وهذه النسبة تدل عليها علامة الإضافة، أو أي حرف آخر"، ويقول أيضًا: "إن العبارات المتقابلة من جهة الإثبات، والنفي تقع بوضوح في نطاق قسم آخر متميز؛ لأنه من الضروري في هذه الحالة، وهذه الحالة فحسب أن يكون أحد المتقابلين صحيحا، والآخر خطأ"، ويقول: "والكلمات التي تقع في عبارات متقابلة، يقع بعضها في نفس الوقت عكسًا للبعض الآخر، وتختص الكلمات بهذا أكثر مما تختص به أي مجموعة من الأمور المتقابلة". ويعرف أرسطو الاسم بأنه اللفظ، الذي لا يدخل الزمن في مدلوله، ولا يدل   1 Bloomfield Language, p. 5. 2 The works of Aristotle translated into English Categorae. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 جزء منه مستقلا عن الأجزاء الأخرى1، وهو يقول: إن الاسم لا يوصف بالصدق، أو الكذب إلا إذا أسند ويضرب لذلك مثلا بكلمة "وعل"، فهي لا توصف بأي الصفتين، إلا إذا أضيف إليها فعل، وواضح أن الصدق والكذب ليس من الدراسات اللغوية؛ وإنما هو من الدراسات المنطقية، فالنحوي يحلل العبارة الكاذبة، كما يحلل العبارة الصادقة، ولا يهمه منها إلا التحليل اللغوي، ولا يهم النحوي من قول الشاعر يزيد جمال وجهك كل يوم إن كانت هذه الشطرة صادقة أم كاذبة، وإنما يعنيه منها أن يحللها تحليلا لغويا لا أكثر ولا أقل، وتعريف الأداة في نظر أرسطو هو تعريف الاسم، إلا أنها حين يضاف إليها الفعل لا يدل معها على إسناد، والفعل ما كان الزمن من مدلولاته، ولا يدل جزء منه بمفرده، أما الجملة فهي الكلام المفيد الذي لبعض أجزائه معان مستقلة، باعتبارها ألفاظا لا اعتبارها أحكاما إيجابية"2، فالجملة في نظر أرسطو إذا حكم منطقي، ولكنها في نظر الدراسات اللغوية الحديثة ليست كذلك، ثم يتكلم عن التقرير والنفي لا باعتبارهما من الأبواب النحوية، وإنما ينظر إليهما نظره إلى قضايا المنطق، ويقول: "وكل قضية لا بد أن تحتوي فعلا أو تعبيرا عن معنى الزمن في الفعل"3، ويدخل بعد ذلك في الكلام عن القضايا مستغنيا به عن دراسة الجمل. فالدراسات الإغريقية على سعتها، وعمقها لم تخلق للدراسات اللغوية منهجها الخاص، ولم تفكر في اللغة إلا في ظل المنطق والميتافيزيقا، يقول يسبرسن4 "أما بالنسبة للعقول المتأملة التي كانت لفلاسفة الإغريق، فإن المسألة التي بدت أشد ما تكون جاذبية كانت عامة وتجريدية: هل الكلمات تعبيرات طبيعية عن الأفكار التي تدل عليها، أو هي علامات عرفية اعتباطية على أفكار يمكن أن يدل عليها بأصوات أخرى، دلالة لا تقل شأنًا؟ وهذه ولا شك أفكار ميتافيزيقية مجردة، طرحتها الدراست اللغوية الحديثة لهذا؛ ولأن هذه المسألة لم تعد موضع نقاش في العصر الحديث؛ إذ هي من بديهيات الدراسات اللغوية.   1 Interpretatione, Ch. 2. 2 Interpretatione, Ch. 4. 3 ibid, Ch. 5. 4 Language, p. 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وجاء الإسلام وله كتاب كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان حرص المسلمين على حفظ هذا الكتاب من أن يغير، أو يبدل فيه حرصا مصحوبا بالغيرة والرغبة في العمل، ولقد كان هذا الحرص وتلك الغيرة، وما صحبهما من رغبة من الدوافع التي دفعت المسلمين، والعرب إلى خلق طائفة من الدراسات اللغوية، كالنحو والصرف والمعجم والتجويد وهلم جرا، جعلت العرب يلمعون في أفق العصور الوسطى، ويبدون بحق في مظهر القادة الفكريين في العالم، فهل خلص العرب الدراسات اللغوية من شوائب التفكير غير اللغوي بصفة عامة، والتفكير الفلسفي بصفة خاصة؟ وهل استطاعوا أن يجعلوا للمنهج اللغوي استقلاله عن مناهج العلوم الأخرى؟ ذلك سؤال سنحاول الإجابة عليه في الصفحات التالية: لقد عاصرت نشأة الدراسات اللغوية العربية نشاطا علميا ضخما في البلاد الإسلامية، شمل التدوين والسفر لطلب الروايات، والترجمة من اللغات الأجنبية ترجمة تناولت فروع المعرفة، التي تخدم الثقافة العربية، فترجموا الفلك والرياضات من الهندية، كما ترجموا عن البهلوية والسريانية واليونانية، ونشأت المدارس التي احترفت الترجمة احترافا في حران والرها، وغيرهما من بلاد الخلافة؛ فأصبحت العقلية العربية لأول مرة في احتكاك مباشر بالأمم، والديانات الأخرى ذات الثقافات المكتوبة1، وكان لا بد والحالة هذه أن يتتلمذ العرب على هذه الأمم، وأن تتأثر عقولهم بعقولها، وأن ينهجوا في نشاطهم العلمي نهجا تظهر فيه سمات اطلاعهم على تراث هذه الأمم. ولعل العرب لم يترجموا عن أمة كما ترجموا عن اليونانية، إما مباشرة أو عن طريق السريانية1، ومن المعلوم أن أرسطو كان له نصيب الأسد في الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وأن منطقه أصبح شهيرا في البلاد الإسلامية في العصر العباسي. ولم يكن الاحتكاك بين العرب، وبين العقلية الإغريقية في ذلك العصر مقصورا على الترجمة فحسب، بل إن الصلة بين علماء المسلمين، وبين رجال الدين من المسيحيين ظلت قائمة وثيقة في هذا العهد، كما كانت من قبل، وكما استمرت من بعد كذلك، وقد   1 Read O'Learv, How Greek Science Passed to the Arabs. pp. 155-75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 كان رجال الدين من المسيحيين، كما نعلم يعرفون من اللغات ما كتبت به الأناجيل، ولذلك كانوا يعرفون أكثر من لغة واحدة، وقد جمع الكثير منهم بين العربية، لغة الدولة التي يدينون لها بالطاعة، وبين الإغريقية لغة الدولة التي يدينون لها بالعطف والولاء، وقد كانت الإغريقية في ذلك العصر لغة الكنيسة الأرثوذكسية، التي كان أكثر المسيحيين في الدولة1 الإسلامية تابعا لها، وكم دارت المناظرات بين هؤلاء المسيحيين، وبين علماء الإسلام في قصور الخلفاء وفي خارجها، وكم دون المسلمون من الحجج على النصارى2. وكم دون النصارى من الحجج على المسلمين، ولقد كانت هذه المناظرات في بدايتها من الدوافع، التي حفزت المسلمين على خلق علم الكلام، وكانت الأدلة في كل هذه المناقشات تصاغ على مثال الأقيسة الأرسطوطاليسية، وكان منطق أرسطو عند الفريقين مرجعا نافذ الحكم والقضاء. كان لا بد والحالة على ما ذكرنا، أن يظهر أثر الأفكار الأجنبية في الدراسات اللغوية عند العرب، وأن تنتقل عدوى التفكير الأرسطوطاليسي، الذي يخلط بين الدراسات اللغوية والدراسات المنطقية، والميتافيزيقية إلى اللغة العربية ودراساتها، وبالأخص دراسات أصل اللغة والدراسات النحوية. يقول ابن جني في باب القول على اللغة، وما هي3: "أما حدها فهي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذا حدها، وأما اختلافها، فلما نذكره في باب القول عليها أمواضعة هي أم إلهام؟ " فالمواضعة أو التعارف والإلهام، أو التوقيف كانا عند العرب أساسين تتراوح الأفكار بينهما في الكلام عن أصل اللغة، ولقد كانت العلاقة بين الكلمة وبين مدلولها، "وهي دراسة ميتافيزيقة كالكلام في أصل اللغة"، من نصيب دراسة الفلسفة الإسلامية، أكثر مما كانت من نصيب اللغويين. أما النحو العربي، فإن أثر المنطق فيه يبدو من جانبين اثنين؛ أولهما جانب المقولات، وتطبيقها في التفكير النحوي العام، وثانيهما الأقيسة والتعليلات في المسائل النحوية   1 O'Leary, 36-46. 2 للجاحظ في الفصول المختارة رسالة في الرد على النصارى، يصلح مثالا لذلك. 3 الخصائص ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الخاصة مع ما يساير ذلك من محاكاة التقسيمات اللغوية، التي جاء بها أرسطو في دراساته، والتي ذكرنا أنه خلط فيها بين النحو، وبين المنطق ويعلم القارئ، أن المقولات عشر هي الجوهر والكم والكيف والزمان، والمكان والإضافة والوضع والملك، والفاعلية والقابلية "أو كما تسميها المتون العربية: أن يفعل وأن ينفعل1". ويعلم القارئ أيضا أن هذه المقولات عليا الأجناس؛ أي أن الأجناس فيما عداها أخص منها، وتندرج تحتها ولا يعلو على هذه المقولات جنس واحد منها، ثم هي كذلك أسس تفهم الأشياء مبنية عليها، فللشيء جوهر وكم وكيف، وهو في زمان ومكان، ثم هو يفهم بالإضافة إلى شيء آخر، ويدرك في وضع معين، وقد يكون مالكا، أو مملوكا وفاعلا أو قابلا. نظر النحاة إلى اللغة نظرتهم إلى الأشياء والمحسوسات، فجعلوا للكلمة جوهرًا كما جعلوه للمادة، ورأوا أن جوهر الكلمة لا يتغير إلا بإعلال أو إبدال. فالأصل أو الجوهر في "قال" "قَوَل" وفي فعل الأمر من "وفي" "إوف" وفي كلمة "نهى" "نَهَيَ" وفي "قاض" قاضي إلخ. ويذهب النحاة في ذلك مذاهب لا تخلو من التعسف الظاهر؛ يقول ابن جني2 تحت عنوان "باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة، والتلطف لا بالإقدام والتعجرف": وذلك كأن يقول لك قائل: كيف تحيل لفظ وأيت إلى لفظ أويت، فطريقه أن تبني من "وأيت" فوعلا، فيصير بك التقدير فيه إلى "وَوْأَيُ" فتقلب اللام ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيصير "وَوْاْآ" ثم تقلب الأول همزة، لاجتماع الواوين في أول الكلمة، فيصير "أوأآ" ثم تخفف الهمزة فتحذفها، وتلقى حركتها على الواو قبلها، فيصير "أوا" اسما كان أو فعلا، فقد رأيت كيف استحال لفظ "وأى" إلى لفظ "أوا"، من غير تعجرف ولا تهكم على الحروف، وكذلك لو بنيت مثل فوعال لصرت إلى "ووأ آى"، ثم إلى "أو أى" ثم "أوآإ" ثم تخفف، فيصير إلى "أوآء"، فيشبه حينئذ لفظ "أآة" أو أويت .... ".   1 حاشية العطار على شرح مقولات السجاعي. 2 الخصائص ص483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ونحن نجد الجوهر اللغوي في هذه العبارة، يبدو في صورة متعددة، والتشكل غير غريب على الجوهر الفلسفي المنطقي أيضا، والذي أحب أن أشير إليه هنا هو أن ابن جني لا يرى في كل هذا التعجرف تعجرفا، ولا ف يكل هذا التهكم على الحروف تهكما، وإنما يراه صنعة وتلطفا، كما رآه النحاة من قبل ومن بعد. ولم يعن النجاة بجوهر الكلمة فحسب، بل انساقوا أيضا إلى التفكير في جوهر الجملة، فاخترعوا فكرة تقدير ما غاب من هذا الجوهر، والتقدير بلية فلسفية ميتافيزيقية، ومنطقية ابتلي بها النحو العربي ولا زال يبتلى، ومن الطلائع الذين هاجموا الكثير من الأفكار التقليدية في النحو العربي، ومنها التقدير ابن مضاء القرطبي. ومن كلامه في ذلك1: "فإن قيل: فما تقول في مثل "زيد قام"، إذ قالوا: إن في قام ضميرا فاعلا؟ وليس داع يدعو إلى ذلك إلا قول النحويين: الفاعل لا يتقدم ولا بد للفعل من فاعل، وقولهم هذا لا يخلو من أن يكون مقطوعا به أو مظنونا، فإن كان مظنونا، فأمره أمر الضمير المدعي في اسم الفاعل، وإن كان مقطوعا به صح هذا الإضمار، ولابد أن يتقدم قبل الكلام في هذا الموضع مقدمات تعين الناظر فيه على ما قصد تبيينه، وهي أن الدلالة على ضربين: دلالة لفظية مقصودة للواضع، كدلالة الاسم على مسماه، ودلالة الفعل على الحدث والزمان، ودلالة لزوم، كدلالة السقف على الحائط، ودلالة الفعل المتعدي على المفعول به وعلى المكان. ودلالته على الفاعل فيها خلاف بين الناس، منهم من يجعل دلالته عليه كدلالته على الحدث والزمان، ومنهم من يجعل دلالته عليه، كدلالته على المفعول به، فإذا قيل "زيد قام"، ودل لفظ "قام" على الفعال دلالة قصد، فلا يحتاج إلى أن يضمر شيء؛ لأنه زيادة لا فائدة فيها"، ولا شك أن ابن مضاء مصيب فيما يقول، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يسلم من قيود المنطق، حين تكلم عن الدلالة اللفظية دلالة اللزوم، والدراسات اللغوية لا تعترف بدلالة اللزوم، وإنما تعتبر دلالات الألفاظ بذواتها، وتأخذ الفعل الماضي "قام" على أنه صورة دلت على المفرد الغائب   1 كتاب الرد على النحاة نشره، وحققه الدكتور شوقي ضيف ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بشكلهما كما دلت على الحدث والزمان، هذا ما يمكن أن يقال في مدى تطبيق النحاة لمقولة الجوهر في تفكيرهم اللغوي. وأما الكم، فواضح أن النحاة، والقراء ربما عرفوا أن المدة "durtion" التي يستغرقها نطق صوت من الأصوات، لا تتناسب طردا ولا عكسا مع كميته الطولية 'Quantity"، ومع هذا أصروا على خلق وحدات طولية فكرية في دراسة الأصوات العربية، فالحرف المشدد بحرفين، وإن قصرت مدته عن مدة الحرف المفرد في بعض النطق، والفتحة نصف الألف اللينة في نظرهم، إذا كانت كتلك القصيرة المدة التي في آخر "منى" من قولنا "منى النفس1"، والتفكير المنطقي هنا واضح كل الوضوح، وعلى الأخص إذا عرفنا أن بعض التجارب الآلية، التي قمت بها على لهجة عدن، قد برهنت إلى درجة تعزز ملاحظتي الخاصة تعزيزا كاملا، على أن الصوت لا مفرد الأخير الساكن في الكلام أطول من نظيره المشدد في الوسط من جهة المدة، وإن كان أقصر منه من جهة الكم. وخطر هذا التقسيم يتضح في الصرف بصفة خاصة، حيث تقوم الكمية في الحروف بدور القيمة الخلافية، التي تفرق بين معاني الكلمات، كما يبدو ذلك في التفريق من جهة المعنى بين "عَبَدَ" و"عبَّد" و"ضرب" و"ضربا" وما أشبهها من الموازنات، ولست بذلك أريد أن أهجن الاعتماد على الكمية في دراسة الحروف، كما يعتمد على المدة في دراسة الأصوات، على العكس. إن النظرة اللغوية الحديثة تحتم اعتبار الكمية في الفونولوجيا "التشكيل الصوتي"، كما تحتم اعتبار المدة الفوناتيك "الأصوات"، ولكن أريد أن أنبه إلى الصلة بين مقولة الكم، وبين التفكير في كمية الحرف، كما فهمها النحاة والقراء القدماء. ويتضح تطبيق مقولة الكيف من نسبة كيفيات استعدادية لبعض الأفعال الثلاثية، ولبعض الأسماء وفي تسمية بعض الحروف، فمن أسماء أنواع الأفعال   1 راجع دراسة الكمية والمدة في منهج التشكيل الصوتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الثلاثية المقصورة والأجوف والناقص، وهناك المؤنث المقصور كحبلى، والألف اللينة، ومن ذلك أيضا التقسيم إلى مفرد ومثنى وجمع، واتصاله بفكرة الكيفيات الكمية. وأما تطبيق مقولة الزمان على دراسة اللغة، بلا تفريق بين الزمان الفلسفي، والزمن النحوي، فواضح في تقسيم الفعل دون نظر إلى استعمالاته، فالفعل إما ماض أو مضارع أو أمر، والماضي ما دل على حدث مضى قبل زمن التكلم، والمضارع ما دل على حدث في الحال أو الاستقبال إلخ، ويضطر النحاة بعد هذا التقسيم المنطقي أن يعتذروا، كلما خذلهم الاستعمال النحوي، فهم يعتذرون عن الفعل المضارع الدال على المضي حين يقترن بلم، ويعتذرون عنه في تعبير مثل "إن تكن عاد قد بادت، فما بادت خصالها"، وعنه في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} ، وعن الماضي في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، وفي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، إلخ كل ذلك لخلطهم في التفكير بين الزمان الفلسفي والزمن النحوي، ولو أعطوا للزمن النحوي وظيفة التفريق بين الصيغ لا الدلالة على المضي والحضور، والاستقبال لكان ذلك أشبه بالدراسة النحوية. والتفكير في مقولة المكان، يبدو بالتضامن مع مقولة الكيف مسئولا عن تقدير الحركات على أواخر الكلمات، ففي قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} كسرة مقدرة على الألف الأخيرة، منع من ظهورها تعذر اجتماع النطق بالألف، والنطق بالكسرة في وقت معا، وفي قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} ، ضمتان مقدرتان إحداهما مقدرة على واو الفعل، والأخرى على ياء الاسم المنقوص. وهذه المقولة أيضًا مسئولة عن فكرتي الإعلال والإبدال، فالإعلال تغيير شكل في مكان معين، والإبدال إنما يتم بوضع شيء مكان شيء آخر، ومن ذلك أيضا أن الفاعل يجب أن يتأخر عن فعله، وهكذا يمكن إيجاد أكثر من مثال آخر في النحو العربي، يتم عن نفوذ هذه المقولة على تفكير النحاة. ثم هناك مقولة الإضافة، وقد فهم النحاة العرب كل فعل بالإضافة إلى فاعله. فإذا لم يكن للفعل فاعل مذكور في الجملة، فلا أقل من أن يقدره النحاة ليكون تفكيرهم متمشيا مع منطق المقولات، وهنا نعود مرة أخرى إلى مثال ابن مضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 "زيد قام" لنقول: إن زيدا برغم كونه موجودا في الجملة، لم يصلح فاعلا لتحكم فكرة المكان، فالفاعل يأتي بعد الفعل لا قبله، وإذا لم يصلح فاعلا، فلا بد لنا أن نقدر فاعلا في الجملة، برغم أن صيغة الفعل الماضي، تدل هنا بشكلها ودون الحاجة إلى تقدير على أن الفاعل مذكر غائب، ولو كان غير ذلك لتغيرت صيغة الفعل، ومقولة الإضافة أيضا مسئولة عن فكرة الإمالة، فالاسم الممال، إنما اعتبر ممالا بالإضافة إلى اسم آخر، ألفه صريحة بقطع النظر عن أن كلا منهما أصل في لهجته الخاصة به. ولو درسنا اللهجة التي فيها الإمالة بمفردها، ما احتجنا إلى التفكير في هذا الباب على الإطلاق، ولكن النحاة العرب أبوا إلا أن يدرسوا مجموعة من اللهجات في نحو واحد، ومن هنا جاءت شدة الاضطرار إلى التقسيم إلى شاذ ومطرد. وأما الخضوع لفكرة مقولة الوضع، فمثاله أن الجملة برغم عدم إمكان ظهور حركة إعرابية عليها جعل لها وضع إعرابي معين؛ فقد تكون في محل نصب مقول القول، أو صفة المنصوب، وقد تكون في محل جزم جوابا لشرط، وقد تكون في محل رفع خبرا، وقد تكون في محل جر صفة، وما إلى ذلك. وهل يستطيع أحد أن ينكر أن مقولة الملك مسئولة إلى حد كبير عن الأهمية الثانوية، التي منيت بها الحركات في الدراسات العربية والسامية؟ فالمحل الأول والاهتمام الأول للحرف الصحيح، وهذا الحرف الصحيح، إما أن يكون منصوبا أو مجرورًا أو مرفوعا، فالحركة إذا وصف للحرف الصحيح، وملك يمين له كما رأى ذلك النحاة. وفي كل لغات العالم الأخرى تكتب الحروف، والحركات جنبا إلى جنب في روح من المساواة، ولكن اللغة العربية قد جعلت من حركاتها في الخط علامات كتابية، وفي النحو علامات إعرابية، فهي علامات لا حروف في الحالتين، على أن العروضيين -والشعر موسيقى كما نعلم- قد قلبوا الوضع في رمزهم إلى مقاطع الشع بالخطوط، والدوائر فجعلوا الاهتمام الأول بالحركة لقيمتها الموسيقية، وأهملوا الحرف أن يرمز إليه؛ فكانت الشرطة علامة على حرف متحرك "والشرطة حركة فقط في الكتابة"، وجعلوا السكون علامة على حرف ساكن أو مد، وكلا النظرتين تقع تحت النقد الشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والمقولتان الأخيرتان مسئولتان إلى حد كبير، عن أهمية أساس من أسس النحو العربي، ألا وهو نظرية العامل1، فإذا كان الشيء إما فاعلا، وإما قابلا فلماذا لا تكون الكلمات كذلك؟ ولماذا لا يكون بعض الكلمات عاملا في بعضها الآخرة؟ حتى المعاني جوز النحاة لها أن تعمل الرفع، وابن مضاء أيضًا ممن هاجموا نظرية العامل، فأبانوا فسادها إلى اقصى حدود الإبانة، يقول2: "قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو، ما يستغني النحوي عنه، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه. فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض، والجزم لا يكون إلا بعامل لفظي، وأن الرفع منها يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي، وعبروا عن ذلك بعبارات توهم في قولنا: "ضرب زيد عمرًا" أن الرفع الذي في زيد والنصب الذي في عمرو، إنما أحدثه ضرب"، ثم يستطرد فيقول: "وأما القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضا، فباطل عقلا وشرعا، لا يقول به أحد من العقلاء لمعان، يطول ذكرها فيما المقصد إيجازه: منها أن شرط الفاعل أن يكون موجودا، حينما يفعل فعله، ولا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه إلا بعد عدم العامل، فلا ينصب زيد بعد إن في قولنا: "إن زيدا" إلا بعد عدم إن". وواضح أن ابن مضاء يعالج المسألة علاجًا منطقيًّا أيضًا، وإن كان قد بين فساد وجهة نظر النحاة، وقد تورط في كتابه في دعوى لا يمكن السماح بها، وهي أن العامل النحوي هو المتكلم، فهو إن كان قد ألغى عاملا فقد فرض عاملا آخر لا تجيزه الدراسات اللغوية الحديثة؛ لأن المتكلم لا يرفع ولا ينصب بنفسه، وإنما بحسب القواعد. نرجو في هذا الموضع أن نكون قد بينا للقارئ، مدى تأثر النحاة بالمقولات العشر في تفكيرهم اللغوي، ونود بعد ذلك أن نعرض لنوع آخر من تأثرهم بالمنطق   1 راجع الخصائص ص115 في الكلام عن العامل. 2 الرد على النحاة ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وبما كتبه أرسطو، فخلط فيه بين الدراسات اللغوية والدراسات الفلسفية. وأوضح مثال لذلك هو العلل والأقيسة في النحو. "ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن "زيد" من قولنا: "قام زيد" لم رفع؟ فيقال: لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: ولم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب. ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولا فرق بين ذلك، وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، ليقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه1"، وقد قسم ابن مضاء العلل إلى ثلاثة أقسام: قسم مقطوع به، وقسم فيه إقناع وقسم مقطوع بفساده. والفرق عنده بين العلل الأول، والثواني أن الأول تؤدي إلى المعرفة بنطق العرب، ولا كذلك الثواني فهي لا تفيدنا إلا أن العرب أمة حكيمة، وهذا كلام صريح من ابن مضاء في اتهام النحاة بالميل إلى المنطق، ميلا يخرج بالدراسات النحوية عن طبيعتها، ويقول ابن جني2: "اعلم أن علل جل النحويين، وأعني بذلك حذاقهم المتقنين، لا ألفافهم المستضعفين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنها إنما هي أعلام، وأمارات لوقوع الأحكام ووجود الحكمة فيها خفية عنا، غير بادية الصفحة لنا". "والعرب أمة حكيمة، فكيف تشبه شيئا بشيء، وتحكم عليه بحكمه، وعلة حكم الأصل غير موجودة في الفرع، وإذا فعل واحد من النحويين ذلك جهل ولم يقبل قوله، فلم ينسبون إلى العرب ما يجهل به بعضهم بعضا؟ وذلك: أنهم لا يقيسون الشيء ويحكمون عليه بحكمه، إلا إذا كانت علة حكم الأصل موجودة في الفرع! وقد فعلوا ذلك في تشبيه الاسم بالفعل في العمل، وتشبيههم إن وأخواتها بالأفعال المتعدية في العمل"3. نعم لقد قاس النحاة بعض الحكام على بعض، كما يفعل الفقهاء وأدى بهم ذلك إلى تصحيح ما لم يرد سماعه عن العرب، فجعلوا   1 الرد على النحاة ص151. 2 الخصائص ص46. 3 الرد على النحاة ص6-157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ذلك عربيًّا، كالذي ورد به النص، والذي يقرأ ما كتبه ابن مضاء عن القياس في صور التنازع، يرى أسوأ مثل من أمثلة تحكيم المنطق في النحو، "واعلم أن من قوة القياس عندهم، اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب، فهو عندهم من كلام العرب نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب مثل جعفر ضربب هذا من كلام العرب، ولو بنيت مثله ضيرب، أو ضورب أو ضروب، أو نحو ذلك لم يعتقد من كلام العرب؛ لأنه قياس على الأقل استعمالا والأضعف قياسا"1. والمعلوم أن المنطق القياسي غير صالح للدراسات العلمية؛ لأنه يوجد القاعدة أولا ثم يفكر في ما يمكن أن يدخل تحتها من مفردات، ومع أن البحث العلمي يستخدم المنطق الاستقرائي، الذي يستقصي المفردات أولا، فيوجد جهة الشركة بينها، ليتخذها نتيجة البحث أو قاعدته، ومعأن الرواة العرب قد ضربوا الأمثلة للنحاة بسفرهم إلى الصحراء، لجمع مادتهم التي تستقرأ، ومع أن شيئا من الاستقراء، قد تم فعلا في ظروف غير علمية، جعلته في الكثير الغالب استقراء ناقصا إلى حد كبير، لم يستطع النحاة العرب أن يتخلصوا من قبضة أرسطو السحرية، ولا من نفوذ منطقه القياسي الذي لم تصطبغ به دراساتهم اللغوية فحسب، بل اصطبغ به الفقه الإسلامي وعلم الكلام كذلك، كما افتتن قوم إلى جانب المنطق بالسفسطة في الكلام عن العقائد، وأوضح مثال للسوفسطائية العربية، هو أبو عثمان الجاحظ. فالعلل والأقيسة إذا جهتان من جهات النفوذ الإغريقي على دراساتنا اللغوية العربية. لعلنا بذلك قد أجبنا على السؤالين اللذين طرحناهما في مبدإ هذا الفصل: هل خلص العرب الدراسات اللغوية، من عدوى التفكير غير اللغوي بصفة عامة، ومن التفكير الفلسفي بصفة خاصة؟ وهل استطاعوا أن يخلقوا للمنهج اللغوي استقلالا، عن مناهج العلوم الأخرى؟. ثم هبت في أوربا ريح جديدة على الدراسات اللغوية، بعد الكشف عن اللغة السنسكريتية لغة الهنود القدماء، هذه الحركة التجديدية اللغوية، فتحت آفاقا   1 الخصائص ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 واسعة للدراسات اللغوية من وجهة النظر التاريخية في المبدإ، ثم من الوجهة الوصفة بعدئذ، وبدأت هذه الدراسات خاضعة لعديد من المناهج، ولكنها كانت دائما نتقدم إلى هدفها النهائي، الذي هو استقلال اللغة بمنهج خاص بها. "هؤلاء الذين تشغلهم البحوث اللغوية، لم يبدأوا في ادعاء مرتبة العلم، ولقبه لدراساتهم إلا من زمن قصير، وقد كان تطو علم اللغة باعتباره علما من ثمرات هذا القرن1، ولو أن أصول هذا التطور ترجع إلى عهود أقدم، ولقد كان لهذا العلم تاريخ، لا يختلف في الحقيقة عن تاريخ بقية العلوم، التي تقوم على الملاحظة والاستنباط كالجيولوجيا، والكيمياء والفلك والطبيعة، التي بناها النشاط العقلي في العصر الحديث على الملاحظات الضئيلة، والاستنباط البدائي الذي ثم في العصور الماضية"2. وهكذا بعد أن كانت الدراسات اللغوية في الماضي جزءا، لا يتجزأ من التفكير الفلسفي، بدأت تنفصل في القرون الأخيرة، باعتبارها فرعا خاصا من فروع المعرفة، حقا إن علم اللغة لا يستطيع الاستغناء عن بقية الدراسات العلمية والفلسفية، ولهذا رأينا فروع المعارف الحديثة، تتسرب إلى علم اللغة إلى جانب المنطق الإغريقي القديم، فأصبحت الاصطلاحات النفسية، والطبيعية، والرياضية والموسيقية والتشريحية، وهلم جرا تتردد في الكلام عن اللغة، كما ترددت من قبل أفكار الفلسفة، واللاهوت والأساطير، وهذه العدوى التي وفدت إلى علم اللغة من الدراسات الأخرى، مسئولة عن الاختلاف في طريقة التناول لمشاكله، اختلافا يشمل من الطرق ما لا يمكن بحال أن يسمى منهجا لغويا، ولكن هذا الخلط ما كان ليدوم، وما كانت النظرة الحديثة الفاحصة، لتتخطاه غير فطنة إليه، ومن ثم جهد العلماء في تحديد منهج اللغة، وتخليصه من الشوائب التي تعلق به وافدة من فروع المعازف الأخرى، "ولأسباب تاريخية يسهل فهمها، كانت الدراسات العلمية اللغوية في طريق تحديد مجالاتها، وطرقها واستحقاق مكانها الخاص بين العلوم، منذ بدء عصر ما بعد نابليون في أوربا الغربية، ولكن المجهودات الأولى في هذا السبيل، تأثرت بالأجواء العقلية، التي لونت ذلك العصر"3.   1 أي القرن التاسع عشر. 2 W. D. Whitney, Language and the study of Languago, London 1880 p. 1. 3 Margaret Schlauch, Early Behaviourist Psychology & com temporary Linguistic Word, Vol. 2. 1946. pp. 25-36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يمكن القول إذا: إن علم اللغة الحديث نتيجة من نتائج القرن الثامن عشر، وما تلاه من القرون، ولقد اصطبغ هذا العلم في كل قرن من هذه القرون الثلاثة الأخيرة، بصبغة خاصة معينة مختلفة عن صبغته في القرنين الآخرين، ففي القرن الثامن عشر، عني العلماء اللغويون بالدراسات الإنسانية، وبدراسة فيلولوجيا اللغتين القديمتين اللاتينية، والإغريقية دراسة يصحبها اتساع تدريجي في الأفق اللغوي، وانغماس في التأمل في أصل اللغة، وتقويم اللغات بعضها بالنسبة للبعض الآخر من جهات نظر مختلفة، كالنبية والغنى والجمال، والتراث الأدبي وهلم جرا، وهذه التأملات والمقارنات لا تدخل في نطاق علم اللغة الحديث، إما؛ لأنها ميتافيزيقية وإما؛ لأنها ذاتية غير موضوعية ولا علمية، ولقد كان الكشف عن اللغة السنسكريتية في هذا القرن أهم حادث، يمكن اعتباره نقطة البداية لعلم اللغة الحديث، وكان الكشف عن هذه اللغة من حظ السير، وليام جونز الذي كان حينئذ يقيم بالهند، وقد كتب إلى الجمعية الآسيوية يخبرها عن كشفه هذا، "ولقد بدأ علم اللغة الحديث يشق طريقه باعتباره حقلا خاصا، مستقلا عن الحقل الأدبي بعد كتاب السير جونز بسنوات. وكان على طلاب هذا العلم في القرون، التي تلت أن يخلقوا لأنفسهم حدود مادته، وطريقته"1: وانحصرت المادة والطريقة في القرن التاسع عشر في دراسة وجهة النظر التاريخية في اللغة، "هؤلاء الذين يعرفون مؤلفات أوتوبسبرسن الذائعة الصيت، سيذكرون كيف يعلن بقوة أن علم اللغة تاريخي، وهؤلاء الذين يلاحظون أغلفة مجلدات القاموس الإنجليزي الحديث، المعروف عموما باسم قاموس اكسفورد، سيذكرون الضمان المعطى عن النظرة التاريخية فيه، وهذا يوضح الحرف "N" من مختصر اسمه، N.E.D 2، هذه الناجية التاريخية، وما يتصل بها من فكرة التطور بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بالمذهب الميكانيكي الفلسفي في ذلك العهد، لم تجعل علم اللغة في انسجام مع العلوم الطبيعية فحسب، بل جعلته في حمايتها أيضا، وعلى الأخص علم الحياة من بين هذه العلوم، ولم ينعكس هذا الوضع على تقسيم اللغات، واستعمال   1 M. M Lewis, Language in Society, p. 232. 2 Firth Personality and Language in society-soclogical Review, vol. ll Sect, two, 1950 p. 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 اصطلاحات مثل "عائلة" و"اللغة الأم" و"اللغة الأخت" فحسب، بل ظهر كذلك في تناول أي لغة تناولًا دراسيا باعتبارها كائنا عضويا ناميا، أو منحلا كالذي نجده في كتابات ماكس مولز مثلا، وكالذي نجده في الاقتباس التالي من درمستاتير1 "من الحقائق المسلم بها في أيامنا هذه أن اللغات ذات حياة عضوية، لا تقل بكون اللغة عقلية محضة عن حياة النبات، أو الحيوان بل يمكن أن تقارن بهما"، ولم يكن ذلك شأن العلوم الطبيعية فحسب، بل كان للعلوم الاجتماعية تأثير مشابه على الدراسات اللغوية كعلمي النفس والاجتماع، لقد جرف التيار الثقافي في القرن التاسع عشر طلاب اللغة، فاسترشدوا في دراسة اللغة بجمع من الطرق المنهجية غير المتناسقة؛ فاعتقد بعضهم أن خير طريق لمعرفة طبيعية اللغة، إنما يوجد في علم النفس؛ فلكي نفسهم الكيفية، التي تؤدي اللغة بها عملها يجب أن ندرس عقلية المتكلم، واعتقد آخرون أن اللغة ما دامت ظاهرة اجتماعية، فلا يمكن أن تستقل عن علم الاجتماع، فاللغة سلوك معين ينمو بمحاولة المرء أن يسد مطالبه في المجتمع. وما كان هذا الاتجاه من علماء اللغة، لينتج دراسة لغوية مستقلة هدفها اللغة، ولا شيء سواها، ومع هذا فإن القرن التاسع عشر مسئول عن التقدم بهذا العلم بخطوات واسعة موفقة. فقد شهد كثيرًا من المجهودات الخالقة المبدعة، التي نتجت عنها نتائج نهائية الصبغة مثل تقسيم اللغات، والقوانين الصوتية والصياغة القياسية، وأفكار أخرى لا تقل عن ذلك في أهميتها؛ كل أولئك من نتائج القرن التاسع عشر. وحل الاستقراء كذلك محل القياس باعتباره أساسا من أسس المنهج في تناول المادة اللغوية، وافتضحت بعض خرافات الماضي وطرحت، "ولقد كون اللغويون الذين درسوا اللغات الهندية الأوربية لأنفسهم بالتدريج منهجا، قد يكون أكثر قربا من الكمال من منهج أي علم آخر، يتناول النظم الإنسانية"2. وإذا اصطبغ القرن التاسع عشر بالصبغة التاريخية، فإن القرن العشرين إنما يصطبغ بالصبغة الوصفية، "ويزداد استحقاق علم اللغة الوصفي لمكانته باعتباره   1 A. Dermestater, La Vie des Mots, p. 3. 2 Sapir, Selected Writings, P. 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مجموعة مستقلة من المواد المترابطة كالأصوات، والتشكيل والجراماطيقا، والمعجم والدلالات، وما يمكن أن يسمى علم الاجتماع اللغوي"1. وكان نفوذ المذهب الميكانيكي، لا يزال يحس في بداية هذا القرن، فبدت صورة منه أمريكية في شكل مذهب نفسي، هو مذهب السلوكيين الذي لون الدراسات اللغوية الأمريكية بلونه تماما، كما يمكن أن يرى ذلك بوضوح في كتابات Bloomfield، وفي نفس الوقت جرت محاولات لتخليص طرق الدراسات اللغوية من النفوذ الخارجي، وأشهر هذه محاولة De Saussure خلق منهج شكلي يطلق عليه علماء اللغة من الشيوعيين Static mechanical structuralism على سبيل العيب. وكما كان بلومفيلد تابعا لمذهب وايس السلوكي، كان دي سوسور تابعا لمذهب دوركايم الاجتماعي التركيبي، وفي كلتا الحالتين تستعير اللغة طريقتها من منهج غريب عنها مع التضحية باستقلالها في المنهج، فيرى أولهما أن اللغة مجموعة من ردود الأفعال المشروطة، ويراها الثاني بنية مركبة يمكن أن توصف باستعمال كلمتي رأسي وأفقي، يفعل ذلك حين يشرح اصطلاحية diachronique وSynchronique. وإذا نظرنا إلى اللغة باعتبارها مجموعة من النظم الوضعية الاجتماعية، ذات أقسام من الأنماط والعلامات، وجدنا أن من الممكن أن تستقل بمنهجها عن مناهج العلوم، ويأخذ منهجها في اعتباره الشكل، والوظيفة باعتبارهما أساسين من أسس بنائه يطبقان في كل فرع من فروع الدراسات اللغوية، هذه الدراسات ليست إلا مجموعة متناسقة متكاتفة، متلاحمة من المناهج الفرعية لتناول الأحداث اللغوية منطوقة أو مكتوبة، ولقد وضعت هذه المجموعة من المناهج، لتصل بنا إلى علاج اللغة علاجا منظما أمبركاليا تحليليا مستقلا، بمعنى أنه لا يتخذ نقطة بداية له في أي علم غير علم اللغة، نستطيع أن نسمي هذا المنهج شكليا أو وظيفيا، ووجهة النظر الوظيفية لم تختر اعتباطا، وإنما جاءت من أن اللغة تستخدم وسيلة "من وسائل الاجتماع، وأداة ذات غرض محدد"، كما يقول مارتينيه2.   1 Firth. Personality & Language. 2 Phonology as Functional Phonetics. Publications of the philological Society XV, P. 5, London, 1949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 اللغة والكلام : كثيرا ما نستعمل تعبيرات مثل "اللغة العربية" أو"اللغة التركية" أو"اللغة الفارسية"، وكثيرا أيضا ما نقول: "كلمته في الأمر" و"تكلم إلي في المسألة" و"خير الكلام ما كان لحنا"، فما المقصود باللغة، وما المقصود بالكلام؟ أما في الاستعمال الشائع، فكلنا يعطي الكلمة الأولى طائفة من المعاني المتباعدة، التي ربما نجد معنى الكلام واحدا منها، ويتضح ذلك إذا قارنت الجمل الآتية: 1- لغة القرآن. 2- لغة العيون. 3- لغة الطيور. 4- لغة الصعيد "في مقابل لغة الوجه البحري". 5- لغة أولاد البلد. 6- لغة الجزارين. 7- لغة قذرة. 8- هذا التعبير غير مستعمل في لغتي الخاصة أو لغة العائلة. 9- اللغة السامية الأولى. 10- محاضرات اللغة. سيرى القارئ أن المثال الأول، قد استعمل كلمة "لغة" بمعنى أسلوب، وأن الثاني والثالث قد استعملاها بمعنى غير لغوي تقليدي، وأن الرابع قد استعملها. بمعنى لهجة أو مجموعة من اللهجات المتناسبة، وأن الخامس والسادس قد استعملاها بمعنى اللهجات الخاصة المهنية أو الطائفية، وأن السابع والثامن قد استعملاها بمعنى الكلام تقريبا، وعبر التاسع والعاشر بها عن فكرة دراسية فحسب. ولاستعمالات الكلام شيوع أيضاربما اتضح في الأمثلة الآتية: 1- القرآن كلام الله. 2- كلام في كلام. 3- كلام فارغ. 4- علم الكلام. 5- كلام الراديو. 6- كلام جرائد. 7- كلام نسوان. 8- كلام الإنجليز. 9- كلام برابرة. ومعاني ذلك على التعاقب: 1- إيحاء الله. 2- شيء لا يوثق بصحته. 3- هراء. 4- جدل. 5- أصوات صادرة عن الجهاز مبدؤها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 كلام في مكان آخر، وربما كان في وقت آخر أيضا. 6- مقالة مكتوبة في الجريدة من النوع الذي يقصد به الدعاية. 7- تفكير غير متزن. 8- لغة الإنجليز. 9- أصوات مختلطة. في الاستعمال الشائع العادي اتساع، تسمح به طبيعة التخاطب بين الناس، وهي طبيعة تميل إلى عدم التحديد المضبوط، الذي نلمحه في الاصطلاح العلمي، وتميل أيضا إلى استعمال الأساليب البلاغية، التي تقابل الحقيقة كالمجاز والاستعارة والكناية، ثم هي أخيرا طبيعة محكومة بمستوى ثقافي عام، لا يرقى بحال إلى مستوى المتخصصين، الذين ينظرون إلى التفريق بين الكلام، وبين اللغة نظرتهم إلى وسيلة من وسائل فهم كليهما، فما اللغة وما الكلام من وجهة النظر الدراسية؟ قلنا: إن دي سوسور قد خلق للغة منهجا شكليا تركيبيا مبنيا على وجهة نظر دوركايم إلى علم الاجتماع، وفي هذا المنهج يفرق دي سوسور بين اصطلاحات ثلاثة: 1- اللغة "بالمعنى الأعم أي بمعنى الظاهرة الاجتماعية" Le Langage 2- اللغة المعينة "وهي التي تتخذ موضوعا للدراسة كالعربية" La Langne 3- الكلام "وهو النشاط العضلي الصوتي الفردي" La Parale واللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، تقع في مجال علم الاجتماع، كما تقع في مجال علم اللغة، ولها جانبان من جوانب الدراسة أحدهما اللغة المعينة، وثانيهما الكلام، يقول دي سوسور1. "تشتمل دراسة اللغة على ناحيتين إحداهما جوهرية، موضوعها اللغة المعينة التي هي اجتماعية في جوهرها، ومستقلة عن الفرد وهذه الناحية نفسية فحسب، أما الأخرى فتتناول الدور الفردي للغة باعتباره موضوعا لها، أو بعبارة أخرى الكلام المكون من أصوت، وهذه نفسية وعضوية معا". واللغة المعينية في نظره جزء من الوعي الجمعي، "أو العقل الجمعي كما يسميه بعض الباحثين" Conscience Collective، وهذا العقل الجمعي إنما يوصف به الكائن الاجتماعي الذي قال به دوركايم، وهذا الكائن الاجتماعي هو ملخص للمجتمع.   1 Cours de Linguisique Generale, P. 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 هذه اللغة المعينة ضرورية لفهم الكلام، كما أن الكلام ضروري لفهمها. وهي مجموعة من العلامات المختزنة في العقل الجمعي، ولا تنطق؛ لأنها ليست فردية، ويشبه دي سوسور هذه الصورة بالقاموس، الذي توجد فيه الكلمات صامتة غير منطوقة صالحة للنطق والاستعمال، وإنما تستخرج منه فرادى بحسب الحاجة إليها، أو بحسب الاختيار، وليست اللغة المعينة في عقل أي فرد أو وعيه، وإنما هي شركة بين الفرد، وبين بقية أفراد المجتمع اللغوي الذي يعيش فيه فيه، توجد في حاصل جمع عقولهم جميعا، فإذا استطعنا كما يقول دي سوسور: أن نستخرج الصور الكلامية المختزنة في عقول جميع الأفراد في مجتمع لغوي واحد، فإننا سنلمس تلك الرابطة الاجتماعية، التي تربطهم جميعا وهي ما يسميه دي سوسور اللغة المعينة، ذلك الكنز المختزن يقوم على حراسته الكلام العملي للأفراد، الذين تربط بينهم هذه الرابطة، فاللغة المعينة إذا نظام جراماطيقي يوجد تقريبا في جميع العقول، أو لنعبر عن ذلك بدقة يحسن أن نقول في عقل مجموع الأفراد؛ أو كما سميناه الوعي الجمعي. وذلك؛ لأن اللغة المعينة لا يمكن أن تكون كاملة في ذهن أي فرد بعينه؛ بل لا تكتمل إلا في الوعي العام، ويعبر دي سوسور عن هذه المعادلة الاجتماعية بما يأتي: 1+1+1+1=1 "وهذا الواحد الأخير يشمل جميع الآحاد قبله". ويروي دي سوسور أن هذا الوعي الجمعي، ربما كان له وجود نفسي. ولدراسة اللغة المعينة من وجهة النظر الزمنية ناحيتان: فهي إما أن ينظر إليها نظرة تاريخية، تأخذ في اعتبارها التطور، والتحول على مر العصور، فهذه النظرة يسميها دي سوسور diachronque، وإما أن تؤخذ منها مرحلة تاريخية بعينها etat de langue لتدرس فيها نظمها الجراماطيقية، أو الدلالية دون نظر إلى التطور والتحول، وهذا ما يسميه هو Synchrorique، ولقد وضح دي سوسور هاتين الفكرتين بالاتجاهين الرأسي والأفقي على الترتيب هكذا1:   1 انظر ص115 من كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقصد بذلك أن نقطة البداية في التطور في قمة الخط الرأسي، ثم يتجه خط التطور إلى أسفل متقدما مع الزمن، حتى يصل إلى أقرب مرحلة إلى وقتنا الحاضر، تدخل في نطاق بحثنا الذي نزمعه في هذا التطور، وكل شيء في هذه الدراسة التاريخية، متحول متطور لا يمكن أن يدرس باعتباره مستقرا، ويستطيع المرء أن يقسم هذا الخط الرأسي بخطوط أفقية متعددة، تماثل الخط الأفقي الذي تراه في الشكل، وترمز بما بين كل خطين من هذه الخطوط إلى etat de langue تدرس من الناحية السنكرونية، ولعل القارئ قد لاحظ أن الخط الأفقي غير ذي سهم في طرفه، حيث اصطلحنا على أن السهم دليل على قصد التنبيه إلى وجود حركة، وفي أي مرحلة لغوية تؤخذ لتدرس سنكرونيا، لا توجد حركة ولا تطور، ولا تحول بل تعرض الحالة ثابتة ثباتا تاما تمشيا مع هدف الدراسة: واللغة المعينة في رأي دي سوسور "نتاج اجتماعي لملكة اللغة، ومجموع حالات عرفية ضرورية، يكيفها المجتمع ليسمح لهذه الملكات الفردية بالعمل"1، فاللغة إذا ملكة أو طاقة، أو استعدادا أو سمها ما شئت، ولكن اللغة المعينة نتاج جمعي لهذه الملكة، ومجموعة من حالات التعارف الضرورية، مكيفة اجتماعيا لتسمح بالعمل للملكات الفردية.   1 ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ويقول في التفريق بين اللغة المعينة، وبين اللغة "وبهذه الطريق من طرق التقسيم يستطيع المرء أن يقول: إن اللغة تنبني على ملكة في طبيعتنا، على حين نجد اللغة المعينة شيئا مكتسبا، متعارفا عليه يمكن أن يخضع للغريزة الطبيعية، بدل أن يتقدم عليها1". ومن المؤكد أن اللغة المعينة، لا بد أن تكون صامتة غير منطوقة، وقد سبق أن سقنا تشبيه دي سوسور لها بالقاموس، الذي يحتوي بين جلدتيه على محصول لغوي غير منطوق، ولكنه صالح للنطق والاستعمال بالإرادة، وفي الوقت المناسب. ثم هي مجموعة من النظم، والعلامات التي تدخل في هذه النظم، فيستخدمها الفرد في الكلام. وهذا التعدد في النظم، هو الذي برر وصف اللغة المعينة بأنها Polysystemic "أي متعددة النظم"، بمعنى أن فيها نظاما أصواتيا إلى جانب نظام صرفي، وآخر نحوي وهلم جرا، وهذه النظم المتعددة متماسكة متضافرة تتعاون جميعا في خلق هذه المنظمة الاجتماعية الكبرى -اللغة المعينة. ويمكن أن ندرس اللغة المعينة مع قطع النظر عن دراسة الكلام بها، وكلنا يدرك إمكان دراسة اللغات الميتة، برغم أنها لم تعد تنطق، ولا تحيا على ألسنة المتكلمين، كالسنسكريتية والإغريقية واللاتينية، بل دعنا نجرؤ على التمثيل باللغة العربية الفصحى أيضًا، ويدرس طلبة الجامعة الآن لغات قديمة متعددة كالتي ذكرناها، وكالعبرية والسريانية والمصرية القديمة والقبطية، وقد يحسن بعضهم العلم ببعضها، مع أنها لغات لا يتكلمها الآن شعب من شعوب الأرض. وبينا نجد "اللغة" تصدق على لغات مختلفة، غير متجانسة نجد "اللغة المعينة" على العكس من ذلك منسجمة في تجانسها؛ فهي نظام من العلامات التي ترتبط بمعانيها ارتباطا اعتباطيا، وتعبر هي ومعانيها على التساوي عن مدركات نفسية. فإذا نظرنا مثلا إلى عملية إنتاج الأصوات الضرورية للكلام، فإننا سنجد   1 ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الأوتار الصوتية خارجة خروجا تامًّا عن مفهوم اللغة المعينة، كخروج الجهاز الكهربائي، الذي يستخدم في نقل رسائل التلغراف عن الأبجدية الرمزية للبرقيات، التي تتكون من نقط وخطوط، فاللغة المعينة كالسيمفونية، تستقل حقيقتها استقلالا تاما عن حركات العزف، التي يقوم بها اللاعب على الآلة. فإذا ارتكب العازف خطأ في العزف، فإن ذلك لا يطعن في قيمة السيمفونية ولا في حقيقتها. وما يقال عن عملية إنتاج الأصوات، لا بد أن يقال عن بقية مكونات الكلام. فنشاط المتكلم Sujet parlant، يجب أن يدرس باعتباره مجموعة من التدريبات التي يدخلها الباحث في علم اللغة لعلاقتها باللغة المعينة، ولكن كيف يتصل الكلام باللغة المعينة؟ إنه حاصل جمع ما يقوله المرء، ويشتمل على "1" مجموعات صوتية شخصية، تتوقف على رغبة المتكلم "2" أعمال تطوعية لإنتاج الأصوات ضرورية لإحداث هذه المجموعات. فليس في الكلام ما هو جمعي، وكل ما فيه شخصي توي، وهو لبس أكثر من مجموعة من الخصائص، يمكن التعبير عنها مما يأتي: "1+1،+,,+1،،، .... .... " ولهذه الأسباب مجتمعة، يجب أن يفرق بين الكلام وبين اللغة المعينة، فاللغة المعينة نظام والكلام أداء نشاطي طبقا لصورة صوتية ذهنية، وهي مجرد تشويش للهواء؛ وتدرس هي عن طريق مناهج متعددة للدلالة، والأسلوب والمعجم والنحو والصرف والتشكيل الصوتي، ويدرس هو عن طريق منهج الأصوات. واللغة المعينة مكتوبة مسجلة، أو مفهومة صالحة للتطبيق الكلامي، أما الكلام فهو هذا التطبيق الصوتي والمجهود العضوي الحركي، الذي تنتج عنه أصوات لغويةمعينة. واللغة المعينة توجد في المجتمع الناطق mass parlante، وأما الكلام فهو وظيفة الفرد المتكلم sujet parlant، واللغة جهاز من الحروف والكلمات والصيغ والعلاقات النحوية في مجتمع ما، ويتعلمها الفرد اكتسابا، فيدخل بذلك في زمالة اجتماعية، وأما الكلام فهو التنفيذ الفردي، والاستخدام الشخصي لهذا الجهاز. وهي حقيقة اجتماعية، وهو عمل فردي يشمل ما ينطقه، أو ما يكتبه الفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وواضح أن هذه نظرة خاضعة تمام الخضوع لأفكار دور كاتم في دراسة الاجتماع، وأنها إن صلحت للتفريق بينهما لغرض دراسي، فهي غير صالحة لشرح حقيقتها شرحا صحيحًا، ومعلوم أن بعض التعبيرات اللغوية، تأتي أولا عن طريق الأفراد، ثم يرضاها المجتمع فيستعملها، فكيف تحرم اللغة إذا من عنصرها الفردي حرمانا تاما؟ لاحظ مثلا الاستعمالات الآتية: غير ذات موضوع -استنفدت أغراضها. التأميم ترشيد الصناعة اللامركزية إلخ كل أولئك بدأ تعبيرا فرديا، ثم أصبح في فسحة الاستعمال العام. زد على ذلك أن دراسة سير التطور من حالة إلى حالة متعذر جدا، أما الممكن حقيقة فهو دراسة الاختلاف بين مرحلتين من مراحل اللغة المعينة، وهذا الاختلاف يمثل طرفي مرحلة التطور لا وسطها، أما النظرة إلى اللغة المعينة باعتبارها ذات وظيفة جمعية، فتتنافى بعض التنافي مع فكرة اختيار متكلم بلهجة ما، ليتخذ موضوعا لدراسة هذه اللهجة، كما أن الفكرة القائلة بالاعتراف بفرد متكلم غير معين sujef parlant تتنافى مع الاعتراف بشخصية الفرد، ولنوضح اصطلاحي دي سوسور الديا كرونية، والسنكرونية نسوق إلى القارئ الشكل الآتي، الذي تبدو فيه المراحل أحدثها فوق أقدمها: رسم بياني لخط سير تطور اللهجة القاهرية "على المثال الفرضي"، من أيام محمد علي إلى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فإذا أردنا دراسة هذا الخط باستقصاء كل دقائق أزمنته المتتابعة، فذلك قطعا في نهاية التعذر؛ أما إذا أردنا أن نختار نقطتين نعينهما عليه، كما هو واضح على الرسم، فتلك دراسة دياكرونية تاريخية، أما إذا اخترنا نقطة واحدة كحالة اللهجة القاهرية في سنة 1860 مثلا، أو في سنة 1940، فهذه دراسة سنكرونية أفقية لا رأسية. هذا عرض سريع لفهم دي سوسور للفرق بين اللغة والكلام، وهو فهم وإن أخذ عليه بعض المآخذ، فإنه بعين طالب اللغة على تناول جهاتها الدراسية دون خلط بينها، ودون تأرجح في التفكير، وفي استعمال الاصطلاحات. ويرى شارل بالي أحد تلاميذ دي سوسور، أن أستاذه قد بالغ في إعطاء اللغة كل هذه الصبغة الذهنية، بجعلها نتيجة الحكمة الجمعية، ويضغط هو على فكرة اللغة العاطفية، أو كما يسميها le langage affectif، وفي رأيه أن هناك صراعا دائما بين كلام الأفراد، وبين النظام اللغي الذي لا يمكن أن يرضي الجميع، فاللغة المنظمة العادية الثقافية، تكفي الرغبة في نقل الأفكار وفهمها؛ ولكن الكلام من ناحية أخرى، يقف في خدمة الحياة العملية؛ فأما ما يعبر الكلام عنه، فهو الإحساس والرغبة والعمل، وإنتاج الكلام عاطفي ذاتي في الغالب، وفي هذه الحرب الحصارية بين الكلام، واللغة ينجح الكلام دائما في إدخال بعض جنوده في القلعة المحاصرة؛ هذه الجنود هي الكلمات، أو الصيغ المتحدثة بالعاطفة. وممن فرق بين اللغة والكلام من علماء اللغة، "السير ألان جاردنر"1، عضو الأكاديمية البريطانية، الذي يقول: إن عقل الإنسان في ساعات يقظته لا يستريح بل يفكر دائما، ولكن الإنسان لا يتكلم دائما بل يفكر وحيدا، وربما فكر دون كلام وهو في جماعة، وفي الكلام العادي لا بد من وجود شخص آخر على الأقل، ولا يستلزم حدوث الكلام وجود الآخرين، وقد يحدث الكلام في الوحدة على طريقة المونولوج، الذي يقوله الإنسان بينه وبين نفسه، ويتوقف حدوث الكلام في العادة على وجود شرطين: أولا إدراك شيء من الأهمية بدرجة تثير نشاطا، وثانيا وجود رغبة في إدخال آخر في الشركة في هذا الإدراك، وأشهر الدوافع التي تثير الكلام هي الرغب في إخبار شخص عن شيء، وبعبارة أخرى: بينا لا يتطلب   1 Speech & Language. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 التفكير إلا عنصرين هما المفكر والموضوع، يتطلب الكلام عناصر ثلاثة بجانب الكلمات؛ هي المتكلم والسامع، وموضوع الكلام. وهذه الحقيقة توضح أن الكلام عمل اجتماعي؛ لأنه يتطلب شخصين أو أكثر على الأقل، ويجب أن نفرق هنا بين العمل الاجتماعي، والعمل الجمعي1، فكل نشاط كلامي فردي؛ لأنه ينبع من شخص واحد، ولكننا نعتبر النشاط الكلامي عملا اجتماعيا؛ لأنه يتطلب سامعا له نشاطه السماعي الخاص، والأساس الأول من أسس الكلام في نظره أن الأفكار، والمشاعر الفردية لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فلا يستطيع إنسان أن يفكر بعقل الآخر، ولا أن يدرك بحواسه، ولا يستطيع إنسان أن ينقل سرور من منظر ما نقلا مباشرا إلى ذهن صاحبه؛ فانعزال الحياة الداخلية للإنسان عن العالم عقوبة من عقوبات فرديته، كعدم إمكان المشاركة في الإحساس والإدراك، والعطف والفهم ممكنان، ولكن لا يستطيع عقل أن يتغلغل في عقل آخر، ولهذا كان لا بد من وجود عوض طبيعي عن هذا النقص، كلما أريد نقل شيء عقلي وعاطفي، وهذا العوض يسمى العلامات، وهي مشروطة بما يأتي: 1- أن يكون لها معنى سبق وضعه، والتواضع عليه. 2- وأن تكون موضوعات إدراكية في المتناول، يمكن نقلها بالإرادة، وكل منظمة مستقلة من هذه العلامات، تسمى "لغة" كلغة الكلام ولغة الكتابة، ولغة الإشارة، ولغة التلغراف إلخ. ومن الواضح أن منظمة العلامات، التي يفضل النوع الإنساني أن يختارها دون بقية المنظمات، إنما هي العلامات الصوتية التي نسميها الكلمات، وما دام يجب أن تكون هذه العلامات عرضة للإنتاج السريع بحسب الإرادة، فقد كان من المحتمل أن تستغل فيها الحركات الطبيعية، التي لها صلة بردود الأفعال كتعبيرات الوجه، وحركات اليد والصيحات العاطفية، إلى جانب الأصوات نصف الإرادية والضحك، وقد بقي كل أولئك في صورة عوامل مساعدة للكلام، ومما هو بعيد عن الدقة أن يطلق لفظ "كلمة"، على ما يحدث بين المتكلم، والسامع من أصوات   1 الجمعي من النشاط ما صدر عن جماعة، والاجتماعي ما صدر عن المجتمع، أو نسب إليه، والفرق بينهما هو الفرق بين Social activity group activity. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خاصة، ولنوضح ذلك بأسلوب مجازي نقول: إن الأصوات الكلامية ليست طيارات، اخترعت لنقل الأفكار باعتبارها ركابا بين شخص وآخر، فيجب أن نكرر أن النشاط الطبيعي، لا يمكن أن يستبعد من فكرة الكلام، واستحالة نقل الأفكار، لا بد أن تظل مطلقة لا يمكن التغلب عليها، وإنما يستطيع السامع بالاستنتاج من أفكاره الخاصة، فحسب أن يقرر بفهمه أن المتكلم كان يقصد الشيء الفلاني؛ وأما ما يجري بين المتكلم والسامع، فهو مجرد عن كل معنى. فالكلام إذا نشاط إنساني تثيره عوامل من الخارج، هذه العوامل هي نواة الشيء المقصود، ويمكن إطلاقه على عمليات النطق، التي يقوم بها المتكلم منظورًا إليها من زاوية شبيهة بزاوية السامع، وخصائص الكلام بهذا المعنى تتلخص في أنه يتصل بظروف خاصة، وسامع وشيء مقصود، وأنه نتيجة لإرادة المتكلم الذي تبدي أعماله النطقية علامات الكلمات المستعملة، وتمنحها حيوية لم تكن لها في الظروف الأخرى. أما اللغة فاصطلاح جمعي تضم في دائرتها وحدات ذهنية، يستطيع المتكلم بمساعدتها أن يستعمل علامات الكلمات؛ ولكن المعرفة بهذه الوحدات الذهنية ليست بنت اليوم أو الأمس، بل ترجع إلى أيام الطفولة، فمحصولنا من الكلمات يتزايد يوما بعد يوم، ويزداد معنى بعض الكلمات سعة عما كان. ومن العدل أن نعتبر الكلمات، وهي أهم مكونات اللغة وحدات، مع أنه يجب ألا يغيب عن الخاطر أن قواعد الجمع بين هذه الكلمات في السياق، وأنواع التنغيم في الكلام بهذه الكلمات وحدات لغوية أيضا، ويمكن أن يقال باختصار: إن الجملة وحدة الكلام، وإن الكلمة وحدة اللغة. سيرى القارئ من هذا أن الكلام نوع من الدراما، التي تحتاج على الأقل إلى اثنين من الممثلين، وإلى منظر أو موقف خاص، وإلى عقدة أو شيء مقصود، وإلى كلمات مرتجلة، ويرى "جاردنر"، أن مما هو قريب من المعجزات أن واضعي نظرية اللغة، لم يفكروا في وصف أي واحد من هؤلاء، فنرى العقدة تذكر من حين إلى آخر؛ والكلمات مذكورة بكثرة، ونسمع هنا وهناك عن واحد من الممثلين أو كليهما، وقليل من الكتاب من أصر على ذكر الموقف أو المنظر، ويجب أن ننبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 هنا إلى ما يسميه النحاة أقسام الكلام، وهم يقصدون الاسم والفعل والحرف ليس في الواقع إلا أقسام اللغة "فقول صاحب الألفية: الكلام، وما يتألف منه يجب أن يصير إلى اللغة، وما تتألف منه". والكتابة في نظر "جاردنر" كلام ثانوي، ولقد جاءت الكتابة وهي ابنة فن التصوير، وسيلة من وسائل ترجمة الكلام المسموع إلى وسط مرئي مستقل نسبيا عن الزمن والمسافة، وإذا كانت النظرية اللغوية تدعى أنها صحيحة، فيجب أن تطلق اصطلاح الكلام على المسموع، والمكتوب كليهما، ويدعو عامل الدوام في الكتابة، وعامل عدم المواجهة إلى تدقيق الكاتب في اختيار تعبيراته، أكثر مما يدقق المتكلم، ويقوم الترقيم في الكتابة مقام التنغيم، وحركات اليد والوجه في الكلام، ولكنه يقصر عنها غالبا، ومن الأشكال الأخرى للكلام الثانوي كتابة العميان البارزة، وإشارات التلغراف وإسطوانات الجراموفون. واللغة نتيجة في نظره من نتائج الكلام، والكلمات ملخصات لتجارب سابقة، لا تشتمل على التجربة الحاضرة، ولكن في نفس الوقت الذي تخطر فيه أي كلمة في النطق، مطبقة على شيء مقصود، يحدث خلط يترك أثرا على هذا البند الخاص في محصول المتكلم من الكلمات، فإذا استعملت الكلمة في اتفاق تام مع تقاليد استعمالها، إن الأثر هنا أن تؤكد الملامح المركزية في المنطقة المقبولة للمعنى. وكل استعمال خاطئ لهذه الكلمة، ولو اتضح المقصود في هذا الظرف الخاص باستعمالها خطأ، ليس له نفوذ عليها في المستقبل، فما يؤثر في مستقبل الكلمات، ليس الاستعمال الخاطئ، وإنما الاستعمال الذي يحود بها قليلا جدا عن تقاليدها. وأما يسبرسن1، فيرى أن أعظم تقدم قد تم في الإدراك النظري لطبيعة اللغة، منذ بدأت دراسة اللغة دراسة جادة، هو أننا لم نعد نفعل ما كان يفعل غالبا في الزمنة الماضية من النظر إلى اللغة باعتبارها مادة، أو شيئا يوجد بنفسه أو "إذا اسعملنا التعبير الذي استعملوه كثيرا" كائنا عضويا يحيا، ويموت كالكائنات   1 Mankind, Nation & the individual, London, 1946. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 العضوية الأخرى، ولكننا تعلمنا أن نرى اللغة في جوهرها نشاطا إنسانيا، ومجهودا فرديا للشخص الذي يفهم بها، أو يتصل بشخص آخر على الأقل. ومع هذا، وكنتيجة له نجد أننا نلقى ضغطا على الشخص، كعامل ينتج ويستطيع أن ينتج في أي لحظة جملا أو كلمات، وقد ساعدنا اعترافنا بذلك على فهم كثير من الظواهر اللغوية، في ما يتصل بمرحلة خاصة من مراحلها، أو التغير الذي يطرأ عليها من مرحلة إلى أخرى؛ أي من الناحيتين السنكرونية والدياكرونية، أو الاستاتيكية والديناميكية، أو بعبارة أبسط كموضوع للوصف أو للبحث التاريخي. وما دمنا ننظر إلى اللغة باعتبارها العقلي، أي كوسيلة من وسائل الاتصال ونقل الأفكار، فسوف لا ندنوا أبدا من الفهم التام لطبيعتها، ونستطيع هنا أن نستحضر إلى الذهن عبارات ثلاث متقابلة بعض التقابل: أولاها أن اللغة توجد لتعبر عن أفكار الشخص، وثانيها عبارة تاليران الشهيرة أن اللغة توجد لتخفي أفكار المرء، وثالثها عبارة كير كجادر أن اللغة، إنما يستعملها كثير من الناس، ليخفي وراءها فقره إلى الأفكار. وربما يتوقع المرء من المناطقة، أن يعطو عناية خاصة لاستخدام اللغة في التعبير عن الأفكار، وهكذا نرى عبارة جيفوتز1 تقول: إن اللغة تخدم ثلاثة أغراض: 1- كوسيلة للاتصال: 2- كمساعد ميكانيكي للفكرة. 3- كوسيلة للتسجيل والرجوع إليها، ولكنه لا يفطن إلى أن العنصر الثالث فرع للعنصر الأول؛ لأن الإنسان إذا سجل شيئا للرجوع إليه، وعاد به في المستقبل إلى أفكاره القديمة، فإن هذا لا يختلف كثيرا عن مفهوم العنصر الأول، وهو نقل أفكار شخص إلى شخص آخر، حين يقرأ مذكراته الخاصة. أما من ناحية أنها مساعد ميكانيكي للتفكير، فمن المؤكد أن معرفة اللغة   1 عالم إنجليزي في المنطق، والاقتصاد عاش في القرن التاسع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تساعد التفكير مساعدة جوهرية جدا، ومن ناحية أخرى يجب ألا ننسى أن بعض عميقي المفكرين، شكوا من أن اللغة التقليدية، قد عوقتهم أحيانا عن الغوص على الأفكار: فهي بمفرادتها وصيغتها الثابتة، ترغم الفكر على أن يسير على السبل المطروقة، وأن يفكر كما فكر الآخرون من قبل. ولا يستطيع يسبرسن بحال أن يتبع جيفونز في قوله: إن اللغة في أصلها الأول، قد استعملت غالبا للغرض الأول، لا على سبيل نفي الأغراض الأخرى، أو في جعله هذه الأهداف الفكرية الثلاثة، هي الأهداف الوحيدة التي تستخدم اللغة من أجلها؛ فهي تنطبق على المفكرين فحسب، وعليهم في أعمق حالاتهم الدراسية فقط. ثم يدعو القارئ إلى أن يفكر معه فيما قالته مدام دي ستايل1، عن الهدف من اللغة حين تكلمت عن اللغة الفرنسية: "أنها ليست قط وسيلة لنقل الأفكار والعواطف، والشئون، ولكنها أداة يهدف المرء إلى أن يلعب بها فيحيي الأرواح، كالموسيقى لبعض الناس، وكالمشروبات القوية للبعض الآخر". يرى يسبرسن أن هذا يثير الإعجاب، والغلطة الوحيدة التي يجدها في هذه العبارة، أنها تبدوا كما لو كانت قد سيقت لشيء يوجد في فرنسا فقط. وفي كل مكان وزمان، يمكن أن نجد من الناس من تسكره شهوة التكلم ويتلذذون لسماع أصوات أنفسهم، ومن الناس من يتكلم إلى الخيل والكلام والحيوانات المستأنسة، ومنهم من يتكلم إلى نفسه، ويجب ألا ننسى أن الأوتار الصوتية بجانب استعمالها في نقل الأفكار، وقبل أن يبدأ في استعمالها في هذا الغرض، هي أكثر اللعب الإنسانية حبا إلى الإنسان، وأن الأطفال والرجال كليهما في المجتمعات البدائية، والمتمدنة على السواء يجدون سرورا عظيما في ترك أوتارهم الصوتية، وألسنتهم وشفاههم، تؤدي أنواعا مختلفة من اللعب. وهكذا نصل إلى الجانب الاجتماعي للكلام، ويمكن أن يقال فيه نفس الشيء، ففي الاختلاط الاجتماعي، لا تنطق الكلمات في معظم الحالات لتقرر شيئًا   1 كاتبة فرنسية من واضعي أسس المذهب الرومانتيكي في الأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أو تنقل فكرة أو توضح غامضًا، ونادرا ما تعبر عن شعور مشترك، ولكن لتخلق استكفاء للغربة الاجتماعية. وهذا الجانب من الموضوع، قد أكده مالينوفسكي في الماضي القريب في ملحق لكتاب في الايستيمولوجيا The Meaning of Meaning، لأوجدن وريتشارد. وقد أجرى مالينوفسكي ملاحظاته في جزر تروبرياند بقرب غينيا الجديدة، حيث رأى كيف يسلك هؤلاء البدائيون، فيما يختص باستعمال اللغة. يرى مالينوفسكي أن اللغة في أشكالها البدائية، يمكن أن تدرس في ظل فهم أنواع النشاط الإنساني الأخرى، فتعتبر كإحدى طرق السلوك الإنساني في موقف عملي معين، وأهم ما في الأمر أن المرء يتصل بالآخر عن طريق الكلام، وكل إنسان يحب أن يلتقي مع أبناء جنسه، وهنا هو حيث تساعد اللغة المرء، وليس أكثر إيذاء لأحد الرجلين لا ثالث لهما من سكوت الآخر، فالرجل الصامت مخلوق رهيب، والغريب الذي لا يتكلم لغة البلاد، يعتبر عدوا في كل بلاد العلم، وأنواع التحية المختلفة كأنواع الأسئلة المرضية مثل "كيف حالك؟ أو "جاي من فين؟ " كل ذلك لا يقصد به نقل الأفكار، وإنما المقصود به إنشاء علاقة اجتماعية بين شخصين التقيا. ويرى يسبرسن على عكس دي سوسور، أن أكثر الكلام فردية لا بد أن يكون مشروطا من الناحية الاجتماعية، وفي كل نطق كلامي عنصر اجتماعي إلا في حالة الطفل، الذي يناغي نفسه في المهد، أو في حالة الوحيد الذي يسلي نفسه بالغناء، أو الكلام المحرف، وإلا فكل متكلم لا بد أن يطابق في كلامه مقياسا اجتماعيا، فيتكلم كما يتكلم الآخرون، والسبب الوحيد الذي يدفعنا إلى الكلام هو الرغبة في التأثير في الآخرين، فلا بد لنا لهذا السبب أن نراعي ميولهم وما يرضيهم. وكل شخص لهذا يفرض عليه مقياس من الخارج يقيس كلامه عليه، ويتعلم الشخص بملاحظته لكلام الآخرين، فاللغة إذا في نظر بسيرسن حاصل جمع بالنسبة للكلام؛ فكل الألسنة المختلفة تكون معا اللغة الشعبية، هذا صحيح فيما يختص بمجموع المفردات المستعملة من جميع الأفراد على الأقل، أما فيما يختص بالجوانب الأخرى للغة بما فيها النطق، فيمكن القول بأن اللغة الشعبية تعتبر متوسط الألسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفردية لا حاصل جمعها، هنا نشتق من جميع الأفراد مدركا كليا كالمدرك الكلي الذي نسميه حصانا، والذي لا يتفق معه حصان واحد في أي ناحية، لو نظرنا إليه بدقة. ولهذا يرى يسبرسن أن يقسم المسأل لا إلى كلام، ولغة كما فعل دي سوسور بل إلى لغة فردية، ولغة جماعية. وكما أن دي سوسور يتكلم عن صورة صوتية ذهنية، ينسج المتكلم على منوالها، يقول يسبرسن بفكرة التقسيم إلى كلام بالفعل وكلام بالقوة؛ فالكلمة المنطوقة فعلية، والكلمة التي تبقى في الذهن غير منطوقة، أو تبقى في القاموس غير مستعملة كلمة بالقوة، وكلاهما مشروط اجتماعيا، والفرق بين دي سوسور، وبين يسبرسن كما يراه الأخير أن المرء إذا قال كلمة، لا معنى لها فهي كلام عندي دي سوسور؛ لأنها عمل فردي فحسب، وهي هراء عند يسبرسن؛ لأن الكلام عنده مشروط من الناحية الاجتماعية، بمطابقة مستوى صوابي معين. ويقول هارولد بالمر1: إن هذا الشيء المركب غير المتجانس الذي نسميه اللغة، يشتمل في الحقيقة على ناحيتين: أولا حاصل جمع أحوال النشاط الذهني والعضوي، الذي يقوم به شخص حين ينقل لشخص آخر "بالإشارة، أو النطق أو الكتابة" إدرا كاما "فكرة أو رأيا أو عاطفة"، وهذا هو الكلام، ثانيا حاصل جمع أوضع متعارف عليها منظمة ومقبولة من الجمهرة الاجتماعية التي تستعمل الناحية الأولى لتضمن الوضوح المتبادل بين أفراد هذه الجمهرة، وهذه هي اللغة. فالناحية الأولى طائفة من النشاطات الشخصية، والثانية طائفة من أوضاع التعارف، والكود التجاري يختلف عن الأعمال التي يستلزمها إرسال الرسائل به، ومنظمة الإشارات البحرية غير الأعمال، التي تستلزمها الإشارة بالأعلام، والكود الموسيقي من النغمات، والسكتات يختلف عن حركات العزف التي يؤديها الموسيقي، والكود الذي تجده   1 ملخص من كتاب يسبرسن mankind, Nation & the indvidual ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 في جدول سير القطارات غير السفر بهذه القطارات، وبالاختصار يمكن القول: إن كل كود يختلف عن الأعمال، التي تتم بحسبه مطابقة لمقتضياته. ولا ينطبق هذان الجانبان على النظر والعمل؛ لأن في كلامنا نظرا وعملا، وفي لغتنا كذلك، ونظرية الكلام من دراسة علم النفس، وتطبيقه من عمل المتكلم، ونظرية اللغة من دراسة علم اللغة، وتطبيق اللغة يقوم به هؤلاء الذين يعلمون ويدرسون كودها بأنفسهم، وكلما نجحنا في نقل مدركاتنا، فنحن نطبق الكلام، وكلما حللنا طريقة تعبيرية بنجاح، أو شرحناها، أو كونا جملة أجنبية بالطريقة التركيبية الخالصة، فنحن نطبق اللغة. ويرى بلومفيلد1، وهو أحد تلاميذ وايس، ومن أتباع مذهب السلوكيين، أن أشق خطوة في دراسة اللغة هي الخطوة الأولى؛ لأن هذه الخطوة إذا كانت غير مضبوطة، أو كانت على الطريق الخاطئ، "فإنها ستقود المرء دائما في هذا الطريق الخاطئ، ولذلك يرى أن يبدأ دراسته بحدث كلامي بسيط، يفترضه بين فتى وفتاة يسيران في الطريق؛ فيرتب خطوات هذا الحادث كما يأتي: 1- تشعر الفتاة بالجوع. 2- ترى تفاحة على شجرة. 3- تحدث أصواتا بتكييف حنجرتها ولسانها وشفتيها. 4- يقفز الفتى على السور ويتسلق الشجرة، ويأخذ تفاحة ويحضرها إليها فيضعها في يدها. 5- تأخذ الفتاة التفاحة فتأ كلها. يمكن أن يدرس هذا النسق من الحوادث بطرق مختلفة، ولكن الذين يدرسون اللغة سيفرقون بين الكلام والحوادث الأخرى التي نسميها أحداثا عملية.   1 Language, p. 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فإذا نظرنا إلى هذه الحادثة بتلك الطريقة، نجدها تتكون من ثلاث مراحل بحسب الترتيب الزمني. "أ" أحداث عملية سابقة للحدث الكلامي "الشعور بالجوع، ورؤية التفاحة". "ب" كلام "إحداث الأصوات المذكورة". "ج" أحداث عملية تالية للحدث الكلامي "القفز وإحضار التفاحة والأكل" فإذا بحثنا الأحداث العملية، التي قبل الكلام والتي بعده، فسنجد أن ما قبل الكلام يتعلق بالفتاة؛ فهي جائعة بمعنى أن بعض عضلاتها كانت في حالة تقلص، في حين أن بعض السوائل، كانت تفرز وعلى الأخص في المعدة، وربما كانت عطشى أيضا بمعنى أن حلقها، ولسانها كانا في حالة جفاف، وقد وصلت الأشعة الضوئية المنعكسة من التفاحة الحمراء إلى عينيها، ورأت الفتى بجانبها، فدخلت تجاربها الماضية مع الفتى في الصورة، دعنا نفترض أن هذه التجارب ليست إلا علاقة عادية، مثل تلك التي بين الأخ وأخته، أو بين الزوج وزوجته؛ فكل ما يسبق الكلام، ويتعلق بالفتاة يمكن أن تسميه مثير المتكلم. ثم نعود بعد ذلك إلى الأحداث العملية التي تلت الكلام، وسنجدها تتعلق بالفتى الذي هو السامع، تلك الأحداث هي إحضار التفاحة، وإعطاؤها للفتاة. فالأحداث العملية التي تتلو الكلام، وتتعلق بالسامع يمكن أن تسمى استجابة السامع. والحوادث التي تتلو الكلام تتعلق أيضا بالفتاة بطريقة هامة جدا؛ فهي تحصل على التفاحة في قبضتها، ثم تأكلها. فإذا كانت الفتاة وحدها، فربما حصلت على التفاحة بنفسها إذا استطاعت، أو ظلت جاعة إن عجزت، وكذلك إذا كانت علاقاتها سيئة بالفتى، فالشعور بالجوع مثير يرمز له بالحرف S، والحركة في سبيل الحصول عليه رد فعل يرمز له بالحرف R. وتتلخص الحالة حين وحدتها، أو سوء علاقتها بالفتى في: لكن الفتاة في القصة الأولى، بدل أن تذهب بنفسها إلى التفاحة، استبدلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بذلك كلاما جعل الفتى يقوم برد الفعل بدلا منها، فاللغة إذا قد تجعل الإنسان يصدر منه رد فعل أو استجابة R، حين يكون المثير مثيرا لإنسان آخر S. وفي الحالات المثالية يتساوى الناس في القدرة الخاصة والقوة، ولكنهم يختلفون عمليا، والواقع أنه كلما اتسع مدى اختلافهم في ذلك، اتسع مدى القوة الخاصة التي يتحكم فيها كل إنسان، فلا يحتاج المجموع إلا إلى صائد واحد، وطباخ واحد وخياط واحد؛ وهذا هو المقصود بتقسيم العمل، وتقسيم العمل ككل شيء في المجتمع الإنساني، إنما يرجع إلى وجود اللغة. يقول بلومفيلد: ولكننا لم نتكلم عن الكلام إلى الآن، مع أنه هو الجزء الذي يهمنا من القصة باعتبارنا من طلاب علم اللغة، فأما الحوادث العملية قبل الكلام وبعده، فإنما نهتم بها لصلتها بالكلام، إن المتكلم يحرك أوتاره الصوتية وفكه الأسفل، ولسانه وهلم جرا بطريقة ترغم الهواء على أن يأخذ شكل موجات صوتية، فحركات المتكلم هذه رد فعل، أو استجابة للمثير S. وبدل أن يقوم المتكلم برد الفعل R بنفسه يستبدل بهذه الاستجابة، تحريك جهازه النطقي بطريقة خاصة، ويمكن أن يرمز لهذا البديل بالحرف r، وبالاختصار يستطيع المتكلم أن يستعمل إحدى طريقتين للاستجابة، ورد الفعل الذي يسببه مثير ماهما: وفي حالة اختيار الكلام، يكون المرء قد يكون المرء قد اختار الطريقة الثانية. وتؤثر الموجات الصوتية التي في فم الفتاة في الهواء الخارجي، فتحدث به حركة موجبة مماثلة، وهذه الموجات التي في الهواء الخارجي، تصطدم بطبلة أذن الفتى، فتحدث بها ذبذبة تؤثر على أعصابه تأثيرا خاصا، وهنا يكون الفتى قد سمع الكلام. فسماع الكلام مثير بالنسبة للفتى، جعله يجري ويحضر التفاحة، كما لو كان هو جائعا. ورد الفعل أو الاستجابة الذي قام به في هذه الحالة، قد يكون مسببا عن مثير له هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 نفسه S أو عن بديل كلامي من الفتاة، ويرمز لهذا بالحرف s، وتتمثل الطريقتان، فيما يأتي: ولكن كلمة المجتمع ليست مجازا، فأي مجموعة إنسانية لا بد أن تكون وحدة أعلا من الحيوان الفرد، كما أن الحيوان ذا الخلايا المتعددة يعتبر وحدة أعلا من وحيد الخلية، وتتعاون الخلايا في الحيوان المتعدد الخلايا بطريق الجهاز العصبي، ويتعاون الأفراد في المجتمع بطريق الموجات الصوتية. وتختلف الأصوات الخاصة، التي يستعملها مجتمع ما من المجتمعات عن الأصوات التي يستعملها مجتمع آخر، وهكذا يتكلم بنو الإنسان لغات مختلفة، وكل طائفة من الناس تستعمل نظاما واحدا للعلامات الكلامية، تسمى مجتمعا لغويا، ومن الواضح أن قيمة أية لغة، إنما تعتمد على من يستعملونها بنفس الطريقة، فكل عضو من الجماعة، ينطق الأصوات المضبوطة في مناسباتها المضبوطة، أو بعبارة أخرى، يستجيب استجابة مضبوطة. وكل طفل يولد في جماعة يكتسب عاداتها الكلامية، واستجاباتها في السنين الأولى من حياته، وإذا ذهبنا إلى بلاد غربية، فإن علينا كذلك أن نتعلم نظما عرفية ثابتة في هذه البلاد لا نعرفها كنظام العملة، والمقاييس والمكاييل، والأطوال والمرور، وعادات السلوك وساعات الأكل وهلم جرا، ولا يجمع المسافر الإحصاءات عن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الأشياء وإنما تضعه ملاحظاته الأولى على الطريق، حتى تعززها ملاحظات أخرى أو تعدلها، واللغوي محظوظ من هذه الناحية، فإن نشاط الجماعة لا يبدو مضبوطا في أي حالة من الحالات، كما يبدو في اللغة، فهناك مجموعات ضخمة من الناس تبني الجمل التي تتكلمها من نفس المفردات والتراكيب، ولذلك يستطيع اللغوي، ذو الملاحظة أن يصف العادات اللغوية لأي مجتمع دون الحاجة إلى إحصاء. ولا نحتاج إلى القول: إنه إذا أراد دراسة اللغة، فإنه يجب أن يعمل جاهدا، وأن يسجل كل صيغة يجدها، وألا يعذر نفسه بالاعتماد على عقلية القارئ، أو على تراكيب لغة أخرى، أو على نظرية من نظريات علم النفس، ويجب فوق كل شيء ألا يختار بعض الحقائق، أو يشوهها طبقا لنظرته الخاصة إلى ما يجب أن يقوله المتكلم. ولعل القارئ يرى أن بلومفيلد، قد جند نفسه لشرح نظرية الكلام، دون أن يعني بنظرية اللغة، وهو في شرحه لنظرية الكلام، يقرب إلى الدراسات الطبيعية قرب السلوكيين منها، ويوضح الحقائق الكلامية في ظل فهمهم للنفس الإنسانية؛ وهو مع ذلك يحذر الباحث من الاعتماد على نظرية من نظريات علم النفس. ولا يعني بلومفيلد كثيرا في كتابه بالضغط على التقابل بين الفكرتين اللغوية والكلامية؛ وإما يلمح إلى النظم العرفية تلميحا حين يتكلم عن اللغات الأجنبية. ويرى فندريس1 أن من الحق الآن أن يقال: إن الإنسان كائن اجتماعي، وإحدى الخصال التي تشهد بفصاحة على الخاصية الاجتماعية في الإنسان، تكمن لاشك في الغريزة، التي تدفع الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات أن يجعلوا لأنفسهم مصلحة مشتركة فيما يتعلق بظروفهم، وخصائصهم المتشابهة، ليتميزوا عن هؤلاء، الذين لا تتحقق فيهم هذه الخصائص إلى نفس المدى. وكل فرد في الجماعة، يشعر بأنه يتكلم لغة تختلف عن لغة الجماعة المجاورة. ولهذا فإن للغة وجودا حقيقيا في الإحساس المشترك بين هؤلاء الذين يتكلمونها، وهذا التحديد، وإن بدا لأول وهلة صريحا في ذاتيته، ينبني على حقيقة هي إضافة   1 Language, p. 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وعى المتكلم بالإحساس بمثل لغوي أعلى معين، يحاول كل فرد أن يحقق به الشعور بالشركة في اللغة. ويوجد تفاهم واضح بين الأفراد في نفس الجماعة، لتبقى اللغة مطابقة لقواعدها، ولكن العادة ليست اعتباطية، بل إنها على العكس تحددها دائما مصلحة الجماعة؛ وهذه المصلحة هنا هي أن يفهم كل فرد منها الفرد الآخر، ولهذا يعارض كل فرد منها خلق أي شيء اعتباطا، ومن السهل أن تتبع المخالفة الفردية للعادة ويهزأ بها، ويعاقب المخالف حتى لا تبقى له أية رغبة في ارتكاب مخالفة أخرى، ولا يمكن لمخالفة ما أن تصبح قاعدة، إلا إذا كان كل فرد في الجماعة ميالا إلى ارتكابها، أو بعبارة أخرى يجب أن ينظر إليها باعتبارها قاعدة لا خرقا لقاعدة. وللناس فكرة دقيقة عن لغاتهم؛ فهم يحسون بمنتهى الدقة بأقل خروج على اللغة، ولذلك فإن خير من يستشار في أمور الاستعمال اللغوي هم العامة، أما المجامع اللغوية، فإنها يحق لها أن تبحث ما إذا كان الأتوموبيل مذكرا أو مؤنثا، أو بعبارة أخرى أن تبحث في المسائل النظرية. هذه الرغب في توخي الصواب، وضمان ثبات العادة هما اللذان يخلقان اللغة في أي مجتمع؛ ولكننا إذا بحثنا عن التحقق التام للغة في فرد، فسوف لا نجده؛ وكثير هؤلاء الذين يتكلمون الفرنسية، ولكن ليس هناك متكلم واحد بالفرنسية، يستطيع أن يؤدي وظيفة القاعدة والمثال للآخرين، ومن هنا نقول: إن اللغة الفرنسية لا توجد في اللغة، التي يتكلمها أي كائن إنساني بمفرده، ويمكن أن يقال باختصار: إن اللغة شكل لغوي مثالي يفرض على الأفراد في الجماعة الواحدة، "وأعم تعريف للغة هو أنها نظام من العلامات1"، ويقصد بالعلامات هذه الرموز، التي تستخدم في خلق اتصال بين شخص وآخر، وما دامت أنواع هذه الرموز متعددة، فمن الواضح أن هناك لغات متعددة، فكل حاسة يمكن أن تستخدم في خلق لغة ما، فهناك لغة للشم، ولغة للمس وأخرى للسمع وأخيرة للبصر، ولكن   1 p. 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أهم لغة هي لغة السمع، التي ربما تساعدها أحيانا لغة بصرية هي الإشارات باليد والوجه، وأغلب اللغات البصرية المستعملة الآن مشتقة من اللغة السمعية، وهذا يصدق على الكتابة، ونظم الإشارة المختلفة، ولا تصبح اللغة حقيقة اجتماعية، إلا إذا كان العقل الإنساني ناميا ليستخدمها، وأصل اللغة من الناحية النفسية، يتلخص في خلق قيمة للرموز، وهذا ما يفرق بين لغة الإنسان، ولغة الحيوان. والعلم الذي يدرس الكلام في اللغة "علم الأصوات"، يمكن أن يدرس ثلاث جهات من نشاطه، عملية إنتاج الصوت، ثم انتقاله بين المتكلم والسامع، ثم سماعه. والإنتاج والسماع متساويان من ناحية الأهمية للغة؛ لأن اللغة إذا قدر لها أن توجد فلا بد لها له من شخصين متصلين على الأقل، ولا بد أن يقصد بالكلمة أن تكون مسموعة، ويلعب السماع دورا هاما في تغيرات اللغة، وبواسطة الأذن يحصل كل متكلم على عاداه النطقية، ولكن من الناحية النظرية، لا نستطيع أن نعطي السماع مكانا هاما في الدراسات اللغوي، ومن ثم أصبح علم الأصوات مقصورا زمنا طويلا على إنتاج الكلام. ولا يضيف فندريس كثيرا إلى نظرية الكلام، وإنما يشرح الوسائل، والأجهزة التي تساعد على إنتاجه، وأما نظرته إلى اللغة، فهي في نطاق نظرة المدرسة الفرنسية التي على رأسها دي سوسور، وهو يتبع بالي في التفريق بين اللغة العقلية، واللغة العاطفية. فعند أن "الفرق الأساسي بين اللغة العاطفية، واللغة العقلية إنما يتضح في تركيب الجملة؛ وهذا الفرق يبدو جليا حين نقارن لغة الكتابة بلغة الكلام1". وإنما يكون الفرق في تركيب الجملة في نظره في اختيار المفردات، وفي طريقة ترتيب الكلمات في الجملة، أو ما يسميه البلاغيون "التقديم والتأخير". أما لويس2، فإنه يعقد فصلا لعلاقة اللغة بالعقل الجمعي فيقول: إنه يقصد بالعقل الاتجاه النزوعي Conative للسلوك إلى إدراك Cognition البيئة عمليا أو نظريا   1 Language, p. 145. 2 Language in Society. p 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إدراكا قد يقتضي استجابة وجدانية affective للبيئة، والخاصية الجوهرية لهذا السلوك العقلي، أنه يستعمل الرموز سواء أكانت شفوية أم تصويرية، وربما يكون الشخص في أية لحظة واعيا ببعض سلوكه العقلي، وأقل وعيا ببعضه الآخر، وغير واع بالكثير منه، فالعقل الواعي Conscious mind يميل إلى استعمال الرموز الشفوية، ولكن العقل تحت الواعي Subconsious، والعقل غير الواعي Uncomscious يميلان إلى أن يرمز لهما بالصور، والتحولات الصورية للغة. ولكل شخص عقد دائمة من الأفكار والإحساسات، والرغبات يبدو أثرها في سلوكه الظاهر، ولكنه هو يميل إلى أن بظل غير واع بها، ويسمح لها بالظهور في العقل الواعي، إذا كانت بصورة مقنعة فحسب، فكل السلوك العقلي إذا يستعمل الرموز سواء كانت من هذا النوع أو من ذاك، وتختلف الرموز باختلاف نوع النشاط العقلي، أي ما إذا كان إدراكيا، أو نزوعيا أو وجدانيا، والمدى الذي يسمح فيه للوعي أن يشمله، فيمكن القول إذا: بأن العقل سلوك في وسط من الرموز. ومما يرجع إلى اهتمامنا باللغة، ووظائفها في المجتمع أن يصبح من الضروري أن نعترف بأن سلوك الجماعة الإنسانية، تصبح له خصائص معينة، كلما وجد الرمز الاجتماعي أي التفاهم؛ وهذا النوع ن النشاط، الذي يشتمل على رمزية يؤدي في المجتمع نفس الوظيفة، التي يؤديها النشاط العقلي في الفرد. فالتذمر الجمعي والوضع الجمعي للخطط، والإحساس الجمعي والإرادة الجمعية كل أولئك يتعدل بوجود أشكال رمزية، للتفاهم في الجماعة، هذه الرموز الجمعية هي التي تمكن الجماعة من أن تباشر نشاطها، وتمكنها اللغة من أن تباشر هذا النشاط بإتقان أعظم، وتجعل اللغة في قدرة الجماعة أن تمنح الرمز لعقلها الجمعي، فتعطيه القوة التي يصبح بها عقلا جمعيا واعيا. والاعتراف بكل أولئك هام جدا لفهم وظيفة اللغة في المجتمعات الحديثة. وطبيعة العقل الجماعي لا تحس إلا إذا اعترفنا بأنه شكل من أشكال السلوك الجماعي، وكما أن علم النفس يرى العقل الفردي جزءا جوهريا من مجموع سلوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الفرد، فيجب أن نرى العقل الجماعي أهم وسيلة تستخدمها الجماعة في نشاطها، فالسلوك الجماعي كما قلنا مختلف تمام الاختلاف عن السلوك الفردي، وأنواع النشاط التي يقوم بها الأشخاص، وهم في المجموع ذات أنماط تختلف عن أنواع النشاط، التي يقوم بها أفراد في وحدة وعزلة. والسلوك الجمعي الإنساني، كما نعرفه الآن يظهر غالبا، أو دائما في وسط من رموز تفاهمية، وتلك هي الوسيلة التي تستطيع الجماعة بها، أن تنظم بقية سلوكها بالتأجيل، والتوجيه في ضوء ذكرياتها عن الماضي، وبعبارة أخرى تصبح رموز التفاهم الوسيلة التي ينسى المجموع بها سلوكه، والوسيلة التي ينمى بها المجموع عقله الجماعي. فإذا كان هذا حقا، فقد يكون هناك تطور أعظم في بعض الجماعات منه في الجماعات الأخرى، طبقا لمدى استخدام الرموز التفاهمية، ولمظهرها المركب، ولربما تنغمس جماعة أحيانا في سلوك جماعي، ليس له رموز تفاهمية في داخل الجماعة، وهذا هو السلوك الجماعي غير الواعي، أو السلوك الذي لا تعيه الجماعة، كجماعة برغم أن الأفراد في هذا المجموع، ربما كانوا على وعي به، أما طبقا للمدى، والمظهر المركب للرمزية الجماعية في السلوك الاجتماعي، فلا بد أن يكون هناك اختلاف من جهة التوسع، والتدرج في الوعي الجماعي بالسلوك الاجتماعي. وللغة مكان فريد بين الأنواع المختلفة من الرمزية التفاهمية؛ لأنها الوسيلة التي يصبح بها العقل الجمعي عقلا جمعيا واعيا، فالسلوك الجماعي إذا على ثلاث درجات: بلا رموز جماعية، وبرموز جماعية غير شفوية، وبلغة، وفي الحقيقة أن السلوك الجماعي الإنساني، نادرا ما يكون من الصنف الأول، أو بعبارة أخرى يوجه العقل الجماعي دائما السلوك الجماعي الإنساني، مهما كان هذا العقل بدائيا أو ناقص الوعي، وحيثما يسيطر المجتمع على اللغة بدرجة عظيمة، يوجد العقل الجماعي الواعي وعيا تاما. يقول سابير1: إن الكلام ظاهرة عادية جدا في الحياة اليومية، حتى إننا لا نقف   1 Language p.1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لنفكر في تعريفه، وإنه ليبدو طبيعيا للإنسان، كما يبدو المشي -وهو أقل في طبيعيته من التنفي فحسب- ومع ذلك، فلا نحتاج إلا إلى لحظة من التأمل لنقتنع بأن الإحساس بالمظهر الطبيعي في الكلام، ليس إلا إحساسا خادعا، فعملية اكتساب الكلام في الحقيقة، تختلف عن تعلم المشي، وفي حالة المشي لا تظهر الثقافة على المسرح، فللطفل عوامل مركبة تسمى الوراثة العضوية، هي كل ما يحتاجه في التكييفات العضوية، والعصبية التي نسميها المشي، والحقيقة أن الإنسان الطبيعي مقدر له أن يمشي لا؛ لأن الكبار سيساعدونه على أن يتعلم المشي، ولكن؛ لأن أعضاءه قد أعدت لذلك. ولكن اللغة ليست كذلك، وباعتبار معنى خاص يمكن القول بأن الإنسان مقدر له كذلك أن يتكلم، ولكن هذا يتوقف تماما على الظروف التي يولد فيها، لا من ناحية الطبيعة فحسب، ولكن من ناحية المجتمع الذي سيقوده في طريق التقاليد العامة، فإذا نفينا المجتمع من الصورة، فسوف يعلم الإنسان المشي، إن عاش، ولكنه سوف لا يتعلم الكلام أبدا، فإذا أخذت المولود من مجتمعه إلى مجتمع آخر فسوف يتعلم المشي، كما كان سيتعلم في مجتمعه الأول، ولكنه سيتكلم لغة المجتمع الثاني الذي نشأ فيه، فالكلام نشاط إنساني يختلف إلى غير حد بحسب انتقالنا من مجتمع إلى مجتمع؛ لأنه وراثة تاريخية للجماعة، ونتيجة من نتائج الاستعمال الجماعي المستمر في العصور الطويلة، وهو يختلف كما تختلف كل المجهودات الخالقة، وربما لا يكون ذلك بنفس الدرجة من الوعي، ولكن على أي حال بنفس الدرجة من الحقيقة، كما في الأديان والمعتقدات، والعادات والفنون في الشعوب المختلفة، وإذا كان المشي وظيفة عضوية غرزية للشخص، فإن الكلام وظيفة مكتسبة ثقافية غير غرزية. وهناك حقيقة كثيرا ما دعت إلى أن تمنع الاعتراف باللغة، باعتبارها نظاما عرفيا من العلامات، وغررت بالعقل العام، فجعلته ينسب إليها أسسا غرزية ليست لها، تلك هي الملاحظة الشهيرة التي تقول: إنه تحت ضغط العاطفة كالألم والفرح مثلا، ننطق بحالة غير إرادية ببعض الأصوات، التي يأخذه السامع دلالة على العاطفة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ولكن هناك بونا شاسعا بين هذا التعبير غير الإرادي عن الشعور، وبين النوع العادي للتفاهم، وهو الكلام، فالنوع الأول غرزي غير رمزي؛ لأنه لا يدل على نوع العاطفة، ولكنه فيضان آلي لطاقة العاطفة، وهو جزء من العاطفة نفسها؛ ثم هو لا ينقل فكرة على أي حال، فهو كالنباح والصهيل، وما إلى ذلك. أما اللغة فهي طريقة إنسانية غير غرزية لنقل الأفكار، والعواطف والرغبات بواسطة نظام من الرموز، التي تستعمل بحسب الإرادة، هذه الرموز سمعية مبدئيا، وهي تنتج عما يسمى عادة أعضاء النطق، وربما جر الكلام عن أعضاء النطق إلى الظن بأن الكلام غرز، ولكن هذه الأعضاء في حقيقتها ليست وظيفتها النطق، وإنما تقوم بوظائف حيوية تساعد على جعل استمرار الحياة أمرا ممكنا. وجوهر اللغة يتلخص في أنها تخصص رموزا صوتية للعناصر المختلفة للتجارب. وهذه الرموز يجب أن تكون مخصصة بحسب التعارف، لا بحسب الطبيعة، ولا المنطق، أي أن العلاقة بين الكلمة، وبين مدلولها علاقة اعتباطية غير مسببة. وللسيوطي1 كلام وجيز يفرق بين اللغة والكلام، ولست أدري إن كان السيوطي واعيا بهذا التفريق أولا، حيث يقول: "فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي؛ لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير العربية، قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده، فهذا أخس مراتب البيان؛ لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمى متكلما فضلا عن أن يسمى بينا بليغا". وهنا نقطتان هامتان من التفريق، أولاهما أن المتكلم إنما يتكلم على شرط لغة معينة، بمعنى أنه يأتي بكلامه مصوغا بحسب النظم الصوتية والصرفية، والنحوية من مفردات هذه اللغة ومادتها، فالكلام كما يبدو في نظره نشاط عضلي مصوغ من رموز معينة، موضوعة بحسب قواعد معينة هي اللغة، وثانيتها أن الذي يستعمل الإشارة، يستعمل اللغة لا الكلام.   1 المزهر ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأما رأي ابن جني1 في اللغة، فهو أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. وهذا في الواقع تعريف للكلام، لا للغة. ويقول في مكان آخر2: غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة، إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي ولا توقيف، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوما: هي من عند الله، واحتج بقوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله، أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة، فإن كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به. ثم يشرح ابن جني3 طريقة المواضعة بقوله: "ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيا، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيصفوا لكل واحد سمة ولفظا، إذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف، وأسهل من تكلف إحضاره، كبلوغ الغرض في إبانة حاله". ثم يعود، فيذكر نظرية أخرى عن أصل اللغة4، هي أن منبع اللغة الأصوات الطبيعية، والصيحات البدائية التي كان الإنسان الأول يؤديها كتعبيرات طبيعية عن انفعالاته، "راجع ما قاله سابير ص54-55"، فيقول: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها، إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح، وحنين الرعد وخرير طاء، وشحيح الحماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عند وجه صالح متقبل". ثم يعود ابن جني في نفس الصفحة إلى القول: بأنها من عند الله عز وجل، ويقوى في نفسه اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه، وأنها وحي.   1 الخصائص ص31. 2 ص39. 3 ص42. 4 ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 منهج الدراسات اللغوية: تعدد الأنظمة في اللغة الواحدة: إننا نسمي كل مجموعة من الكلمات، أيا كان عددها ما دامت تقع بين سكتتين، وتستغرق مرة واحدة من مرات التنفس "مجموعة كلامية"، سواء كانت جملة مفيدة، أو جزءًا من جملة أو كانت كلمة واحدة، والمجموعة الكلامية نسق من من الأصوات أو سلسلة منها، وهي بهذا مادة للوصف من الناحية الأًصواتية، وتتم دراستها من الناحية الأصواتية عن طريق وصف مخارج أصواتها، وطرق النطق بها وصفاتها، فيقال مثلا: إن الصوت الفلاني من أصوات هذه الكلمة، يخرج من المخرج الفلاني، وهو شديد أو رخو أو مركب، أو متوسط وهو مهموس أو مجهور، مطبق أو مغور أو محلق، ويتم ذلك الوصف بعد ملاحظة، وتجارب سنتكلم عنها في مكان آخر من هذا الكتاب، فإذا تناولنا العلاقة بين أصوات هذه المجموعة الكلامية، بأن قلنا: إن هذا الصوت واحد من المجموعة الأصواتية، التي نسميها "حرف كذا"، وإن موقعه قبل الصوت الفلاني الملاصق له، قد حتم أن يبدو هو في شكله الحاضر، وإن الحرف الذي هو أحد أصواته، يبدو بصورة أخرى في الواقع الأخرى، كالنون مثلا تكون مفردة في شكل معين، فإذا تلاها قاف تغير صوتها، وكذلك إذا تلتها جيم أو شين، أو صاد أو ذال أو ظاء، وهلم جرا، أقول: إذا تناولنا هذا كنا ندرس التشكيل الصوتي، لا الأصوات، وكذلك إذا درسنا مواقع النبر في الكلام، ونظام المقاطع فيه وطرق تنغيمه، وسلوك الأصوات في المفاصل بين الكلمات، وفي نهاية المجموعة الكلامية أو بدايتها، كما هو الحال في همزة الوصل وفي الوقف، كل أولئك دراسة للتشكيل الصوتي لا للأصوات، ولعل الفرق بين الناحيتين واضح، فالأصوات حركات عضوية، نشأت عنها قيم صوتية في نشاط حركي ذو نتيجة سمعية، يدرس كلاهما من الناحية الطبيعية؛ وأما العلاقات، فهي ليست حركات طبيعية، ولا تشريحية خاصة بوظائف الأعضاء، ولكنها ارتباطات من نوع معين بين الأصوات المتخارجة في الورود في الموقع الواحد، إذا كانت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 حرف واحد وغير المتخارجة، إذا كانت من حرفين أو حروف مختلفة، هذه الارتباطات أفكار مدركة لا أشياء ملموسة، ووسائل للتناول الدراسي للغة لا أجزاء من سلسلة الأصوات في المجموعة الكلامية. ويمكن دراسة المادة اللغوية لا من هاتين الناحيتين فحسب، بل من نواح أخرى متعددة عن طريق مجموعة من الطرق المتساندة، والتكنيكات المترابطة، والأنظمة اللغوية كالنظام الأصواتي، والتشكيلي والصرفي والنحوي وهلم جرا، تخترع ولا تكتشف، والواقع أن الخليل وسيبويه لم يكتشفا النحو العربي، وإنما اخترعاه اخترعاه، ويريد بعض المحدثين، وقد لمس نواحي النقص في هذا الاختراع أن يحسن النظام المخترع، حتى يكون أداة أقدر على تفهيم النصوص العربية، وكل باحث في اللغة، يجب أن يكون قادرا على استعمال مقدرته الاختراعية، فكما اخترع النحاة جهاز النحو العربي، اخترع القراء الجهاز الأصواتي، الصالح لتقرير حقائق القراءات، واخترع الصرفيون الصيغ الصرفية المتنوعة من فاعل، ومنفعل ومستفعل، واخترع كل أولئك الأصول الثلاثة للكلمة، وجعلوها مادتها التي يدل عليها بها، وكل ذلك مجال مفتوح للبحث، والتنقيب يتطلب الوعي الدراسي الصحيح، ولم يقفل فيه باب الاجتهاد. فاللغة إذا متعددة الأنظمة، فلها نظامها الأصواتي الموزع توزيعا لا يتعارض فيه صوت مع صوت، ولها نظامها التشكيلي، الذي لا يتعارض فيه موقع مع موقع. ولها نظامها الصرفي الذي لا تتعارض فيه صيغة مع صيغة، ولها نظامها النحوي الذي لا يتعارض فيه باب مع باب، ولها بعد ذلك نظام للمقاطع، ونظام للنبر ونظام للتنغيم فهي "منظمة من النظم" على حد تعبير بعضهم، ويؤدي كل نظام منها، وظيفته بالتعاون مع النظم الأخرى. وهمنا بعد ذلك أن نتكلم عن المناهج التي تقوم عليها دراسة هذه النظم، وتشرح بقدر الإمكان طريقة التناول في كل فرع من فروع الدراسات اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 منهج الأصوات-الفوناتيك: الصوت : يجب أن نبدأ هنا بتحديد اصطلاحات ثلاثة، نود أن نستعين باستخدامها استخداما خاصا على الشرح، ومن المهم إلى أقصى حد أن نفرق بين مفهوماتها. تلك هي: 1- الجرس، ونقصد به ما يقصد بالكلمة الإنجليزية Noise. 2- الحس ونقصد به معنى الكلمة الإنجليزية Voice، وقد استعرنا كلمة حس من الكلام العامي في نحو "فلان حسه جميل". 3- الصوت والمراد به معنى الاصطلاح الإنجليزي Sound. فالجرس أي أثر سمعي غير ذي ذبذبة مستمرة، مطردة كالنقرة على الخشب أو الطبلة، وكالاصطدام وضجيج حركة المرور، وما يسمع نتيجة سقوط جسم على آخر، وحك جسم بجسم وهلم جرًّا. والحس ما نطقه جهاز صوتي حي، وبخاصة الجهاز النطقي الإنساني؛ فمعناه إذا ضيق محدود لا يشتمل في دلالته على معنى الصوت اللغوي ؛ لأن الحركات العضوية، التي تدخل في مفهوم الصوت اللغوي، لا تدخل في دلالة هذا الاصطلاح. وأما الصوت بالمعنى العام "الذي يشمل اللغوي، وغير اللغوي"، فهو الأثر السمعي الذي به ذبذبة مستمرة مطردة، حتى ولو لم يكن مصدره جهازا صوتيا حيا. فما نسمعه من الآلات الموسيقية النفخية، أو الوترية أصوات وكذلك الحس الإنساني صوت، ويتوقف فهم الصوت بهذا المعنى العام على اصطلاحات ثلاثة، يجب التفريق بينها أيضا، هذه الاصطلاحات هي: 1- درجة الصوت pitch 2- علو الصوت Loudness الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 3- قيمة الصوت Quality or timbre فدرجة الصوت سمكه، أو دفنه "ودعنا نختر هاتين الصفتين من صفات الأحجام، فنستعملها استعمالا مجازيا"، ويتوقف السمك والدقة على عدد الذبذبات في وقت معين يحدد عادة بالثانية، فإذا كثر عدد الذبذبات في الثانية كان الصوت دقيقا، وإذا قل كان الصوت سميكا، وإذا توقفت الدرجة على عدد الذبذبات، فإن عدد الذبذبات بدوره يتوقف على: 1- سمك مصدر الذبذبة، كالوتر مثلا، فالوتر السميك ينتج صورة سميكا وبالعكس. ب- طول هذا المصدر، فالوتر الطويل ينتج صوتا سميكا وبالعكس. ج- قوة التوتر فالوتر المشدود ينتج صوتا أدق من ذلك، الذي ينتجه الوتر المسترخي. د- شكل المصدر، وهو ما يتوقف عليه ما إذا كان الصوت طبيعيا، أو مصطنعا falsetto. والأوتار الصوتية في الرجل أسمك، وأطول من الأوتار الصوتية في المرأة، ولهذا صار صوت الرجل أسمك من صوت المرأة بصفة عامة، وكلاهما أسمك من صوت الطفل. ويتوقف علو الصوت على المدى، الذي يصل إليه مصدر الذبذبة في التراوح بين نقطتي غاية ابتعاده من نقطة الصفر، ومعنى ذلك أنه إذا كان الوتر الصوتي الإنساني في حالة صمت سواء كان مقفلا، أو مفتوحا، فهو في النقطة الذبذبية صفر؛ أي أنه غير منتقل، فإذا بدأ في الذبذبة، تحرك إلى أعلى، وأسفل بمدى يتساوى فيه ما بين نقطة الصفر، وغاية الصعود بما بين نقطة الصفر، وغاية الهبوط. فإذا اتسع ذلك المدى كان الصوت عاليا، وإذا ضاق كان الصوت منخفضا. وهذا المدى بذوره يتوقف اتساعه، وضيقه على كمية الهواء الخارج من الرئتين المار بين الأوتار الصوتية، فإذا زادت كمية الهواء اتسع المدى وبالعكس، أما في البيانو مثلا، فيتوقف على قوة الضرب على المفتاح، وفي العود والكمان على قوة ضرب الوتر، أو الضغط عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وبالاختصار يتوقف العلو على الإثارة في جميع ذلك. وأما قيمة الصوت، فهي أثره السار أو المنفر في الأذن، ومن المعروف أن أي صوت يمكن تحليله إلى نغمة أساسية، ونغمات أخرى فرعية وأن النغمات الأساسية، "أو نغمة درجة الصوت كما يسمونها"، هي أعلى هذه النغمات، وأن النغمات الفرعية نتيجة ذبذبات، تكون مضاعفات حسابية مع عدد الذبذبة في النغمة الأساسية. ولإيضاح ذلك نقول: إننا إذا اخترنا مثلا وترا من أوتار العود، أو الكمان فسنجد أنه حين يضرب يتذبذب ككل من أجل النغمة الأساسية، ثم تتذبذب أجزاؤه مرتعشة في نفس الوقت، من أجل النغمات الفرعية، فإذا تذبذب الوتر ككل 200 مرة في الثانية مثلا، فسنجد أن من أجزائه ما يتذبذب 400 مرة ومنها ما يتذبذب 600، 800، 1000، 1200 وهكذا. وإذا أخذنا عمودا من الهواء في آلات النفخ، فإننا نجده ينقسم إلى هذه الأجزاء، التي بينها علاقة حسابية أيضا، فيكون منه ما هو نغمة أصلية، ومنه ما هو نغمات فرعية. وتسمع النغمات الفرعية في نفس الوقت مع النغمة الأساسية، مكونة معها كلا هو الصوت، ولكن هذه النغمات الفرعية لا تسمع بمفردها، وتتوقف قيمة الصوت على هذا النسق الرنيني الخاص من النغمات الفرعية، فكما أن العود في تصمصم بنائه، قد صنع ليختلف في القيمة الصوتية عن الكمان، أي أنك تستطيع أن تقرر بالسماع، دون أن ترى الآلة ما إذا كان المعزوف عودًا أو غيره، كذلك تستطيع أن تقرر بالسماع، ما إذا كان صوت العلة المنطوق هو هذا الصوت أو ذاك، وتنسبه إلى الفتحة أو الكسرة أو الضمة، فاختلاف شكل العود عن شكل الكمان، كاختلاف شكل الفم في نطق أحد الأصوات عنه في نطق الآخر، يغير شكل الموجة الصوتية، بإيضاح النغمات الفرعية الخاصة بهذا الوضع، وإعطائها أهمية في السمع، وإن اتحد طول الموجة في الحالتين، واختلاف شكل الموجة هو اختلاف القيمة، وذلك ما تميزه الأذن بسهولة. وهذه القيمة الصوتية، تجعلك تميز صوت صديقك في التليفون من أصوات الآخرين، ولو يشبهونه في الدرجة والعلو، وتتوقف النغمات الفرعية على نسيج الأوتار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الصوتية نفسها، بقى بعد ذلك أن نرى كيف يحدث الصوت الإنساني، أو ما اصطلحنا على تسميته "الحس". إن الهواء الخارج من الرئتين، إما أن يجد الأوتار الصوتية مفتوحة فتحا تاما، بحيث لا تعترض طريقة، فيمر منها دون أن يحدث بها ذبذبة، أو احتكاكا، وإما أن يجدها متقاربة قربا يمكن الهواء من أن يحتك بها، دون أن يحدث بها ذبذبة، وإما أن يجدها قريبة جدا، بحيث لا يمر بها دون أن يحدث بها ذبذبة، والوتران الوصتيان في ذلك كالشفتين، يستيطع الإنسان أن يفتحهما في طريق الهواء الخارج من الفم، ويستطيع كذلك أن يقربهما للنفخ بهما، ويستطيع أن يقربها بدرجة أكبر، ليحدث بهما صوتا مسموعا. أما الأوتار الصوتية، فإنها حين تتباعد مع مرور الهواء بينها، تسمح بحدوث ما يسمى بالتنفس العادي غير الصحوب باحتكاك الهواء بهذه الأوتار، فإذا تقاربت لدرجة تحتم احتكاك الهواء بها، حدث ما نسميه الهمس، وهي حالة تغاير تماما تلك التي اصطلحنا على أن نسميها حالة إنتاج الحس، التي لابد لها من وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية. بقي بعد ذلك أن نشرح هذه الحالة الأخيرة "حالة الحس". إن الذبذبة التي تحدث في الأوتار الصوتية، ليست كل شيء فيما يتعلق بإنتاج الحس، وكل ما ينتج عن هذه الذبذبة هو ما اصطلحنا على تسميته "الجرس"، أما كيف يتحول هذا الجرس إلى حس له درجة، وعلو وقيمة على نحو ما شرحناه سابقا، فذلك سيتوقف على عوامل مساعدة، يمكن تسميتها حجرات الرنين. نحن نعلم أن وتر العود من غير جسم العود لا يؤدي نفس الغرض، الذي يؤديه وهو مركب على هذا الجسم، وأن الضرب عليه، وهو خارج العود سيؤدي إلى جرس قصير الأمد، قد لا يتجاوز الثانية، وآية ذلك أنك تستطيع أن تأخذ أحد أوتار العود، فتفصله ثم تحكم شده بين شيئين، ثم تضرب عليه بنفس الريشة المستعملة في العزف على العود، ولست أشك إن فعلت في أنك ستدرك الفرق بين حالتي الوتر، مشدودا على العود ومشدودا خارجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ويقال ذلك عن أوتار كل آلة موسيقية وترية، كما يقال في الأوتار الصوتية الإنسانية، فالذي يحدث إذا من الأوتار الصوتية، من غير اعتبار العوامل المساعدة، ليس إلا جرسا كالذي يحدث من وتر مشدود، في غير آلة موسيقية. ونحن نعلم أيضا أن وظيفة الصندوق في العود، إنما هي إيجاد الرنين الضروري لإحداث صوته، وهذا الرنين أشبه ما يكون بأصداء لجرس الوتر تتشابك في صندوق العود، ويكمل بعضها بعضا، وإذا كان لعود صندوق واحد يؤدي هذه المهمة، ففي الإنسان صناديق كثيرة؛ فالتجويف الصدري والحلق، وتجويف الفم كله حجرات رنين من أنواع ممتازة، ولهذا كان الجهاز الصوتي الإنساني أكثر الآلات الصوتية، كمالا وإيفاء للغرض. يخرج الهواء إذا من الرئتين، فيجد الوترين الصوتيين متقاربين قربا شديدا، ولكنهما غير مقفلين، فيمر بينهما فيتذبذبان، ويكون لذلك جرس يتردد صداه في حجرات الرنين، التي ذكرناها فوق هذا الكلام، ويتكون من مجموع الجرس والأصداء الرنينية حس له مقوماته الخاصة، من درجة وعلو وقيمة، وسنرى فيما بعد أن النشاط اللغوي الإنساني، يحسن استخدام العلو، والقيمة إلى أقصى غايات الإحسان، فيستخدم الأول في التنغيم1، وفي التفريق بين الصحاح والعلل، ويستخدم الثانية في التفريق بين أفراد كل نوع من الصحاح، والعلل من ناحية صفاته.   1 سيأتي فصل خاص لشرح هذا الاصطلاح "التنغيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الصوت اللغوي : حين يتكلم المتكلم، نلاحظ أنه يقوم بحركات خاصة بفكه الأسفل، وشفتيه ولسانه، ونلاحظ كذلك أن أثرا سمعيا معينا يصل إلى آذاننا، فنفهم أنه مرتبط بهذه الحركات التي في فم المتكلم. هذا الأثر السمعي لا يبدو في مظهر ذبذبة مستمرة طويلة غير معدلة، كالتي نسمعها من صفارة الإنذار، أو من صفارة القطار، وإنما هي معدله بمقدار ما يصاحبها من حركات الفم، التي ذكرناها في البداية، هذه الحركات النطقية ملونة بألوانها الصوتية الخاصة، هي ما اصطلح العلماء على تسميته بالأصوات اللغوية، فالصوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 اللغوي إذا ذو جانبين أحدهما عضوي والآخر صوتي؛ أو بعبارة أخرى أحدهما حركي والثاني تنفسي؛ أو بعبارة ثالثة أحدهما يتصل بعملية النطق، والثاني يتصل بصفته، وعملية النطق هذه تحدث في أية نقطة مما بين الشفتين، والأوتار الصوتية في الجهاز النطقي الإنساني. ويجب أن نشير هنا إلى حقيقة عامة، تتصل بحركات هذا الجهاز هي أن بعض أعضائه ثابت، والبعض الآخر متحرك، فالأجزاء الثابتة هي الأسنان واللثة والغار، والجدار الخلفي للحقح، والأجزاء المتحركة هي الشفتان واللسان من طرفه إلى ما يشمل لسان المزمار، والفك الأسفل والطبق بما فيه اللهاة والحنجرة والأوتار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الصوتية والرئتان، أضف إلى ذلك الحجاب الحاجز، وبعض العضلات البطنية، وهذان الأخيران سوف لا يدخلان في دراستنا هذه. وهناك حقيقة أخرى، لا بد من الإشارة إليها هي أن الوظيفة الأساسية لهذا الجهاز، ليست متصلة بالنطق اللغوي، وإنما تؤدي وظيفة حيوية بالعمل على جعل استمرار الحياة أمرا ممكنا، فالشفتان صمام لحفظ الطعام من الانتشار أثناء المضع، وتستعملان كذلك في المص والبصق؛ والأسنان والأضراس لتقطيع الطعام ومضغه، واللسان، وهو عضلة في نهاية التعقيد من ناحية تركيبه، وحركته، يساعد على خلط الطعام في الفم، ويفصل سقف الفم بين تجويفين يختلفان في الوظيفة، هما تجويف الفم وتجويف الأنف، والتجويف الأنفي حجرة لتكييف الهواء قبل هبوطه إلى الرئتين، والحلق ممر الهواء، وهو ينتهي بالأوتار الصوتية، التي هي جزء من الحنجرة، وهذه الأوتار صمام لحفظ الرئتين من الأجسام الغربية، ولحبس الهواء فيهما لأغراض مختلفة، منها السعال وحمل الأحمال الثقيلة، والرئتان تكرران الهواء، وترسلانه إلى القلب، ويتم هذا التكرير عن طريق التنفس. ولكن الضرورة الاجتماعية مضافة إلى الذكاء الإنساني خلقا وظيفة ثانوية لهذا الجهاز الحيوي، هي وظيفة النطق اللغوي، ويستطيع الإنسان بتحريك الأجزاء القادرة على الحركة من هذا الجهاز، وتقريبها من أجزائه الأخرى أن يحدث تضييقا في مجرى هواء، كما يستطيع بإلصاق الأجزاء القادرة على الحركة أيضا بالأجزاء الأخرى منه، أن يقفل مجرى الهواء إقفالا تاما؛ وبهذا التضييق وذلك الإقفال، أو عدمهما يستطيع المرء أن يحدث من الأصوات ما لا حصر له، ولعل عدد الأصوات المستخدمة في جميع اللغات الإنسانية في كوكبنا هذا، لم تستنفد كل الإمكانيات الصوتية في الجهاز النطقي الإنساني، ولكن هذه الجمهرة الضخمة من الإمكانيات النطقية، لا تستخدم كلها في لغة واحدة، وإنما تختار كل لغة منها طائفة قليلة متباينة، يختلف بعضها عن بعض؛ إما من ناحية مكان التضييق أو الإقفال الذي هو المخرج، وإما من ناحية الأثر الصوتي المسموع جهرا كان أو همسا، وإما من ناحية الطريقة التي يخرج بها الهواء عبر المخرج، سواء كانت هذه الطريقة انفجارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أو احتكاكا أو خروجا حرا، وإما من ناحيتين أو أكثر من هذه النواحي. ويحس المتكلم العادي دائما، إذا كان واعيا بالأصوات التي يتكلمها، أن هذه الأصوات لا تعدو بحال عدد الرموز الكتابية في لغته، ولكن هذا الإحساس خاطئ بالطبع، وربما لا يكون من بين المتكلمين بلهجة القاهرة من يدرك بلا إرشاد أن اللام في طلب، من الناحية الصوتية، غير اللام في ثلاثة، وأن التاء في يتعلم غير التاء في يتصرف؛ لأن من عادته أن يعامل الصوتين في كل حالة معالة الحرف الواحد، فإذا كانت اللامات والتاءات تختلف في اللهجة الواحدة، فلا شك أن في لغات العالم، عددا ضخما من اللامات والتاءات، التي يختلف كل منها عن الآخر مخرجا جهرا، أو همسا أو طريقة أو درجة، أو رنينا أو تفخيما أو ترقيقا. فلا يغرنك إذا أن تسمع المتكلم الأجنبي يأتي في كلامه بأصوات، تذكرك بأصوات لغتك، فتظن بادئ ذي بدء أن هذا هو عين الصوت الذي تتكلم به أنت، فأنت إذا دققت السمع وجدت فرق ما بين السماء، والأرض بين صوتك الذي في كلامك، وصوته الذي في كلامه، وذلك فرق يبدو بدقة الملاظة، كما يبدو بالوسائل الميكانيكية، التي تستخدم في البحث في معمل الأصوات اللغوية، تلك الوسائل التي سنشرحها بعد قليل، وهذا الفرق من ناحية أخرى يرجع إلى اختلاف نوع التكييف العضلي الذي يصحبه، وهذا التكييف أمر فردي في طابعه، حتى ليختلف الأخوان في طريقة النطق، ويختلف الشخص مع نفسه من نطق إلى نطق، بحسب ظروفه العضلية والنفسية. ولكن لا جدال في أن التاء، إن اختلفت من فرد إلى فرد، ومن لهجة إلى لهجة ومن لغة إلى لغة، فهي في مجموعها نوع نطقي معين تشترك اللغات فيه، وتختلف في أفراده، وهذا هو الذي يبرر كتابة أسماء الأعلام في اللغات الأجنبية بمقابلات رمزية عربية. لاحظ التاء مثلا في الكلمات الآتية: ستالين، تورين، تفليس، سان استيفانو، مارجريت، كلكتا. وإنك لتجد رموزا عربية أخرى في هذه الكلمات إلى جانب التاء، يمكن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يقال فيها ما يقال في التاء، وهذا أيضا هو المبرر الوحيد لخلق أبجدية أصواتية عالمية محدودة عدد الرموز، فكل رمز في هذه الأبجدية نوعي "Typologcil"، يدل على طائفة من حالات النطق تشترك في سلوك عضلي وسمعي معين، وتختلف في تفاصيل نطقها وسماعها، ففي العربية تاء وفي الإنجليزية أخرى وفي الهندستانية ثالثة، ولكن العربية أسنانية مهموسة، والإنجليزية لثوية مهموسة، والهندوستانية انقلابية retroflex أقل همسا من كليتهما؛ ومع ذلك فإن الكلمة الإنجليزية التي بها تاء مثل "توماس"، إذا نقلت إلى العربية ابتدأت بالتاء أيضًا. ولكننا ضربنا مثلا بالتاء فحسب، مع أن الواقع أن ذلك يقال عن كل ما في اللغة من رموز أصواتية، ولقد سبق أن قلنا: إن في اللغة العربية حرفا يضم اسمه في مفهومه طائفة من الأصوات، التي تختلف في مخارجها من الأسنان في الأمام إلى اللهاة في الخلف، لاحظ نفسك وأنت تنطق النون في قولك: "من ظلم" "مع ملاحظة أن اللسان لا بد أن يخرج مع الظاء"، وستجد أن النون صوت يخرج اللسان معه، كما يخرج مع الثاء والذال والظاء، ثم لاحظ نفسك أيضا وأنت تنطق النون في "من شاء"، "من جاء"، "من خرج"، "من غاب"، "من قعد"، "من بات"، "من يكون"، ثم في قولك: "أنا"، وستجد -لا محالة- أن بعض هذه الأصوات يختلف عن بعض، ولكنها كلها تلتقي تحت مفهوم حرف النون. ولاحظ كذلك أننا قد قابلنا النون الأجنبية بنون عربية في ثلاثة من الأمثلة، التي جئنا بها من قبل، وهي: ستالين، تورين، سان استفانو. ولست أريد هنا أن أدخل في مسألة نقل الأعلام الأجنبية بحروفها إلى اللغة العربي، واستعارة الكلمات الأجنبية بحروفها كذلك؛ فلهذا النقل نظام خاص من المقابلات لا أحب أن أخوض فيه في هذا الكتاب، ولكن الذي أحب أن أقوله هنا، هو أن لدراسة الأصوات منهجا خاصا بها تبحث على أساسه، وما دام إنتاج الصوت عملا فرديا -وقد سبق أن قلنا: إن الأخوين لا ينطقان نطقا متشابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تماما- فإن دراسة الأصوات، إنما تقوم على أساس فردى لا جمعي؛ وذلك أنك تختار من اللهجة، التي تريد أن تدرسها من الناحية الصواتية، متكلما من متكلمي هذه اللهجة نشأ عليها من طفولته، مع تفضيل المتكلم الذي لم يغادر المنطقة اللغوية، التي تتكلم اللهجة فيها طول حياته؛ فهذا خير من يمثلها تمثيلا صحيحا، والأفضل في ذلك أيضا أن يكون ذلك المتكلم "ولنسمه بعد ذلك مساعد البحث" أميالا يعرف القراءة، والكتابة؛ لأن للقراءة والكتابة تقاليدها التي لا تتمشى دائما مع المنهج الصحيح، فإذا كان المساعد قارئا كاتبا تدخلت معرفته بذلك في مجرى البحث، وضيعت كثيرًا من الفائدة على طالب البحث. لقد حدث حين درست لهجتي الخاصة "لهجة الكرنك مركز أبي طشت بمديرية قنا"، لدرجة الماجستير في جامعة لندن أن اتخذت نفسي مساعدا لنفسي، حيث كنت طالب البحث، فلما سجل رسالتي للدكتوراه في دراسة أصوت لهجة عدن وتشكيلها الصوتي، حدث أن اتخذت مساعدا لي عدنيا، كان يدرس القانون في لندن، وقد كان أول عملي معه أن أستمليه بعض القصص والحكايات باللهجة العدنية، وأن أسجل بعض ذلك على إسطوانات في معمل الأصوات، بمعهد اللغات الشرقية في لندن. وكنت إذا تم التسجيل أدرت هذه الإسطوانات جملة جملة، وربما كررت إدارة الإسطوانة للجملة الواحدة عشرين إلى ثلاثين مرة أو أكثر، حتى أحصل منها على الأثر الصوتي المرضي، فأسجله بكتابة أصواتية مضبوطة محددة الرموز. ويتم ذلك عادة بحضور المساعدة، حتى يصحح لسمعي ما قد تدغمه الإسطوانة حين سماعها. فإذا وجدت كلمة غامضة في سماعها من الإسطوانة، طلبت إلى المساعد أن يكررها؛ فلا يزال يكررها حتى أطلب إليه أن يكف، ثم أدير هذه الكلمة بخصوصها على الإسطوانة، وأقارن بين السماعين حتى يتضح ما في الإسطوانة لأذني، ومع أن لهجة عدن ولهجتي الخاصة بينهما وضوح متبادل -لأنهما، كما يعلم القارئ، ينتميان إلى لغة واحدة هي اللغة العربية- لم يكن من السهل علي في بعض الحالات أن أحدد مفاصل الكلمات، فأعلم أين تبدأ الكلمة وأين تنتهي، ذلك؛ لأن تحديد الكلمات في أية لهجة غير معتادة بالنسبة للباحث، إنما يقوم على أسس معقدة أصواتية، وتشكيلية وصرفية ونحوية، وعلى عوامل أخرى سنذكرها حين الكلام عن تعريف الكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الملاحظة : هذا الذي أشرت إليه في الكلمات الماضية، هو ما يسمى في منهج الأصوات بطريقة الملاحظة، ولن تكون طريقة الملاحظة وافية بالغرض منها، دون أن تصحبها ملاحظة ذاتية من جانب طالب البحث، وذلك بأن يقلد الطالب مساعده في نقطة على مسمع من المساعد، ويسأله وهو يفعل ذلك أن يدله على مواطن الغلط في التقليد، ولا يزال به يسأله، ويستفهمه حتى يقول المساعد: إنه يرضى نطق الطالب للمثال باعتباره ممثلا لنطق اللهجة، أو أقرب ما يكون منه، ويجب على الطالب إذا أراد أن يستوثق من أمانة المساعد، أو من انتباهه أن يخادعه أحيانا؛ لأن المساعد قد يرضى في بعض الأحيان بنطق غير صحيح، ويدعي صحته، إما تأدبا منه مع الطالب، أو لتعبه، أو عدم انتباهه. فإذا علم أن الطالب يخادعه أحيانا بتعمد الخطأ في النطق، كان ذلك حافزا له على الجد والانتباه، والتدقيق في قبول نطق الطالب. ومن المهم جدا أن تتخذ لنفسك طريقة، لوضع الأسئلة التي تسأله بها المساعد؛ لأن السؤال الذي يسوء اختيار طريقته، إما أن يجاب عنه جوابا يقود إلى طريق خاطئ في الاستنتاج، وإما أن يحير المساعد فلا يستطيع الإجابة عليه، فليس من المفيد أبدا أن تستعمل في أسئلتك اصطلاحات فنية، يجهل المساعد معناها؛ لأن هذه الاصطلاحات هراء بالنسبة له، ولست أتصور طالبا مثلا يسأل مساعده، على علم منه بجهله، أن ينطق له جملة باللحن التنغيمي الأول، ولا أن يسأله أن يقدم له قائمة من الكلمات، التي تبدأ بالمقطع القصير "ص ع"، والطالب الذي يفعل ذلك يعوق عمله بقدر ما يحير مساعده بلا شك، ويدرك أنه أبعد ما يكون عن مراعاة مقتضى الحال. ومما يساوي ما تقدم في الأهمية ألا تدع مساعدك، وقد تعود على سماع الاصطلاحات منك، يعرف الهدف الذي ترمي إليه من اختيار الأمثلة واختبارها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فلا تدعه يعرف السبب الذي من أجله، تطلب إليه أن ينطق هذا المثال أو ذاك. ولا تقل له: إنني أريد أن أرى من نطقك، التي طلبته منك أن أرى ما إذا كان الصوت الفلاني مفخما، أو مرققا في هذا المثال؛ لأن ذلك يجعله يضطرب في تحديد القيمة الصوتية الصحيحة لهذا الصوت، فإما أن يبالغ في التفخيم، وإما أن يبالغ في الترقيق، وإما أن يتوسط بينهما على حساب القيمة الصحيحة للصوت، وبعبارة أخرى سيقوده هذا إلى الوعي بنطقه؛ والوعي بالنطق أول مراحل التلجلج. وليس من المفيد أيضا، أن تواجهه بالاستفهام عن أحد احتمالين لا ثالث لهما؛ كأن تقول له: أفي هذا الموضع حركة أم سكون، فربما كان هذا موضعا من مواضع القلقة التي لا هي بالحركة ولا بالسكون، وخير ما يفعل في هذه الحالة -إذا أمكن- أن تكتب الكلمة بالأبجدية، التي تكتب بها اللهجة، وتسأل مساعدك أن ينطقها لك، وأنت تلاحظ بعد ذلك كيف ينطق، فإن كان غير كاتب ولا قارئ، أو لم تكن للهجته أبجدية تكتب بها، فاسأله عن الكلمة التي يطلقها على المعنى الفلاني، على أن تكون هذه هي الكلمة التي تبحث عنها. فجوابه لك حينئذ يكون بنطق الكلمة نطقا صحيحا، تستطيع -إذا أردت- أن تطلب إليه أن يعيده قدر ما تشاء. والميزة التي تمتاز بها الملاحظة على الطرق الميكانيكية في البحث، تكمن في أن الأذن الإنسانية أكثر الآلات ضبطا للاستخدام في الأغراض اللغوية، زد على ذلك أن المادة التي تبحث بالأذن، إنما هي الكلام الحي نفسه، في مقابل ما يدرس على الحنك الصناعي، وهو بصمة اللسان، وما يدرس على الكيموغراف وهو التعريجات الكتابية، وما يدرس بالآشعة فوق البنفسجية، وهو صورة الجهاز النطقي في وضع ثابت معين. واستخراج الحقائق من الملاحظة استخراج مباشر، ومن الآلات غير مباشر. ولعل طريقة واحدة من طرق الملاحظة، قد نجحت في التغلب على عامل التوقيت بخلق دوام من نوع معين للنطق، تلك هي طريقة تسجيل الصوت تسجيلا يجعله في المتناول كلما أريد سماعه، فهو يسمع حينذاك بكل خصائصه التي فيه دون أن يتأثر القرص بالعوامل الخارجية، عضلية كانت أو نفسية كما يتأثر المتكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تسجيل الصوت : يعتبر التسجيل، كما أشرنا من قبل، توسيعًا لمدى الملاحظة بإدخال عنصر الدوام على النطق، وهذا الدوام استمرا بالقوة1 للنطق، حتى تبدأ إدارة الإسطوانة، فيصير استمرارا بالفعل، وذلك؛ لأن الأسطوانة باقية دائما ومدارة أحيانا، ومثل ذلك يقال عن الشريط، ووسائل التسجيل الأخرى، وتمكن الإعادة غير المحدودة العدد، لنطق خاص على الأسطوانة برفع ذراع الإبرة عن المكان، الذي ينتهي فيه النطق، ووضعها ثانية في المكان الذي بدأ فيه، ويستطيع الطالب أن يتقن هذه العملية إتقانا لا حد له، وتعتبر الأسطوانة، من بين وسائل التسجيل الأخرى، أحسن وسط لحفظ أكبر عدد ممكن من ملامح الصوت المختلفة، وإعطائها لأذن السامع، ولكن التسجيل بصفة عامة لا يمكن أن يقارن بالصوت الحقيقي الصادر عن الجهاز الإنساني، ولا سيما إذا كان المقام مقام بحث أصواتي لغوي، وذلك لسببين: أولهما أن الصوت الإنساني الحي أوضح في قيمته من تسجيله الذي على الأسطوانة، وأن هذا التسجيل ليس إلا تقليدًا غير مطابق تماما للأصل، وثانيهما أن التسجيل المسموع يعطي الطالب فرصة السماع فحسب، وأما الصوت الحي فللأذن فيه فرصة السماع، وللعين فرصة الرؤبة، إذ يلاحظ الباحث حركات شفتي المساعد، ولسانه وفكه الأسفل، وكل ما تصل إليه عينه من أعضاء نطق المساعد. وإن عدم ملاحظة هذه الحركات في الأسطوانة المسموعة، يجعلها أحط بكثير من الصوت الطبيعي، ومما يؤخذ على التسجيل إذا قارناه بالصوت الحي، أن الطالب إذا سجل على أسطوانته أصواتا غير واضحة -وكثير ما هي- فإنه لا يستطيع أن يحصل من الأسطوانة على توضيح كاف لهذا الغموض، حتى ولو أدار هذا النطق على الأسطوانة آلاف المرات، أما إذا جاءك مساعدك أحيانا بصوت غير واضح، فإنك ستستوضحه، وسيوضح لك ما غمض في نطقه الأول.   1 أي لا بالفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والتسجيلات هي الوسائل الوحيدة "تقريبا"، التي يمكن أن تختبر بها دقة نتائج الملاحظة، أو عدمها في نواح كثير في علم الأصوات اللغوية، مثل قيم الأصوات العلية، والتنغيم، والنبر، وهلم جرا، ففي غياب مساعد البحث لا يمكن استقصاء هذه الملامح اللغوية بواسطة أية وسيلة آلية، إلا وسيلة التسجيل، وهذا ما يعطي التسجيل قيمة بين وسائل البحث الآلية، لا تشاركه فيها وسيلة آخرى. ومن المهم جدا أن يكون الطالب حذرا في اختيار المادة، التي يسجلها على الأسطوانات لأغراض البحث اللغوي؛ لأن المفروض في هذه المادة أن تخدم أغراضا معينة في العمل، ويتطلب موضوع ما في دراسته مادة تختلف عما يتطلبه موضوع آخر، فطالب الأنثروبولوجيا مثلا، قد يسجل من مادة اللغة ما يسجله طالب الأصوات، أو طالب التشكيل الصوتي، أو طال النحو أو الصرف، ولكن هذا ليس ضروريا؛ لأن طالب الأنثروبولوجيا لا تهمه قوائم الكلمات، ولا جداول التصريف، كما تهم الطلاب الآخرين المذكورين؛ بل يهتم في الغالب بالفقرات، والقطع الكاملة التي تتضح بها ظاهرة أنثروبولوجية معينة. أما مادة التسجيل لطالب الأصوات، فإنها تشتمل على ما يأتي: 1- قوائم معدة من الكلمات التي تشرح المقارنة بينها ظاهرة نطقية معينة. 2- قصص معدة قبل التسجيل. 3- قصص مرتجلة، وسيصادف الطالب كثيرا من هذه في منطقة اللهجة. 4- محادثات وديالوجات، وما أشبه ذلك من أنواع الحوار، وما يعده الطالب من هذه المادة قبل التسجيل يتطلب مقدرة خاصة على الاختيار، ونفوذ النظرة في العمل، وفي التنبؤ بالأمثلة التي سيختارها حين كتابة مؤلفه عن اللهجة المدروسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 البلاتوغرافيا: أو تكنيك الحنك الصناعي: يقول فيرث: "لقد استعملت البلاتوغرافيا منذ طليعة التجارب، التي قام بها روسيلو"1، ومع أن هذه الطريقة من طرق البحث، قد بدأت باستعمال بصمات أصوات، ثم نطقها منفردة خارج بيئة الكلمة، إلا أن هذه البصمات لا ينظر إليها نظرة ثقة في الوقت الحاضر؛ لأن اللغة إنما تنبني من النطق الكامل، لا من نطق الأصوات المستخرجة من بيئتها الطبيعية، ومن نتائج هذه النظرة إلى البلاتوغرافيا، أن أصبح طالب اللغة الآن يقوم بالتجارب على بصمات للأصوات في الكلمات التامة، أو في الجملة، حين توجد الجملة المناسبة، وهذه البصمات على نوعين: 1- أمثلة تختار بحيث يكون واحد فحسب من أصواتها المكونة لها، صالحا لإنتاج بصمة على الحنك الصناعي، ويمكن أن نسمي هذا النوع: وحيد البصمة "انظر البصمات من 1 إلى 16". 2- أمثلة تختار بحيث يكون أكثر من واحد من أصواتها صالحا لمثل هذا، بشرط ألا تتداخل مناطق البصمات للأصوات المختلفة في المثال، ويمكن أن نحصل من هذا النوع على أمثلة ذات بصمات ثلاث، لا يتداخل بعضها مع بعض، ومن ذلك المثال العددي ضروك، ففي هذا المثال تقع بصمة الضاد العدنية على ما يقابل أطراف الثنايا من الحنك الصناعي "dental articulation"؛ لأن الضاد العدنية يخرج فيها اللسان، وأما الراء التي تجاور صوت علة متأخر ضيق "أحد أصوات الضمة أو واو المد"، فإن بصمة اللسان على الحنك الصناعي معها، إنما تقع في منطقة مقدم الغار، ومؤخر اللثة "post-alveolar'، وأما بصمة الكاف في هذا المثال، وقد   1 Words-Palatograms and articulation, Bulletin of the S. O. A. S. Voll Xll, parts 3 & 4. 1948. pp. 857-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 سبقها صوت العلة المذكور، فإنها تقع في الزوايا الخلفية التي في نهاية الحنك "post-palatal"، ويسمى هذى النوع متعدد البصمة، "انظر البصمات من7 إلى 12". واختيار النوع الأول من هذه الأمثلة أسهل بكثير من اختيار النوع الثاني؛ وهذا النوع الأول يوجد بكثرة ضخمة في الكلمات العربية، فلاختيار أي مثال من هذا النوع ينظر الطالب في الكلمة؛ فإذا وجد فيها أكثر من صوت واحد، ينطق باللسان، فليدعها، فإن وجد فيها صوتا واحدا، مما يتحرك اللسان في نطقه فليخترها، ومن هذا النوع عرب، حلف، شمم، مزح، مرح، مسح، أولم، أوفد، أبرعن أبأس، أحفر، عمر، رحمة، ملام، وهلم جرا. بعد أن يجمع الطالب الأمثلة، التي سيجري بها تجارب البلاتوغرافيا، ويكون قد جمعها طبقا للمسألة التي يريد بحثها بواسطة هذه الأمثلة، يأتي بالمساعد ويعد له الحنك الصناعي، فيلصقه بسقف فمه مثبتا من أطرافه في أسنانه العليا، بعد أن يكون قد نطفه بالزيت، ورش عليه الطباشير الفرنسي، ثم نفض فائضه عنه. حينئذ ينطق المساعد الكلمة وحيدة البصمة مثلًا، فلا يتصل لسانه بالحنك الصناعي إلا في صوت واحد من أصواتها، وحينما يتصل اللسان بالحنك الصناعي، يترك عليه بصمة يتلاشى الطباشير بها، ويظهر سواد الحنك الصناعي بدل بياض الطباشير، ثم يخرج الحنك الصناعي من الفم بحذر، دون أن يسمح للأصابع أن تترك به بصمات، وسيرى الطالب حينئذ موقع اللسان على الحنك الصناعي، فيستطيع أن يعلق على النطق في هذا المثال، أو على نطق الصوت في الموقع المذكور، ولذكر حدود البصمات مضبوطة، رأى القائمون بهذه التجارب، أن يقسموا الحنك الصناعي إلى مناطق، كما هو موضح بالرسم المصاحب، ليستطيع الطالب أن يصف البصمة باستعمال أسماء هذه المناطق لمن لم ير البصمة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ولا يجب أن ننسى حصر المواقع الممكنة في الكلمة العربية هنا، وإن كان ذلك من دراسة التشكيل الصوتي، لا من دراسة الأصوات، هذه المواقع هي: 1- البداية، كموقع الكاف من كتب. 2- ما كان بين علتين، كموقع التاء من كتب. 3- المشدد في الوسط، كموقع اللام المشدد من علم. 4- ما كان ساكنا في الوسط، كموقع البين من معلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 5- ما كان متحركا في الوسط، كموقع اللام من معلوم. 6- ما كان قبل الآخر في المجموعة الكلامية، كموقع الجيم من استخرجت. 7- الساكن المفرد في الآخر، كموقع الباء من اضرب. 8- الساكن المشدد في الآخر، كموقع اللام المشددة من استقل. فلكل موقع من هذه المواقع بصمته الخاصة، وجهره الخاص، ومدته النطقية الخاصة، "بقطع النظر عن الكمية التي هي اصطلاح تشكيلي لا أصواتي". ويجب أن يعلم الطالب تمام العلم، مدى توضيح البلاتوغرافيا لمشكلات النطق؛ فلا يتطلب منها ما لا تستطيع البصمة أن تجيب عليه، فإذا أراد الطالب أن يحتفظ بهذه البصمة لمقارنتها بغيرها في المستقبل، فلذلك إحدى طريقتين؛ أولاهما أن يصورها صورة شمسية، وثانيتهما أن يضعها في عاكس ضوئي يعكس صورتها على لوح زجاجي، فيستطيع الطالب حينئذ أن يضع على الصورة المعكوسة، شريطا من الورق الشفاف بعرض طول الصورة، ويشف الصورة على مبدأ هذا الشريط، ويكتب التاريخ، وهجاء الكلمة بالكتابة الأصواتية تحت الصورة، ثم يعيد التجربة على نفس المثال في تاريخ آخر، ويشف الصورة الثانية على نفس الشريط بجانب الأولى، فاعلًا معها ما فعل بالأولى، ويكرر ذلك، ثم يقارن الصور كلها في تاريخ لاحق، ليستنتج منها ما يستحق الملاحظة والتسجيل، وكل بصمة من هذه البصمات يجب أن تفهم باعتبارها نوعية فحسب "Typological". والسبب الذي يدعونا إلى القول بنوعيتها، هو أننا لا نجد بصمتين لنطق واحد تتفقان في كل التفاصيل، فقد تكونان متشابهتين بقرب، فتوضعان في قسم نوعي معين. ولكنهما، كما قلنا: لا تتفقان تمام الاتفاق. فإذا أخذنا بصمات لصوت في بيئته الكلامية غير منعزل، ولا مأخوذ على حدة، وبحثنا سلوكه في المواقع المختلفة، لكل موقع مثاله، وكررنا البصمات لكل مثال معين، فقد رأينا صورة لها بعض الوضوح عن بلاتوغرافيا هذا الصوت المعين، وقد تكون البصمتان للصوت الواحد مختلفتين من الناحية النوعية، إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كانت كل منهما خاصة بموقع من المواقع الثمانية المذكورة، غير موقع البصمة الأخرى؛ لأن المواقع كما قلنا: تؤثر في النطق آثارا مختلفة. لعل القارئ قد أخذ فكرة واضحة عن وظيفة هذه البصمات في البحث، فهي تستعمل في المقارنات النطقية بين الأصوات المختلفة، ومن المواقع المختلفة للصوت الواحد أيضًا، وهي تستعمل كذلك لبيان الخطأ، الذي يقع فيه بعض الباحثين، كأن يفهموا من القول بأن الصوت الفلاني مخرجه كذا، أن هذا المخرج، ثابت في كل الحالات والظروف؛ فلكل نطق صفاته الخاصة، التي يمكن إدراكها من شكل البصمة وحجمها، ويجب أن تكون الأثملة المقارنة مما تجوز مقارنته، وشروط المقارنة بين شيئين أن يتفقا في الكثير، ويختلفا في القليل من صفاتهما؛ أيا كان هذان الشيئان. فإذا أردت أن تقارن المواقع المختلفة للصوت الواحد، فقارن بصماتها المأخوذة في نفس التاريخ، مثال ذلك بصمة التاء في تاب، وكتب وبات، وأما إذا أردت أن تقارن البصمات المأخوذة لمثال من هذه بعينه، فقارن ما أخذ له من بصمات في تواريخ مختلفة، مثال ذلك أن تقارن بصمات التاء في تاب في أيام مختلفة. فاختلاف المثال لا يتعارض مع وحدة الحالة العضوية، والنفسية المفهومة من وحدة الزمن الذي تنطق فيه الأمثلة، ولكن المثال حين يتحد يتطلب اختلاف هذه الحالة بالمخالفة بين أزمنة نطقه، ليظهر الخلاف في البصمات، إذا كان هناك خلاف. وخير الأمثلة التي تختار لهذه التجارب، كما رأيت في بحوثي هي تلك الأمثلة ذات أصوات العلة الواسعة "أي التي يتسع الفم في نطقها كأصوات الفتحة"؛ لأن الاتصال الجانبي بين اللسان، وبين الحنك الصناعي في نطق هذه الأصوات أقل بكثير منه مع أصوات العلة الضيقة، "أي التي يضيق الفم في نطقها كأصوات الكسرة والضمة"، ومن ثم كانت البصمة الجانبية للنوع الأول، غير متدخلة في تحديد بصمة الصوت الصحيح، بعكس البصمة الجانبية للنوع الثاني. "قارن البصمات من 13 إلى 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقوة النطق، وضعفه مما تمكن دراسته عن طريق البلاتوغرافيا، وخير ما تفهم القوة والضعف، إنما يكن في الحركات العضوية للنطق، وقوة اللسان "أو قل: ضغطه" في نطق أي صوت، على الحنك الصناعي ستظهر في شكل بصمة واسعة بالنسبة لبصمة النطق الضعيف. وفي الحق أن اختلاف القوة يظهر في اختلاف سعة البصمة الجانبية، كما يظهر في بصمة المخرج، التي تظهر على خط الوسط "راجع The Palatogram fluger ص75"، وهذه البصمة الجانبية، هي السبب الذي من أجله وصفنا أصوات العلة الضعيفة بالتدخل في بمصمة الصوت الصحيح؛ لأن أصوات العلة الضيقة ذات بصمة جانبية، لا يمكن تجاهلها في دراسة البلاتوغرافيا، وإن بصماتها لتبدو واسعة بقدر كاف، حتى في النطق الضعيف، "قارن بصمات الكاف العدنية مع أصوات العلة المختلفة في البصمات من 19 إلى 24". ولقد حاولت حين دراستي للهجة عدن، أن أدرس عن طريق البلاتوغرافيا ظاهرة السعة، والضيق في أصوات حرف العلة الواحد، كالفتحة والكسرة والضمة، والحرفين الآخرين اللذين أطلقت عليهما الرفعة والخفضة، وهما يكتبان في الكتابة الأصواتية بالرمزين e، o على التعاقب. ولقد اخترت الأمثلة لهذا الغرض بقدر الإمكان، بحيث تكون كل أصواتها الصحيحة، من النوع الذي لا يترك بصمة على الحنك الصناعي، وجعلتها جميعا على وزن قال الساكنة اللام، وجعلت الصوت الأخير في جميعها واحدًا، واخترت الأول في كل مثال من مجموعة من المجموعات التشكيلية السبعة، التي ترتتب بحسب تفخيمها، وترقيقها على النحو الآتي: المجموعة الأولى: س ص ط. المجموعة الثانية: خ غ ق. المجموعة الثالثة: ب ف وم. المجموعة الرابعة: ء هـ ع ح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المجموعة الخامسة: ن ول. المجموعة السادسة: ت د س ز. المجموعة السابعة: ش ج ك ي. فاخترت الأمثلة الآتية: صاب - خاب - باب - عبا - ناب - داب - شاب. لدراسة السعة والضيق، في الفتحة الطويلة اللذين يتناسبان مع التفخيم والترقيق طردًا وعكسًا، وقد أردت بذلك أن أرى ما إذا كان صوت العلة يختلف في السعة، والضيق باختلاف المجموعات السبع، كما يختلف باختلافها من ناحية القيمة الأصواتية، التي يطلق عليها اصطلاح التفخيم أم لا، أو بعبارة أخرى لأرى ما إذا كان هناك تطابق بين السعة والضيق، وبين التفخيم والترقيق في أصوات العلة مع هذه المجموعات السبع، وذلك؛ لأن من المعلوم أن القيمة الأصواتية التفخيمية، أو الترقيقية ترتبط بوضع اللسان في أثناء النطق، ومن المتحمل جدا أن هذا الوضع يرتبط بمساحة البصمة "قارن البصمات من 25 - 30". وليست البصمات نطقا ولا يجب أن تعامل كذلك؛ ولكن الرابطة الوحيدة بينها، وبين النطق أن الخلاف بين بصمة وبصمة يتفق مع الخلاف بين نطق، ونطق، ولذلك صح من الناحية الفنية أن تتخذ هذه البصمات وسيلة من وسائل العمل، "وكذلك كل وسيلة آلية من وسائل البحث، إذ تستخدم في اختبار النطق الكرر، ليست إلا توسيعا لمدى الآلية العضوية في الإنسان، أو حاسة إضافية، إن صح هذا التعبير، وتستطيع فقط أن تكشف على استنتاجاتها من المنطق، ويحدث ذلك دائما في ظل محدودية الآلة1". وأحد مظاهر محدودية البلاتوغرافيا، أنها لا تستطيع أن تخضع للبحث كل الأصوات الصحيحة؛ فليس لبعض هذه الأصوات بصمة، مثل الباء والميم والواو.   1- Firth Word - Palatigrams & Articulations. Bulletin. ibid. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والفاء والحاء والعين والهمزة، والهاء وهلم جرا، وفي الحقيقة أن الأصوات الصححية التي تنطق بمقدم اللسان فحسب، هي التي يمكن أن تدرس عن طريق هذا التكنيك، ومن مظاهر محدوديتها أيضا، أنك لا تستطيع أن تختار كل نسق متتابع من الأصوات الصحيحة في الكلمة، لتدرس بصماته عن هذا الطريق؛ لأن كلمة مثل "تبدو" مثلا تختلط فيها بصمة التاء ببصمة الدال؛ لأنهما من مخرج واحد، ولا يستطاع حينئذ دراسة أيهما، وحسبك أن تنظر إلى البصمات 31 -36 لترى مبلغ تداخل النطق، حتى لا يمكن استنتاج أي شيء من البصمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الكيموغرافيا: أو تكنيك التعرجات الذبذبية: لقد كان للكيموغرافيا تاريخها الخاص في التطور، وإدخال التحسينات عليها، سواء كان ذلك من ناحية طريقة الاستعمال، أو من ناحية شكل الآلة، "وتكنيك الكيموغرافيا الذي يستعمل الآن، ينتج خطوطًا متموجة سوداء على أرضية بيضاء، تحدث صورة أوضح، وأكثر أثرا مما كان في الماضي، وأصبح من غير الضروري، أن يتم تلميع الورق المكسو بالدخان، وهكذا استغنى عن ناحية من أكبر النواحي غير المرغوب فيها في كيموغرافيا الطريقة العادية1". ومكونات كل سطح كيموغرافي هي ما يأتي: 1- خط وهمي يمثل سلبية الإثارة، "ويمسى خط الراحة أو خط الصفر"، ويمكن أن يرسم بسن الكيموغراف على ورقة مثبتة على سطح عجلة عريضة، تسمى الطبلة تدور أمام هذا السن، ويمكن عمد الإرادة أن يهبط السن على سطح الورقة فيرسم التعريجات، أو يرتفع عنها فلا ترسم هذه التعريجات برغم دوران الطبلة، ووظيفة هذا الخط الوهمي أن مبدأ رحلة السن، يكون على أحد جانبيه، ولذلك.   1 Firth & Adam, Improved Techinque in Palatograghy & Kymography - Bulletin S.O.A.S Vol. Xll. Part. 3, 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 يمثل نقطة الصفر التي يقاس منها عمق التعرج، "ويمثل هذا العمق في الواقع شدة ضغط هواء التنفس على السن". 2- رحلة السن الكتاب يمينا، أو شمالا من هذا الخط بالنسبة إلى ضغط النفس عليه، ويصله هذا الهواء عن طريق أنبوبة من المطاط، متصلة ببوق الفم. 3- خط متوج يمثل وجود الجهر في الصوت، فإذا انعدم الجهر انعدم التموج في الخط، وإن بعدت رحلة السن الكاتب عن الخط الوهمي، ومعنى ذلك أنه في نطق الفاء مثلا، يرسم السن خطا غير معرج "لانعدام الجهر" إلى جانب الخط الوهمي، غير منطبق عليه "لوجود ضغط التنفس الذي في الفاء"، وإذا فالرحلة موجودة، والتعرج منعدم "انظر مثال3". وإذا قيست الرحلة بالنسبة إلى خط الصفر، أو خط الراحة، فكانت رأسية عليه تقريبا، دل ذلك على انفجار الهواء بعد حجزه عند نقطة معينة في الجهاز الصوتي، وهذا الانفجار هو المسمى الشدة، أما في الرخاوة أو التركيب أو التوسط، فلا تكون الرحلة بنفس الدرجة الرأسية؛ لأن التسريح المفاجئ للهواء حين الانفجار، يقذف بالسن الكاتب في اتجاهه بزاوية قائمة تقريبا على خط الصفر أحيانا "انظر مثال2"، ويبتعد به عن هذا الخط إلى نقطة تتناسب مع ضغط الهواء الناتج عن الانفجار، يحدث ذلك في أصوات مثل التاء، والدال الطاء والكاف والباء، وبقية الأصوات الشداد "انظر الأمثلة 1-10"، وأما الخط الذي يهبط إلى مستوى خط الصفر بالتدريج، والذي يرتبط بالأصوات الرخوة، فيمكن أن يبتعد عن خط الصفر بقدر ما يبتعد الخط الناتج عن الانفجار؛ لأن القرب والبعد عن خط الصفر، يتناسب كما قلنا مع ضغط هواء النفس لا مع طريقة النطق من شدة، أو رخاوة، وهذا الضغط الذي يحدثه هواء النفس، والذي ينتج عنه بعد خط التعرج عن خط الصفر، يرتبط كذلك بقوة النطق، أو ضعفه، ولهذا فإن من رأيي أن قوة النطق، أو ضعفه يمكن أن تدرس في خطوط الكيموغرافيا أيضا، ويمكن أن تمثل لهذا بخط التعرج الدال على صوت صحيح بين صوتي علة، إذا قورن بمشدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 في الوسط، أو مفرد، أو مشدد "لاحظ ضعف نطق الكاف في 6 والقاف في 8، 9". ومما يمكن أن يدرس في خطوط الكيموغرافيا أيضا الجهر والهمس، ويعرف ذلك عن طريق الخطوط الناتجة عن وضع بوق على الفم، أو وضع بوق على الحنجرة مباشرة "انظر الأمثلة 47-52، وفيها يرمز للحنجرة برمز L وللفم برمز m موضوعين على بداية الخطين"، وقد قلنا: إن وجود التعرجات في خط الكيموغرافيا دليل على وجود الجهر، والعكس صحيح، وكذلك يمكن أن تتعلم من هذا الخط ما إذا كان انفجار صوت ما تاما، أو غير تام عن طريق ملاحظة رحلة السن، وما إذا كانت مبتعدة عن خط الصفر، أو لا "انظر الأمثلة 10-11". ويمكن كذلك أن ندرس الغنة في النطق، بأن نوصل الأنف بسن كاتب غير سن الفم وسن الحنجرة، ويعمل الثلاثة معا كمجموعة مترابطة بينها وحدة الزمان والمكان والنطق، ومما يلاحظ بهذه المناسبة أن أصوات العلة السابقة لصوت من أصوات النون، أو اللاحقة له تتكون دائما بلون الغنة، إذ يخرج بعض الهواء في نطقها من الأنف، وبعضه من الفم "انظر الأمثلة 87-90". ومرة أخرى أحب أن أؤكد أيضا أن "خط الكيموغرافيا لا يعد نطقا أكثر مما تعد كلمة، أو جملة في الهجاء الإملائي، أو أي هجاء آخر سواء كان شاملا، أو غير شامل، فهذا الخط استنباط من نوع معين تأخذه الآلة بمحدودياتها جميعا من الهواء، الذي يخرجه المتكلم1".   1 J. Carnochan A Study in the Phonology of an lgbo Speader Bulletin. S.O.A.S Vol. xll Part2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 صورة الأشعة: إن الصورة الاستاتيكية الثابتة المأخوذة بالأشعة، ليست من الأسس التي تقبل بسهولة للدراسات اللغوية؛ لأنها إذا استخدمت لأغراض لغوية، فسوف تنقصها الناحية الديناميكية الحركية، التي هي خاصة من خواص النطق اللغوي. فهذه الصورة إذًا تفتقد بعض الشروط التي تؤهلها، لأن تستخدم كتكنيك لغوي ناجح، ولكنها تعطي صورة واضحة عن الأوضاع الساكنة للنطق، وإن كان هذه الأوضاع، على رغم صلتها ببعض أوضاع الأصوات اللغوية، لا تعتبر موثوقا بها في تمثيل هذه الأصوات. وربما كان من حظ الدراسات اللغوية في المستقبل، أن يستطاع استخدام صور أشعة متحركة كان بحوثها؛ ولو تم هذا لخطا بالدراسات اللغوية خطوات جبارة إلى الأمام، وتستخدم صور الأشعة الثابتة، بأن يجلس المساعد بجابنه إلى آلة التصوير، وقد اختير هذا الوضع دون الأوضاع الأخرى، لتجنب إخفاء عضو لعضو آخر في الصورة، إلا ما لا يمكن تجنبه كإخفاء الأضراس، وبعض الأسنان للسان، ويمكن الحصول على هذا الوضع الجانبي، مضبوطا بتعديل جلسة المساعد تعديلا مستمرا، حتى يقنع المصور بوضعه، كما يراه على شاشة الآلة. وإذا أخذت صورة بميل إلى اليمين، أو إلى الشمال أي دون اتخاذ وضع جانبي مثالي، فستكون النتيجة أن تظهر فجوة الحلق أضيق مما هي "قارن صورتي الميل إلى اليمين والشمال"، فإذا حصلت على الوضع المناسب، فخذ صورة في وضع راحة، ثم أطلب إلى المساعد من بعدها أن ينطق الصوت المختار، كما لو كان مشكلا بالسكون، وأن يطيل في نطقه إياه ما أسعفه النفس، وتأخذ صورة له في أثناء هذا الوضع الثابت، ثم كرر ذلك مع الأصوات المختارة الأخرى، وستحصل في النهاية على طائفة من الصور، تظهر كل منها وضعا ثابتا يلقى ضوءا على حركات نطقية معينة "انظر الصور المصاحبة لنطق بعض الأصوات العدنية". هذه الصورة على أي حال -مهما كانت ضوءًا يلقى على الحركات النطقية- تعتبر ضوءا من خارج تكتيك الدراسات اللغوية، وهي تقبل في هذه الدراسات دائما على شرط فهمها كذلك، وعلى شرط ألا تتعارض مع تكنيك لغوي آخر، كالملاحظة، أو البلاتوغرافيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الأصوات العربية : المخرج مكان النطق؛ ويمكن أن نحصر المخارج والصفات التي تستخدمها اللغة العربية الفصحى في التمييز بين أصواتها، وهذا الاستخدام للتميز، إنما يعتبر من منهج التشكيل الصوتي لا من منهج الأصوات، ولكن منذ1 الذي يستطيع أن يكتفي من العملة النقدية بأحد وجهيها عن كليهما؛ فالأصوات والتشكيل الصوتي، كما قلنا وصف ثم تقعيد للموصوف، والمعروف أن كل شيء يمكن أن يحد إيجابا وسلبا، والحد الإيجابي ذكر الماهية، والسلبي ذكر النقيض، أو بعبارة الأصوليين، والإيجابي مفهوم الموافقة، والسلبي مفهوم المخالفة، وكما أن بعض حد الشيء أنه هو نفسه، يمكن أن يقال: إن بعض حده أيضا أنه ليس هو ذلك الشيء الآخر، وهذا البعض الأخير من الحد يستخدم كثيرا باعتباره "قيمة خلافية"، ضرورية في فهم أي شيء، "فالقيم الخلافية" إذا هامة جدا في دراسة الأصوات والتشكيل الصوتي، بل لها من الأهمية ما يساوي أهمية "القيم الوفاقية"، وسنحاول بعد ذكر المخارج أن نطبق هذا الكلام، والمخارج التي نذكرها هنا تختلف إلى حد ما، عن تلك التي توجد في علم التجويد والقراءات، اختلافا اقتضاه منهج البحث الحديث، وسنشير عند كل نقطة من نقطة الخلافة بين هذه المخارج، وتلك إلى وجه النقص، الذي نراه في وجهة نظر النحاة والقراء. هذه المخارج هي: 1- شفوي Bi-labial: ويكون بتقريب المسافة بين الشفتين بضمهما، أو إقفالهما في طريق الهواء الصادر عن الرئتين. 2- شفوي أسناني Labio 0 dental هو نتيجة اتصال الشفة السفلى بالأسنان العليا، لتضييق مجرى الهواء. 3- أسناني Dental: مبني على اتصال طرف اللسان بالأسنان العليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 4- أسناني لثوي Dentil - alveolar: وهو ما اتصل طرف اللسان فيه بالأسنان العليا، ومقدمة اللسان باللثة، وهي أصول الثنايا. 5- غازي: Patatal: وهو الذي تحدث فيه صلة بين مقدم اللسان، وبين الغار "وهو الحنك الصلب الذي يلي اللثة". 6- طبقي Velar: وهو ما نتج عن اتصال مؤخر بالطبق، "وهو الجزء الرخو الذي في مؤخرة سقف الفم"، وهذه التسمية خلقت خلقا، لتناسب أغراض البحث اللغوي، وقد أخذتها من كلمة "مطبق"، وكلمة "إطباق" بعد خلق صلة بين معاني الكلمات الثلاث: 7- لهوي Uvalar وهو ما اتصل فيه مؤخر اللسان باللهاة، "وهي آخر جزء في مؤخر الطبق". 8- حلقي Pharyngal: ونقصد به المخرج الناتج من تضييق الحلق، والحلق في اصطلاح هذا الكتاب، هو ما يعرف في الإنجليزية بكلمة Pharynx، ولا يشمل المنطقة التي تسمى baccal area، فهو ما بين الحنجرة وبين جذر اللسان، ويسمى في العامية "الزور". 9- حنجري Glottal: وهو نتيجة الإفقال، أو التضييق في الأوتار الصوتية التي في قاعدة الحنجرة. ولقد خلط النحاة العرب خلطا كبيرا في تحديد هذه المخارج، وحسبك أن ترى أن ابن الجزري1، يفاضل بين الآراء المختلفة في تحديد عدد منها، وحتى إذا عد سبعة عشر مخرجا، وجدناه يسمي النون مثلا مرة زلقية؛ لأنها تخرج من زلقة اللسان، ومرة أخرى خيشومية؛ لأنها تنطق في تجويف الفم وهو الخيشوم، ومرة ثالثة يقول: إنها من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا؛ فهو بهذا يعطي النون مخرجا خاصا حينًا، ويجمعها مع الراء واللام حينا، ويضمها إلى الميم في مخرج حينا آخر. ثم يغلط في تحديد مخارج أصوات الخاء، والغين والكاف والطاء والدال والتاء.   1 النشر في القراءات العشر ص199-202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فيقول: إن صوتي الخاء والغين من أدنى الحلق إلى الفم، وراء مخرج القاف، مع أنهما من مؤخر اللسان مع الطبق أمام مخرج القاف، وهو يجعل الكاف خلف القاف، والعكس أصح، فصوت الكاف من نفس مخرج صوتي الخاء والغين، ثم هو يقول: إن الأصوات الثلاثة الأخيرة نطعية، ويقصد أنها من نطع الغار "ونسميه في هذا الكتاب الغار"، والصحيح أنها أسنانية لثوية. وأما صفات الأصوات، فيمكن النظر إليها من زوايا متعددة: 1- الطريقة التي يتم بها النطق في مخرج ما "الشدة والرخاوة والتركيب والتوسط". 2- حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، وعدمه "الجهر والهمس". 3- تحرك مؤخر اللسان، أو مقدمة تحركا ثانويا أثناء حدوث النطق في موضع آخر، "الإطباق والتغوير والتحليق". أما من الناحية الأولى فإن الهواء الخارج من الرئتين، إما أن يصادف مجراه مسدودًا سدًا تامًا عند أية نقطة في الجهاز النطقي من الأوتار الصوتية إلى الشفتين، وإما أن يصادف في طريقه تضييقا لا سدًا، وهذا التضييق يسمح للهوء بالمرور، ولكن مع الاحتكاك بنقطة التضييق. وفي الحالة الأولى، عندما ينسد مجرى الهواء انسدادًا تامًا، تحتجز كمية الهواء خلف نقطة الانسداد في حالة ضغط أعلى من ضغط الهواء الخارجي، حتى إذا انفك هذا الانسداد، وانفصل العضوان المتصلان لسد المجرى انفصالا مفاجئا، اندفع الهواء الداخلي ذو الضغط الثقيل إلى الهواء الخارجي، ذي الضغط الأخف محدثا جرسا انفجاريا، وهو عنصر مهم من عناصر نطق الأصوات الشديدة، ونقول: إنه من عناصر نطق الأصوات الشديدة؛ لأن نطق الصوت الشديد يتكون من أكثر من عنصر واحد، ويمكن أبيان ذلك بالإيضاح الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يحدث ذلك في الأصوات الشداد مثل الباء، والتاء، والدال، والضاد، والطاء، والقاف، والكاف، والهمزة. فإذا وجد الهواء مجراه مضيقا غير مسدود، مر في هذا المجرى محتكا بالعضوين اللذين سببا تضييقه، والأصوات التي يصحبها هذا النوع من طريقة النطق تسمى الأصوات الرخوة، وذلك مثل أصوات الثاء، والحاء، والخاء، والذال، والسين، والشين، والصاد، والظاء، والعين، والغين، والفاء. قلنا: إن انفصال العضوين اللذين يسدان مجرى الهواء في الأصوات الشداد انفصال سريع مفاجئ، والسرعة والمفاجأة، هنا شرط مهم من شروط تسمية الصوت شديدا، ولكن في أصوات اللغة العربية التي نقرأ بها القرآن في مصر واحدًا منها، لا يصحابه هذا الانفصال المفاجئ، بل يصاحبه انفصال بطيء، وفي هذا الانفصال البطيء مرحلة بين الانسداد المطلق، والانفتاح المطلق شبيهة كل الشبه بالتضييق، الذي وصفانه حين الكلام عن الأصوات الرخوة، وتأتي هذه المرحلة بعد الانفجار مباشرة، فتسمح للهواء المسبب عن الانفجار بأن يحتك بالعضوين، اللذين في طريق التباعد البطيء احتكاكا شبيها بما يصاحب الأصوات الرخوة، ومعنى ذلك أن هذا الصوت العرب، يجمع بين عنصر الشدة وعنصر الرخاوة؛ فهو مركب منهما؛ ولهذا سميناه صوتا مركبًا، ذلك هو صوت الجيم. ومن الممكن أن يمر الهواء بمجراه دون انحباس، أو احتاك من أي نوع، إما؛ لأن مجراه في الفم خال من المعوقات، كما في صوتي الواو والياء، وإما؛ لأن مجراه في الفم يتجنب المرور بنطقة السد أو التضييق، كما في صوت اللام، وإما؛ لأن هذا التضييق غير ذي استقرار على حاله، كما في صوت الراء، أو؛ لأن الهواء لا يمر بالفم وإنما يمر بالأنف، كما في أصواتي الميم والنون، وكل هذه الطائفة من الأصوات تسمى الأصوات المتوسطة؛ لأنها ليست شديدة ولا رخوة. إذا يجتمع لنا من الأنواع والأصوات بالنسبة لطريقة النطق في مخرج ما أربعة: 1- الصوت الشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 2- الصوت الرخو. 3- الصوت المركب. 4- الصوت المتوسط. وأما بالنسبة لحدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية تصاحب نطق الصوت، أو عدم وجود هذه الذبذبة، فيمكن تقسيم الأصوات إلى قسمين: 1- المجهور، وهو الصوت الذي تصحب نقطة ذبذبة في الأوتار الصوتية. 2- المهموس، وهو ما لا يصحب نقطة هذه الذبذبة. فالجهر والهمس ناحيتان تختلف فيهما الأصوات وتتقابل، حتى لو اتحدت مخارجها، كما في صوتي الدال والتاء، وكما في صوتي الزين والسين، فالصوت الأولى من كل زوج مجهور والثاني مهموس، والزوج الأول شديد والثاني رخو، والزوجان معا من الأصوات الأسنانية اللثوية، ونحن نعود بذاكرتك مرة ثانية إلى فكرة تحديد الصوت تحديدًا إيجابيًا أو سلبيًا، وإلى المعنى الذي نقصده بالقيم الخلافية. انظر مثلا إلى الجدول الآتي: فبعض معنى "د" أنها صوت شديد مجهور، وبعض هذا المعنى أيضًا أنها ليست "ت" ولا "ز"، مع اشتراك بينها، وبين القرين الأول في الشدة، وبينها وبين الثاني في الجهر، فالبعض الثاني من المعنى، أو سمه مفهوم المخالفة إن أردت أو الجانب السلبي إن شئت؛ هو الذي ينبني على القيمة الخلافية بين "د"، و"ت" من ناحية، وبين "د" و"ز" من ناحية أخرى، ومثل ذلك يقال في التفريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بين كل صوت وآخر من أصوات اللغة، ولعلك قد لاحظت أن "ج" و"ل" في هذا الجدول الصغير ليس لهما مقابل مهموس. والواقع أن المخارج "Articulations"، والصفات "Correlations"، وهي الأساس الذي يقوم عليه بناء التطريز اللغوي، الذي سيأتي الكلام عنه في منهج التشكيل الصوتي، ولم ينته تطبيق الصفات عند هذا الحد، فهناك ظاهرة عضيلة تصحب النطق، وتتسبب في وجود ظاهرة أخرى أصواتية تطرد معها وجودًا وعدمًا؛ تلك الظاهرة هي ما يسميه القراء الإطباق، وليحذر القارئ من الخلط بين اصطلاحين يختفان أكبر اختلاف، وإن اتحدا في كثير مما يخلق صلة بينهما ذانك هما: 1- الطبقية، "أو النطق في مخرج الطبق" Velar Articulation". 2- الأطباق، "أو ما يسمى في علم الأصوات" Velarization". فالطبيقة ارتفاع مؤخر اللسان، حتى يتصل بالطبق فيسد المجرى أو يضيقه تضييقا يؤدي إلى احتكاك الهواء بهما في نقطة التقائهما، فهي إذا حركة عضوية مقصودة لذاتها، يبقى طرف اللسان معها في وضع محايد، أما الإطباق فارتفاع مؤخر اللسان في اتجاه الطبق بحيث لا يتصل به، على حين يجري النطق في مخرج آخر غير الطبق، يغلب أن يكون طرف اللسان أحد الأعضاء العاملة فيه، فالأطباق إذًا حركة مصاحبة للنطق الحادث في مخرج آخر، وتنتج عنه قيمة صوتية معينة، تلون الصوت المنطوق، برنين خاص كما في نطق أصوات الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والخاء والغين، والقاف، فإذا عرفنا أن الإطباق صفة تطرد وجودًا وعدما مع قيمته صوتية معينة، أمكن أن نقول: إن الإطباق يصلح نقطة اتفاق، أو نقطة اختلاف بين الأصوات اللغوية، فهو مثلا نطقة اتفاق بين صوتي الصاد والضاد، ونقطة اختلاف بين صوتي الصاد والسين؛ لأن الصاد مبطقة، والسين ليست كذلك، وقد عبر النحاة والقراء الأقدمون عن الطبقية والإطباق كليهما باصطلاح "الاستعلاء"، وقصدوا بذلك علو مؤخر اللسان في اتجاه الطبق، سواء اتصل به كما في الطبقية، أم لم يتصل كما في الإطباق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويقابل الإطباق "Velarization" التغوير "Palataliaziton"، والتغوير الميل بالصوت ذي المخرج، الذي خلف الغار إلى أن ينطق في الغار، أو أقرب ما يكون إليه، فصوت الكاف المجاور لأحد أصوات الكسرة مغور في لهجة العراق، كما في قولهم: "فيك" و"ركيك" وفي اللغة الفارسية، كما في قولهم "حاكم"، وحتى صوت "ch"، في الألمانية يقسمونه إلى نطق مغور "jout ich"، وآخر غير مغور ويسمى "jout ach"، فأنت ترى أن مخارج الأصوات، وصفاتها أساس ينبني عليه التفريق بينها، من حيث مكان كل منها في المنظمة التشكيلية التي تسمى بالأبجدية، وليس الإطباق السبب الأول والأخير في ظاهرة التفخيم، بل هو أحد عنصري هذه الظاهرة. أما العنصر الآخر من عناصر التفخيم، فهو التحليق Pharyngalization" وهو قرب مؤخر اللسان من الجدار الخلفي للحلق، نتيجة لتراجع اللسان بصفة عامة، فالتفخيم إذا ظاهرة أصواتية ناتجة عن حركات عضوية، تغير من شكل حجرات الرنين بالقدر، الذي يعطي الصوت هذه القيمة الصوتية المفخمة، أما التغوير فنتيجته قيمة أصواتية مرفقة ترقيقا عظيما، كما في الأمثلة التي ذكرناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أصوات العربية الفصحى : قلنا: إن الصوت غير الحرف؛ ومن المعروف أن حروف الهجاء الصحيحة في العربية الفصحى ثمانية وعشرون، وأن حروف العلة ثلاثة، لكل منها كميتان، إحداهما قصير أو حركة، والثانية طويلة أو لين، فمجموع الحروف في العربية الفصحى واحد وثلاثون حرفا بناء على هذا الفهم، أما أصوات العربية الفصحى فأكثر من ذلك؛ وسنحاول هنا أن ندرس الأصوات الصحيحة، دراسة مختصرة بقدر ما تسمع المسافة المخصصة في هذا الكتاب، وسنرى في الجدول الموضح لهذه الدراسة أن كل صوت من هذه الأصوات، له مكانه من رقعة الجدول، وأن هذا المكان تحدد عوامل عضوية نسميها أمكنة النطق، وأخرى صوتية نسميها صفات الأصوات، وسيكون تناولنا لهذه الأصوات مرتبا على أساس عضوي، بالإضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إلى طريقة النطق أو الصفة، ومعنى ذلك أن نتناول الأصوات بالترتيب الالي: مقروءا من الشمال إلى اليمين: والقارئ مرجو أن يرجع حين الحاجة إلى تحديد معاني هذه الرموز الذي أفرد بمكان خاص في صدر هذا الكتاب. وإليك القول في شرح هذه الأصوات على ترتيبها فوق هذا الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الأصوات الشديدة : "b" صوت شفوي شديد مجهور مرقق، ينطق بضم الشفتين، وإقفال ما بين الحلق والتجويف الأنفي برفع الطبق، على حين توجد الذبذبة في الأوتار الصوتية ولقد حرص القراء والنحاة على جهر صوت الباء هذا في كل موضع، أي سواء كان موقعها في أول الكلام، أو في واسطه، أو في آخره، ولذا قرأوا القرآن بإضافة صوت علة بعد كل باء ساكنة مظهرة، وسموا هذه الظاهرة ظاهرة القلقة. أما في اللهجات الحديثة فإن صوت الباء قد يأتي مهموسا في وسط الكلام، إذا تلاه صوت مهموس، وفي آخر الكلام، إذا سبقه صوت مهموس، أو صوت علة طويلة مثال ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ويتم تفجير صوت الباء أحيانا من الأنف بدل الشفتين، كحينما تكون الباء في نهاية الكلام، كما في المثالين الآخرين من الأمثلة السابقة، ويتم هذا التفجير الأنفي بإلقاء الشفتين على اتصالهما، ثم فصل الطبق على الجدار الخلفي للحلق فجأة، فيمر الهواء قويا في المجرى الأنفي، ويتم التفجير. وهذا صوت أسناني لثوي شديد مجهور مفخم، كما ينطق به قراء القرآن في مصر وفي وقتنا الحاضر، وهو بهذا القيد ينطق بوضع طرف اللسان بحيث يلتصق بالأسنان العليا، ومقدمة بحيث يتصل بأصول الثنايا التي تسمى اللثة، ثم إلصاق الطلق بالجدار الخلفي للحلق، ليسد المجرى الأنفي؛ ويتم كل ذلك مع وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية. وإذا تنطق الضاد يرتفع مؤخر اللسان في اتجاه الطبق، وتلك الظاهرة عضلية تسمى الإطباق، ينتج عنها تغير شكل حجرة الرنين، تغيرا يؤدي إلى خلق أثر صوتي معين يسمى التفخيم. أما الضاد العربية القديمة، فقد وصل إلينا من أوصافها ما يمكن تلخيصه، فيما يلي: 1- النطق الأسناني. 2- الرخاوة. 3- الجهر. 4- الإطباق. 5- التفخيم. 6- الاستطالة؛ وهي نتيجة طبيعية لامتداد اللسان من الأسنان إلى ما يداني الجدار الخلفي للحلق ويسمى التحليق، كما ذكرنا ذلك في موضعه من هذا الكتاب، وهو يوجد في الضاد المصرية الحديثة، وفي كل الأصوات الطبقية، وهي الصاد، والضاد، والطاء، والظاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 7- الاستعلاء، وقد نسبه الأقدمون إلا الأصوات المطبقة، وإلى الأصوات الطبقية على السواء، والطبقيات من أصوات الاستعلاء، التي اعترف بها العرب، أي التي يتم نطقها في الطبق هي أصوات الخاء، والغين، والقاف، مع توسع في مدلول الطبق في حالة القاف، حتى يشمل اللهاة باعتبارها قصوى أجزائه، ويظهر كذلك أن الضاد الفصحى، كانت جانبية مع رخاوتها، أي أن الهواء الخارج في نطقها يخرج من جانب اللسان ويحتك به، وهذه الأوصاف مجتمعة تشير إلى ضاد، غير شبيهة بما ننطقه في الوقت الحاضر، وقد حاولنا تمثيل نطق هذه الضاد لطلبة كلية دار العلوم، بناء على مجموع ما أوراده النحاة، والقراء من صفاتها السابقة. "d" وصوت الدال صوت أسناني لثوي شديد مجهور مرقق، ينطق بإلصاق طرف اللسان بداخل الأسنان العليا، ومقدمة باللثة، في نفس الوقت الذي يلتصق فيه مؤخر الطبق بالجدار الخلفي للحلق، وتحدث ذبذبة في الأوتار الصوتية، وهو بهذا الوضع يعتبر المقابل المرقق للضاد، التي تنطق في اللهجات المصرية الحديثة، ولكن القراء القدماء يصفونه بأنه المقابل المرقق للطاء القديمة، وسنناقش ذلك عند الكلام على الطاء، ومؤخر اللسان منخفض في النطق بهذا الصوت، وهذا الانخفاض يعطي لحجرة الرنين شكلا مغايرا لشكلها في حالة التفخيم، وتكون النتيجة حينئذ ترقيق الدال. ومع أن هذا الصوت مجهور في صفته العامة، إلا أنه قد يهمس في بعض المواقع في الكلام العامي، كأن يكون متلوا بصوت مهموس، كما في الكلمة العامية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أو مسبوقا بصوت علة طويل كما في كلمة: أما في العربية الفصحى وفي قراءة القرآن بصفة خاصة فقد حرص القراء على أن يجهروا صوت الدال في كل موقع، وذلك بجعلها من الأصوات المقلقة. "T" أما صوت الطاء فأسناني لثوي، شديد مهموس مفخم، كما ينطق به في الفصحى في مصر في أيامنا هذه، ويتم نطقه بإلصاق طرف اللسان بالأسنان العليا من داخلها، ومقدم اللسان بأصول الثنايا "أي اللثة"، ويرتفع مؤخر اللسان في نفس الوقت في اتجاه الطبق، وهذا ما يسمى بالإطباق، ويتأخر قليلا إلى الجدار الخلفي للحلق، وهذا ما يسمى بالتحليق، ويرتفع الطبق حتى يسد المجرى الأنفي. أما الطاء التي وصفها لنا القراء القدماء، فمهجورة على ما رأوا، وهذا يحتاج إلى قليل من المناقشة، ففي بعض اللهجات العامية المعاصرة صوت من أصوات الطاء، يمكن وصفه بأنه مهموز، ولإيضاح ذلك نقول: إن طرف اللسان ومقدمه يتصلان في نطقه بالثنايا واللثة، ويعلو مؤخر اللسان، ويتراجع إلى الخلف في اتجاه الجدار الخلفي للحلق، ويقفل المجرى الأنفي للهواء الخارج من الرئتين، يخلق اتصال بين الطبق، وبين الجدار الخلفي للحلق، وفي نفس الوقت تقف الأوتار الصوتية، فلا تسمح بمرور الهواء إلى خارج الرئتين، وبذلك تتكون منطقة في داخل الفم والحلق، يختلف ضغط الهواء فيها عنه في الرئتين، وفي الخارج، وفجأة يتم انفصال الأعضاء المتحركة، التي وصفنا اتصالها في وقت معا، فيندفع هواء الرئتين إلى الخارج، يندفع الهواء الخارجي إلى الداخل، فيحدثان بالتقائهما أثرا صوتيا هو صوت الطاء، كالتي تنطق في بعض لهجات الصعيد مثلا، ومعنى كون الطاء مهموزة هنا، أنه صحبها إقفال الأوتار الصوتية حين النطق، فأصبح عنصر الهمز جزءًا لا يتجزأ من نطقها، هذه الطاء مهموسة قطعا؛ لأن إقفال الأوتار الصوتية لا يسمح بوجود الجهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ويرجح عندي أن الطاء العربية الفصحى القديمة، التي وصفها القراء كانت في صوتها، وفي نطقها بهذا الوصف، ثم لغرابة صوتها هلى السمع، أخطأ النحاة والقراء، فجعلوها مجهورة في دراستهم، وجعلوا الدال مقابلا مرققا له، أضف إلى ذلك أن النحاة، والقراء في القديم قد وضعوا قاعدة قياسية، تقول: إن كل صوت إلى أصوات القلقلة مجهور شديد، وهذا ما جعلهم يخطئون الصواب، لا في صفة الطاء فحسب، بل في وصف أصوات مهموسة أخرى بالجهر، كالقاف والهمزة، يقول ابن الجزري1، "وأضاف بعضهم إليها "يقصد إلى حروف القلقلة" الهمزة؛ لأنها مجهورة شديدة"، فصوت الطاء الفصحى إذًا أسناني لثوي، شديد، مهموس، مفخم، مهموز. "t" صوت أسناني لثوي شديد مهموس مرقق، يتم نطقه بإلصاق طرف اللسان بداخل الثنايا العليا، ومقدمه باللثة، وبتخفيض مؤخر اللسان، وإقفال المجرى الأنفي، وفتح الأوتار الصوتية إلى درجة تمنع الذبذبة أن تحدث، ومن ثم يمتنع وجود الجهر. وكثيرًا ما يعقب نطق التاء نفخة بسيطة aspiration، وعلى الأخص إذا وليها صوت من أصوات الكسرة، كما في "تين" و"عتيق"، وأقل من ذلك ما يلاحظ أن احتكاكا يتبعها في بعض اللهجات الحديثة، فيجعلها تبدوا صوتا مركبا من شدة تتبعها رخاوة، ويكون أشبه في ذلك الوقت بنطق "تس" أو"ts" لا "ت"، ونسمع بعض نساء القاهرة من أوساط معينة، ينطقن "أختسى" بدل "أختي"، ويجهر الصوت في نطق بعض القاهريين إذا وليه "ز"، كما "يدزحم"، بدل "يتزحم". "k": وصوت الكاف طبقي شديد مهموس مرقق، يتم نطقه برفع مؤخر اللسان   1 النشر في القراءات العشر ص203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 في اتجاه الطبق، وإلصاقه به، وإلصاق الطبق بالجدار الخلفي للحلق ليسد المجرى الأنفي، وهذه مع فتح الأوتار الصوتية، حتى يكون همس لا جهر، والمقابل لهذا الصوت هو صوت "g"، الذي يدل على نطق الجيم في القاهرة، والقاف في الصعيد. وقد يجهر هذا الصوت جهرًا خفيفا، إذا وليه صوت الدال كما في: يكدب: yigdib وتصحبه نفخة خفيفة aspiration إذا وليه صوت من أصوات الكسرة، كما في كلمة "تأكيد"، وفي بعض اللهجات العربية يتم نطق هذا الصوت نطقا مغورا؛ أي أن مخرجه يميل إلى القرب من منطقة الغار في سقف الفم، كما يسمع في لهجات العراق، وفي لهجة عدن، في مواضع معينة، نحو: فيك - عليك - حكيم- حكمة. فهذه الأصوات في لهجة العراق تبدو للسمع، كأنها أصوات مركبة من التاء الساكنة والشين، وهي أقل تغويرا من ذلك في لهجة عدن. "q": وهذا صوت لهوي شديد مهموس له بعض القيمة التفخيمية، ولكنه لا يوصف بأنه مفخم، ويتم نطقه برفع مؤخر الطبق، حتى يلتصق بالجدار الخلفي للحلق، ورفع مؤخر اللسان، حتى يتصل باللهاة، وهي الزائدة التي في النهاية الخلفية للطبق، وحتى يتصل كذلك بالجدار الخلفي للحلق، وفي الوقت الذي تنفتح فيه الأوتار الصوتية في وضع تنفس، لا في وضع جهر. لقد مر بنا أن هذا الصوت من أصوات القلقلة، وأن النحاة والقراء قد أخطأوا في اعتباره مجهورًا لهذا السبب، ومر بنا أيضا أن الطبقية غير الأطباق، وأن النحاة العرب لم يفرقوا بينهما، بل أطلقوا عليها معا اسم "الاستعلاء"، وأن كليهما ينتج بعض القيمة التفخيمية، ولكن التفخيم لا يتم إلا إذا انضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التحليق إلى الأطباق أو الطبقية، والتحليق -كما ذكرنا- سحب اللسان إلى الخلف في نقطة معينة، وهو غير النطق الحلقي، الذي توصف به أصوات العين والحاء. وصوت القاف لهوي، ومن ثم كان طبقيا لا مطبقا، ويتم معه قرب اللسان من الجدار الخلفي للحلق في نقطة، فوق تلك التي تتصل بها ظاهرة التحليق، ومن هنا لم يكن صوت القاف من الأصوات المفخمة تفخيما كاملا، وإنما كان له بعض القمية التفخيمية، الذي جاء من وجود العنصرين الطبقي، والحلقي في نطقه. "؟ " صوت حنجري شديد مهموس مرقق، يتم نطقه بإقفال الأوتار الصوتية إقفالا تاما، وحبس الهواء خلفها، ثم إطلاقه بفتحها فجأة، ويطلق على هذا الصوت عادة الاصطلاح "وقفة حنجرية" Glottal Stop، وتأتي جهة الهمس في هذا الصوت من أن إقفال الأوتار الصوتية معه، لا يسمح بوجود الجهر في النطق. ولكن النحاة والقراء أخطأوا، فعدوا هذا الصوت مجهورا، وهو أمر مستحيل استحالة مادية، ما دامت الأوتار الصوتية مقفلة في أثناء نقطه. ولكن هذا الصوت قد يأتي مسهلا، أي أن إقفال الأوتار الصوتية، قد لا يكون تاما حين النطق به، بل يكون إقفالا تقريبيا، وفي حالة التسهيل هذه يحدث الجهر، ولكن المجهور حينئذ ليس وقفة حنجرية، بل تضييق حنجري أشبه بأصوات العلة منه بهذا الصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الأصوات الرخوة : "f" هذا الصوت شفوي أسناني رخو مهموس مرقق، يتم النطق به بخلق صلة بين الشفة السفلى، وأطراف الثنايا العليا، ورفع مؤخر الطبق، وإلصاقه بالجدار الخلفي للحلق، وفتح الأوتار الصوتية إلى درجة لا يكون معها جهر، بل يكون معها تنفس مهموس. ولكن لهجة عدن لا تفرق بينهما، وتنطق كليهما بضاد مخرجها الأسنان. وكما أن الفارسي يتردد في الكتابة، حين تملي عله كلمة فيها الهاء، ويسألك عما إذا كانت من "حطي"، أو من "هوز" والسوداني يتردد حين تملي عليه كلمة "قدر"، فيسألك إن كانت بالقاف أو بالغين، يتردد العدني في الكلمة التي فيها الضاد بين كتابتها الضاد أو بالظاء؛ لأن الضاد والظاء في لهجة عدن حرف واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهذا صوت طبقي رخو مجهور مرقق، وإن ارتبط بقيمة شبه تفخيمية في بعض المواقع، ويتم النطق به برفع مؤخر اللسان، حتى يتصل بالطبق، وخلق صلة تسمح للهواء الرئوي بالمرور، ولكن مع احتكاك باللسان، والطبق في نقطة تلاقيهما، وهذا هو عنصر الرخاوة في الغين، وفي نفس الوقت يرتفع الطبق ليسد المجرى الأنفي، وتحدث ذبذبة في الأوتار الصوتية. لقد اعتبر النحاة، والقراء الحلق مخرج الغين، وبهذا يستطيع الباحث أن يقف منهم أحد موقفين، ينبني كل منهما على طريقة فهمهم للإصطلاح "حلق"، فإذا كان مفهوم هذا الاصطلاح في أذهانهم، مطابقا لما نفهمه نحن الآن، فهم ولا شك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مخطئون في القول بأن صوت الغين يخرج من الحلق، أما إذا كان فهمهم للاصطلاح أوسع من فهمنا له، حتى ليشمل ما بين مؤخر اللسان والطبق، فلا داعي للقول بخطئهم. والمقابل المهموس لهذا الصوت، هو صوت الخاء. "X" صوت طبقي رخو مهموس مرقق، ولو أن له قيمة شبه مفخمة في بعض المواقع، ويتم النطق بهذا الصوت بنفس الطريقة، التي يتم بها النطق بصوت الغين مع فرق واحد: هو أن الأوتار الصوتية في هذه الحالة الأخيرة، لا تكون بها ذبذبة، ومن ثم كان صوت الخاء مهموسًا. وما قيل عن النحاة، والقراء في اعتبارهم صوت الغين صوتا حلقيا، يقال بحذافيره في صوت الخاء. "ع" وصوت العين حلقي مجهور مرقق، يتم نطقه بتضييق الحلق عند لسان المزمار، ونتوء لسان المزمار إلى الخلف، حتى يتصل أو يكاد بالجدار الخلفي للحلق، وفي نفس الوقت يرتفع الطبق ليسد المجرى الأنفي، وتحدث ذبذبة في الأوتار الصوتية، ويحتك الهواء الخارج من الرئتين بلسان المزمار، والجدار الخلفي للحلق عند نقطة تقاربهما. لقد عد النحاة العرب صوت العين من الأصوات المتوسطة، وربما كان ذلك لعدم وضوح الاحتكاك في نطقها وضوحا سمعيًا، ولكن الأصوات المتوسطة تشترك جميعها في خصائص ليست موجودة في نطق العين، وأوضح هذه الخصائص حرية مرور الهواء في المجرى الأنفي، أو المجرى الفموي، دون سد طريقه، أو عرقلة سيره بالتضييق عند نقطة ما، وقد اتضح بصورة الأشعة أن في نطق العين تضييقا كبيرا للحلق، وهذا ما يدعونا ومادعا غيرنا من المحدثين قبل ذلك إلى اعتبار صوت العين رخوًا لا متوسطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102   1 راجع معنى الاصطلاح "حس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الصوت المركب : "J" ومعنى التركيب هنا أن نطق هذا الصوت، يستلزم طريقتين من طرق النطق، أولاهما الشدة أو الانفجار، والثانية الرخاوة أو الاحتكاك، ويمكن وصف هذا الصوت، بأنه غاري مركب مجهور مرقق، يتم النطق به بأن يرتفع مقدم اللسان. في اتجاه الغار، حتى يتصل به محتجزا وراءه الهواء الخارج من الرئتين، ثم بدل أن ينفصل عنه فجأة، كما في نطق الأصوات الشديدة، يتم هذا الانفصال ببطء، فيعطي الفرصة لهواء الرئتين بعد الانفجار، أن يحتك بالعضوين المتباعدين احتكاكا شبيها بما يسمع من صوت الجيم الشامية "j". ويمكن إيضاح هذا الصوت أيضا بأن فيه عنصرين هما "gj". ويلاحظ أن نطق أصوات الجيم يختلف باختلاف اللهجات، وقد وصفنا نقط الجيم الفصيحة، وينطق مثلها في الصيعد والسودان، أما في القاهرة وعدن فللجيم صوت "g"، ولها في الشام صوت "j"، ويتضح هذا الخلاف بإيراد مثال واحد؛ فكلمة جميل مثلا "على أنها تكتب بنفس الصورة في مختلف البلاد العربية"، تنطق بصور مختلفة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الأصوات المتوسطة : "r" صوت لثوي تكراري مجهور، ينطق به بترك اللسان مسترخيا في طريق الهواء الخارج من الرئتين، فيرفرف اللسان، ويضرب طرفه في اللثة ضربات مكررة؛ وهذا معنى التكرار في صفته. ولهذا الصوت حالات، فيما يختص بالتخفيم تختلف باختلاف موقعه من السياق، فهو مرقق إذا ما تلاه صوت من أصوات الكسرة، أو وقع ساكنا بعد هذا الصوت؛ ومفخم فيما عدا ذلك، ومن قواعد القراء. ورقق الراء إذا ما كسرت ... كذاك بعد الكسر حيث سكنت لاحظ الفرق بين أصوات الراء من جهة التفخيم، والترقيق في الأمثلة الآتية: حَرَم - يَحْرُم - حرِيم - حِرْمَان. فالراء الأول والثاني مفخمان، ولكن الأخيرين مرققان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 "l": صوت لثوي جانبي مجهور النطق به برفع طرف اللسان، حتى يتصل باللثة، ورفع الطبق، حتى يتصل بالجدار الخلفي للحلق، فيسد المجرى الأنفي، وبإحداث دبدبة في الأوتار الصوتية، ومعنى الجانبية في نطق هذا الصوت، أن أحد جانبي اللسان، أو كليهما يدع الفرصة للهواء الرئوي ليمر بينه، وبين الأضراس في الوقت الذي يمتنع فيه مروره على وسط اللسان، لحيلولة طرف اللسان المتصل باللثة دون ذلك. وهذا الصوت مفخم في لفظ الجلالة، إذا لم يسبقه صوت من أصوات الكسرة، وكذلك يجوز تفخيمه، إذا تلاه صوت من أصوات الفتحة، وسبقه أحد الأصوات المطبقة، قارن الأمثلة الآتية: الله - بالله - الصلاة - الطلاق - الظلام. "m": وهذا صوت شفوي أنفي مجهور، تتصل بالشفتان حين النطق به، ويهبط الطبق فينفتح المجرى الأنفي، ويمر الهواء منه، في حين تحدث ذبذبة في الأوتار الصوتية، وهذا الصوت مرقق في العربية الفصحى، ولكنه في اللهجات العامية، قد يفخم بحسب موقفه من السياق، كما في كلمة: صوت شفوي أسناني أنفي مجهور، يتم النطق به يخلق صلة بين الشفة السفلى وبين أطراف الأسنان العليا، وبخفض الطبق، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. وهذا الصوت مرقق دائما. وهو صوت الميم أو النون إذا تلتهما الفاء؛ ويسميه القراء إدغاما بغنة كما في كلمة "ينفع" و"هم خالدون". وهذا صوت أسناني أنفي مجهور، ينطق به بإخراج اللسان، أي بوضع طرفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ضد أطراف الأسنان العليا، وخفض الطبق، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. وهو صوت النون قبل الذال والثاء والظاء، وكذلك يمكن وصفه بالتفخيم إذا وليه الظاء، وبالترقيق إذا وليه الذال أو الثاء، ولسنا بحاجة إلى القول بأنه في حالة التفخيم، يرتفع مؤخر اللسان في اتجاه الطبق، وينسحب إلى الجدار الخلفي للحلق بعكس حالة الترقيق، قارن مثلًا: إن ذهب - إن ثاب - إن ظلم. وهذا صوت أسناني لثوي أنفي مجهور، ينطق به بوضع طرف اللسان ضد الأسنان العليا "في حالة الشدة والسفلى في حالة الرخاوة فيما يتبعه"، ومقدمه ضد اللثة، مع خفض الطبق، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. وهو لا يرد إلا قبل الدال والتاء والطاء من الأصوات الشداد، وقبل الزين كما ينطقان في مصر. وهو لهذا إما مرقق أو مفخم، بحسب ما يأتي بعده من هذه الأصوات، نحو: إن دأب - إن تبع - إن طلب - إن زرع - إن صلح - إن سكت. "n" صوت لثوي أنفي مجهور مرقق، يتم النطق به بجعغل طرف اللسان ضد اللثة مع خفض الطبق لفتح المجرى الأنفي، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. وهو صوت النون المفردة، والتي صوتي علة كما في: أنا - نفع - أمان صوت غاري مجهور مرقق، يتم النطق به برفع مقدم اللسان في اتجاه الغار، مع خفض الطبق حتى ينفتح المجرى الأنفي، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وهو صوت النون، التي يليها صوت الشين، أوالجيم أو الياء نحو: من شاء - من جاء- من يكن. صوت شفوي نصلف علي مجهور مرقق، ينطق به بضم الشفتين ضما دون الإقفال، مع نتوئهما إلى الأمام، ورفع مؤخر اللسان، وسد المجرى الأنفي، ووجود ذبذبة في الأوتار الصوتية. ولا فرق بين هذا، وبين صوت الضمة من الناحية الأصواتية المحضة، ولكن التفريق بينهما يأتي عن طريق التشكيل، والتطريز اللغوي، حيث تأتي الواو بعد علة وقبلها، ولا تأتي الضمة كذلك مثل: واحد - تعوِيذ - آوُوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 "y": صوت غاري نصف عِلِّيّ مجهور مرقق، ينطق به برفع مقدم اللسان في اتجاه الغار، ورفع الطبق حتى يسد المجرى الأنفي، مع وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية، ولا فرق من الناحية الأصواتية المحضة بين هذا وبين صوت الكسرة، ولكن الفرق بينهما، كما في الواو والضمة، يرجع إلى التشكيل والتطريز، فصوت الياء يأتي سابقًا، ولاحقا للعلل ولا كذلك الكسرة، مثال ذلك: يأتي - تعيين - أحيُوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أصوات العلة : إن علاج "أصوات" العلة علاجا دراسيا، يختلف في دراسة الفصحى عنه في دراسة اللهجات العامية، والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين: 1- أن "حروف" العلة في اللهجات العامية أكثر منها في الفصحى، فالفصحى تعترف بثلاثة حروف علة، يختلف كل منها بين الطول والقصر، ويمكن تسميتها الكسرة والفتح والضمة، في الوقت الذي تعترف فيه اللهجات العامية بخمسة، يمكن تسميتها الكسرة، والخفضة "أي الفتحة المائلة"، والرفعة "أي الضمة المائلة"، والضمة. 2- نظام التفخيم في اللهجات العامية، يختلف عنه في الفصحى، ومن ثم كان الارتباط بين القيم الصحيحة، والقيم العلية تفخيما وترقيقا، يقتضي اختلافا بين الفصحى، والعاميات في هذه الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وإذا كان التفخيم في الفصحى يرتبط بالأصوات، فإنه في العاميات يرتبط بالمواقع، على نحو ما فصلناه في منهج التشكيل الصوتي في هذا الكتاب. ولقد حرص علماء الأصوات، على أن يضبطوا إلى أقصى حد ممكن، ما يستطيع المرء أن يسميه أوضاع أعضاء النطق بأصوات العلة، وجاءوا لذلك بمقياس موضح بالرسم الذي تراه، في الصفحة الآتية توصلوا إلى شكله هذا بعد محاولات متعدد، وتمثل الزاوية الحادة، والمنفرجة في مقدم الرسم مقدم منطقة حروف العلة في الفم، أما الزاويتان القائمتان، فتمثلان مؤخر هذه المنطقة. فأقصى ما يبلغه صوت الكسرة من العلو، والتقدم هو الزاوية الحادة، وأقصى ما يبلغه صوت الفتحة من الاستفال، والتقدم هو الزاوية المنفرجة، وأما ما يبلغه هذا الصوت الأخير من الاستفال، والتأخر "أو سمه التفخيم إن شئت" الزاوية القائمة السفلى، وأقصى ما يبلغه صوت الضمة من العلو، والتأخر هو الزاوية القائمة العليا، وبين صوت الفتحة الأمامية "أو المرققة"، وبين الكسرة منطقة أصوات الخفضة، وبين صوت الفتحة الخلفية "أو المفخمة"، وبين الضمة منطقة أصوات الرفعة، وأما المثلث الأوسط فهو منطقة الأصوات المركزية، التي منها صوت القلقة في اللغة العربية، ويرى القارئ على هذا الشكل الأوضاع التقريبية لأصوات العلة في العربية الفصحى، وعلى الأخص في نطق القراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 منهج التشكيل الصوتي- الفونولوجيا مدخل ... منهج التشكيل الصوتي: "الفونولوجيا" لقد ذكرنا وجهات نظر بعض العلماء في التفريق بين الكلام واللغة؛ ووضحنا أن الكلام أعمال، وأن اللغة نظام -وأن الكلام حركات، وأن اللغة قوانين هذه الحركات- أن الكلام نشاط يجري "على حد تعبير السيوطي" على شروط اللغة، وقلنا: إن دراسة الأصوات، التي تجري في الكلام من حيث هي حركات عضوية، مقترنة بنغمات صوتية هي ما نسميه علم الأصوات، ولكن دراسة الأصوات، غير مقصور على هذه الناحية الدارسية الطبيعية فحسب، بل هي تخضع لقواعد معينة في تجاورها، وارتباطاتها، ومواقعها، وكونها في هذا الحرف أو ذاك، وإمكان وجودها في هذا المقطع أو ذاك، وكثرة ورودها وقلته، ثم دراسة الظواهر التي لا ترتبط بالأصوات "الصحاح والعلل" من حيث هي، بل بالمجموعة الكلامية بصفة عامة؛ كالموقعية والنبر والتنغيم، ودراسة الأصوات من هذه النواحي الأخيرة، دراسة لسلوكها في مواقعها أكثر مما هي دراسة للأصوات نفسها، وتلك هي دراسة التشكيل الصوتي، ويضع تربوتسكوي المسألة وضعا آخر1، حيث يقول: "إن علم دراسة أصوات الكلام، هو علم الأصوات، وعلم دراسة أصوات اللغة هو علم التشكيل الصوتي"، فعلم الأصوات إذا أوصاف لأعمال، وعلم التشكيل الصوتي أوصاف لأبواب وقواعد، والكلام من عمل المتكلم، والأبواب والقواعد من عمل الباحث، يخترعها اختراعا، ولا يكتشفها اكتشافا. ويقول كانتينو2: "إن الأصوات دراسة للظواهر الصوتية، والتشكيل الصوتي دراسة لوظائف الأصوات". ولكننا نجد أنفسنا في كثير من المواضع، نستعمل في التشكيل الصوتي اصطلاحات نستعملها في الأصوات، فإذا كنا نقسم الأصوات مثلا إلى شديد   1 Principe de Phonologie, paris. 1949 p.3. 2 ibid, p. 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 روخو ومركب ومتوسط، فهذا هو تقسيم الحروف في التشكيل الصوتي أيضًا؛ وإذا قسمنا الأصوات إلى مجهور ومهموس، أو إلى مفخم ومرقق، أو نسبنا إليها مخارج معينة، فإننا نفعل نفس الشيء مع الحروف، وقد يبدو هذا خلطا في التفكير، وارتباكا في استعمال الاصطلحات، وفي الحق أن ذلك قد يكون كذلك في التناول عن غير خبرة أو فهم؛ ولكن الخبير الفاهم، لا يستطيع أن يخلط بين الطريقتين من طرق الاستعمال إلا عن سوء قصد؛ فمن المقرر دائما أن يتنبه الباحث قبل البداية إلى المستوى الذي يدرس عليه، أهو مستوى الأصوات أم مستوى التشكيل الصوتي، وإن الناظر إلى تعريف كانتينو للعلمين الذي وضعناه فوق هذا الكلام، ليجد أننا إذا استعملنا اصطلاح "الشديد"، مثلا للصوت، فإنما نطلقه وصفا لظاهرة حركية من ناحية، وصوتية من ناحية أخرى، فهذه الظاهرة حركية؛ لأن الشدة نتيجة لإقفال مجرى الهواء إقفالا تاما، ثم تسريح هذا الهواء، تسريحا مفاجئًا له طبيعة الانفجار في السمع. ولكننا إذا تكلمنا عن نفس الإصلاح، من الناحية التشكيلية، فإنما نتكلم عن "وظيفة" صوتية من مجموعة وظائف، يتكون منها "النظام" الصوتي للغة معينة، وكل وصف تشكيلي إنما ينبني على إيجاد المقابلات الصوتية، التي توجد في اللغة، والتفريق بين معانيها، وتلك أشياء تأتيب بعد دراسة الأصوات من حيث هي، ولكنها تستقل عن دراسة الأصوات استقلالا تاما، فالمقابلة بين مجهور ومهموس ثم مفخم ومرقق، ثم صحيح وعلة، ثم شديد ورخو ومركب ومتوسط، ثم بين طويل وقصير، وبين مخرج ومخرج آخر، وبين النبر وعدمه، وبين اللحن الأول واللحن الثاني، كل أولئك وما يتصل به من فهم دلالة كل مقابل من هذه المقابلات، هو الأساس الذي ينبني عليه علم التشكيل الصوتي. دعنا إذًا، وقد فرقنا بين هذين القسمين، نحاول دراسة أهم الموضوعات التي يتناولها هذا العلم، ثم طريقة البحث فيه، ثم تخص فرعا منه كاد يستقل عنه بكلمة قصيرة، ذلك الفرع ما يسميه الأمريكيون Phoemics، ويقصدون به خلق الأبجديات المناسبة للهجات غير المكتوبة، ولذا أحب أن أنبه القارئ إلى أنني سوف استخدام كلمة "الأبجدية"، بعد هذا ترجمة لاسم هذا النوع من فروع الدراسة اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التفريق بين الصحاح والعلل : وسنبدأ كلامنا هنا بالتفريق بين الصحاح consonants، والعلل vowels وفي علم اللغة كما في بقية العلوم، أفكار رئيسية لم يستقر الباحثون على تعريف لها يقبلة الجميع، ومن هذه الأفكار "الكلمة"، وسوف نحاول مناقشة تعريفاتها في مكان لاحق من هذا الكتاب، ثم "الصحيح"؟ ثم "العلة"، وسوف أحاول هنا أن أشرح الأسس، التي بنى العلماء عليها التفريق بين الصحاح والعلل، لا لأخرج للناس تعريفا، ولكن لأوضح مقدار الضعف الذي يجده المرء في أسس التعريفات القديمة، وباستقراء هذه الأسس التي فرق العلماء عليها بين الصحاح والعلل، نجدها كما يأتي: 1- الأساس الفسيولوجي. 2- الأساس الصوتي "لاحظ عدم استعمال كلمة "أصواتي". 3- هذان الأساسان مجتمعين. 4- الوظيفة والتوزيع "أو كما يسمونه التطريز اللغوي". وباستعراض هذه الأسس، نرى أن هناك منهجين من مناهج الدراسة، مختلفين قد استخدما في التفريق، فأما واحد فيشمل الأساسين الأول والثاني، متفرقين أو مجتمعين، ويعالج الصحاح والعلل على مستوى علم الأصوات، وأما الثاني فيتناولهما من ناحية الوظيفة والتوزيع أو التطريز، وذلك على مستوى علم التشكيل الصوتي. ومعظم حالات التفريق بين هاتين الطائفتين، تخلط بين النهجين المتقدمين نهج الأصوات ونهج التشكيل، وهاك أمثلة للتفريق بين هذين القسمين "الصحاح والعلل"، على الأساس الفسيولوجي. 1- يقول هنري سويت1: "إن التفريق الأساسي بين العلل، وبين   1 Primer of Phonetics p. 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الصحاح يتمثل في أن تشكلات الفم مع العلل، إنما يتعدل الهواء المجهور فحسب، وهو فيما عدا هذا عنصر جوهري فيها، ولكن تضييق مجرى الهواء، أو إقفاله هو أساس الصوت الصحيح، على حين تكون حالة الحنجرة شيئا ثانويا. 2- ويقول تروبتسكوي1: إن خاصية الصحيح، بعبارة أخرى، هي إنشاء عقبة في طريق الهواء، أو فتح هذه العقبة، على حين تبدو خاصية العلة في صورة انعدام أية عقبة أو تعويق. 3- ويقول فندريس2: "كل العلل يقتضي أن يكون الفم مفتوحا، ولو اختلف هذا الفتح في الحجم، ولكنه دائمًا أكبر مما هو مع الصحاح". وليس الدخل الفسيولوجي إلى هذا التفريق مصطنعا وسطحيا فحسب، ولكنه غير واف بالغرض أيضا من وجهة النظر العملية، أما أنه مصطنع وسطحي؛ فلأنه يعتمد على مادة من خارج اللغة، وبعد قطع الصلة بين هذه المادة، وبين بيئتها الأصلية، التي هي علم الفسيلوجيا، وتجاهل أثر الموقع، والوظيفة باعتبارهما عاملين من أهم عوامل التشكيل الصوتي، ويستخدم عبارة اعتباطية في تقرير المسألة، تتعارض مع تجارب الأصوات في المعمل3، وأكثر من ذلك أن هذه العبارات الفنية الفسيولوجية، قد استخدمت لحل مسألة لم يعين مستوى بحثها، أهو الأصوات، أم التشكيل، أم هما معا، وإن عدم تخصيص مستوى لهذا التفريق، ليجعله محتملا أن يكون على مستوى التشكيل الصوتي، فإذا كان ذلك كذلك، فإن المدخل الفسيولوجي، إذا صح أن يرتبط بدراسة الأصوات، فليس هناك مكان بين تجريدات علم التشكيل الصوتي، لمثل هذا المدخل العضوي العضلي؛ لأن الصحاح والعلل في علم التشكيل حروف لا أصوات، أي وحدات فكرية لا حركات تشرحها الفسيلوجيا، ولهذا فليس من الدقة في شيء أن نقول: إن "حرف" العلة لا يوجد في نقطه تعويق، ولا عقبة في طريق الهواء أثناء نطقه؛ لأن الحروف لا تنطق، وإنما تنطق الأصوات.   1 Principe p. 97. 8. 2 Language p54. 3 لاحظ البصمات المصاحبة التي أخذت من الكلام العدني، لياء المد الأخيرة وهي علة وللياءات المتحركة، وهي صحاح وستجد بصمة الطائفة الأولى، ذات دلالة متعارضة مع هذا التفريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وهذه العبارة عرضة للنقد، حتى لو جاءت في علم الأصوات، ويأتيها هذا النقد من شهادة تجارب البلانوغرافيا "أو الحنك الصناعي"، فقد وجدت في لهجة عدن أن بعض أصوات العلة، يسبب حين نطقه موقعا لسانيا أعلى، واتصالا أكبر بين اللسان، وبين الحنك الصناعي، مما يسبب الصوت الصحيح الصالح للمقارنة به؛ يؤخذ ذلك من حجم البصمة. وهذه حقيقة تبدو أوضح ما تبدو، في حالة طوال أصوات العلة الأمامية الضيقة "أي مجموعة الأصوات المسماة ياء المد"، في نهاية المجموعة الكلامية، إذا قورنت بالصوت الصحيح "ي" أي الياء الساكنة، في نفس الموقع، وشبيه بهذا أن كل صوت علة: طويلا كان أم قصيرا، في أي موقع، له بصمة أوسع مساحة مما ينتجه صوت الياء الواقع بين صوتي علة، كما في كلمة "حياة"1. وواضح أن هذا المدخل الفسيولوجي للتفريق بين الصحاح، والعلل سطحي مصطنع، وقاصر لا يكفي الحاجات العملية للبحث، سواء في الأصوات أو في التشكيل الصوتي، وسنرى بعد قليل أن التفريق على أساس صوتي "نسبة إلى علم الصوت أحد فروع علم الطبيعة"، ليس أكثر غناء في هذا المجال، وسنورد هنا بعض الأمثلة التفريق على هذا الأساس بين هاتين الطائفتين: الصحاح والعلل: 1- يقول ماروزو2: يعتبر علماء الأصوات الصحيح مكونا في جوهره من جرس3 ناتج عن مرور الهواء عبر القناة الصوتية، فيخرج عن هذا التعريف الصوت، أو الحس الذي يخصص العلة". 2- ويقول دانيال جونز4: ليس التفريق بين الصحاح، والعلل اعتباطيا   1 انظر معنى الاصطلاحات الخاصة بأصوات العلة في قسم الأصوات، وإلى البصمات البلاتوغرافية السابقة. 2 Lexique de la Terminologie Linguesitique p. 36. 3 انظر معنى الجرس في القسم الخاص بالأصوات. 4 Outline of Enlish Phonetics. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فسيولوجيا، ولكنه في الحق تفريق مبني على اعتبارات صوتية هي العلو النسبي، أو قوة الإسماع، في الأصوات المختلفة". وأما التفريق على الأساسين مجتمعين، فيمكن أن يجده القارئ في الأمثلة الآتية: 1- تقول آيده وورد1: "العلة في الكلام العادي، صوت يمر الهواء في نطقه خلال الفم في تيار مستمر، لا تصادفه عقبة، ولا تضييق ينتج عنه احتكاك مسموع، وكل الأصوات الأخرى صحاح". 2- ويقول إدوارد سايير2: "يتم النطق في الأعضاء التي تتكون منها حجرة الرنين المسماة الفم على طريقتين، فربما سمح للتنفس، سواء كان مجهورا أو مهموسا، مغنونا أو غير مغنون، أن يمر خلال فجوة ضيقة يحتك بها، وتوجد مراحل انتقال بين النوعين الأخيرين من أنواع النطق، ويصبح للتنفس غير المعطل لون خاص، أو قيمة صوتية مطابقة لشكل حجرة الرنين التي هي الفم". ويقول أيضًا: "وطريقة النطق في الفم ليست كافية بالطبع لحد الصحاح، بل يجب أن ندخل في اعتبارنا المخرج". ويجب أن نعقب هنا بأنه إذا لم يصلح المدخل الفسيولوجي للتبطيق في هذا المجال، فلن يصلح المدخل الطبيعي الصوتي؛ لأن الحروف وحدات فكرية تجريديه تقسيمية لأجراس لها ولا تنطق، وهكذا يصبح المدخل الطبيعي قاصرا سواء أكان بمفرده، أم بالإضافة إلى الأسس الفسيولوجية، وسواء كان هذان المدخلان مجتمعين، أو متفرقين فإنهما غير لغويين، ولا يمكن اعتبارهما أساسين أصليين من أسس البحث اللغوي، تفرق عليهما المفهومات اللغوية المجردة، التي هي غريبة عن علم الطبيعة بقدر ما هي أجنبية عن الفسيولوجيا، وإذا لم تستخدم التعريفات السابقة فكرة النوعية، والنظم اللغوية، فإن التعريف الآتي يتسخدمها بلا شك.   1 Phonetics of English, p.65. 2 Language, p. 1-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يقول بلوخ وتريجر1: "العلة صوت لا توجد عقبه في الفم حين نطقه، حتى ليجري تيار الهواء من الرئتين إلى الشفتين، وما وراءهما دون أن يتوقف، أو يحشر في مجرى ضيق، ودون أن يحيد عن خط الوسط في قناة مروره، أو يحدث ذبذبة في أي عضو فوق الحنجرة، هذا الصوت مجهور من الناحية "النوعية"، وإن لم يكن هذا ضروريا من الناحية الفعلية، والصحيح بعكس هذا، صوت يتوقف الهواء في نطقه عن الجريان، توقفا تاما نتيجة إقفال الحنجرة، أو قناة الفم أو ينحرف عن خط الوسط في قناته إلى فتحة جانبية، أو يجعل أحد الأعضاء التي فوق الحجرة تتذبذب". واستعمال كلمة النوعية هنا، يستدعي للذهن مدخلا تشكيليا، على حين يقوم التفريق في حقيقته على أسس طبيعية فسيولوجية. ولقد وجد التفريق على أساس الوظيفة، التي يؤديها الصحيح، أو العلة عناية من بعض الباحثين، فنحن نرى فندريس، مثلا يعترف بالوظيفة المختلفة، التي يقوم بها كل من النوعين، ولكنه حين يفرق بينهما بالفعل، لا يستعمل اختلاف الوظيفة في هذا التفريق، ولقد روينا لفندريس من قبل، تفريقا بين هذين القسمين على أساس فتح الفم مع كل منهما، ولكنه يقول في اختلاف وظيفة الصحيح عن وظيفة العلة: "ومع أن الوظيفة قد تختلف في هذين، لا يوجد شيء في الطبيعة الفعلية للأصوات ولا حد فاصل، يفرق بينهما"، ثم يفرق هو بعد ذلك على الأساس الذي اقتبسناه له من قبل. لم يرد إلى هذا الحد أي تعريف، أو تفريق يقوم على الفصل بين ما هو أصواتي، وما هو تشكيلي من الصحاح والعلل، حتى ينتج تناولا مزدوجا لهذه المسألة، ولكن دي سوسور يتناول المسألة تناولا مزدوجا، حين يستخدم اصطلاحات مزدوجة الدلالة على اختلاف النظرة إلى الصحاح، والعلل باختلاف الأصوات والتشكيل الصوتي، واصطلاحات دي سوسور، كما يأتي:   1 Outline Of Linguistic Analysis, p.18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 اصطلاحات تشكيلية، اصطلاحات أصواتية. الصحاح: Consonantates "حروف صحيحة" Consemes "أصوات صحيحة" العلل: Sonantes "حروف علة" Voyelles "أصوات علة" ويقول1: إن الاصطلاحات Consonnes, Voyelles تدل كما رأينا في صفحة 75 على أنواع مختلفة، Consonantes, Sonantes، فإنها تدل بالعكس على وظائف في المقطع. هذه الثنائية في الاصلاح، تسمح بتجنب ارتباك منهجي بقي زمنا طويلا، فمع أن نوع "ع" واحد في fidele في pied إذ هي صوة علة، لكن هذا الصوت حرف علة في Fidele، وحرف صحيح pied. ويستمر النص قائلًا: "وقد رأينا مثلا أن y, w ليسا شيئا مختلفا عن -، u، ولكن حين يسأل المرء عن السبب الذي ينتج الوظيفة المزدوجة، أو التأثير الصوتي المزدوج؛ "لأن كلمة وظيفة لا يقصد بها غير هذا"، يجيب بأن الصوت كذا يؤدي الوظيفة كذا، وبحسبها تقع عليه النبرة المقطعية أو لا تقع". والعالم الآخر الذي توخى ثنائية المصطلحات، هو كينيت بايك الذي يستعمل الاصطلاحات الآتية: اصطلاحات تشكيلية، اصطلاحات أصواتية. الصحاح Consonants "حروف صحيحة" Non- Vocoids أصوات صحيحة العلل: Vowels "حروف علة" Vocoids "أصوات علة". ويقول2: "إن صوت العلة هو الصوت الذي يخرج الهواء أثناء نطقه: 1- من الفم 2- على وسط اللسان "أي أنه ليس جانبيا" 3- بلا احتكاك في الفم "ولكن الاحتكاك في مكان آخر، لا يمنع الصوت من أن يكون صوت علة، والآن نحاول تأمل الأصوات الصحيحة: وتشمل هذه أي صوت يخرج الهواء   1 C.D.L.G,p. 87 - 8-9. 2 Phonemics, pp. 19-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أثناء نطقه من الفم لكن من جانب اللسان، وأي صوت يخرج الهواء أثناء نطقه من الفم محدثا احتكاكا محددا بنقطة من الفم، وأي صوت لا يجد تيار الهواء مخرجا أثناء نطقه". ويستمر بعد ذلك، فيقول: "لكل لغة أنواعها الخاصة من أنساق الحروف، ففي بعض اللغات، يأتي الكثير من الحروف الصحاح، جنبا إلى جنب بلا توسط حروف العلة، "أو سم ذلك إن شئت كتلا من الحروف الصحاح"، والبعض الآخر لا يميل إلى هذه الكتل من الحروف الصحاح، ولكنه يفضل تعاقب الحروف الصحاح، وحروف العلة، وربما يشك الباحث في البداية، حين يتناول بعض اللغات فيما إذا كانت أنساق معينة تكتب في u, i أو w,y أي حرف علة أو حروف صحيحة، فيجب أن تسمى هذه الجزئيات حروفا صحيحة، أو علة طبقا للطريقة التي ترد بها في نسق الكلام، في مواقع موازية لورود ما اعتبر حرفا صحيحا بالتأكيد مثل s, t، أو حروف علة بالتأكيد مثل a". وأخيرًا يقول: "وحين يكون الصوت من نوع مشكوك في ظاهره، بأنه ربما كان منتميا لحرف صحيح أو لحرف علة، يجعل الباحث قراره مبنيا على أساس توزيع هذا الصوت في المقاطع الأصواتية، والمقاطع التشكيلية، أو في الوحدات الصرفية morphemes، أو توزيعه بالنسبة إلى ما لا يبدو مشكوكا فيه". وبعد فما الصحاح وما العلل؟ لقد جرت العادة في لغتنا العربية على أن نطلق الاصطلاج "حرف"، على مفهوم واسع، فهو يشمل ما يأتي: 1- الحرف بمفهومه الأبجدي التقسيمي، ويشمل المفهوم الأصواتي أيضا. 2- والحروف بمعناه الخطي الرمزي الكتابي. 3- والحرف أحد سبعة أحرف قرئ بها القرآن. 4- والحرف بمعنى بنط الطباعة. ذلك إلى جانب استمعالاته الكثيرة، التي لا تدخل تحت مفهوم الاصطلاح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كالحرف بمعنى الطرف، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} وهلم جرا. والذي يهمنا من كل هذا، أن نسلخ عن المفهوم الاصطلاحي الأول جانبه الأصواتي، وندع للكلمة مفهومها الأبجدي التقسيمي، فنخرج بتقسيم عربي أبجدي تجريدي فكري لحروف لا تتعلق، وإنما هي أقسام ثمانية وعشرون صحاح، وثلاثة علل، يدخل تحت كل قسم منها واحد، أو أكثر من الأصوات، وتكون النتيجة بعدئذ أن يكون في اللغة العربية أصوات كثيرة، مقسمة إلى أقسام، أي حروف، أقل في العدد؛ ولك من الحروف، والأصوات ينقسم إلى قسمين رئيسين هما الصحاح والعلل، وإليك بيان الحروف الصحيحة، وحروف العلة: فأما الحروف العربية الصحيحة، فهي: ء ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ وي. وأما حروف العلة، فهي: الكسرة، "ويشمل مفهومها ياء المد"، والفتحة "ويشمل مفهومها ألف المد"، والضمة "ويشمل مفهومها واو المد" أي أن حروف العلة إما أن تكون قصارًا أو طوالا، فالقصير منها حركة، والطويل مد، كل هذا على الأساس التشكيلي. ومن الضروري أن يفرق الباحث بين هذين الأساسين من أسس الدراسة، التشكيل الذي يدرس الحروف، والأصوات الذي يدرس الأصوات بالطبع، ومن الضروري للباحث أن يبدأ بوصف الأصوات، ثم يحدد أقسامها بعد ذلك عن طريق التخارج في الموقع، بمعنى أن الصوتين الذين يقعان في موقع واحد، كالفاء من فلق والعين من علق، ينسبان لحرفين مختلفين، إذا اختلف معنى إحدى الكلمتين عن الأخرى. أما إذا لم يقعا في موقع واحد، فلو فسرت أحدهما على أن يحل محل الآخر لم يتغير المعنى، كما لو أحللت محل الميل في ملق الصوت، الذي نسميه إدغاما بغنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وهو من حرف الميم، فإنها إذًا من حرف واحد، هذا هو معنى التخارج في الموقع، والحروف تجريدات، والأصوات تحقيقات، فإذا وجد أن صوتا من الأصوات، تحقيق لحرف صحيح، فهو صوت صحيح، وإذا وجد تحقيقا لحرف علة، فهو صوت علة، خذ مثلا لذلك: أحد أصوات الضمة مع صوت الواو. ليس هناك فرق أصواتي بين الضمة الطويلة، والواو الساكنة المطالة، انطق أيهما شئت، واسأل جارك أن يخمن أيهما تعني، وستعلم أن أذنه لم تخبره الخبر اليقين، فأين يقع الفرق بينهما إذا؟ إنه يقع في التوزيع والوظيفة، فمن الناحية التوزيعية، تأتي الواو محركة، ولا تأتي الضمة، وم الناحية الوظيفية، تأتي الواو بداية لمقطع ولا تأتي الضمة، فإذا وجد الباحث الأجنبي في اللغة العربية صوتا، كالذي نطقته ولم يعرفه جارك، فليحركه وليبدأ به مقطعا، فإن أطاعه في الكلام فهو صحيح، وإن لم يجد لكلامه معنى، فليجرب اعتباره حرف علة، وسيجده كذلك، يفعل ذلك دون أن يدخل في مضايق الفسيولوجيا أو الطبيعة، أو يستعمل اصطلاحاتهما، تحديد مفهومات لغوية بحتة. ويجب في تحديد الحروف، أن نعني باعتبارين هامين: 1- التطريز اللغوي "أو التوزيع". 2 الوظيفة: وقد وضحنا معنيهما بعض التوضيح بالمثال، فوق هذه السطور. ومع الاحتفاظ بهذين في الذاكرة، يمكن تحديد الصحاح، أوالعلل في ضوء اللغة أو اللهجة التي ترد فيها، وتنتمي إليها، لا على أساس صدق هذا التحديد في كل لغات العالم؛ لأن لكل لغة تطريزها الخاص، ووظائفها الخاصة التي تسندها إلى الصحاح والعلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 تقسيم الحروف : لا يستطيع الباحث إذا أن يبني تقسيمات الحروف على اعتبارات فسيولوجية عضوية، أو طبيعية صوتية، كما أشرنا إلى ذلك في كلامنا عن التفريق بين الصحاح والعلل؛ لأن الحروف الصحاح، وحروف العلة لا تنطق، وإنما تنطق الأصوات الصحاح، وأصوات العلة. وعند تقسيم هذه الوحدات التشكيلية، "التي نسميها الحروف، فننسب إليها مخارج، وصفات كمخارج الأصوات وصفاتها"، لا نقصد من هذه النسبة أي معنى عضوي فسيولوجي في المخارج، ولا طبيعي صوتي في الصفات، وإنما نسنتعمل الاصطلاحين "مخرجا" و"صفة" استعمالا تشكيليا محضا، غير أصواتي، لندل به على أنواع لا أعمال، وعلى أفكار تقسيمية لا موضوعات طبيعية، وعلى وسائل للتناول لا عمليات نطقية، وأخيرًا كما يقول كانتينو على وظائف لا حركات، وعندما نتكلم في معرض التشكيل عن نطق شفوي، إنما نتكلم عن أحد أنواع النطق المستخدمة في اللغة العربية مثلا، لا على عملية النطق نفسها، أي أننا نتكلم عما يشمل حروف الباء والميم والواو، لا عن أي صوت بعينه من أصوات هذه الحروف. وأما اصطلاح العلاقة، "ونقصد بها جهة الشركة، أو التخالف بين صحيح وصحيح، كعلاقة الجهر المدركة إيجابيا بين د - ز، وسلبيا بين د - ت، أي أنها جهة شركة بين الزوج الأول، وجهة اختلاف في الزوج الثاني"، فإنه لا يدع في التفكير شكا في جهة إطلاقه، وبرغم اتصاله بصفات في الأصوات تتصل بالناحية الصوتية الطبيعية، وتناولها من ناحية التشكيل تناول للتنظيم، لا للوصف الصوتي، كما في علم الأصوات، فيدل اصطلاح "العلاقة" هنا على صفة، ربما كانت إيجابية في أحد طرفيها سلبية في الطرف الآخر، مع اتحاد الطرفين في المخرج، كما في مثالنا السابق "د في مقابل ت"، ويختلف استعمال هذا الاصطلاح هنا عن الطريقة، التي يستعمله بها تروبتسكوي؛ إذ يقصد به "مجموع الأزواج ذوات العلاقة المتبادلة، والتي نخصصها نفس علامة العلاقة1"؛ ومعنى الأزواج ذات العلاقة المتبادلة في نظره كل حرفين، "أو كما يقول هو "فونيمين"، وسنشرح الاصطلاح "فونيم" فيما يأتي"، يقف أحدهما في وجه الآخر مقابلا له في سلب صفة وإيجابها، كوجود   1 Principe, p. 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الجهر في أحدهما، والهمس في الآخر، كما في د، ت، ويقصد بعلامة العلاقة خاصية تشكيلية كالجهر مثلًا، يخلق إيجابها وسلبها زوجا، أو أزواجا ذات علاقة متبادلة، أما بالمعنى الذي نقصده نحن من الاصطلاح "علاقة"، فإنه يدل على ما يشمل إلى جانب الجهر طرق النطق، كالشدة، والرخاوة، والتركيب والتوسط، وما يشمل صفات كالتفخيم أيضا. وإلى جانب استخدام الاصطلاح "علاقة"، أحب أيضا أن أطلق الاصطلاح "ميل"، على ظاهرة لم يخلق لها اصطلاح فيما كتب عن علم اللغة، تلك هي الميل بالمخرج الأصلي، أثناء النطق إلى تدخل مخرج آخر، كالذي نسميه الإطباق، وما نسميه التغوير، وذلك الذي نسميه التحليق، ومعنى ذلك ارتفاع مؤخر السان في اتجاه الطبق، أثناء النطق في مخرج بعيد عن هذه المنطقة، أو مقدمة في اتجاه الغار، أو يتراجع جذعه في اتجاه جدار الحلق، أو تقفل الحنجرة، أو تحدث نفخة مصاحبة، وإنما تفرد الميول بعلاج منفصل عن علاج العلاقات؛ لأن هذه الميول صفات في الموقع، أكثر مما هي صفات في الحرف؛ وذلك كلام يصدق في اللهجات العامية على وجه خاص. وإذا فلا بد من استخدام المخارج، والعلاقات، والميول "أو المخارج والصفات إن أردنا الاختصار" في تقسيم الحروف، لنجعل من مجموع هذه الحروف منظمة تطريزية توزيعية، يقوم كل حرف فيها بوظيفة تشكيلية خاصة، تساهم في المعنى العام. واصطلاح التطريز مستعار من فن الزخرف، الذي يقوم على أساس في وحدات زخرفية، يحتل كل منها مكانًا في المجموعة التطريزية، متكاملا مع أمكنة الوحدات الأخرى، ومختلفا عنها. ويؤدي المجموع غرضا زخرفيا؛ ولشرح ذلك نقول: إن أي حرفين في النظام التشكيلي في أي لغة، لا بد أن تكون بينهما جهة اختلاف واحدة على الأقل، وهذه الجهة إما أن تكون مخرجا أو صفة، ولو اتفق حرفان في المخرج، والصفة لما صح أن يسميا حرفين، بل إنما يكونان حرفًا واحدًا، وإن نظرة واحدة إلى جدول الحروف، لتبين كيف لا يتفق اثنان منها في المخرج والصفة كليهما، بل لا بد من اختلاف بينهما، يجعل لكل منهما مكانة في المنظمة التطريزية للحروف، وإليك الجدول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ويمكن تشبيه هذه المنظمة التشكيلية الحرفية في مجموعها، بمربعات رقعة الشطرنج، فالمربعات في هذه الرقعة تختلف بحسب الاعتبارات الآتية: 1- سواد المربع وبياضه. 2- مكان المربع في الخط الرأسي. 3- مكانه في الخط الأفقي. 4- مكانه في الخط المائل. ولا يمكن أن يتحد مربعان في كل هذه الصفات، وذلك هو معنى فكرة التطريز في الرقعة، ويشبه هذا الجدول الذي وضعناه أمامك من حيث أن خطه الأفقي مخرج، وخطه الرأسي صفة، ولا يمكن أن يتحد حرفان في المخرج والصفات جميعها، وهذا هو معنى التطريز الحرفي في الجدول واللغة كليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 " نظرية الفونيم ": كل مجموعة كلامية لا بد أن يتكون من سلسلة من الأصوات، التي ينتهي كل منها في الآخر في شكل انزلاقي، ولا يتفق اثنان منها اتفاقا تاما، ولكننا إذا أردنا التحليل اللغوي، فإننا نتجاهل عمدًا هذه الانزلاقية الصوتية، وندعي إمكان إيجاد الحدود بين صوت وصوت، وإمكان إخراج صوت من هذه السلسلة وإحلال آخر محله، ومن المعلوم أن الدراسات اللغوية -لأغراض عملية أبجدية ونحوية ودلالية- تقبل أن تربط عددا من هذه الأصوات اللغوية برباط واحد، تطلق عليه اصطلاحا شاملا كالنون مثلا، فالنون اصطلاح شامل يدخل تحته عدد من الأصوات، كالذي في بداية "نحن"، والذي قبل الثاء في "إن ثاب"، وقبل الظاء في "إن ظهر"، وقبل الشين في "إن شاء"، وقبل القاف في "إن قال"، مع اختلاف واضح بين هذه الأصوات في المخرج، لاحظ أن صوت النون في "إن ثاب" و"إن ظهر" مما يخرج فيه اللسان، كالثاء والذال والظاء تمامًا. لقد اصطلحنا على أن نسمي هذا العدد من الأصوات حرف النون، فنجعل الحرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أعم من الصوت كما سبق، وهذا أيضًا هو المقصود عند بعض الباحثين بالاصطلاح "فونيم"، إذا فالفونيم في أحد معانيه يقصد به معنى الحرف. وهو في رأي دانيال جونز1 عائلة من الأصوات، التي يعتبر كل منها عضوًا من أعضاء العائلة، يترابط مع الآخرين بهذه الطريقة التي شرحناها في النون، ويسمى واحد من هؤلاء الأعضاء عضوًا رئيسيا، والسبب الذي ينبني عليه اختيار الرئيسي من بين الأعضاء واحد مما يأتي: 1- إما أن يكون هذا العضو أكثر ورودًا في الاستعمال اللغوي من بقية الأعضاء. 2- أو لأنه العضو الذي يستعمل منعزلا عن السياق. 3- أو لأنه متوسط بين الأعضاء المتطرفة، كصوت النون اللثوي في مقابل بقية أصواتها. وتسمى بقية الأعضاء أعضاء ثانوية للفونيم، أو العائلة الصوتية المذكورة. ولإيضاحه إيضاحا أكبر، يستعمل دانيال جونز كلمة "لغة" بمعنى كلام شخص واحد ذي أسلوب ثابت، ويستعمل اصطلاح "بيئة الصوت" ليقصد الأصوات المحيطة بهذا الصوت في ظروفها كلها، من جهر وكمية وعلو في الصوت وهلم جرا. ثم يقرر بعد ذلك أن الفونيم في لغة ما عائلة من الأصوات متقاربة في خصائصها، تستعمل بطريقة لا تسمح بأن يستعمل أحدها في نفس البيئة الصوتية التي يستعمل فيها الآخر أبدًا، ومعنى ذلك أن النون التي قبل الثاء، بما فيها من إخراج اللسان، ومن الصفات الأخرى، لا تحل محل النون التي قبل القاف؛ لأن لكل منهما مكانها، وبيئتها الصوتية الخاصة بها، وهذا هو المقصود بمعنى التخارج بين الأصوات؛ فكل صوتين من نفس الحرف متخارجان من جهة الموقع؛ أي لا يقع أحدهما موقع الآخر، والعلاقة بين الأعضاء المختلفين في الفونيم الواحد، إما أن تكون عضوية أو صوتية؛ أي أنها إما أن تكون علاقة بالمخرج، أو علاقة بالصفة.   1 The Phoneme Theory, Cambridge 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فالعلاقة بين الخاء المهموسة في "يخشى"، والمجهورة في "أصخ غير مأمور" علاقة بالمخرج مع اختلاف الصفة، ولكن العلاقة بين النونات المختلفة التي ذكرناها علاقة بالصفة مع اختلاف المخرج. ويرى دانيال جونز أن الصوت الواحد لا يمكن، إلا في حالات نادرة، أن يكون منتميا إلى فونيمين اثنين في نفس الوقت، ويأتي لذلك بأمثلة كثيرة يمثل بها للقاعدة ولشواذها، ونضيف هنا أن الصوت الشفوي الأسناني الذي نسميه إدغاما بغنة. فنطق النون في ينفع، ونطق الميم في دعهم يتم بنفس الطريقة، ومن الفونيم ما يكون ذا أعضاء متعددة، كالنون، وما يكون ذا عضو واحد، كالياء. لقد قلنا من قبل: إن أعضاء العائلة الفونيمية الواحدة متخارجون، فالنونات المختلفة متخارجة من حيث الموقع، ولهذا التخارج أهمية خاصة في نهاية الخطورة، من جهة الدلالة؛ لأن الصوتين إذا انتميا إلى فونيمين مختلفين، انتفت عنهما فكرة التخارج، وصح أن يحل أحدهما محل الآخر، ليحدث تعديلًا في الدلالة أو في المعنى المعجمي، بخلق كلمة جديدة، فالمعروف مثلا أن التاء فونيم غير فونيم الثاء، وأننا إذا وضعنا التاء موضع الثاء من كلمة "ثاب"، تغيرت الكلمة، وتغير معناها، وأصبحت "تاب"، فإذا وضعنا فونيم العين بدل التاء، أصبحت "عاب"، فإذا استبدلنا ذلك بالخاء، أصبحت "خاب"، فإذا حلت الراء محلها أصبحت "راب"، والشين "شاب"، والغين "غاب"، وهلم جرا. فحلول أحد الصوتين محل الآخر دليل على أنهما ينتميان لفونيمين مختلفين، وهذا أحد أوجه الكشف عن القيم الخلافية في اللغة، وإضافة الفونيم إلى الكلمة، واستخراجه منها، كاستبداله فيها، يميز الكلمة عن الأخرى، فمثال التمييز بالإضافة "حد" و"جدد"، وبالاستخراج العكس، وقد سبق التمثيل للتمييز بالاستبدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومما تتميز به كلمة عن كلمة "الكمية"، كما في قال و"قل"، ففي المثال الأول لين أطول من الفتحة التي في الثاني، وفي الثاني تشديد أطول من الإفراد الذي في الأول، وهذا فرق في الكمية، ومن ذلك النبر، ولكن اللغة العربية استغنت بوسائلها المتعددة، عن استخدام هذه الوسيلة من وسائل التمييز بين الكلمات، ومثال التمييز بالنبر في الإنجليزية كلمة Contract مع وضع النبر على أول أصوات الكلمة، وContract مع وضعه r، ومعنى الكملة الأولى "عقد" ومعنى الثانية يتفق اتفقا مدونًا، ومن ذلك أيضًا نغمة الكلمة؛ وهي تستخدم في اللغة الصينية، وفي لغات غرب أفريقيا، وهذا النوع من اللغات يسمى - Tone Languages، كل ذلك يسمى الخلافات الصغرى التي يفرق بها بين كلمة وأخرى. وقد يجري التفريق بخلافين أصغرين أو أكثر، كما في "قل" و"قال" حيث يفرق بينهما بصوت الضمة في مقابل صوت الألف اللينة من جهة، وباختلاف كمية طولهما من جهة آخرى، وكما في "قل" و"قاس"، حيث نضيف إلى الخلافين السابقين ثالثًا بين اللام والسين، والمفهوم أن قال في المقارنة الأولى، وقاس في الثانية ساكنان بالوقف. وأهم شيء في هذا الصدد أن يكون مجموعة الخلافات الصوتية بين كلمة، وكل كافيا، لأن يبرر دعوى اختلافهما، أما الطريقة التي يتوصل بها إلى إيجاد مجموع هذا، فليس لها مثل هذه الأهمية، وإنما نقول: مجموع الخلافات؛ لأن هذه الخلافات باعتبارها فرادى قد لا يكفي واحد منها للترفيق، بنفسه فحسب، بين الكلمتين، ولكنها مجتمعة قد تكفي لذلك. هذه النظرة إلى الفونيم يمكن أن تسمى نظرة عضوية تركيبية؛ لأنها تعترف بكلمة "عائلة أصوات"، ولكن نظرات أخرى إلى الفونيم قد أخذت تنافسها في التفكير اللغوي، وأهمها النظرة العقلية، والنظرة الوظيفية التركيبية، فأما أصحاب النظرة الأولى، فيعتبرون الفونيم صوتًا مفردًا، وله تجريد ذهني، أو صورة ذهنية، يستحضرها المتكلم إلى علقه بالإرادة، ويحاول بلا وعي أن ينطقها في الكلام، فينجح في بعض الأحوال في تحقيق صورة الصوت بالنطق، ولكنه في أحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يخفق، فيستحضر أقرب الأصوات إلى هذه الصورة، وهذا شبيه بنظرية المثل عند أفلاطون. ولقد نحا "بودوان دي كورتني"، مكتشف هذه النظرية نحوًا نفسيا في التفكير فيها حيث عرف الفونيم بأنه صورة ذهنية، وفرق لهذا بين نوعين من علم الأصوات، أولهما علم الأصوات العضوي، وثانيهما علم الأصوات النفسي، وجعل الأول لدراسة الأصوات المنطوقة، والثاني لدراسة الأصوات المنوية في النطق، ويفرق بين مجموعتين من الرموز الكتابية الأصواتية، على هذا الأساس أيضا، أولاهما لكتابة الأصوات المنطوقة، والثانية لكتابة الفونيمات، أو الصور الذهنية، أو الأصوات المنوية في النطق. ومن أصحاب النظرة النفسية أيضا سابير1، الذي يستعمل في مقالة المعنون "أنماط الأصوات في اللغة"، الاصطلاح "أصوات مثالية" ليقصد الفونيمات من وجهة النظر العقلية، ويقول بأن "هذه الأصوات المثالية التي يكونها إحساس المرء بالعلاقات المقصودة بين الأصوات الموضوعية، أكثر تحققا في نظر المتكلم الفطري من الأصوات الموضوعية نفسها"، ويقول في نفس المقالة: "إن السيكولوجية المركبة للعلاقة، والنمط واضحة في نطق أبسط صحيح، أو علة". ويقول مرة أخرى: "ويوجد بالبديهة مكان للصوت "منظورًا إليه باعتباره نقطة حقيقة في النمط، لا باعتباره أحد الصور الصوتية المشروطة" في نظام لوجود إحساس عام بعلاقته الأصواتية بالأصوات الأخرى"، ويقول: "إن غرض هذه المقالة، وروحها أن ترى أن الظواهر الأصواتية ليست عضوية، مهما كان من الضروري في المراحل الأولى للبحث اللغوي الاستقرائي، أن نعطي الحقائق الأصواتية تجسيما عضويا، فالمناقشة الحاضرة في الحقيقة توضيح خاص لضرورة الذهاب إلى ما وراء مادة الإحساس، وفي أي نوع من أنواع التعبير، لندرك من الأشكال ما يدرك بالبديهة، ويعطى معنى للتعبير".   1 Sound paterns in Language, Language, Language, vol. 1. 1945 pp. 37-51 and la Realite Paych 1 logique des Phonemes Jouurnal de Psych. jan - Apr, 1933 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ومن العلماء طائفة ترفض الإدراك النفسي للفونيم، ويقولون في نفس الوقت: إن الفونيم لا يوصف عن طريق الأصوات التي توضحه، بل يحددونه في ضوء وظيفته التركيبية في اللغة. وفي مقدمة هؤلاء تروبتسكوي1، الذي يبدو أنه يعتبر الفونيم أي واحد من الخلافات الصغرى، التي تفرق بين الكلمات في المعنى، وقد سبق شرح ذلك. ويحدد الفونيمات بأنها وحدات تشكيلية، لا يمكن تقسيمها من وجهة النظر اللغوية إلى عناصر متتابعة أدق، وقال: إنها علامات مميزة، لا يمكن تعريفها إلا بالرجوع إلى وظيفتها في تركيب كل لغة على حدتها. وهو يقول أيضًا: إن الفونيم مجموع الصفات التشكيلية ذات الصلة بالموضوع. ثم هو يقول: إن الفونيم فكرة لغوية لا نفسية، ومما يرضى أن تروبتسكوي يقود بنظرته هذه إلى نفس النتائج العملية، التي قادت لها أوضاع أخرى للنظرية، وذلك أن هذه النظرية تمنحنا مادة جوهرية لتحليل التراكيب اللغوية، وأساسا قويا للكتابة الأصواتية. ويبدو أن بلومفيلد يرى نظرية الفونيم من نفس زاوية تروبتسكوي؛ فهو يعرف الفونيمات بأنها: "الوحدات الصغرى من الصفات المميزة للأصوات"، و"أصغر ما يحدث اختلافا في المعنى من الوحدات"، ولقد قال أيضًا: إن فونيمات اللغة ليست أصواتا، ولكنها صفات في الأصوات التي ينتجها المتكلم بالتدريب، ويميزها في تيار الكلام العلمي. أما "توادل" فيقول: إن الفونيم ليس له وجود حقيقي، لا من الناحية العضوية ولا من الناحية النفسية، وإنما هو وحدة خرافية تجريدية، وهذا هو رأي هيلمسلف كما يبدو، وكل هذه الآراء تقود إلى نفس النتيجة العلمية، هذه النتيجة العلمية هي:   1 N.S.Troubetzkay, Grandzuge der Phonologie, p,34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 1- أن الفونيم يؤدي وظيفة دلالية، حيث تأتي الدلالة من الفونيمات والمورفيمات، والكلمات والجمل. 2- يعين على تعلم النطق الأجنبي. 3- يعين على استخدام الأصوات الصحيحة في أماكنها الصحيحة. 4- يعين على فهم النحو والصرف، وبقية الدراسات اللغوية، عن طريق الإضافة والاستخراج والاستبدال. 5- يعين على خلق أبجديات منظمة للغات المختلفة، وهذه الناحية محل دراسة ضخمة في أمريكا، تعرف تحت عنوان "Phonemics". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المجاورة في السياق : ليس كل حرف صالحا لأن يجاور كل حرف آخر في المقطع ، وشكل المقطع، ومخرج الحرف المجاور وصفاته، والمحلقات الصرفية، وغير ذلك، هي العوامل التي تحدد ورود حرف بعينه في موقع بعينه، أو عدم وروده، وسيجد الباحث نفسه مرغما على دراسة الكلمة، بدون الملحقات الصرفية التي بها، ونقصد بالملحقات ما اتصل بأول الكلمة، كالسين والتاء في استفعل، وكأحرف المضارعة، أو دخل في وسطها، كتاء الافتعال، أو جاء في آخرها، كالضمائر المتصلة، وهلم جرا. ونحب أن نسمي ما اتصل بالأول صدرا إلحاقيا، وما دخل في الوسط حشوا، وما جاء في الآخر عجزًا، وإنما يرغم الباحث على دراسة الكلمة بدون ملحقاتها؛ لأن هذه الملحقات ذات حروف ثابتة لا تتغير بتغير الموقع، ومن ثم فهي بحكم ثبوتها، تجاور كل ما يأتي معها من حروف الكلمة، وأدعي للضبط أن يقصر الباحث نفسه على الكلمة غير ذات الملحقات؛ لأن دراسة المجاورة في السياق إنما تعتبر موجهة إليها باعتبارها نواة الدلالة؛ ولأنها ذات معنى معجمي، بخلاف الملحقات التي يقصد بها معنى الوظيفة الصرفية، أو النحوية التي تؤديها، وفرق بين المعنى المعجمي، والمعنى الوظيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقبل أن نبدأ في تحديد هذه الحروف المتجاروة في المقطع، نحب أن نلم إلماما عابرا بمعنى المقطع، وإن كان هذا الاصطلاح مما يصعب تحديده صعوبة تامة، سوف لا نحاول تعريف المقطع؛ لأن دراسة المقطع سيفرد لها باب خاص؛ وإنما نحاول أن نعد مقاطع العربية، ونبين حدودها فيما يأتي: في العربية ستة مقاطع، في كل منها صحيح واحد أو أكثر، وعلة واحدة فحسب، سواء أكانت هذه طويلة أم قصيرة، فإذا رمزنا للصحيح بالرمز "ص" وللعلة بالرمز "ع"، إذا كان قصيرًا و"ع ع" إذا كان طويلًا، أمكننا أن نبني المقاطع العربية في أشكاله المختلفة. 1- ع ص. 2- ص ع. 3 ص ع ص. 4- ص ع ع. 5- ص ع ع ص. 6- س ع ص ص. والمقطعان الأولان قصيران في كميتهما، والثالث والرابع متوسطان والأخيران طويلان. والقاعدة في تمييز المقطع الأول أنه يوجد في بداية كل ما بدئ بهمزة الوصل، فالمعروف أن هذه الهمزة إنما تأتي طارئة على الكلمة، لتوصل بها إلى النطق بالساكن، أو على الأصح بحرف العلة الذي قبله الصحيح الساكن في أول الكلام فحسب، أما في وسط الكلام، فلا تأتي مطلقا، ومن هنا كان العنصر الدائم الذي يعتد به في هذا المقطع هو حرف العلة، والحرف الصحيح، الذي يليه مباشرة، فيوجد هذا المقطع مثلا في بداية كل ما كان على وزن استفعال، وانفعال، وافتعال، وفي أفعال هذه المصادر، وفي أداة التعريف، ويجب أن نشير هنا إلى أن هذا المقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تشكيلي فحسب، أي أنه لا وجود له في الدارسة الأصواتية؛ لأن المقطع العربي من الناحية الأصواتية لا بد أن يبدأ بصوت صحيح، أما من الناحية التشكيلية التي تدرس القاعدة، والنظام، لا النطق، فقد أوردنا تبرير وجود هذا المقطع فوق هذا الكلام، ونريد هنا ما يأتي. إذا تهجينا كلمة "استخراج"، فلا شك أن مكوناتها هي كسرة في البداية، فسين ساكنة، فتاء مسكورة، فحاء ساكنة، فراء بعدها ألف مد، فجيم والذي يهمنا هنا هو أننا إذا أردنا النطق بهذه الكلمة، دون أن تسبقها كلمة أخرى، فسنضطر إلى التمهيد للنطق بها بخلق همزة ليست من بينها، هي همزة الوصل، وستوضع هذه الهمزة قبل الكسرة التي في البداية، ولكننا إذا قلنا مثلا: "أمر استخراج"، فسوف لا نضطر إلى خلق هذه الهمزة، لماذا؟ لأن الراء من كلمة أمر سدت مسدها، ولكن الراء من كلمة أخرى، والتشكيل لا يعتبر المقطع وحده سمعية كما تفعل الأصوات؛ فإذا كان المقطع من الناحية الأصوتية هو مجموع الهمزة، والكسرة والسين الساكنة في الحالة الأولى، ومجموع الراء والحركة والسين الساكنة في الحالة الثانية، فإنه يتكون من وجهة النظر التشكيلية من الحركة والسين الساكنة فحسب؛ لأن الهمزة والراء طارئتان، وكلتاهما غريبة على الكلمة، وما كان غريبا على الكلمة لا يعد من مقاطعها من وجهة النظر التشكيلية. وقد سبق أن قلنا: إن الحركة في هذا المقطع يرمز لها بالرمز "ع"، والصحيح يرمز له بالرمز "ص، فبنية المقطع إذا هي "ع ص"، ولكنك ستجده في دراسة الأصوات دائما في صورة "ص ع ص". وقاعدة المقطعين الثاني والثالث "ص ع، ص ع ص"، أنه إذا تحرك حرف بالكسرة أو الفتحة أو الضمة القصيرة، فإذا تحرك ما بعده، فالحرف المتحرك الأول مع حركته مقطع من نوع "ص ع"، كالكاف المفتوحة من كتب، أما إذا سكن ما بعده، فالحرفان وبينهما الحركة يكونان مقطعا من نوع "ص ع ص"، كالميم المفتوحة، والحاء الساكنة من "محمود". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقاعدة المقطعين الرابع والخامس أنه إذا تحرك حرف بياء المد أو ألفه أو واوه، فإذا تحرك التالي له، فالحرف الأول وحرف المد يكونان مقطا من نوع "ص ع ع"، كالقاف والألف من قاتل؛ أما إذا سكن ما بعده، فالصحيحان وبينهما المد يكونان مقطعا من نوع "ص ع ع ص"، كالميم والواو والدال من "محمود". وقاعدة المقطع الساسد أنه إذا تحرك حرف بحركة قصيرة؛ ثم تلاه ساكنان مثل "عبد"، أو ساكن مشدد، مثل "شد"، فإن الحرف الأول والحركة والساكنين جميعا تكون مقطعا من نوع "ص ع ص ص"، فإذا نونت عبد وشد، تغير نظام المقاطع، فأصبحت بنية الكلمة "ص ع ص + ص ع ص" بدل "ص ع ص ص" وبعد أن شرحنا بنية المقاطع، نود أن نبين المقصود بالحرفين المتجاورين في السياق، وهذان إما أن يكونا: 1- الصحيح في المقطع "ع ص"، والصحيح الذي يأتي بعده بداية لمقطع جديد. أو 2- الصحيج في المقطع "ص ع"، والصحيح الذي يأتي بعده بداية لمقطع جديد. أو 3- الصحيحان اللذان في مقطع "ص ع ص". أو 4- الصحيح الذي في المقطع "ص ع ع"، والصحيح الذي يأتي بعده بداية لمقطع جديد. أو 5- الصحيحين اللذين في المقطع "ص ع ع". أو 6- الصحيح الذي في البداية، والصحيح الذي قبل الآخر من المقطع "ص ع ص ص". أو 7- الصحيحين الساكنين في نهاية المقطع "ص ع ص ص". 8- الصحيح الذي في نهاية "ص ع ص"، أو"ص ع ع ص". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أو، "ص ع ع ص ص"، وما يأتي بعده بداية لمقطع جديد، "مع العلم أن "ص ع ع ص"، "ص ع ص ص"، لا يكونان في وسط الكلام، إلا في اللهجات العامية فقط". وسيجد الباحث أن الأساس الذي يمتنع عليه أن يتجاوز الحرفان، إنما هو المخارج! فانظر إلى الجدول الذي سبق، وستجد أن كل حرف أسناني المخرج لا يميل إلى أن يجاور نفسه، ولا حرفا له نفس المخرج إلا قليلا، ويشمل ذلك "ض د ط ت ز ص س ظ ذ ث"، فإن قلت: فما تقول في "تذليل"، التي يجتمع فيها التاء والذال متجاروتين، فالرد على ذلك أننا ندرس الكلمة خالية من الملحقات والزوائد، ويمكن أن يقال نفس الشيء عن "خ - غ - ك - ق"، إذا توسعنا في مدلول "طبقي" إلى ما يشمل ما كان مخرجه اللهاة التي هي نهاية الطبق، وكذلك عن "ب م وف"، إذا توسعنا في مدلول "الشفوي" إلى ما يشمل الفاء، وهي شفوية أسنانية، وعن "ع ح هـ د"، إذا توسعنا في مدلول الحلق إلى ما يشمل الحنجرة، وهلم جرا. يقول السيوطي1: "قال ابن دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها، كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت؛ لأنك إذا استعملت اللسان في حروف الحلق، دون حروف الفم ودون حروف الذلاقة كلفته جرسا واحدا، وحركات مختلفة، ألا ترى أنك لو ألفت بين الهمزة والهاء والخاء، فأمكن لوجدت الهمزة تتحول هاء في بعض اللغات لقربها منها، نحو قوله في أم والله هم والله، وقالوا في أراق هراق، ولو وجدت الهاء في بعض الألسنة تتحول، وإذا تباعدت مخارج الحروف حسن التأليف. قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة، لصعوبة ذلك على ألسنتهم". ويروى السيوطي عن الشيخ بهاء الدين، صاحب عروس الأفراح أن رتب الفصاحة متفاوتة، فإن الكلمة تخف، وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف   1 المزهر ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لا يلائمه قربا أو بعدا، فإن كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر. 1- الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو ع د ب. 2- الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط نحو ع ر د. 3- من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو ع م هـ. 4- من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو ع ل ن. 5- من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو ب ع د. 6- من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو ب ع د. 7- من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو ف ع م. 8- من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو ف د م. 9- من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو د ع م. 10- من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو د م ع. 11- من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو ن ع ل. 12- من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو ن م ل. ثم يقول: إن أحسن هذه التراكيب الأول، فالعاشر، فالسادس، وأما 5، 9 فهما سيان في الاستعمال، وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجحهما 9، وأقل الجميع استعمالا 6. وواضح هنا أن العلو والتوسط، والدنو مقاييس اعتبارية بالنسبة إلى المخارج في حروف الكلمة، في الجهاز النطقي، وهذه المقاييس النسبية واضحة في كل الأمثلة، إلا في المثال الرابع "علن"؛ لأن مخرج اللام والنون واحد، ولكنهما يختلفان في الصفة؛ فاللام يجري الهاء معها من جانب اللسان، وأما النون فإن هواءها يجري في الخياشيم، وهي أوغل من جانب اللسان وأبعد، ولست أفهم ما يقصده الشيخ بهاء الدين، من جعل الراء أدنى مخرجا من الدال في المثال الثاني، مع أن العكس هو الصحيح، ولعل المثال فيه "ع ب د" لا "ع ر د". هذا مثال من أمثلة دراسة المجاورة في السياق على طريقة اللغويين من العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وهو مجهود ليس باليسير الهين، وإأن كان غير محدد الدلالات الاصطلاحية، على أن هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة أوسع، ومجهود أضخم؛ لأن فيه الكثير من أسرار اللغة العربية، التي لا تبديها الدراسات التقييدية الشائعة في النحو الصرف والبلاغة. أما تقسيم حروف العلة، فإنه يختلف في الفصحى عنه في اللهجات العامية، ذلك؛ لأن حروف العلة في الفحصى ثلاثة هي الكسرة حركة ومدا، والفتحة، والضمة كذلك؛ وأما في اللهجات العامية، فلا بد للباحث من الاعتراف بحرفين آخرين، يمكن أن يسمى أحدهما الخفضة، وهي التي تتوسط الكسرة والفتحة، ثم الرفعة؛ وهي التي تتسوط الفتحة والضمة، ويمكن أن يرمز o , e لهما على التعاقب، وينبغي أن ننبه هنا إلا أن هاتين في معظم اللهجات العامية طويلتان فقط، أي أنها مدتان لا حركتان، والاعتراف بالقصر والطول في حروف العلة، كالاعتراف بالإفراد، والتشديد في الحروف الصحيحة، إذ هو في كلتا الحالتين تعبير عن وجود كميتين مختلفتين في الحرف الوحد، وكما أن الحرف المشدد بحرفين، كما يقولون: يعتبر المد بحركتين كذلك، ومن ثم استخدمنا في الدلالة على المقاطع الرمزين "ع" و"ع ع"، للدلالة على اختلاف الكمية، كما استخدمنا "ص" "ص ص" تماما. وكل من هذه الحروف يضم مجموعة من القيم الأصواتية المختلفة، المرتبطة بالقيم التي تنسب إلى الصحاح المجاورة لها، وحرف العلة في مجموعة لا يعبر عن أية قيمة أصواتية بمفردها، وإنما يشملها جميعا كعنوان لها، وهو كالحرف الصحيح لا ينطق، وينبغي أن نشير أيضًا إلى أن أصوات العلة المركزية، التي تعتبر القلقة أوضح أمثلتها، لا تدخل تحت حرف من هذه الحروف، أي أنها، وإن كانت أصواتا لغوية، فهي لتحديد موقع ورودها، أي أنها تخدم غرضا موقعيا Prosodic، ولا تدخل في النظام العلي للغة، أو اللهجدة العربية المدروسة، ولا يمكن أن يقال عن واحد منها: إنه من حرف الكسرة، أو الفتحة أو الضمة. وكما أن ورود حرفين صحيحين متجاورين، مقيد باعتبارات تطريزية مخرجية يتقيد ورود حرفي علة متجاورين لتجاور مقطعيهما، لنفس السبب على ما يبدو، وللمقاطع ص ع، ص ع ص، ص ع ص ص ثلاث إمكانيات علية، هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الكسرة والفتحة والضمة، مع موقعية القصر "أي أن هذه الثلاثة تأتي قصيرة في شكل حركات في هذه المقاطع"، أما المقطعان ص ع ع، ص ع ع ص، فلهما هذه الإمكانيات مع موقعية الطول، "أي أن هذين المقطعين يشتملان على الكسرة، أو الفتحة، أو الضمة في صورة ياء المد، أو ألفه على التعاقب"، وهذا في الفصحى؛ أما في اللهجات العامية، فإن "ص ع ع ص" يضم إلى ذلك اشتماله على الخفضة، والرفعة أيضا، وهما لا تأتيان مطلقا في ص ع ع، لقد قمت بدراسة تجاور حروف العلة، بتجاور المقطاع التي ترد فيها في لهجة عدن، في رسالتي للدكتوراه، وهي دراسة إحصائية طويلة، نمسك عن إيرادها هنا لاعتبار المسافة المخصصة في الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المقطع : إن اختيار رمز من الرموز ليدل على شيء من الأشياء، إنما هو مسألة اختيار مطلق، ما دام واضع الرمز يبين، بما لا يحتمل الغموض، أي معنى أو فكرة أو شيء يقصد من استعمال هذا الرمز، وذلك هو المقصود من "تحديد الرمز"، فيستطيع المرء أن يستخدم رمزًا قديمًا بمعناه التقليدي، أو يدخل عليه بعض التعديل في الشكل أو الدلالة، أو يخلق رموزه الخاصة، طالما التزم ببيان دلالتها قبل الاستعمل، والمقاطع تعبيرات عن نسق منظم من الجزئيات التحليلية، أو خفقات صدرية في أثناء الكلام، أو وحدات تركيبية، أو أشكال وكميات معينة، فيمكن إذا أن يخلق نظام رمزي للمقاطع، طبقا للنظرة الأولى أو الثانية، أو الثالثة أو الرابعة، أي تبعا لوجهة النظر التي نظر بها إلى هذه المقاطع، ولناحية دراستها دراسة معينة، فإذا بحث باحث في المقطع من جهة اعتباره تعبيرًا عن نسق منظم من جزئيات التحليل اللغوي، فإنه يستطيع أن يفعل ما فعلناه من قبل، فيخصص رمزا للصحيح وآخر للعلة، وليكن هذان الرمزان ص، ع، وأن يعبر عن طبيعة النسق في المقطع بترتيب هذه الرموز بحسبه، فيقول مثلا: إن من الأنساق المقطعية نسقا في صورة ص ع، وآخر في صورة ص ع ص، وثالثًا في صورة ص ع ع، وهلم جرا. فهذه أنساق منظمة من الرموز لأنساق منظمة من الصحاح والعلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أما إذا نظرنا إلى المقطع باعتباره خفقة صدرية، "كما ينظر إليه الموسيقيون غالبًا"، فإن أي رمز كالنقطة، والسهم، كاف لأن يدل على المقطع في كافة كمياته وأشكاله، ذلك بأن الذي يهمنا هنا ليس كمية المقطع، ولا شكله ولا تركيبه في صورة نسق معين، وإنما الدلالة على مقطع أيا كان، وبهذا الاعتبار يمكن التعبير عن عدد المقاطع في كلمة مثل كتب "فعل ماضي ساكن الباء"، بالرمز: اسكنر. ولقد بنى العروضيون من العرب مقاييسهم العروضية، بناء على هذه النظرة على ما يبدو؛ حيث نظروا إلى المقاطع باعتبارها خفقات صدرية، أو وحدات إيقاعية أو شيئا له هذه الطبيعة، ووصفوا النظام الإيقاعي العروضي باستخدام الاصطلاحين "حركة" و"سكون"، ودلوا على الحركة بشرطة، وعلى السكون بدائرة، واعترفوا بثلاث إمكانيات إيقاعية، كما يأتي. "-" وتدل على ما يساوي ص ع. "-5" وتدل على ما يساوي "ص ع ع ص"، أو"ص ع ص ص"، "-55" وتدل على ما يساوي "ص ع ع ص"، أو"ص ع ص ص"، فأنت ترى أن الرمز الواحد من هذه الرموز الثلاثة، قد يدل على أكثر من بنية مقطعية واحدة، ويمكن أن نلاحظ على هذه الرمزية العروضية ما يأتي: 1- تدل الشرطة على صحيح متحرك بحركة قصيرة، واستعارة الرمز هنا من رمز الحركة في الكتابة، يدل على أنهم كانوا يعتبرون الصحيح الذي في بداية المقطع تابعا للحركة، وهذا عكس وجهة النظر النحوية، التي تجعل الحركة صفة للصحيح، ويجب أن ننبه إلى أن علم اللغة الحديث، لا يجعل أيا من الصحيح، والحركة ملك يمين للآخر، وإنما هما وحدتان مستقلتان متتابعتان، لا ترد أحدهما وصفًا للأخرى. 2- يرمز لكل من موقعية الطول "انظر إلى معنى الاصطلاح "موقعية"" والصحيح الساكن، "أي الذي يقع في نهاية المقطع" بدائرة واحدة، فإذا اجتمع هذان، أو تكرر الصحيح الساكن رمز لهما بدائرتين. 3- لا يرد أكثر من دائرتين بين شرطة وشرطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 4- يمكن قياس موقعية الطول على تعليق النغمة في الموسيقى، أما الحرف الساكن، فهو أشبه الفترة بين ضربتي الإيقاع منه، بما يسميه الموسيقيون "السكتة" "Syncopation". فإذا درسنا المقطع مع النظر إلى كونه وحدة تركيبية، ورمزنا إلى كلمة تركيب بالرمز "ر" مثلا، صح لنا أن نقول: إن في اللغة العربية ست وحدات تركيبية هي: ر1، ر2، ر3، ر4، ر5، ر6. ونكون في هذه الحالة قد تجاهلنا النص على تحديد الفروق بين كل وحدة أخرى، وإن كنا قد نصصنا على هذه الفروق غير محددة، حين فرقنا بين كل راء والأخرى بعدد مصاحب لها. أما إذا درسنا المقاطع مع النظر إلى كونها أشكالا وكميات معينة، فسيكون لنا في الرمز إليها شأن آخر، دعنا نعن بالرمز "ق" كلمة قصير، وبالرمز "م" متوسط، وبالرمز "ط" طويل، فهذه كميات ثلاث، ثم دعنا نعن بالرمز "ف" كلمة مفتوح، ويقصد بها أن المقطع مما ينتهي بعلة، بالرمز "ل" كلمة مقفل، ويقصد بها أن المقطع مما ينتهي بصحيح، فإذا جاء في نهاية المقطع صحيحان مشكلان بالسكون، كان الرمز "ل ل"، إذا فعلنا ذلك نتج لنا الكميات والأشكال الآتية للمقاطع العربية: 1- ق ل، وهو من الناحية التركيبية ع ص، 2- ق ف، وهو من الناحية التركيبية ص ع، 3- م ل، وهو من الناحية التركيبية ص ع ص، 4- م ف، وهو من الناحية التركيبية ص ع ع، 5- ط ل، وهو من الناحية التركيبية ص ع ع ص، 6- ط ل ل، وهو من الناحية التركيبية ص ع ص ص، فالقاف والميم والطاء تدل على كميات واللام، والفاء تدل على أشكال. ونحن نختار لدراسة المقاطع العربية وجهة النظر الأولى، أي اعتبارها تعبيرات عن أنساق منظمة من الجزئيات التحليلية، ونبني رمزنا للمقاطع على هذا الأساس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 باستخدام الرمزين ص، ع ليدل أولهما على الصحيح، ويدل ثانيهما على العلة. ونرمز للأنساق المقطعية المنظمة الستة، كما فعلنا من قبل بما يأتي: ع ص، وهو قصير مقفل، ومثاله أداة التعريف، ص ع، وهو قصير مفتوح، ومثاله باء الجر المكسورة، ص ع ص، وهو متوسط مقفل ومثاله لَمْ، ص ع ع، وهو متوسط مفتوح ومثاله ما، ص ع ع ص، وهو طويل مقفل، وثماله بَابْ بالسكون، ص ع ص ص، وهو طويل مزدوج بالإقفال، ومثاله عبد بالسكون. ومن الضروري أن نعترف بنوعين من أنواع المقاطع: أولهما هو المقطع التشكيلي، والآخر هو المقطع الأصواتي، أما أول هذين، فهو تجريدي مكون من حروف، وأما الثاني فهو أصواتي محسوس مسموع مكون من أصوات، وهذه الثنائية في التناول نتيجة حتمية للاعتراف بالحقيقة القائلة: إن ما هو تقعيدي لا يتحقق دائما في النطق بالضرورة. فالتقعيد نتيجة من نتائج النظر إلى التطريز والتوزيع اللغوي، فهو من عمل الباحث اللغوي لا من عمل المتكلم، ويحتم بعض ظواهر الموقعية كالحذف، والطول والقلقلة، وما أشبه ذلك ألا يتغافل الباحث عن عدم اطراد، الورود بين المقطع التشكيلي والمقطع الأصواتي، وإننا لنجد أحيانا مقطعا تشكيليا في صورة "ص ع ص ص"، يقابله من الناحية الأصواتية مقطعان هما "ص ع + ص ع ص"، كنتيجة من نتائج قلقلة الصاد التي قبل الأخيرة في المقطع التشكيلي، مثال ذلك في الفصحى كلمة عقل بقاف مقلقلة ولام ساكنة، فعلم التشكيل يقول: إن القاف ساكنة، ولكن بملاحظة الأصوات يدرك السامع أن بين القاف واللام صوت علة، مركزيا هو صوت القلق، فالكلمة إذا مقطع واحد من الناحية التشكيلية، ومقطعان من الناحية الأصواتية، ومن هنا كان من الضروري التفريق بين هذين النوعين من أنواع المقاطع؛ بالمقطع المقعد والمقطع المسموع. ويستخدم هذان جنبا إلى جنب للتفريق بين ما هو تعبير عن القاعدة، وبين ما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 تعبير عن المثال، يقول بايك1: "يجب على الباحث في بعض اللغات أن يستعد لأن يجد أن المقطع الأصواتي، لا يطابق معظم التجميعات التركيبية للجزئيات التحليلية، فكما أن الجزئيات يجب أن يؤدي البحث إلى تحليليها إلى حروف تركيبية، يجب أن تحلل المقاطع الأصواتية إلى مقاطع تشكيلية". وفي اللغة العربية كلمات أحادية المقطع مثل "من"، وثنائيته مثل "لما" وثلاثيته مثل "يقاتل"، ورباعيته مثل "يتعلم"، وخماسيته مثل "متخاصمين"، وسداسيته مثل "يتجاهلون"، وسباعيته مثل "متحدثيهما". فأما الكلمات ذات المقطع الواحد، فإن المقطع الذي تتكون هي منه قد يكون قصيرا أو متوسطا، أو طويلا، ومعظم الكلمات التي يكونها مقطع قصير، أو متوسط واحد أدوات نحوية، فمما يقع من هذه في مقطع واحد قصير باء الجر المكسورة، وواو العطف المفتوحة، ومما يقع في المقطع المتوسط، سواء أكان مفتوحا أم مقفلا، "ما" و"في" و"لا" و"لم" و"عن" و"كم" و"ولو". وأما الكلمات غير الأدوات، فقلما نجد منها ما تركيبية مقطع واحد قصير، أو متوسط، مثل "يد" و"دم"، ولكن الكلمة كثيرا ما تأتي في صورة مقطع طويل واحد، مثل "قال" و"باع" و"راح"، أو مثل "عبد" و"عذر" و"وقهر" بسكون الآخر في كل أولئك. والشائع المقبول أن الكلمة العربية ذات حروف أصلية ثلاثة، يسمى أولها فاء الكلمة، وثانيها عينها، وثالثها لامها، وفي الأمثلة المتقدمة نجد أن هذه الحروف الثلاثة واضحة في "عبد" و"عذر" و"قهر"، ولكننا لا نجد في "قال" و"باع" "راح" إلا حرفين صحيحين، يمكن أن نردهما إلى هذه القاعدة، هما فاء الكلمة، ولامها، فأين عين الكلمة؟ وما صحة الدعوى على وجودها فيها؟ إن عين الكلمة إذا لم تظهر في المثال، فستظهر في الجدول، فإذا   1 Phonemics, P.98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أحدنا "قال" مثلا، ووضعناها في جدول توزيعي، وجدنا أن العين تظهر في بعض صيغه، كما يأتي: قال - قولا - قوال - أقوال- مقاويل- مقاول- مقول إلخ. وكذلك باع بيعا - يباع - بائع، إلخ. وكذلك راح - رواحا - روح - مروح، إلخ. وإذا، فإن دعوى وجود الحرف الصحيح الغائب من الكلمة، دعوى لها ما يبررها، ومن أنجع الوسائل لإظهار هذا الحرف الغائب، أن نضع حروف المادة في صيغة يقع الحرف الغائب، فيها مشددا، كما في: قال وقوال، وباع وبياع إلخ. ومعنى هذا أن الكلمة إذا بدت في مقطع واحد، ولم توجد حروفها الثلاثة مجتمعة، فإن ذلك لا يطعن في عدتها. نخلص من هذا إلى القول بأن هذه الحروف الثلاثة، يمكن أن توضع في مقطع واحد من نوع "ص ع ص ص"، كما يمكن أن توضع في مقطعين، كما في: كتب، جمل، حسود، كاتب، كتاب، جميل، صداع، قرب، كتب، سمج، حرم، بسكون الآخر في جميعها. وكل هذه كلمات لم يحلق بها صدر، ولا حشو، ولا عجز. وبعض الكلمات التي بها هذه الملحقات، تأتي في شكل مقطعين أيضا نحو: يكتب - مكتوب- يحرم - يرمي - يروح، بسكون الآخر في الجميع أيضا. وأما الكلمات ذات المقاطع الثلاث، ة أو الأربعة أو الخمسة، أو الستة أو السبعة، فإنها جميعا من ذوات الملحقات الصرفية: ولو جئنا بكلمة مثل "محتمليهما"، لوجدناها تتكون من مقاطع ستة، كما يأتي: مح - ت - م - لي- هـ - ما. ص ع ص - ص ع - ص ع - ص ع ع - ص ع - ص ع ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهناك نماذج ممتنعة في تركيب الكلمات العربية من الناحية المقطعية، وكل صيغة من صيغ الميزان الصرفي، إنما تعبر إيجابيا عن نموذج ممكن، ولكن النماذج الممتنعة في اللغة العربية دراسة سلبية، لا يمكن أن تنشأ إلا عن طريق المقاطع واستخدامها فيها، وسنحاول هنا أن نذكر بعض هذه النماذج الممتنعة، ولكننا يجب أن نشير، قبل أن نفعل ذلك، إلى أن النماذج الممكنة متكاملة من الناحية الدراسية مع النماذج الممتنعة، وهما معا يعبران عن تركيب اللغة من الناحية المقطعية إيجابًا وسلبًا، ومن هذه النماذج الممتنعة: 1- كلمة تشتمل على المقطع "ع ص" في وسطها أو آخرها. 2- كلمة مكونة من "ع ص + ص ع"، فحسب. 3- كلمة مجردة من الملحقات واردة في صورة "ص ع ع+ ص ع ص ص". 4- كلمة متعددة المقاطع تبدأ بالمقطع "ص ع ص ص"، أما البادئة بالمقطع "ص ع ع ص"، فمن أمثلتها ضالين. 5- كلمة مجردة ثلاثية المقطع منتهية بالمقطع "ص ع ع ص، أو ص ع ص ص". 6- كلمة مكونة من أكثر من أربعة مقاطع متحدة الشكل، أما الكلمات ذات الأربعة مقاطع المتحدة الشكل فمنها ضربك، "لم" أستقبلهم. هذه أمثلة من النماذج الممتنعة في اللغة العربية، ولعل الوقت يسمح في المستقبل باستقصاء كل هذه الصيغ، وفائدة معرفة هذه النماذج مساوية لفائدة معرفة الموازين الصرفية؛ لأن الموازين الصرفية إذا كانت نماذج نحكم على الصيغ المكونة على مثالها بأنها عربية، فإن النماذج الممتنعة تمكننا من أن نحكم على شكل تركيبي ما بأنه غير عربي. بعد أن وصلنا إلى هذه المرحلة من الكلام عن المقاطع، نجد من الخير أن نحاول أن نتكلم عن كل منها على حدة، شارحين بعض المعلومات التي تتصل به، وسنبدأ بطبيعة الحال بالمقطع الأول "ع ص". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قلنا من قبل: إن هذا المقطع تشكيلي غير أصواتي؛ لأن الأصوات لا تعترف بأن تبتدئ المجمعة الكلامية بحركة، ولذلك تعمد إلى همزة تنشئها قبل هذه الحركة، وتتخذها قنطرة للنطق بها، ثم تعتبر هذه الهمزة من بنية المقطع، فإذا كان هذا المقطع التشكيلي في وسط الكلام، فإن دراسة الأصوات لا تعترف به؛ لأنها تتخذ من الصحيح قبله قنطرة، كما اتخذت همزة الوصل في بداية الكلام. وحركة هذا المقطع من الناحية الصرفية قد تكون كسرة، كما في "اضرب"، أو فتحة كما في "الولد"، أو ضمة كما "اصدُق"، وهذا المقطع إن صح أن يقع في وسط الكلام، فإنه لا يصح أن يقع في وسط الكلمة، أي أنه يلزم موقعه في بداية الكلمة، الذي هو فيها في غير بدء المجموعة الكلامية، كما في "الولد"، "قال الولد لأبيه"، وهو لا يقبل النبر أبدًا "انظر معنى النبر"، كما يرى في الجملة الآتية: الخير في استقبال الضيف واحترامه. وأما المقطع الثاني والثالث "ص ع وص ع ص"، فإنهما يوجدان وفيهما الكسرة أو الفتحة أو الضمة، وقد يكونان منبورين، وقد يكونان بداية الكلمة، أو وسطها، أو نهايتها، فورودهما في الكلام إذا غير مقيد بشروط خاصة، كما يتقيد المقطع "ع ص"، تأمل: سنستدرجهم حتى ننتقم منهم. والمقطع الرابع، "ص ع ع"، يرد في الفصحى، وفيه ياء مد أو ألفه أو واوه، في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها، ويزاد على هذه الإمكانيات في اللهجات العامية أن يرد في أول الكلمة، أو وسطها، وفيه خفضه أو رفعة طويلة، ولا ترد هاتان فيه في آخر الكلمة، وقد يرد هذا المقطع منبورًا أو غير منبور، تأمل: سيأتي الله بالفرج. وأما المقطع الخامس "ص ع ع ص"، فإنه قد يوجد في أول الكلمة، ووسطها أو آخرها، وهو يرد في الوسط في بعض العاميات دون بعض، فهو يرد أولا كما في "ضالين"، ويصلح هذا المثال للتدليل على وروده آخرا أيضا، أما وروده وسطًا فمثل "مدهامتان"، وهو منبور في الفصحى دائما، وفي نبره تفصيل في العاميات، وتأتي فيه ياء المد، أو ألفه أو واوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والمقطع الآخير، "ص ع ص ص"، لا يوجد في الفصحى إلا في آخر المجموعة الكلامية، حين الوقوف بالسكون على مشدد؛ أو على صحيحين مختلفي المخرج، أما العاميات، فقد يرد في بعضها في البدء أو في الوسط، وهو دائما منبور في الفصحى؛ وفي نبره تفصيل في العاميات، وهذا المقطع ترد فيه الكسرة أو الفتحة أو الضمة؛ وهو أحد المواضع التي تحدث فيها ظاهرة القلقة في اللهجات العربية، تأمل: لله الحمد؛ ولكن الحمد لله. وفي العمايات: عبد ربه؛ مقصهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الموقعية : إن استعمال سويت1 لاصطلاحي "التركيب" و"التحيل"، في دراسة اللغة يوضح الحاجة الملحة إلى دراسة الموقعية، ويظهر ظهورًا واضحًا في دراسة السياق النطقي، أن التحليل إذا هدف إلى وصف الجزئيات الصغرى المكونة لهذا السياق، "أو كما يسميها الأمريكيون من اللغويين Segments"، بعد استخراجها من تتابعه المتصل، فإن التركيب إنما يتناول الكل المتصل، كيفما كان مظهره، ويشمل هذا علامات المواقع، والعلاقات المتبادلة بين الأبواب اللغوية "linguistic categories، كالترابط والتوافق، وتبادل التأثير في السياق، وهذا ما سنشرحه في منهج النحو". أما دراسات علامات المواقع، فهي ما نسميه الموقعية، ونمثل مبدئيا لذلك بهمزة الوصل التي تدل على بداية الكلمة، وعلى أن الكلمة في بداية المجموعة الكلامية، وأما العلاقات المتبادلة بين الأبواب اللغوية، كالعلاقة بين باب الفعل وبين باب الفاعل، فهي ما نسميه النحو، مثال ذلك ما يأتي: في قولنا: "قام محمد" تماسك سياقي، من حيث إن البابين الذين يدرسان في هذا السياق، يتبادلان أثر الإفراد والتذكير والغيبة، وفي قولنا: قام محمد الفاضل ترتيب سياقي ثابت؛ لأن الفاضل لا يمكن أن يسبق محمدًا، أما بين قام ومحمد، فالترتيب غير ثابت.   1 H. Sweet, Primer of Phonetics, pp7& 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لأننا نستطيع أن نقول: محمد قام، وفي هذه الجملة الأخيرة توافق سياقي من حيث إن قام ومحمدًا، والتفاضل تلزم جميعها حالة متشابهة في الإفراد، والتذكير والغيبة، كل ذلك من صميم الدراسات النحوية. فالموقعية إذا دراسة لعلامات الموقع، أو دراسة لسلوك الأصوات في الموقع، طبقا لما يقتضيه هو سواء أكان هذا الموقع بداية الكلمة، أو وسطها، أو نهايتها. وإذا فدراسة الأصوات المفردة المنعزلة انعزالا مصطنعا عن السياق، ليست دراسة موقعية؛ لأن الصوت المفرد المنعزل ليس به مواقع نسبية تدرس، أو تكون لها علامات. والظواهر الانعزالية ظواره أصواتية بحتة، "أما إذا نظرنا إلى المادة اللغوية من وجهة النظر السياقية، فسيكون صوابا أن نقول: إننا لو وحدنا أية ظاهرة أصواتية خاصة بموقع، أو نقطة اتصال بين الأصوات، فمن المفيد أو ربما كان من الأكثر إفادة أن نعبر عنها، بأنها موقعية في الجملة، أو الكلمة"1. ويمكن أن نقسم الموقعية في اللغة العربية الفصحى إلى أربعة أقسام رئيسية: 1- موقعية البداية، 2- موقعية الوسط، 3- موقعية النهاية، 4- موقعية الشيوع.   1 Firth, Sounds and Prosodies TPS. 1948. pp. 127 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 موقعية البداية : أما موقعية البداية، فتشمل ورود همزة الوصل في أول الكلام الذي يبتدئ بحرف علة، متلو بصحيح ساكن؛ أو عبارة أخرى، يبتدئ بالمقطع "ع ص". فهمزة الوصل إذا علامة على هذا الموقع؛ لأنها لا ترد في وسط الكلام، حيث يعتمد حرف العلة على بديل لها، هو نهاية أي بمقطع سابق، وقد سبق أن مثلنا لذلك بالمثالين: "الولد"، "قام الولد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 موقعيات الوسط : وأما موقعيات الوسط، فتشمل ما يأتي: 1- موقعية نقطة الاتصال، 2- موقعية الشدة الأنفية، 3- موقعية القلقلة، 4- موقعية الساكنين. 1- موقعية نقطة الاتصال: فأما نقطة الاتصال، فتدرس الموقعية فيها بالنسبة للحرف الصحيح يلتقي بالصحيح، وبالنسبة لحرف العلة يلتقي بحرف العلة، والتقاء الصحيحين مسئول إلى حد كبير عن خلق دراسة الأصوات الصحيحة، ثم هو أوضح ما ينبني عليه علم القراءات، فنقطة اتصال حرفين، ربما تكون البيئة الوحيدة لصوت لغوي معين، لاحظ مثلا أن التقاء حرف النون بحرف الباء في السياق، يحقق النون في صورة ميم، وهذا ما يسمونه الإقلاب، وإذا جاءت بعد النون فاء، تحققت النون في صورة إدغام بغنة، وهلم جرا، فإذا فنقطة الاتصال بين حرف صحيح، وحرف صحيح آخر بيئة صالحة لدراسة الموقعية، وكذلك الحال في التقاء حرفي علة في وسط الكلام، وكقاعدة عامة يمكن القول: إنه إذا التقى حرفا علة في وسط الكلام، فاللاحق منهما هو "ع"، التي في "ع ص"، أي أنه هو حركة همزة الوصل، لو ألحقت همزة الوصل بأول الكملة التي هو فيها، لاحظ أننا إذا أقررنا كلمة "الولد"، فإننا ننطقها همزة مفتوحة، فلا ما ساكنة، فواوا مفتوحة إلخ، إذًا فالحركة الأولى في الكلمة فتحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولكن هذه الفتحة تختفي من الناحسة الموقعية، في أمثلة مثل: يرمي الولد، يدعو الولد، لم يخرج الولد، يخرج الولد، فعلامة الموقع في هذه الحالات، هي عدم وجود "ع"، التي في المقطع "ع ص" في النطق، وهذا يدعونا إلى القول بعدم وجودها أيضا في قولنا. قام الولد - أن يقوم الولد - غضبت على الولد. قياسا على الأمثلة السابقة. 2- موقعية الشدة الأنفية: وأما موقعية الشدة الأنفية في العربية الفصحى، فمن المعروف أن الحروف الشديدة في هذه الفصحى هي الهمزة، والباء، والتاء، والدال، والضاد، والطاء، والقاف، والكاف، وأن هناك حرفا مركبا من شدة تعقبها رخاوة "أو كما يسمونها تعطيش"، وحروف القلقة من هذه هي الباء، والدال، والطاء، والقاف، والجيم، والحروف غير المقلقلة هي الهمزة، والتاء، والضاد، والكاف، هذه الأربعة الأخيرة هي موضع هذه الظاهرة الموقعية. إن وجود صوت القلقة بعد حروفها الخمسة، يحتم أن يكون الفم مخرج الهواء حين الانفجار، الذي نسميه الشدة، والذي هو خاصة من خواص النطق بأصوات هذه الحروف، وأما الحروف الأربعة الأخيرة فلا قلقلة فيها، ومن ثم إذا تلتها الميم أو النون، فإن هواء الانفجار في نطق أصوات هذه الحروف الشديدة يخرج من الأنف، وهذا الذي نسميه موقعية الشدة الأنفية، قارن الأمثلة الآتية: يأمن - يأنس - يتم - متن - يضمن - أضنى - يكمل - يكني بحروف القلقة في: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أبناء - يدمي - يدنو - يطمع يطنب - يقمع - يقنع - يجمع - يجني. وستجد أن القلقلة هنا تقترن بخروج هواء الشدة من الفم، وأن عدمها يقترن بخروج هذا الهواء من الأنف. 3- موقعية القلقلة: ومقعية القلقة تربط بالحروف، كما ترتبط بالموقع، وقد ذكرنا حروفها فوق هذا الكلام، فارتباطها بها واضح، وأما ارتباطها بالموقع، فكيفي أن نقول: إن أي حرف من هذه لا يقلقل إذا شدد، وإلا إذا تلاه آخر من نفس مخرجه، فلا قلقة لباء ساكنة متلوة بميم، ولا لطاء متلوة بتاء، وهلم جرا. 4- موقعية التقاء الساكنين: وأما موقعية التقاء الساكنين، فعلامتها الكسرة التي لا مبرر لها من الناحية الإعرابية البحتة، وكل ساكنين التقيا يتحرك أولهما بهذه الكسرة، إلا إذا كان أولهما مدا وثانيهما مشددا، كما يرى ذلك في الفرق بين الأمثلة الآتية: لم يكن الذين كفروا - اضرب المذنب - لا تهن الفقير. ولا الضالين - أتحاجوني في الله - مدهامتان. الحاقة ما الحاقة - الطامة - الصاخة. والحقيقة أن كل هذه الأنواع من الموقعية، يمكن إدراجها تحت موقعية نقطة الاتصال فالإخفاء، والإقلاب، والإدغام بغنة، تشير إلى نقطة اتصال من نوع معين، والشدة الأنفية تشير إلى نقطة اتصال بين شديد وأنفي، والقلقة تشير إلى نقطة اتصال حرف من حروفها بآخر من غير مخرجه، والتكسر لاتقاء الساكنين يشير إلى نقطتة اتصال ساكن بساكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 موقعة النهاية : وأما موقعية النهاية، فأهمها في الفصحى سكون الوقف وهاؤه، وفي الشعر القافية، وأما في بعض العاميات، فإن من مظاهر هذه الموقعية أن تتحقق الفتحة التي قبل تاء التأنيث في صورة كسرة، إذا سبقتها حروف خاصة، وأن يتحقق ياء المد وواوه في نهاية الكلام أيضا في صورة أصوات علة مركبة، وأن يكون المظهر الصوتي للفتحة، والضمة في آخر مقطع من المجموعة الكلامية، أكثر انفتاحا منه فيها إذا وقعا في مقاطع في وسط الكلام، والأمثلة لذلك: سمكة - قاضي - قالوا - راكب - يدخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 موقعيات الشيوع : بقيت موقعية الشيوع، وإنما سميت بذلك؛ لأنها تعين المواقع سواء أكانت في مبدأ الكلام، أو وسطه أو نهايته ومنها: 1- الإجهار والإهماس، 2- قوة النطق وضعفه، 3- التفخيم والترقيق، 4- الكمية، 5- النبر، 6- التنغيم: 1- الإجهار والإهماس: والإجهار جهر ما هو مهموس من جهة التبويب والتقييد، والإهماس همس ما هو مجهور من هذه الجهة، وفي موقع صالح لذلك، لقد أفهم كلام النحاة العرب أن ظاهرة القلقة في الأصوات مرجعها إلى تجنب الإهماس في حروف القلقة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 زعموها جميعا مجهورة في التبويب والتقسيم، مع العلم بأن الطاء والقاف من الحروف المهموسة من هذه الناحية. والواقع أن اللهجات العامية لم تحترم جهر الحروف إلى هذه الدرجة، وإنما تعمل موقعية نقطة الاتصال عملها في هذه الناحية، دون نظر إلى الناحية التبويبية للحرف، والغالب أن الحروف المجهورة إذا تلاه في الكلام حرف مهموس، وكانا متلاصقين تلاصق جزءي الحرف المشدود، فإن أولهما المجهور يلحقه بعض الهمس أو كله، وذلك ما نسميه الإهماس، ويحدث العكس في بعض الحالات في الحرف المهموس، إذا لاصقه حرف صحيح مجهور لاحق له. لاحظ إهماس الباء في أبشع، وإجهار الفاء في أفظع، والشين في وزارة الأشغال، وحتى لتصبح بالباء P، والفاء مثل V، والشين مثل الجيم السورية تقريبًا j. وهناك موقع آخر للإهماس هو موقع الحرف الأخير من المجموعة الكلامية، وذلك مثل الباء في كتاب، والضاد في خفض، والزين في عزيز، وعدم اختصاص هذه الظاهرة، والظواهر التي ستأتي بعد ذلك بمكان واحد، هو الذي برر تسميتنا لها بموقعية الشيوع، وأنا استميح القارئ عذرا في اختيار كلمتي الإجهار، والإهماس، ولقد أكثرت من الاعتراض عليهما لنفسي من كل ناحية، ولكنهما خيرا ما يختار للدلالة على ظاهرة تتصل بالجهر والهمس، ولا تتطابق معهما. 2- القوة والضعف: وأما موقعية القوة والضعف في النطق، فقد سبق أن قسمنا مواقع الحرف في المجموعة الكلامية إلى ثمانية مواقع هي: 1- البداية كموقع الكاف من كتب. 2- ما كان بين علتين كموقع التاء من كتب. 3- المشدد في الوسط، كموقع اللام المشدد من علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 4- ما كان ساكنا في الوسط، كموقع العين من معلوم. 5- ما كان متحركا في الوسط، كموقع اللام من معلوم. 6- ما كان قبل الأخير في المجموعة الكلامية، كموقع الجيم من استخرجت "بسكون التاء". 7- الساكن المفرد في الآخر، كموقع الباء من اضرب. 8- الساكن المشدد في الآخر، كموقع اللام المشددة من استقل. تلك هي المواقع التي توصف بالقوة أو الضعف، وهي في هذا أشبه بباب الفاعل، يوصف بالرفع بقطع النظر عن امثلته التي هي محمد أو جعفر أو عبد الله. فهذه المواقع تختلف قوة وضعفا في اللهجات العربية، بقطع النظر عما يرد فيها من الأصوات، والحروف. ولهذا يقال مثلا: إن الصوت إذا وقع مشددا في الآخر، كان أقوى ما يكون نطقا، وهو أضعف ما يكون، إذا وقع بين حرفي علة، ومعنى القوة والضعف هنا مرتبط ارتباطا تاما بتوتر أعضاء النطق، أو تراخيها، أنثاء عملية النطق "قارن بصمة الضاد، التي في أول الكلمة بالضاد التي بين حرفي علة في الأمثلة المصاحبة". 3- التفخيم والترقيق: والتفخيم والترقيق يختلفان في الفصحى عنهما في العاميات، فهما في الفصحى يرتبطان بالحروف، أما في العاميات فهما ظاهرة موقعية ترتبط لا بالحروف، وإنما بالموقع في السياق. يقول النحاة القدماء في حروف التفخيم: هي "ص ض ط ظ غ خ ق"، وبالتأميل في هذه الحروف، نجد أن مما يعد في خصائص إما صفة الإطباق، وإما مخرج الطبق "وهو هنا يشمل اللهاة": وصفة الإطباق ومخرج الطبق يشملهما في التجويد العربي اصطلاح "الاستعلاء"، والذي يبدو لي أن التفخيم في هذه الحروف غير متحد القيمة، ولا مرات الورود في المثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فحروف الإطباق الأربعة مفخمة إلى درجة أكبر من تفخيم الحروف الطبقية الثلاثة، وهي ترد مفخمة أكثر مما ترد الثلاثة الطبقية، ذلك؛ لأن حروف الإطباق يبقى لها تفخيمها في كل وضع، ومع كل حرف علة سابق أو لاحق، أما الثلاثة الطبقية، فإنها لا تفخم في مجاورة الكسرة، ويعترف علماء التجويد بأن الطبقة أقوى تفخيما من الطبقية، يقول ابن الجزري1: "ومنها المستفلة وهي ضد المستعلية؛ والاستعلاء من مصفات القوة وهي سبعة يجمعها قولك: قظ خص ضغط، وهي حروف التفخيم على الصواب وأعلاها الطاء، كما أن أسفل المستفلة الياء، وقيل: حروف التفخيم هي حروف الإطباق، ولا شك أنها أقواها تفخيما". هذا هو التفخيم في الفصحى؛ تفخيم يرتبط بالحروف أكثر مما يرتبط بالموقع، ولذلك لا يمكن اعتباره ظاهرة موقعية، أما في اللهجات العامية، فهو على العكس من ذلك يرتبط الموقع أكثر مما يرتبط بالحروف؛ ففي لهجتي المحلية "لهجة الكرنك - قنا"، ويمكن تلخيص هذه الظاهرة فيما يأتي: تنقسم الحروف بالنسبة لهذه الظاهرة إلى أقسام خمسة، كل قسم منها له سلوكه التفخيمي الخاص، الذي يختلف عن سلوك بقية الأقسام. هذه هي الأقسام: 1- ص ض ط ظ وهي المجموعة المطبقة. 2- ر وهي تكرارية. 3- خ غ ك كك بدل "ق" وهي المجموعة الطبقية. 4- ب م وف - ح عء هـ وهي مجموعة المخارج. القصوى في الشفتين والحنجرة. 5- ت د س ز ل ن ج ش ي والكسرة والخفضة، وهي المجموعة اللسانية اللأمامية. وسيرى القارئ من وصف المجموعات بالأطباق، والتكرار والطبقية إلخ، أن   1 كتاب النشر الجزء الأول ص 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 كل مجموعة تربطها رابطة مخرجية خاصة، والمجموعة الأولى مفخمة دائما، أما المجموعات الأخرى فيلحقها التفخيم بحسب الموقع، وهذا هو معنى كونه ظاهرة موقعية، والقاعدة في ذلك ما يأتي: 1- كل ما يسبق حرفا من المجموعة الأولى في الكلمة، فهو مفخم مهما كانت المجموعة التي ينتمي إليها، فالتفخيم صفة الحروف كلها في: "رقص"، "خبط"، و"سمط". وصفة الحرف المطبق، وما قبله في: "رصف" و"قطع" و"رطز" و"سطل". 2- كل حرف يسبق الراء في الكلمة، فهو مفخم مثلها إلا إذا سبق بكسرة أو خفضة، غير مسبوقتين بأحد حروف المجموعة الأولى، كما في "سيرة"، وإلا إذا كانت الراء متوسطة بين حرفين من المجموعة الخامسة، كما في "جرس"، ففي هاتين الحالتين ترقق الراء، وما قبلها. 3- كل ما سبق المجموعة الثالثة، أو الرابعة فهو مفهم مثلها، إلا: "أ" حين يكون الوسط من المجموعة الخامسة، كما في "زرع" و"خلق" و"غنم". "ب" حين يكون أول الكلمة، ووسطها من المجموعة الرابعة أو الخامسة، أو كليهما بأي ترتيب، نحو: "زبق" و"بزق" و"دلق" و"بحق". 4- "أ" إذا انتهت الكلمة بحرف من المجموعة الخامسة، فهو مرقق وما قبله كذلك، إلا حروف المجموعة الأولى وما سبقها في الكلمة، نحو: "حصد" "غطس"، ولكن في "طقش"، التفخيم للطاء فحسب. وأما في لهجة عدن فالحروف مقسمة أيضا، ولكن الأقسام سبعة، مرتبة بحسب غلبة التفخيم على سلوكها، وهذا الأقسام مبنية على حسب اتحاد المخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أو قربه أيضًا، وهي المفخم، والمضخم، والمحايد، والمدقق، والمرقق كما يأتي: 1- المفخم "الحروف الأسنانية اللثوية المطبقة"، ص ض ط وهي ذات تفخيم دائم. 2- "الحروف الشفوية" خ غ ق، وهي أقل منها تفخيما المحايد، وهو مجموعات ثلاث: 3- "الحروف الشفوية" ب م وف وهي أقل من المجموعة الثانية. 4- "الحلقية" ء هـ ح ع، وهي أقل تفخيما من المجموعة الثالثة. 5- "اللثوية" ر ل ن وهي أقل تفخيما من المجموعة الرابعة. 6- المدقق "الحروف الأسنانية اللثوية غير المطبقة" ت د س ز، وهي أقل ترقيقا من المجموعة الأخيرة. 7- المرقق "الحروف الغارية" ك ج ش ي، وهي أقل ترقيقا. هذه الموقعية وظيفة من وظائف المقطع، وتقسم كل حرف من حروف العلة إلى سبعة قيم، أصواتية، ترتبط كل قيمة منها بمجموعة من هذه المجموعات. وإذا كان ذلك الصحاح والعلل في المقطع، صح أن يوصف المقطع بأنه مفخم، أو محايد، أو مرقق؛ ويمكن دراسة هذا الاختلاف التفخيمي بين المقاطع في السياق، وفي الجدول على السواء، ولذكر قاعدة التفخيم في المقطع نجد من الضروري أن نقسم المقاطع إلى قسمين رئيسيين: هما المفتوح والمقفل. ولكل منهما تناول خاص: 1- المقطع المقفل وهو لذي ينتهي بحرف صحيح: أ- يكون هذا المقطع مفخما، إذا كان في بدايته أو نهايته أحد حروف المجموعة الأولى أو الثانية، مثل الطاء واللام من طلق، واللام والطاء من بلط، والصاد والاء من وجد صاحبه. ب- ويكون محايدا حيث تكون بدايته، ونهايته كلتاهما من حروف المجموعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، مثل الباء والراء من عبر، والراء والحاء من فرح، والباء والنون من بان. ج- ويكون مرفقا إذا كان أحد حروفه من المجموعة السادسة، أو السابعة وليس فيه حرف من المجموعة الأولى، أو الثانية، نحو الدالين في عدد، والباء والدال من عبد، والباء والشين من ربش. 2- المقطع المفتوح، وهو الذي ينتهي بحرف علة: أ- يكونهذا المقطع مفخما، إذا بدأ هو أو لاحقه بحرف من المجموعة الأولى، أو الثانية، نحو: الحرف لأول وحركته من طلب - بطل - سطا - غلب - نقل - سقط. ب- ويكون محايدًا، إذا بدأ هو وتاليه بحرف من المجموعة الثالثة، أو الرابعة أو الخامسة نحو الحرف الأول المتحرك من بعد عبد. ج- ويكون مرققا حين يبدأ بحرف من المجموعة السادسة، أو السابعة، ويبدأ تاليه بأي حرف من غير المجموعة الأولى، أو الثانية، وينتهي بأي حرف من غير المجموعة الأولى فقط، نحو الحرف المتحرك الأول من: جبل - سبح - جبر - شرح - تبع - كبس. 4- الكمية: وتأتي بعد ذلك موقعية الكمية التي ترتبط بأبواب ثلاثة رئيسية في اللغة، ونعني بالكمية الطول، والقصر في المقاطع والحروف الصحيحة، وحروف العلة وغالبًا ما تستعمل كلمة الطول بدل اصطلاح الكمية، وهما مفهومان من مفهومات التشكيل، يقصد بهما باب تشكيلي من أي لغة يعينها، فالكمية إذا فكرة تقسيمية تجريدية لا أكثر ولا أقل، ثم هي لا ترتبط بالزمن الفلسفي، أكثر مما يتربط به شكل الفعل الماضي والمضارع، أما المدة فهي اصطلاح أصواتي لا تشكيلي يقاس بوسائل ميكانيكية، ويدخل في مفهوم الزمن، ويمكن استخراجه من المسافة، كما يستخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 السطوح التوقيتية كميناء الساعة، وخط الذبذبة على سطح الورقة وهلم جرا. والكميات، والأطوال المختلفة مفهومات اعتبارية، فالطويل طويل بالنسبة إلى ما هو أقصر، والقصير قصير منسوبا إلى ما هو أطول، ولكن الوقت عامل من عوامل فهم المدة، فإنا لمدة تقاس في علم الأصوات بواحد على مائة من الثانية، والمدة تنسب إلى الصوت، والكمية تنسب إلى الحرف والمقطع، والمدة والكمية يتفقان، ويختلفان فليس من الضروري أن يكون الحرف المشدد، وهو أطول كمية من المفرد أطول مدة في نطق صوته من الحرف المفرد، وهذا الفرق الأخير يوضح الاختلاف بين الكمية والمدة توضيحا تامًا. والذي نستطيع أن ندرسه هنا هو الكمية لا المدة، ذلك بأن دراسة المدة في اللغة الفصحى، تتطلب من الوسائل الميكانيكية، ما لا نملكه الآن ويؤسفني أن أقول: إن جامعة القاهرة لم تتنبه إلى الآن إلى وجوب إنشاء معامل لهذا النوع من الدراسات، على من له من خطورة في الخارج الآن من الوجهتين النظرية والعملية على السواء، ولكنني أستطيع أن أذكر خلاصة دراستي للمدة في لهجة عدن، بعد الاستعداد لها بتجارب كيموغرافية، ومقارنة نتائج هذه التجارب، وقياس ذبذباتها في معمل معهد اللغات الشرقية بلندن، والخلاصة أن النتيجة النهائية لهذه التجارب هي ما يأتي: 1- أطول الأصوات مدة هو المشدد الساكن في آخر المجموعة الكلامية، كالدال في مد. 2- ويليه في ذلك المفرد الساكن الأخير في المجموعة الكلامية، كالدال في بعيد. 3- ثم يليه المشدد في وسط المجموعة الكلامية، كالدال في أدب. 4- ثم يليه ما تبتدئ به المجموعة كالدال في دخل. 5- ثم يليه ما تحرك بعد ساكن، ولم يكن آخرا كالدال في يهدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 6- ثم يليه ما وقع ساكنًا قبل الأخير الساكن في المجموعة الكلامية، كالدال في هدم. 7- ثم يليه ما وقع ساكنًا قبل المتحرك في الوسط، وهو المقصود بالموضع رقم 5 كالدال في يدخل. 8- وأقصر الجميع مدة ما وقع بين صوتي علة، كالدال في هدم. ومن هذا ترى أن بعض الأصوات المفردة أطول مدة في النطق من بعض الأصوات المشددة، وهذا يوضح لك الفرق بين المدة وبين الكمية. أما الكمية في المقطع، فقد سبق أن ذكرنا أن المقاطع العربية ستة، منها قصيران ومتوسطان وطويلان، وقلنا: إن من القصيرين مقفلا ومفتوحًا ومن المتوسطين، كذلك ومن الطويلين مقفل ومزدوج الإقفال، وأوردنا صور المقاطع، كما يأتي: ع ص - ص ع - ص ع ص - ص ع ع - ص ع ع ص - ص ع ص ص. وأما الكمية في الصحاح، فكلنا يعرف المفرد والمشدد، ويعلم أن المشدد أطول كمية من المفرد، بل يعلم فوق ذلك أن الحرف المشدد بحرفين، وأما في العلل فكلنا يعرف الفرق بين الحركة والمد، ويعلم أن المد أطول من الحركة. كل هذه الكميات تقسيمية نظرية لتكوين النظام اللغوي، وإيجاد علاقات بين أقسامه، وأقسام أقسامه فلا يقصد بها رواية شيء عن الزمن الفلسفي، كما يقصد ذلك حين ذكر مدة النطق، أو كما يطلق عليها اصطلاحًا "المدة". ولست أدري إن كان يحق لي أن أقول: إن لفظي المجرد والمزيد الصرفيين من اصطلاحات الكمية، ولكنني أنحب أن ألاحظ ملاحظة عابرة، أن المفروض في المجرد أن يكون أقصر من المزيد، مع أنني لست أجد هذا في يكرم، ويضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 5- النبر: كلنا يدرك أن الكلمات التي نتكلمها من أصوات متتابعة، ينزلق كل تابع منها من سابقه، وليست هذه الأصوات في الكلمة بنفس القوة، وإنما تتفاوت قوة وضعفا بحسب الموقع، وكون صوت من الأصوات في الكلمة أقوى من بقيتها يسمى النبر، فالنبر إذا موقعية تشكيلية ترتبط بالموقع في الكلمة، وفي المجموعة الكلامية، وحده أنه وضوح نسبي لصوت، أو مقطع إذا قورن ببقية الأصوات والمقاطع في الكلام، يكون نتيجة عامل أو أكثر من عوامل الكمية، والضغط والتنغيم، فالضغط لا يسمى نبرا، ولكنه يعتبر عاملا من عوامله، ومع هذا فإنه يعتبر أهم هذه العوامل، وربما كان ذلك؛ لأن النبر يعرف بدرجة الضغط على الصوت أكثر مما يعرف بأي شيء آخر أو؛ لأن الضغط في صورتيه صورة القوة، وصورة النغمة يتسع مجال تطبيقه على النبر أكثر مما يتسع مجال العوامل الأخرى، ويعتبر سويت1 الضغط مما يرتبط بالتركيب لا بالتحليل، وذلك؛ لأنه نسبي دائما يفيد المقارنة باستمرار، إما بين مجموعتين مختلفتين من الأصوات، وإما بين جزئين مختلفين من مجموعة واحدة، أما من الناحية العضلية، فالضغط مجهود يخرج به الهواء من الرئتين، وكل دفعة منه يصحبها إحساس عضلي لهذا السبب، وأما من الناحية الصوتية، فإنه ينتج أثرا يعرف بالعلو يتوقف على مدى الموجات الذبذبية، التي تسبب الإحساس بالصوت، واستعمال سويت لكلمة التركيب يسوقنا إلى فهم معنى الموقعية من كلامه. والكلمات تركيبات من أنساق صوتية، لها نظامها النبري الخاص المستقبل عن نظام النبر في الأنساق الكبرى، "الجمل والمجموعات الكلامية"، والواقع أن النبر في الكلمات العربية من وظيفة المزيان الصرفي، لا من وظيفة المثال، فنحن إذا تأملنا كلمة "فاعل"، نجد أن الفاء أوضح أصواتها لوقوع النبر عليها، وباعتبار هذه الصيغة ميزانا صرفيا نجد أن كل ما جاء على مثاله، يقع عليه النبر بنفس الطريقة مثل قاتل،   1 Primer of Phonetics, 1902 p. 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 حابس، وناقل، ورابط، وعازل، وشاغل، وضارب، وعازم، وخازن، حتى لأمر من صيغه الفاعل: كجاهد، وسافر، تقع في نموذج هذا الوزن، فتتلقى النبر على ههاء الكلمة، ومثل ذلك أن صيغة مفعول، وكل ما جاء على مثالها يقع النبر على عين الكلمة فيها، وما جاء على وزن مستفعل يقع النبر فيه على التاء، وهلم جرا، ومن هنا لا نكون مبالغين، إذا قلنا: إن النبر في الكلمات العربية موقعية تشكيلية وصرفية في نفس الوقت، أما في الأنساق الكبرى "أو السياقات، أو عبارة أخرى، الجمل المجموعات الكلامية"، فيقع ترتيب النبر على غير المقتضات الصرفية البحتة، بل إنه لا يتربط بها، وإن وافقها في الظاهر، هذا النبر الذي في السياق، إنما يكون من وظيفة المعنى العام، أي أنه نبر دلالي، ومعنى هذا أن في اللغة العربية نوعين من وقعية النبر في التشكيل الصوتي. 1- النبر الصرفي. 2- النبر الدلالي. وينقسم النبر الصرفي إلى قسمين بحسب قوة النطق ودرجة الدفعة: أولي، وثانوي، إنما سمي الأولي كذلك لسببين؛ أولا؛ لأنه أقوى من الثانوي، وإن استعمال كلمة لي بهذا المعنى يقتضي كلمة ثانوي بالضرورة، وثانيا؛ لأن موضع النبر الثانوي، إنما يقاس مسافته في المقاطع بالنسبة للأولى، فإذا وضعت قاعدة المسافة بين الأولي، والثانوي بعدد من المقاطع ظهر الإيقاع اللغوي الخاص باللغة العربية، وقاعدة النبر والصرفي كما يأتي: 1- النبر الأولي: أ- يقع النبر على المقطع الأخير في الكلمة، إذا كان من نوع "ص ع ع ص" " ص ع ع ص"، أي من النوع الطويل، مثل قال، استقال، قل، استقل من النوع المتوسط في الكلمات أحادية المقطع، كفعل الأمر من قال. ب- ويقع على ما قبل الأخر، إذا كان متوسطا والآخر متوسطا، سواء كان المتوسط من نوع "ص ع ص" أو"ص ع ع" مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 علّمْ - سلّمْ - عبدك - يتوفاكم - قاتل - جوارٍ. أو كان ما قبل الأخير من نوع "ص ع" القصير مبدوءه به الكلمة، أو مسبوقا بصدر إلحاقي نحو: كتب - حسب - حرم - محترم - انحبس. ج- يقع النبر على المقطع الذي يسبق ما قبل الآخر، إذا كان الآخر يقع مع ما قبله في إحدى الصور الآتية: 1- "ص ع + ص ع ص"، نحو علمك - حاسبك. 2- "ص ع + ص ع ع" نحو علموا - حاسبوا - ضربك. ولا يقع النبر على مقطع سابق لهذه الأخيرة. 2- النبر الثانوي: إن مجال النبر الثانوي في الكلمة أضيق منه في الجملة، أو المجموعة الكلامية، ومع هذا فإن النبر الثانوي، يوجد في الكلمات ذوات المقطعين فأكثر، فالمقطع المنبور نبرًا ثانويًا، يمكن وجوده على مسافات محددة من النبر الأولي، كما يأتي: 1- يقع الثانوي على المقطع الذي قبل المقطع المنبور نبرا أوليا، إذا كان ذو النبر الثانوي طويلا، مثل ضالين - حاجات - مدهامات. 2- ويقع على المقطع الذي بينه، وبين المنبور نبرا أوليًا مقطع آخر إذا كان ذو المنبور الثانوي يكون مع الذي يفصل بينه، وبين المنبور الأولي أحد الأنساق الآتية: أ- مقطع متوسط + آخر متوسط "ص ع ص" أو"ص ع ع" مثل: علمناه - مستبقين - يستخفون - عاشرناهم. ب- مقطع متوسط + مقطع قصير مثل: مستقيم - مستعدة - صاحبوهم. 3- ويقع على المقطع الثالث قبل المنبور نبرًا أوليًا، إذا كانت الثلاثة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لهذا المنبور الأولي تكون نسقا في صورة "متوسط + قصير + قصير أو متوسط" نحو: مستحمين - يستفيدون - ما عرفناهم - محتملوهم. ولا يقع الضغط الثانوي على المقطع الرابع السابق للمنبور الأولي في الكلمة. نبر السباق "أو النبر الدلالي": ونبر السياق مستقل عن نبر الصيغة الصرفية، الذي شرحناه، ولو أنه يتفق معه في الموضع أحيانًا، والفرق بين الدلالي والصرفي، أو نبر السياق ونبر الصيغة، أن نبر السياق يمكن وصفه، على عكس نبر الصيغة، بأنه إما أن يكون تأكيديًا، وإما أن يكون تقريريا، ويمكن تلخيص الفرق بين التأكيدي والتقريري في نقطتين: 1- أن دفعة الهواء في النبر التأكيدي أقوى منها في التقريري. 2- وأن الصوت أعلى في التأكيدي منه في التقريري. وأي مقطع في المجموعة الكلامية، سواء كان في وسطها أو في آخرها، صالح لأن يقع عليه هذا النوع من النبر، والمسافة بين أي حالتي نبر في المجموعة الكلامية، سواء كان كلاهما أوليا أو ثانويا أو مختلفا، لا تتعدى أربعة مقاطع. والواقع أن هذه المسافة يتحكم فيها عامل الإيقاع في الكلام العادي، ولا يظنن ظان أن النبر في الكلام المتصل، "أو في المجموعة الكلامية على حسب ما نسميه هنا"، يقع أوليا فثانويا فأوليا فثانويا على التعاقب، فربما تجاورت حالات من الأولى أو من الثانوي دون أن يتخللها النوع الآخر، ولكن الملاحظ أن المسافات بين كل حالتي نبر، تبدو كأنها متساوية تقريبا، وهذا ما نسميه الإيقاع وللقارئ إن شاء أن يتأمل كلامه؛ ويحدد المسافات بين حالات النبر، وسيجد هذه الظاهرة واضحة كل الوضوح. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن دراسة النبر، ودراسة التنغيم في العربية الفصحى يتطلب شيئا من المجازفة، ذلك؛ لأن العربية الفصحى لم تعرف هذه الدراسة في قديمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ولم يسجل لنا القدماء شيئا عن هاتين الناحيتين، وأغلب الظن أن ما ننسبه للعربية الفصحى في هذا المقام، إنما يقع تحت نفوذ لهجتنا العامية؛ لأن كل متكلم بالعربية الفصحى في أيامنا هذه، يفرض عليها من عاداته النطقية العامية الشيء الكثير، وأظن القارئ يعلم أن القرآن الكريم نفسه يختلف نطقا، ونبرا وتنغيما، "وعلى الأخص في نطق الضاد والجيم، والثاء والذال والظاء، والقاف والكاف"، من بلد عربي إلى بلد عربي آخر، اختلافا يخبر عن نسبة التباين في هذه الناحية بين اللهجات العامية في البلاد العربية المختلفة. 6- التنغيم: يمكن تعريف التنغيم بأنه ارتفاع الصوت وانخفاضه أثناء الكلام، وربما كان له وظيفة نحوية هي تحديد الإثبات، والنفي في جملة لم تستعمل فيها أداة الاستفهام فقد تقول لمن يكلمك ولا تراه: "أنت محمد" مقررا ذلك، أو مستفهما عنه، وتختلف طريقة رفع الصوت، وخفضه في الإثبات عنها في الاستفهام، ولكن كل شيء فيما عدا التنغيم، يبقى في المثال على ما هو عليه؛ وترتيب الكلمات في الجملة، والبناء في الكلمة الأولى، والإعراب في الثانية، وحركة الإعراب وحركة البناء، والنبر الثانوي على الهمزة والأولى على الحاء، كل ذلك إذ يبقى في الحالتين لا يصلح أساسًا للتفريق بين الإثبات والاستفهام، ولكن التغنيم هو ناحية الخلاف الوحيدة بينهما، وما دامت ناحية الخلاف هذه قادرة على أن توضح كلا من المعنيين، فللتنغيم إذا وظيفة نحوية، والوظيفة الأصواتية للتنغيم هي النسق الأصواتي، الذي يستنبط التنغيم منها أما الوظيفة الدلالية، فيمكن رؤيتها لا في اختلاف علو الصوت، أو انخفاضه فحسب، ولكن في اختلاف الترتيب العام لنغمات المقاطع في النموذج التنغيمي، الذي يقوم من الأمثلة مقام الميزان الصرفي من أمثلته، اختلافا يتناسب مع اختلاف الماجريات العامة، التي تم فيها النطق، وليس في العربية وظيفة معجمية للتنغيم؛ لأن اللغة العربية لا تستخدمه بهذه الطريقة، كما تستخدمه الصينية، وبعض لغات غرب أفريقيا. ويمكن تقسيم التنغيم العربي، ومن وجهتي نظر مختلفتين؛ إحداهما شكل النغمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المنبورة الأخيرة في المجموعة الكلامية، والثانية هي المد بين أعلى نغمة، وأخفضها سعة وضيقا، فأما من الوجهة الأولى، فينقسم إلى قسمين: 1- اللحن الأول الذي ينتهي بنغمة هابطة. 2- اللحن الثاني الذي ينتهي بنغمة صاعدة، أو ثابتة أعلا مما قبلها. وأما من الوجهة الثانية، فينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- المدى الإيجابي: 2- المدى النسبي. 3- المدى السلبي. فمجموع التقسيمات إذا يقع في سنة نماذج تنغيمية مختلفة، هي كل ما في اللغة العربية من نماذج التنغيم، وتقف من أمثلتها التي تحصى موقف الميزان الصرفي من أمثلته كما قلنا سابقًا، حتى إننا لنستطيع أن نسميها الموازين التنغيمية؛ كما سمينا الموازين الأخرى صرفية، وهذه الموازين الستة هي: 1- الإيجابي الهابط. 2- الإيجابي الصاعد. 3- النسبي الهابط. 4- النسبي الصاعد. 5- السلبي الهابط. 6- السلبي الصاعد. لقد وقعت على هذا التقسيم في دراستي للهجة عدن، وحاولت بعد ذلك أن أطبقه على اللغة العربية الفصحى، فوجدته وافيا بالغرض، وهذا التقسيم يختلف عن التقسيم التقليدي الذي يستمعله الباحثون اللغويون، فيبنونه على قسمين أحدهما مؤكد، والثاني غير مؤكد، ولكن التأكيد من الأفكار الذهنية؛ ونحب نحن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تقيم الدراسة اللغوية على أساس الشكل والوظيفة، والتأكيد كفكرة ذهنية يكون في الإيجابي، كما يكون في السلبي من هذه المديات، فكما يؤكد المرء بالصوت العالي، يؤكد أيضا بالصوت المنخفض جدا. ويكتب التنغيم كما تكتب الموسيقى على خطوط أفقية، ولكن عدد الخطوط هنا ليس خمسة كما في الموسيقى، وإنما يختلف باختلاف عدد المديات، فيجعل لكل مدى مسافة بين خطين، والمديات هنا ثلاثة؛ فيلزم أن نستعمل في كتابتها خطوطا أربعة تحصر بينها مسافات ثلاث، سفلاها لكتبة المدى السلبي، وهي وما فوقها لكتابة المدى النسبي، والثلاث جميعا لكتابة المدى الإيجابي الذي هو أوسع هذه المديات الثلاثة. ونفرق هنا عمدا بين اصطلاحي النغمة واللحن، فأما النغمة فنقصد بها تنغيم المقطع الواحد في عموم المجموعة الكلامية، فتوصف هذه النغمة بأنها صاعدة، أو هابطة أوثابتة، ونقصد باللحن مجموع النغمات التي في المجموعة الكلامية، أي الترتيب الأفقي للنغمات، التي يشتمل النموذج، أو الميزان عليها مع نظرة خاصة إلى النغمة المنبورة الأخيرة من هذا الترتيب، فالميزان إذا أعم من اللحن والمدى، ويشملهما جميعا في الفهم. ولا يجب أن يفهم القارئ الاصطلاحات "إيجابي" و"نسبي"، و"سلبي" بمعناها في المعجم، فالاصطلاحات بطاقات لمدلولاتها العلمية، التي لا تتطابق كثيرًا مع المعنى المعجمي العام، ويستعمل المدى الإيجابي في الكلام الذي تصحبه عاطفة مثيرة. ولتحديد هذا تحديدًا أكثر ضبطًا نقول: إن الكلام بهذا المدى تصحبه إثارة أقوى للأوتار الصوتية، بإخراج كمية أكبر من الهواء الرئوي، باستعمال نشاط أشد في حركة الحجاب الحاجز. وهذا أكثر ضبطا من استعمال تعريف مبني على الدراسات النفسية؛ لأن علم النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 باعتباره علما مساعدا من أقل العلوم فائدة في الدراسات اللغوية. ويستعمل المدى النسبي في الكلام غير العاطفي، وتفهم سعة المدى وضيقه في محدودية المدى التنغيمي العام في اللغة المدروسة، أي المدى الذي بين أعلى، وأخفض نغمة كلامية تستعمل في المحادثة وذلك؛ لأنه ليس هناك سعة مطلقة وضيق مطلق، بل كل شيء في هذا المجال نسبي: وأما المدى السلبي فيستعمل الكلام الذي تصحبه عاطفة تهبط بالنشاط الجسمي العام كالحزن مثلا. وأما كتابة النغمات نفسها، فكما يأتي: ولعل القارئ لا يحتاج إلى النص على أن النغمة الهاطبة، والصاعدة لا بد أن تصاحب النبر في المقطع، أما النغمة الثابتة فقد تكون في مقطع منبور، أو غير منبور، كما لا يمكن رؤية ذلك في الأمثلة الورادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 لقد تكلمنا من قبل في توضيح المعنى الاصطلاحي للمجموعة الكلامية، وقلنا: إنها سلسلة من الأصوات اللغوية المتصلة في نفس واحد واقعة بين سكتين، وهي بهذا التحديد قد تكون جملة أو كلمة، ونريد الآن أن نتكلم عن اصطلاح آخر، هو المجموعة المعنوية، يعلم القارئ أنه في إلقاء جملة شرطية، يستطيع المرء أن يقسم هذه الجملة على تنفسين، يتكلم في أولهما فعل الشرط، وفي الثاني جوابه وجزاءه، ويمكن أني فعل ذلك في الجملة المصدرة بأما، وفي الجملة الطويلة التي لا يمكن أن تقال جميعها في تنفس واحد، يقسم المرء الجملة إلى أجزاء يقول كلا منها في تنفس مستقل، وعادة تقطيع الجملة عادة ضرورية في المسرح، يزاولها الممثلون على يد المخرج قبل التمثيل الفعلي. وفي كل جملة مقسمة على هذا النمط، يعتبر كل جزء منها مجموعة كلامية مستقلة؛ لأنه يقع بين سكتين، ولكن هذه المجموعات الكلامية مترابطة من جهة المعنى، وقد لا يقوم كل منها مستقلا عن المجموعات الأخرى، دون أن يكون ذلك على حساب المعنى، تصور مثلا أنك اكتفيت بجملة الشرط عن جوابه، أو بما بعد فائها الواقعة في الجواب، أو بالمبتدأ الموصوف بصله عن خبره الجملة ألا يكون كل ذلك نقصا في المعنى؟ إن المجموعات الكلامية المترابطة من جهة المعنى بهذه الصورة، تكون في مجموعها مجموعة معنوية، فالمجموعة المعنوية إذا اصطلاح لغوي عام، والمجموعة الكلامية اصطلاح أصواتي معناه يتصل بالدراسات الطبيعية التي منها التنفس، وقد تكون المجموعة الكلامية مجموعة معنوية، كما في محمد قائم، إذا تمت الإفادة، وقد لا تكون، كما في إن قام محمد؛ لأن الإفادة لا تتم عند هذا الحد، برغم كون إن قام محمد مجموعة كلامية. تخلص من هذا بأن الكلام قد يتم، فيكون مجموعة معنوية، وهو في نفس الوقت مجموعة أو مجموعات كلامية، ولا بد للمجموعة المعنوية من أن تنتهي بنغمة هابطة في التقرير والطلب، والاستفهام غير المبدوء بهل والهمزة، أما في الاستفهام المبدوء بهل والهمزة، وفي المجموعة الكلامية التي لم يتم بها المعنى، فالنغمة النهائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 صاعدة أو ثابته، أعلى مما قبلها، هذه قاعدة عامة نقدمها بين يدي دراسة النماذج التنغيمية المختلفة. أما ترقيم التنغيم فكترقيم الكتابة، وتحمل العلامة فيه من الكتابة محل الشهيق لاسترجاع النفس من الكلام، وكلما جاءت سكتة وجب وجود علامة ترقيمية. وفي التنغيم علامتان ترقيميتان، إحداهما خط رأسي واحد، ليدل على وقفة مع عدم تمام الكلام، وثانيتهما خطان رأسيان، ليدلا على تمامه. ويستعمل النموذج الإيجابي الهابط في تأكيد الإثبات، كقولك في جواب من أنكر أنه هو الذي قام بفعل معين: أنت فعلت هذا أي لا غيرك، أو ادعى أنه فعل شيئا غيره أنت فعلت هذا، أي لا الآخر يجعل النبر، والتأكيد في الجملة الأولى على الضمير، وفي الثانية على اسم الإشارة، مؤكدا النبر في الحالتين وهابطا بالنغمة المنبورة من أقصى علو المدى، ويستعمل أيضا في تأكيد الاستفهام بكيف وأين، ومتى وبقية الأدوات فيما عدا هل والهمزة، أما إذا كان الاستفهام بهل أو الهمزة، فإن النموذج المستعمل في التنغيم هو الإيجابي الصاعد. وللإثبات غير المؤكد يستعمل النسبي الهابط، ومن ذلك التحية والكلام التام، وتفصيل المعدودات والنداء، وما عبر به عن فكرة مكملة لكلام سابق مباشرة كما في "لقد قابلت أخاك ... على دراجته"، والاستفهام بغير هل والهمزة، أما إذا كان الاستفهام بهل والهمزة، أو بلا أداة أبدا، فالمستعمل النسبي الصاعد. ويستعمل السلبي الهابط في تعبيرات التسليم بالأمر، نحو لا حول ولا قوة إلا بالله، وعبارات الأسف والتحسر، وكل ذلك مع خفض الصوت، فإذا كان الكلام تمنيا أو عتبا، فالمستعمل السلبي الصاعد المنتهي بنفحة ثابتة أعلى مما قبلها. والفرق بين الثلاثة مديات "الإيجابي والنسبي والسلبي"، فرق في علو الصوت وانخفاضه، فالإيجابي أعلاها، والسلبي أخفضها وبينهما النسبي. وكم أجد في نفسي أمنية حارة أن ينظم المجمع اللغوي دراسات للتنغيم، تنتهي بخلق مستوى صوابي موحد للقراء، والإلقاء في البلاد العربية كلها، حتى لا تكون. العربية الفصحى خاضعة في كل إقليم للعادات النطقية العامية، وحتى لا يجد العربي غرابة في إلقاء أخيه العربي، فيكون أقدر على فهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 منهج الصرف : المورفيم : بعد أن انتهينا من شرح العناصر الصغرى، التي يتكون منها الكلام تحت عنوان الأصوات، وشرحنا علاقاتها وسلكناها في نظام خاص أو نظم خاصة تحت عنوان التشكيل، ونريد الآن أن نتناول بالتحليل عناصر آخر أكبر من هذه، تحت عنوان آخر هو الصرف، أو البنية، أو ما يطلق عليه الأوربيون "Morphology". ومن طبيعة هذه الدراسة أن تتناول الناحية الشكلية التركيبية للصيغ، والموازين الصرفية، وعلاقتها التصريفية من ناحية، والاشتقاقية من ناحية أخرى، ثم تتناول ما يتصل بها من ملحقات، سواء كانت هذه الملحقات صدورًا، أو أحشاء، أو أعجازًا. ويدور على الألسنة اصطلاح هام في الدراسة الصرفية، هو الوحدة الصرفية، أو المورفيم "morpheme"، يغمض المراد به على كثير من الباحثين في اللغة، حتى ليخلطون في تفسيره وتطبيقه خلطا كبيرا، ولعل ممن وضحوا المعنى التقليدي لهذا الاصطلاح فندريس Vendryes 1. فالمورفيمات في اعتباره عناصر صرفية، وترتبط بين الأفكار التي يتكون منها المعنى العام للجملة، وهذه الأفكار واضحة في السيمانتيمات "Semanteme"، أو نواة المعنى المعجمي. ورأيه في ذلك أن الجملة تحتوي نوعين من العناصر؛ تعبيرات عن أفكار، وعلامات على الارتباط بين هذه التعبيرات، فإذا قلنا: "الحصان يجري"، كان لنا فكرتان: الحصان، والجري، ثم نوحد بين الفكرتين في الجملة المذكورة؛   1 Language,P. 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ونحن نفكر دائما في صورة جمل، ونفرض أن العملية الذهنية التي تربط بين عناصر الجملة، تتم في العقل مع العملية التي تربط بين الفاعل، والفعل في حدود معينة. هذه الذهنية التي يفرضها الاستعمال اللغوي تشمل عملين متعاقبين، التحليل والتركيب، وفي الأول يميز الذهن بين بعض العناصر التي تربط الصورة العامة بينها، وفي الثاني يوحد الذهن بينها من جديد، ليكون منها صورة نطقية. هذه العملية الثانية هي التي تهم علماء اللغة؛ لأن اختلاف اللغات ينبني على اختلاف هذه العلمية في الأذهان. دعنا نفرض إذا أن العقول الإنسانية المختلفة، تجرب أثرا نظريا متحدا للحصان الجاري، وتحلل بنفس الطريقة تلك العناصر التي تكون الصورة، وتنشئ نفس العلامة بين الحصان وبين الجري، إذا تم هذا فسيكون التعبير عن هذه العلاقة مختلفا باختلاف اللغة؛ لأن الصورة اللفظية سيتم تأليفها بطرق مختلفة. فالسيمانتيم في هذه الصورة، عنصر لغوي يعبر عن الفكرة التي في الذهن، كفكرة الحصان، وفكرة الجري، والمورفيم هو العنصر الذي يعبر عن العلاقة بين هذه الأفكار، ففكرة الجري ترتبط هنا ارتباطا عاما بالحصان، عبر عنه بصيغة الغائب، فالمورفيمات تعتبر عن العلاقات بين السيمانتيمات، وهذه الأخيرة عناصر موضوعية من الأفكار، فالمورفيم في عمومه عنصر أصواتي "صوت أو مقطع أو عدة مقاطع"، يدل على العلاقات بين الأفكار في الجملة. ويورد مثالا من اللغة العربية الفصحى، هو زيد يقتل، ليدل على أنه من غير المهم أن يكون المورفيم متصرفا أو غير متصرف، فيقول: أن هذا المثال إذا أريد به أن يدل على الاستمرار في الماضي، فإن فعلا ماضيا يجب أن يسبق هذا الفعل المضارع، ويتم التصريف في كليهما على النحو الآتي: كنت أقتل، كنت تقتل، كنت تقتلين، كان يقتل، كانت تقتل، وهلم جرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ويقول: إن هاتين الصيغتين تحسان دائما صيغة واحدة، حتى لو توسط اسم بينهما، كما في "كان زيد يقتل"، وأولاهما مورفيم بسيط، أما الثانية فسيمانتيم؛ لأن الأولى تدل على علاقة، والثانية تدل على فكرة. أما في اصطلاح هذا الكتاب، فيجري التفريق بين كلمات ثلاث يتصل بعضها ببعض، أولاها "باب"، والثانية "مورفيم"، والثالثة "علامة". 1- "الباب" اصطلاح من علم اللغة العام، له معنى العموم لا الشمول. وهو، إذا صح أن نستعمل اصطلاحًا دي سوسور، يستعمل بالنسبة إلى اللغة المعينة، ثم هو وسيلة تقسيمية، لا يمكن التعبير عنها على النمط الوجودي، فلا ننسب له وجودًا خارجيا، ويمكن إنشاء نظام من الأبواب في اللغة، يعبر عن كل باب منه مورفيم معين. 2- والمورفيم اصطلاح تركيبي بنائي، لا يعالج علاجا ذهنيا غير شكلي، إنه ليس عنصرًا صرفيًّا، ولكنه وحدة صرفية في نظام من المورفيمات المتكاملة الوظيفية، وكل نظام من المورفيات، له علاقة بنظام الأبواب، لا يمكن في اللغة العربية أن يعبر عنها، كالتعبير عن علاقة واحد إلى واحد، أي أنه لا يلزم أن يقابل كل باب في نظام الأبواب، مورفيم في نظام المورفيمات، وربما كان ذلك ممكنا في اللغة التركية مثلا، وكل كلمة طائفة من المورفيمات المتراصة، أي طائفة من الوحدات من نظام مورفيمي، لا يمكن دائما أن نعبر عنه علامات وعناصر صرفية. 3- والعلامة هي العنصر الذي يعبر عن المورفيم تعبيرا شكليا، وتوجد في النطق، وهي إما أن تكون عنصرا أبجديا، أو فوق الأبجدي، بمعنى أنها تكون في شلكها كمية، أو نبرًا أو تنغيما، ويعبر عنها إما إيجابيا بوجودها، أو سلبيا بعدمه، إذ ربما يكون هناك ما يسمى "العلامة صفر"، أو الصيغ الصرفية، وحركات الإعراب، والإلحاقات، وهلم جرا تكون نظاما من العلامات لنظام من المورفيمات، يعبر عن نظام من الأبواب، يتكون منه الصرف والنحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 العربيين، إن علاقة العلامة بالمروفيم أشبه ما تكون بعلاقة الصوت بالحرف، وعلاقة المورفيم باب مثل علاقة الحرف بما ارتبط معه في مخرج تقسيمي واحد، وعلاقة الباب بنظام الأبواب، كعلاقة طائفة من الحروف مرتبط بمخرج تقسمي واحد بالأبجدية التشكيلية بصفة عامة. وذا أردنا التمثيل للترابط بين هذه الاصطلاحات الثلاثة، نقول مثلا: إن باب الفاعل يعبر عنه مورفيم خاص هو الاسم المرفوع، وعلامته محمد، مثلا. فالجملة المنطوقة تتكون من نسق من العلامات الصرفية، بينها الترتيب والتوافق. وفي الصرف مورفيمات لها لأسماء خاصة، كالطلب، والصيرورة، والمطاوعة والتعدي واللزوم، والافعتال، والتكسير، والتصغير، والوقف، وهلم جرا تعبر عنها على الترتيب علامات، هي: استفعل، وانفعل، وأفعل، وفعل، وافتعل، وصيغ التسكير، والتصغير، وعدم الحركة، فالطلب في الصرف مورفيم، وفي النحو والبلاغة باب، وصيغته علامة صرفية، ومثل ذلك يمكن أن يقال في البقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الصيغة : والصيغة بالنسبة إلى المورفيم علامة، وبالنسبة إلى أمثلتها المختلفة ميزان صرفي، فلها هذان النوعان من التسمية، وهي بالاعتبار الثاني ملخص شكلي لطائفة من الكلمات، تقف منها موقف العنوان من التفصيل الذي تحته، ثم إنها باعتبارها علامة لا بد لها أن تدل على معنى خاص هو معنى المورفيم، غير أن هناك فرقا بين معنى العلاة الصرفية التي هي الصيغة، وبين معنى الكلمة التي هي المثال؛ فالمعنى الأول وظيفي، والثاني معجمي. وأنا إن أخرت الكلام عن تعريف الكلمة، وما يحيط بها من نقاش إلى ذكر منهج المعجم، أجدني مدفوعا هنا إلى أن أناقش معنى الصيغة، وإلى شرح معنى الوظيفية فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 خذ مثلا صيغة "فَاعَلَ"، تجد لها معنى وظيفيا خاصا هو المورفيم، ويسميه الصرفيون المشاركة. أضف إلى ذلك أن هذه الصغية لا بد لها أن تكون صيغة فعلية، وهذا جزء آخر معناها الوظيفي، ثم زد عليه أنها بشكلها الحاضر تتخذ ميزانا صرفيا، لما أسند إلى الغائب من هذا الفعل الذي يدل على المشاركة، وهذا جزء ثالث من معناها الوظيفي أيضا، ثم هي بتحديدها الشكلي، وبناء وسطها وآخرها على الفتح، مغايرة تمام المغايرة لصيغة اسم الفاعل، ولصيغة الأمر منها، وهذا جزء سلبي من المعنى، فأنت ترى أننا لم نتعرض للمعنى المعجمي العرفي الذي في قاتل، وجادل، وناضل، وحاسب، وما إلى ذلك من أمثلتها التي توجد معانيها المعجمية مفصلة في القاموس؛ فالمعنى الوظيفي نحوي صرفي، والمعنى المعجمي عرفي، واجتماعي إلى حد ما، وإنما نقول إلى حد ما؛ لأن الصفة الاجتماعية لا تتم إلى في المعنى الدلالي، الذي يكشف عنه تحليل الحدث الكلامي، وسيأتي الكلام عن ذلك في منهج الدلالة. ولكن الصيغة الصرفية، قد لا تكون بمفردها كافية للدلالة على المورفيم، لوجود الغموض فيها، فهي إذا في حاجة إلى المثال ليوضح ما فيها من غموض، خذ مثلا صيغة "فعل"، تجدها مشتركة بين الصفة المشبهة، وبين المصدر، وتجد من أمثلتها "شهم"، و"ضرب"، فإذا وقع الغموض في الصغية هنا، فلن يقع في الأمثلة؛ لأن هذه الأمثلة إما أن تكفي بمفردها لشرح معنى الصيغة، كالمثالين المذكورين، وإما ألا تكفي كما في عدل التي تصلح لمعنى الصفة، كما تصلح لمعنى المصدر، فإذا جاء هذا الغموض في المثال كما جاء في الصيغة، اضطررنا إلى الاستعانة بوسيلة نحوية في تحديد معان صرفية، تلك الوسيلة النحوية هي السياق، ومثل ذلك يقال في صيغة فعيل، التي تأتي صفة مشبهة، ومصدرا وبمعنى اسم الفاعل واسم المفعول، وفعال، التي تأتي صيغة لمفرد، ككتاب، ولجمع، ككلاب، ولمصدر، كقتال، ولا يطعن ذلك أبدا في محدودية المعنى الوظيفي للصيغة؛ لأن هذا المعنى بحكم تسميته وطبيعته، إنما كيون في تحليل السياق؛ والسياق كما قلنا: إحدى الوسائل التي يلجأ إليها أخيرا في إيضاح هذا المعنى، وإذا فما دام هذا هو الحال، فلن يغمض على الفهم معنى وظيفي لغوي أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 والصيغة باعتبارها علامة على المورفيم لا يدخلها الإعلال، أما باعتبارها ميزانا صرفيا، فهو يدخلها، "فالاستقامة" مثال من أمثلة علامة "الاستفعال" الدالة على مورفيم الطلب أو الصيرورة، ولكنها على وزن استقالة، وهذا هو الفرق بين اعتباريها المختلفين، و"بع" مثال من أمثلة افعل، شأنها في ذلك شأن "اضرب"، و"اجلس"، و"احبس"، ولكنهما على وزن "فِلْ"، ومن أمثلة هذه الصيغة أيضا "قِ"، و"عِ"، ولكنهما على وزن "عِ"، ومن هذا يتضح أن تفريقي بين الاعتبارين تفريق مقصود؛ لأن كلا منهما ذو مهمة خاصة في تقرير حقائق البنية اللغوية الصرفية. وتدخل الصيغة في الجدول كما تدخل الأمثلة، فنحن نستطيع أن نصرف الصيغة من غير الاستعانة بأمثلتها، وهذه خاصة من خواص اللغة العربية، وربما كانت في اللغات السامية أيضا، مثال ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ومثل هذا يمكن أن يتم مع كل صيغة من صيغ الأفعال، فيكون نتيجة ذلك تصريفا في داخل مورفيم الافتعال، بحسب اختلاف الضمائر الشخصية، التي يعبر كل منها عن مورفيم آخر هو التكلم، أو الخطاب أو الغيبة، مع مورفيم الإفراد، أو التثنية أو الجمع. واكتفاء الصرف بالصيغة، كاكتفاء الأصوات بالصوت، واكتفاء التشكيل بالحرف والمقطع، استكفاء فرضه التحليل، وإلا فليست هذه إلا مفهومات منهجية، لا تعبيرات باللغة. ونحن لا نتكلم أصواتا، ولا حروفا، ولا مورفيمات، ولا صيغا، وإنما نتكلم جملا مفيدة مركبة من هذه الأجزاء التحليلية، التي يعتبر النظر المنهجي مسئولًا عن أكثرها، حيث يخلقها باعتبارها وسائل تقسيمية، أو أدوات لتناول مادة اللغة تناولا ينبني على منهج خاص، فالصيغة جزء من المنهج لا من اللغة نفسها، وإنك تقول: "خرج محمد بالأمس"، فتتكلم على شرط اللغة؛ ولا تقول: "فعل مفعل بالفعل"؛ لأن هذا ليس من اللغة. واللغة العربية محظوظة جدا بوجود هذه الصيغ الصرفية؛ لأن هذه الصيغ تصلح لأن تستخدم أداة من أدوات الكشف عن الحدود بين الكلمات في السياق، ويشكو معظم لغات العالم من عدم وجود مثل هذا الأساس، الذي يمكن به أن تحدد الكلمات. والباحثون في لغات غير لغاتهم جديدة عليهم، يعانون التعب والمشقة اللذين يجدونهما في سبيل هذا التحديد، فيعمدون إلى كل الوسائل الممكنة يستخدمونها في هذا الغرض، ويظهر القصر والعسف في استخدامها واضحا، فأما اتخاذ الصيغة الصرفية أداة من أدوات خلق الحدود بين الكلمات في السياق، فميزة للغة العربية من كبريات ميزاتها، التي تفاخر بها، وسنذكر في تعريف الكلمة الذي سنورده في منهج المعجم بعض الوسائل، التي يتذرع الباحثون بها في هذا السبيل. وتساعد الصيغة في الأعم الأغلب على تحديد الباب أيضا، ذلك؛ لأن معناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الوظيفي هو المورفيم، والمورفيم نفسه تعبير عن الباب، فكأن الباب أحد معاني الصيغرة غير المباشرة، ومعنى هذا الكلام أننا إذا أخذنا "فَاعَلَ"، فسنجد كل ما على مثالها داخلا في باب الفعل الماضي الذي يدل غالبا على المشاركة، "نقول غالبا احترازا من "سافر"؛ فالصغية هنا دلت على النسبة إلى قسم من أقسام الكلام، وهذه ميزة من ميزات اللغة العربية أيضا، واعتماد هذه الدلالة هي ما يسميه علماء اللغة بالتحديد الجراماطيقي "Grammatical Designation". وإذا لم تدل الصيغة بنفسها على هذا التحديد، يبقى مثاله محايدا من الناحية الجراماطيقية، "وقد مثلنا لهذه الحالة بكلمة "عدل""، حتى يوجد ما يحدده، ويوضح معناه الجراماطيقي. ولكن الصيغة في اللغة العربية، تعجز عجزا تاما عن أن تشمل طائفة كبيرة من العناصر اللغوية، غير الخاضعة للاشتقاق كالضمائر، والأدوات. ويلاحظ أن معاني هذه العناصر جميعها غير محدودة من الناحية المعجمية، محدودية الكلمات ذات الصيغ الصرفية، وهذا هو الذي دعي برتراندرسل1 إلى أن يسمى بعض هذه العناصر، "خواص مركزية شخصية"، حيث يقول: "إنني أسمي الكلمات التي يختلف معناها باختلاف المتكلم، ووضعه في الزمان والمكان "خواص مركزية شخصية" والأسس الأربعة لهذا النوع هي أنا، وهذا، وهنا، والآن".   1 Human knowledge p. 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الاشتقاق : لاحظ علماء اللغة أن ارتباطا معينا يوجد بين الكلمات من جهة اللفظ والمعنى، فقالوا بوجود ارتباط وضعي بين هذه الكلمات، ولقد جذب انتباههم من هذا ما يأتي:- 1- أن الكلمة العربية ذات أصول ثلاثة، يعبر عنها في الميزان الصرفي بقاء الكلمة وعينها ولامها، وأنها تأتي مرتبة بهذا الترتيب. 2- أن الكلمات العربية تأتي على هيئات صرفية تسمى الصيغ، وأن الخلاف بين الكلمات من الناحية التركيبية، هو في الواقع اختلاف بين هذه الصيغ. والارتباط الذي قال به النحويون، والصرفيون بين الكلمات المتحدة الأصل المختلفة الصيغة، ارتباط لفظي أولا، ومعنوي ثانيا. أما لفظي؛ فلأن حروف الأصل توجد في الصيغتين المترابطتين بنفس الترتيب، وإن اختلف الهيكل العلي في كلمة عنه في الأخرى، فلا بد إذًا أن ترد الكلمتان إلى أصل واحد، وأما معنوي؛ فلأن الملاحظ أن الكلمتين اللتين توصفان هذا الوصف، تعبران عن معنى عام واحد تختلفان في دائرته، كما تختلف الصيغتان، لا كما تختلف المادتان المعجميتان، فلا بد إذًا أن ترد هاتان الكلمتان إلى مادة واحدة. ويلاحظ هنا أن الاختلاف اللفظي صرفي، وأن الاختلاف المعنوي معجمي، فإذا اغتفر استعمال علم المعجم في تحديد المفهومات الصرفية، أمكن القول بأن الاشتقاق، "رد لفظ إلى آخر لموافقته إياه في حروفه الأصلية، ومناسبته له في المعنى". ويرى بعض العلماء تقسيم الاشتقاق إلى صغير، وكبير، أو أكبر، ويقول ابن جني: إن الصغير "ما في أيدي الناس وكتبه كأن تأخذ أصلا من الأصول فتقرأه، فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه، وذلك كتركيب "س ل م"، فإنك تأخذ منه معنى السلامة، في تصرفه نحو سلم ويسلم، وسالم وسلمان وسلمى والسلامة، والسليم اللديغ أطلق عليه تفاؤلا بالسلامة، وعلى ذلك بقية الباب إذا تأولته"1، فذلك هو الاشتقاق الذي نريده في دراستنا الصرفية هذه. ولذلك سنكتفي به عن الكبير والأكبر؛ لأن أحدهما لا يعترف بالترتيب في حروف المادة، كشرط من شروط الاشتقاق؛ ولأن الآخر يعتمد في دعوى الاشتقاق على التشابه في المخرج بين أي حرفين، يحل أحدهما محل الآخر كنعق ونهق، وإنما اخترنا الصغير لدراستنا هذه؛ لأنه أكبر خطرا وأكثر استعمالا في الناحية التطبيقية في اللغة.   1 الخصائص ص 625. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لم يقنع النحويون بالقول بمجرد العلاقة بين المشتقات، وإنما أصروا على أن يكيفوا هذه العلاقة بكيفية خاصة، فقرروها على أساس الأصل والفرع، بمعنى أن صيغة ما لا بد أن تتخذ أصلا لبقية الصيغ، وأن تسمي أصل الاشتقاق، وأن تعتبر الصيغ الأخرى، مشتقة منها، وذهب هؤلاء اللغويون في ذلك مذهبين شهيرين: "ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتق من الفعل، وفرع عليه"1، وأتوا في ذلك بحجج ذكرها كمال الدين بن الأنباري في الإنصاف، وأورد منها أن املصدر يصح لصحة العقل، ويعتل لاعتلاله؛ وأن الفعل يعمل فيه، وأنه يذكر تأكيدًا للفعل، وأنه لا يتصور معناه إلا بفعل فاعل، وأنت ترى أن المراد هنا هو جعل الفعل أصل المشتقات، لا أصل المصدر فحسب، وإنما اختص المصدر بالذكر؛ لأن البصريين جعلوه أصل الاشتقاق، فجعل الكوفيون من هذا الأصل فرعًا، وانسحب ذلك على كل ما عداه من الصيغ بالضرورة، ويرد ابن الأنباري على حجج الكوفيين واحدة بعد الأخرى، فيقول ردا على حججهم: إن المصدر لا يأتي إلا صحيحا، ولا يعتل منه إلا ما فيه زيادة عن الأصل، وهو فرع عن الثلاثي، وهذا الذي يعتل إنما يعتل للتشاكل، وذلك لا يدل على الأصالة والفرعية. ويجوز أن يكون المصدر أصلا، ويحمل على الفعل الذي هو فرع، وكون الفعل عاملا في المصدر لا يدل على أصالته؛ لأن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء، ولا خلاف في أن الحرف والفعل ليسا أصلا للاسم؛ ولأن المصدر معقول قبل وقوع الفعل، فهو قبله، وأما أن المصدر يأتي مؤكدا للفعل، فذلك لا يدل على الأصالة في الفعل أيضا؛ لأن التوكيد غير مشتق من المؤكد في مثل "قام زيد زيد"، فكذلك هنا، وأما أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، فذلك باطل؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل على المصدر، وأما صيغة الفعل، فإخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته. ولعل القارئ يرى أن النحاة هنا، قد خرجوا في محاجتهم عن شكلية اللغة إلى مضايق المنطق والفلسفة، وبنوا جدلهم على نظرية ظهر فسادها، هي نظرية   1 الإنصاف ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 العامل1، ولكن المصريين لم يكونوا أبعد في جدلهم عن هذه المثالب، فقد ذهبوا: "إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه"2، واحتجوا بحجج منها أن الدليل على أن المصدر أصل للفعل، وأن المصدر يدل على زمان مطلق، والفعل يدل على زمان معين، والمطلق أصل المقيد، فالمصدر أصل الفعل، ومنها أن المصدر اسم، والاسم يقوم بنفسه، ويستغني عن الفعل، ولا عكس، ومنها أن المصدر يدل على الحدث، ولكن الفعل يدل عليه وعلى الزمان، والواحد أصل الاثنين، فالمصدر أصل الفعل، ومنها أن المصدر له مثال واحد، والفعل له أمثلة مختلفة، كما أن الذهب نوع واحد، وما تفرع منه أنواع مختلفة، ومنها أن الفعل بصيغته يدل على ما يدل عليه المصدر، وهو الحدث، ولكن المصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل، ولا بد أن يكون الأصل في الفرع لا العكس، ومنها أنه لو كان المصدر مشتقا من الفعل، لجرى على سنن في القياس، ولم يختلف شكله، ولكنه لا يجري على ذلك، بل يختلف كاختلاف الأجناس مثل "الرجل"، "والثوب"، والتراب، ومنها أنه لو كان المصدر مشتقا من الفعل، لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان، وعلى معنى ثالث، كما دلت أسماء الفاعلين، والمفعولين عليهما، وعلى ذات الفاعل أو المفعول به. ومنها أن الدليل على أن المصدر ليس مشتقا، أن الهمزة لا تحذف منه، في نحو "إكرام"، كما تحذف من المشتق نحو مكرم، ومنها أن اسم المصدر يدل على صدور ما عداه عنه. والنظرة الفاحصة تكشف عن مبلغ تضارب هذه الحجج في منطقها، حتى لو قيل: إن صاحب كل حجة منها غير قائل الحجة الأخرى؛ لأن هذا لا ينفي أن هذه الحجج، قد جاءت بها مدرسة البصرة المدافعة عن نظرية موحدة، فهذه الحجج تكشف عن عدم الوحدة في فلسفة النظرية البصرية، فالمصدر في نظرهم اسم حينا، ودال على الزمان حينا، واسم دال على الزمان حينا آخر ودال على الحدث   1 راجع الرد على النحاة لابن مضاء في نقض هذه النظرية. 2 الإنصاف ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 دون الزمان في بعض الحجج، ثم من الذي يستسيغ أن المصدر يدل على الزمان، حتى لو كان هذا الزمان مطلقا؟ أولا يقول ابن مالك. المصدر اسم ما سوى الزمان من ... مدلولي الفعل كأمن من أمن. فإذا علمنا أن ابن مالك يشرح بألفيته مذهب البصريين، أكثر ما يشرح، عرفنا مدى ضعف الحجة في القول بأن المصدر يحتوي عنصر الزمن، فعنصر الزمن هذا من خواص الأفعال، لا الأسماء الجامدة، ولا الأسماء المشتقة، وليس حرص البصريين على المنطق أقل من حرص الكوفيين، ويكفي أن نلحظ أن حججهم تشمل كلمات مثل "الأجناس" و"القياس"، و"يقوم بنفسه"، و"وزمان مطلق". والزمان المطلق، أو الفلسفي لا صلة له بالنحو، وسيأتي شرح ذلك في منهج النحو، إن شاء الله. القول بأن صيغة ما أصل لكلمة، أو صغية أخرى مما يتنافى مع المنهج اللغوي الحديث، فلا يطيق هذا المنهج اصطلاحات مثل "نائب الفاعل"؛ لأن في ذلك تلميحا إلى أن الفاعل أصل للمرفوع بعد ما بني للمجهول، وليس ذلك كذلك. يقول الصبان تعليقا على قول الأشموني: "النيابة مشروطة بأن يغير الفعل عن صيغته الأصلية": هذا كالصريح في أن المبني للمفعول فرع المبني للفاعل، وهو مذهب الجمهور، وقيل: كل أصل"1، فحتى بعض النحاة الأقدمين كما نرى، كان يستهجن أن يجعل صيغة أصلا لصيغة أخرى، قالقول بأن كلمة أو صيغة أصل لكلمة، أو صيغة أخرى مردود في القديم والحديث، فلا الفعل، كما يقول الكوفيون، ولا المصدر، كما يقول البصريون، أصل للمشتقات؛ لأنك قد رأيت أن الأدلة على أصالة كل منهما ضعيفة، لا تقاوم النظرة الفاحصة، فما وجه القول إذا في الاشتقاق، وما نظرة علم اللغة الحديث إليه؟. وجه القول، كما أراه في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، أن مسألة الاشتقاق تقوم على مجرد العلاقة بين الكلمات، واشتراكها في شيء معين، خير من أن   1 حاشية الصبان على الأشموني ج2 ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 تقوم على افتراض أصل منها وفرع، وهو رأي فطن إليه السيوطي حين قال1: "قالت طائفة من النظار الكلمة كله أصل". والقدر المشترك بين الكلمات المترابطة: من الناحية اللفظية واضح كل الوضوح؛ ذلك هو الحروف الأصلية الثلاثة، فأنت إذا نظرت إلى "ضرب" و"ضارب" و"مضروب" و"مضرب" و"مضارب"، و"ضَرْب"، وما تفرع من ذلك، رأيت أنها جميعا تشترك في "ض ر ب"، وتتفرع منها، فطن إلى ذلك المعجميون، ولم يفطن إليه الصرفيون، فهذه الحروف الثلاثة الصحيحة جذور اللغة العربية، التي تتفرع منها الكلمات، ولست أحب أن أدعي أنها جذور اللغات السامية جميعًا، وتشترك فيها، وتتخصص كل منها بوضع المعنى المناسب للصيغة، حتى إن بعض دارسي اللغات السامية، يدرسون المادة بعينها دراسة مقارنة في هذه اللغات جميعا، ويضعون معاجمهم بهذه الطريقة2. وكلمات اللغة جميعًا مشتقة بهذا الاعتبار، "وقالت طائفة من المتأخرين اللغويين كل الكلم مشتق، ونسب ذلك إلى سيبويه، والزجاج"3، فما دام لكل كلمة من كلمات العربية مادة تصاغ منها، فلها اشتقاق منسوب إلى هذه المادة. ولا يبقى في الصرف ما يسميه الصرفيون الاسم الجامد، فيجب أن يبنوا التقسيم إلى جامد ومشتق، إذًَا على أساس جديد، وليس اشتقاق ما يسمونه بالجامد من نوع الاشتقاق الذي يحاوله بعض اللغويين تعليلا لأسماء الأعلام والأجناس، "قال أبو عبد الله محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: حدثني هارون بن زكريا، عن البلعي عن أبي حاتم، قال: سألت الأصمعي لم سميت منى منى؟، قال: لا أدري، فلقيت أبا عبيدة فسألته، فقال: لم أكن مع آدم حين علمه الأسماء، فأسأله عن اشتقاق الأسماء، فأتيت أبا زيد فسألته، فقال: سميت منى لما يمنى فيها من الدماء"4، ومن قال: إن رمضان مشتق من الرمضاء، وأن قضاعة مشتق من انقضع الرجل عن أهله أي بعد عنهم، أو تقضع بطنه إذا أوجعه، وأن اليمن مشتق من اليمن، والشام من الشؤم أو التشاؤم، وأن الخيل من الخيلاء، فإنه يعلل التسمية ولا يعقد صلة اشتقاقية صرفية، فإذا علمنا أن الأسماء لا تعلل، وضح لنا أن الذين جاءوا بهذه التعليلات، قد أضاعوا أوقاتهم، ولم يأتو بشيء ذي خطر.   1 المزهر للسيوطي ج1 ص 202. 2 انظر مثلا A Hebrew & Chaldee Lex. to the Old Testament B. Julius Fuerst. 3 المزهر ج1 ص 202. 4 المزهر ج1 ص 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وسائل خلق الرباعي : قلنا: إن الكلمة العربية ذات ثلاثة أصول، ترتبط بها من الناحية الاشتقاقية، وقلنا كذلك: إن هذه الأصول الثلاثة، إلى جانب استعمالها من الناحية الصرفية، تتخذ مادة للكلمة من الناحية المعجمية، ادعينا ذلك للغة العربية على الأقل، ولم نحبب أن ندلف من الميدان العربي الخاص إلى الميدان السامي العام؛ لأن اللغات السامية الأخرى، ليست موضوع هذا الكتاب من ناحية؛ ولأن دعوى اشتراكها في الأصل الثلاثي بحاجة إلى تفصيل في القول، والأدلة أكثر مما تسمح به المسافة المخصصة في هذا الكتاب. ولكن في اللغة العربية صيغا رباعاية، يقول النحويون عن بعضها: إنه من مزيد الثلاثي، ويقولون عن بعضها الآخر: إنه أصلي في حروفه الأربعة، فماذا عسى أن يكون علاج المنهج الحديث لهذه الرباعيات. نقول مبدئيا: إن المنهج التقليدي في البحوث الصرفية، قد اعتبر الهمز في نحو أكرم، والتضعيف في نحو كرم، من الزيادات التي يؤتى بها لغرض نحوي، هو التعدية، فالمعلوم أن الفعل الماضي "كرم" المضموم العين من الأفعال الازمة، ولكن أكرم وكرم كليهما متعديان، ولسنا نحب أن نخوض مرة أخرى في أن بعض الكلمات أصل لبعضها الآخر، ولا أن ندخل في مناقشة، ما إذا كان الفعل اللازم هنا أصل للمتعديين أو لم يكن، ويكفي أن نشير إلى أن الحروف الأصلية الثلاثة في هذه الصيغ الثلاث هي الكاف، والراء، والميم، وأما ما زاد عن ذلك، فهو من المحلقات الصرفية التي سيأتي الكلام عنها في حينه، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ومن الملحقات الصرفية أيضا حرف اللين في قاتل، وقوتل، فالحروف الأصلية في هذين الفعلين هي القاف، والتاء، واللام، وأما حرف المد فقد جيء به ليعبر عن قيمة خلافية شكلية، وموازية لقيمة خلافية في المعنى، وتفرق القيمة الخلافية هنا بين "قتل" و"قاتل" وبين "قتل" و"قوتل" من جهة أخرى، وهو تفريق يقتضيه الفرق في المعنى بين الصيغتين. ومن الملحقات الصرفية أيضا، أن تتكرر فاء الكلمة بين العين واللام، إذا تماثلت العين واللام في الثلاثي، فأصبحتا حرفا واحدا مشددا1، فإذا أخذت أفعالا ثلاثية مثل جر، هد، عس، كف، ثر، زل، وجدت أن الرباعي تتكرر فيه الفاء بين عنصري الحرف المشدد بعد فكه، فرباعيات هذه الأفعال جرجر، وهدهد، وعسعس، وكفكف، وثرثر، وزلزل، والفاء المكررة في كل هذا زيادة صرفية إلحاقية، لا حرف أصلي؛ تشهد بذلك الصيغة الثلاثية المجردة، ولقد حرصت اللهجات العامية على استخدام هذه الطريقة الصرفية في الإلحاق استخداما واسعا جدا، إما من الثلاثي المشدد الآخر على النمط المذكور، كما في الأفعال الآتية:   1 وذهب أبو إسحاق في نحو قلقل، وصلصل، وجرجر، وقرقر إلى أنه فعفل، وأن الكلمة لذلك ثلاثية: الخصائص ص450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فأنت ترى أن الفعل الرباعي ذو مادة ثلاثية، إما أن يستعمل منها فعل ثلاثي له نفس معنى الفعل الرباعي، وإما أن تستعمل منها صيغ أخرى تدور حول نفس المعنى، وترى كذلك أن الحرف الزائد قد يكون جاء، أو سينا أو شينا أو عينا، أو باء، أو زينا، وقد يكون أي حرف من الحروف الأبجدية. وقد استخدمت اللهجات العامة نفس الطريقة في الزيادة أيضا، وسنورد لك طائفة من الأفعال الرباعية العامية، ونضع أمام كل منها الحروف الثلاثة التي نقترحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أصلًا لهذه الرباعيات، وقد نجد أن هذه الثلاثة تكون بنفسها فعلا ثلاثيا عاميا من من لهجة أو أخرى، أو فعلا عربيا، كما يأتي: والزائد هنا أيضا حرف غير مقيد بحروف "سألتمونيها"، ولعل ذلك أن يكون مما يعزز دعوى الكلمة العربية تعزيزا كاملا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الملحقات : سيرجع بنا الكلام عن الملحقات الصرفية إلى فكرة المعنى الوظيفي مرة أخرى. فهذه الملحقات، سواء كانت من حروف الزيادة، أو من الأدوات، أو مما يسمونه الضمائر المتصلة، تتخذ معنى وظيفيا لا معجميا، ومعناها الوظيفي في الكلمة التي تلحق هي بها هو المورفيم، الذي تعبر عنه باعتبارها علامة، والذي يعبر هو بدوره عن باب من أبواب النحو، أو الصرف، فإذا أخذنا مثلا "يحترمونهم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وجدنا أن الياء صدر "Prefix"، في الكلمة تعبر عن مورفيم المضارعة الذي يعبر عن باب المضارع، ثم ندع الحروف الأصلية الثلاثة "ح ر م"؛ لأننا إنما نتكلم هنا عن الملحقات، ولكننا لا بد أن نقع على التاء، وهي حشو "Infix" في الكلمة يعبر عن مورفيم الافتعال، الذي يعبر بدوره أيضا عن باب الافتعال. أما الواو فأحد ثلاثة أعجاز "SUFFIXES" في الكلمة، وهي باعتبارها علامة تعبر عن مورفيم الفاعلية، الذي يعبر عن باب الفاعل، أو قل باب المسند إليه، أو العمدة، والنون علامة على مورفيم الرفع، الذي يعبر عن باب رفع الفعل المضارع في حالة تجرده من الناصب والجازم، ثم الضمير المتصل عجز في الكلمة أيضًا، وهو علامة على مورفيم المفعولية، الذي يعبر عن باب المفعول، أو قل باب الفضلة. ففي الكلمة هنا طائفة من المورفيمات هي المضارعة، والافتعال والفاعلية أو العمدية، والرفع، والمفعولية، أو الفضيلة، وهذه المعاني جميعا وظائف تؤديها الإلحاقات في الكلمة، ويختص كل منها بملحق خاص به، لكل منها معنى هو الوظيفة التي يؤديها، أو بعبارة أخرى هو المورفيم الذي يعبر عنه، فمعنى الملحقات إذا وظيفي أولا، وقبل كل شيء، ولقد سبق أن شرحنا الفرق بين المعنى الوظيفي، والمعنى المعجمي، فلا حاجة بنا هنا إلى أن نعيد القول في ذلك مرة أخرى. فأنت ترى إذا أن المحلقات أنواع ثلاثة كما سبق: 1- صدور Frefixes. 2- أحشاء Infixes. 3- أعجاز Suffixes. فالصدر ما ألحق بأول الكلمة وتصدرها، ليؤدي معنى صرفيا معينا، بتعبيره عن مورفيم، أو وحدة صرفية، وأشهر الصدور في اللغة العربية حروف المضارعة، وهمزة التعدية المفتوحة، والحركة التي في أول الافتعال، ثم الحركة والنون الساكنة في أول الانفعال، والحركة والسين والتاء في الاستفعال، والتاء المفتوحة في تفعل وتفاعل، والتاء والميم في تمفعل كتمنطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وإنما عنينا بالحركة التي في أول الافتعال، والانفعال والاستفعال حركة همزة الوصل، وتلك هي الحركة التي في أول المقطع القصير المقفل "ع ص"، ومنها أيضا ما يناسب هذه الصدور في تصاريف الصيغ المذكورة كمفتعل، ومنفعل، ومنها الميم التي في أول مفعول من الثلاثي، ثم ما ذكرناه في وسائل خلق الصيغ الرباعية من الزيادات الحرة، التي تأتي في بداية الكلمة كما في شقلب، وسقلب، بمعنى قلب، وزغرد المأخوذ من غرد، والكلمات العامية شردح المأخوذ من ردح، وصرمح المأخوذ من رمح، وبرطع المأخوذ من رتع، وهلم جرًّا. والحشو ما جاء في وسط الكلمة، ليؤدي معنى صرفيا معنيا فيها، أي ليعبر عن مورفيم أو وحدة صرفية معينة هي وظيفته، وأشهر الأحشاء في اللغة العربية تاء الافتعال، والتضعيف في مضعف العين من الثلاثي، والفاء المكررة في نحو هَدْ هدَ، وما زيد زيادة حرة في وسط الكلمة في أفعال مثل دحرج من درج، وبعثر من بثر، والأفعال العامية شعبط من شبث، وفرطح من فتح، وهردم من هدم1، وفنجر من فجر، وطربق من طبق، ودفلق من دفق، وخلبط من خلط، وشرط الحشو أن يكون بين حرفين أصليين. والعجز ما ألحق بآخر الكلمة، فأدى معنى وظيفيا نحويا أو صرفيا، بتعبيره عن مورفيم خاص، يعبر عن باب من أبواب النحو أو الصرف، فإذا اتخذنا صيغة المسند إلى الغائب نموذجا خاليا من الإعجاز، صالحا، لأن يتقبلها، وجدنا أن أشهر الأعجاز في اللغة العربية الضمائر المتصلة، ونون الوقاية، وحركات الإعراب، وحروفه، وعلامة التأنيث، وتشمل جموع التكسير كثيرا من الصدور والأحشاء والأعجاز، كما تحتوي على كثير من مجرد التغيرات الداخلية. والمهم في الباب أن يقدر القارئ المهمة الأساسية للملحقات، ومعناها الوظيفي، وبعدها عن المعنى المعجمي، انظر كيف شئت في المعجم، وسوف لا تجد نون الوقاية مختصة بمدخل معجمي خاص، وسوف لا تجد كذلك كاف الخطاب، ولا ياء المتكلم، مع ورودها مفعولا، ومضافا إليه، ولكنك تجد معاني كل ذلك في النحو والصرف، اللذين يحددان وظائفهما ومعانيهما الوظيفية.   1 أما إذا كان الفعل من ردم، فالزيادة فيه صدر لا حشو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الجدول التصريفي، والتوزيع الصرفي: إن دراسة الصرف لا تكون إلا دراسة رأسية، وتلك هي الصبغة التي يصطبغ بها منهجه، ونقصد بالدراسة الرأسية دراسة الجدول، سواء أكان تصريفيا أم اشتقاقيا، والواقع أن فكرة رأسية الجدول، إنما تقصد فيما يقابل أفقية السياق. ولتوضيح هذه الفكرة نورد المثال الآتي ونعلق عليه: وتنبني الفكرة الرأسية على الخلافات الشكلية في المادة الواحدة، أي اختلاف الصيغة الذي يتسبب عن التكييفات الصرفية المناسبة، أما الفكرة الأفقية، فمبناها على العلاقات بين الأبواب النحوية في السياق، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله، في منهج النحو . ولقائل أن يقول: كيف تدخل الإلحاقات التي في صيغ الجدول في هذا التناول الرأسي، مع أنها، بحسب معناها، في قوة الكلمات المستقلة؟ فالتاء المضمومة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 "ضربت" فاعل، أي مسند إليه، ولكنها تدخل في تصريف الفعل، وكذلك تدخل "نا" من "ضربنا"، والتاء المفتوحة من "ضربت"، والمكسورة من "ضربت"، و"تما" من "ضربتما"، "وتم" من "ضربتم"، وهلم جرا، ويقع الجواب على ذلك في شطرين: الأول أن هذه، وإن كانت مستندا إليها لا يمكن أن تستقل بنفسها فتعزل عن الصيغة، ومن ثم سميناها ملحقات صرفية، لا كلمات، فالتاء وإن أعربت فاعلا، ليست إلا عجزا في "ضربت"، ويدل على الفاعل كما دل تجرد المسند للغائب من المحلقات على الغائب، والثاني أن هذه الملحقات علامات، تدل على مورفيمات، تدل على أبواب. فالتاء في "ضربت"، علامة تدل على مورفيم الفاعلية، الذي يدل على باب الفاعل في النحو، إذًا فليست هذه الملحقات كلمات، وإنما هي أجزاء من كلمات. وسيأتي في تعريف الكلمة، حين الكلام عن منهج المعجم أن كل ما لا يستقل بنفسه، لا يسمى كلمة. ولقائل أن يقول أيضا: إننا لم نسمع عن ما تسميه مورفيم الفاعلية في دراسة الصرف، ولكننا سمعناه عن باب الفاعل في النحو، والجواب على ذلك أن نمثل بوجهي عملة النقد، وبصفحتي الورقة، حيث تعدد جهات الشيء الواحد. فالفاعل ذو وجهين: وجه صرفي تدل عليه العلامة، ويمكن وصفه بأنه شكلي، وهذا هو المروفيم، ووجه نحوي، تدل عليه الوحدة الصرفية التي هي المورفيم، ويوصف بأنه وجه تقسيمي، ينبني فهمه على العلاقات في السياق، وهو الباب فالفاعل إذا مورفيم باعتبار، وباب باعتبار آخر، وليس هناك تناقض إذا بين التسميتين الصرفية والنحوية. ويقوم الجدول التصريفي على أساس التطريز اللغوي أيضا، وقد سبق شرح هذا الاصطلاح، فارجع إليه في منهج التشكيل الصوتي، ولنزيد الفكرة وضوحا نسوق إليك هذا الجدول، لترى توزيع الصيغ فيه وكيف يتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وكما قلنا: إن جدول الأصوات، وجدول الحروف يشبهان رقعة الشطرنج، وفصلنا القول في وجه الشبه، نؤكد وجه الشبه هنا بين هذا الجدول وبين الرقعة، ففي هذا الجدول خطوط رأسية ستة هي: المفرد المذكر، والمفرد المؤنث، والمثنى المذكر إلخ، وخطوط أفقية هي المتكلم، والمخاطب، والغائب، وفيه مربعات يمتلئ كل منها بصيغة خاصة، بينها وبين الصيغ الأخرى جهات خلاف تكون جزءا سلبيا من معناها، غير أن بعض المربعات هنا أكبر من البعض الآخر؛ ففي قسم المتكلم مثلا، نجد التقسيم إلى مفرد في عمومه، أي بما يشمل المذكر والمؤنث، ثم ما عدا المفرد في عمومه أيضًا، ومثنى المخاطب بقسميه مربع واحد، فالفكرة التطريزية قائمة هنا، كما كانت قائمة في الأصوات والتشكيل، وكما تقوم في كافة فروع الدراسات اللغوية الأخرى. وأما التوزيع الصرفي، فليس المقصود منه التصريف، بل التحديد، خذ مثلا صيغة صرفية معينة مثل ضارب، وقاتل موقوفا عليهما بالسكون، إذا نظرنا إلى هاتين الصيغتين في انعزالهما عن السياق، كما هما الآن، لم نستطع أن نحددهما تحديدًا صرفيًا دقيقًا، فهما تصلحان اسمي فاعل، كما تصلحان فعلي أمر، وإنما تتحدد كل صغية أي منهما تحديدًا صرفيا بأحد شيئين: 1- ورودها في السياق، حيث تبدو محددة بعلاقاتها المتشابكة. 2- وضعها في توزيع صرفي على النحو الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ويتضح من كل طائفة من هذه الطوائف، ما المقصود بضارب في أولها. والمحايدات الصرفية من هذا النوع كثيرة في اللغة العربية، ياتي معظمها على صيغة فاعل هذه، ومن صيغة فعل كحسب، وهرب، وصيغة فعل كشره، وجزع. والفكرة الرأسية قائمة في التوزيع الصرفي، كما كانت قائمة في الجدول التصريفي؛ لأن الصرف كما قلنا في مبدأ هذا الكلام: ينبني منهجه على هذا الاتجاه الرأسي، بعكس النحو الذي ينبني على الاتجاه الأفقي السياقي، الذي تدرس فيه العلاقات بين الأبواب النحوية، ممثلة في الكلمات التي في المثال المدروس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 منهج النحو مدخل ... منهج النحو: لقد ذكرنا أن النحو دراسة العلاقات بين أبوابه، ممثلة في الكلمات التي في النص، فنحن حين نعرب نترجم الكلمات إلى أبواب، ليمكن أن ننظر إليها في ضوء علاقاتها النحوية، فإذا أعربنا "ضرب محمد عليا"، لمن نقنع بضرب كما هي، وإنما سميناها باسم باب نحوي هو الفعل الماضي، ولم نقع بمحمد كما هو، فسميناه باسم باب آخر هو الفاعل، ولا بعلي على حاله، فسميناه باسم باب المفعول. والسبب الذي نحول من أجله الكلمات إلى أبواب واضح جدا، وهو كما ذكرنا أن النحو دراسة العلاقات بين الأبواب، لا بين الكلمات، ويقول ابن مالك: وبعد فعل فاعل إلخ، ولا يقول: وبعد ضرب محمد؛ لأنه يتكلم عن الأبواب لا عن الأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فحين تتحول الكلمات بالتحليل الإعرابي إلى أبواب، تتضح العلاقات التي بينها؛ لأن هذه العلاقات مقررة في قواعد النحو، وكل باب من هذه الأبواب، معنى وظيفي للكلمة المعربة به، فحين نقول إن المعنى الوظيفي "لضرب"، أنها فعل ماضي، ونقصد أنها تقوم في السياق بدور الفعل الماضي، وتؤدي وظيفته النحوية الخاصة به، وحين قال النحاة قديما: إنا الإعراب فرع المعنى، كانوا في منتهى الصواب في القاعدة، وفي منتهى الخطأ في التطبيق؛ لأنهم طبقوا كلمة المعنى تطبيقا معيبا، حيث صرفوها إلى المعنى المعجمي حينا، والدلالي حينا، ولم يصرفوها إلى المعنى الوظيفي. والحق أن الصلة وثيقة جدا بين الإعراب، وبين المعنى الوظيفي، فيكفي أن تعلم وظيفة الكملة في السياق، لتدعي أنك أعربتها إعرابًا صحيحًا، وتأتي وظيفة الكلمة من صيغتها ووضعها، لا من دلالتها على مفهومها اللغوي، ولذلك يستطيع المرء أن يعرب كلمات لا معنى لها، ولكنها مصوغة على شرط اللغة العربية، ومصروفة على غرار تراكيبها. وإذا لم يصدق القارئ هذا الكلام، فليسمح لي بأن أجرؤ على خلق هذا النص الآتي على مثال اللغة العربية، وإن لم يكن هذا نصا عربيا، فكل كلماته هراء: "حنكف المستعص بسقاحته في الكمظ فعنذ التران تعنيذا خسيلا، فلما اصطقف التران، وتحنكف شقله المستعص بحشله فانحكز سحيلا سحيلا، حتى خزب". لكأني بالقارئ الآن قد بدأ في إعراب هذا النص، وكأني أسمعه يقول: حنكف فاعل ماضي، والمستعص فاعل، وبسقاحته جار ومجرور متعلق بحنكف، إلى أن يتم له الإعراب الصحيح. ولكن مهلا! كيف يستطيع القارئ أن يعرب كلمات، ليس لها معنى في القاموس، مع أن نصها المسوق هنا لا يدل على معنى دلالي خاص؟ الجواب بسيط جدا؛ لأن هذه الكلمات الهرائية تحمل في طيها معنى وظيفيا، فالكلمة الأولى في النص تؤدي وظيفة الفعل الماضي لسببين: الأول أنها جاءت في صيغته، والثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أنها وقعت موقعه، وتقوم الكملة الثانية بدرو آخر، والثالقثة بوظيفة ثالثة، وهلم جرا، فالإعراب إذًا فرع المعنى الوظيفي، لا المعنى المعجمي، ولا المعنى الدلالي، وأظننا قد فرقنا بين هذه المعاني الثلاثة في مكان سباق من هذا الكتاب، ومن هنا كان قول النحاة صوابًا، وكان تطبيقهم خاطئًا. ولا يمكن أن تقوم دراسة نحوية صحيحة، دون أن يدخل في منهجها علم الأصوات، وعلم التشكيل الصوتي، وعلم الصرف، والباب الذي لا يستغنى عنه من علم التشكيل في الدراسة النحوية هو باب الموقعية؛ لأن النحو مليء بالسلوك الموقعي للكلمات، أي أن الموقع يتحكم إلى حد كبير في الإعراب، وما يدل عليه من حركات وعلامات، ألست ترى موقعية واضحة في كسر آخر فعل الأمر في "اضرب الولد"، وآخر المضارع في "لم أضرب الولد"، مع أن الأول مبني على السكون من الناحية التقسيمية، والثاني مجزوم؟ فالموقعية هنا، أو على وجه التحديد موقعية التقاء الساكنين، هي التي اقتضت الحركة الأخيرة في الفعلين، وقد سبق أن شرحنا الدور الذي يلعبه التنغيم في التفريق بين التقرير والنفي، هذا مثال من أمثلة كثيرة جدا على ضرورة الإحاطة بالأصوات، والتشكيل الصوتي في أية دراسة نحوية، ولقد كان النحاة القدماء هم واضعي علم القراءات، فساعدتهم معرفتهم بالقراءة والأصوات التي فيها على أن يأتوا في النحو بما أتوا به. أما الصرف، ومدى ارتباطه بالنحو، فدليله أن النحاة القدماء لم يفصلوا بين منهجيهما في التناول، ويكفي أن تنظر مثلا إلى ألفية ابن مالك، ثم تحاول أن تفصل فيها بين أبواب النحو وأبواب الصرف، وأنا واثق أن الأمر سيتطلب منك تفكيرًا عميقًا، وأنك ستجد بعض الأبواب مستعصية على الإضالة إلى هذا المنهج أو ذاك، لاختلاط المنهجين فيها. وهذه المناهج الأربعة "الأصوات، والتشكيل، والصرف، والنحو"، هي ما يطلق عليه في مجموعة اسم الجراماطيقا "Grammar"، فمن قال: إنني أدرس اللهجة الفلانية من جهة الجراماطيقا، والأصوات، أو الجراماطيقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والتشكيل، أو الجراماطيقا والصرف، أو الجراماطيقا، والنحو، فهو مخطيء فيما يقول؛ لأن الجراماطيقا اسم يشمل كل هذه المناهج. والنحو دراسة الجمل التامة من ناحية العلاقات السنتاجماتية Syntagmatic relations أو السياقية، في مقابل الصرف الذي يدرس العلاقات البراديجماتية Paradigmatic relations أو الجدولية، وإلى جانب ذلك يدرس النحو الأبواب العامة لمعاني الجملة كالتقرير، والنفي، والاستفهام، والتأكيد، وهلم جرا، وهنا يدخل المنطق، فحذار من الخلط بين النحو والمنطق. وإذا علمنا أن الجراماطيقا تعالج المعنى، حتى حدود المعجم، ثم يبدأ دور المعجم في تحديده على مستوى الكلمة، حتى يصل به إلى حدود الدلالة التي تعالجه على مستوى اجتماعي، يشمل الجملة، والماجريات المحيطة بها، ظهر لنا أن المعنى الذي تدرسه الجراماطيقا هو المعنى الوظيفي فحسب، هو معنى يحدد وظيفة الصوت، فوظيفة الحرف والمقطع والموقع، والنبر والكمية والتنغيم، فوظيفة المورفيم والصيغة، فوظيفة الباب من أبواب النحو، ذلك هو قسط المعنى الذي يدرسه علم الجرماطيقا بفروعه الأربعة، ولعل ذلك يوضح أن الدراسات اللغوية جميعا، إنما تتجه إلى تحديد المعنى، سواء باعتبارها فرادى أو مجتمعة. والمعنى المدروس هنا هو مدلول العلامات اللغوية، سواء كانت هذه العلامات أصواتا، أو كلمات أو جملا، فهو معنى يوصل إليه عن طريق المنهج الشكلي، وليس المقصود هنا المعنى النفسي، أو المعنى الذي تبحث فيه الابستيمولوجيا "علم أصول المعارف"؛ لأننا نباعد بين الفلسفة وبين الدراسات اللغوية؛ إذ نريد أن نجعل المعلومات اللغوية كلها براجماتية، تنبني على الاستقراء بالحس، لا ترانسندنتالية تنبني على الحدس والتخمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 " أقسام الكلام ": لقد وضحنا في بداية هذا البحث الفرق بين اللغة والكلام، وقلنا: إن الكلام حركات عضوية مصحوبة بظواهر صوتية، ويقوم على دراسته فرع خاص من فروع الدراسات اللغوية هو الأصوات، ونود أن نضيف هنا أن النحاة قد استعملوا الكلام بمعنى الكلمات أحيانًا، فسموا تقسيم الكلمات إلى اسم وفعل وحرف تقسيما للكلام، وقد يبدو فكها أن نقول: إننا لا حاجة بنا في دراسة "الكلام" إلى أن ندرس "أقسام الكلام"، ولكننا إذا أدركنا أن الكلام الأول يقصد به الحركات العضوية، وأن الكلام الثاني تقصد به الكلمات1، بدا لنا هذا القول في صورة الحقيقة التي تعلو على النقد، ولقد قسم النحاة القدماء الكلمات على أسس لم يذكروها لنا، وإنما جابهونا بنتيجة هذا التقسيم إلى اسم وفعل وحرف، ولكننا إذا نظرنا إلى هذا التقسيم في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، أمكننا أن نصل إلى شيئين. 1- أن الكلمات العربية يمكن أن ينقد تقسيمها القديم. 2- أن هذا النقد ينبني على أسس، يمكن استخدامها في تقسيم الكلمات تقسيما جديدًا، ونحن الآن مطالبون أن نأتي بهذه الأسس، التي ينبني عليها تقسيم الكلمات، وسنجيب على هذه المطالبة بإيراد الأسس الآتية، وشرح طريقة تطبيق كل منها في التقسيم: 1- الشكل الإملائي المكتوب: هذا هو الأساس الأول من أسس التقسيم، فنحن نستطيع أن نقول: إن طائفة من الكلمات العربية يمكن وصفها بأنه "طائفة الواو والنون"، وإن من هذه الطائفة كلمة "مسلمون"، وليس منها كلمة "مجنون"؛ لأن تحليل هذه الطائفة من الكلمات، يكشف لنا عن عدم تشابههما في قبول التنوين، فلا نجد في اللغة العربية "مسلمونًا"، كما نجد "مجنونًا"، و"ملعونًا" و"مأفونًا"، وهلم جرا. فالشكل الإملائي هنا أساس من أسس التفريق بين طائفتين من الكلمات، إحداهما في صيغة الجمع، والأخرى في صيغة المفرد.   1 انظر معنى الكلمة في منهج المعجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ويقال نفس الشيء في التفريق بين "مسلمات"، "ونبات"، وبين "مصري"، و"كرسي"؛ لأن الألف والتاء تتخلى عن "مسلمات"؛ ولأن الياء تتخلى عن "مصري"، ولا تتخلى عن "كرسي". وإذا تأملنا طائفة الكلمات التي تنتهي من الناحية النطقية، بصوت من أصوات الفتحة الطويلة، "وتلك هي الأسماء المقصورة، والأفعال المعتلة الآخر بالألف"، وجدنا الشكل الإملائي يعين كثيرًا على تحديد الأصل الثالث من أصولها؛ لأن ما كان أصله الثالث واو من هذه الطائفة كتب بالألف، وما كان أصله الثالث ياء كتب بالياء؛ كما يظهر ذلك في الفرق بين رمى وسما، وبين هدى وعَلَا. وما بدئ إملائيًا بألف ولام، فهو من طائفة خاصة من الكلمات، تسمى طائفة الأسماء المعرفة بالأداة، ولا يغرنك من الكلمات مثل "ألقى"، التي هي فعل ماضي، فتعتبرها من هذه الطائفة للأسباب الآتية: 1- أن الألف واللام من المعرف بالأداة يمكن أن تحذفا من هذه المعرف، بعكس الفعل الذي لا يمكن أن تحذفا منه. 2- أن همزة الأداة همزة وصل، بعكس الهمزة التي في أول الفعل. 3- أن همزة أداة التعريف همزة وصل داخلة على المقطع "ع ص"، ولهذا لا يقع علهيا النبر أبدًا، بخلاف همزة "ألقى"، فهي بداية لمقطع منبور من نوع "ص ع ص"؛ وهنا تدخل دراسة التشكيل الصوتي في النحو. وما لحقه التنوين في آخره، فهو من طائفة الأسماء المجردة من أداة التعريف، ومن الإضافة، ولست أظن القارئ يدخل في هذه الطائفة كلمات مثل: "ائذن"، و"استأذن"، و"أركن"، و"أستهجن"، و"يحسن"، وهلم جرا، للأسباب الآتية: 1- أن طائفة الأسماء يمكن أن يحذف منها التنوين بدخول الأداة، ولا تدخل الأداة على الأمثلة الفعلية المذكورة. 2- أن نون التنوين ساكنة أبدًا، ولكن نونات الأفعال متحركة بالرفع عند عدم الوقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 3- أن ضمير الوصل إذا دخل على الطائفة الأولى حذفت نونها، وإذا دخل على الثانية بقيت النون كما هي. كل أولئك دلالات إملائية هي أسس ينبني عليها التفريق بين أنواع الكلمات، والتقسيم الذي يمكن أن تنقسم إليه هذه الكلمات. 2- التوزيع الصرفي: وإلى جانب استخدام أداة التعريف في تقسيم الكلمات، على الأساس الشكلي الإملائي، يمكن استخدامها على أساس التوزيع الصرفي أيضا، ولقد ذكرنا شيئا عن التوزيع الصرفي في منهج الصرف، فارجع إليه إن شئت. لقد قلنا: إن بعض الصيغ تعتبر محايدة من الناحية الصرفية، وذكرنا طائفة من هذه الصيغ. ونزيد الآن أن المحايد الصرفي صالح، لأن ينتظم في سلك أحد قسمين من أقسام الكلمات، ونمثل لذلك هنا بالمحايدين "راح"، و"باع"، فهاتان الكلمتان غامضتان بشكلهما الحاضر، ولكنهما تتضحان إذا وزعنا كلا منهما توزيعا صرفيا على النحو الآتي: فباع "1" اسم بدليل دخول الأداة عليها في توزيعها، وباع "2" فعل؛ لأن الأداة لا تدخل عليها كما تدخل على قسيمتها، ولأسباب أخرى ليس هذا محلها، تدخل تحت عنوان الشامل "علامات الفعل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ويمكن أن يجري نفس الشيء بالتفريق بالإضافة، حيث يجري التوزيع على النحو الآتي: إسكنر. فالفروق هنا يمكن أن تتضح في موضعين، أولهما حركة المضافة في مقابل حركة الفعل الماضي، وثانيهما حركة المضاف إليه في مقابل حركة المفعول أو الفاعل. كل ذلك إنما يجري على دعوى الوقف بالسكون على "بَاعْ" و"رَاحْ"، أما إذا اعتبرناهما متحركين، فهما غير محايدين من الناحية الصرفية. 3- الأسس السياقية: ترتبط الناحية الشكلية للكلمات في السياق بعلاقاتها بما قبلها وما بعدها؛ وقد رأينا كيف كانت أداة التعريف دليلا على اسمية ما بعدها، وأن ياء النسب دليل على اسمية ما قبلها، كما أن "سوف"، تقوم دليلا على فعلية ما يليها، وأداة التعريف في الفرنسية مثلا، لا تقف عند بيان الاسمية في مصاحبها، وإنما تدل بشكلها أيضا على تذكيره وتأنيثه، وهذا ما نفرد له علامة منفصلة عن أداة التعريف في العربية، ولا نستطيع، إلا على أساس سياقي أن أن نفرق بين "هُمْ" باعتبارها ضميرًا منفصلا، وبينها باعتبارها ضميرا متصلا؛ لأنها بشكلها الإملائي، قد لا تدل على اتصال أو انفصال، بدليل المقارنة في الأمثلة الآتية: إسكنر. فالشكل الإملائي هنا لا يجدي في التفريق بين الضميرين، وإنما نحتاج في التفريق إلى الموقع في السياق. والسياق هو المكان الطبيعي لبيان المعاني الوظيفية للكلمات؛ فإذا اتضحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وظيفة الكلمة، فقد اتضح مكانها في هكيل الأقسام التي تنقسم الكلمات إليها، وقد وضحنا في مكان سابق أن السياق يجدي في هذه الناحية إلى درجة توضيح وظائف الكلمات، حتى في جملة هرائية، كالتي ذكرناها من قبل فما بالك بكلمات موصوفة في نص أدبي، تستخرج منه القواعد النحوية، وظني أن النحاة العرب، وقد استخرجوا قواعدهم من النصوص الأدبية، قد اعتمدوا في تقسيم الكلمات على الأسس السياقية فحسب، وإذا نظرنا إلى بيتي ابن مالك الذين يقولان: بالجر والتنوين والندا وأل ... ومسند للاسم تمييز حصل بتا فعلت وأتت ويا افعلي ... ونون أقبلن فعل ينجلي وجدنا أن كل العلامات التي ذكرها يمكن -بل يتعين- استخراجها من السياق في النص الأدبي، ولعل من محاسن النحو العربي أنه اعتمد على الشواهد والنصوص في مبدأ نشأته، وإن كان تطبيق قواعده في انقلب تمرينا عقليًا، يبيح ما لا شاهد عليه إلا القياس في النهاية. 4- المعنى الأعم، أو معنى الوظيفة: وقد بينا أن هذا المعنى ايتضح في السياق أكثر ما يتضح، ولكن قسطا منه يتضح خارج السياق، فالفرق بين "محمد" و"يقوم"، يتضح بمجرد النظر إليهما، ولو كان ذلك خارج السياق، وسيبدو لأول وهلة أن "محمدا" اسم علم، وهذه وظيفته التي يؤديها في النحو، وأن "يقوم" فعل مضارع، وتلك هي وظيفته أيضًا. والتحديد بالاسمية، أو الفعلية الذي يأتي نتيجة لمعنى الوظيفة، أو المعنى الأعم، تقسيم للكلمة في أحد صوره، ويتضح ذلك بالتأمل في الكلمات الآتية: عَلي - عَلَى- من - قائم - سمج - استغفار - يتعلم - عربي - كتاب - مساجد - هو - الذي. فكل كلمة من هذه الكلمات، يمكن أن تنسب إلى قسم من أقسام الكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بمجرد النظر إليها، وذلك؛ لأنها تتحد معنى أعم يتضح في وظيفتها التي تؤديها في اللغة، وموقعها من النظام النحوي العام. 5- الوظيفة الاجتماعية: يلاحظ أن لبعض الكلمات دلالات اجتماعية خاصة؛ لأنها تدخل في تحديد العلاقات التي ينبني عليها المجتمع، والكلمات الآتية مثلا من هذا النوع: أب - أم - مولود - رئيس - مرءوس- قائد - مقود - موظف - صديق - مدرس - طالب - أقارب - أعداء - زملاء. ومنها أيضًا أنا - أنت - هو - نحن - أنتم - هم - هذا - هذه - هؤلاء - أولئك - وهلم جرا، ويلاحظ أن الدلالة الاجتماعية للطائفة الأولى من الكلمات، تختلف عهما في الطائفة الثانية وهي الضمائر، ذلك؛ لأن كلمات الطائفة الأول ذات دلالتين، إحداهما مطابقية، والأخرى التزامية، إذا صح أن نستعمل اصطلاحات المنطق في دراسة النحو، بعكس كلمات الطائفة الثانية، ولكن هناك جامعا بين الطائفتين، هو أنك إذا أخذت أية كلمة من كلماتها صح أن تستخدم هذه الكلمة، للدلالة على أي شخص تسخدام من أجله، فكل الناس أب أو أم، أو مولود أو رئيس، أو مرءوس أو قائد، أو مقود وهلم جرا، وكلهم يقول: أنا ونحن، ويخاطب بأنت وأنتم، ويقال له هو وهم، ويشار إليه بهذا أو هذه، ولهم جرا، فالقسم الأول من هذه الكلمات أسماء، والقسم الثاني ضمائر شخصية، أو إشارية. ولقد تعددت المؤلفات التي تقوم بدراسة تواريخ ظهور الكلمات، وترتيبها في حياة الأطفال بالنسبة إلى هذه الوظيفة الاجتماعية1، ولكن ليس من هذه ما يضيف جديدًا إلى موضوعنا هذا. والتقسيم، والتجريد أساسان لكل نشاط علمي أيا كان نوعه، ونقصد بالتجريد   1 أقر مثلا A.F. Watts, Language & Development of children. وأيضا: Lewis, Sterns, and Susan isacs books. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 خلق الاصطلاحات التي تدل على الأقسام، ويظل الباحث الذي لا يتعمد على هذين الأساسين تائها في فوضى المفردات المبعثرة، ونوع التقسيم الذي يهدف إليه الباحث العلمي، خاضع لقانون الحالات الموضوعية Objective Conditions، وهو لا ينطبق بأي حال على التقسيمات غير الواعية التي تقوم على الغريزة، ولا ينطبق أيضا على التقدير الشخصي "Commonsesnse"؛ لأن العلم لا يقوم على أي أساس شخصي ذاتي. وليس هناك ما هو شخصي مثلا في "5-1=4"، ولا في:"H2O= ماء". وكثيرا ما يختلف التقدير والتقسيم في العلم عن التقدير، والتقسيم الشخصيين؛ فالقيطس مثلا ليس من فصيلة السمك من الناحية العلمية، وتنفصل التقسيمات اللغوية العلمية عن التقسيمات المنطقية، ويجب أن تظل كذلك دائمًا، فالمنطق يعني بخلق أبواب تدرج تحتها الأشياء الحقيقية، وقد قلنا: إن أرسطو خلق عشرة أبواب سماها المقولات؛ ولو كان لغته غير اللغة اليونانية لاختلفت فلسفته عن شكلها الحاضر، وقضايا المنطق وأقيسته لا تنطبق على اللغة، والقاعدة المتعبة في التقسيمات النحوية هي اعتبار ما كان له تعبير شكلي من الأقسام العقلية. ويعامل الباحث كلمة "المعتزلة"، مثلا معاملة المفرد في اللغة العربية، سواء وردت في قولنا: "المرأة المعتزلة"، "أو فرقة المعتزلة مع أن ثانيتهما جمع من الناحية العقلية، ومثل ذلك يقال في المسلمة من "المرأة المسلمة"، وقول الشاعر: "وحاربتنا بالسيوف المسلمة" ولا فرق من الناحية المنطقية بين الإنسان، والناس في المثالين الآتيين: خلق الإنسان ضعيفا - يحب الناس المال. فالكلمتان تدلان على بني آدم في عمومهم، ولكن الفرق واضح من الناحية النحوية، حيث تعتبر إحدى الكلمتين مفردًا، والثانية اسم جمع، ومع أن الفعلين في المثالين مختلفان من الناحية النحوية، يدل كلاهما على الاستمرار من الناحية المنطقية، ومهمة الدراسات اللغوية أن تقرر الحقائق الخاصة بها فحسب، تاركة حقائق المنطق للمناطقة، فإذا قسمنا الكلمات العربية على هذه الأسس الخمسة المذكورة، فسنجد أن الأقسام التي تنتج من ذلك أربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 1- الاسم 2- الفعل. 3- الضمير 4- الأداة. ويشترك الضمير مع الاسم، في أنه يدل دلالة غير معينة على ما يدل عليه الاسم دلالة معينة، ويشترك مع الأداة في أنه يخرج من القاعدة العامة، القائلة: إن للكلمة العربية أصولا ثلاثة، وفي أنه لا يقبل العلامات المميزة للاسم جميعها، فلا تدخل عليه أل مثلا، أما "أل" التي في "الذي"، فهي من بنية الكلمة، لأداة تعريف لضمير الصلة، ويشمل الضمير: 1- ضمير الشخص "أنا إلخ". 2- ضمير الصلة "الذي إلخ". 3- ضمير الإشارة "هذا إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وسائل الترابط في السياق : إن ما يجعل السياق سياقًا مترابطًا، إنما هي ظواهر في طريقة تركيبه ورصفه، لولاها لكانت الكلمات المتجاورة غير آخذ بعضها بحجز بعض، في علاقات متبادلة تجعل كل كلمة منها واضحة الوظيفة في هذا السياق، وتنقسم الوسائل التي تخلق هذا الترابط إلى ثلاثة أقسام: 1- وسائل التماسك السياقي Transitivity. 2- وسائل التوافق السياقي Coneord. 3- وسائل التأثير السياقي Governance أو Regimen. وسنشرح كلا من ذلك على حدة: 1- يقول عبد القادر الجرجاني1: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك، علمت علما لا يتعرضه الشك: أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، وينبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها: ما معناه وما محصوله، وإذا نظرنا في ذلك علمنا أن لا محصول   1 دلائل الإعجاز ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لها غير أن تعتمد إلى اسم، فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعتمد إلى اسمين، فتجعل أحدهما خبرًا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدًا له أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة، أو حالا أو تمييزًا، أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيًا أو استفهامًا، أو تمنيًا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطًا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذللاك الحرف، وعلى هذا القياس". فهذا الترتيب الذي يقول به عبد القاهر بين الكلمات في السياق، هو أساس التماسك بينها، والواقع أنه ترتيب بين الأبواب في نظرنا، وهو ما نخالف فيه بعد القاهر، على أن هذا العلامة قد فطن إلى ضرورة التماسك السياقي على أي حال، كشرط من شروط البلاغة، وجعله مبنيا على المعنى، وواضح هنا أن هذا المعنى ليس معجميا ولا دلاليًا، وإن قصد به عبد القاهر ذلك، وإنما هو معنى وظيفي، يدور حول وظيفة الباب في السياق. يعمد بعض المؤلفين أحيانًا، وعلى الأخص أصحاب الحواشي، إلى الإتيان بالمبتدأ في صفحة، ثم بالخبر بعده بصفحات، فما الذي يجعل هذا الخبر مترابطًا مع ذلك المتبدأ؟ إنه ولا شك التماسك السياقي؛ ولولا ذلك التماسك لظل المبتدأ المسكين يتطلب خبره، إلى أن يتم الكتاب بعونه تعالى، ثم انظر بعد ذلك في "ضرب محمد عليًا"، لترى فيها عددًا من العلاقات المتشابكة، محمد فاعل لضرب، وعلي مفعول بها، وقد جاء ضرب في صيغة المفرد الغائب، ليتماسك مع محمد الذي يطلبه بهذه الصورة، ووجود علي في الجملة منصوبا قضى بالرفع لمحمد، وبصفة التعدي لضرب، وهلم جرا. 2- والتماسك السياقي يقتضي توافقًا بين أجزاء معينة في السياق في بعض النواحي الآتية، أو كلها: أ- التكلم والحضور والغيبة "الشخص". ب- الإفراد، والتثنية، والجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 "العدد" ج- التذكير والتأنيث "النوع". وبالنظرة العارضة إلى الجدول التصريفي الآتي، ترى التوافق بين جزئي الجملة: وليس التوافق من مميزات الجدول التصريفي فحسب، بل هو عام في كل سياق. لغوي، ويقوم الترقيم في الكتابة بتبيين القطع المتماسكة في السياق، فتفضل الشولة بين القطعتين المستقلتين في الجملة الواحدة، وتفصل النقطة بين الجملتين التي لا تعتمد كل منهما على الأخرى، وهلم جرا. ويظهر ذلك في المثال الآتي: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّا لا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والتوافق ملحوظ بين المبتدأ والخبر، وبين الفعل والفاعل، وبين التابع والمتبوع، فمحمد قائم، لا قائمان، ولا قائمون، ويقوم محمد، لا يقومان ولا يقومون وقام محمد الفاضل، لا الفاضلان، ولا الفاضلون ولا الفضلاء، وقام محمد تاجر القطن، لا تاجرا القطن، ولا تجاره، وهلم جرا، وقام هو نفسه، لا نفساهما ولا أنفسهم، وهلم جرا، فإذا كان التوافق ملحوظا في الجملة الاسمية ذات المبتدأ والخبر، وفي الجملة الفعلية ذات الفعل والفاعل، وفي التابع والمتبوع، فهو ملحوظ إذًا في الجزء الأهم الأعظم من أجزاء النحو العربي. 3- والتماسك والتوافق أثران من آثار التأثير السياقي الملحوظ في تركيب الجملة، ولقد ذكرنا العلاقات المتبادلة بين الفعل والفاعل، والمفعول في "ضرب محمد عليا"، ونحب أن نضيف هنا أن التطريز اللغوي، "أو القيم الخلافية التي تميز كل باب في السياق عن الأبواب الأخرى"، مسئول إلى حد كبير عن رفع محمد، ونصب علي، ومعنى ذلك أن القيم الخلافية بين أبواب النحو، سبب في اختلاف حركات الإعراب، فالاختلاف بين وظيفة الفاعل ووظيفة المعفول في الجملة أدى إلى رفع الأول، ونصب الثاني، ويظهر أن بعض النحاة القدماء قد فطن لهذا، وقال به. يقول ابن مضاء1: "وأما من يرى أن العرب إنما راعت المعاني، وجعلت اختلاف الألفاظ في الغالب دليلا على اختلاف المعاني، فإنه يجيز ... إلخ". ويقول في موضع آخر2: "وتقول: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، أي لا تجمع بينهما، ولو جزم لنهاه عن الجمع والتفرقة، ولو رفع لنهاه عن أكل السمك، ووجب له شرب اللبن". فابن مضاء هنا يجعل اختلاف الحركات لاختلاف المعاني الدلالية، ولو أنصف لجعلها لاختلاف الوظيفة النحوية التي يؤديها "تشرب" في الجملة، سواء أكانت هذه الوظيفية عطفًا، أم استئنافًا، أم غير ذلك. فاختلف الوظيفة مؤثر في الجملة إلى حد   1 الرد على النحاة ص26. 2 الرد على النحاة ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 كبير، وذلك الاختلاف في الوظيفة هو المقصود بالتطريز اللغوي، والقيم الخلافية. وهذا في الواقع مساهمة في نقد نظرية العامل؛ لأن القيم الخلافية إذا أثرت في السياق هذا التأثير، لم يكن هناك داع لافتراض عامل، ومعمول في الجملة، ولإيضاح ذلك نقول: إن الأبواب الرئيسية في النحو ذات مواقع معينة في السياق؛ فالفعل قبل الفاعل دائما، والمبتدأ يسبق الخبر في الغالب، والإشارة تسبق المشار إليه، والموصول يسبق الصلة، والموصوف يسبق الصفة، وهلم جرا. فإذا جاء اسم منصوب؛ فنصبه على الخلاف بينه وبين الفاعل، وتقدم الخبر على المبتدأ، إنما يكون مثلا لاختلاف الوظيفة في نحو "زيد قائم" عنها في "أقائم زيد". وإذا تأخرت الإشارة عن المشار إليه في نحو "لقاء يومكم هذا"، فللخلاف بين "يوم" في حالة الإضافة كما في المثال، وبينه في حالة اتصاله بأداة التعريف، كما في هذا اليوم، وهلم جرا، وليس القول بأثر القيم الخلافية في السياق قولا بنظرية جديدة للعامل؛ لأن القيم الخلافية لا تعمل، وإنما تُرَاعَى، وهي فروق سلبية، لا عوامل إيجابية. وهي، من ناحية أخرى، يمكن أن تنبني عليها نظرية نحوية شكلية تامة، ليس لها ما لنظرية العامل من التناقض، والحاجة إلى التأويل، والتمحك. نخلص من ذلك إلى أن ما يجعل السياق مترابطًا، إنما هو ظواهر فيه تفرق بينه وبين نسق من الكلمات، التي لها مجرد المجاورة بلا رابط، نحو "محمد في بل قم على قبائل راكب"، فهذه كلمات متراصة ينقصها التماسك، والتوافق، والتأثير، ولو توفرت لها العناصر المذكورة، لأصبحت سياقا عربيًا لا غبار عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 مظاهر التماسك السياقي: قلنا: إن التماسك السياقي ينبني على العلاقات المتشابكة بين أجزاء السياق، أي بين الأبواب النحوية فيه، وهذا يتضح في مظهرين من مظاهره هما: 1- الحالة. 2- الزمن والجهة. وسنشرح كل واحدة منها على حدة: 1- الحالة: هنا أيضا يجب أن نلاحظ أن العلاقة التي نسميها الحالة، ليست إلا علاقة شكلية بين الأبواب، أو بين الكلمتين من باب واحد، وهي مع ذلك جزء آخر من أجزاء التطريز النحوي، وللحالة مجال في الأسماء، والأفعال، والأدوات؛ أي أنها تجد تعبيرها الشكلي في أولئك جميعا، ولكنها ينظر إليها في الغالب باعتبارها في الأسماء، ولهذا نرى دراسة الحالات المختلفة في الإغريقية واللاتينية، تأتي في كتب الجرامطيقا تصريفات للأسماء لا للأفعال، ويبدو بصفة عامة أن هذا يلقى شيئا من الغموض على حقيقة هامة، هي أن الحالة ليست إلا وسيلة آخرى من وسائل النمطية النحوية. وتبدو الفكرة السنسكريتية عن الحالة، أكثر جدوى من الفكرتين الإغريقة واللاتينية، فالدراسات السنسكريتية، لا توجه اهتمامها الكلي إلى الجدول، وإنما توجهه إلى علاقة الأسماء في أنواع الجمل، ومن الضروري في الفنلندية أن تدرس الحالة في الأسماء، إذا كنت تريد فهم "الجهة" في الأفعال، فكل من الأسماء والأفعال في هذه اللغة، يؤثر في الآخر تأثيرًا يؤدي إلى تماسك سياقي، وما تحدده الإنجليزية، والفرنسية مثلا بالأدوات، تحدده الفنلندية بالتعبير الشكلي عن الحالة كما في حالة البعضية، فإذا قلت: "مزق الكتاب"، فإن الكتاب سيكون في حالة البعضية، ثم إن البعضية المفهومة من التمزيق إلى قطع، تتطلب أن يكون الفعل في صورة خاصة، إذا أردت أن تتصورها بإيضاح من العربية مثلا قلنا: "مع الاعتذار لإيضاح لغة بصيغة من أخرى"، إن هذه الحالة تتطلب أن يكون الفعل مشدد العين المفتوحة مثلا، لا مفردها، فأنت ترى هنا كيف تتبادل العلاقات في السياق بين الاسم والفعل، وقد ضربنا لذلك مثلا بجملة "ضرب محمد عليا". والعربية من بين اللغات المتصرفة، تعطي مثلا حيا للعلاقة بين الأسماء والأفعال، وبينها وبين الأدوات، وصورة الحالة، ففي العربية حالات أربع شكلية، نقطع الصلة متعمدين بينها، وبين الأفكار المنطقية: الأولى حالة الرفع، والثانية حالة النصب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والثالثة حالة الجر، والرابعة جالة الجزم، وحالة الرفع من مميزات العمدة في السياق، فالمسند والمسند إليه كلاهما في حالة الرفع، يصدق ذلك على المبتدأ والخبر، والفاعل ونائب الفاعل، وعلى المضارع المجرد من بين الأفعال؛ لأن البقية موزعة بين البناء، والوقوع في مواقع الحالات الأخرى، ولكن إذا دخلت أداة على طرفي الإسناد في الجملة الإسمية، عمدت اللغة العربية إلى نمطية أخرى في الصوغ، مراعاة للقيم الخلافية بين ما اقترن بالأداة وما لم يقترن، ودخول الأدوات على الجملة الاسمية، يتطلب المخالفة في الحالة بين طرفي الإسناد، فيبدو أحدهما في حالة الرفع، والآخر في حالة النصب، فمع كان وكاد وليس وأخواتهن، الأول مرفوع والثاني منصوب، ومع إن ولا النافية، يلاحظ العكس. ويلاحظ هنا أننا نعتبر النواقص والمقاربات أدوات لا أفعالا، برغم إمكان دخولها في جدول تصريفي، لدخولها على الجملة المفيدة بنفسها، وإفادتها وظيفة نحوية قريبة من وظائف الأدوات، من مثل "إن" و"لا". وحالة النصب بعد ذلك تعبير شكلي عن طائفة كبيرة، مما يعبر عنه باصطلاح الفضلة هي المفعولات الخمسة، والحال والتمييز والمستثنى وحد هذه الطائفة، أنها الفضلة التي لم تأت معها أداة جر، أو اسم مضاف، والفعل المضارع المنصوب من هذه الطائفة؛ لأنه يقع مواقعها من الكلام، ويتم الكلام بدونه مثلها. وحالة الجر إما أن تكون بالأداة أو بالإضافة، وهي حالة طائفة من الفضلات يعبر عن العلاقة بينها، وبين الفعل بإحدى هاتين الطريقتين. أما حالة الجزم، فتكون في الفعل المضارع الواقع في نوع خاص من الجمل، تقتضي المخالفة بينه فيها، وبينه في الجمل الأخرى التي ينصب فيها أو يرفع، أن يتخذ شكلا إعرابيا آخر هو الجزم. ذلك هو ملخص الحالة في اللغة العربية. وتتشابك العلاقات بين الحالة وبين النوع، والعدد، والشخص، فتكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كلها نماذج للترابط في السياق بين أجزائه، على نحو ما في المثال الآتي: هذه هي المرأة البيضاء التي فتنت". ومن هذا نرى تساند الكلمات، وتقاربها في علاقاتها التطريزية، ونرى النوع والعدد والشخص "الإفراد والتأنيث والغيبة"، متحدة في كل كلمات المثال، سواء في ذلك الأسماء والفعل، ونرى الحالة في الأسماء دون الفعل الماضي؛ لأنه مبني غير معرب، والحالة إعرابية أولا وقبل كل شيء، ونرى الزمن في الفعل دون الأسماء. وتفرق اللغة العربية بين حالات الرفع والنصب، والجر في ضمائر الشخص، كما يبدو ذلك في الأمثلة الآتية: هم يقومون، يضربونهم، يغضبون عليهِمْ هُوَ يقوم، يضربونهُ، يغضبون عليه. لاحظ الفرق بين حركتي الهاء في الضمير في الحالتين، ولاحظ الفرق في الفصل والوصل بين حالة الرفع، والحالتين الأخريين. إننا إذا نظرنا إلى جملة مثل: "بالنبي والله أومن"، فسوف لا يقرر ما إذا كان لفظ الجلالة معطوفا، أو مقسما به إلا الاعتبارات التماسكية في هذه الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 2- الزمن والجهة: نحب أن نفرق هنا بين اصطلاحات ثلاثة، تفريقًا تقتضيه الأغراض العملية لهذا البحث؛ هذه الاصطلاحات هي الزمان، والزمن، والجهة، ونقصد بالزمان الوقت الفلسفي الذي ينبني على الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويعتبر قياسًا لكمية تجربة في الرياضة، أو الطبيعة، أو الفلسفة، ويعبر عنه بالتقويم، والإخبار عن الساعة، وتتوجه إليه النظرية المعروفة بنظرية حدّ السكين، التي تقول: إن الزمان إما ماض، أو مستقبل، ولا جود للحاضر، ويقابله في الإنجليزية كلمة "Time"، ونقصد بالزمن الوقت النحوي الذي يعبر عنه بالفعل الماضي، والمضارع، تعبيرا لا يستند إلى دلالات زمانية فلسفية، وإنما ينبني على استخدام القيم الخلافية بين الصيغ المختلفة، في الدلالة على الحقائق اللغوية المختلفة. ويقابل الزمن في الإنجليزية كلمة "Tense"، ونقصد بالجهة ما يشرح موقفًا معينا في الحدث الفعلي؛ ويكون ذلك بإضافة ما يفيد تخصيص العموم في هذا الفعل. ويقابلها في الإنلجيزية "aspect". ليس الزمان والزمن إذا مترادفين في فهم هذا البحث؛ لأن الزمان يدخل في دائرة المقاييس، والزمن يدخل دائرة التعبيرات اللغوية، فالفرق بينهما كالفرق بين الذراع القياسي، كوحدة ذات طول معين ثابت، وبين ذراع الطفل الصغير كجزء من جسم متغير النمو، ولهذا لا يهمنا في دراسة النحو أن نعلم ساعة حدوث الزمن، ولا تاريخه، ولكن الذي يهمنا نظام زمني معين في نحو اللغة المدروسة، يقوم التطريز والنمطية، أكثر مما يقوم على المعنى الفلسفي المطلق. والزمن النحوي نسبي اعتباري، والماضي والمضارع صيغ لا أفكار، فصيغة الماضي من نوع الماضي، ولو دلت على المستقبل، أو الحضور الفلسفيين، كما في: "إن كنت شجاعا فواجهني بالحقيقة"، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، و"لو كان زيد يأتي لكنت أعطيه درهمًا"، و {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والمضارع بصغيته مضارع، ولو دل على المضيّ الفلسفي، كما في "لم يقم زيد". ولا بد لأية لغة من اللغات من أن تستخدم الدلالات الزمنية، "ولا أقصد الزمانية"، وهذه الدلالات لا تنحصر في الأفعال فحسب، ولكنها تتعداها إلى ظروف الأزمان، التي لا تكاد تتصل اتصالا مباشرا بنظام الأزمنة في الأفعال، وكذلك يستطيع الناظر إلى الكلمات المفردة من غير الأفعال، والظروف أن يجد من بينها ما يعبر تعبيرا خاصا عن شيء يشبه الزمان، أكثر مما يشبه الزمن. لإيضاح ذلك قارن الكلمات الآتية: جد، ابن، سابق، لاحق، خطيبة، مطلقة، مرشح، متوقع، منتظر، المأسوف عليه، المرحوم، المورث. ولكن هذه الدلالات لا تهمنا في الدراسات النحوية؛ فلندعها لهؤلاء الذين يدرسون الاجتماع اللغوي؛ وسيجدون فيها مادة غزيرة للملاحظة. لقد كان النحاة العرب على حق في تسميتهم المضارع مضارعًا؛ لأن هذه التسمية ذات دلالة شكلية لا زمانية، فهم يقولون: إنما سمي المضارع مضارعا لمضارعته المشتق من حيث إعرابه وشكله، ولو جرت التسمية في الماضي والأمر على هذا النمط، لخلت اصطلاحات الزمن في اللغة العربية من عدوى التفكير في الزمان، ولكان اللاحقون من النحاة أقدر على تخليص النحو من براثن الفلسفة. ولنا أن نلاحظ هنا أن الجهة مما يمكن ملاحظته في الأسماء، والأفعال، والأدوات، وقد سبق أن مثلنا بمجموعة الأسماء ذات الدلالة على السبق أو اللحاق، وبدخول "لم" على المضارع، والوظيفة التي قامت بها هذه الأداة، غير أن الجهة ينظر إليها نحويا في الأفعال فحسب، ولكل لغة وسائلها الضخمة في التعبير عن الجهة، فالهمز، والتضعيف، وتشديد العين، وحروف الزيادة فيما زاد على الثلاثة، والإضافات الظرفية، والحال، والتمييز، تعبيرات شكلية عن الجهة في اللغة العربية، بمعنى أنها تقييد لعموم الدلالة، بما يفيد النظر إلى جهة معينة في تطبيق فهم الفعل، لاحظ اختلاف الجهة باختلاف الصيغة في نفس المادة، والزمن فيما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قتل - قاتل - قتل- استقتل - اقتتل. قتله أمس - قتله من سنة مضت - يقتله الآن - يقتله غدا - يقتله حين ينفرد به - قتله صبرا - قتله ذبحا - قتله خجلا - قتله تشهيرًا - قتله قصاصًا - قتله واقفًا - قتله على ظهر حصانه - قتله شهيدًا - قتله قائما للصلاة. لاحظ أيضًا الفرق بين: عس - عسعس، جر - جرجر، درج - دحرج، قلب - سقلب. وما يسمونه حرف المطاوعة، وتاء الافتعال، وكل حروف الزيادة التي تأتي لمعنى وظيفي، هي في الواقع تعبيرات شكلية عن الجهة، تضيف معنى وظيفتها إلى المفهوم العام للفعل، لتخصيصه في الدلالة، والجهة تعبير يستغرق كل تصريفات الفعل؛ بمعنى أنه يلحظ في كل شكل من الأشكال التصريفية للمادة، مثال ذلك أن نأخذ تاء الافتعال، أو صيغة المطاوعة كتعبير عن الجهة، فسنجد أن المطاوعة تلحظ في كل صيغة في التصريف، كما يأتي: إسكنر. والجهة غير الزمن؛ ومن الضروري ألا نخلط بينهما في الفهم، وهذا الخلط محتمل في حالة التعبير عن الجهة بالظرف؛ فهذه الظروف تختلف عن الدلالة الزمنية في الأفعال، هذه الدلالة الزمنية في الفعل ملحوظة مع وجود الظرف وعدمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وهي الفرق الزمني بين ضرب، ويضرب، واضرب، ومن التعبيرات الشكلية عن الجهة. كان يضرب، ظل يضرب، أصبح، ما زال يضرب، إنه يضرب ما فتئ يضرب، وهلم جرا. وإتيان هذه "النواسخ" لأداء وظيفة التعبير عن الجهة، هو الذي دعانا فيما سبق إلى اعتبارها أدوات. والتعدي واللزوم جهتان في اللغة العربية، يفرق بينهما بالهمز، والتشديد، كما في شاع وأشاع، ووفى ووفى، ومن ذلك أيضا ترديد صيغة الفعل معطوفة، نحو "فكتبت وكتبت، حتى لم أدع معنى إلا طرقته". والترديد صورة أخرى من صور التعبير عن الجهة في اللغة العربية، نحو جرجر، وعسعس، وزمزم، إلخ والمعاني التي يضيفها الترديد ليخصص بها عموم دلالة الفعل هي الكثرة، أو التكرار، أو الكبر، أو الشدة، أو التعود، أو الاستمرار. ويمكن أن نلاحظ هنا ملاحظة عابرة، أن هذا الترديد في عمومه الذي يشمل الاسم على أنواع منها: 1- البسيط: نحو إربا إربا، وجرجر، وعسعس، ودكادكا. 2- المقفى: نحن شذر مذر، حيص بيص، ومن التعبيرات العامية شيله بيله، وحرسه برسه. 3- متخالف: نحن الكلمات العامية يتكتك، "بمعنى يحدث صوت مثل الموتوسيكل" حتحوت، كركور "اسم منطقة"، علمي علمك. 4- مخلخل: نحو الكلمات العامية يوم عسل ويوم بصل، كده وكده نص ونص، وهو مخلخل لتدخل الواو بين الأجزاء المرددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مظاهر التوافق السياقي : قلنا: إن التوافق الشكلي في السياق، وسيلة من وسائل ترابط الأبواب فيه، وإن هذا التوافق، إنما يتضح في جهات ثلاث: أولاها: النوع "أو التذكير والتأنيث"، وثانيتها: العدد "أو الإفراد والتثنية والجمع"، وثالثتها: الشخص "أو التكلم والحضور والغيبة"، ونريد الآن أن نتكلم عن كل من هذه الجهات على حدة. 1- النوع: ليس هناك صلة بين ما نسميه النوع في النحو، وبين ما نسميه الجنس في الطبيعة، وبعبارة أخرى، ليس هناك صلة بين التذكير والتأنيث في النحو، وبين الذكورة والأنوثة في الطبيعة، فالتذكير والتأنيث نواح تطريزية تقسيمية خلافية، للتفريق بين طائفتين من الكلمات من ناحية سلوكهما في السياق، ولكن الذكورة والأنوثة مفهومان من مفهومات الدراسات الطبيعية ينبنيان على التفريق بين وظائف الأعضاء، فالكلمة التي تدل على ذكورة عضوية قد تحرم التذكير النحوي، كحمزة، الذي تلحقه التاء في آخره. والفعل يؤنث جوازًا مع كل أنواع الجموع، حتى جمع المذكر السالم في رأي الكوفيين، ومع بعضها الذي يشمل جمع تكسير المذكر أيضًا، في رأي غيرهم1، فإذا أنث الفعل مع جمع المذكر، فمعنى ذلك أن هذا الجمع عومل معاملة المؤنث، وهذا إجراء يجوز نحوًا، ولا يجوز في الطبيعة. وارتباط التذكير، والتأنيث النحوي، إنما يكون باعتبارات تختلف في لغة عنها في الأخرى، ففي اللغة الأنامية تقسيم للأسماء من هذه الناحية إلى تسعة أنواع، طبقا لتسعة أنواع من الأعضاء الجسمية؛ وتدخل كل كلمة في القسم الذي يناسبها، أما الأوردية فيها تفريق بين الصغير، وبين الكبير من هذه الناحية؛ فكلمة "دبا" معناها صندوق كبير، ودبي" للصندوق الصغير، ويذكرنا ذلك   1 الشذور ص172 تعليق الشيح، محيي الدين عبد الحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بالعاميات العربية، والمصرية منها بصفة خاصة، حيث تضاف ألف لينة، وياء مفتوحة، وهاء ساكنة إلى أي اسم، لتدل على تصغيره وتأنيثه، حتى "راجل"، يمكن أن يصبح "راجلاية" في بعض اللهجات، أي رجل صغير، ويعامل الاسم نحويا معاملة المؤنث، وفي لغة بورما أربع عشرة جهة تقسيمية، فالأشياء تنقسم باعتبار التسطح، والفرطحة، والطول، وكونها للنقل، والحيوانات، والمجموعات والمركبات والكهنة، والسوقة؛ وفيها اعتبار تقسيمي خاص لأمراء القصص، وأميراته، ويلاحظ الذين يتكلمون إلى النوبيين أنهم يدخلون التذكير والتأنيث الخاص بلغتهم في كلامهم العربي، فيبدون وكأنهم يطرد في كلامهم تذكير المؤنث، وتأنيث المذكر، وليس أدل على عدم الرباط بن الأنوثة، والتأنيث من أن كل الأسماء التي تدل على عضو التأنيث في المرأة مذكرة في اللغة العربية على ما أظن، وإن الشمس والقمر لمثالان رائعان لدراسة هذه الظاهرة في لغات مختلفة، فالشمس مؤنثة في العربية مذكرة في الإنجليزية، والقمر بالعكس. فالتذكر والتأنيث إذًا تطريز اجتماعي، يتفق أحيانًا مع الواقع، ويختلف أحيانًا أخرى، ولذا يجب التفريق بين النوع الذهني، والنوع النحوي؛ لأنهما يختلفان كما تختلف فكرة الشخص عن ضمائر الأشخاص، وإن توزيع الأدوات المهنية بين التذكير، والتأنيث فكرة لا يمكن تعليلها بنجاح، إلا على أساس نحوي. فهل هناك أي سبب خارج النحو، يبرر أن يكون المنشار، والقدوم مذكرين، وأن تكون المطرقة، والفأس، والمائدة، من الأسماء المؤنثة؟ ومن الأسماء التي تذكر حينا، وتؤنث حينًا آخر جمع شخص وشبح، فابن أبي ربيعة يقول. "ثلاث شخوص كاعبان ومعصر". وجائز أن تقول: ثلاثة أشخاص أو شخوص؛ ومثل ذلك يقال في أشباح. فالتذكير والتأنيث طريقة من طرق التقسيم النحوي، لإظهار التوافق في السياق ليكون التماسك واضحًا فيه، ويعبر عنه تعبيرًا شكليًا في الغالب من حالاته، وفي اللغة الفرنسية يكون هذا التعبير الشكلي بأداة التعريف، كما في الألمانية، فتعلم من شكل الأداة، ما إذا كان الاسم الذي يليها مذكرًا أو مؤنثًا، ولكن هل نستطيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أن نقول قولا مؤكدًا: إن شكل الأداة الفرنسية يتوقف على التذكير والتأنيث فحسب؛ إنها تصحبهما دائما بلا شك، ولكنها تدل كذلك على العدد، وربما دلت أحيانا على الحالة، كحين تدل على حالة البعضية في "du pein". يقول أستاذي فيرث في إحدى محاضراته: "وهناك نوع من التقسيم أحس به، ولا أصر عليه، ألمحه وراء الكلمات التي تبدأ بالحرفين sl مثل: slender, sleet, slip, sleek, slit, slink, slim. slight, slide, slick, slice, slince. slither. ويستطيع المرء أن يسلي نفسه بجمع الكلمات التي تبدأ بالحرفين el أو str، أو spr وهلم جرا، فربما جد شيئا شائعًا بينها، لا يهمني هنا أن أنص عليه، وتبدأ تسعون كلمة في الهولندية بالحرفين sl كلها للشتم والإهانة، وقد استعير بعضها في اللغة الجاوية، فبدأ بالحرفين se، وهذا يستدعي إلى الذهن أن تقسيم الكلمات بحسب أثرها الذهني شائع في اللغات الجرمانية، وربما كان هناك صلة بين الصوت، والشكل، كما ترى في المثالين الآتيين: هاتان الكلمتان "أومبو بو وكيكيريكي"، لا تدلان على معنى معين في أية لغة على ما أعلم، ولكن الطلبة من جميع الأمم ينسبون الاسم الأول إلى الشكل الأول، والاسم الثاني إلى الشكل الثاني1، فإذا صح أن هناك صلة بين الشكل والأثر الصوتي، فإن ذلك يفسر إتجاه الأوردية إلى التفريق بين الكبير، والصغير في التذكير والتأنيث.   1 محاضرات الأستاذ فيرث في العام الدراسي: 48-1949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 والتوافق بين المسند والمسند إليه في التذكير والتأنيث، مطرد فيما إذا وقع الفعل في جملة الخبر، نحو "هند قامت"، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} ، فتقدم المذكر أو المؤنث، أو ما في حكمه يقتضي التوافق التام في التذكير والتأنيث بينهما، وبين الفعل الواقع في جملة الخبر، وكذلك إذا تأخر المسند إليه فكان فاعلا، أو نائب فاعل، مؤنثا تأنيثا حقيقًا، غير منفصل عن الفعل، سواء كان مفردًا أو جمعًا، نحو "قامت فاطمة"، "وقامت الهندات"، فإذا فقد شرط من ذلك، بأن كان المؤنث المتصل بالفعل مجازيًا، أو جمعًا أو فصل بينه وبين فعله بغير إلا، فتأنيث الفعل أرجح، نحو "طلعت الشمس"، و"جمع الشمس والقمر"، و"قام أو قامت الزيود"، و"كيف كان عاقبة المكذبين"، و"قام أو قامت اليوم هند"، و"إن امرأ غيره مكن واحدة"، أما إذا كان الفصل بإلا، فتذكير الفعل أرجح نحو "ما قام إلا هند". وصفة الاسم، والحال منه يذكران لتذكيره، ويؤنثان لتأنيثه، أما الأعداد من ثلاثة إلى تسعة، فالبعكس، وهذه القاعدة التي تقرر صلة العدد بالمعدود في التذكير والتأنيث، تكشف تماما عن التباين بين وجهتي النحو، والمنطق العلمي في علاج التذكير والتأنيث، والذكورة والأنوثة. 2- العدد: وقد ذكرنا أن المقصود بالعدد الإفراد والتثنية والجمع، وفكرة التقسيم إلى مفرد ومثنى، ومجموع فكرة اعتباطية لغوية إلى أقصى حد، فليس هناك أي سبب منطقي لجعل العدد "واحد" طبقة خاصة، واختصاص "الاثنين" بطبقة أخرى، ثم حشد جميع الأعداد بعد ذلك في طبقة ثالثة هي الجمع، والعدد، كالتذكير والتأنيث، ليس إلا عادة نحوية صرفية من عادات اللغة، وكما لا تعقد الصلة بين التذكير والتأنيث، وبين الذكورة والأنوثة، لا تعقد كذلك بين الإفراد والتثنية والجمع، وبين الأعداد والأرقام الحسابية، ونحن نستعمل الأرقام في الحساب، والرياضة، وفي عد الفقرات والصفحات، وهلم جرا، وليس كذلك استعمالنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 للإفراد والتثنية والجمع، وما يعبر عن الجمع من الناحية النحوية، قد يدل على المفرد من الناحية الحسابية، فمن العادات الكتابية الديوانية، أن تكتب إلى رئيس الإدارة، أو وزير الوزارة "أعرض عليكم ما يأتي": ولقد كانت المراسيم تصدر، وفي بدايتها "نحن ملك مصر"، حيث كان يقصد "أنا". واللغة العربية من اللغات القليلة، التي احتفظت بالمثنى في تطريزها النحوي. ولقد عرفت اللغات الهندية الأوربية المثنى في القديم، ولكنها فقدته؛ لأن حاجتها إلى إفراد المثنى بصيغة لغوية خاصة لم تعد ملحة كما كانت، وتعبر الإنجليزية الحديثة عن المثنى أحيانًا بطريق الكلمات الخاصة، لا بطريق الصيغ النحوية؛ ومن ذلك مثلًا استعمال التراكيب الآتية: two boys. both boys, a couple of boys. a bfrace of والكلمتان "brace أو couple ""من نوع dozen و scoreو gross وبقية الكلمات ذات الدلالة على تقسيمات خاصة غير الإفراد، والتثنية، والجمع. وللعربية تعبيرات شكلية خاصة عن المفرد والمثنى والجمع، في الاسم والضمير والفعل، وتقسيمات للجمع إلى جمع تصحيح، وجمع تكسير ولهذا الأخير إلى جمع كثرة، وجمع قلة، وإلى جمع له مفرد، وجمع لا مفرد له، وهلم جرا. ويجري العد في بعض لهجات الصعيد بحسب المعدود، على نماذج مختلفة، فإذا كان المعدود نقودًا، أو ناسا، أو قطيعا، جرى العدد على نمط "واحد اثنان ثلاثة إلخ"، وإذا كان المعدود بلحا، أو فاكهة، وجرى على نمط "فرد، جوز، ثلاثة حب، ثورة إلخ". وربما استعملوا "قيط، بدل "جوز"، مع هذا لا يمكن القول بأن هذا وثيق الصلة بالإفراد، والتثنية، والجمع في النحو. وتعطينا اللغة العربية الفصحى أروع مثل لعدم منطقية التطريز اللغوي، حيث يميز الجمع بالمفرد، في نحو قولنا: ألف رجل، والأيام السعيدة، وحيث يوصف جمع التصحيح بجمع التكسير، في نحو قولنا: المحاربون القدماء، ويجري العكس، في نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 "القوم الكافرون"، وحيث تشمل اللغة كلمات تدل منطقيا على جمع، ونحويا على مفرد، نحو جمهور، وحكومة، وطائفة، وأمة، وبرلمان. ويجب أن تفرق بين العدد، واسم العدد، والرقم، فإذا رأيت: 3×4= 12، فهذه أرقام لها لغة وكتابة قائمة بنفسها. ويقولون: إن العربية عرفت الأرلاقام من الهندية. والرقم 3عربي، ولكن الرقم "3" إفرنجي أما ثلاثة في أربعة تساوي اثني عشر، فهذا تعبير بأسماء الأعداد لا بالأرقام، وأما ثلاث أربعات تساوي اثني عشر، فاسم العدد الأول "ثلاث" مفرد، واسم العدد الثاني "أربعات" جمع مؤنث سالم، والثالث مركب صدره مثنى مضاف وعجزه مفرد، أما العدد فهو مدلول اسم العدد، أي ما يطلق اسم العدد عليه، فهو فكرة لا كلمة ولا رقم. ومما يعتبر من باب أسماء الأعداد، ولكنه أقل منها محدودية، ما يضاف من نحو بعض، وكل، وأي، ما يأتي من نحو كثير، وقليل، ولست أدري إن كان يحق لي أن أقول: إن أسماء الموصول التي تستخدم في الاستفهام، أو الشرط مثلا تدل منطقيا على عدد شائع غير محدد، تأمل المثالين: من يقف هناك؟ والذي يقوم فله درهم. ثم انظر إن كنت توافقني، أو تخالفني في هذا القول، ومع هذا فإن هذين الموصولين من الناحية النحوية الشكلية ليسا إلا مفردين، وأما من يقفون هناك والذين يقومون فلهم خمسة دراهم، فإن من والذين يفهما في صيغة الجمع. فكأن الذي يقرر إفراد من أو تثنيتها، أو جمعها، إنما هي علامة التوافق التي تأتي في صلتها، ويتضح ذلك في مقارنة أمثلة مثل: من يقوم، من يقومان، من يقومون. فاتحاد شكل من في الحالات الثلاث، لا ينفي أنها مفرد في المثال الأول ومثنى في الثاني وجمع في الثالث، ومغزى هذا بالطبع ألا تربط الشكل بالفكرة المنطقية، وليس العدد النحوي، إلا توافقا سياقيا في خدمة التطريز اللغوي، والمقتضى الاجتماعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 3- الشخص: ومما له صلة بالنوع والعدد النحويين، ويقع معهما تحت عنوان التوافق، الشخص، ويقصد بالشخص المتكلم أو المخاطب أو الغائب، ولست أرى صلة بين الشخص النحوي، والشخص أو الشخصية في الفلسفة والتربية، ومن هنا كانت "الشمس تطلع" و"الحصان يجري"، وفي صيغة الشخص الغائب من الناحية النحوية، "ومن" الاستفهامية غير شخصية، لعدم تنوع دلالتها على الشخص، فهي دائمًا للغائب، ومثلها الأسماء الموصولة، أما "هو"، فإنها مع دلالتها دائمًا على الغائب، تعتبر واحدة من نظام ضمائر متنوع الدلالة على التكلم والحضور والغيبة. والشخص أوضح ما يكون من الضمائر، ولكن الكثير من اللغات يتوسع في التعبير الشكلي عن الشخص، حتى يشمل الأفعال، كما في اللاتينية، والطليانية والعبرية، والعربية. ففي اللاتينية القديمة كانت كلمة "ago"، ككلمة "amo" تأتي حين يراد التأكيد، ولكنها كانت كلما تقدم بها الوقت أضيفت إليها الضمائر بشكل واضح، والفرنسية من اللغات التي تخلف فيها صيغة الفعل باختلاف الشخص، ولكن الإنجليزية أقل حظًا من هذا الاختلاف، قارن الصيغ الآتية: ولا يظن القارئ أن الشخص ينقسم إلى هذه الثلاثة، "التكلم والخطاب والغيبة" في الإفراد والتثنية، والجمع فحسب، فهناك إمكانيات كثيرة أخرى، فالشخص في بعض اللغات ذو أقسام سبعة، وفي لغة جزيرة "فيجي"، في جنوب المحيط الهادي، أربعة أعداد، وخمسة عشر شخصًا، ويوضح هذا مرة أخرى مدى الحاجة إلى علاج كل شيء على علاته، لا على أساس المنطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وتعبر اللغة العربية بصيغة الفعل عن الشخص، كما يتضح ذلك من الجدول التصريفي الآتي: فإن قال قائل: إن الضمير المتصل موجود في هذه الصيغ، ليدل على الشخص، قلنا: انظر إلى الصيغ: أقوم، نقوم، يقوم، تقوم، فالتي فيها حروف المضارعة، لا الضمائر، ومع ذلك يدل الأول والثاني منها على التكلم، والثالث على الغيبة، والرابع على خطاب المذكر؛ أو غيبة المؤنثة. وفي الضمائر الدالة على الشخص في حالة الجمع ما يدعو دئمًا إلى التأمل؛ لأن الظروف الاجتماعية المتنوعة، تقتضي تنوعًا في الاستعمال، فبجوار نحن، وأنتم، وهم، توجد أنواع أخرى من صيغ الجمع، قد لا تدخل دخولًا مقبولا في دراسة النحو، ولكنها جزء لا يتجزأ من الدراسات اللغوية الاجتماعية، لاحظ مثلا: نحن وإياكم، أنا وأنت، أنا ومحمد، أنت وعلي، أنا وحزبي، هو وزملاؤه، كلنا، من كان منا، وطائفة منا. ويميز دائما في الإنجليزية بين الدلالات الجامعة، والدلالات ذات الإخراج، في استعمال بعض الضمائر نحو "1" let us go في مقابل "2" let's go والفرق بينهما يتضح في أن "1"، ربما تساوي "2"، ويكون المعنى فيهما "دعنا" نذهب" "أي وأنت معنا"، وعلى حين تختص "2" بمعنى آخر، إذ تستعمل بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 بمعنى اتركنا نذهب "أي ولا تذهب معنا"، وحينئذ لا يدخل السامع في مدلول "us". ولأحد المبشرين في أفريقيا قصة شهيرة طريفة: فقد كان في لغة الزنوج في المنطقة، التي عمل فيها عدد من الضمائر بمعنى نحن، تختلف جمعا وإخراجا، منها ما يقصد به "نحن الحاضرين"، ومما يقصد به "أنا ومن قبلي"، أو"أنا وشخص آخر"، وهلم جرا، وقد وقف هذا المبشر واعظًا هؤلاء الزنوج بلغتهم، فقال لهم فيما قال: "نحن مذنبون، ونحن لا شك نحتاج إلى من يهدينا"، ولقد كان الضمير الذي استعمله، لسوء حظه، هو ما يقصد به: "أنا وشخص آخر"، مع إخراج السامعين طبعًا، مع أنه كان يقصد "أنا وأنتم". ويجب أن نلاحظ أن ربما كان هناك اختلاف بين الشخص النحوي، والشخص الفلسفي، وإن استعمال الجمع للتأدب في الأوردية، يتقضي أن يستعمل المرء "خادمكم الوضيع"، بدل "أنا"، وتتصل أسماء الإشارة في اللغات اتصالا وثيقا بالشخص النحوي، فهذا للقريب يدنو من معنى الحضور، وذاك للبعيد يدنو من معنى الغيبة، وحين يقال في الإنجليزية. Taat manأوThis man يدل the man، تدخل the في دراسة الشخص النحوي، وقد يدل التنغيم الخاص على البعد، كما يحدث في العاميات العربية في تنغيم كلمة "هناك"، أو "بعيد" بمد طويل. وتستعمل كل لغة من الأشخاص ما يناسبها، ولعل القارئ يلاحظ استعمالات في اللغة العربية، مثل إن أحدكم ليفعل كذا، وإن المرء، وإن الإنسان، واعلم، وأبقاك الله، وأطال الله بقاءك، حين يستعمل كل ذلك في صورة مكتوبة، فيحتاج تطبيقه على التكلم والحضور، والغيبة إلى شيء من التأمل، وجدوى الشخص النحوي واضحة في التوافق السياقي، وفي التمكين من خلق الجدول التصريفي، فهذا النوع من التطريز صالح للعمل أفقيا في السياق النحوي، ورأسيا في الجدول الصرفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 منهج المعجم : تعريف الكلمة : يدور المعجم حول الكلمة إيضاحًا وشرحًا، ليجلو منها ما نسميه المعنى المعجمي، وهذا المعنى قاصر في حقيقته عن المعنى الاجتماعي، أو الدلالي الذي يعني بتتبع الجملة، أو قل "الحدث الكلامي"، وما يحيط به من ماجريات، على نحو ما سنشرحه في منهج الدلالة، ولندلل على صور المعنى المعجمي عن أن يحدد المدلول تحديدا يرتبط بالموقف، نسوق الأمثلة الآتية التي يشتمل كل منها على كلمة صاحب: صاحب الفضيلة - صاحب البيت - صاحبي - صاحب المصلحة - صاحب الحق - صاحب رسول الله - صاحب نصيب الأسد - وهلم جرا. فالصاحب الأول ملقب، والثاني مالك، والثالث صديق، والرابع منتفع، والخامس مستحق، والسادس معاصر، والسابع مقتسم، وسوف لا يأتي المعجم بكل تفصيلات الكلمة على هذا النحو، ولكن سيأخذ منها القاسم المشترك، فيجعله معنى معجميا للكلمة، وسيشغل نفسه أحيانا ببقية مشتقات المادة عن مشتق بعينه، ولست أدعي ما أتيت به في شرح كلمة "صاحب" اجتماعيا دلاليا كاملا؛ لأن مثل هذا المعنى الدلالي يحتاج إلى تحليل بطريقة خاصة؛ ولكن ما أتيت به هنا إيضاح للقصور في المعنى المعجمي، الذي قد يفوته أن يذكر -بين معاني صاحب- معنى اللقب، وهو جديد، ومعنى المعاصر، وهو قديم. وما دامت الكلمة مادة المعجم، يدور حولها نشاطه، فإن هذه الكلمة تحتاج إلى شرح أو تحليل، "الكلمات وحدات لغوية، ولكنها ليست وحدات أصواتية: وليس في التحليل الأصواتي لنسق من الأصوات المنطوقة، ما يكشف لنا عن عدد الكلمات، التي يتكون منها هذا النسق، ولا عن الحد الفاصل بين كلمة وكلمة"1.   1- Jespersen. thePhilosophy of Grammar, p.92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ويتضح ذلك في التراث الضخم، الذي تركه لنا الأدباء من الجناس مثل قول بعضهم: كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا ما الذي ضر مدير الـ ... جام لو جاملنا وقول بعضهم: إذا ملك لم يكن ذاهبة ... فدعه فدولته ذاهبة فإذا لاحظنا فرق بين حدي الكلمة في "جام لنا" و"جاملنا"، وفي "ذاهبة"، و"ذاهبة" "الأولى بمعنى صاحب هبة والثانية بمعنى زائلة"، أدركنا أن التحديد لا يمكن أن يتم على أساس أصواتي محض، وأدركنا كذلك مدى الصواب، فيما يقوله يسيرسن. وإذا استعرضنا تعريفات مختلفة للكلمة، شرقية وغربية، وجدنا في النهاية أن فكرة الكلمة -كبعض الأفكار اللغوية الأخرى- لا يمكن أن تعرف تعريفا ينطبق عليها في كل اللغات، وإنما تستقل في كل لغة بتعريف خاص به، مستقى من طبيعة اللغة، ووسائلها الخاصة في التركيب، ويقول قندريس1: "وبالنظر إلى هذا التنوع في طرق البناء الصرفي، لا بد أن تعرف الكلمة تعريفا مختلفا لكل لغة"، ولقد حاول الباحثون من قبل أن يعرفوها تعريفًا شاملًا، ولكن لم يكتب لواحد من هذه التعريفات أن يرقى عن مدارج النقد. فالتعريفات العربية للكلمة -برغم اعتمادها على طبيعة اللغة العربية- إما أن تخلط بين الكلمة واللفظ والقول، كقول الأشموني2: "الكلمة هي اللفظ المفرد"، وقول صاحب الشذور: "الكلمة قول مفرد"3، وهذا تعريف صادق على كل نطق بين سكتتين، ولو كان جملة أو أكثر؛ لأن إفراد اللفظ أو القول معناه أن يكون بين سكتتين؛ وإما أن نضيف إلى هذا الخلط خلطًا آخر،   1 language, p. 87. 2- راجع الأشموني. 3- راجع شذور الذهب ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 بأن تبني التعريف على العلاقة بين الكلمة ومعناها، أي الفكرة التي تعبر عنها، كقول ابن عقيل1: "الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد"، فهذا يصدق على باء الجر التي وضعت لمعنى مفرد هو المصاحبة، مع أنها ليست كلمة، وإما أن تزيد الطين بلة بأن تدخل في تعريف الكلمة أفكار منقوضة، كفكرة التقدير2، كقول صاحب الهمع3: "وقد اختلفت اعتباراتهم في حد الكلمة اصطلاحا، وأحسن حدودها، "قول مفرد مستقل أو منتوي معه"، فنية اللفظ إنما تكون عند عدم وجوده، وتكون في صورة تقديره في الكلام، ويمثل السيوطي لذلك بأنت في قم. ويمكن تلخيص العيوب التي في هذه التعريفات، فيما يأتي: 1- أنها لا تفرق بين الصوت والحرف، أي بين عملية النطق والنظام الذي تجري عليه. 2- أنها تخلط بين الوظيفة اللغوية، والمعاني المنطقية والوضعية. 3- أنها لا تفرق بين وجود الكلمة وعدمها في تعريفها، وهذا ما يؤدي إلى الخلط في التفكير. ولقد حاول اللغويون المحدثون أن يحددوا ماهية الكلمة، وأن يخلقوا القواعد التي يمكن على أساسها، أن يوجدوا الحد الفاصل بين كلمة وكلمة في السياق، فأتوا في ذلك بنتائج، يمكننا أن نلخصها فيما يأتي: 1- يقول باومفيلد Bloomfield4: "الكلمة أصغر صيغة حرة"، وهذه الحرية يمكن انتقادها بأنا تحمل في طياتها شيئا من الغموض؛ لأن بلومفيلد لم يحدد نوعها، فهو إذا أراد بها إمكان عزل الكلمة عن سياقها، فإن الجمل ذات   1 راجع ابن عقيل. 2 راجع الرد على النحاة ص66-103. 3 همع الهوامع ص3. 4- Langnage, P. 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الكلمة الواحدة "كنحو زيد في جواب من قرأ"، يصدق عليها هذا التعريف، كما يصدق أيضا على "من" الاستفهامية المفردة، و"لا" النافية المجاب بها "هل رأيت زيدًا؟ "، وكلتاهما جملة بنفسها". 2- ويقول سابير Sapiri "1: إن العناصر اللغوية ذات المعاني هي بصفة عامة أنساق من الأصوات، إما أن تكون كلمات، أو أجزاء ذات معان من الكلمات، أو مجموعات من الكلمات. أما ما يميز بين هذه العناصر، فهو أنها علامات خارجية لفكرة خاصة، سواء كانت هذه الفكرة معنى مفردًا، أو صورة، أو عددًا من المعاني والصور، مندمجة اندماجا واضحًا في كل". ويمكن تلخيص ماهية الكلمة من تعريفه هذا بأنها "أ" نسق من الأصوات، "ب" صورة خارجية لفكرة، وهذا شبيه جدا بالتعريفات العربية التي نقدناها. 3- ويقول مييه Meillet2: "تعرف الكلمة بأنها ربط معنى ما بمجموعة ما من الأصوات، صالحة لاستعمال جراماطيقي ما"، وهذا التعريف صالح للمورفيمات، وللجمل، وأجزاء الجمل أيضا، أضف إلى ذلك أن الاستعمالات الجراماطيقية لا تهتم بالكلمات، وإنما تهتم بالأبواب التي تعتبر الكلمات أمثلة لها في السياق. 4- وعند جاردنر Gradiner3، "أن الكلمات ذات وجهين في طبيعتها، فوجه هو المعنى، ووجه آخر هو الصوت، وحيث تكون الكلمات في ملك كل شخص، تكون من ناحية جواهر طبيعية مكونة من منطقة المعنى من جهة، ومن صورة صوت معين من جهة أخرى؛ هذا الصوت صالح لأن يعاد نقطه بالإرادة، والكلمات في حقيقتها نفسية، وهي مواد للمعرفة والتعلم، مع أننا في أحد جانبي طبيعتها تشير إلى حدث عضوي، تمكن إعادته بحسب الإرادة".   1 Langugae, p. 25. 2 linguast que Historique et ling. Gener, p. 30. 3 Speech & Language, pp. 69- 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وهذه ثنائية ديكارتية، واقعة تحت نفوذ نظرية دي سوسور اللغوية، وجانحة بلا مواربة إلى غموض عالم النفس، وليس الباحث اللغوي بحاجة إلى أن يبني أفكاره على أسس غريبة عن منهج اللغة، وتعريف جاردنر في مجموعة مبني على مجازات، أكثر مما هو مبني على اصطلاحات لغوية، لاحظ في التعريف استعمال كلمات: الحقيقة - الطبيعة - الملك - المعرفة - التعلم - النفس. والكلمات كما ذكرنا وحدات لغوية لا أصواتية، هكذا اعتبرها الجميع، حتى هؤلاء الذين يخلطون بين الكلمة واللفظ، يقول بلومفيلد1: "ليست الكلمة وحدة أصواتية بصفة مبدئية، فلسنا نحدد أجزاء كلامنا، التي يمكن استقلالها بسكتات، أو مظاهر صوتية أخرى، ومع ذلك تمنح اللغات المختلفة اعترافا أصواتيا للوحدات الكلامية، بطرق متعددة، يفعل البعض ذلك قليلا، كالفرنسية، والبعض الآخر كثيرا، كالإنجليزية. ويرى يسبرسن2: "أن الوسائل الأصواتية الخالصة لا تصلح لتحديد حدود الكلمات"، و"يضاف إلى الإحساس بالكلمة -غالبًا لا دائمًا - خصائص أصواتية معينة، تساعد على التحديد الخارجي للكلمات"3. ويقول فندريس4: "تحمل الكلمة في نفسها علامة استخدامها، والتعبير عن قيمتها الصرفية، فلها بنفسها كمال لا يدع الحاجة ماسة إلى شيء". ويتطلب إيجاد الحدود الفاصلة بين الكلمات في السياق عديدًا من الطرق، والمناهج التي أهمها: 1- الإفراد عن السياق، 2- الحذف من السياق، 3- الحشو في السياق،   1 Language, p. 181. 2 Phil. op Gram. pp. 92-5. 3 Sapr, Lange, pp. 35-9. 4 Lang. P. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 4- الإبدال في السياق، 5- استخدام العلامات الموقعية في الكلام. فإذا استخدمنا هذه الوسائل في تحديد الكلمة العربية، أمكننا مثلا أن نقول: "هم" تصلح للإفراد عن السياق باعتبار، ولا تصلح لذلك باعتبار آخر، فهي لا تفرد إلا في حالة الرفع، وأما في حالتي النصب والجر، فلا يمكن إفرادها عن السياق؛ لأنها حينئذ ليست كلمة مستقلة، وإنما تعتبر ملحقة بكلمة هي جزء منها. وأما من جهة الحذف من السياق، فدعنا نتأمل جملة مثل "هم أنفوا منهم"، لنجد أن الضمير المرفوع في البداية، يمكن أن يستخرج من الجملة، ولكننا لا نستطيع استخراج الضمير الثاني المنصوب؛ لأنه مرتبط بعنصر آخر من عناصر الجملة، لا ينفك عنه، ومن هذا أيضًا يؤخذ أن الضمير المرفوع كلمة، وأن المنصوب جزء من كلمة. ويمكن من ناحية اختبار إمكان الحشو في الجملة، أن نرى مسلك الضمير في حالاته المختلفة في جملة مثل: "كان المسلمون في القرن التاسع الميلادي، هم أصحاب أكبر ملك الدنيا" بإضافة ضمير الرفع، مع وجود الفاعل في الجملة، فالضمير هنا أمكن حشوه في الجملة، ولكن هل يمكن أن نضيف الضمير المنصوب في جملة مثل، "خاف العالم في القرن التاسع الميلادي المسلمين أصحاب أكبر ملك في الدنيا"، فتجعل الضمير بين كلمتي المسلمين وأصحاب؟ الجواب لا، طبعًا، ومن هذا يؤخذ أيضا أن ضمير الرفع كلمة، وأن ضمير النصب جزء من كلمة، ولو اتحد الشكل. وأما من ناحية تغيير الموقع في السياق، فإن جملة مثل: "هم السادة الأخيار"، يمكن أن يتغير فيها موقع "هم"، فتصير "السادة الأخيار هم"، ولكننا إذا قلنا: "منهم السادة الأخيار"، ثم أردنا تغيير موقع الضمير وحده، كما فعلنا أولا، فلن نستطيع؛ لأن ما يمكن هنا أحد شيئين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 1- أن تغير موقع حرف الجر تبعا لتغيير موقع الضمير، وهذا ينفي أن يكون الضمير كلمة مستقلة. 2- وأن تغير موقع الضمير فحسب، وذلك يغير المعنى المقصود؛ لأن الجملة حينئذ تصير: "من السادة الأخيار هم"، وهذا يغاير معنى الجملة الأولى، ويؤخذ من هذا أيضًا أن هم "ضمير الرفع" كلمة مستقلة، وليس كذلك ضمير النصب. وأما من جهة الإبدال في السياق، فدعنا نختبر مسلك الضمير في جملة مثل: "المسلمون أخيار؛ بل هم خير أمة أخرجت للناس"، وحيث يمكن أن نستبدل المسلمين بالضمير، فتصير الجملة في صورتها الجديدة: "المسلمون أخيار؛ بل المسلمون خير أمة أخرجت للناس". ولكن ذلك لا يحدث في حالتي النصب والجر، قارن مثلًا: "يقع بيت محمد على شاطئ النيل"، بجملة أخرى هي: "يقع بيته على شاطئ النيل"، وستجد كلمة "بيت"، وكلمة "محمد"، مستقلتين في الجملة الأولى، وتجد ما سد مسدهما كلمة واحدة في الجملة الثانية، هي"بيته"، ومن هذا نستطيع أن نقول: إن "محمدا" كلمة بمفردها، وإن ضمير الجر المضاف إلى البيت في الجملة الثانية جزء من كلمة "بيته"، واستقلال محمد هنا كاستقلال ضمير الرفع في الجملة السابقة. ومن العلامات التي تدل على الموقع في اللغة العربية واو العطف؛ فهي دائما فاصلة بين كلمتين، أي أنها دليل على نهاية كلمة سابقة، وبدء كلمة لاحقة، فتقف حدًا معينا لطرفي الكلمتين، لا يمكن أن يخطئ فيه السامع، فإذا علمنا ذلك اتضح لنا أن "هم" في "نحن وهم" كلمة مستقلة، وليست كذلك في "لنا ولهم"؛ لأننا لا نقول: "لنا وهم". يتضح من هذا جميعه أن الضمير المنفصل كلمة مستقلة، كالاسم الصريح سواء بسواء، وأن الضمير المتصل جزء من كلمة، ويمكن توضيح ذلك بالجدول الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ضمائر متصلة: ويمكن تطبيق هذه الأسس الستة في تحديد كلمة عربية، لمعرفة أين تبدأ وأين تنتهي، ولم يكن واضعوا الكتابة العربية مخطئين، حين فرقوا عمدا في الشكل الكتابي بين اللفظين المتجانسين في البيتين: كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا ما الذي ضر مدير الـ ... جام لو جاملنا فإن وراء الفصل في الحالة الأولى، والوصل في الحالة الثانية، نظرية لغوية لها وزنها وخطرها، لا من الناحية المعجمية فحسب، بل من نواح أخرى كثيرة، نحوية، وصرفية، وتشكيلية، وأصواتية ليس هنا محل لذكرها. وبعد فما الكلمة العربية التي يدور حولها نشاط المعاجم؟ لست أريد القارئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أن يتوقع مني التعريف التقليدي: "الكلمة لفظ مفرد"؛ لأني قد نقدته، ولا أدري أن كانت قد نقضته أيضا، ولست أريد أن يتوقع التقسيم التقليدي: "الكملة اسم، وفعل، وحرف"، ليحل محل التعريف المنقود؛ لأن هذا التقسيم لا يحل المشكلة من الناحية المعجمية من جهة، وقاصر عن أن يشمل جميع أقسام الكلام العربي، كما رأينا منذ قليل، فالتعريف الذي أريد أن أسوقه إذا تعريف يتصل بوظيفة الكلمة، أكثر مما يتصل بتقسيمها، وسوف لا أبني هذا التعريف على الشكل الإملائي العربي؛ لأن الإملاء العربي نظام لغوي قائم بذاته كالنحو، والصرف، والمعجم؛ ولأن العرف قد وضعه بشكله المعين، دون رجوع شامل إلى مقتضيات الدراسات اللغوية التي ترتبط به؛ حتى إنك لتجد جملة بأكملها متصلة في الكتابة، نحو: "سنستقبلهم"، وتجد كلمة واحة يستقل كل رمز منها عن الآخر، نحو "داود"، و"وزارة". فالكلمة العربية في تعريفها "صيغة ذات وظيفة لغوية معينة في تركيب الجملة، تقوم بدور وحدة من وحدات المعجم، وتصلح لأن تفرد، أو تحذف، أو تحشى، أو يغير موضعها، أو يستبدل بها غيرها، وفي السياق، وترجع في مادتها غالبًا إلى أصول ثلاثة، وقد تلحق بها زوائد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 " ما المعجم ؟ ": بعد أن شرحنا الكلمة وعرفناها، ووصفنا كيف يكشف عن حدودها في السياق، يلزمنا بعد ذلك أن نقرر ماهية المنهج الذي يتخذها مادة له، ويدور حولها شرحًا، وتحليلا تاريخيًا، بطريقة تختلف عن طريقتي النحو والصرف. والواقع أن الدراسات اللغوية، كلها تركز اهتمامها على المعنى، ويأخذ المعنى في الأصوات صورة القيم الخلافية بين الصوت والصوت، وفي التشكيل صورة هذه القيم بين الحرف والحرف، وبين المقطع والمقطع، وبين النبر والنبر، وبين النغمة والنغمة، وإما في الصرف، فيبدو في صورتها بين الصيغة الصيغة، وفي النحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بين الباب والباب أما في المعجم، فالأمر مختلف؛ لأن المعنى المعجمي قلما يتم بيانه على نمط سلبي، وإنما يشرح دائمًا بطريقة إيجابية. ويعترف سويت1 ويسبرسن2: بالحد الفاصل بين الجراماطيقا والمعجم، حيث يدعيان أن الجرماطيقا تعالج الحقائق اللغوية العامة، على حين يتناول المعجم الحقائق الخاصة، فكلمة "Cat" تدل على الحيوان المعين، وهي لهذا حقيقة خاصة بهذا الحيوان، ولكن تكوين الجمع بإضافة "s" إلى هذه الكلمة حقيقة عامة في اللغة، ولا تخصها وحدها، وإنما تتناول جمهرة الكلمات الأخرى التي تعامل نفس المعاملة، فإذا خطرت ظاهرة جمع بغير هذه الإضافة، كما هي "Oxen"، فهناك ما يبرر أن يتم علاجها في المنهجين معًا، منهج الجراماطيقا ومنهج المعجم، وإلا ضل المطلع على أحد المنهجين دون الآخر، فاستعمل في الجمع كلمة Oxes قياسًا على غيرها. والصيغ العددية التي تدرس في النحو، يجب أن تدخل في مجال المعجم أيضًا، بما فيها من مشتقات، كثالث ورابع، والأدوات كذلك تدرس على المنهجين كليهما، ولكل أداة مكان في المعجم، لا يقل عن مكان "كان"، و"ظل"، و"ظن"، وما يسمونه النواسخ في النحو، ولهذا جميعه يقول سويت، كما يقول بسبرسن: إن المعجم والجراماطيقا متداخلان. والمعجم والجراماطيقا في الحقيقة متكاملان، بمعنى أنهما طريقتان لتناول المعنى من وجهتي نظر مختلفتين؛ فالمعجم قمة الجراماطيقا، وتاجها، وكثير مما نسميه "فسيولوجيا الأصوات"، يقع خارج نطاق اللغة، ولكن المرء حين يقارن كلمتي "راح" "ولاح"، يركز اهتمامه على القيمة الخلافية بين الكلمتين، وهي تتمثل في الفرق بين صوتي الراء واللام: فهذه دراسة للمعنى من وجهة النظر الأصواتية. فجزء معنى "راح"، أنها ليست "لاح"، ولا "ناح"، ولا "فاح"، ولا "ساح" وهلم جرا، وهذا هو الجزء السلبي الخلافي من المعنى، فإذا استطعت   1 New English Grammar, p.7. 2 The Philosophy of Grammar, PP. 31 - 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أن تقول: إن هذه الكلمة اسم أو فعل أو ضمير أو حرف، فقد اكتشفت أحد عناصر الوضوح الصرفي، والنحو أكثر الدراسات الجراماطيقية أهمية؛ لأنه يدرس الكلام التام كوحدة مترابطة، فإذا انتهت الدراسات الجراماطيقية للمعنى، بدأت دراسة المعجم للكلمة، وعند نهايتها تبدأ دراسة المعنى الدلالي الاجتماعي، في ماجرياته الخاصة، ومعنى ذلك أن المعجم يقنع بدراسة المعنى من جهة، والتحديد الجراماطيقي من جهة أخرى، تاركا دراسة المعنى باعتباره نظرية فلسفية للإبستيمولوجيا "Epistemology". والملاحظات الخاصة التي يجب مراعاتها عن كتابة المعجم، هي نفس الأهداف التي من أجلها يكتب المعجم، فنحن نتوقع أن نتعلم من المعجم أمورًا خاصة بالكلمة المرادة، ويمكن تلخيص هذه الأمور فيما يأتي. 1- الهجاء: كلنا يعلم أن أبجديات اللغات المختلفة، قد وضعت لتعطي صورا بصرية للكلمات، تقوم مقام الصورة السمعية، عند تعذر الإسماع، ونحن نعلم كذلك أن التهجي، في كثير من الحالات، لا يراعي تمثيل أصوات الكلمة، ولا وحداتها الصوتية التي نسميها الحروف؛ ولذلك نجد المعجم مكانا طبيعيا للنظر في هجاء الكلمة، لنرى ما إذا كانت همزتها مفردة، أو على أحد حروف اللين الثلاثة، ولنرى ما إذا كانت الألف محذوفة، كما في "الرحمن"، "والله"، وما إذا كان اسم الألف اللينة في آخر الكلمة واوا، أو ياء، وهلم جرا. 2- النطق: أما نطق الكلمات، فيجب أن يدون بالكتاب الأصواتية، التي تستخدم رمزًا معينا لكل صوت، وقد وضع علماء الأصوات في بعض اللغات معاجم خاصة بنطق الكلمات فحسب1، والناظر في معجم أوكسفورد للغة الإنجليزية، يجد الكلمة متبوعة بطريقة نطقها، أما واضعوا المعاجم العربية، فقد كانوا يعمدون.   1 انظر مثلا كتاب دانيال جونز English Pronouncing Dictionary. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 إلى الطريقة أخرى في الضبط، ولا تبلغ من الدقة مبلغ الكتابة الأصواتية، تلك الطريقة هي ذكر الحركات في الكلمة؛ فكانوا يقولون مثلا في "هزبر": هي بكسر، ففتح، فسكون، وهلم جرا، ولقد كانت هذه الطريقة العربية، تهدف إلى تحديد الحروف، لا إلى تحديد الأصوات، ولذلك لا يمكن أن نسميها بيانا للنطق. 3- التحديد الجراماطيقي: سيقول لك المعجم بعد ذكر الكلمة ما إذا كانت هذه الكلمة اسما، أو فعلا أو غير ذلك، فإذا كانت الكلمة محايدا صرفيا -كما ذكرنا حين الكلام عن التوزيع الصرفي- فعلى واضع القاموس، أن يخالف بين مداخلها المختلفة، فيخصص -مثلا- لكلمة "قاتل" باعتبارها فعل أمر، مدخلا خاصا غير مدخلها باعتبارها اسم فاعل، ولقد جرت عادة المعاجم العربية على أن تخصص مدخلا لكل مادة، لا لكل صيغة، ولعل ذلك هو الذي جعل عدد الكلمات في المعجم العربي أقل منها في المعاجم الأجنبية، التي تعالج كل صيغة، بمدخل خاص بها، والمعروف أن المادة أعم من الصيغة، وأنها قد تحتوي على عدد كبير من الصيغ. 4- الشرح: ويشتمل ذلك على أمرين: 1- الأشكال المختلفة للكلمة، سواء أكانت هذه الأشكال متعددة من وجهة النظر السنكرونية الأفقية، أي في مرحلة معينة، من مراحل اللغة، بأن توجد الأشكال المختلفة لها جنبا إلى جنب في زمن واحد، أو كانت من وجهة النظر الدياكرونية الرأسية، أي في المراحل التاريخية المتعاقبة، بأن تقول: إن هذه الكلمة كانت في القرن الفلاني كذا، وأصبحت فيما بعد كذا، ثم آلت إلى كذا، وهذا ما يعرف بالإبتمولوجيا "Etymology"، وتلك الناحية الإيتيمولوجية هي الميزة التي امتاز بها معجم أوكسفورد، واستخدمها على نطاق واسع، وسماها وجهة النظر التاريخة1، وليس في اللغة العربية إلى الوقت الحاضر أثر لمثل هذه الدراسات،   1 راجع مقدمة The New English Dictionary. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 على نفعها وقيمتها في دراسة المفردات، وتواريخ النصوص، ولعل المستقبل كفيل بسد هذا النقص. ب- تقسيم المادة بحسب تعدد المداخل الفرعية فيها، والاستشهاد على كل مدخل، مع الإتيان بتحديد صرفي لكل قسم فرعي، فيتم ذلك مثلا، كما يأتي: يقول صاحب القاموس1، في شرح مادة "ردح"، ما يأتي: "ردح" البيت كمنع وأردحه أدخل شقه في مؤخره، أو كاثف عليه الطين، والردحة -بالضم سترة في مؤخرة البيت، أو قطعة تزاد في البيت، وكسحاب الثقيلة الأوراك، والجفنة العظيمة، والكتيبة الثقيلة الجرارة، والدوحة الواسعة، والجمل المثقل حملا، والمخصب؛ ومن الكباش الضخم الإلية؛ ومن الفتن الثقيلة العظيمة جمع رُدُحٌ، ومنه قول علي رضي الله عنه: "إن من ورائكم أمورًا متماحلة ردحًا" ويروى رُدَّحًا، والرُّدْحُ الوجع الخفيف، والردحى -بالضم- يقال القرى ولك عنه ردحة -بالضم- ومرتدح أي سعة. والرادحة بيت يبنى للضبع، ويقال: ما صنعت فلانة؟ فيقال: سدحت، وردحت؛ سدحت أكثرت من الولد، وردحت ثبتت وتمكنت، وكذلك الرجل إذا أصاب حاجته، والمرأة إذا حظيت عنده، وأقام ردحا من الدهر -أي طويلا، وسموا رديحا كزبير وفرحان". ولو ترك لي أن أرتب هذه المادة بحسب المقتضيات المعجمية المذكورة، لخصصت الصيغ الآتية كلا بمدخلها الخاص: رَدَحٌ - أردحه الردحة - رداح - ردح - الردح - الردحى - ردحة - مرتدح - الرادحة ردحت - رديح - ردحان. ولكنا على أن أستشهد -من النصوص العربية، كلما أمكن ذلك -على استعمال كل صيغة من هذه الصيغ في مدخلها، وأن آتي لها بتحديد صرفي، وأن   1 القاموس المحيط للفيروزبادي، الجزء الأول ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أو فيها حقها من كل ما يتطلبه المطلع على القاموس من شرحها، كما بينته فوق هذا الكلام. لقد كان الصينيون أول واضعي المعاجم في العالم، وكان ذلك قبل المسيح بقرون عديدة، ومما يثير العجب أنهم، وقد وضعوا معاجمهم على أساس أشكال الرمز الصينية، جاء جمعم للقاموس موضوعيا إلى حد كبير، فكان المعجم عندهم أسبق من الجراماطيقا، ولقد كانت الكلمات دائما من نتائج الوضع والتعارف، فهي بطاقات وضعها الإنسان، ليلصق كلا منها بحقيبة من حقائب المدلولات، أما في أوربا المسيحية، فقد كانت الكلمة موضع عناية من الناحية الدينية؛ لأن عيسى عليه السلام "كلمة الله"، {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، ومن هنا لقيت الكلمة بعثها في الكنيسة، وأصبحت الدعاية التي قامت بها الكنيسة Propaganda fide مسئولة عن كثير من المعاجم في لغات متنوعة. يقول صاحب المذهر1: "أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد؛ ألفت في ذلك كتاب العين المشهور، على أن نسبة هذا الكتاب إلى الخليل موضع شك عند بعض النحاة، ويشك بعضهم في وضعه ما بعد الغين من الكتاب، وينسبه إلى الليث بن نصر بن سيار الخراساني، وترتيب كتاب العين قصد به أن يكون على حسب مخارج الأصوات العربية، وقد كان الخليل يرى أن العين أقصى هذه الأصوات مخرجا، وهذا خطأ بالطبع؛ لأن أقصى الأصوات مخرجا أصوات الهمزة والهاء، قال صاحب المزهر2: "وقال ابن جني في الخصائص: أما كتاب العين ففيه من التخليط، والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل، فضلا عنه نفسه، ولا محالة أن هذا التخليط لحق هذا الكتاب من غيره، فإن كان للخليل فيه علم، فلعله أومأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء، ولم يله بنفسه، ولا قدره، ولا حرره".   1 المزهر ص47. 2 المزهر ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ثم كتب ابن دريد بعد ذلك جمهرته، وهي مرتبة على الحروف الأبجدية، ولا على ترتيب المخارج، وقد قصد بها صاحبها أن يختار الشائع المقبول من كلام العرب، وأن يترك الوحشي، والنادر، والمستهجن، كما فعل الخليل في كتاب العين، ويرى ابن دريد أنه إنما اختار الترتيب على حروف الأبجدية؛ لأنها بالقلوب أعلق، وفي الأسماع، أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة، ولقد كان خصوم ابن دريد يقدحون في قيمة الجمهرة من الناحية العلمية، فيطعنون في رواياتها، ويرجعونها بجملتها إلى كتاب العين، مثال ذلك قوله نفطويه: ابن دريد بقرة ... وفيه عي وشره ويدعي من حمقه ... وضع كتاب الجمهرة وهو كتا العين إلا ... أنه قد غيره قال السيوطي1: "وقال بن جني في الخصائص، وأما كتاب الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التصنيف، وفساد التصريف مما أعذر واضعه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر". يقول صاحب المزهر2: "وأول من التزم الصحيح مقتصرا عليه، الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، ولهذا سمي كتابه بالصحاح"، ويقول3: وأعظم كتاب ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب المحكم والمحيط الأعظم، لأبي الحسين علي بن سيده الأندلسي الضرير، ثم كتاب العباب، للرضي الصنعاني". ثم ألف بعد ذلك لسان العرب، لابن منظور المصري، والمصباح للفيومي، والقاموس المحيط للفيروزابادي، وقد شغل اللغويون بشرح هذه المعاجم، واختصارها والتعليق عليها، زمنا طويلا، حتى خرجت اللغة العربية من ذلك بحظ لا بأس به من دراسات المعاجم، فإذا أضفنا إلى هذا المجهود مجهودًا من نوع آخر، يمكن أن نطلق عليه اسم المعاجم الخاصة بالموضوعات، عرفنا مقدار الجهد، الذي بذله اللغويون   1 المزهر ص57. 2 المزهر ص60. 3 المزهر ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 في هذا السبيل، ومن أمثال هذه المعاجم الخاصة مثلثات قطرب، والنبات والشجر للأصمعي، واللبا واللبن لأبي زبد الأنصاري، وتهذيب الألفاظ لابن السكيت، والمطر والسحاب لابن دريد، والأفعال لابن القوطية، والمخصص لابن سيدة، وكشاف اصطلاحات العلوم للتهانوي. ولكن هذه المعاجم العربية العامة -على جلالها وخطرها- ينقصها الترتيب والتنظيم، وإننا لنطمع في أن يكون المعجم الذي يزعم المجمع اللغوي إخراجه للناس، قد استدرك هذه الأخطاء في المعاجم القديمة، حتى يتسنى للطالب العربي أن يجد في هذا المعجم الأسس الأربعة، التي قلنا إن الباحث في المعجم يتوقع أن يجدها، وهي الهجاء، والنطق، والتحديد الجراماطيقي، والشرح. وعندي أن أولى طرق ترتيب المعاجم بالاعتبار، هي طريقة الترتيب على أساس المخارج؛ فهذه الطريقة تعطي -إلى جانب المعلومات المعجمية- عنصرا من عناصر الدراسة الأصواتية، التي لا يمكن أن يستغني المعجم عنها. ولعل أوفى معجم في العالم في الوقت الحاضر، هو معجم أوكسفورد للغة الإنجليزية، وأوضح ميزة من ميزاته -كما قلنا- هي دراسة الناحية التاريخية للكلمات، أو ما يسمونه في الغرب ايتيمولوجيا "Etymology". لعلنا الآن قد وضحنا ماهية المعنى المعجمي بعض التوضيح، فهو معنى يقوم على أساس الكلمة، مختلفا في ذلك مع المعنى الوظيفي الجراماطيقي، والمعنى الدلالي الاجتماعي، الذي سنشرحه تحت الكلام عن منهج الدلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 منهج الدلالة : 1- النظرة الديناميكية : علم الدلالة، أو علم المعنى، أو علم السيمانتيك، فرع من فروع الدراسات التي تناولها بالبحث أنواع من العلماء تختلف موضوعاتهم، كالفلاسفة، واللغويين، وعلماء النفس، والأنثربولوجيا، والأدباء، والفنانين، والاقتصاديين، وعلماء الدراسات الطبيعية1، ولهذا كان اسم هذا العلم محل خلاف في اللغات المختلفة، حتى إن من الأسماء التي لا تزال تجري على أقلام بعض الكتاب في هذا العلم: semantics , semasiology, simology, sematology ويجري نفس الخلاف في الاصطلاحات، التي تطلق على بعض الأفكار الداخلة في نطاق هذا العلم، فقد سبق أن ذكرنا أن فندريس يميز بين ما يسميه المورفيم "morpheme"، وبين ما يطلق عليه السيمانتيم "semanteme"، وليست هذه هي التسمية الوحيدة للسيمانتيم؛ لأن بعضهم يطلق عليه "sememe"، وآخرون "seme"2، وبرغم هذا الخلط في استخدام الإصلاح، استطاع علم الدلالة أن يشق طريقة في التطور من أفكاره الأولى، التي حددها بريال "Breal"، على أساس تاريخي لا وصفي، والواقع أن علم الدلالة التاريخي يدرس تغير المعنى من عصر إلى عصر، وأن علم الدلالة الوصفي يدرس المعنى في مرحلة معينة من مراحل تاريخ اللغة، فالأول ديا كروني -على حد تعبير دي سوسور- والثاني سينكروني، أي أن الأول يدور حول التغيرات المعنوية، والثاني حول العلاقات المعنوية، أو بعبارة أخرى يدور الأول حول المعنى المتغير، والثاني حول المعنى الثابت.   1- Firth: Tichnique of Semantics, Trans. Phil. Soc. 1935. S. Ulmann. the Prineiples of Semanics, Parface. 2 Marouzeau, Lexique. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فإذا نظرنا إلى المعنى باعتباره علاقة بين الصيغة والفكرة، حق لنا أن نقول: إن تغير الدالالة من عصر إلى عصر، ليس إلا ربط الفكرة بصيغة جديدة، أو ربط الصيغة بفكرة جديدة، لقد كان كلمة "فرج"، فيما قبل الإسلام تدل على انفتاح، يقول لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخالفة خلفُها وأمامُها ثم جاء الإسلام، فخصص عموم هذا المعنى بالمدلول الفقهي للكلمة، الذي يوضحه أن الصيام هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، والذي نجى كلمة "مخرج" من التخصيص الفقهي بمعنى "فتحة الإفراز"، والتخيص الأصواتي بمعنى "مكان النطق"، إنما هو استعمالها في القرآن بالمعنى العام، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} . والعلق الشيء النفيس، والخول الخدم، هكذا كانت دلالتهما الفصحية، ولكن معنى الكلمتين تغير -على مر العصور- تغير مخجلا إلى مفهومهما العامي، وكان الأمي في مبدأ الإسلام هو الذي ينسب إلى العرب، في مقابل النسبة إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم تطور المعنى حتى أصبح من العرب أميين وغير أميين، ثم انظر إلى المدلول العربي الضيق لكلمة شعب، والمدلول الواسع الذي نعطيه لها الآن، كل أولئك تغير في الدلالة من عصر إلى عصر، يدرس في الأيتيمولوجيا، وفي الدلالة التاريخية، ولقد كان العلماء يعتبرون هذا التغير في المعنى إما نموا، أو انحلالا. ولم يحاول واحد من العلماء أن يضع قاعدة شاملة لكل العوامل الداعية إلى التغير في المعنى، ولكنهم حاولوا أن يوضحوا عوامل تغير الأمثلة، حين تخطر في دراساتهم. غير أن "هرمان بول" يدعي أن التغير في المعنى يلحق اللغة عن طريق الكلام1، ويقول "شترن": إن معظم تغيرات المعنى تنتج عن رغبة المتكلم في أن يوفق بين الكلام، وبين وظيفته التي يستخدم من أجلها2.   1 Ulman , Principles of Semantics. p. 191. 2 lbid. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أما مسييه1، فيجعل الأساب النهائية لتغير المعنى من أنواع ثلاثة:1 لغوية، 2 تاريخية3 طبقية عن طريق الاقتراض، ويقول: إن الكلمات يتسع معناها، ويضيق بحسب اتساع أفقها، وضيقه بعد الاقتراض من طبقة إلى أخرى، وأما سبربر فإنه يصر على فكرة المعنى المركزي "Cintral Meniang"، والمعنى السياقي "Contextual Meaning"، ونغمة الإحساس "Felling tone"، كما فعل إردمان، والمعنى السياقي، ونغمة الإحساس عنده أهم شيء، ولذلك يحرص على أن يذكر في دراسة الكلمة أوضح المواضع التي تستعمل فيها، وما يأتي معها؛ لأن المعاني الجديدة تتبلور عن هذا الطريق في مراحل أربع 1- ورود معنى جديد في موضع خاص، 2- مرحلة انتقالية من تكرر الورود، والارتباط بين الصيغة والمعنى، 3- ظهور معنى جديد مستقل في مواضع مختلفة، 4- إمكان قطع الصلة بين المعنيين القديم والجديد، وهذا لا يحدث بالطبع إلا بقرار من ملايين المتكلمين، وبالانتفاع بعوامل مثبتة للمعنى الجديد، هي القوى العاطفية، فطالب الكلية الحربية، الذي فصل منها بسبب ما قد يطعم كلامه العام بقاموس العسكريين، فيستعمل كلمات مثل التعيين، والبيادة، وساعة الصفر، والتكتيك، والتواجد، والضبط، والربط، وهلم جرا، في غير معناها العسكري، بدافع من عاطفته، ويرى سبربر أن أثر القوى العاطفية هنا، إنما يكون بالتوسع، عن طريق نقل الكلمات من مجال إلى مجال آخر، أو بالجذب، بأن يتطلب المجال عنونا من مجال آخر2، وأما أوجدن وريتشارد3، فإنهما لا يتكلمان عن المعنى إلا بتشقيقه إلى عناصر أربعة هي: 1- القصد،2- والقيمة، 3- والمدلول عليه 4- والعاطفة. وعندهما أن معنى الكلمات، لا يرى إلا حيث يتوسع في الرموز بوضعها في سياقات مختلفة "Constextualization". فما يمكن أن يسمى حاصل جمع معنى الكلمة، أي   1 Lingustique Historique et Linguistuique Generale, pp. 241- 6 et 252 - 5. 2 Uman, Prnciples of Semantics,191- 6. 3 The Meanings. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 المعنى الكلي لها، إنما هو وظيفة مركبة من القصد ونغمة الإحساس والفكرة، ولا يغيب على البال أنه، "حتى في علم الدلالة التاريخي التقليدي الذي نتكلم فيه الآن، يوجد حقل واسع للعمل في أساس منهج اجتماعي على حسب الماجريات، وإن دراسة كلمات مثل "الشغل"، "العمل"، و"التجارة أو المنهة"، "الوظيفة"، "الاحتلال"، "اللعب"، "الإجازة"، "الوقت"، "الساعات"، "الوسائل"، "احترام النفس"، بمشتقاتها ومركباتها جميعا في ظل الظروف ذات المغزى الاجتماعي، التي مرت في السنين العشرين الأخيرة، سيلقى ضواءًا قويا على هذه الناحية، وكذلك دراسة الكلمات التي تتعلق بالملابس، والمهن، والمطامح الخاصة بالنساء، أو لغة الإعلان، وخصوصا الإعلان بالخطابة عن الدواء العجيب، وإعلانات اللهو، والطعام والشراب، والحركات السياسية والدعاية1. والمعنى الاجتماعي هو الغرض الأسمى، الذي يسعى إليه علم الدلالة الوصفي. وهذا المعنى هو الذي أطلقنا عليه في هذا البحث اسم المعنى الدلالي، وذلك لا يكون إلا في طور معين من أطوار اللغة، إن تحليل المعنى يتطلب أن ندخل في اعتبارنا عناصر أربعة. تلك هي 1- المتكلم، 2- السامع 3- الرمز، 4- المقصود. ولقد ذكرنا في كلامنا عن رأي السلوكيين من اللغويين في التفريق بين الكلام، واللغة أن بلومفيلد يتناول المتكلم والسامع بالتحليل، ويجعل الكلام بديلا من استجابة عضوية لمثير معين، وإذا كان بلومفيلد قد قصر -بحكم سلوكيته الميكانيكية- عن أن يتكلم في أمور عقلية نفسية خالصة، كالعلاقة بين الرمز والمقصود، فقد تكفل دي سوسور بالكلام عن هذه العلاقة وأفاض فيه، والواقع أن ما قاله بلومفيلد، وما قاله دي سوسور، ليس بينهما تعارض، بل هما نظريتان متكاملتان، يمكن أن تقفا جنبا إلى جنب، والذي يعتبر أكثر اتصالا بعلم الدلالة، هو نظرية دي سوسور عن الرمز "signifiant"، والمقصود "signifie ".   1 Firth, Techinique of Semanties. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وملخص رأي دي سوسور1 في هذا أنه يرى كافيا في دراسة القيمة اللغوية، أن ندرس عنصرين هما: الصوت, والفكرة، وقد اتفق الفلاسفة، واللغويون على أن الإنسان لا يستطيع أن يفرق بين فكرتين تفريقا حقيقا، بلا علامات لغوية، أي كلمات، فالتفكير بلا كلمات عائم، وليس في الفكر ما يفرض شكلا معينا للرموز الصوتية، فهذه الرموز موضوعة وضعا اعتباطيا، وليست وظيفة اللغة في هذا أن تخلق وسطا صوتيا للتعبير عن الأفكار، ولكن أن تقوم بدور الوسيط بين الفكرة والصوت، في حالة تدعو كلا منهما إلى الآخر، والمعنى بهذا الاعتبار علاقة مبادلة بين الاسم والفكرة، تجعلهما يتداعيان، ويحول هذا التعريف المعنى من فكرة استكاتيكية إلى فكرة وظيفية ديناميكية. حينما نتكلم عن قيمة الكلمة، نفكر قبل كل شيء في ما يجعلها تدل على فكرة، وهذه جهة من جهات القيمة على أي حال، ولكن ما الفرق بين هذه القيمة وبين القصد، وهل يصح أن تكون هاتان الكلمتان مترادفتين؟ إن دي سوسور لا يعتقد ذلك؛ فالقيمة من ناحيتها الفكرية عنصر من عناصر القصد بلا شك، ومع هذا، من الضروري أن توضح هذه المسألة، مع تحمل نتيجة جعل اللغة مجموعة أسماء لمسميات، دعنا نختبر قصدا كالذي يبدو في المثال الآتي" فكلمة arbor اللاتينية، تدل على arbre = شجرة، وواضح أن هذه العلاقة التي تباركها اللغة، تبدو لنا مؤيدة بعنصر الواقع، فنطرح أي شيء آخر نستطيع تخيله، فالعلاقات اللغوية حقيقة نفسية ذات وجهين، يمكن أن نمثلهما كما يأتي.   1 Cours, P. 155- 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ويمثل السهمان تشابك العلاقات، والتداعي بين العنصرين، فالعلاقة إنما تكون بين الفكرة والصورة الأصواتية، في حدود الكلمة، التي تعتبر مجالا مقفلا موجودا بنفسه، ولكن هنا ناحية تناقضية وهمية في المسألة، فإن الفكرة من ناحية تبدو مقابلة للصورة الأصواتية السمعية في العلامة، وهذه العلامة نفسها، من ناحية أخرى، مقابلة لبقية العلامات في اللغة، وإذا كانت اللغة منظمة مترابطة العناصر، التي تتوقف قيمة الواحد منها، على وجود العناصر الأخرى في نفس الوقت، كما يبدو في الشكل الآتي: فكيف تكون العلامة، وهي بهذا التعريف، ممتزجة بالقصد، أو بعبارة أخرى بما يقابل الصورة السمعية؟ للإجابة على هذا السؤال، يقرر دي سوسور أولًا، أن كل القيم خارج اللغة، خاضعة لهذه القاعدة التناقضية الوهمية، فهي مركبة دائما مما يأتي:- 1- من شيء قابل للتغير مخالف لشيء آخر ثابت القيمة. 2- من أشياء متشابهة، يستطيع الإنسان أني يقارنها بأشياء أخرى مشتملة على قيمة. وهذان العاملان ضروريان لوجود القيمة، وهكذا إذا أردنا أن نصرف قطعة من ذات الخمسة فرنكات، فيجب أن نعرف أولا أن الإنسان يستطع أن يغيرها بكمية محددة من شيء مختلف، كالخبز مثلا، وثانيا أن يقارنها بقيمة مماثلة من نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 نظام العملة، كقطعة ذات فرنك وأحد مثلا، أو قطعة من عملة أخرى، كالدولار، ويجري نفس الشيء مع الكلمة، حيث يمكن تغييرها بفكرة، أو بكلمة أخرى. فقيمة الكلمة غير ثابتة، ويضرب دي سوسور لذلك مثلا بالكلمة الفرنسية "mouton"، في مقابل الكلمة الإنجليزية "sheep"؛ فيمكن أن تؤدي الكلمة الفرنسية نفس القصد، الذي تؤديه الكلمة الإنجليزية، ولكنها سوف لا تتفق معها في القمية، وهذا لأسباب متعددة، أخصها أن الإنجليزي، حين يتكلم عن قطعة من اللحم الضأن تقدم على مائدته، يسميها "mutton"، ولا يسمها "sheep"، فالفرق في القيمة بين الكلمتين يتمثل في أن الكلمة الإنجليزية، تستخد إلى جانبها كلمة ثانوية لا تستخدمها الفرنسية، ويجب أن نصر على أن هذا فرق في القيمة لا في القصد، وإن ما يقال عن الكلمات يقال أيضا عن العناصر الجراماطيقية، كالمحلقات والأدوات، ثم إن دي سوسور يقول: "إن العلامة اللغوية لا تخلق وحدة بين اسم وشيء، ولكن بين فكرة، وصورة سمعية"1. ويعتبر "جومبوكز" أكثر إصرارًا على هذه النقطة من دي سوسور، فهو يقول: إن الإسم لا يدل على الشيء، بل على فكرته التي في الذهن، ويوضح ذلك بإعادة ترتيب الشكل الإيضاحي، الذي جاء به دي سوسور، كما يأتي: وهذا يطابق مطابقة تامة، خلق علاقة بين الرمز وبين ما يدل عليه، وتعتبر هذه العلاقة حجر الزاوية في كتاب The Meanning of Meaning لا وجدن وريتشارد، وتوضح من جهة أخرى حاجتنا إلى الاعتراف بأن المعنى ينقصه   1 Cours, p. 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 السيمترية، كما يقول أوربان: لأن الشجرة ليست علامة ولا رمزا للكلمة، ولا توجد علامة مباشرة بينهما، وليس للاسم في الواقع إلا علاقة واحدة، هي علاقته بالفكرة، وهذه الصلة التي نسميها "المعنى" متبادلة وسيمترية"1. ويرى أوجدان وريتشارد2، أن الرمزية دراسة الدور الذي تلعبه اللغة، والرموز في الحياة الإنسانية، وعلى الأخص فيما يتعلق بالفكر، وهي تُفرِد بدارسة خاصة تلك الطرق التي تساعدنا بها الرموز على الفكير في الأشياء، أو تعرقلنا عن ذلك، فالرموز توجه، وتنظم، وتسجل، وتوصل. وفي النص على ما توجهه وتنظمه، وتسجله وتوصله، يجب أن نفرق بين الأفكار والأشياء، فالفكرة هي التي توجه، وتنظم، وتسجل، وتوصل؛ ولكننا كما تقول: إن البستاني هو الذي يقص الحشيش، الذي يغطي أرض الحديقة، على حين نعرف أن شخصا آخر غيره موكل بهذه المهمة، نعلم أن العلاقة المباشرة للرموز، إنما تكون بالأفكار، ومع ذلك نقول: إن الرموز تسجل الحوداث، وتوصل الحقائق. ولا تدل الكلمات بنفسها على شيء، ولكن الفكرة يستعملها فيصبح لها معنى، إذ يتخذها أدوات، ولكن بجانب هذه الناحية الفكرية، جانبا عاطفيا للكلمات، لا يمكن التقليل من شأنه. ويجب أن نبدأ حين نحلل المعنى بالعلاقات بين الأفكار، والكلمات، والأشياء باعتبار الجانب الفكري للمسألة، وسنبدأ بعدم المباشرة في العلاقة بين الكلمات والأشياء، ويمكن إيضاح ذلك بشكل إيضاحي مثلث، توضع هذه العناصر الثلاثة في زواياه، وتمثل أضلاع المثلث العلاقات بين هذه العناصر هكذا.   1 Ulman The Priciples of Semantics. p. 71. 2 The Meaning of Meaning, pp. 9-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وتوجد العلاقات السببية بين الفكرة والرمز، فالرمز الذي نستعمله حين الكلام مسبب من ناحية عن الفكرة، ومن ناحية عن عوامل اجتماعية ونفسية، كالغرض الذي سبب الفكرة، وأثر الرمز في الآخرين، وموقفنا نحن، وحين نسمع ما يقال، تسبب الرموز لنا أن نقوم بعملية تفكير، وأن نتخذ موقفا مشابها لموقف المتلكم، ونشاطه. وبين الفكرة والشيء علاقة أيضا، ولكنها مباشرة "كحين تفكر في سطح ملون أو تراه"، أو غير مباشرة "كحين تفكر في نابليون أو تشير إليه"، وفي هذه الحالة توجد سلسلة طويلة من المواقف الرمزية، تتخلل العمل الفكري، والشيء مثل: كلمة - مؤرخ - معاصر - سجل - شاهد عيان - الشيء المقصود "نابليون". وليس هناك علاقة تهمنا هنا بين الرمز والشيء، إلا العلاقة غير المباشرة، التي تتكون من استعمال شيء لهذا الرمز، ليدل على الشيء، فالرمز والشيء لا يتصلان اتصالا مباشرًا، "وحين نعترف باتصال كهذا لأسباب نحوية، فسوف ننسبه باعتباره مقابلا لعلاقة حقيقية"، ولكن اتصالا غير مباشر حول جانبي المثلث. "والعلاقة بين تعريف المعنى على طريقة الوظيفة، وبين هذا المثلث، ومشتقاته لا تحتمل قولين، فهي تقصر نفسها على الضلع الأيسر من هذا المثلث، باعتباره الوحيد، الذي يشتمل مباشرة على عناصر لغوية، فالعلاقة بين الفكرة والمقصود تقع في مجال علم النفس، ولا يعني ذلك أن اللغة لم يبق لها دور هام تلعبه في تكوين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 محتويات عقلية، وخصوصا من التجريدات، وأما العلاقة بين الرمز والمقصود فهي اعتباطية منسوبة، فليس هناك أي تناقض بين هاتين المدرستين الفكريتين؛ لأن البناء الأساسي واحد فيهما، ولكن اللغوي يجد نفسه في موقف، يقصر فيه نفسه على واحدة من هذه العلاقات الثلاث، على حين يشغل أصحاب علم النفس والمنطق، والإبستيمولوجيا أنفسهم بالعلاقات الثلاث جميعا"1. وقد جر هذا التوزيع في العمل بين اللغويين، والفلاسفة إلى خلق المزايا السلبية للتحليلات الوظيفية للمعنى، فهي تتمشى مع طرق التناول المختلفة، وتتوحى موقفا لا تورط نفسها فيه، وهي لا تحتاج مثلا إلى تقرير الطبيعة المضبوطة للصلة بين الاسم والفكرة، وما إذا كانت هذه الصلة ترابطية، أو سببية، أو شيئا آخر، أي أنها لا تضطر إلى أن تختار بين الطبيعية والمثالية، وأما مسألة دور الصور في التفكير، فيمكن أن يتجنب الوظيفيون الكلام فيها، بالتوسع في شرح معنى "الفكرة"، وأما إخراج المقصود من الدائرة الداخلية، فلا يقصد به أكثر أو أقل من أن العلاقة بين الرمز، والشيء غير مباشرة. ويرى بلومفيلد2، أن البدع التي يتغير بها المعنى المعجمي، لا الوظيفة الجراماطيقية للصيغة، تعتبر تغيرات دلالية سيمانتيكية، هذه التغيرات الدلالية يمكن النظر إليها باعتبارها صلة بين أمور عملية، تلقي ضوءا على حياة العصور الماضية، ويمكن في هذه الحالة أن نكشف عن التطابق بين التغيرات الدلالية الخاصة، وبين الآثار الثقافية، وكما أن الملامح اللغوية الشكلية، قد تكون نتيجة عوامل خاصة متعددة، قد يكون المعنى نتيجة مواقف، لا يمكن أن تستعاد، ولا يمكن أن نعرفها إلا عن طريق المعلومات التاريخية، كانشعاب اسمي الملك في ألمانيا، وروسيا من اسم القيصر الروماني، والدراسة السطحية للتغيرات الدلالية تشير غلى أن المعاني الدقيقة التجريدية، كثيرا ما تنتج عن معان محسوسة، كما في معنى understand، الذي كانت دلالته على ما يرى بلومفيلد "يقف بين"، ولكن كل ذلك، إن   1 Ulman, The Priciples of Semantics, p. 72. 2 Lang. p. 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 منحنا شيئا من الإحساس بالاحتمالات الإبتيمولوجية، فلا يدل على الطريقة التي يتغير بها المعنى من عصر إلى عصر، ولهذا يجب أن ندخل في اعتبارنا تباين تردد الكلمة في الاستعمال "fluciuation of frequency"، وتباين التغير القياسي أيضا "flucluations of analogic change"، والفرق بينهما هنا أن التباين ينتج التحول المعنوي المعجمي، لا الجراماطيقي، ولهذا يضلل اللغوي الباحث، أول لغوي رأى أن التغير الدلالي يتكون من توسع، أو بطلان هو هرمان بول، على ما يظن بلومفيلد، فقد رأى بول أن معنى الصيغة في كلام أي متكلم نتيجة للنطق الذي سمعها فيه، ولهذا فإن المتكلم الذي سمع صيغة مستعملة بمعنى عارض، أو نسق من المعاني العارضة، سوف لا ينطق هذه الصيغة إلا في ظروف مماثلة، ويسلم بول في إيضاحه للتغيرات الدلالية بورود المعنى الثانوي، أو ما يسمى "marginal Meaning"، وورود بطلان الاستعمال، وينظر إلى هذين نظرته إلى مغامرات شخصية من المتكلم في استعمال الصيغ، دون إشارة إلى الصيغ التي يعتدي على حدود معانيها، وقد يقود التوسع في استخدام الكلمة إلى عزل بعض الصيغ عنها باستعمالات خاصة، بعد أن كانت ذات معاني ثانوية، كما في كلمة Board، التي كان معناها المركزي في الإنجليزية القديمة لوحة خشبية، وكان لها بعض المعاني الخاصة الأخرى، وكان أحد المعاني الخاصة لها "درع"، وقد بطل هذا بطلانا تاما. وكان من هذه المعاني أيضا "جانب السفينة"، وقد أدى هذا المعنى الأخير إلى بعض الصيغ المنعزلة مثل: on board a ship aborad a ship to board a ship وقد توسع في هذه الصيغ، حتى استعملت مع المركبات الأخرى، كعربات السكة الحديد، والسيارات العوامل، ومن التي تساعد على هذا العزل التغيرات الأصواتية، والصوغ القياسي في اللغة، أو ما يسمى analogic new formation. ويرى بلومفيلد أن إيضاح بول للتغيرات الدلالية، لم يعلل وجود المعاني الثانوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وبطلان استعمال الصيغ في مجالاتها الدلالية، ويرى أن ذلك يرجع إلى النقص في التردد، وأن التحول إلى معنى جديد في الصيغة، لا يظهر إلا حين يستتبع تحولا في العالم العملي، كتحول معنى قبعة، سفينة، جوارب بتغير صور هذه الموضوعات من عصر إلى عصر، وأوضح التوسعات الدلالية هي التوسعات الجراماطيقية. وأما مييه، فيضع رأيه في الكلمات الآتية1: "تعرف الكلمة بأنها ربط معنى ما بمجموعة من الأصوات، صالحة لاستعمال جراماطيقي ما، وليكون للتوافق بين الكلمتين قيمة، يجب أن يظهر في الصوت، والمعنى، والاستعمال الجراماطيقي. وكلما ازداد التوافق من هذه الجهات الثلاث، زاد احتمال الصواب في الربط بينهما إبتيمولوجيا"، وهو بهذا يضغط كل القواد الجوهرية، لتغير المعنى في هاتين الجملتين. وبعد هذا الكلام عن جهة النظر الدياكرونية التاريخية في تغير المعنى، سنحاول في الصفحات الآتية تلخيص نظرية استاذناج، ر. فيرث في منهج الدلالة، وأن نشرح الظروف التي مر بها أهم اصطلاح من اصطلاحات هذه النظرية، وهو "الماجريات" أو"Context of situation".   1 Linguistique Historique et Linguisfique Generale, p. 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 2- النظرة الاستاتيكية : يقول فيرث1: إن دي سوسور أول من فرق تفريقا فنيا بين دراسة التغير في المعنى، ودراسة المعنى في حالة سينكرونية، وأطلق على الأخيرة "Semiologie"، ورأى أن هذا النوع من فروع الدراسة، يجب أن يستخدم نتائج علم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، ليقرر أبوابه، ويصف حقائقه؛ وأن علم اللغة لن يصبح علما بغير اعتبار هذا الفرع. والآن ننفض أيدينا من وجهة النظر التاريخية، لننشئ منهجا لدراسة الصيغة، والوظيفة، في اللغة فنجعل الفكرة المركزية في هذا المنهج هي "الماجريات"،   1 Technique of Semantics, Trans. Phil. Soc. 1935. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وهي تدل -بأحد معانيها- على مجموع عناصر محيطة بموضوع التحليل، تشمل حتى التكوين الشخصي، والتاريخ الثقافي، للشخص؛ ويدخل في حسابها الماضي، والحاضر، والمستقبل، وهذا الاصطلاح -بالنسبة لعلم اللغة- قصد به دائمًا سياق النص، أما في السلوك الكلامي العادي، فكل وضَع -مهما كان- يعتبر عنصرًا من عناصر الماجريات. وقد تكون الصيغة أصواتية "ويشمل ذلك التنغيم"، أو إملائية، ولكنها يجب أن يقصد بها الشكل الخالص في الموضع المعين، مع إخراج الأبواب المنطقية، والجراماطيقية، وكما ينبغي أن نؤكد ضرورة الدراسة الصرفية الصحيحة، باعتبارها ضمانًا لدراسة الدلالة، من الناحية التاريخية، يجب أن نقول: إن أية دراسة دلالية وصفية للكلام، لا يمكن أن يعتمد عليها، إذا لم تأخذ في اعتبارها الأصوات "والتنغيم داخل هنا"، ونحن لا نستطيع أن نبدأ الصرف بلا دراسة الأصوات، بل إننا في بعض الحالات نجد الأصوات دراسة ضرورية للنحو أيضا. فالأبواب الشكلية أصواتية تنغيمية موقعية، ولكن هناك أبوابًا عامة نحوية في طبيعتها، كالجملة المؤكدة، وغير المؤكدة، والطلب والتقرير، والتمني، والاستفهامات الخاصة، وما إلى ذلك. ويعتبر الدكتور جاردنر الوحيد من بين علماء اللغة تقريبا، الذي خصص مكانا للتنغيم في الجراماطيقا والدلالة، وقد تبعه في المنهج الشكلي الخاص الذي يعتبر الماجريات "الدكتور شتراومان"، في كتابه "Newspapers Headilines"، وحقائق العناوين ذات الحروف الضخمة، حقائق منظورة فحسب، على وجه التقريب، ولكن هذا المنهج يتجه إلى الصيغ المسموعة كذلك، فعند فيرث أنه لا دلالة بلا صرف. ولقد لاحظنا في الكلام السابق، أن المعنى تشقق فأصبح علاقة، أو منظمة من العلاقات، وهذا هو السبب الذي فضل الكثيرون من أجله، أن يكتفوا بدراسة التغير، لوضوح العلاقة بين المعنى الأصلي، والمعنى المنقول، لقد سبق أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 شرحنا وجهة نظر أجدن ريتشارد في دراسة المعنى، فهم يرونه في عناصر ثلاثة الرمز، والفكرة، والمقصود، ولكن المعنى بالنسبة إليهما علاقة ذهنية بين الحقائق، والأحداث من ناحية، وبين الرموز أو الكلمات من ناحية أخرى، ولنقارن العناوين الآتية لحادثة واحدة، هي الحكم على أحد اللوردات في حادث معين: The Time: R.M. S.P. Case. Daily Heraald: Lord X sent to Prison for a year. News Chronicle: Lord X sentensed. Daily Mirror: Lord X sent to gaol for 12 months. Daily Mail: Lord X sentence shokcs the City. Daily Worker: Lord Xgets 12 Nonths sevrve him right. فبالنسبة لأوجدن وريتشارد، هناك مقصود واحد هو الحكم على اللورد، ورموز مختلفة للحكم في عناوين مختلفة، وأما الأفكار فهي العلاقات بين الحكم والرموز. ولكننا لا نعلم كثيرا عن العقل، وإن دراسة اجتماعية في جوهرها، لا تحب أن تعيد ثنائية الروح والجسد، والفكرة والكلمة، ولكنها تقنع بالشخص جميعه فكرًا وعاملا، مرتبطًا بزملائه ومحيطه، فالمعنى إذًا علاقة جوهرية في ماجريات، وفي هذا النوع من اللغة الذي يشوش الهواء، وآذان الآخرين، كنوع من أنواع السلوك ذي علاقة بعناصر أخرى من الماجريات، فالمنهج الذي يجري على أساس الماجريات، لا يؤكد العلاقات بين المفهومات التاريخية، ولا العقلية، ولكنه يدخل في العلاقات التي في الماجري الملاحظ نفسه. فنحن نشقق المعنى إلى نسق من الوظائف المكونة له، ونحد كل وظيفة بأنها استعمال شكل لغوي معين، أو عنصر لغوي معين في سياق، ومعنى هذا أننا ننظر إلى المعنى باعتباره مركبًا من علاقات الماجريات، والجراماطيقا "بفروعها"، والمعجم، والدلالة، وكل من هذه الجهات، يتناول نصيبه الدراسي من هذا المركب بالبحث في ماجرياته المناسبة. ليس هناك علم للدلالة بلا دراسة للصرف، أي دراسة الصيغ، ويجب هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أن نخطط طريقة لوصف الصيغ، وأن نرى المقصود بالوظيفة الأصواتية، والوظيفة الصرفية، والوظيفة النحوية، كأجزاء من مركب وظيفي يلمح في دراسة أي صيغة لغوية. وتزداد معارفنا كلما تقدمنا خطوة في تحليل هذه الوظائف، وإن دراسة الصوت الإنساني في وقت عمله لمهمة خطيرة جدا، لدرجة أننا يجب أن نشقق الكلام باعتباره نمطا سلوكيا مترابطًا، وأن نطبق على كل شق منه منهجًا مختصًا، بوصف انقسام عناصر الكلام، التي نعزلها للتحليل، فنجعل منجها للأصوات، وآخر للتشكيل الصوتي، وللصرف، وللنحو، وهلم جرا، ويمكننا أن نحدد حدود هذه العناصر، ونعين ماهية كل منها، على طريقة الاستبدال، فالكلمة مقابل استبدالي معجمي "lexical substitution counter"، والصوت مقابل استبدالي أصواتي، أو صرفي "phonetic or morphological substitution counter"، وهلم جرا، ونحن نجد في السياق الأصواتي الذي يبدأ بصوت "b"، وينتهي بوصت "d" سنة عشر مقابلا استبداليًا من أصوات العلة فالوظيفة الأصواتية لكل صوت من هذه الأصوات العلية الستة عشر بين صوتي "b" و"d"، وهي استخدامه في مقابل الخمسة عشرة صوتا الأخرى، وبين "P" و"I"، يمكن وجود أحد عشر صوتًا عليا، وبين "h" و"d"، يمكن وجود ثلاثة عشر، ويمكن إجراء طريقة الاستبدال أيضا على "b" و"d"، ثم"P" و"i"، ثم"h، و"d"، كل على حدة، فإذا قارنا هذه الأصوات الصحيحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فإذا درسنا توزيع هذه المقابلات الاستبدالية في كل السياقات الممكنة، وذلك بإجراء توزيع موقعي للمقابلات، فإننا نحصل على نسبة ورود هذه المقابلات في المواقع المختلفة "frequency of occurrance"، وعلى مجموع الوحدات الخلافية في صيغة ما من صيغ الكلام، ووصفها، وتنظيمها، حتى يتكون منها النظام التشكيلي للغة. فالوظيفة الأصواتية لصيغة، أو صوت، أو مظهر موقعي، هي استخدامه في مقابل الوحدات الخلافية الأخرى، والقيمة الأصواتية لأي صوت، إنما يقررها مكانه في النظام الأصواتي العام، والوظيفة الصغرى، أو الأصواتية، لأي صوت تظهر بدراسته بالنسبة للمواقع الأصواتية التي يقع فيها، وبالنسبة للأصوات الأخرى، التي يمكن أن تحل محله في نفس الموقع، أو بعبارة أخرى، وبالنسبة لماجريات النظام التشكيلي العام. ولقد سمى اللغويون المقابل الاستبدالي الأصواتي "الفونيم"، وقد استعمله في الإنجليزية لأول مرة، "ر. ج. لوبد"، في استعراضه لرأي بودوان دي كورتيني "Boudoin de Courtenay"، وكمثال من أمثلته، نورد أصوات "t" في كلمات مثل: tik- stik0 trik- bete- vtmoust - biitn- biitl- eti. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فأصوات "t" هذه مختلفة في كل كلمة عنها في الأخرى، وكل منها منسوب نسبة خاصة إلى الموقع الذي يقع فيه، حتى إن صح أن أصوتا أخرى تحل محلها مثل "I" أو"P"، فإن واحدا من أصوات "t" لا يحل محل الآخر، فعندنا إذا ثمانية أصوات "t" محددة تحديدا موقعيًا، ولكل صوت منها موقعه الخاص به، في أسلوب كلام نوع من المتكلمين، من مكان أو أمكنة معينة، ولهذا يجب أن يوضع لكل هذه الأصوات رمز "t"، الذي يصبح له معنى أصواتي خاص في كل موقع، وإن اتحد معناه التشكيلي في الجميع، بتسميته رمز "t"، ويبدو في علاج "و. ف. توارل"، للفونيم أن هذه النظرية لا تزال في البوتقة، وأن عمله ليظهر كأنه تعميد قبل الولادة، وأخيرًا نحن مضطرون إلى القول: إن مجموعة من الفونيمات ليست إلا مجموعة من الرموز الكتابية، وإذا رمزنا إلى الأشكال اللغوية رمزا واضحا بنظام رمزي كتابي، ورمزنا لما في هذه الأشكال من ملامح ثانوية موقعية، برموز فرعية مصاحبة "diacritic"، فلربما يمكن استعمال كلمة "فونيم"، لوصف الوحدة الرمزية الكتابية في هذا النظام الرمزي. ولكن العناصر الاسبتدالية في الكلام رموز كتابية، ولكنها طرق لأشياء يمكن استخراجها من الصوت الإنساني الحي، وهو يعمل، ثم تحليلها، ولسنا نقصد بذلك النطق فحسب، وإنما نقصد أيضا عددا من الصفات العامة، والعلاقات التي ترتبط، كالكمية، والنغمة، والنبر، والقوة. وتجعل نظرية الفونيم في قدرة واصفي الأبجديات أن يضعوا قواعد للنطق، ولكن الكمية والنغمة، والنبر، ومثل هذه العناصر الاستبدالية، تواجه هؤلاء بصعوبات كثيرة من الناحيتين النظرية والعملية، ولهذا توسعوا في نظرية الفونيم، لتشمل هذه العناصر، ومن هنا جاءت الاصطلاحات "فونيم"، و"كرونيم"، وما أشبهها، لتدل على وحدات التنغيم، والنبر، والكمية، وهلم جرا. وكما يتشقق المعنى إلى عناصره الأصواتية، والتشكيلية، والصرفية، والنحوية وهلم جرا، يجري تحليل الكلام المنطوق إلى عناصره التي يمكن تشقيق بعضها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وهو الأصوات، إلى عناصره أيضًا، فهذه الأصوات يمكن تحليلها بطرق متعددة منها: 1- النطق. 2- الصفات العامة أو العلاقات، كالكمية، والنبر والنغمة، والجهر، التي ترتبط بالنطق، لتؤدي وظيفة خاصة. ففي النظام التشكيلي لأي لغة تتكون الصلات الأصواتية من حالات النطق، والعلاقات "أي من المخارج، والصفات"، ومن مهمة علم الأصوات أن يختبرها، ويصفها، ويخضعها للكتابة بواسطة الرموز الأصواتية، ومن الحقائق المبدئية أن عددا من الأصوات، قد يشترك في مخرج واحد، مثل "m", "b" ,"p". أو يشترك في صفة واحدة، كالجهر، أو الهمس، اللذين يسميها فيرث "علاقة الجهر" أو "Voice Correlation"، ومن الأصوات المهموسة في الفرنسية "f" "s" "t" "p"، أي أن بينها علاقة الجهر السلبية، ولكن "v" "z", "d"," b"، تتميز من هؤلاء بعلاقة الجهر الإيجابية. وليست هناك صعوبات نظرية في الأصوات؛ لأن التحليل إلى مجهور، ومهموس ليس من الضرروي أن يطابق الرموز الكتابية الرومانية، التي وضع نسقها ليعبر عن ذلك، وغالبا ما نتهم علماء التشكيل المتقدمين بشغلهم بالرمزية، والنوعية عن اللغة، وقد تتجه نفس التهمة إلى بعض علماء الأصوات المحدثين أيضا. وليس تيار الكلام خيطا من الرموز الرومانية، فهذه الرموز الكتابية في العادة تدل على النطق، وربما دلت على علاقة، أو علاقتين، كالجهر، والهمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الصفحة بالكامل إسكنر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إسكنر السطر الأول. أصواتية، فق كشفنا عن جزء من المعنى، ولكن هذا الجزء ليست له أية وظيفة دلالية، فنحن لا نستطيع حتى أن نمنح الصيغة تحديدًا صرفيا عند هذه النقطة، دون أن ندخلها في تحليلات جديدة، في توزيعات شكلية، ومواقع في السياق. فهي عند هذا الحد صيغة محايدة، إلا من الناحية الأصواتية، وفي "Not on the board"، تدخل في وضوح سياقي جديد، ويتضح جزء آخر من المعنى، هو الصرفي، لوضوح أسميتها، واتضح وظيفتها الصرفية، وأما وظيفتها الدلالية، فإنها لا تزال غامضة عند هذا الحد، فالجملة كلها محايدة من الناحية الدلالية، ولا تتضح وظيفتها الدلالية، إلا بتحليلها في نطاق الماجريات أولا: إيجابيا باستعمال الكلمات بالنسبة للظروف المحيطة بالحدث الكلامي، وثانيا: سلبيا باستخدام ما يسمى الاستبعاد من الماجريات، فوجود "Chess board" في هذا الظرف الذي تم فيه النطق، ربما يتسبب في استبعاد اعتبار "Commercial borard"، أو"board of studies"، فهذه داخلة فيما سميناه من قبل استخدام القيم الخلافية في تحديد المعنى. وأما "Not on the board?", "Not on the board! "، فنوعان مختلفان اختلافا نحويا، لا دلاليا؛ لأن إحداهما تقرير، والأخرى استفهام، ومن هنا يتضح فيهما الجزء النحوي من أجزاء المعنى. والفكرة المركزية في علم الدلالة، هي فكرة الماجريات "Context of situation"، وأول من استخدام هذ الاصطلاح بالمعنى الذي يستخدمه فيه هذا البحث، هو العالم البولندي الإنجليزي "برونسلو مالينوفسكي"، في الملحق الذي دبجه في كتاب "The Meaning of Meaning"، تأليف أوجدن وريتشارد، وإلا فقد جرى الاصطلاح Context على أقلام الكثيرين من الكتاب في دارسة المعنى بمعان مختلفة، باختلاف فرع المعرفة، الذي يستخدم فيه الاصطلاح، وأحيانا باختلاف الكتاب في نفس الفرع، حتى لقد لحقه بعض الغموض، "ومن المجدي أن نؤكد على أي حال -لا أن الاصطلاح "Context"، قد أصبح أخيرًا غامضًا جدًا، كما يرى ذلك حماته الأصليون- بل إن استعمالاته ليست متساوية جميعها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الاتصال بهذه المشكلة، مشكلة استقلال الكلمات"1، ويستعمل فيرث هذا الاصطلاح، باعتباره دالا على عناصر موقف كلامي كامل، كالمتكلم، والسامع، أو السامعين، والكلام، وكل ما يحدث في أثناء الكلام من انفعالات، واستجابات، ومسالك، وكل ما يتصل بالموقف ويؤثر فيه، من قريب أو بعيد. وفي هذه الماجريات المركبة يجد عالم الأصوات ما جراه، والنحوي والمعجمي كذلك ما جرياتهم، وإذا أردت أن تدخل في ذلك الظروف الثقافية العامة2، فسوف تحصل منها على ماجريات التجربة لطرفي التبادل في الكلام، فكل إنسان يحمل معه ثقافته، وكثير من حقائقه الاجتماعية، أينما ذهب، فالإنجليزي في عزلته في أفريقيا، يحمل معه كثيرا من الطوابع الثقافية، والاجتماعية والإنجليزية، فربما عبر عن دهشته "exclaim"، باللغة الإنجليزية، إذا فاجأه شيء ما، وربما تكلم إلى أفراد الحيوان باللغة الإنجليزية أيضًا، وكتب مذكرته الخاصة، وقرأ كتبًا انجليزية، ولكن حتى بعد أن ينتهي الأصواتي، والنحوي، والمعجمي، من مهمتهم، يبقى بعد ذلك قسط كبير من تحليل المعنى، يكون بإيجاد الترابط بين نتائج أعمالهم، وفي دراسة دلالية تعتمد على الماجريات والتجارب، ويحتفظ فيرث لهذه الدراسة باسم Semantics، ولكن حتى لو لم تكن الماجريات نهاية الطريق في تحليل "The house that jack built"، فإن عملية التمييز بين بقية العناصر، ستكون من مجال التاريخ الاجتماعي. وبعد، فلسنا نستطيع أن نتنبأ بما يخبئه المستقبل من تطور في هذا الفرع، ولكننا نستطيع أن نعين، ونميز، ونقترح حلا لتلك المشكلة الصعبة، التي نصادفها أولا في وصف الماجريات النوعية، وتقسيمها في نطاق الثقافة، وثانيا في وصف أنواع الوظائف اللغوية، وتقسيمها في نطاق هذه المجريات، وأكبر صعوبة نقابلها هي عدم وجود وثائق، تستخدم في استقصاء كيفية اكتسابنا للكلام أثناء نمونا.   1 Ulman, Principles of Semantics, p. 60. 2 المقصود بالثقافة هنا كيفية التنشئة، بالمعنى الأنثروبولوجي الذي يشمل العادات، والتقاليد، والمعتقدات، وطرق السلوك المحددة، وهلم جرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ولسنا نلقى اللوم في هذا على علماء النفس والاجتماع، ما دام من السهل أن يحصل اللغوي على تمرين كاف في علمي النفس والاجتماع، يمكنه من السير بمفرده في هذا السبيل؛ ولنسا بهذا نهدف إلى علم اللغة الاجتماعي، بل نبني على قواعد من علم اللغة، فبلا وجود الأصوات، لا يمكن وجود صرف لأي لغة من لغات الكلام، وبلا وجود التنغيم، لا يمكن أن يوجد النحو وجودًا كاملا. خذ منذ مثلًا كلمة "set"، في قاموس أو كسفورد، فستجدها تغطي ثماني عشرة صفحة، ونهرا واحدًا، فوق ذلك، ونقسم إلى 154 مدخلا آخرها "set up"، الذي ينقسم بدوره إلى أقسام فرعية، تستغرق رموز الأبجدية ترقيما، فتتكرر الرموز لها إلى "rr"، وهذا يدعونا إلى التفكير في أبواب لأنواع الوظائف اللغوية المختلفة، فالماجريات المتكاثرة، والموضحة، يمكن أن تستمر في تكاثرها إلى ما لا نهاية، حتى تملأ جزءا كاملا، ولكننا نجد من الناحية العملية أن هذه الماجريات يمكن أن تنتظمها أقسام، هي أنواع الاستعمال، وحتى لو استخدمنا الأبواب الاجتماعية القليلة المذكورة في قاموس، أو كسفورد، مثل عامي Colloquial، وسوقي common وطارئ slang، وأدبي literary، وفني tencnical، وعلمي scientific، وتخاطبي conversational، وخاص بلهجة dialectal، ثم تذكرنا قاعدة الورود النسبي في الاستعمال "relative frequency"، مهما كان ذلك على وجه التقريب، فسوف نحصل عن طريق تلك القاعدة على كلمات لا ترد إلا في ماجريات نوعية، ونحن بحاجة في دراسة الجملة إلى أبواب لغوية محددة تحديدًا أكثر في دقته مما هو الآن، بأن نحدد أنواع الجملة، واستعمالاتها في الأدوار الاجتماعية المختلفة التي يلعبها المتكلم، كلنا يبدأ الحياة بدورين اثنين هما النعاس والتغذي، ولكننا نبدأ نشاطنا الاجتماعي في الشهر الثالث، ومنذ ذلك الوقت نضيف إلى تجاربنا أدورًا اجتماعية أخرى بالتدريج، وفي خلال مرحلة النمو يزداد اندماجنا في النظام الاجتماعي الذي نعيش فيه، وأهم الشروط والوسائل لهذا الاندماج هو أن نتعلم، كيف نقول ما يتوقع الآخرون منا أن نقول، في الظروف الخاصة به، وفي الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أن الكلمة إذا تعددت ماجرياتها، فإن المواقف كذلك تتعدد إلى ما لا نهاية. ولكن هناك روتينا من الأيام، والليالي، والشهور، والأعوام، ومعظم وقتنا ينقضي في خدمات روتينية، عائلية، أو مهنية، أو اجتماعية، أو وطنية، وليس الكلام هو الفوضى، التي لا حد لها كما ظن "بسبرسن"؛ لأنه محدد بالطرق والأدوار الاجتماعية، فإذا سلمنا بهذا، انتقلنا إلى القول بأن هذه الطرق يمكن تقسيمها، وإيجاد علاقاتها بالدور، وبالحوادث، والمناظر، والحركات، فالمحادثة طقوس معيارية محددة الطريقة والسلوك، فإذا تكلم إنسان إليك، فأنت في مجريات محددة، ولا تستطيع أن تكون حرا في قول ما يخطر على بالك، أو يسرك أن تقوله، لقد خلقنا أفرادًا، ولكننا نصبح اجتماعيين لحاجتنا إلى ذلك، وإلى أن نقوم بمجموعة من الأدوار، ونتقمص مجموعة من الشخصيات، ولهذا لا يصعب الفهم والتناول لأبواب المواقف، والأبواب اللغوية، وقد يجد كثير من الأبواب، نتيجة الملاحظة المنظمة للحقائق. وتعلمنا الكلام روتين في الدورة اليومية أيضًا، والكلام عمل صوتي للتحكم في الأشياء، والناس، ومنهم المتكلم نفسه؛ عمل له علاقة بالماجريات، والمواقف أو له تكيف بكيفيتها، أن مما بيننا وبين بيئتنا إباحة الكلام، وتزداد كلماتنا باختلاطنا بما في هذه البيئة، وإن دراسة الكلمات في هذا الاختلاط الثقافي1 التنشيئي، ربما تصف هذه الناحية الدلالية. ونحن قد نولد لنرث تركة ثقافية واسعة، ولكننا نأمل أن ننجح في حسن استخدام جزء منها على مراحل، ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن لكل مرحلة من مراحل الطفولة، والشباب، لكل نوع من الأطفال، بيئة، وصيغا لغوية تتصل بها، وهناك حقل واسع للبحث في السير الكلامية، وهناك نصيب لكل فرع من فروع اللغة في دراسة أجزاء المعنى في تاريخ حياة المتكلم، وتاريخ اكتسابه   1 بالمعنى الأنثربولوجي لا التربوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 للكلام، باعتباره عضوًا نشطا في المجموعة التي في سنه، وباعتباره تلميذا في طفولته، وشبابه. وهناك إمكانيات عظيمة في دراسة تاريخ تغير المعنى من الطفولة إلى الكبر، في كلمات مثل: أب، أم، حب، طفل، لعب، لعبة، علم، نقود، ملابس، شراب، وهلم جرا، ويخصص فيرث اسم semasiology لدراسة التغير في المعنى، ويقترح أن يجعل الأصوات، والدلالة من الدراسات اللغوية العامة، وما يقابلها في لغة خاصة كالعربية سمي Phonology، و semasiology، ولقد كتب جماعة كتابة تخطيطية عن السير الأصواتية لبعض الأطفال، وأضافوا إليها شيئا من السير الجراماطيقية في عمومها، ولكننا لا نعلم الكثير حتى الآن عن تطور الفرد في اللغة، ومما له صلة بهذا النوع من السير ما يسميه فيرث تجميع الأدورا الاجتماعية، فعلى الرجل أن يلعب أدورًا مختلفة، ووظائف مختلفة، ويتقمص شخصيات مختلفة؛ في حياته العادية اليومية، فإذا لم يعلم كيف يقوم بتمثيل هذه الأدوار، ويحفظ ما يقال فيها، أخفق في تمثيل دوره في الدراما الاجتماعية الكبرى، بل ربما كان سببا في إخفاق الممثل الآخر الذي يقف أمامه، ما دام لا يعطيه مفاتيح جُمَله. وتعدد الأدوار الاجتماعية، كعضوية المجموعة الشعبية العربية، وعضوية الأمة المصرية، وعضوية طبقة منها، وعضوية عائلة، أو مدرسة، أو ناد، وكالبنوة، والأخوة، والحب، والأبوة، وكون صاحب الدور عاملا، أو مصليا في مسجد، أو كنيسة، أو لاعبًا رياضيًا في مجموعة، أو قارئ جريدة خاصة لها قراؤها، أو خطيبًا، يتطلب قسطا من التخصص الاستعمالي اللغوي. وتشابك الأدوار ذو نفوذ محافظ؛ لأن الكلمة ربما تستعمل في أدوار مختلفة، وربما يحدد استعمالها، ولكن ما دام الاستعمال الخاص لا يكتسب ضيقا، بسبب ظروفه الاستعمالية، أو توسعا في نسبة الورود Frequency، فلن تتأثر الاستعمالات الأخرى، ولصوت الراديو في المنازل نفس النفوذ؛ ما دامت ظروف السماع تسمح بذلك، ولكنه إحدى الأدوات التي جاء بها العصر لكسر الحواجز، والسماح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بتشابك الدوائر الاجتماعية، واللغوية، ولمنع انقسام لغوي أكثر على ما يبدو، ولتخفيف القوى المحافظة. والتصميم التقسيمي المناسب للماجريات، يقتضينا أن نوسع من مدى فهمنا اللغوي، فبعض الأبواب الأولية في هذا التقسيم مثل التكلم، والسماع، والكتابة، والقراءة، والمحادثة، والتخاطب الرسمي، ولغة المدارس والقانون، والدين؛ كل أولئك أشكال كلامية خاصة، وربما أضفنا لذلك الكلام الذي يقوله المنفرد، وهو ما يسمى في الاصطلاح اللغوي "المونولوج"، والمواقف التي تقتضي معونة صوتية كما في الأدعية العامة، والهتاف، والغناء الجمعي، وما يسميه مالينوفسكي "Phatic communication"، وهو نوع من المحادثة لخلق صلة اجتماعيا بتبادل الكلمات، كتبادل التحيات، والكلام عن الطقس، وفي السياسة، وفي التبرم بشيء ما، أو مدحه، ويتم ذلك بين شخصين ليس بينهما ما يشتركان في الحديث فيه مما عدا ذلك، فيمنعان بالتخاطب السكوت المحرج. وأصر مالينوفكسي أيضا على نوع من الكلام، يقوم التبادل الكلامي فيه بوظيفة هامة، هي المساعدة على إنجاز عمل، كالصيد، ورفع الأحمال، والبناء، والحفر، ويقول: إن معنى هذه الكلمات ليس إلا قيمتها العلمية في إنجاز العمل، وإلا فأي معنى في "يا سالمة يا سلامة" مثلًا؟ ومعظم العلامات اللغوية البصرية في أيامنا هذه ملاحظات، وتوجيهات من هذا النوع، كعلامة "احترس من القطارات"، و"اتجه إلى اليمن"، و"ممنوع الجلوس على الحشيش"، وهلم جرا. وكثيرا من محادثاتنا، ومناقشاتنا يجور حول أعداد العمل الجماعي، أو المحدد اجتماعيا، فلغة الإدارة والحكومة لغة تخطيط، وتنظيم، وقيادة عامة، وما يتبع ذلك من مناقشة حول النجاح، أو الإخفاق في التخطيط والتنظيم، والقيادة إنما هو خلق صلة جماعية، في موقف الإخفاق والفشل، أو النجاح في العمل. ولنا أن نلاحظ بعض المواقف العامة مثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 1- الخطاب: اسمع يا فلان: يا سيدي الفاضل. عن إذن سيادتك. 2- التحية: وألفاظ الوداع -التأثر بتوقع الفراق في هذا الموقف وما يقال فيه، اللقاء وما يقال فيه. 3- المواقف الإلزامية: كما في الكلمات المحدودة الاستعمال بالعرف أو القانون، حيث تربط الكلمات الإنسان بواجب، أو تحله منه، فكلمة إرساء المزاد العلني على شخص تلزمه بالشراء، وما يقال أمام المحقق ملزم للمتهم، والتوقيع بالاسم ملزم على أية وثيقة، ويمكن أن نقوم بدراسة ممتعة لحيثيات الأحكام، وما فيها من معلومات دلالية، واعتراف بالماجريات، ولبعض الكلمات قيمة عرفية خاصة في خلق الارتباط، مثل "أنا أعلم أنك لن تخدعني"، و"عد الحردين عليه"، و"ما تبقاش جلف"؛ لأن استعمال هذه الكلمات، يخلق خوف السامع من الرأي الرقيب أن يرميه بأنه خذول، أو غير حر، أو جلف. ومن الكلمات السحرية في هذا العصر، كلمة "مشروع" التي يمكن أن تكسب احتراما لأي عمل، لاتصالها بمجريات ذات نفوذ، وأخيرًا نحن بحاجة إلى خلق أبواب لهذه الدراسة الاجتماعية. ولأن نقترح أنواعا من الوظائف اللغوية أسهل من أن نقسم المواقف، ومن أنواع الوظائف الاتفاق، والتشجيع، والمصادفة، والاختلاف، والتثبيط، والشتم، وما دامت اللغة طريقة من طرق المعاملة بين الناس والأشياء، أي طريقة للسلوك، وحض الآخرين على السلوك المراد، فيمكننا أن نضيف إلى ذلك أنواعا أخرى من الوظائف كالتمني، والدعاء، واللعن، والفخر، والتحدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 والرجاء وعدم الاكتراث، والتحقير، وإثارة الغيظ، والإيلام، وإعلان العداوة، واستعمال الكلمات لمنع عمل عدواني، أو تأخيره، أو تعديله، ولإخفاء النوايا فتكون من ذلك دراسة ممتعة للمعنى، ويجب ألا ننسى في هذا المقام لغة الملق، والتحبب، والغزل، والمدح، واللوم، والدعاية، والإغراء، إن التقويم والحكم في المدح والذم الموجه إلى الأفراد، والأمم، والكتب والقصص، محدودة الشكل والصيغة أكثر مما يظن الكثير من الناس، ومعظم المتكلمين بالإنجليزية يعرفون نسبة كل تعبير، مما يأتي إلى التعبيرات الأخرى: "a good man" , "agood chap", " agood felowl", a good sort" "a good scout'. فلكل واحد من هذه التعبيرات دلالته الاجتماعية، وإن دراسة للتعليق على الكتب الجديدة في الصحف، لتظهر إلى أي مدى أصبح تقويم هذه الكتب في أسلوبه محددًا من الناحية الشكلية، وطرق التعبير، والمفردات، وليس معنى ذلك أن هذه التقويمات أصبحت لا معنى لها، ولكنها أصبحت مجموعة بسيطة من العلامات المحشودة، النافعة من الناحية العملية. وإن التوسع في تقسيم الوظائف اللغوية الشكلية، ليؤدي إلى ملاحظة أنواع مختلفة من الكلام، كالكلام التقليدي، والديني، والإلحادي، والحر، والمحادثة العادية، ويأسف فيرث لتغلب النمطية، والمحدودية على المحادثات اليومية، وأن النظرة إلى هذه المحادثات ضيقة من وجهة نظر الثقافة، فكل ما يقال يدل على ما سيقال، وهذا نوع من أنواع الماجريات، فهناك قوة إيجابية في ما تقوله في موقف معين، وقوة سلبية في استخراج الحوادث، والظروف من الموقف الذي تستخدم فيه الكلمات، وسنجد في المحادثة مفتاح الفهم الحقيقي لطبيعة اللغة، وكيف تؤدي وظيفتها. والترجمة من لغة إلى لغة في الواقع مليئة بمشاكل الدلالات، وهذه النظرية التي جاء بها فيرث تحليلات إمبريكالية عملية، لا نظرية للمعنى، ويمكن وصفها بأنها نسق من الماجريات، كل ما جرى منها في داخل الآخر، وتتجه جميعها إلى شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الحقائق اللغوية، وكل ما جرى منها وظيفة الماجري الذي يشتمل عليه، ولا يزال يشتمل كل من هذه الماجريات على الآخر، حتى تحتويها جميعا ماجريات الثقافة التنشيئية، فالمعنى في رأي فيرث كل مركب من وظائف لغوية هي وظائف الصيغة، والعناصر الهامة في هذا الكل المركب هي الوظيفة الأصواتية "الصغرى"، ثم الوظائف الكبرى المعجمية، والصرفية والنحوية، ووظيفة الماجريات الدلالية بصفة عامة، وإليك طريقة من طرق تحليل هذه العناصر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 خاتمة : وبعد فهذا منهج من مناهج الدراسات اللغوية المختلفة، مطبق على اللغة العربية لأول مرة، نرجو أن يكون القارئ، قد وجد فيه ما يثير اهتمامه أو يدفعه إلى التفكير فيه، ولقد تم لنا في هذا المهج أن نعالج مسائل الأصوات، لنقارن بينها وبين علم التجويد، وأن نعالج مسائل التشكيل، لنضيف إلى وسائل الدراسة العربية شيئا جديدًا، ومسائل الصرف والنحو، لنرى بعض نقط الضعف فيها، ونرشد إلى نظرة إليها خير من النظرة القديمة، وأن نعرف بالمعجم، ومجال نشاطه، وأن ننقل إلى القارئ صورا عن النظرات المختلفة إلى منهج الدلالة. والفائدة التي تعود من تطبيق هذا المنهج، هي تخليص الدراسات اللغوية من الشوائب الأخرى، ليجد الطالب نفسه أمام موضوع مستقل، لا يعتمد في أفكاره، ولا في اصطلاحاته على فروع المعرفة الأخرى، ولست أدعي أنني قد أتيت في هذا الكتاب بشيء لا يقبل المناقشة، بل على العكس، إن كل ما أطمع فيه هو أن ينجح هذا الكتاب في إثارة النقاش حول منهج اللغة، والحقيقة دائما وليدة البحث، والواقع أن الحقائق العلمية اعتبارية كلها، فتظل الحقيقة منها حقيقة حتى تظهر أخرى تحمل حملها، وتخضع لنفس المصير المحتمل. إذًا فليس في العلم حقيقة مطلقة، وإنما توجد الحقائق المطلقة في أذهان المتعصبين والجهلاء. دعنا إذًا نقل إن المجمع اللغوي، وهو يضم خلاصة المفكرين اللغويين في هذا البلد، قمين بأن يمنح هذه المناهج الحديثة بعض تفكيره، ولئن فعل -أرجو أن يفعل- فسيجد فيها بعض الغناء، وشيئا من النفع، قد لا ينافسها فيهما أي منهج قديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وأما طلاب الجامعة، فمرجوون أن يحاولوا فهم هذه المناهج، وأن يقولوا كلمتهم في سهولتها أو صعوبتها، وفي تيسيرها أو تعسيرها للدراسات اللغوية، فإذا كانت هذه المناهج سهلة الفهم ميسرة للغة، فأرجو أن يتكفل لنا المستقبل بمن يقيم على أساسها دراسات مفصلة، تجريبية لهذه الفورع اللغوية التي شرحنا مناهجها. والله سبحانه وتعالى أسأل أن يوفقنا إلى الصواب، وألا يجنبنا حسن القصد، إنه مجيب الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المراجع مراجع عربية ... 1- مراجع عربية: اسم المؤلف اسم الكتاب 1- ابن الأنباري. كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين. 2- ابن جني. أبو الفتح عثمان. الخصائص. 3- ابن عقيل. أبو محمد عبد الله شرح الألفية. 4- ابن مضاء. أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الرد على النحاة. 5- ابن هشام. عبد الله بن يوسف الأنصاري شذور الذهب. 6- الأشموني. علي بن محمد شرح الأشموني لألفية بن مالك. 7- الجاحظ. أبو عثمان عمرو بن بحر الفصول المختارة "رسالة الرد على النصارى". 8- الجرجاني. عبد القاهر دلائل الإعجاز. 9- السيوطي. جلال الدين المزهر. 10- السيوطي جلال الدين همع الهوامع شرح جمع الجوامع. 11- الصبان محمد بن علي حاشية الصبان على الأشموني. 12- العطار. الشيخ حسن حاشية العطار على مقولات السجاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 مراجع أجنبية ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الخطأ والصواب ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فهرس : الصفحة الموضوع تقديم ح 1 مقدمة 7تعريف بالرموز 8- رموز الأصوات ... 13- رموز الحروف 14 استقلال المنهج اللغوي 30 اللغة والكلام 57 منهج الدراسات اللغوية - تعدد الأنظمة في اللغة الواحدة 59 منهج الأصوا "الفوناتيك" 59- الصوت 63- الصوت اللغوي 69- الملاحظة 71- تسجيل الصوت 73- البلاتوغرافيا 80- الكيموغرافيا 82- صور الأشعة 84- الأصوات العربية 90- أصوات العربية الفصحى 91- الأصوات الشداد 97- الأصوات الرخوة 103- الصوت المركب 104- الأصوات المتوسطة 108- أصوات العلة. 111 منهج التشكيل الصوتي "الفونولوجيا" 113- التفريق بين الصحاح والعلل 121- تقسيم الحروف. 125- نظرية الفونيم 131- المجاورة في السياق 138- المقطع 146- الموقعية 147- موقعية البداية 148- موقعيات الوسط. 148- نقطة الاتصال 149- الشدة الأنفية 150- القلقلة 150- التقاء الساكنين 151- موقعية النهاية 151- موقعيات الشيوع 151- الإجهار والإهماس 152- القوة والضعف 153- التفخيم والترقيق 157- الكمية 160- النبر 164- التنغيم. 170 منهج الصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الصفحة الموضوع 170- المورفيم 173- الصيغة 177- الاشتقاق 183- وسائل خلق الرباعي 186- الملحقات 189- الجدول. التصريفي والتوزيع الصرفي. 162 منهج النحو 195- أقسام الكلام 203- وسائل الترابط في السياق 203- التماسك. 204- التوافق 206- التأثير 207- مظاهر التماسك. 208- الحالة 211- الزمن والجهة 215- مظاهر التوافق. 215- النوع 218- العدد 221- الشخص. 224 منهج المعجم 224- تعريف الكلمة 232- ما المعجم. 240 منهج الدلالة 240- النظرة الديناميكية 251- النظة الاستاتيكية. 270 خاتمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 صور الكتاب ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282