الكتاب: إعلام الموقعين عن رب العالمين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم الناشر: دار الكتب العلمية - ييروت الطبعة: الأولى، 1411هـ - 1991م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- إعلام الموقعين عن رب العالمين ابن القيم الكتاب: إعلام الموقعين عن رب العالمين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم الناشر: دار الكتب العلمية - ييروت الطبعة: الأولى، 1411هـ - 1991م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ أَطْوَارًا، وَصَرَّفَهُمْ فِي أَطْوَارِ التَّخْلِيقِ كَيْف شَاءَ عِزَّةً وَاقْتِدَارًا، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى الْمُكَلَّفِينَ إعْذَارًا مِنْهُ وَإِنْذَارًا، فَأَتَمَّ بِهِمْ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ نِعْمَتَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ بِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَنَاهِجَهُمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، فَنَصَبَ الدَّلِيلَ، وَأَنَارَ السَّبِيلَ، وَأَزَاحَ الْعِلَلَ، وَقَطَعَ الْمَعَاذِيرَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ الْمُحَجَّةَ، وَقَالَ: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] وَهَؤُلَاءِ رُسُلِي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، فَعَمَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ حُجَّةً مِنْهُ وَعَدْلًا، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نِعْمَةً وَفَضْلًا، فَقِيلَ: نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ سَابِقَةُ السَّعَادَةِ وَتَلَقَّاهَا بِالْيَمِينِ، وَقَالَ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ، وَرَدَّهَا مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهَا رَأْسًا بَيْنَ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا فَضْلُهُ وَعَطَاؤُهُ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] وَلَا فَضْلُهُ بِمَمْنُونٍ، وَهَذَا عَدْلُهُ وَقَضَاؤُهُ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَوْدَعَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ، إنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَتَبَارَكَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْدَلُ شَاهِدٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ فَاضَلَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ حَتَّى عَدَلَ الْآلَافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهُمْ بِالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ عِبَادُهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْفِيقَ مَنَازِلَهُ، وَوَضَعَ الْفَضْلَ مَوَاضِعَهُ، وَأَنَّهُ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] ، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29] أَحْمَدُهُ وَالتَّوْفِيقُ لِلْحَمْدِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَشْكُرُهُ وَالشُّكْرُ كَفِيلٌ بِالْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرْمِهِ وَقَسَمِهِ، وَاسْتَغْفِرْهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تُوجِبُ زَوَالَ نِعَمِهِ وَحُلُولَ نِقَمِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتْ الْمِلَّةُ، وَنُصِبَتْ الْقِبْلَةُ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الْجِهَادِ، وَبِهَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْعِبَادِ؛ فَهِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَمِفْتَاحُ عُبُودِيَّتِهِ الَّتِي دَعَا الْأُمَمَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ إلَيْهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَأَسَاسُ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَقُدْوَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَمُحَجَّةً لِلسَّالِكِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْمُعَانِدِينَ، وَحَسْرَةً عَلَى الْكَافِرِينَ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهَا شَكُورًا، فَأَمَدَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُبِينَ، الْفَارِقَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ، فَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصِّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرَ مَعَهُ كَمَا فِي الْخُطَبِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّأْذِينِ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ، وَسَدَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا إلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِهِ؛ فَهُوَ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تُوزَنُ الْأَخْلَاقُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ، وَالْفُرْقَانُ الْمُبِينُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَلَمْ يَزَلْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مُشَمِّرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ، صَادِعًا بِأَمْرِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، إلَى أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأَمَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ الْجِهَادِ، فَأَشْرَقَتْ بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا، وَتَأَلَّفَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَامْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ نُورًا وَابْتِهَاجًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَأْثَرَ بِهِ وَنَقَلَهُ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَالْمَحِلِّ الْأَسْنَى، وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْغَرَّاءِ، فَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا وَحَّدَ اللَّهَ وَعَرَّفَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ بِهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلَبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُونَ، مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا، وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِمَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا، فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرُ كُلُّهُ حُرِمَ، وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ، وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنْ الْفَاجِرِ وَالتَّقِيُّ مِنْ الْغَوِيِّ وَالظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لِلْعَمَلِ قَرِينًا وَشَافِعًا، وَشَرَفُهُ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ تَابِعًا، كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْفَعُهَا عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اقْتِبَاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 هَذَيْنِ النُّورَيْنِ، وَتَلَقِّي هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ، إلَّا مِنْ مُشَكَّاةِ مَنْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَصَرَّحَتْ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى؛ إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَلَمَّا كَانَ التَّلَقِّي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ بِوَاسِطَةٍ، وَنَوْعٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَانَ التَّلَقِّي بِلَا وَاسِطَةٍ حَظَّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبَّاقِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمَدِ فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي اللِّحَاقِ، وَلَكِنْ الْمُبْرِزُ مَنْ اتَّبَعَ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمَ، وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ الْقَوِيمَ وَالْمُتَخَلِّفُ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَذَلِكَ الْمُنْقَطِعُ التَّائِهُ فِي بَيْدَاءِ الْمَهَالِكِ وَالضَّلَالِ، فَأَيُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ لَمْ يَسْبِقُوا إلَيْهَا؟ وَأَيُّ خُطَّةِ رُشْدٍ لَمْ يُسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ وَرَدُوا رَأْسَ الْمَاءِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلَالًا، وَأَيَّدُوا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَدَعُوا لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالًا، فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِعَدْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْقُرَى بِالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، وَأَلْقَوْا إلَى التَّابِعِينَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ مُشَكَّاةِ النُّبُوَّةِ خَالِصًا صَافِيًا، وَكَانَ سَنَدُهُمْ فِيهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَنَدًا صَحِيحًا عَالِيًا، وَقَالُوا: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَقَدْ عَهِدْنَا إلَيْكُمْ، وَهَذِهِ وَصِيَّةُ رَبِّنَا وَفَرْضُهُ عَلَيْنَا وَهِيَ وَصِيَّتُهُ وَفَرْضُهُ عَلَيْكُمْ، فَجَرَى التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْقَوِيمِ، وَاقْتَفُوا عَلَى آثَارِهِمْ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمِ، ثُمَّ سَلَكَ تَابِعُو التَّابِعِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ الرَّشِيدَ، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] ، وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] ثُمَّ جَاءَتْ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمُفَضَّلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَسَلَكُوا عَلَى آثَارِهِمْ اقْتِصَاصًا، وَاقْتَبَسُوا هَذَا الْأَمْرَ عَنْ مِشْكَاتِهِمْ اقْتِبَاسًا، وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ، مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا، فَطَارَ لَهُمْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِمْ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ، زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ، وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَسْتَقِلُّونَ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، إذَا بَدَا لَهُمْ الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا، وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا وَكُلٌّ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ، وَرُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ، وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، وَالْفَرِيقَانِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ الصَّوَابِ، وَلِسَانُ الْحَقِّ يَتْلُو عَلَيْهِمْ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123] ، قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا بِدُونِ الدَّلِيلِ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ إخْرَاجَ الْمُتَعَصِّبِ بِالْهَوَى وَالْمُقَلِّدِ الْأَعْمَى عَنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ، وَسُقُوطَهُمَا بِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهُمَا الْفُرُوضَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ، وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ وَرَثَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَجْهَدُ وَيَكْدَحُ فِي رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ إلَى قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، وَيُضَيِّعُ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى وَلَا يَشْعُرُ بِتَضْيِيعِهِ تَاللَّهِ إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ، رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَلَمَّا عَمَّتْ بِهَا الْبَلِيَّةُ، وَعَظُمَتْ بِسَبَبِهَا الرَّزِيَّةُ، بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ سِوَاهَا، وَلَا يُعِدُّونَ الْعِلْمَ إلَّا إيَّاهَا، فَطَالِبُ الْحَقِّ مِنْ مَظَانِّهِ لَدَيْهِمْ مَفْتُونٌ، وَمُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ عِنْدَهُمْ مَغْبُونٌ، نَصَبُوا لِمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 خَالَفَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ الْحَبَائِلَ، وَبَغَوْا لَهُ الْغَوَائِلَ، وَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسِ الْجَهْلِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: إنَّا نَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ فَحَقِيقٌ بِمَنْ لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَقِيمَةٌ، أَلَا يَلْتَفِتَ إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا يَرْضَى لَهَا بِمَا لَدَيْهِمْ، وَإِذَا رُفِعَ لَهُ عِلْمُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ شَمَّرَ إلَيْهِ وَلَمْ يَحْبِسْ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَمَا هِيَ إلَّا سَاعَةٌ حَتَّى يُبَعْثَرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَتَتَسَاوَى أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ، وَيَنْظُرُ كُلُّ عَبْدٍ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَيَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَيَعْلَمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [فَصْلٌ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ] وَلَمَّا كَانَتْ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْ رَسُولِهِ شِعَارُ حِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] وَكَانَ التَّبْلِيغُ عَنْهُ مِنْ عَيْنِ تَبْلِيغِ أَلْفَاظِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَتَبْلِيغِ مَعَانِيهِ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ مُنْحَصِرِينَ فِي قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُفَّاظُ الْحَدِيثِ، وَجَهَابِذَتُهُ، وَالْقَادَةُ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْأَنَامِ وَزَوَامِلُ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ حَفِظُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ مَعَاقِدَ الدِّينِ وَمَعَاقِلَهُ، وَحَمَوْا مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّكْدِيرِ مَوَارِدَهُ وَمَنَاهِلَهُ، حَتَّى وَرَدَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى تِلْكَ الْمَنَاهِلَ صَافِيَةً مِنْ الْأَدْنَاسِ لَمْ تَشُبْهَا الْآرَاءُ تَغْيِيرًا، وَوَرَدُوا فِيهَا {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسٍ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فَصْلٌ [فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَمَنْزِلَتُهُمْ] الْقِسْمُ الثَّانِي: فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ دَارَتْ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، وَعَنَوْا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ الْأُمَرَاءُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ [طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ] وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأُمَرَاءَ إنَّمَا يُطَاعُونَ إذَا أَمَرُوا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ؛ فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَعْرُوفِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْعِلْمُ، فَكَمَا أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ فَطَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ قِيَامُ الْإِسْلَامِ بِطَائِفَتَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَبَعًا، كَانَ صَلَاحُ الْعَالَمِ بِصَلَاحِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَفَسَادُهُ بِفَسَادِهِمَا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ إذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُلُوكُ، وَالْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا [فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] ِ] وَلَمَّا كَانَ التَّبْلِيغُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْتَمِدُ الْعِلْمَ بِمَا يُبَلَّغُ، وَالصِّدْقَ فِيهِ، لَمْ تَصْلُحْ مَرْتَبَةُ التَّبْلِيغِ بِالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا إلَّا لِمَنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ؛ فَيَكُونُ عَالِمًا بِمَا يُبَلِّغُ صَادِقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فِيهِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، مَرَضِيَّ السِّيرَةِ، عَدْلًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مُتَشَابِهَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَإِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنْ الْمُلُوكِ بِالْمَحِلِّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلَا يُجْهَلُ قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْف بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ؟ فَحَقِيقٌ بِمَنْ أُقِيمَ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ أَنْ يَعُدَّ لَهُ عِدَّتَهُ، وَأَنْ يَتَأَهَّبَ لَهُ أُهْبَتَهُ، وَأَنْ يَعْلَمَ قَدْرَ الْمَقَامِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ فِي صَدْرِهِ حَرَجٌ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَالصَّدْعِ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَهَادِيهِ، وَكَيْف هُوَ الْمَنْصِبُ الَّذِي تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127] وَكَفَى بِمَا تَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ شَرَفًا وَجَلَالَةً؛ إذْ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] ، وَلِيَعْلَمَ الْمُفْتِي عَمَّنْ يَنُوبُ فِي فَتْوَاهُ، وَلِيُوقِنَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ غَدًا وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ [فَصْلٌ أَوَّلُ مَنْ وَقَّعَ عَنْ اللَّهِ] ِ هُوَ الرَّسُولُ] وَأَوَّلُ مَنْ قَامَ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَكَانَ يُفْتِي عَنْ اللَّهِ بِوَحْيِهِ الْمُبِينِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ لَهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] فَكَانَتْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَامِعَ الْأَحْكَامِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى فَصْلِ الْخِطَابِ، وَهِيَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهَا وَتَحْكِيمِهَا وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهَا ثَانِيَةُ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُولُ عَنْهَا مَا وَجَدَ إلَيْهَا سَبِيلًا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالرَّدِّ إلَيْهَا حَيْثُ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَصْلٌ [الْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] ثُمَّ قَامَ بِالْفَتْوَى بَعْدَهُ بَرْكُ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةُ الْإِيمَانِ، وَعَسْكَرُ الْقُرْآنِ، وَجُنْدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الرَّحْمَنِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلْيَنُ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وَأَحْسَنُهَا بَيَانًا، وَأَصْدَقُهَا إيمَانًا، وَأَعَمُّهَا نَصِيحَةً، وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ وَسِيلَةً، وَكَانُوا بَيْنَ مُكْثِرٍ مِنْهَا وَمُقِلٍّ وَمُتَوَسِّطٍ. [الْمُكْثِرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ] وَاَلَّذِينَ حُفِظَتْ عَنْهُمْ الْفَتْوَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةٌ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا، مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فَتْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِفْرٌ ضَخْمٌ قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ فُتْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي عِشْرِينَ كِتَابًا وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ. [الْمُتَوَسِّطُونَ فِي الْفُتْيَا مِنْهُمْ] قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالْمُتَوَسِّطُونَ مِنْهُمْ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ الْفُتْيَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ؛ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ صَغِيرٌ جِدًّا، وَيُضَافُ إلَيْهِمْ: طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. [الْمُقِلُّونَ] وَالْبَاقُونَ مِنْهُمْ مُقِلُّونَ فِي الْفُتْيَا، لَا يُرْوَى عَنْ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إلَّا الْمَسْأَلَةُ وَالْمَسْأَلَتَانِ، وَالزِّيَادَةُ الْيَسِيرَةُ عَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا جَمِيعِهِمْ جُزْءٌ صَغِيرٌ فَقَطْ بَعْدَ التَّقَصِّي وَالْبَحْثِ، وَهُمْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو الْيُسْرِ، وَأَبُو سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا عَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأُمُّ عَطِيَّةَ، وَصَفِيَّةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَقَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَنَافِعُ أَخُو أَبِي بَكْرَةَ لِأُمِّهِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو السَّنَابِلِ، وَالْجَارُودُ، وَالْعَبْدِيُّ، وَلَيْلَى بِنْتُ قانف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَأَبُو مَحْذُورَةَ، وَأَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيُّ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمُّ شَرِيكٍ وَالْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو الْغَادِيَةِ السُّلَمِيُّ، وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ الْكُبْرَى، وَالضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ الْمَازِنِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ، وَوَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيُّ، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو قَتَادَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْعَدَوِيُّ، وَعُمَيُّ بْنُ سَعْلَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخُوهُ، وَعَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَبُو مُنِيبٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مُقْرِنٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ مُقْرِنٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ سَلَمَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَمَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَضَمْرَةُ بْنُ الْفَيْضِ، وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ، وَظَهِيرُ بْنُ رَافِعٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَسَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَهِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبُوهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السَّمْطِ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَدِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسُ وَثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ، وَرُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حُمَيْدٍ، وَأَبُو أُسَيْدَ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَأَبُو مُحَمَّدٍ رَوَيْنَا عَنْهُ وُجُوبَ الْوِتْرِ قُلْت: أَبُو مُحَمَّدٍ هُوَ - مَسْعُودُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ نَجَّارِيُّ بَدْرِيُّ - وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَبِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَسِيَاهُ بْنُ رَوْحٍ أَوْ رَوْحُ بْنُ سِيَاهٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُعَلَّى، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبِشْرُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، وَأُمُّ أَيْمَنَ، وَأُمُّ يُوسُفَ، وَالْغَامِدِيَّةُ، وَمَاعِزٌ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. فَهَؤُلَاءِ مِنْ نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتْوَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا أَدْرِي بِأَيِّ طَرِيقٍ عَدَّ مَعَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزًا، وَلَعَلَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ إقْدَامَهُمَا عَلَى جَوَازِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 اسْتِئْذَانٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ هُوَ فَتْوَى لِأَنْفُسِهِمَا بِجَوَازِ الْإِقْرَارِ، وَقَدْ أَقَرَّا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ تَخَيَّلَ هَذَا فَمَا أَبْعَدَهُ مِنْ خَيَالٍ، أَوْ لَعَلَّهُ ظَفِرَ عَنْهُمَا بِفَتْوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ. فَصْلٌ [الصَّحَابَةُ سَادَةُ أَهْلِ الْفَتْوَى] وَكَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ سَادَةُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَقَادَتُهَا فَهُمْ سَادَاتُ الْمُفْتِينَ وَالْعُلَمَاءِ. قَالَ اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْعُلَمَاءُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] قَالَ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَمَّا حَضَرَ مُعَاذَ بْنُ جَبَلٍ الْمَوْتُ قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْصِنَا، قَالَ أَجْلِسُونِي، إنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْتَمِسْ الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةِ رَهْطٍ: عِنْدَ عُوَيْمِرِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعِنْدَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ يَخَامُرَ: لَمَّا حَضَرَتْ مُعَاذًا الْوَفَاةُ بَكَيْتُ، فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ؟ قُلْت: وَاَللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَا كُنْتُ أُصِيبُهَا مِنْك، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أَتَعَلَّمُهُمَا مِنْك، فَقَالَ: إنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا، مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا، اُطْلُبْ الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ فَسَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَنْهُ أَعْجَزُ، فَعَلَيْك بِمُعَلِّمِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَمَا نَزَلَتْ بِي مَسْأَلَةٌ عَجَزْت عَنْهَا إلَّا قُلْت: يَا مُعَلِّمَ إبْرَاهِيمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عُلَمَاءُ الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ، فَرَجُلٌ بِالشَّامِ، وَآخَرُ بِالْكُوفَةِ، وَآخَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَّا هَذَانِ فَيَسْأَلَانِ الَّذِي بِالْمَدِينَةِ، وَاَلَّذِي بِالْمَدِينَةِ لَا يَسْأَلُهُمَا عَنْ شَيْءٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ثَلَاثَةٌ يَسْتَفْتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ: فَكَانَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَفْتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَسْتَفْتِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: فَقُلْت لِلشَّعْبِيِّ: وَكَانَ أَبُو مُوسَى بِذَاكَ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ أَعْلَمَهُ، قُلْت: فَأَيْنَ مُعَاذٌ؟ فَقَالَ: هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: حَدِّثْنَا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قَالَ: عَنْ أَيِّهِمْ؟ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَلِمَ السُّنَّةَ، ثُمَّ انْتَهَى، وَكَفَاهُ بِذَلِكَ؛ قَالَ: فَحَدِّثْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ؛ قَالَ: أَعْلَمُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ بِالْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: فَأَبُو ذَرٍّ، قَالَ: كُنَيْفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا عَجَزَ فِيهِ، قَالُوا: فَعَمَّارٌ، قَالَ: مُؤْمِنٌ نَسِيَ إذَا ذَكَّرْتَهُ ذَكَرَ، خَلَطَ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، لَيْسَ لِلنَّارِ فِيهِ نَصِيبٌ، قَالُوا: فَأَبُو مُوسَى، قَالَ: صَبَغَ فِي الْعِلْمِ صِبْغَةً، قَالُوا: فَسَلْمَانُ، قَالَ: عَلِمَ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ، بَحْرٌ لَا يَنْزَحُ، مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالُوا: فَحَدِّثْنَا عَنْ نَفْسِك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: إيَّاهَا أَرَدْتُمْ، كُنْت إذَا سُئِلْتُ أَعْطَيْتُ، وَإِذَا سَكَتُّ اُبْتُدِيتُ وَقَالَ مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ: شَامَمْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمْ يَنْتَهِي إلَى سِتَّةٍ: إلَى عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَعُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ شَامَمْتُ السِّتَّةَ فَوَجَدْت عِلْمَهُمْ انْتَهَى إلَى عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ أَيْضًا: جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا كَالْإِخَاذِ: الْإِخَاذَةُ تَرْوِي الرَّاكِبَ، وَالْإِخَاذَةُ تَرْوِي الرَّاكِبَيْنِ وَالْإِخَاذَةُ تَرْوِي الْعَشَرَةَ، وَالْإِخَاذَةُ لَوْ نَزَلَ بِهَا أَهْلُ الْأَرْضِ لَأَصْدَرْتُهُمْ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْإِخَاذِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَخُذُوا بِمَا قَالَ عُمَرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ أَنَّ عِلْمَ عُمَرَ وُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: كَأَنَّ عِلْمَ النَّاسِ مَعَ عِلْمِ عُمَرَ دُسَّ فِي حَجَرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قُضَاةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو مُوسَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ «وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ مُعَلِّمٌ» ، وَبَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: «خُذُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمِنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ» وَلَمَّا وَرَدَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى عُمَرَ أَجَازَهُمْ، وَفَضَّلَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَائِزَةِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تُفَضِّلُ أَهْلَ الشَّامِ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَجَزَعْتُمْ أَنْ فَضَّلْتُ أَهْلَ الشَّامِ عَلَيْكُمْ لِبُعْدِ شُقَّتِهِمْ وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ؟ . وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو: مَا أَرَى أَحَدًا أَعْلَمَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إنْ تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ حِينَ لَا نَسْمَعُ، وَيَدْخُلُ حِينَ لَا نَدْخُلُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنْ رَجُلًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْتُهُ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ فَدَنَا مِنْهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ وَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ عُمَرُ: كُنَيْفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُ كَانَ لَا يَعْدِلُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَا، فَإِذَا اخْتَلَفَا كَانَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْجَبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْطَفَ وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لِمَجْلِسٍ كُنْت أُجَالِسُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقِيلَ لِمَسْرُوقٍ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُحْسِنُ الْفَرَائِضَ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت الْأَحْبَارَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهَا عَنْ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَاهُ عَائِشَةَ إلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ أَعْلَمَهُمْ بِالْمَنَاسِكِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ ابْنُ عُمَرَ بَعْدَهُ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَحَدَّثُوا وَفِيهِمْ مُعَاذٌ نَظَرُوا إلَيْهِ هَيْبَةً لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ: عَلِيٌّ: أَبُو ذَرٍّ أَوْعَى عِلْمًا ثُمَّ أَوْكَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى قُبِضَ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَوَجَدْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ: قَدِمْنَا الشَّامَ فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ يُطِيفُونَ بِرَجُلٍ، قَالَ: قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَفْقَهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا عَمْرٌو الْبِكَالِيُّ. وَقَالَ سَعِيدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَبْرِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: هَكَذَا يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَكَانَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ إذَا ذُكِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُ يَقُولُ: ابْنُ عُمَرَ أَوْرَعُهُمَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُهُمَا وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْت أَفْقَهَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا أَعْلَمَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَبْقِنِي مَا أَبْقَيْت ابْنَ عُمَرَ أَقْتَدِي بِهِ ". «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَقَالَ أَيْضًا: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ» وَلَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ، وَلَا أُجْلَدَ رَأْيًا، وَلَا أَثَقْبَ نَظَرًا حِينَ يَنْظُرُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَيَقُولُ لَهُ: قَدْ طَرَأَتْ عَلَيْنَا عُضَلُ أَقْضِيَةٍ أَنْتَ لَهَا وَلِأَمْثَالِهَا. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكْثَرَ فِقْهًا وَأَعْظَمَ، إنَّ أَصْحَابَ الْفِقْهِ عِنْدَهُ أَصْحَابُ الْقُرْآنِ وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عِنْدَهُ يُصْدِرُهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَادٍ وَاسِعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْأَلُنِي مَعَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَدْرَكَ أَسْنَانَنَا مَا عَسَرَهُ مِنَّا رَجُلٌ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْت هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرُ مِنْ كَثْرَةِ عِلْمِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَقَالَ طَاوُسٌ: أَدْرَكْت نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَيْئًا فَخَالَفُوهُ لَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى يُقَرِّرَهُمْ. وَقِيلَ لِطَاوُسٍ: أَدْرَكْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ انْقَطَعْتُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَدْرَكْت سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَدَارَءُوا فِي شَيْءٍ انْتَهَوْا إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: كَانَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُونَ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ وَمِنْ عَلِيٍّ وَمِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُعِدُّونَ نَاسًا، فَيَثِبُ عَلَيْهِمْ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ: لَا تَعْجَلُوا عَلَيْنَا، إنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا وَعِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ جَمَعَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا رَأَيْتَهُ قُلْت: أَجْمَلُ النَّاسِ فَإِذَا تَكَلَّمَ قُلْت: أَفْصَحُ النَّاسِ، فَإِذَا حَدَّثَ قُلْت: أَعْلَمُ النَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا فَسَّرَ الشَّيْءَ رَأَيْتَ عَلَيْهِ النُّورَ. فَصْلٌ. [عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ] قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْوَثِيقَةِ فِي الْقَضَاءِ فَيَأْخُذْ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَا صَنَعَ عُمَرُ فَخُذُوا بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا وَسَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْت وَادِي عُمَرَ وَشِعْبَهُ. وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: دَفَعْت إلَى عُمَرَ فَإِذَا الْفُقَهَاءُ عِنْدَهُ مِثْلُ الصِّبْيَانِ، قَدْ اسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ فِي فِقْهِهِ وَعِلْمِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ أَصْحَابٌ مَعْرُوفُونَ حَرَّرُوا فُتْيَاهُ وَمَذَاهِبَهُ فِي الْفِقْهِ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَتْرُكُ مَذْهَبَهُ وَقَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَانَ لَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِ، وَيَرْجِعُ مِنْ قَوْلِهِ إلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَقْنُتُ، وَقَالَ: وَلَوْ قَنَتَ عُمَرُ لَقَنَتَ عَبْدُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فَصْلٌ: [عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ] وَكَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْحَابٌ يُعْرَفُونَ، وَالْمُبَلِّغُونَ عَنْ عُمَرَ فُتْيَاهُ وَمَذَاهِبَهُ وَأَحْكَامَهُ فِي الدِّينِ بَعْدَهُ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الْمُبَلَّغِينَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْمُؤَدِّينَ عَنْهُ. [عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَانْتَشَرَتْ أَحْكَامُهُ وَفَتَاوِيهِ، وَلَكِنْ قَاتَلَ اللَّهُ الشِّيعَةَ فَإِنَّهُمْ أَفْسَدُوا كَثِيرًا مِنْ عِلْمِهِ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ لَا يَعْتَمِدُونَ مِنْ حَدِيثِهِ وَفَتْوَاهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَشُرَيْحٍ وَأَبِي وَائِلٍ وَنَحْوِهِمْ، وَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ يَشْكُو عَدَمَ حَمْلَةِ الْعِلْمَ الَّذِي أَوْدَعَهُ كَمَا قَالَ: إنَّ هَهُنَا عِلْمًا لَوْ أَصَبْت لَهُ حَمَلَةً [فَصْلٌ عَمَّنْ انْتَشَرَ الدِّينُ وَالْفِقْهُ] وَالدِّينُ وَالْفِقْهُ وَالْعِلْمُ انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ فَعَلِمَ النَّاسُ عَامَّتَهُ عَنْ أَصْحَابِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَمَاعَةً مِمَّنْ عَاشَ بَعْدَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانُوا يُفْتُونَ بِمَذَاهِبِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَا كَانُوا أَخَذُوا عَنْهُ، مِمَّا لَمْ يَكُونُوا حَفِظُوا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ اللَّخْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْفَرَائِضِ فَلِيَأْتِ زَيْدَ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْفِقْهِ فَلِيَأْتِ مُعَاذَ بْنُ جَبَلٍ، وَمَنْ أَرَادَ الْمَالَ فَلِيَأْتِنِي. وَأَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي الْعِلْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الْآخِذِينَ عَنْهَا - الَّذِينَ لَا يَكَادُونَ يَتَجَاوَزُونَ قَوْلَهَا، الْمُتَفَقِّهِينَ بِهَا - الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ابْنُ أَخِيهَا، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ. قَالَ مَسْرُوقٌ: لَقَدْ رَأَيْت مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهَا عَنْ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا جَالَسْت أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَعْلَمَ بِقَضَاءٍ وَلَا بِحَدِيثٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَلَا أَرْوَى لِلشَّعْرِ وَلَا أَعْلَمَ بِفَرِيضَةٍ وَلَا طِبٍّ مِنْ عَائِشَةَ [فَصْلٌ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ التَّابِعِينَ] ثُمَّ صَارَتْ الْفَتْوَى فِي أَصْحَابِ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَاوِيَةِ عُمَرَ وَحَامِلِ عِلْمِهِ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ: قُلْت لِعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَفْقَهُهُمْ فِقْهًا وَأَعْلَمُهُمْ بِقَضَايَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَضَايَا أَبِي بَكْرٍ وَقَضَايَا عُمَرَ وَقَضَايَا عُثْمَانَ وَأَعْلَمُهُمْ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ فَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ وَأَمَّا أَغْزَرُهُمْ حَدِيثًا فَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَا تَشَاءُ أَنْ تَفْجُرَ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بَحْرًا إلَّا فَجَّرْتَهُ قَالَ عِرَاكٌ: وَأَفْقَهُهُمْ عِنْدِي ابْنُ شِهَابٍ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ عِلْمَهُمْ إلَى عِلْمِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كُنْت أَطْلُبُ الْعِلْمَ مِنْ ثَلَاثَةٍ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَكَانَ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ بَحْرًا لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ، وَكُنْت لَا تَشَاءُ أَنْ تَجِدَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ طَرِيقَةً مِنْ عِلْمٍ لَا تَجِدُهَا عِنْدَ غَيْرِهِ إلَّا وَجَدْت. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمَّا مَاتَ الْعَبَادِلَةُ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -؛ صَارَ الْفِقْهُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ إلَى الْمَوَالِي؛ فَكَانَ فَقِيهُ أَهْلِ مَكَّةَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَفَقِيهُ أَهْلِ الْيَمَنِ طَاوُسٌ، وَفَقِيهُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَفَقِيهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إبْرَاهِيمُ، وَفَقِيهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْحَسَنُ، وَفَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ مَكْحُولٌ، وَفَقِيهُ أَهْلِ خُرَاسَانَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، إلَّا الْمَدِينَةَ فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّهَا بِقُرَشِيٍّ، فَكَانَ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ غَيْرَ مُدَافَعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَرَرْت بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ وَمَضَيْت، قَالَ: فَالْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لَسَرَّهُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ جِدًّا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ، زَوَّجَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ابْنَتَهُ، وَكَانَ إذَا رَآهُ قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَك فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ عَنْهُ مِنْ الرِّوَايَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 [فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ] وَكَانَ الْمُفْتُونَ بِالْمَدِينَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ: ابْنَ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْفُقَهَاءُ، وَقَدْ نَظَمَهُمْ الْقَائِلُ فَقَالَ: إذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ... رِوَايَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنْ الْعِلْمِ خَارِجَهْ فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ ... سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسَالِمٌ، وَنَافِعٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَبَعْدَ هَؤُلَاءِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَجَمَعَ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فَتَاوِيَهِ فِي ثَلَاثَةِ أَسْفَارٍ ضَخْمَةٍ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَخَلْقٌ سِوَى هَؤُلَاءِ [فَصْلٌ فُقَهَاءُ مَكَّةَ] وَكَانَ الْمُفْتُونَ بِمَكَّةَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَمُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ، وَعِكْرِمَةُ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَكَانَ أَكْثَرُ فَتْوَاهُمْ فِي الْمَنَاسِكِ، وَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِي الطَّلَاقِ. وَبَعْدَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ. وَبَعْدَهُمَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسِ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ، وَمُوسَى بْنُ أَبِي الْجَارُودِ، وَغَيْرُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 [فَصْلٌ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ] وَكَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ بِالْبَصْرَةِ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ، وَأَبُو مَرْيَمَ الْحَنَفِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَدْرَكَ خَمْسَ مِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَتَاوِيهِ فِي سَبْعَةِ أَسْفَارٍ ضَخْمَةٍ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّخِّيرُ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى. ثُمَّ بَعْدَهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَخَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَأَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقَاضِي. وَبَعْدَهُمْ سَوَّارٌ الْقَاضِي، وَأَبُو بَكْرٍ الْعَتَكِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَتِّيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ إيَاسٍ الْقَاضِي، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَشْعَثُ بْنُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. ثُمَّ بَعْدَ هَؤُلَاءِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الْحَرَشِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ. فَصْلٌ. [فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ] وَكَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ بِالْكُوفَةِ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ وَهُوَ عَمُّ عَلْقَمَةَ، وَعَمْرُو بْنِ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيِّ، وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَشُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَاضِي، وَسُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ الْجُعْفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْقَاضِي، وَخَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَلَمَةُ بْنُ صُهَيْبٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَهَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْد، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَعُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ، وَصِلَةُ بْنُ زُفَرَ، وَشَرِيكُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَكَابِرُ التَّابِعِينَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي الدِّينِ، وَيَسْتَفْتِيهِمْ النَّاسُ، وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ يُجَوِّزُونَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ أَخَذَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ، وَلَقِيَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَصَحِبَهُ، وَأَخَذَ عَنْهُ، وَأَوْصَاهُ مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَلْحَقَ بِابْنِ مَسْعُودٍ فَيَصْحَبَهُ وَيَطْلُبَ الْعِلْمَ عِنْدَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَيُضَافُ إلَى هَؤُلَاءِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَخَذَ عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَيْسَرَةُ، وَزَاذَانُ، وَالضَّحَّاكُ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَجَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَصَحِبَ ابْنَ عُمَرَ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ، وَشَرِيكٌ الْقَاضِي، وَالْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ كَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَاضِي الرَّقَّةِ، وَعَافِيَةِ الْقَاضِي، وَأَسَدِ بْنُ عَمْرٍو، وَنُوحِ بْنِ دَرَّاجٍ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَالْأَشْجَعِيِّ وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ، وَصَاحِبَيْ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ الزَّوْلِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ. فَصْلٌ. [فُقَهَاءُ الشَّامِ] وَكَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ بِالشَّامِ أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السَّمْطِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا الْخُزَاعِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيُّ، وَحِبَّانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يُعَدُّ فِي الْمُفْتِينَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ مَا وَلِيَ، وَحُدَيْرُ بْنُ كُرَيْبٌ. ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُمْ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ الْقَاضِي، وَأَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأُمَوِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ صَاحِبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ صَاحِبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ. فَصْلٌ. [فُقَهَاءُ مِصْرَ] فِي الْمُفْتِينَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَبُكَيْر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَبَعْدَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: لَوْ عَاشَ لَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ مَا احْتَجْنَا مَعَهُ إلَى مَالِكٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ - وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ. وَبَعْدَهُمْ أَصْحَابُ مَالِكٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ كِنَانَةَ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى غَلَبَةِ تَقْلِيدِهِ لِمَالِكٍ إلَّا فِي الْأَقَلِّ، ثُمَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَالْمُزَنِيِّ وَالْبُوَيْطِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَتَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ، إلَّا قَوْمًا قَلِيلًا لَهُمْ اخْتِيَارَاتٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ. [فُقَهَاءُ الْقَيْرَوَانِ] وَكَانَ بِالْقَيْرَوَانِ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ، وَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادُ. [فُقَهَاءُ الْأَنْدَلُسِ] وَكَانَ بِالْأَنْدَلُسِ مِمَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْوَثَائِقِ، تُحْفَظُ لَهُمْ فَتَاوٍ يَسِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي، وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَمِمَّنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي مَنْ بَلَغَهَا اسْتَحَقَّ الِاعْتِدَادَ بِهِ فِي الِاخْتِلَافِ مَسْعُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَيُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فَصْلٌ. [فُقَهَاءُ الْيَمَنِ] وَكَانَ بِالْيَمَنِ مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ قَاضِي صَنْعَاءَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، وَهِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، وَسِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ. فَصْلٌ. [فُقَهَاءُ بَغْدَادَ] وَكَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ مِنْ الْمُفْتِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَلَمَّا بَنَاهَا الْمَنْصُورُ أَقْدَمَ إلَيْهَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ بَشَرًا كَثِيرًا، فَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ بِهَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَكَانَ جَبَلًا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عِلْمًا وَجَلَالَةً وَنُبْلًا وَأَدَبًا، وَكَانَ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ قَدْ جَالَسَ الشَّافِعِيَّ وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُعَظِّمُهُ وَيَقُولُ: هُوَ فِي سِلَاحِ الثَّوْرِيِّ [أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] . [الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ] وَكَانَ بِهَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الَّذِي مَلَأَ الْأَرْضَ عِلْمًا وَحَدِيثًا وَسُنَّةً، حَتَّى إنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بَعْدَهُ هُمْ أَتْبَاعُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ لِتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَكَانَ يُحِبُّ تَجْرِيدَ الْحَدِيثِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ جِدًّا، فَعَلِمَ اللَّهُ حُسْنَ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ فَكُتِبَ مِنْ كَلَامِهِ وَفَتْوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سِفْرًا، وَمَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا بِأَكْثَرِهَا فَلَمْ يَفُتْنَا مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلُ، وَجَمَعَ الْخَلَّالُ نُصُوصَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَبَلَغَ نَحْوَ عِشْرِينَ سِفْرًا أَوْ أَكْثَرَ، وَرُوِيَتْ فَتَاوِيهِ وَمَسَائِلُهُ وَحُدِّثَ بِهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَصَارَتْ إمَامًا وَقُدْوَةً لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، حَتَّى إنَّ الْمُخَالِفِينَ لِمَذْهَبِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْمُقَلِّدِينَ لِغَيْرِهِ لَيُعَظِّمُونَ نُصُوصَهُ وَفَتَاوَاهُ، وَيَعْرِفُونَ لَهَا حَقَّهَا وَقُرْبَهَا مِنْ النُّصُوصِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوَاهُ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ رَأَى مُطَابَقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَرَأَى الْجَمِيعَ كَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى إنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ جَاءَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَكَانَ تَحَرِّيهِ لِفَتَاوَى الصَّحَابَةِ كَتَحَرِّي أَصْحَابِهِ لِفَتَاوِيهِ وَنُصُوصِهِ، بَلْ أَعْظَمَ، حَتَّى إنَّهُ لَيُقَدِّمُ فَتَاوَاهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ فِي مَسَائِلِهِ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ بِرِجَالٍ ثَبَتَ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ حَدِيثٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُتَّصِلٌ بِرِجَالٍ ثَبَتَ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الصَّحَابَةِ أَعْجَبُ إلَيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَكَانَ فَتَاوِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ: [أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] أَحَدُهَا: النُّصُوصُ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى خِلَافِ عُمَرَ فِي الْمَبْتُوتَةِ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَلَا إلَى خِلَافِهِ فِي التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَلَا خِلَافِ فِي اسْتِدَامَةِ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَا خِلَافِهِ فِي مَنْعِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ مِنْ الْفَسْخِ إلَى التَّمَتُّعِ لِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الْفَسْخِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْإِكْسَالِ لِصِحَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا فَعَلَتْهُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاغْتَسَلَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلُ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ؛ لِصِحَّةِ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِنْ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّرْفِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِهِ، وَلَا إلَى قَوْلِهِ بِإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ كَذَلِكَ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ كَذَّبَ أَحْمَدُ مَنْ ادَّعَى هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَلَمْ يَسِغْ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا نَصَّ فِي رِسَالَتِهِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ بِخِلَافٍ لَا يُقَال لَهُ إجْمَاعٌ، وَلَفْظُهُ: مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ فَلَيْسَ إجْمَاعًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: مَا يَدَّعِي فِيهِ الرَّجُلُ الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَذِبٌ، مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، مَا يُدْرِيهِ، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَيْهِ؟ فَلْيَقُلْ: لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ، هَذَا لَفْظُهُ وَنُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا تَوَهُّمَ إجْمَاعٍ مَضْمُونُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُخَالِفِ، وَلَوْ سَاغَ لَتَعَطَّلَتْ النُّصُوصُ، وَسَاغَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أَنْ يُقَدِّمَ جَهْلُهُ بِالْمُخَالِفِ عَلَى النُّصُوصِ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، لَا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لِوُجُودِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فَصْلٌ. [الْأَصْلُ الثَّانِي فَتَاوَى الصَّحَابَةِ] الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ فَتَاوَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنَّهُ إذَا وَجَدَ لِبَعْضِهِمْ فَتْوَى لَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ فِيهَا لَمْ يَعُدْهَا إلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَقُلْ إنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ، بَلْ مِنْ وَرَعِهِ فِي الْعِبَارَةِ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، كَمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى تَسَرِّي الْعَبْدِ، وَهَكَذَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ، حَكَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا النَّوْعَ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا. فَصْلٌ [الثَّالِثُ الِاخْتِيَارُ مِنْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفُوا] الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِهِ: إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ تَخَيَّرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا كَانَ أَقْرَبَهَا إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَقْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ مُوَافَقَةُ أَحَدِ الْأَقْوَالِ حَكَى الْخِلَافَ فِيهَا وَلَمْ يَجْزِمْ بِقَوْلٍ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ فِي مَسَائِلِهِ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَكُونُ الرَّجُلُ فِي قَوْمِهِ فَيَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ، قَالَ: يُفْتِي بِمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمْسَكَ عَنْهُ، قِيلَ لَهُ: أَفَيُجَابُ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لَا. فَصْلٌ [الرَّابِعُ الْمُرْسَلُ مِنْ الْحَدِيثِ] الْأَصْلُ الرَّابِعُ: الْأَخْذُ بِالْمُرْسَلِ وَالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ عِنْدَهُ الْبَاطِلَ وَلَا الْمُنْكَرَ وَلَا مَا فِي رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيْثُ لَا يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِهِ؛ بَلْ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ عِنْدَهُ قَسِيمُ الصَّحِيحِ وَقِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَسِّمُ الْحَدِيثَ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ، بَلْ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَلِلضَّعِيفِ عِنْدَهُ مَرَاتِبُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ أَثَرًا يَدْفَعُهُ وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلَا إجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا وَهُوَ مُوَافِقُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ قَدَّمَ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ. فَقَدَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُضَعِّفُهُ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ " أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ " وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الَّذِي تَرَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مُسَاوٍ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ وَالصِّفَةِ لِدَمِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ «لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» - وَأَجْمَعُوا عَلَى ضَعْفِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ - عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ بَذْلَ الصَّدَاقِ مُعَاوَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ بَذْلِ الْبُضْعِ، فَمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ جَازَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدَّمَ خَبَرَ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَعَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِقِيَاسِ غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ، وَقَدَّمَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ حَدِيثَ «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلِيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ» عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ضَعْفِ الْخَبَرِ وَإِرْسَالِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ وَالْبَلَاغَاتِ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ. [الْخَامِسُ الْقِيَاسُ لِلضَّرُورَةِ] فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَلَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا أَثَرٌ مُرْسَلٌ أَوْ ضَعِيفٌ عَدَلَ إلَى الْأَصْلِ الْخَامِسِ - وَهُوَ الْقِيَاسُ - فَاسْتَعْمَلَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الْخَلَّالِ، سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْخَمْسَةُ مِنْ أُصُولِ فَتَاوِيهِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُهَا، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الْفَتْوَى؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ، أَوْ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا، أَوْ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ فِيهَا عَلَى أَثَرٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَكَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ لِلْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ عَنْ السَّلَفِ، كَمَا قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. وَكَانَ يُسَوِّغُ اسْتِفْتَاءَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِفْتَاءِ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ الْحَدِيثِ، وَلَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَوِّغُ الْعَمَلَ بِفَتْوَاهُ. قَالَ ابْنُ هَانِئٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ أَفْتَى بِفُتْيَا يَعِي فِيهَا قَالَ: فَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهَا، قُلْت: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُفْتِي حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؟ قَالَ: يُفْتِي بِالْبَحْثِ، لَا يَدْرِي أَيْشٍ أَصْلُهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَأَيْت مِثْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْفَتْوَى أَحْسَنَ فُتْيَا مِنْهُ، كَانَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَرْبِ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ لَا أَدْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَاءَك أَنِّي لَا أَدْرِي. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْت أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا يُسْأَلُ عَنْ الْمَسَائِلِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي وَيَقِفُ إذَا كَانَتْ مَسْأَلَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: سَلْ غَيْرِي، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: مَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: سَلُوا الْعُلَمَاءَ، وَلَا يَكَادُ يُسَمِّي رَجُلًا بِعَيْنِهِ قَالَ: وَسَمِعْت أَبِي يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَا يُفْتِي فِي الطَّلَاقِ، وَيَقُولُ: مَنْ يُحْسِنُ هَذَا؟ ، [فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى] ] وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ: فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ، وَلَا يُحَدِّثُ حَدِيثًا إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ أَخْبَرَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ فَقَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَمَاذَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ، فَاذْهَبْ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا، فَذَهَبْت فَسَأَلْتُهُمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَتْك مُعْضِلَةٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ، قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ. قُلْت: الْجُرْأَةُ عَلَى الْفُتْيَا تَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَمِنْ غَزَارَتِهِ وَسِعَتِهِ، فَإِذَا قَلَّ عِلْمُهُ أَفْتَى عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ اتَّسَعَتْ فُتْيَاهُ، وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَوْسَعِ الصَّحَابَةِ فُتْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فَتَاوَاهُ جُمِعَتْ فِي عِشْرِينَ سِفْرًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا، وَاسِعَ الْفُتْيَا، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرَادِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْت أَرَى الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيَدْفَعُهُ النَّاسُ عَنْ مَجْلِسٍ إلَى مَجْلِسٍ حَتَّى يُدْفَعَ إلَى مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَرَاهِيَةً لِلْفُتْيَا، قَالَ: وَكَانُوا يَدْعُونَهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ الْجَرِيءَ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنِّي لَأَحْفَظُ مَسَائِلَ مِنْهَا مَا فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْف يَنْبَغِي أَنْ أَعْجَلَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ الْخَبَرِ؟ فَلِمَ أُلَامُ عَلَى حَبْسِ الْجَوَابِ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا أَشْهَلُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: مَنْ يَعْلَمُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا، أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ، قَالَ: فَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَلَسْت بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 [الْمُرَادُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] قُلْت: مُرَادُهُ وَمُرَادُ عَامَّةِ السَّلَفِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ رَفْعُ الْحُكْمِ بِجُمْلَتِهِ تَارَةً وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَرَفْعُ دَلَالَةِ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالظَّاهِرِ وَغَيْرِهَا تَارَةً، إمَّا بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ حَمْلِ مُطْلَقٍ عَلَى مُقَيَّدٍ وَتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ حَتَّى إنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ وَالصِّفَةَ نَسْخًا لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ رَفْعَ دَلَالَةِ الظَّاهِرِ وَبَيَانَ الْمُرَادِ، فَالنَّسْخُ عِنْدَهُمْ وَفِي لِسَانِهِمْ هُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، بَلْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُمْ رَأَى مِنْ ذَلِكَ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى، وَزَالَ عَنْهُ بِهِ إشْكَالَاتٌ أَوْجَبَهَا حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ الْمُتَأَخِّرِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ يَعْلَمُ نَاسِخَ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخَهُ، وَأَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا، وَأَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَأَنَا لَسْت أَحَدُ هَذَيْنِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ أَحْمَقَ مُتَكَلِّفًا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " جَامِعِ فَضْلِ الْعِلْمِ ": حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ ثنا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الْمِصِّيصِيُّ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ وَاقِدٍ ثنا الْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُسَيْنٍ إمَامُنَا قَالَ: رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْت: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، فَقُلْت لَهُ: بِالْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَا أَضَرَّ الْفُتْيَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقُلْت: فَبِمَ؟ قَالَ: بِقَوْلِ النَّاسِ فِي مَا لَمْ يَعْلَمْ اللَّهُ أَنَّهُ مِنِّي، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ سَحْنُونٌ يَوْمًا: إنَّا لِلَّهِ، مَا أَشْقَى الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، ثُمَّ قَالَ: هَا أَنَا ذَا يُتَعَلَّمُ مِنِّي مَا تُضْرَبُ بِهِ الرِّقَابُ وَتُوطَأُ بِهِ الْفُرُوجُ وَتُؤْخَذُ بِهِ الْحُقُوقُ، أَمَا كُنْت عَنْ هَذَا غَنِيًّا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحَدَّادُ: الْقَاضِي أَيْسَرُ مَأْثَمًا وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْفَقِيهِ - يُرِيدُ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ مِنْ شَأْنِهِ إصْدَارُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ بِمَا حَصَرَهُ مِنْ الْقَوْلِ، وَالْقَاضِي شَأْنُهُ الْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ وَمَنْ تَأَنَّى وَتَثَبَّتَ تَهَيَّأَ لَهُ مِنْ الصَّوَابِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ لِصَاحِبِ الْبَدِيهَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُفْتِي أَقْرَبُ إلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُ بِفَتْوَاهُ، وَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مِنْ اسْتَفْتَاهُ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ قَوْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُلْزِمُ بِقَوْلِهِ، فَيَشْتَرِك هُوَ وَالْمُفْتِي فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْحُكْمِ، وَيَتَمَيَّزُ الْقَاضِي بِالْإِلْزَامِ وَالْقَضَاءِ؛ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَطَرُهُ أَشَدُّ [خَطَرُ تَوَلِّي الْقَضَاءِ] وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقَاضِي مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مَا لَمْ يَأْتِ نَظِيرُهُ فِي الْمُفْتِي، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا ذُكِرَ عِنْدَهَا الْقُضَاةُ فَقَالَتْ: سَمِعْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: «مَا مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَ بِهِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَيَرْفَعَ رَأْسَهُ إلَى اللَّهِ فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْذِفَهُ قَذَفَهُ فِي مَهْوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالْجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ، إلَّا مَنْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَى هَوًى، وَلَا عَلَى قَرَابَةٍ، وَلَا عَلَى رَغَبٍ وَلَا رَهَبٍ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ وَكَّلَهُ إلَى نَفْسِهِ» . وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَعَّدَ قَاضِيًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَوَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَوَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَجَلْجَلُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا» . [الْوَعِيدُ عَلَى الْإِفْتَاءِ] وَأَمَّا الْمُفْتِي فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَّارٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» فَكُلُّ خَطَرٍ عَلَى الْمُفْتِي فَهُوَ عَلَى الْقَاضِي، وَعَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَكِنْ خَطَرُ الْمُفْتِي أَعْظَمُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّ فَتْوَاهُ شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفْتِي وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَحُكْمُهُ جُزْئِيٌّ خَاصٌّ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَهُ؛ فَالْمُفْتِي يُفْتِي حُكْمًا عَامًّا كُلِّيًّا أَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَذَا، وَمَنْ قَالَ كَذَا لَزِمَهُ كَذَا، وَالْقَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يَقْضِي قَضَاءً مُعَيَّنًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَقَضَاؤُهُ خَاصٌّ مُلْزِمٌ، وَفَتْوَى الْعَالِمِ عَامَّةٌ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، فَكِلَاهُمَا أَجْرُهُ عَظِيمٌ، وَخَطَرُهُ كَبِيرٌ [فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ] وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا مِنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فَرَتَّبَ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَوَاحِشُ، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِثْمُ وَالظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْهُمَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَوْلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ: هَذَا حَرَامٌ، وَلِمَا لَمْ يَحِلَّهُ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ إلَّا بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، وَحَرَّمَ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْت، لَمْ أُحِلَّ كَذَا، وَلَمْ أُحَرِّمْ كَذَا؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ وُرُودَ الْوَحْيِ الْمُبِينِ بِتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ اللَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ [النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ] «وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَمِيرَهُ بُرَيْدَةَ أَنْ يُنَزِّلَ عَدُوَّهُ إذَا حَاصَرَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ: فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك» فَتَأَمَّلْ كَيْف فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ الْأَمِيرِ الْمُجْتَهِدِ، وَنَهَى أَنْ يُسَمَّى حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْمَ اللَّهِ. وَمِنْ هَذَا لَمَّا كَتَبَ الْكَاتِبُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 حُكْمًا حَكَمَ بِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: هَذَا مَا رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا، وَرَوَاهُ عَنْهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَزَادَ: وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الْحَلَالُ: مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [لَفْظُ الْكَرَاهَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمِ] قُلْت: وَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَئِمَّتِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيْثُ تَوَرَّعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَرَاهَةِ، فَنَفَى الْمُتَأَخِّرُونَ التَّحْرِيمَ عَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكَرَاهَةَ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الْكَرَاهَةِ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَتَجَاوَزَ بِهِ آخَرُونَ إلَى كَرَاهَةِ تَرْكِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ؛ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: أَكْرَهُهُ، وَلَا أَقُولُ هُوَ حَرَامٌ، وَمَذْهَبُهُ تَحْرِيمُهُ، وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ قَوْلِ عُثْمَانَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ لَهُ، وَهَذَا اسْتِحْبَابُ وُجُوبٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ: إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَرَامًا فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُؤْكَلَ مَالُهُ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُ مَا ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . فَتَأَمَّلْ كَيْف قَالَ: " لَا يُعْجِبُنِي " فِيمَا نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَاحْتَجَّ هُوَ أَيْضًا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ لَهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَكْرَهُ لُحُومَ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أَكْرَهُ أَكْلَ لَحْمِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّةَ لَهَا نَابٌ وَالْعَقْرَبُ لَهَا حُمَةٌ وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فِي تَحْرِيمِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا صَادَ الْكَلْبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْسَلَ فَلَا يُعْجِبُنِي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك وَسَمَّيْت» فَقَدْ أَطْلَقَ لَفْظَهُ " لَا يُعْجِبُنِي " عَلَى مَا هُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيّ: لَا يُعْجِبُنِي الْمُكْحُلَةُ وَالْمِرْوَدُ، يَعْنِي مِنْ الْفِضَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَهُوَ مَذْهَبُهُ بِلَا خِلَافٍ؛ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا أَوْ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا لِلْوَطْءِ وَأَنْتِ حَيَّةٌ فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ وَالْمَرْأَةُ طَالِقٌ، قَالَ: إنْ تَزَوَّجَ لَمْ آمُرْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَالْعِتْقُ أَخْشَى أَنْ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلطَّلَاقِ، قِيلَ لَهُ: يَهَبُ لَهُ رَجُلٌ جَارِيَةً، قَالَ: هَذَا طَرِيقُ الْحِيلَةِ، وَكَرِهَهُ، مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ تَحْرِيمُ الْحِيَلِ وَأَنَّهَا لَا تُخَلِّصُ مِنْ الْأَيْمَانِ، وَنَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الْبَطَّةِ مِنْ جُلُودِ الْحُمُرِ، وَقَالَ: تَكُونُ ذَكِيَّةً، وَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ فِي التَّحْرِيمِ، وَسُئِلَ عَنْ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، وَهَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَالَ: يُكْرَهُ الْقَدُّ مِنْ جُلُودِ الْحَمِيرِ، ذَكِيًّا وَغَيْرَ ذَكِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَكِيًّا، وَأَكْرَهُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ وَلِلْمُسْتَعْمِلِ؛ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَنْتَفِعُ بِكَذَا، فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِهِ غَيْرَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ وَسُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْأُتُنِ فَكَرِهَهُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَّخَذُ خَلًّا فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، وَهَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَهُ؛ وَسُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، فَكَرِهَهُ، وَهَذَا فِي أَجْوِبَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَقْصَى، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ فَهُوَ حَرَامٌ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصَّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ؛ وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ؛ وَقَدْ قَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: يُكْرَهُ الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ النَّوْمُ عَلَى فُرُشِ الْحَرِيرِ وَالتَّوَسُّدُ عَلَى وَسَائِدِهِ، وَمُرَادُهُمَا التَّحْرِيمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: يُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الذُّكُورُ مِنْ الصِّبْيَانِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَقَالُوا: إنَّ التَّحْرِيمَ لِمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الذُّكُورِ، وَتَحْرِيمُ اللُّبْسِ يُحَرِّمُ الْإِلْبَاسَ، كَالْخَمْرِ لَمَّا حَرُمَ شُرْبُهَا حَرُمَ سَقْيُهَا، وَكَذَلِكَ قَالُوا: يُكْرَهُ مِنْدِيلُ الْحَرِيرِ الَّذِي يُتَمَخَّطُ فِيهِ وَيُتَمَسَّحُ مِنْ الْوُضُوءِ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ، وَقَالُوا: يُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ؛ وَقَالُوا: يُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ إذَا أَضَرَّ بِهِمْ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ؛ وَقَالُوا: يُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الْفِتْنَةِ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِ مَكَّةَ، وَمُرَادُهُمْ التَّحْرِيمُ عِنْدَهُمْ؛ قَالُوا: وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُمْ؛ قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ أَوْ غَيْرِهِ طَوْقَ الْحَدِيدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَرُّكِ، وَهُوَ الْغُلُّ، وَهُوَ حَرَامٌ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ جِدًّا. وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُمْ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمُبَاحِ، وَلَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَوَازِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ أَكْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُبَاحٍ؛ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ: أَكْرَهُ كَذَا، وَهُوَ حَرَامٌ؛ فَمِنْهَا أَنَّ مَالِكًا نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الشِّطْرَنْجِ، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ: إنَّهُ لَهْوٌ شَبَهُ الْبَاطِلِ، أَكْرَهُهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي تَحْرِيمُهُ فَقَدْ نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي تَحْرِيمِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ وَإِلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا جَائِزٌ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ كَرِهَهَا، وَتَوَقَّفَ فِي تَحْرِيمِهَا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ اللَّعِبِ بِهَا وَإِبَاحَتُهُ؟ وَمِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِنْتَهُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا جَائِزٌ، وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَمَنْصِبِهِ الَّذِي أَجَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الدِّينِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ، وَأَطْلَقَ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: 34] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ؛ ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] وَفِي الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» . فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْكَرَاهَةَ فِي مَعْنَاهَا الَّذِي اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ الْكَرَاهَةِ بِمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَتَرْكُهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ مِنْهُمْ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ، فَغَلِطَ فِي ذَلِكَ، وَأَقْبَحُ غَلَطًا مِنْهُ مَنْ حَمَلَ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ أَوْ لَفْظَ " لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْحَادِثِ، وَقَدْ اطَّرَدَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتِعْمَالُ " لَا يَنْبَغِي " فِي الْمَحْظُورِ شَرْعًا وَقَدَرًا وَفِي الْمُسْتَحِيلِ الْمُمْتَنِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] وَقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210 - 211] «وَقَوْلِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ: «لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» وَأَمْثَالِ ذَلِكَ [مَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْمُفْتِي يُخْبِرُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَنْ دِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَا شَرَعَهُ كَانَ قَائِلًا عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، وَلَكِنْ إذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَأَخْطَأَ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَعِيدُ، وَعُفِيَ لَهُ عَنْ مَا أَخْطَأَ بِهِ، وَأُثِيبَ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَمْ يَظْفَرْ فِيهِ بِنَصٍّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: إنَّ اللَّه حَرَّمَ كَذَا، وَأَوْجَبَ كَذَا، وَأَبَاحَ كَذَا، وَإِنَّ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ؛ قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: ثنا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، ثنا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: إيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِشَيْءٍ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا أَوْ نَهَى عَنْهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْت لَمْ أُحَرِّمْهُ وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ، أَوْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَحَلَّ هَذَا أَوْ أَمَرَ بِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْت لَمْ أُحِلَّهُ وَلَمْ آمُرْ بِهِ؛ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ مَا كَانَ يَنْزِلُ بِهِ فَيُسْأَلُ عَنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِيهِ رَأْيُهُ: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] [فَصْلٌ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفُتْيَا] [أَدَوَاتُ الْفُتْيَا] . فَصْلٌ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي أَدَوَاتِ الْفُتْيَا، وَشُرُوطِهَا، وَمَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَأَيْنَ يَسَعُ قَوْلُ الْمُفْتِي " لَا أَدْرِي "؟ . [أَدَوَاتُ الْفُتْيَا] . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، عَالِمًا بِالسُّنَنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِيهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيَتَخَيَّرَ فَيَقْضِيَ بِهِ وَيَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ فَيَكُونُ يَعْمَلُ عَلَى أَمْرٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ إلَّا لِرَجُلٍ عَالِمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَإِلَّا فَلَا يُفْتِي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي: سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ أَحْمَدَ: إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَثَلَاثَ مِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَ يَدَهُ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَسَأَلْت جَدِّي مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قُلْت: فَكَمْ كَانَ يَحْفَظُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ قَالَ: أَخَذَ عَنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: قَالَ لِي أَبُو إِسْحَاقَ: لَمَّا جَلَسْت فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ لِلْفُتْيَا ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ لِي رَجُلٌ: فَأَنْتَ هُوَ ذَا لَا تَحْفَظُ هَذَا الْقَدْرَ حَتَّى تُفْتِي النَّاسَ، فَقُلْت لَهُ: عَافَاك اللَّهُ إنْ كُنْت لَا أَحْفَظُ هَذَا الْمِقْدَارَ فَإِنِّي هُوَ ذَا أُفْتِي النَّاسَ بِقَوْلِ مَنْ كَانَ يَحْفَظُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إذَا لَمْ يَحْفَظْ مِنْ الْحَدِيثِ هَذَا الْقَدْرَ الْكَثِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفَتْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمَّا جَلَسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ أَحْمَدَ فِيمَا يُفْتِي بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ عَلَى كِتَابِ الْعِلَلِ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ: [الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ] . [هَلْ تَجُوزُ الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ] ؟ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ عَالِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَتْ الْفَتْوَى لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ ابْنُ بَطَّةَ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْبَرْمَكِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا سَمِعَ مَنْ يُفْتِي، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَصَحُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ فِي تَعَالِيقِهِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّجَّادَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ بَشْرَانَ يَقُولُ: مَا أَعِيبُ عَلَى رَجُلٍ يَحْفَظُ عَنْ أَحْمَدَ خَمْسَ مَسَائِلَ اسْتَنَدَ إلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يُفْتِي بِهَا. [شُرُوطُ الْإِفْتَاءِ] [شَرْطُ الْإِفْتَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ لَهُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَيَعْرِفُ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ، بَصِيرًا بِالشِّعْرِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَيَسْتَعْمِلُ هَذَا مَعَ الْإِنْصَافِ، وَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَتَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْت لِأَبِي: مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ فِي الْفِقْهِ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْفُتْيَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَنِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَذَكَرَ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ شَقِيقٍ: قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَتَى يُفْتِي الرَّجُلُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَثَرِ، بَصِيرًا بِالرَّأْيِ. وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: مَتَى يَجِبُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ بَصِيرًا بِالرَّأْيِ بَصِيرًا بِالْأَثَرِ. قُلْت: يُرِيدَانِ بِالرَّأْيِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْمَعَانِيَ وَالْعِلَلَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا [فَصْلٌ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ] . فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ وَالرَّأْيِ الَّذِي لَمْ تَشْهَدْ لَهُ النُّصُوصُ بِالْقَبُولِ. قَالَ اللَّهُ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] فَقَسَّمَ الْأَمْرَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، إمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مِنْ الْهَوَى. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] فَقَسَّمَ سُبْحَانَهُ طَرِيقَ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ إلَى الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَإِلَى الْهَوَى وَهُوَ مَا خَالَفَهُ. وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] فَقَسَّمَ الْأَمْرَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَعَلَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا وَأَوْحَى إلَيْهِ الْعَمَلَ بِهَا وَأَمَرَ الْأُمَّةَ بِهَا وَبَيَّنَ اتِّبَاعَ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ فَأَمَرَ بِالْأَوَّلِ، وَنَهَى عَنْ الثَّانِي. وَقَالَ تَعَالَى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُنَزَّلِ مِنْهُ خَاصَّةً: وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فَقَدْ اتَّبَعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَأَمَرَ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَعَادَ الْفِعْلَ إعْلَامًا بِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ تَجِبُ اسْتِقْلَالًا مِنْ غَيْرِ عَرْضِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، بَلْ إذَا أَمَرَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ اسْتِقْلَالًا، بَلْ حَذَفَ الْفِعْلَ وَجَعَلَ طَاعَتَهُمْ فِي ضِمْنِ طَاعَةِ الرَّسُولِ؛ إيذَانًا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ تَبَعًا لِطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَمَنْ أَمَرَ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ كَمَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَقَالَ: «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَقَالَ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ» . وَقَدْ «أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الَّذِينَ أَرَادُوا دُخُولَ النَّارِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ بِدُخُولِهَا: إنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا» مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَدْخُلُونَهَا طَاعَةً لِأَمِيرِهِمْ، وَظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَادَرُوا إلَى طَاعَةِ مَنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَحَمَلُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ الْآمِرُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 دِينِهِ إرَادَةُ خِلَافِهِ، فَقَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَعْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِهْلَاكِهَا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أَطَاعَ غَيْرَهُ فِي صَرِيحِ مُخَالَفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي الْعَاقِبَةِ. [لَمْ يَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ] ؟ . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أُمُورًا: مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْمَلُ الْأُمَّةِ إيمَانًا، وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ كُلُّهُمْ عَلَى إثْبَاتِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، لَمْ يَسُومُوهَا تَأْوِيلًا، وَلَمْ يُحَرِّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلًا، وَلَمْ يُبْدُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالًا، وَلَا ضَرَبُوا لَهَا أَمْثَالًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا فِي صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ حَقَائِقهَا وَحَمْلِهَا عَلَى مَجَازِهَا، بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَابَلُوهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِيهَا كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا، وَأَجْرَوْهَا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ، وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ، مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَاللَّازِمِ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَأَثْبَتُوهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ تَنَازُعُهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا شَرَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ. [الْأَمْرُ بِالرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَشْتَمِلَانِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَيْءٍ] وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء: 59] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجِلِّهِ، جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيَانُ حُكْمِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَافِيًا لَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ النِّزَاعِ إلَى مَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَضْلُ النِّزَاعِ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 [الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ] وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الرَّدَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا الرَّدُّ انْتَفَى الْإِيمَانُ؛ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ، وَلَا سِيَّمَا التَّلَازُمُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ أَحْسَنُ عَاقِبَةً، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَحَاكَمَ أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَدْ حَكَّمَ الطَّاغُوتَ وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ، وَالطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنْ اللَّهِ، أَوْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذِهِ طَوَاغِيتُ الْعَالَمِ إذَا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْت أَكْثَرَهُمْ [عَدَلُوا] مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَعَنْ التَّحَاكُمِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إلَى التَّحَاكُمِ إلَى الطَّاغُوتِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ إلَى طَاعَةِ الطَّاغُوتِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ النَّاجِينَ الْفَائِزِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - وَلَا قَصَدُوا قَصْدَهُمْ، بَلْ خَالَفُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَالْقَصْدِ مَعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي، وَرَضُوا بِحُكْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَبَصَائِرهمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ إعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَحْكِيمِ غَيْرِهِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49] اعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَصَدُوا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، أَيْ بِفِعْلِ مَا يُرْضِي الْفَرِيقَيْنِ وَيُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرُومُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا خَالَفَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ قَاصِدٌ الْإِصْلَاحَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالْإِيمَانُ إنَّمَا يَقْتَضِي إلْقَاءَ الْحَرْبِ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ كُلِّ مَا خَالَفَهُ مِنْ طَرِيقَةٍ وَحَقِيقَةٍ وَعَقِيدَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَرَأْيٍ؛ فَرَخَّصَ الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْحَرْبِ لَا فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ الْعِبَادِ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ فِي كُلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ الدَّقِيقِ وَالْجَلِيلِ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي إيمَانِهِمْ بِهَذَا التَّحْكِيمِ بِمُجَرَّدِهِ حَتَّى يَنْتَفِيَ عَنْ صُدُورِهِمْ الْحَرَجُ وَالضِّيقُ عَنْ قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ أَيْضًا بِذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وَيَنْقَادُوا انْقِيَادًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ قَضَائِهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ، وَمَنْ تَخَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مَعْنَى التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] أَيْ لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ، وَلَا تُفْتُوا حَتَّى يُفْتِيَ، وَلَا تَقْطَعُوا أَمْرًا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِ وَيَمْضِيهِ، رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا تَقُولُوا خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنْهُ قَالَ: نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَعْجَلُوا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَفْعَلَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] فَإِذَا كَانَ رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ سَبَبًا لِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ فَكَيْف تَقْدِيمُ آرَائِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ وَسِيَاسَاتِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَرَفْعُهَا عَلَيْهِ؟ أَلَيْسَ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُحْبِطًا لِأَعْمَالِهِمْ. [يُنْزَعُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] فَإِذَا جُعِلَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَا يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا إذَا كَانُوا مَعَهُ إلَّا بِاسْتِئْذَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لَا يَذْهَبُوا إلَى قَوْلٍ وَلَا مَذْهَبٍ عِلْمِيٍّ إلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَإِذْنُهُ يُعْرَفُ بِدَلَالَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ فِيهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ إذْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضَلُّونَ وَيَضِلُّونَ» . وَقَالَ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْزِعُ اللَّهَ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَارٌّ بِنَا إلَى الْحَجِّ، فَالْقَهُ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا كَثِيرًا، قَالَ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ عُرْوَةُ: فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنْ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيَبْقَى فِي النَّاسِ رُءُوسٌ جُهَّالٌ يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيُضَلُّونَ وَيَضِلُّونَ» قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا حَدَّثْت عَائِشَةَ بِذَلِكَ أَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْهُ، قَالَتْ: أَحَدَّثَك أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ عُرْوَةُ: نَعَمْ، حَتَّى إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ قَالَتْ لِي: إنَّ ابْنَ عَمْرٍو قَدْ قَدِمَ فَالْقَهُ ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَك فِي الْعِلْمِ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتَهُ فَذَكَرَهُ لِي نَحْوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ قَالَتْ: مَا أَحْسَبُهُ إلَّا وَقَدْ صَدَقَ، أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يُنْقِصْ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ «فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضَلُّونَ وَيَضِلُّونَ» وَقَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاَللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ؛ وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ جَرِيرٍ بْنِ عُثْمَانَ الرَّحَبِيِّ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ، يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «يُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَحْلِيلُهُ، وَالْحَرَامُ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَحْرِيمُهُ، فَمَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَالَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَاسَ بِرَأْيِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ عَنْ السُّنَّةِ؛ فَهَذَا الَّذِي قَاسَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِ فَضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ رَدَّ الْفُرُوعَ إلَى أُصُولِهَا فَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيِهِ. [الْوَعِيدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى رَأْيٍ رَآهُ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ فِيهِ بَعْدُ فَلَيْسَ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مَعْذُورٌ، خَالِفًا كَانَ أَوْ سَالِفًا، وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَعَانَدَ وَتَمَادَى عَلَى الْفُتْيَا بِرَأْيِ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ الَّذِي يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ؛ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فَصْلٌ. فِيمَا رُوِيَ عَنْ صِدِّيقِ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمِهَا مِنْ إنْكَارِ الرَّأْيِ. [ذَمُّ أَبِي بَكْرٍ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ ثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إنْ قُلْت فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا وَلَا أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَلْوَانِيُّ حَدَّثَنَا عَارِمٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدُ أَهْيَبَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَهْيَبَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَزَلَتْ بِهِ قَضِيَّةٌ فَلَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْهَا أَصْلًا وَلَا فِي السُّنَّةِ أَثَرًا فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا رَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَصْلٌ. فِي الْمَنْقُولِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [ذَمُّ عُمَرَ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الرَّأْيَ إنَّمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبًا، إنَّ اللَّهَ كَانَ يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ. قُلْت: مُرَادُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ غَيْرَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ، وَأَمَّا مَا رَأَى غَيْرُهُ فَظَنٌّ وَتَكَلُّفٌ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كَتَبَ كَاتِبٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " هَذَا مَا رَأَى اللَّهُ وَرَأَى عُمَرُ " فَقَالَ: بِئْسَ مَا قُلْت، قُلْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ الرَّأْيِ سُنَّةً لِلْأُمَّةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَصْبَحَ أَهْلُ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَعُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَرْوُوهَا، فَاسْتَبَقُوهَا بِالرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: اتَّقُوا الرَّأْيَ فِي دِينِكُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ صَدَقَةِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضُلُّوا وَأَضَلُّوا، وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعُمَرِيُّ ثنا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهَمُوا الرَّأْيَ فِي الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِي فَأَجْتَهِدُ وَلَا آلُو، وَذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ وَقَالَ: اُكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: يُكْتَبُ بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَيْت، فَقَالَ: يَا عُمَرُ تَرَانِي قَدْ رَضِيتَ وَتَأْبَى؟» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلَى بِنْتِ صَفْوَانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ بِرَأْيِهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَيَّ بِهِ، فَجَاءَ زَيْدٌ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيْ عَدُوَّ نَفْسِهِ قَدْ بَلَغْتَ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ بِرَأْيِك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت، وَلَكِنْ سَمِعْت مِنْ أَعْمَامِي حَدِيثًا فَحَدَّثْت بِهِ مِنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَمِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمِنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَيَّ بِرِفَاعَةِ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذَا أَصَابَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَأَكْسَلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، قَالَ: قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْتِنَا فِيهِ عَنْ اللَّهِ تَحْرِيمٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ، فَقَالَ عُمَرُ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَمْعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجُمِعُوا، فَشَاوَرَهُمْ فَشَارَ النَّاسَ أَنْ لَا غُسْلَ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مُعَاذٍ وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ بَدْرٍ قَدْ اخْتَلَفْتُمْ، فَمَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ: لَا عِلْمَ لِي، فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، فَقَالَ: لَا أَسْمَعُ بِرَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا. [ذَمُّ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا جُنَيْدٌ ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ. وَلَكِنْ فُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثنا شَقِيقٌ عَنْ مُجَالِدٍ بِهِ، قَالَ: وَلَكِنْ ذَهَابُ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ، ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ، وَيَثْلَمُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: عُلَمَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ حَفْصَةَ عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا عَلَّمَك اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَيْك مِنْ عِلْمٍ فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ، وَلَا تَتَكَلَّفُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] يُرْوَى هَذَا عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، ثنا أَبُو زَيْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 إيَّاكُمْ وَأَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ، وَلَا تَقِيسُوا شَيْئًا فَتَزِلُّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَإِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَلِيَقُلْ: لَا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ ثُلُثُ الْعِلْمِ. وَصَحَّ عَنْهُ فِي الْمُفَوِّضَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُ. [ذَمُّ عُثْمَانَ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ -: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَأَنَا وَاَللَّهِ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِالْجُحْفَةِ إذْ قَالَ عُثْمَانُ وَذَكَرَ لَهُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ: أَتِمُّوا الْحَجَّ وَأَخْلِصُوهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَخَّرْتُمْ هَذِهِ الْعُمْرَةَ حَتَّى تَزُورُوا هَذَا الْبَيْتَ زَوْرَتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ فِي الْخَيْرِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: عَمَدْت إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُخْصَةٍ رَخَّصَ اللَّهُ لِلْعِبَادِ بِهَا فِي كِتَابِهِ تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَتَنْهَى عَنْهَا، وَكَانَتْ لِذِي الْحَاجَةِ وَلِنَائِي الدَّارِ، ثُمَّ أَهَلَّ عَلِيٌّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ مَعًا، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَنْهَيْت عَنْهَا؟ إنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْهَا، إنَّمَا كَانَ رَأْيًا أَشَرْت بِهِ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. فَهَذَا عُثْمَانُ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْأُمَّةِ الْأَخْذُ بِهِ، بَلْ مَنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ، بِخِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدًا تَرْكُهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. [ذَمُّ عَلِيٍّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو دَاوُد -: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٌ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ. [ذَمُّ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ وَهْبٍ -: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ الصَّفَّارُ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عَنْ أَبِي فَزَارَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَلَا أَدْرِي أَفِي حَسَنَاتِهِ يَجِدُ ذَلِكَ أَمْ فِي سَيِّئَاتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ بَكْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. [سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَذُمُّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ] قَوْلُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْبُخَارِيُّ -: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ. [ابْنُ عُمَرَ يَذُمُّ الرَّأْيَ] قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنْ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْأَمْرِ يُسْأَل عَنْهُ شَيْئًا قَالَ: إنْ شِئْتُمْ أَخْبَرْتُكُمْ بِالظَّنِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ لِي صَدَقَةٌ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَقِيَنِي ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، إنَّك مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ وَتُسْتَفْتَى فَلَا تُفْتِيَنَّ إلَّا بِكِتَابٍ نَاطِقٍ أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ: الْعِلْمُ ثَلَاثٌ: كِتَابُ اللَّهِ النَّاطِقُ، وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَلَا أَدْرِي. [زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَذُمُّ الرَّأْيَ] قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا مَوْلَى ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَوْمٌ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِهَا، فَكَتَبُوهَا ثُمَّ قَالُوا: لَوْ أَخْبَرْنَاهُ، قَالَ: فَأَتَوْهُ فَأَخْبِرُوهُ، فَقَالَ: أَعُذْرًا لَعَلَّ كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكُمْ خَطَأٌ، إنَّمَا أَجْتَهِدُ لَكُمْ بِرَأْيِي. [مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَذُمُّ الرَّأْيَ] قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: ثنا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: تَكُونُ فِتَنٌ فَيَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمُؤْمِنُ، فَيَقْرَأَهُ الرَّجُلُ فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَأَقْرَأَنَّهُ عَلَانِيَةً، فَيَقْرَأَهُ عَلَانِيَةً فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَتَّخِذَ مَسْجِدًا، وَيَبْتَدِعَ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، قَالَهُ مُعَاذٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. [أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَذُمُّ الرَّأْيَ] قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - قَالَ الْبَغَوِيّ -: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَقُولَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَيَكُونُ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ وَيَمْرُقُ مِنْ الدِّينِ. [مُعَاوِيَةُ يَذُمُّ الرَّأْيَ] قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ثنا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا فِيكُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِأَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُوْلَئِكُمْ جُهَّالُكُمْ فَهَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ وَمُعَاوِيَةُ خَال الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُخْرِجُونَ الرَّأْيَ عَنْ الْعِلْمِ، وَيَذُمُّونَهُ، وَيُحَذِّرُونَ مِنْهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْفُتْيَا بِهِ، وَمَنْ اُضْطُرَّ مِنْهُمْ إلَيْهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ ظَنٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنْهُ، وَأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُسَوِّغَ الْأَخْذَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ لُزُومٍ لِاتِّبَاعِهِ وَلَا الْعَمَلِ بِهِ، فَهَلْ تَجِدُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ جَعَلَ رَأْيَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ دِينًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُبْدِعُ وَيُضَلِّلُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى اتِّبَاعِ السُّنَنِ؟ . فَهَؤُلَاءِ بَرْكُ الْإِسْلَامِ، وَعِصَابَةُ الْإِيمَانِ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَأَنْصَحُ الْأَئِمَّةِ لِلْأُمَّةِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْأَحْكَامِ وَأَدِلَّتِهَا، وَأَفْقَهُهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَعْمَقُهُمْ عِلْمًا، وَأَقَلُّهُمْ تَكَلُّفًا، وَعَلَيْهِمْ دَارَتْ الْفُتْيَا، وَعَنْهُمْ انْتَشَرَ الْعِلْمُ، وَأَصْحَابُهُمْ هُمْ فُقَهَاءُ الْأُمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِالْكُوفَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِالْمَدِينَةِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَبِالْبَصْرَةِ كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَبِالشَّامِ كَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَبِمَكَّةَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَبِمِصْرِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ انْتَشَرَ الْعِلْمُ فِي الْآفَاقِ، وَأَكْثَرُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّحْذِيرُ مِنْ الرَّأْيِ مَنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ إرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِيهَا بَعْدَهُمْ. [فَصْلٌ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ] فَصْلٌ. [تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ] قَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ: وَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ - وَإِنْ ذَمُّوا الرَّأْيَ، وَحَذَّرُوا مِنْهُ، وَنَهَوْا عَنْ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءُ بِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، وَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِكَاتِبِهِ: قُلْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنْ الْحَجِّ: إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ، وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا يُبَعْنَ. وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى شُرَيْحٍ: إذَا وَجَدْت شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ، وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَاك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ أَتَاك مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَك، فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَك فَتَقَدَّمَ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ، وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إلَّا خَيْرًا لَك، ذَكَرَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنْ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِ. [طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: ثنا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظَرَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ سَأَلَ النَّاسَ: هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَيَقُولُونَ: قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُنَّةً سَنّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ رُؤَسَاءَ النَّاسِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ قَضَى بِهِ، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِذَا أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَأَلَ: هَلْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فَإِنْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ قَضَاءٌ قَضَى بِهِ، وَإِلَّا جَمَعَ عُلَمَاءَ النَّاسِ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ قَضَى بِهِ. [طَرِيقَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَكْثَرُوا عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَاكَ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ بَلَّغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ، وَلَا يَقُلْ: إنِّي أَرَى، وَإِنِّي أَخَافُ؛ فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، أَنَا هُشَيْمٌ، أَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ عُمَرُ شُرَيْحًا عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ قَالَ لَهُ: اُنْظُرْ مَا يَتَبَيَّنُ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَك فِيهِ السُّنَّةُ فَاجْتَهِدْ فِيهِ رَأْيَك. [مِنْ قِيَاسِ الصَّحَابَةِ] وَفِي كِتَابِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى: اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ، وَقِسْ الْأُمُورَ وَقَايَسَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدَ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمُكَاتَبِ، وَقَايَسَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ؛ فَشَبَّهَهُ عَلِيٌّ بِسَيْلٍ انْشَعَبَتْ مِنْهُ شُعْبَةٌ، ثُمَّ انْشَعَبَتْ مِنْ الشُّعْبَةِ شُعْبَتَانِ، وَقَايَسَهُ زَيْدٌ عَلَى شَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ، وَانْشَعَبَ مِنْ الْغُصْنِ غُصْنَانِ، وَقَوْلُهُمَا فِي الْجَدِّ إنَّهُ لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، وَقَاسَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَضْرَاسَ بِالْأَصَابِعِ، وَقَالَ: أَعْتَبِرُهَا بِهَا؛ وَسُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ مَسِيرِهِ إلَى صِفِّينَ: هَلْ كَانَ بِعَهْدٍ عَهِدَهُ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ رَأْيٌ رَآهُ؟ قَالَ: بَلْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْمُفَوِّضَةِ: أَقُولُ بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ ثَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيءٌ. [حَالُ ابْنِ مَسْعُودٍ] وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثنا أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى فِيهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ نَبِيُّهُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ الصَّالِحُونَ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ فَلْيَقُمْ وَلَا يَسْتَحْيِ. [حَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ] وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ. [حَالُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ] وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قُلْت: لَا، قَالَ: فَأَجِمَّنَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ اجْتَهَدْنَا لَك رَأْيَنَا. [جُمْلَةٌ مَنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ بِالرَّأْيِ] قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَفِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي وَتَقُولُ بِرَأْيِك. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ: أَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ هَذَا أَوْ شَيْءٌ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: بَلْ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَالَ فِي شَيْءٍ بِرَأْيِهِ قَالَ: هَذِهِ مِنْ كِيسِي، ذَكَرَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ وَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: إيَّاكُمْ وَفِرَاسَةَ الْعُلَمَاءِ، احْذَرُوا أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْكُمْ شَهَادَةً تَكُبُّكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ فِي النَّارِ، فَوَاَللَّهِ إنَّهُ لَلْحَقُّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ. قُلْت: وَأَصْلُ هَذَا فِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ ثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْفَيَّاضِ الْبَرْقِيُّ الشَّيْخُ الصَّالِحُ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بَزِيعٍ الإسكندراني ثنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْأَمْرُ يَنْزِلُ بِنَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ مِنْك سُنَّةٌ، قَالَ: اجْمَعُوا لَهُ الْعَالَمِينَ، أَوْ قَالَ الْعَابِدِينَ، مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلُوهُ شُورَى بَيْنَكُمْ، وَلَا تَقْضُوا فِيهِ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ» وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمَ الْبَرْقِيِّ وَسُلَيْمَانُ لَيْسَا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِمَا. وَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ: لَوْلَا رَأْيُكُمَا لَاجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ، كَيْفَ يَكُونُ ابْنِي وَلَا أَكُونُ أَبَاهُ؟ يَعْنِي الْجَدُّ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: مَا صَنَعْت؟ قَالَ: قَضَى عَلِيٌّ وَزَيْدٌ بِكَذَا، قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَقَضَيْت بِكَذَا، قَالَ: فَمَا مَنَعَك وَالْأَمْرُ إلَيْك؟ قَالَ: لَوْ كُنْت أَرُدُّك إلَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْ إلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَعَلْت، وَلَكِنِّي أَرُدُّك إلَى رَأْيٍ، وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ، فَلَمْ يَنْقُضْ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَرَأَى قَلْبَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ. ثُمَّ اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَهُ فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَتِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ اسْتَعْمَلَ عُرْوَةَ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيَّ عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ مِنْ صَالِحِي عُمَّالِ عُمَرَ، وَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: لَعَمْرِي مَا أَنَا بِالنَّشِيطِ عَلَى الْفُتْيَا مَا وَجَدْت مِنْهَا بُدًّا، وَمَا جَعَلْتُك إلَّا لِتَكْفِينِي، وَقَدْ حَمَّلْتُك ذَلِكَ، فَاقْضِ فِيهِ بِرَأْيِك. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنِي رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ لِلْحَسَنِ: أَرَأَيْت مَا تُفْتِي بِهِ النَّاسَ، أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ أَمْ بِرَأْيِكَ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاَللَّهِ مَا كُلُّ مَا نُفْتِي بِهِ سَمِعْنَاهُ، وَلَكِنْ رَأْيُنَا لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ رَأْيِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا اسْتَحْسَنَ فُقَهَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَسِعَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ، وَيَقْضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بِهِ، وَيُمْضِيهِ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَحَجِّهِ وَجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَنَظَرَ وَقَاسَ عَلَى مَا أَشْبَهَ وَلَمْ يَأْلُ وَسِعَهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِ. [فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] فَصْلٌ وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنْ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ، وَهَذَا إمَّا يَتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: [مَعْنَى الرَّأْيِ] الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ " رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا " ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى؛ فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٌ، وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا، وَرَآهُ فِي الْيَقِظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا - لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ - رَأْيًا، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ؛ فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى بِقَلْبِهِ أَمْرًا غَائِبًا عَنْهُ مِمَّا يَحُسُّ بِهِ أَنَّهُ رَأْيُهُ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ إنَّهُ رَأْيٌ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ كَدَقَائِقِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهَا. [الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إلَيْهَا السَّلَفُ، فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ، وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ، وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ، وَمَنَعُوا مِنْ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُمْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحَ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلَتْ الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ، فَقَالَ لِي: عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ: لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَضْبِطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حِفْظِهِ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَبْغُوا الْعُدُولَ إلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فَالْبَاغِي: الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْمُذَكَّى، وَالْعَادِي: الَّذِي يَتَعَدَّى قَدْرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا. [الرَّأْيُ الْبَاطِلُ وَأَنْوَاعُهُ] فَالرَّأْيُ الْبَاطِلُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَتَقْلِيدٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: هُوَ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ، مَعَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ وَفَهْمِهَا وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَهَا وَقَاسَ بِرَأْيِهِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَدْرِ فَارِقٍ يَرَاهُ بَيْنَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى النُّصُوصِ وَالْآثَارِ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الْبَاطِلِ. فَصْلٌ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الرَّأْيُ الْمُتَضَمِّنُ تَعْطِيلَ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ، حَيْثُ اسْتَعْمَلَ أَهْلُهُ قِيَاسَاتِهِمْ الْفَاسِدَةَ وَآرَاءَهُمْ الْبَاطِلَةَ وَشُبَهَهُمْ الدَّاحِضَةَ فِي رَدِّ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ؛ فَرَدُّوا لِأَجْلِهَا أَلْفَاظَ النُّصُوصِ الَّتِي وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ رُوَاتِهَا وَتَخْطِئَتِهِمْ، وَمَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا إلَى رَدِّ أَلْفَاظِهَا سَبِيلًا، فَقَابَلُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ بِالتَّكْذِيبِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، فَأَنْكَرُوا لِذَلِكَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْكَرُوا كَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنْكَرُوا مُبَايَنَتَهُ لِلْعَالَمِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَعُلُوَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ، وَعُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ أَخْرَجُوا أَفْعَالَ عِبَادِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَنْ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ لَهَا، وَنَفَوْا لِأَجْلِهَا حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ؛ وَحَرَّفُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَخْرَجُوهَا عَنْ مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ ذُبَالَةُ الْأَذْهَانِ وَنُخَالَةُ الْأَفْكَارِ وَعُفَارَةُ الْآرَاءِ وَوَسَاوِسُ الصُّدُورِ، فَمَلَئُوا بِهِ الْأَوْرَاقَ سَوَادًا، وَالْقُلُوبَ شُكُوكًا، وَالْعَالَمَ فَسَادًا، وَكُلُّ مَنْ لَهُ مَسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ يَعْلَمُ أَنَّ فَسَادَ الْعَالَمِ وَخَرَابِهِ إنَّمَا نَشَأَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مِنْ تَقْدِيمِ الرَّأْيِ عَلَى الْوَحْيِ، وَالْهَوَى عَلَى الْعَقْلِ، وَمَا اسْتَحْكَمَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ الْفَاسِدَانِ فِي قَلْبٍ إلَّا اسْتَحْكَمَ هَلَاكُهُ، وَفِي أُمَّةٍ إلَّا فَسَدَ أَمْرُهَا أَتَمَّ فَسَادٍ، فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَمْ نُفِيَ بِهَذِهِ الْآرَاءِ مِنْ حَقٍّ، وَأُثْبِتَ بِهَا مِنْ بَاطِلٍ، وَأُمِيتَ بِهَا مِنْ هُدًى، وَأُحْيِيَ بِهَا مِنْ ضَلَالَةٍ؟ وَكَمْ هُدِمَ بِهَا مِنْ مَعْقِلِ الْإِيمَانِ، وَعُمِّرَ بِهَا مِنْ دِينِ الشَّيْطَانِ؟ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّذِينَ لَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْحُمُرِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] . النَّوْعُ الرَّابِعُ: الرَّأْيُ الَّذِي أُحْدِثَتْ بِهِ الْبِدَعُ، وَغُيِّرَتْ بِهِ السُّنَنُ، وَعَمَّ بِهِ الْبَلَاءُ، وَتَرَبَّى عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَهَرَمَ فِيهِ الْكَبِيرُ. فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ذَمِّهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الدِّينِ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ قِيَاسًا، دُونَ رَدِّهَا عَلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ، وَفُرِّعَتْ وَشُقِّقَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ لِلظَّنِّ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ تَعْطِيلُ السُّنَنِ، وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ مِنْهَا وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعَانِيهِ، احْتَجُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِأَشْيَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى ثنا شَرِيكٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ يَلْعَنُ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ؛ وَقَالَ: فَسَّرَهُ الْأَوْزَاعِيُّ يَعْنِي صِعَابَ الْمَسَائِلِ وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ قَيْسٍ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ «أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الْمَسَائِلَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ عَضْلِ الْمَسَائِلِ» . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَقَالَ ابْنُ خَيْثَمَةَ: ثنا أَبِي، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَكَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ خِلَافُ لَفْظِ الْمُوَطَّإِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» فَقَالَ: أَمَّا كَثْرَةُ السُّؤَالِ فَلَا أَدْرِي أَهُوَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ؛ فَقَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فَلَا أَدْرِي أَهُوَ هَذَا أَمْ السُّؤَالُ فِي مَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي الِاسْتِعْطَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ: وَدِدْت أَنَّ حَظِيَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا أَسْأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَسْأَلُونِي، يَتَكَاثَرُونَ بِالْمَسَائِلِ كَمَا يَتَكَاثَرُ أَهْلُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ. قَالَ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أُحَرِّجُ بِاَللَّهِ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ مَا هُوَ كَائِنٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْت قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا سَأَلُوهُ إلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُنَّ فِي الْقُرْآنِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] . مَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ الْحَدِيثُ مِنْ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً إلَّا ثَلَاثً. قُلْت: وَمُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: " مَا سَأَلُوهُ إلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشَرَ مَسْأَلَةً " الْمَسَائِلُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَالْمَسَائِلُ الَّتِي سَأَلُوهُ عَنْهَا وَبَيَّنَ لَهُمْ أَحْكَامَهَا بِالسُّنَّةِ لَا تَكَادُ تُحْصَى وَلَكِنْ إنَّمَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ مِنْ الْوَاقِعَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْمُقَدَّرَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَعَضْلِ الْمَسَائِلِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَشْتَغِلُونَ بِتَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا، بَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كَانَتْ هِمَمُهُمْ مَقْصُورَةً عَلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَإِذَا وَقَعَ بِهِمْ أَمْرٌ سَأَلُوا عَنْهُ فَأَجَابَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا: هَلْ هِيَ أَحْكَامٌ قَدَرِيَّةٌ أَوْ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقِيلَ: إنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، أَيْ سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا سَبَبُ تَحْرِيمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلُوا لَكَانَتْ عَفْوًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمَذْكُورُ «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا» الْحَدِيثَ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُّوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» وَفُسِّرَتْ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ؛ «كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» ؟ وَقَوْلِ آخَرَ: «أَيْنَ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فِي النَّارِ» . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّهْيَ عَنْ النَّوْعَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] أَمَّا فِي أَحْكَامِ الْخَلْقِ وَالْقَدَرِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ يَسُوءُهُمْ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفُهُ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا نَزَلَ بِهَا ابْتِدَاءً بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَسَأَلْتُمْ عَنْ تَفْصِيلِهَا وَعِلْمِهَا أَبْدَى لَكُمْ وَبَيَّنَ لَكُمْ، وَالْمُرَادُ بِحِينِ النُّزُولِ زَمَنُهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ، لَا الْوَقْتُ الْمُقَارِنُ لِلنُّزُولِ، وَكَأَنَّ فِي هَذَا إذْنًا لَهُمْ فِي السُّؤَالِ عَنْ تَفْصِيلٍ الْمُنَزَّلِ وَمَعْرِفَتِهِ بَعْدَ إنْزَالِهِ؛ فَفِيهِ رَفْعٌ لِتَوَهُّمِ الْمَنْعِ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهَا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْوَحْيِ جَاءَكُمْ بَيَانُ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ بِمَا يَسُوءُكُمْ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَعَرَّضُوا لِلسُّؤَالِ عَمَّا يَسُوءُكُمْ بَيَانُهُ، وَإِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ أَبْدَى لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] أَيْ عَنْ بَيَانِهَا خَبَرًا وَأَمْرًا، بَلْ طُوِيَ بَيَانُهَا عَنْكُمْ رَحْمَةً وَمَغْفِرَةً وَحِلْمًا وَاَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ؛ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَفَا اللَّهُ عَنْ التَّكْلِيفِ بِهَا تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَفَا اللَّهُ عَنْ بَيَانِهَا لِئَلَّا يَسُوءَكُمْ بَيَانُهَا. وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] أَرَادَ نَوْعَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أَعْيَانَهَا، أَيْ قَدْ تَعَرَّضَ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَلَمَّا بُيِّنَتْ لَهُمْ كَفَرُوا بِهَا، فَاحْذَرُوا مُشَابَهَتَهُمْ وَالتَّعَرُّضَ لِمَا تَعْرِضُوا لَهُ. وَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا إنْ بَدَا لَهُ سَاءَهُ، بَلْ يَسْتَعْفِي مَا أَمْكَنَهُ، وَيَأْخُذُ بِعَفْوِ اللَّهِ. وَمِنْ هَهُنَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ، لَا تُخْبِرْنَا، لَمَّا سَأَلَهُ رَفِيقُهُ عَنْ مَائِهِ أَطَاهِرٌ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُبْدِيَ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَعَاقِبَتِهِ مَا طَوَاهُ عَنْهُ وَسَتَرَهُ، فَلَعَلَّهُ يَسُوءُهُ إنْ أُبْدِيَ لَهُ، فَالسُّؤَالُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهَ إبْدَاءَهَا، وَلِذَلِكَ سَكَتَ عَنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. قَالُوا: وَمَنْ تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَجَدَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ آثَارَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِذَلِكَ؛ لِيَتَبَيَّنَ مُرَادُهُمْ: قَالَ الْخُشَنِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ أَرَأَيْت قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَثَنًا صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت الشَّعْبِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ النِّكَاحِ فَقَالَ: إنْ أَخْبَرْتُك بِرَأْيِي فَبُلْ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي رَأْيِهِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ لَقِيَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا جَاءَكُمْ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ فَاطْرَحُوهُ فِي الْحُشِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْك، قَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، يَكْتُبُونَهُ وَأَنَا أَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: اجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا أَنْ يَقُولَ هُوَ بِرَأْيِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثنا الْحَوْطِيُّ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سَوَادَةَ بْنِ زِيَادٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَعَمْرِو بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى النَّاسِ: أَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سِنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو بَصِيرَةَ: سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّك تُفْتِي بِرَأْيِك، فَلَا تُفْتِ بِرَأْيِك إلَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ ثنا ابْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُسَيْدِيُّ أَنَّ أَبَا وَائِلٍ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: إيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يَقُولُ: أَرَأَيْت أَرَأَيْت. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: دَعُوا السُّنَّةَ تَمْضِي، لَا تَعْرِضُوا لَهَا بِالرَّأْيِ. وَقَالَ يُونُسُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ - سَمِعْت عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: مَا زَالَ أَمْرُ بَنْيِ إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ، فَأَضَلُّوهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ، وَهُوَ يَذْكُرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَتَرْكِهِمْ السُّنَنَ، فَقَالَ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إنَّمَا انْسَلَخُوا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ حِينَ اتَّبَعُوا الرَّأْيَ وَأَخَذُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي أَصْلَحَك اللَّهُ بِرَأْيِك، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنِّي أَرْضَى بِرَأْيِك، فَقَالَ سَالِمٌ: إنِّي لَعَلِيُّ إنْ أَخْبَرْتُك بِرَأْيِي ثُمَّ تَذْهَبُ فَأَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأْيًا غَيْرَهُ فَلَا أَجِدُك. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ ثنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ لِابْنِ شِهَابٍ: إنَّ حَالِي لَيْسَ بِشَبَهِ حَالِك، أَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي مَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْت حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ: مَا لَك لَا تَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ؟ فَقَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لِلْحِمَارِ مَا لَك لَا تَجْتَرُّ؟ قَالَ: أَكْرَهُ مَضْغَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ مَزِيدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْك بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَك النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوا لَك الْقَوْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: ثنا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إذَا سُئِلَ لَا يُجِيبُ حَتَّى يَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، هَذَا الرَّأْيُ، وَالرَّأْيُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُنَا هَذَا رَأْيٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَمَنْ جَاءَنَا بِأَحْسَنَ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ مِنْهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ثنا أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ مَالِكٍ فَسُئِلَ عَنْ الْبَتَّةِ، فَأَخَذْت أَلْوَاحِي لِأَكْتُبَ مَا قَالَ، فَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ، فَعَسَى فِي الْعَشِيِّ أَقُولُ إنَّهَا وَاحِدَةٌ. وَقَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازَ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي قَوْلِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَجَزَاهُمْ عَنْ نَصِيحَتِهِمْ خَيْرًا، وَلَقَدْ امْتَثَلَ وَصِيَّتَهُمْ وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. [الْمُتَعَصِّبُونَ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ] وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُونَ فَإِنَّهُمْ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ، وَنَظَرُوا فِي السُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُمْ مِنْهَا قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَهَا تَحَيَّلُوا فِي رَدِّهِ أَوْ رَدِّ دَلَالَتِهِ، وَإِذَا جَاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ سَنَدًا وَدَلَالَةً وَكَانَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ قَبِلُوهُ، وَلَمْ يَسْتَجِيزُوا رَدَّهُ، وَاعْتَرَضُوا بِهِ عَلَى مُنَازِعِيهِمْ، وَأَشَاحُوا وَقَرَّرُوا الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ السَّنَدِ وَدَلَالَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ السَّنَدُ بِعَيْنِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَدَلَالَتُهُ كَدَلَالَةِ ذَلِكَ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي خِلَافِ قَوْلِهِمْ؛ دَفَعُوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ طَرَفًا عِنْدَ ذِكْرِ غَائِلَةِ التَّقْلِيدِ وَفَسَادِهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاتِّبَاعِ. وَقَالَ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ: ثنا سَحْنُونٌ وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] . وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: دَخَلْت عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسْت، فَرَأَيْتُهُ يَبْكِي، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا الَّذِي يُبْكِيك؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ قَعْنَبٍ، وَمَالِي لَا أَبْكِي؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنِّي؟ وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ أَفْتَيْت فِيهَا بِالرَّأْيِ سَوْطًا، وَقَدْ كَانَتْ لِي السَّعَةُ فِيمَا قَدْ سُبِقْت إلَيْهِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أُفْتِ بِالرَّأْيِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: ثنا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مِثْلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ مِثْلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولِجَ حَتَّى بَرِئَ فَأَعْقَلَ مَا يَكُونُ قَدْ هَاجَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الرَّأْيِ إلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرَّأْيِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهِ إلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ وَأَصْحَابَ رَأْيٍ، فَتَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ، فَقَالَ أَبِي: يَسْأَلُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ الرَّأْيِ. [أَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الرَّأْيِ] وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى مَذْهَبَهُ، كَمَا قَدَّمَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَمَنَعَ قَطْعَ السَّارِقِ بِسَرِقَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَجَعَلَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَشَرَطَ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ الْمِصْرَ وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لِآثَارٍ فِيهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ؛ فَتَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ قَوْلُهُ وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ هُوَ الضَّعِيفُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ حَسَنًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّلَفَ جَمِيعَهُمْ عَلَى ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ لَا فُتْيَا وَلَا قَضَاءً، وَأَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا مُوَافَقَتُهُ فَغَايَتُهُ أَنْ يَسُوغَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ وَلَا إنْكَارٍ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ابْنَ وَهْبٍ فَيَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ؟ فَيَقُولُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ وَهْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ رَأْيٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثنا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كِنَانَةَ ثنا أَبَانُ بْنُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ أَبِي قَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَرْكِ الْفُتْيَا بِالرَّأْيِ، وَأَحَبَّ الْفُتْيَا بِمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ، فَأَعْجَلَتْهُ الْمُنْيَةُ عَنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمْ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنْ الطَّرِيقِ، وَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ: مَنْ يَرْغَبُ بِرَأْيِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ يَضِلُّ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ وَهُوَ يَذْكُرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَتَرْكِهِمْ السُّنَنَ، فَقَالَ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إنَّمَا انْسَلَخُوا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ حِينَ اشْتَقُّوا الرَّأْيَ وَأَخَذُوا فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي كِتَابِ " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " لَهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ؛ فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَتَّبِعَ الرَّأْيَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ الرَّأْيَ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الرَّأْيِ فَاتَّبَعَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَك اتَّبَعَتْهُ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ إنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إذَا اُضْطُرِرْت إلَيْهِ عَمِلْت بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ يُنْكِرُ كَثْرَةَ الْجَوَابِ لِلْمَسَائِلِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا عَلِمْتَهُ فَقُلْ بِهِ وَدُلَّ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَاسْكُتْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَتَقَلَّدَ لِلنَّاسِ قِلَادَةَ سُوءٍ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْخُشَنِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاسٍ النَّحَّاسُ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عُثْمَانَ سَعِيدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادَ يَقُولُ: سَمِعْت سَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الرَّأْيُ، سُفِكَتْ بِهِ الدِّمَاءُ، وَاسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ، وَاسْتُحِقَّتْ بِهِ الْحُقُوقُ، غَيْرَ أَنَّا رَأَيْنَا رَجُلًا صَالِحًا فَقَلَّدْنَاهُ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَرَأْيُ مَالِكٍ وَرَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّهُ عِنْدِي رَأْيٌ وَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْآثَارِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنْشَدَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى أَنْشَدَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْخَضِرِ الْأَسْيُوطِيُّ بِمَكَّةَ أَنْشَدَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنْشَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ آثَارُ ... نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِلْفَتَى الْأَخْبَارُ لَا تُخْدَعَنَّ عَنْ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ ... فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى طُرُقَ الْهُدَى ... وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَهَا أَنْوَارُ وَلِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ قَالَ اللَّهُ قَالَ رَسُولُهُ ... قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ خُلْفٌ فِيهِ مَا الْعِلْمُ نَصْبُكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً ... بَيْنَ النُّصُوصِ وَبَيْنَ رَأْيِ سَفِيهِ كَلًّا وَلَا نَصْبُ الْخِلَافِ جَهَالَةً ... بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْيِ فَقِيهِ كَلًّا وَلَا رَدُّ النُّصُوصِ تَعَمُّدًا ... حَذَرًا مِنْ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ حَاشَا النُّصُوصَ مِنْ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ ... مِنْ فِرْقَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْوِيهِ [فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] . فَصْلٌ فِي الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ [النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] النَّوْعُ الْأَوَّلُ: رَأْيُ أَفْقَهِ الْأُمَّةِ، وَأَبَرِّ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقِهِمْ عِلْمًا، وَأَقَلِّهِمْ تَكَلُّفًا، وَأَصَحِّهِمْ قُصُودًا، وَأَكْمَلِهِمْ فِطْرَةً، وَأَتَمِّهِمْ إدْرَاكًا، وَأَصْفَاهُمْ أَذْهَانًا، الَّذِي شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ، وَفَهِمُوا مَقَاصِدَ الرَّسُولِ؛ فَنِسْبَةُ آرَائِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَقُصُودُهُمْ إلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنِسْبَتِهِمْ إلَى صُحْبَتِهِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي الْفَضْلِ؛ فَنِسْبَةُ رَأْيِ مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى رَأْيِهِمْ كَنِسْبَةِ قَدْرِهِمْ إلَى قَدْرِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْبَغْدَادِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمْ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَدَّوْا إلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامًّا وَخَاصًّا وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا، وَعَرَفُوا مِنْ سُنَّتِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهْلِنَا، وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ، وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةً إلَى قَوْلِهِمْ إنْ اجْتَمَعُوا، أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا، وَهَكَذَا نَقُولُ، وَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَلَمَّا كَانَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ: وَهَذَا مَذْهَبٌ تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنْهُ أَخَذْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وَقَالَ: وَالْقِيَاسُ عِنْدِي قَتْلُ الرَّاهِبِ لَوْلَا مَا جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَتَرْكُ صَرِيحِ الْقِيَاسِ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ: وَالْبِدْعَةُ مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَعَلَ مَا خَالَفَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ بِدْعَةً، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إشْبَاعُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذِكْرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ، وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ فِي فَتَاوِيهِمْ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِمْ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ. [لَيْسَ مِثْلَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لَا يُسَاوِيهِمْ فِي رَأْيِهِمْ، وَكَيْفَ يُسَاوِيهِمْ وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَرَى الرَّأْيَ فَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ؟ كَمَا رَأَى عُمَرُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ، وَرَأَى أَنْ تُحَجَّبَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ، وَرَأَى أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلَّى فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ؛ وَقَالَ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ، «وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] » . «وَقَدْ قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: إنِّي أَرَى أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذُرِّيَّاتُهُمْ، وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» . وَلَمَّا اخْتَلَفُوا إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ شَهْرًا فِي الْمُفَوَّضَةِ قَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُ، أَرَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَقَامَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بِرْوَعَ بِنْتُ وَاشِقٍ مِثْلَ مَا قَضَيْت بِهِ، فَمَا فَرِحَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِشَيْءٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُ بِذَلِكَ. وَحَقِيقٌ بِمَنْ كَانَتْ آرَاؤُهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرًا مِنْ رَأَيْنَا لِأَنْفُسِنَا، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الرَّأْيُ الصَّادِرُ مِنْ قُلُوبٍ مُمْتَلِئَةٍ نُورًا وَإِيمَانًا وَحِكْمَةً وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَفَهْمًا عَنْ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَرَسُولِهِ وَنَصِيحَةً لِلْأُمَّةِ، وَقُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِمْ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهُمْ يَنْقُلُونَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ غَضًّا طَرِيًّا لَمْ يَشُبْهُ إشْكَالٌ، وَلَمْ يَشُبْهُ خِلَافٌ، وَلَمْ تُدَنِّسْهُ مُعَارَضَةٌ، فَقِيَاسُ رَأْيِ غَيْرِهِمْ بِآرَائِهِمْ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ. [فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] فَصْلٌ: [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ: الرَّأْيُ الَّذِي يُفَسِّرُ النُّصُوصَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَيُقَرِّرُهَا وَيُوَضِّحُ مَحَاسِنَهَا، وَيُسَهِّلُ طَرِيقَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ عَبْدَانُ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لِيَكُنْ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، وَخُذْ مِنْ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَك الْحَدِيثَ، وَهَذَا هُوَ الْفَهْمُ الَّذِي يَخْتَصُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَمِثَالُ هَذَا رَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْفُرُوضِ، وَرَأْيُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ، وَرَأْيُهُمْ فِي تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَرَأْيُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ جَرِّ الْوَلَاءِ، وَرَأْيِهِمْ فِي الْمُحْرِمِ يَقَعُ عَلَى أَهْلِهِ بِفَسَادِ حَجِّهِ وَوُجُوبِ الْمُضِيِّ فِيهِ وَالْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ مِنْ قَابِلٍ، وَرَأْيُهُمْ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَرَأْيُهُمْ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَرَأْيُهُمْ فِي الْكَلَالَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: إنِّي سَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي "، وَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي تَقَدَّمَ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّأْيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: رَأْيٌ مُجَرَّدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ، فَهَذَا الَّذِي أَعَاذَ اللَّهُ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: رَأْيٌ مُسْتَنِدٌ إلَى اسْتِدْلَالٍ وَاسْتِنْبَاطٍ مِنْ النَّصِّ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ مَعَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ فَهْمِ النُّصُوصِ وَأَدَقِّهِ، وَمِنْهُ رَأْيُهُ فِي الْكَلَالَةِ أَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْكَلَالَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ فَفِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَرِثَ مَعَهَا الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِنْ الْأُمِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي وَرِثَ مَعَهَا وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْأَبُ النِّصْفَ أَوْ الثُّلُثَيْنِ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْكَلَالَةِ، وَالصَّحِيحُ فِيهَا قَوْلُ الصِّدِّيقِ الَّذِي لَا قَوْلَ سِوَاهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ: وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ ... عَنْ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ أَيْ إنَّمَا وَرِثْتُمُوهَا عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، لَا عَنْ حَوَاشِي النَّسَبِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَرِثُ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأَبَوَيْنِ لَا مَعَ أَبٍ وَلَا مَعَ جَدٍّ، كَمَا لَمْ يَرِثُوا مَعَ الِابْنِ وَلَا ابْنِهِ، وَإِنَّمَا وَرِثُوا مَعَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ فَلَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْفُرُوضِ. [فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] فَصْلٌ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ: الَّذِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَتَلَقَّاهُ خَلْفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ؛ فَإِنَّ مَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ مِنْ الرَّأْيِ لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا، كَمَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَةِ وَالرُّؤْيَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ مِنْهُمْ رُؤْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ» فَاعْتَبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاطُؤَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ فِيمَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَتِهَا وَرُؤْيَاهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ وَإِصَابَتِهِ أَنْ يَكُونَ شُورَى بَيْنَ أَهْلِهِ، وَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ أَمْرِهِمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَكَانَتْ النَّازِلَةُ إذَا نَزَلَتْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا نَصٌّ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ جَمَعَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَعَلَهَا شُورَى بَيْنَهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُنَيْدٌ ثنا يَزِيدُ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كَانَ إذَا جَاءَهُ الشَّيْءُ مِنْ الْقَضَاءِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ سَمَّى صَوَافِيَ الْأَمْرِ إلَيْهِمْ فَجَمَعَ لَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُهُمْ الْحَقُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ ثنا عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَامِرٍ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ أَقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَك مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقَضِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 اسْتَبَانَ لَك مِنْ أَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ أَئِمَّةُ الْمُهْتَدِينَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك، وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: ثنا سُفْيَانُ ثنا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ إذَا حَضَرَك أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَانْظُرْ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَك فَاجْتَهِدْ رَأْيَك، وَإِنْ شِئْت أَنْ تُؤَامِرنِي، وَلَا أَرَى مُؤَامَرَتَك إيَّايَ إلَّا خَيْرًا لَك، وَالسَّلَامُ. [فَصْلٌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ] النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَلَبِ عِلْمِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي الْقُرْآنِ فَفِي السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي السُّنَّةِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَوْ وَاحِدٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَبِمَا قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَنَظَرَ إلَى أَقْرَبِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْضِيَةِ أَصْحَابِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ الَّذِي سَوَّغَهُ الصَّحَابَةُ وَاسْتَعْمَلُوهُ، وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى سَوْمٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَعَطَبَ، فَخَاصَمَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك رَجُلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي أَرْضَى بِشُرَيْحٍ الْعِرَاقِيِّ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَخَذْتَهُ صَحِيحًا سَلِيمًا فَأَنْتَ لَهُ ضَامِنٌ حَتَّى تَرُدَّهُ صَحِيحًا سَلِيمًا، قَالَ: فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ فَبَعَثَهُ قَاضِيًا، قَالَ: مَا اسْتَبَانَ لَك مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمِنْ السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك. [كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه] [خِطَابُ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثنا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ مَعْمَرٍ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ثنا إدْرِيسُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ قَالَ: أَتَيْت سَعِيدَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ رُسُلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي كَانَ يَكْتُبُ بِهَا إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى قَدْ أَوْصَى إلَى أَبِي بُرْدَةَ، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ كُتُبًا، فَرَأَيْت فِي كِتَابٍ مِنْهَا، رَجَعْنَا إلَى حَدِيثِ أَبِي الْعَوَّامِ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 نَفَاذَ لَهُ، آسِ النَّاسَ فِي مَجْلِسِك وَفِي وَجْهِك وَقَضَائِك، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك، الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ أَعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُ ذَلِكَ اسْتَحْلَلْت عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَاءِ، وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْت فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْت فِيهِ رَأْيَك فَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْ الْعِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أَدْلَى إلَيْك مِمَّا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاعْرَفْ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمِدْ فِيمَا تَرَى إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلِقَ وَالضَّجِرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، أَوْ الْخُصُومِ، شَكَّ أَبُو عُبَيْدٍ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ مِمَّا يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَّيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَانَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَقُلْت لِكَثِيرٍ: هَلْ أَسْنَدَهُ جَعْفَرٌ؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا كِتَابٌ جَلِيلٌ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أُصُولَ الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي أَحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَإِلَى تَأَمُّلِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ. [شَرْحُ كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ] وَقَوْلُهُ: " الْقَضَاءُ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ " يُرِيدُ بِهِ أَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: فَرْضٌ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، كَالْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَحْكَمَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَالثَّانِي: أَحْكَامٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَفَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ بَقِيَّةٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى جَمْعًا مِنْ النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ عَلَّامَةٌ، قَالَ: وَمَا الْعَلَّامَةُ؟ قَالُوا: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِعَرَبِيَّةٍ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِشَعْرٍ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعَرَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لَا يَضُرُّ» وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا خَلَا فَهُوَ فَضْلٌ: عِلْمُ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ قَائِمَةٍ، أَوْ فَرِيضَةٍ عَادِلَةٍ» . [صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ] [صِحَّةُ الْفَهْمِ نِعْمَةٌ] وَقَوْلُهُ: " فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك " صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا، بَلْ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا يَأْمَنُ الْعَبْدُ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُمْ وَطَرِيقُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ، وَيَصِيرُ مِنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أَفْهَامُهُمْ وَقُصُودُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَيَمُدُّهُ حُسْنَ الْقَصْدِ، وَتَحَرِّي الْحَقَّ، وَتَقْوَى الرَّبِّ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَقْطَعُ مَادَّتُهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَإِيثَارَ الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مَحْمَدَةِ الْخَلْقِ، وَتَرْكَ التَّقْوَى. [التَّمَكُّنُ بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ] وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا تَوَصَّلَ شَاهِدُ يُوسُفَ بِشَقِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ إلَى مَعْرِفَةِ بَرَاءَتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكَمَا تَوَصَّلَ سُلَيْمَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: " ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ حَتَّى أَشُقَّ الْوَلَدَ بَيْنَكُمَا " إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْأُمِّ، وَكَمَا تَوَصَّلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبٍ مَا أَنْكَرَتْهُ لَتُخْرِجْنَ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّك إلَى اسْتِخْرَاجِ الْكِتَابِ مِنْهَا. وَكَمَا تَوَصَّلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بِتَعْذِيبِ أَحَدِ ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى كَنْزِ جَبَى لَمَّا ظَهَرَ لَهُ كَذِبُهُ فِي دَعْوَى ذَهَابِهِ بِالْإِنْفَاقِ بِقَوْلِهِ: الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَمَا تَوَصَّلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِضَرْبِ الْمُتَّهَمِينَ بِالسَّرِقَةِ إلَى ظُهُورِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ وَإِلَّا ضَرَبَ مِنْ اتَّهَمَهُمْ كَمَا ضَرَبَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ وَقَضَايَا الصَّحَابَةِ وَجَدَهَا طَافِحَةً بِهَذَا، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا أَضَاعَ عَلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَنَسَبَهُ إلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَقَوْلُهُ: " فَمَا أَدْلَى إلَيْك " أَيْ مَا تَوَصَّلَ بِهِ إلَيْك مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي تَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ، وَأَدْلَى بِنَسَبِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أَيْ تُضِيفُوا ذَلِكَ إلَى الْحُكَّامِ وَتَتَوَصَّلُوا بِحُكْمِهِمْ إلَى أَكْلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: " وَتُدْلُوا بِالْحُكَّامِ إلَيْهَا " وَأَمَّا الْإِدْلَاءُ بِهَا إلَى الْحُكَّامِ فَهُوَ التَّوَصُّلُ بِالْبِرْطِيلِ بِهَا إلَيْهِمْ فَتَرْشُوا الْحَاكِمَ لِتَتَوَصَّلُوا بِرِشْوَتِهِ إلَى الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ. قِيلَ: الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا إدْلَاءٌ إلَى الْحُكَّامِ بِسَبَبِهَا، فَالنَّهْيُ عَنْهُمَا مَعًا . وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ " وِلَايَةُ الْحَقِّ: نُفُوذُهُ، فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ كَانَ ذَلِكَ عَزْلًا لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِي الْعَدْلِ الَّذِي فِي تَوَلِّيَتِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَإِذَا عُزِلَ عَنْ وِلَايَتِهِ لَمْ يَنْفَعْ وَمُرَادُ عُمَرَ بِذَلِكَ التَّحْرِيضُ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ إذَا فَهِمَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُهُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةُ تَنْفِيذِهِ، فَهُوَ تَحْرِيضٌ مِنْهُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْقُوَّةِ عَلَى تَنْفِيذِهِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولِي الْقُوَّةِ فِي أَمْرِهِ وَالْبَصَائِرِ فِي دِينِهِ فَقَالَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] فَالْأَيْدِي: الْقُوَى عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَائِرُ فِي دِينِهِ. [وَاجِبُ الْحَاكِمِ] وَقَوْلُهُ: " وَآسِ النَّاسَ فِي مَجْلِسِك وَفِي وَجْهِك وَقَضَائِك حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك " إذَا عَدَلَ الْحَاكِمُ فِي هَذَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ عُنْوَانُ عَدْلِهِ فِي الْحُكُومَةِ؛ فَمَتَى خَصَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ أَوْ الْقِيَامِ لَهُ أَوْ بِصَدْرِ الْمَجْلِسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْبَشَاشَةِ لَهُ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ كَانَ عُنْوَانُ حَيْفِهِ وَظُلْمِهِ، وَقَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ أَحَدَ قُضَاةِ الْعَدْلِ فِي بَنْيِ إسْرَائِيلَ أَوْصَاهُمْ إذَا دَفَنُوهُ أَنْ يَنْبُشُوا قَبْرَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَنْظُرُوا هَلْ تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أُجِرْ قَطُّ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ أُحَابِ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيَّ خَصْمَانِ كَانَ أَحَدُهُمَا صِدِّيقًا لِي فَجَعَلْت أُصْغِي إلَيْهِ بِأُذُنِي أَكْثَرَ مِنْ إصْغَائِي إلَى الْآخَرِ، فَفَعَلُوا مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ، فَرَأَوْا أُذُنَهُ قَدْ أَكَلَهَا التُّرَابُ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ جَسَدُهُ؛ وَفِي تَخْصِيصِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمَجْلِسٍ أَوْ إقْبَالٍ أَوْ إكْرَامٍ مَفْسَدَتَانِ إحْدَاهُمَا: طَمَعُهُ فِي أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ لَهُ فَيَقْوَى قَلْبُهُ وَجِنَانُهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآخَرَ يَيْأَسُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَتَنْكَسِرُ حُجَّتُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مَعْنَى الْبَيِّنَةِ] وَقَوْلُهُ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " الْبَيِّنَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ خَصُّوهَا بِالشَّاهِدَيْنِ أَوْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَلَطُ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهَا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَغْلَاطٌ شَدِيدَةٌ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مِثَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ} [النحل: 43 - 44] وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وَقَالَ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وَقَالَ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وَقَالَ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه: 133] وَهَذَا كَثِيرٌ، لَمْ يَخْتَصَّ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ» وَقَوْلُ عُمَرَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا الْمُرَادُ بِهِ أَلِك مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ شُهُودٍ أَوْ دَلَالَةٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ يَقْصِدُ ظُهُورَ الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ ظُهُورُهُ بِهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَشَوَاهِدُ لَهُ، وَلَا يَرُدُّ حَقًّا قَدْ ظَهَرَ بِدَلِيلِهِ أَبَدًا فَيُضَيِّعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَيُعَطِّلُهَا، وَلَا يَقِفْ ظُهُورُ الْحَقِّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ بِهِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ، كَتَرْجِيحِ شَاهِدِ الْحَالِ عَلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ فِي صُورَةٍ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَآخَرُ خَلْفَهُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ يَعْدُو أَثَرَهُ، وَلَا عَادَةَ لَهُ بِكَشْفِ رَأْسِهِ، فَبَيِّنَةُ الْحَالِ وَدَلَالَتُهُ هُنَا تُفِيدُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِ الْمُدَّعِي أَضْعَافَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ الْيَدِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَالشَّارِعُ لَا يُهْمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَالدَّلَالَةَ، وَيُضَيِّعُ حَقًّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ ظُهُورَهُ وَحُجَّتَهُ، بَلْ لَمَّا ظَنَّ هَذَا مَنْ ظَنَّهُ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الْحُكْمِ، فَضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ الْحُقُوقِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَصَارَ الظَّالِمُ الْفَاجِرُ مُمَكَّنًا مِنْ ظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَيَقُولُ لَا يَقُومُ عَلَيَّ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ اثْنَانِ، فَضَاعَتْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَحِينَئِذٍ أَخْرَجَ اللَّهُ أَمْرَ الْحُكْمِ الْعِلْمِيِّ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا يَحْفَظُ بِهِ الْحَقَّ تَارَةً وَيَضِيعُ بِهِ أُخْرَى، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعُدْوَانُ تَارَةً وَالْعَدْلُ أُخْرَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَلَوْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ فِيهِ تَمَامُ الْمَصْلَحَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْرِيطِ وَالْعُدْوَانِ. [نِصَابُ الشَّهَادَةِ] وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نِصَابَ الشَّهَادَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ؛ فَذَكَرَ نِصَابَ شَهَادَةِ الزِّنَا أَرْبَعَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ النُّورِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الزِّنَا فَذَكَرَ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ؛ فَقَالَ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فَهَذَا فِي التَّحَمُّلِ وَالْوَثِيقَةِ الَّتِي يَحْفَظُ بِهَا صَاحِبُ الْمَالِ حَقَّهُ، لَا فِي طَرِيقِ الْحُكْمِ وَمَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ، وَأَمَرَ فِي الرَّجْعَةِ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَأَمَرَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ بِإِشْهَادِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْكُفَّارُ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّاهِدِينَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهَا مَا يَنْسَخُهَا فَإِنَّ الْمَائِدَةَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُعَارِضٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] وَلَمْ يُخَاطِبْ بِذَلِكَ قَبِيلَةً مُعَيَّنَةً حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ: {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أَيَّتُهَا الْقَبِيلَةُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْهَمْ هَذَا مِنْ الْآيَةِ، بَلْ إنَّمَا فَهِمَ مَا هِيَ صَرِيحَةٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا يَحْفَظُ بِهِ الْحُقُوقَ مِنْ الشُّهُودِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْحُكَّامَ لَا يَحْكُمُونَ إلَّا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا بِالنُّكُولِ، وَلَا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَلَا بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، وَلَا بِأَيْمَانِ اللِّعَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنَ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَلِكَ تَوَابِعُهَا مِنْ الْبَيْعِ، وَالْأَجَلِ فِيهِ، وَالْخِيَارِ فِيهِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْمُعَيَّنِ، وَهِبَتِهِ، وَالْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَضَمَانِ الْمَالِ، وَإِتْلَافِهِ، وَدَعْوَى رِقِّ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، وَتَسْمِيَةِ عِوَضِ الْخُلْعِ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَتَنَازَعُوا فِي الْعِتْقِ، وَالْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ، وَالْإِيصَاءِ إلَيْهِ فِيهِ، وَدَعْوَى قَتْلِ الْكَافِرِ لِاسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ، وَدَعْوَى الْأَسِيرِ الْإِسْلَامَ السَّابِقَ لِمَنْعِ رِقِّهِ، وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّتِي لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قَوَدَ فِيهَا، وَالنِّكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ، هَلْ يُقْبَلُ فِيهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ رَجُلَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يُقْبَلُ إلَّا رَجُلَانِ قَالُوا: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، دُونَ الرَّجْعَةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَمَا مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُمْ الْآخَرُونَ: وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ وَصْفَ الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ إلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقُلْتُمْ: نَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إمَّا بَيَانًا وَإِمَّا قِيَاسًا، وَقَالُوا أَيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] بِخِلَافِ آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرِينَ لَمَّا لَمْ يَقُلْ رَجُلَانِ لَمْ يَقُلْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. فَإِنْ قِيلَ: اللَّفْظُ مُذَكَّرٌ؛ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ. قِيلَ: قَدْ اسْتَقَرَّ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِينَ إذَا أُطْلِقَتْ وَلَمْ تَقْتَرِنْ بِالْمُؤَنَّثِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُ يُغَلِّبُ الْمُذَكَّرَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَقَوْلُهُ: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ، لَكِنْ قَدْ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، فَالْمَرْأَتَانِ فِي الشَّهَادَةِ كَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ حُضُورَ النِّسَاءِ عِنْدَ الرَّجْعَةِ أَيْسَرُ مِنْ حُضُورِهِنَّ عِنْدَ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ بِالدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ حُضُورُهُنَّ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَقْتَ الْمَوْتِ، فَإِذَا جَوَّزَ الشَّارِعُ اسْتِشْهَادَ النِّسَاءِ فِي وَثَائِقِ الدُّيُونِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الرِّجَالُ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُكْتَبُ غَالِبًا فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ فَلَأَنْ يَسُوغَ ذَلِكَ فِيمَا تَشْهَدُهُ النِّسَاءُ كَثِيرًا كَالْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ أَوْلَى. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ شَرَعَ فِي الْوَصِيَّةِ اسْتِشْهَادَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ اسْتِشْهَادُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْأَحْرَى، بِخِلَافِ الدُّيُونِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِاسْتِشْهَادِ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِنَا؛ إذْ كَانَتْ مُدَايَنَةَ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ وَشُهُودُهُمْ حَاضِرُونَ، وَالْوَصِيَّةُ فِي السَّفَرِ قَدْ لَا يَشْهَدُهَا إلَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ قَدْ لَا يَشْهَدُهُ إلَّا النِّسَاءُ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَمَرَ فِي الرَّجْعَةِ بِاسْتِشْهَادِ ذَوِي عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَشْهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالرَّجْعَةِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِئَلَّا يَكْتُمَهَا، فَأَمَرَ بِأَنْ يَسْتَشْهِدَ أَكْمَلَ النِّصَابِ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُشْهِدْ هَذَا الْأَكْمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ النِّصَابِ الْأَنْقَصِ، فَإِنَّ طُرُقَ الْحُكْمِ أَعَمُّ مِنْ طُرُقِ حِفْظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الْحُقُوقِ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُلْتَقِطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِاللُّقَطَةِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ قُبِلَ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ وَصْفِ صَاحِبِهَا لَهَا. وَقَالَ تَعَالَى فِي شَهَادَةِ الْمَالِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] لِأَنَّ الْمُسْتَشْهِدَ هُنَاكَ صَاحِبُ الْحَقِّ فَهُوَ يَأْتِي بِمَنْ يَرْضَاهُ لِحِفْظِ حَقِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا كَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لَحِقَهُ، وَهَذَا الْمُسْتَشْهِدُ يَسْتَشْهِدُ بِحَقٍّ ثَابِتٍ عِنْدَهُ، فَلَا يَكْفِي رِضَاهُ بِهِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ هُنَاكَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَهُ بِمَنْ يَرْضَاهُ، وَإِذَا قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ: أَنَا رَاضٍ بِشَهَادَةِ هَذَا عَلَيَّ، فَفِي قَبُولِهِ نِزَاعٌ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّ فِيهِمَا حَقًّا لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ فِيهَا حَقٌّ لِغَائِبٍ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَرْأَةِ: «أَلَيْسَ شَهَادَتُهُمَا بِنِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟» فَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَيُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُدَّعِي لَمَّا قَالَ: هَذَا غَصَبَنِي أَرْضِي، فَقَالَ: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ حَكَمَ لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» إشَارَةٌ إلَى الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي شِعَارُهَا الشَّاهِدَانِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَفْظُ " شَاهِدَانِ " مَعْنَاهُ دَلِيلَانِ يَشْهَدَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ رَجُلَانِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَالْمَرْأَتَانِ دَلِيلٌ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ، يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعِي بِحُجَّةٍ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَمِينُهُ كَشَهَادَةِ آخَرَ؛ فَصَارَ مَعَهُ دَلِيلَانِ يَشْهَدَانِ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءَةُ وَالثَّانِي الْيَمِينُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَمَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ قَالَ: النُّكُولُ إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ، وَهَذَا جَيِّدٌ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ دُونَ الْمُدَّعِي، قَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ أَنَّك بِعْتَهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ تَعْلَمُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ: إذَا نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَكُونُ نُكُولُ النَّاكِلِ دَلِيلًا، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي ثَانِيًا؛ فَصَارَ الْحُكْمُ بِدَلِيلَيْنِ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَالشَّارِعُ إنَّمَا جَعَلَ الْحُكْمَ فِي الْخُصُومَةِ بِشَاهِدَيْنِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَحْكُمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَالْخَصْمُ مُنْكِرٌ، وَقَدْ يَحْلِفُ أَيْضًا، فَكَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ يُقَاوِمُ الْخَصْمَ الْمُنْكِرَ؛ فَإِنَّ إنْكَارَهُ وَيَمِينَهُ كَشَاهِدٍ، وَيَبْقَى الشَّاهِدُ الْآخَرُ خَبَرُ عَدْلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ؛ فَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَفِي الرِّوَايَةِ إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يُعَارِضُهُ أَقْوَى مِنْهُ، فَاطَّرَدَ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْحُكْمِ وَالرِّوَايَةِ يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا ثُبُوتَ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَإِنَّهَا خَبَرٌ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَشْهُودِ مَالًا أَوْ طَلَاقًا أَوْ عِتْقًا أَوْ وَصِيَّةً، بَلْ مَنْ صَدَقَ فِي هَذَا صَدَقَ فِي هَذَا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ كَالرَّجُلَيْنِ يُصَدَّقَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ صَدَّقَهُمَا فِي هَذَا؛ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِكْمَةَ تَعَدُّدِ الِاثْنَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَنْسَى الشَّهَادَةَ وَتَضِلُّ عَنْهَا فَتُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَذْكِيرَهَا لَهَا بِالرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَصِيَّةِ مِثْلُ تَذْكِيرِهَا لَهَا بِالدَّيْنِ وَأَوْلَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِشْهَادِ امْرَأَتَيْنِ لِتَوْكِيدِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَتَيْنِ وَحِفْظَهُمَا يَقُومُ مَقَامَ عَقْلِ رَجُلٍ وَحِفْظِهِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ وَالْعَقِيقَةِ وَالْعِتْقِ؛ فَعِتْقُ امْرَأَتَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ عِتْقِ رَجُلٍ، كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي التَّعَدُّدِ هِيَ فِي التَّحَمُّلِ، فَأَمَّا إذَا عَقَلَتْ الْمَرْأَةُ وَحَفِظَتْ وَكَانَتْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهَا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِخَبَرِهَا كَمَا يَحْصُلُ بِأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا وَحْدَهَا فِي مَوَاضِعَ، وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. قَالَ شَيْخُنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَلَوْ قِيلَ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا، قَالَ: لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ إنَّمَا أُقِيمَتَا مَقَامَ الرَّجُلِ فِي التَّحَمُّلِ لِئَلَّا تَنْسَى إحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ [فِي] الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ إلَّا بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَمْرِ بِاسْتِشْهَادِ الْمَرْأَتَيْنِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَلَّا يَحْكُمَ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِاسْتِشْهَادِ رَجُلَيْنِ فِي الدُّيُونِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَمَعَ هَذَا فَيَحْكُمُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، وَيَحْكُمُ بِالنُّكُولِ وَالرَّدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالطُّرُقُ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا الْحَاكِمُ أَوْسَعُ عَنْ الطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ صَاحِبَ الْحَقِّ إلَى أَنْ يَحْفَظَ حَقَّهُ بِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَأَلَهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَجَاءَتْ أَمَةً سَوْدَاءَ فَقَالَتْ: إنَّهَا أَرْضَعَتْنَا، فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: إنَّهَا كَاذِبَةٌ، فَقَالَ: دَعْهَا عَنْك» فَفِي هَذَا قَبُولُ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَشَهَادَتُهَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ فِي شَهَادَةِ الْقَاسِمِ وَالْخَارِصِ وَالْوَزَّانِ وَالْكَيَّالِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فَصْلٌ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَيَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ، غَلَطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِمَا يُحْفَظُ بِهِ الْحَقُّ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ - وَهُوَ الْكِتَابُ وَالشُّهُودُ - لِئَلَّا يَجْحَدَ الْحَقَّ أَوْ يَنْسَى، وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى تَذْكِيرِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إمَّا جُحُودًا وَإِمَّا نِسْيَانًا، وَلَا يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ حَقَّهُ بِهَا. فَصْلٌ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدَدِ فِي شُهُودِ الزِّنَا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِيهِ بِالسَّتْرِ، وَلِهَذَا غَلَّظَ فِيهِ النِّصَابَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَقٌّ يَضِيعُ، وَإِنَّمَا حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ الَّتِي تَضِيعُ إذَا لَمْ يُقْبَلْ فِيهَا قَوْلُ الصَّادِقِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَإِنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ أَضْعَفِ الْبَيِّنَاتِ، وَلِهَذَا يَدْفَعُ بِالنُّكُولِ تَارَةً وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهُوَ نَظِيرُ رَفْعِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ فَيُرْفَعُ بِأَضْعَفِ الْأَدِلَّةِ، فَهَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ يُرْفَعُ بِأَدْنَى النِّصَابِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَةِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، فَكَيْفَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فَمَا هُوَ دُونَهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا أَنَّ اللُّقَطَةَ إذَا وَصَفَهَا وَاصِفٌ صِفَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ دُفِعَتْ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ، فَقَامَ وَصْفُهُ لَهَا مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَصْفُهُ لَهَا بَيِّنَةٌ تُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ دَعْوَاهُ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ الْحَاجَاتِ يُقْبَلُ فِيهَا مِنْ الشَّهَادَاتِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَلِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى نَظِيرِهِ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كَقَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْفَرِدُ النِّسَاءُ بِالْحُضُورِ فِيهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَبُولَ شَهَادَتَيْنِ هُنَا أَوْلَى مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الصَّبِيَّانِ عَلَى تَجَارُحِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّ الرِّجَالَ لَا يَحْضُرُونَ مَعَهُمْ فِي لَعِبِهِمْ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَتَعَطَّلَتْ وَأُهْمِلَتْ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ الْقَطْعِ بِصِدْقِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إلَى بُيُوتِهِمْ وَتَوَاطُؤَا عَلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَفَرَّقُوا وَقْتَ الْأَدَاءِ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَإِنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ مِنْ شَهَادَتِهِمْ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الظَّنِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الْحَاصِلِ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ، فَلَا نَظُنُّ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْفَاضِلَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ أَنَّهَا تُهْمِلُ مِثْلَ هَذَا الْحَقَّ وَتُضَيِّعُهُ مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّتِهِ وَقُوَّتِهَا، وَتَقْبَلُهُ مَعَ الدَّلِيلِ الَّذِي هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي قَضِيَّةِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا فَلَمَّا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَهَادَةِ الْأَمَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ الْعَبْدِ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَالَ: مَا عَلِمْت أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُ إذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُكْمٍ يَلْزَمُ الْأُمَّةَ فَلَأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي حُكْمٍ جُزْئِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْفَتْوَى فَلَأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَوْلَى وَأَحْرَى، كَيْفَ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ؟ فَإِنَّهُ مِنَّا وَهُوَ عَدْلٌ وَقَدْ عَدَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ» وَعَدَّلَتْهُ الْأُمَّةُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفَتْوَى، وَهُوَ مِنْ رِجَالِنَا فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وَهُوَ صَادِقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ، وَأَنْ لَا يُرَدَّ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَرُدُّ خَبَرَ الصَّادِقِ، بَلْ تَعْمَلُ بِهِ، وَلَيْسَ بِفَاسِقٍ؛ فَلَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَمَامِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَإِكْمَالِ دِينِهِمْ لَهُمْ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَتِهِ؛ لِئَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُ اللَّهِ وَحُقُوقُ عِبَادِهِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ، لَكِنْ إذَا أَمْكَنَ حِفْظُ الْحُقُوقِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى كَمَا أَمَرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمْرُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلُ؛ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ. قِيلَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالْحُجَّةُ أَنْ تَكُونَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ فَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ» لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ شَرْعٍ عَامٍّ شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا رُوِيَ مِنْ حُكْمِهِ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ قَضَى فِيهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَهَذَا كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ حُكْمِهِ بِتِلْكَ الْقَضَايَا لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصُهُ بِالْأَمْوَالِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا حَكَمَ بِذَلِكَ فِي الدُّيُونِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كَذَلِكَ، بَلْ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، فَيَنْظُرُ مَا حُكِمَ لِأَجْلِهِ إنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ حُكْمِهِ عُدِّيَ إلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى الطَّلَاقِ فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَلَفَتْ الْمَرْأَةُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ» ، وَقَدْ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً تَصْحِيفَةَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إلَّا مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ بِهَا، وَإِنَّمَا طَعَنَ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى كَأَبِي حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا؛ وَفِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَنَّهُ يَقْضِي فِي الطَّلَاقِ بِشَاهِدٍ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ مِنْ النُّكُولِ وَيَمِينِ الْمَرْأَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا وَحَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ فَيَمِينُ الزَّوْجِ عَارَضَتْ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ، وَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مَعَهُ؛ وَأَمَّا إذَا نَكَلَ الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ نُكُولُهُ مَعَ يَمِينِ الْمَرْأَةِ كَشَاهِدٍ آخَرَ، وَلَكِنْ هُنَا لَمْ يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا، وَهُوَ أَحْفَظُ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ، فَإِذَا نَكَلَ وَقَامَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ وَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا جِدًّا عَلَى صِدْقِ الْمَرْأَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْأَمْوَالِ إذَا قَامَ شَاهِدٌ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي حُكِمَ لَهُ، وَلَا تُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «إذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ وَحَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ» . قِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتِهَا، أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا كَانَ أَعْلَمَ بِنَفْسِهِ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا، وَكَانَ أَحْفَظَ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ وَأَعْقَلَ لَهُ وَأَعْلَمَ بِنِيَّتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَدْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ أَوْ بِلَفْظٍ يَظُنُّهُ الشَّاهِدُ طَلَاقًا وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَالشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا سَمِعَ، وَالزَّوْجُ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ، جَعَلَ الشَّارِعُ يَمِينَ الزَّوْجِ مُعَارَضَةً لِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَيُقَوِّي جَانِبَهُ الْأَصْلُ وَاسْتِصْحَابُ النِّكَاحِ، فَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مُجَرَّدِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا نَكَلَ قَوِيَ الْأَصْلُ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ، فَقَاوَمَ مَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ، فَقَوَّاهُ الشَّارِعُ بِيَمِينِ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا حَلَفَتْ مَعَ شَاهِدِهَا وَنُكُولِ الزَّوْجِ قَوِيَ جَانِبُهَا جِدًّا، فَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ وَلَا أَبْيَنُ وَلَا أَعْدَلُ مِنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ، وَأَمَّا الْمَالُ الْمَشْهُودُ بِهِ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا قَالَ: أَقْرَضْتُهُ أَوْ بِعْتُهُ أَوْ أَعَرْتُهُ، أَوْ قَالَ: غَصَبَنِي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْمَطْلُوبَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِنِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِ مَا مَعَ الزَّوْجِ مِنْ بَقَاءِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ عُهِدَ كَثْرَةُ اشْتِغَالِهَا بِالْمُعَامَلَاتِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فَقَوِيَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ وَالنُّكُولُ أَوْ يَمِينُ الطَّالِبِ عَلَى رَفْعِهَا، فَحُكِمَ لَهُ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ الشَّارِعِ، وَأَنَّهُ يَقْضِي بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ الْحَقَّ وَهِيَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالشَّاهِدُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ، بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ إذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لِأَبِي قَتَادَةَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِ وَدَفَعَ إلَيْهِ سَلَبَهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَحْلِفْ أَبَا قَتَادَةَ، فَجَعَلَهُ بَيِّنَةً تَامَّةً، وَأَجَازَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَحْدَهُ بِمُبَايَعَتِهِ لِلْأَعْرَابِيِّ، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَتَيْنِ لِمَا اسْتَنَدَتْ إلَى تَصْدِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرِّسَالَةِ الْمُتَضَمَّنَةِ تَصْدِيقَهُ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ، فَإِذَا شَهِدَ الْمُسْلِمُونَ، بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي خَبَرِهِ عَنْ اللَّهِ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى يَشْهَدُونَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ تَرَاجُمِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى حَدِيثِهِ " الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إذَا عُرِفَ صِدْقُهُ. [فَصْل تُشْرَعُ الْيَمِينُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ] وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَأَيُّ الْخَصْمَيْنِ تَرَجَّحَ جَانِبُهُ جُعِلَتْ الْيَمِينُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَلَا يُحَلَّفُونَ إلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَلَا يَجْعَلُونَ الْيَمِينَ إلَّا مِنْ جَانِبِهِ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَضَ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ أَوَّلًا، فَلَمَّا أَبَوْا جَعَلَهَا مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَيْمَانَ اللِّعَانِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ أَوَّلًا، فَإِذَا نَكَلَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ مُعَارَضَةِ أَيْمَانِهِ بِأَيْمَانِهَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَمَّا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ شُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ تَرَجَّحَ جَانِبُهُمْ بِاللَّوَثِ فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ جِهَتِهِمْ وَأُكِّدَتْ بِالْعَدَدِ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ فِي اللِّعَانِ جَانِبُهُ أَرْجَحُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، فَإِنَّ إقْدَامَهُ عَلَى إتْلَافِ فِرَاشِهِ، وَرَمْيِهَا بِالْفَاحِشَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَتَعْرِيضَ نَفْسِهِ لِعُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفَضِيحَةَ أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، مِمَّا يَأْبَاهُ طِبَاعُ الْعُقَلَاءِ، وَتَنْفِرُ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ، لَوْلَا أَنَّ الزَّوْجَةَ اضْطَرَّتْهُ بِمَا رَآهُ وَتَيَقَّنَهُ مِنْهَا إلَى ذَلِكَ؛ فَجَانِبُهُ أَقْوَى مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ جَانِبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي الْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَأَمَّا فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ فَلَا يَقْتُلُونَ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا، وَأَحْمَدُ يَقْتُلُ بِالْقَسَامَةِ دُونَ اللِّعَانِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَالشَّافِعِيُّ يَقْتُلُ بِاللِّعَانِ دُونَ الْقَسَامَةِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَإِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَأَمَّا إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَاهِدٍ أَوْ لَوَثٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، بَلْ بِالشَّاهِدِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ تَرْجِيحِ جَانِبِهِ وَمِنْ الْيَمِينِ؛ وَقَدْ حَكَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِإِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِالْوَلَدِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِهَا بِالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَإِيثَارِهَا لِحَيَاتِهِ وَرَضِيَ الْأُخْرَى بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى إقْرَارِهَا لِلْأُخْرَى بِهِ. وَقَوْلُهُ: " هُوَ ابْنُهَا " وَلِهَذَا كَانَ مِنْ تَرَاجُمِ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ " التَّوْسِعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ أَفْعَلُ " لِيَسْتَبِينَ بِهِ الْحَقَّ، ثُمَّ تَرْجَمَ تَرْجَمَةً أُخْرَى أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ وَأَفْقَهَ فَقَالَ: " الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَحْكُومُ لَهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ " فَهَكَذَا يَكُونُ فَهْمُ الْأَئِمَّةِ مِنْ النُّصُوصِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ بِهَا مِنْهَا؛ وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ هَذَا الْعِلْمُ النَّافِعُ لَا خَرْصَ الْآرَاءِ وَتَخْمِينَ الظُّنُونِ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْقَسَامَةِ يُقْبَلُ مُجَرَّدُ أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، وَلَا تُجْعَلُ أَيْمَانُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ دَافِعَةً لِلْقَتْلِ؛ وَفِي اللِّعَانِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إذَا حَلَفَ الزَّوْجُ مُكِّنَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا بِأَيْمَانِهَا، وَلَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ أَيْمَانِ الزَّوْجِ، فَمَا الْفَرْقُ؟ قِيلَ: هَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ عَدْلِهَا وَمَحَاسِنِهَا فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الدَّمِ، وَقَدْ جُعِلَتْ الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ بَيِّنَةً تَامَّةً مَعَ اللَّوَثِ، فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى أَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفِي اللِّعَانِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَقُّ لِلَّهِ وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا، وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الزَّوْجَ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانًا مُكَرَّرَةً وَمُؤَكَّدَةً بِاللَّعْنَةِ أَنَّهَا جَنَتْ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَفْسَدَتْهُ، فَلَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ إلَّا نَفْسَهُ، وَهِيَ شَهَادَةٌ ضَعِيفَةٌ، فَمُكِّنَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُعَارِضَهَا بِأَيْمَانٍ مُكَرَّرَةٍ مِثْلِهَا، فَإِذَا نَكَلَتْ وَلَمْ تُعَارِضْهَا صَارَتْ أَيْمَانُ الزَّوْجِ مَعَ نُكُولِهَا بَيِّنَةً قَوِيَّةً لَا مُعَارِضَ لَهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةً لِتَقُومَ مَقَامَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَكَّدَتْ بِالْخَامِسَةِ هِيَ الدُّعَاءُ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ إنْ كَانَ كَاذِبًا، فَفِي الْقَسَامَةِ جُعِلَ اللَّوَثُ وَهُوَ الْأَمَارَةُ الظَّاهِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ قَتَلُوهُ شَاهِدًا، وَجُعِلَتْ الْخَمْسِينَ يَمِينًا شَاهِدًا آخَرَ، وَفِي اللِّعَانِ جُعِلَتْ أَيْمَانُ الزَّوْجِ كَشَاهِدٍ وَنُكُولُهَا كَشَاهِدٍ آخَرَ. [لَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى شَهَادَةِ ذَكَرَيْنِ أَصْلًا] . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقِفْ الْحُكْمَ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ أَلْبَتَّةَ عَلَى شَهَادَةِ ذَكَرَيْنِ، لَا فِي الدِّمَاءِ وَلَا فِي الْأَمْوَالِ وَلَا فِي الْفُرُوجِ وَلَا فِي الْحُدُودِ، بَلْ قَدْ حَدَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الزِّنَا بِالْحَبَلِ، وَفِي الْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَ السَّارِقِ كَانَ أَوْلَى بِالْحَدِّ مِنْ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَالرَّائِحَةِ فِي الْخَمْرِ، وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي ظُهُورِ الْمَسْرُوقِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فِي الْحَبَلِ وَالرَّائِحَةِ، بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي تَعْرِضُ فِي الْحَبَلِ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ؛ وَفِي الرَّائِحَةِ لَا يَعْرِضُ مِثْلُهَا فِي ظُهُورِ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ الَّتِي تَجْوِيزُ غَلَطِ الشَّاهِدِ وَوَهْمُهُ وَكَذِبُهُ أَظْهَرُ مِنْهَا بِكَثِيرٍ، فَلَوْ عُطِّلَ الْحَدُّ بِهَا لَكَانَ تَعْطِيلُهُ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي تُمْكِنُ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْلَى، فَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَالِاعْتِبَارُ وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَلَالَةِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَعَظَمَتِهِ وَمُطَابَقَتِهِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَحِكْمَةِ الرَّبِّ وَشَرْعِهِ، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ مَنْ بَعْدَهُمْ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْقَائِلِينَ. [لَمْ يَرُدَّ الشَّارِعُ خَبَرَ الْعَدْلِ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ لَمْ يَرُدَّ خَبَرَ الْعَدْلِ قَطُّ، لَا فِي رِوَايَةٍ وَلَا فِي شَهَادَةٍ، بَلْ قَبِلَ خَبَرَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَخْبَرَ بِهِ، كَمَا قَبِلَ شَهَادَتَهُ لِأَبِي قَتَادَةَ بِالْقَتِيلِ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ وَحْدَهَا عَلَى الرَّضَاعَةِ، وَقَبِلَ خَبَرَ تَمِيمٍ وَحْدَهُ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ شَاهَدَهُ وَرَآهُ فَقَبِلَهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ أَمْرٍ مُسْتَنِدٍ إلَى الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَتَمِيمٌ شَهِدَ بِمَا رَآهُ وَعَايَنَهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَدَّقَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ عَلَى أَمْرٍ رَآهُ وَعَايَنَهُ يَتَعَلَّقُ بِمَشْهُودٍ لَهُ وَعَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا رَآهُ وَعَايَنَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ؟ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَخَبَرٌ عَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ فَتْوَى الْمُفْتِي الْوَاحِدِ وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَعُمُّ الْمُسْتَفْتِيَ وَغَيْرَهُ. [جَانِبُ التَّحَمُّلِ غَيْرُ جَانِبِ الثُّبُوتِ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ الْأَمْرِ بِالتَّعَدُّدِ فِي جَانِبِ التَّحَمُّلِ وَحِفْظِ الْحُقُوقِ الْأَمْرُ بِالتَّعَدُّدِ فِي جَانِبِ الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ؛ فَالْخَبَرُ الصَّادِقُ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِرَدِّهِ أَبَدًا، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ، وَرَدُّ الْخَبَرِ الصَّادِقِ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَكَذَلِكَ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ لَا تُرَدُّ إلَّا بِمَا هُوَ مِثْلُهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ، بَلْ بِالتَّثْبِيتِ وَالتَّبْيِينِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِ قُبِلَ خَبَرُهُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى كَذِبِهِ رُدَّ خَبَرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَقَفَ خَبَرُهُ، وَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ الدَّلِيلِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِيَدُلَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فِي هِجْرَتِهِ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ صِدْقُهُ وَأَمَانَتُهُ؛ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّبِعَ هَدْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَبُولِ الْحَقِّ مِمَّنْ جَاءَ بِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَعَدُوٍّ وَحَبِيبٍ وَبَغِيضٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَيَرُدُّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَلَّمَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ: اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ، فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ: قَرَأْت الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتْبَعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتَدَعَ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَنْ مَنْ جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، قَالُوا: وَكَيْف زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ الْكَلِمَةُ تَرُوعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذَا، فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ، وَلَا يَصُدُّنَّكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ، وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تُرَجِّحُ الْحَقَّ إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مِثْلُهَا، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقَعُ ثُمَّ يَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَجِبُ، فَالْأَوَّلُ مَدَارُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالثَّانِي مَدَارُهُ عَلَى الْعَدْلِ، وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّك صِدْقًا وَعَدْلًا وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. [صِفَاتُ الْحَاكِمِ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ] فَالْبَيِّنَاتُ وَالشَّهَادَاتُ تَظْهَرُ لِعِبَادِهِ مَعْلُومَةً، وَبِأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَالْحُكْمُ إمَّا إبْدَاءٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ؛ فَالْإِبْدَاءُ إخْبَارٌ وَإِثْبَاتٌ وَهُوَ شَهَادَةٌ، وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَتَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ؛ فَمِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ هُوَ شَاهِدٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مُفْتٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ هُوَ ذُو سُلْطَانٍ، وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِفَاتُ الشَّاهِدِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَعْتَبِرُ إلَّا الْعَدَالَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَعْتَبِرُونَ مَعَهَا الِاجْتِهَادَ، وَأَحْمَدُ يُوجِبُ تَوْلِيَةَ الْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ مِنْ الْمَوْجُودِينَ؛ وَكُلُّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ، فَيُقَدَّمُ الْأَدْيَنُ الْعَدْلُ عَلَى الْأَعْلَمِ الْفَاجِرِ، وَقُضَاةُ السُّنَّةِ عَلَى قُضَاةِ الْجَهْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْجَهْمِيُّ أَفْقَهَ، وَلَمَّا سَأَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ عَنْ الْقُضَاةِ أَرْسَلَ إلَيْهِ دَرَجًا مَعَ وَزِيرِهِ يَذْكُرُ فِيهِ تَوْلِيَةَ أُنَاسٍ وَعَزَلَ أُنَاسٍ، وَأَمْسَكَ عَنْ أُنَاسٍ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُمْ، وَرُوجِعَ فِي بَعْضِ مَنْ سُمِّيَ لِقِلَّةِ عَمَلِهِ فَقَالَ: لَوْ لَمْ يُوَلُّوهُ لَوَلَّوْا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فُلَانًا، وَفِي تَوْلِيَتِهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْأَمْوَالِ الدَّيْنُ السُّنِّيُّ دُونَ الدَّاعِي إلَى التَّعْطِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ. وَسُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْكَى فِي الْعَدُوِّ مَعَ شُرْبِهِ الْخَمْرَ وَالْآخَرُ أَدْيَنُ، فَقَالَ: يُغْزِي مَعَ الْأَنْكَى فِي الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَبِهَذَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يُوَلِّي الْأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا وَلَّى خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ عَلَى حُرُوبِهِ لِنِكَايَتِهِ فِي الْعَدُوِّ، وَقَدَّمَهُ عَلَى بَعْضِ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِثْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَهُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدِ وَقَاتَلُوا؛ وَخَالِدٌ وَكَانَ مِمَّنْ أَنْفَقَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ، ثُمَّ إنَّهُ فَعَلَ مَعَ بَنِي جَذِيمَةَ مَا تَبَرَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ حِينَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ مِنْ أَسْبَقِ السَّابِقِينَ وَقَالَ لَهُ «يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» وَأَمَّرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْصِدُ أَخْوَالَهُ بَنِي عُذْرَةَ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ مَا لَا يُطِيعُونَ غَيْرَهُ لِلْقَرَابَةِ؛ وَأَيْضًا فَلِحُسْنِ سِيَاسَةِ عَمْرٍو وَخِبْرَتِهِ وَذَكَائِهِ وَدَهَائِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ؛ وَدُهَاةُ الْعَرَبِ أَرْبَعَةٌ هُوَ أَحَدُهُمْ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِأَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: «تَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» فَلَمَّا تَنَازَعَا فِيمَنْ يُصَلِّي سَلَّمَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعَمْرٍو؛ فَكَانَ يُصَلِّي بِالطَّائِفَتَيْنِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ؛ وَأَمَّرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَكَانَ أَبِيهِ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ خَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ - أَحْرِصُ عَلَى طَلَبِ ثَأْرِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدَّمَ أَبَاهُ زَيْدًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى جَعْفَرٍ بْن عَمِّهِ مَعَ أَنَّهُ مَوْلَى، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَسْبَقِ النَّاسِ إسْلَامًا قَبْلَ جَعْفَرٍ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى طَعْنِ النَّاسِ فِي إمَارَةِ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَقَالَ: «إنْ تَطْعَنُوا فِي إمَارَةِ أُسَامَةَ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَأَيْمُ اللَّهِ إنْ كَانَ خَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ» وَأَمَّرَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَإِخْوَتَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ وِسَادَاتِهِمْ وَمِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَمْ يَتَوَلَّ أَحَدٌ بَعْدَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَدْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْلِيَةُ الْأَنْفَعِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَالْحُكْمُ بِمَا يُظْهِرُ الْحَقَّ وَيُوَضِّحُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقْوَى مِنْهُ يُعَارِضُهُ، فَسِيرَتُهُ تَوْلِيَةُ الْأَنْفَعِ وَالْحُكْمُ بِالْأَظْهَرِ، وَلَا يُسْتَطَلْ هَذَا الْفَصْلُ فَإِنَّهُ مِنْ أَنْفَعْ فُصُولِ الْكِتَابِ. [فَصْلٌ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ] فَصْلٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ] وَقَوْلُهُ: " وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا " هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الدِّمَاءِ فَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وَنَدَبَ الزَّوْجَيْنِ إلَى الصُّلْحِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حُقُوقِهِمَا، فَقَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وَأَصْلَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمَّا تَنَازَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، أَصْلَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ الشَّطْرَ وَ [أَمَرَ] غَرِيمَهُ بِقَضَاءِ الشَّطْرِ، وَقَالَ لِرَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا عِنْدَهُ: «اذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ لْيُحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَجَوَّزَ فِي دَمِ الْعَمْدِ أَنْ يَأْخُذَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا «اُسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالِدُ جَابِرٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، سَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطَةِ وَيُحْلِلُوا أَبَاهُ» . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْمُخَارَجَةِ، يَعْنِي الصُّلْحَ فِي الْمِيرَاثِ؛ وَسُمِّيَتْ الْمُخَارَجَةُ لِأَنَّ الْوَارِثَ يُعْطَى مَا يُصَالِحُ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَصُولِحَتْ امْرَأَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ رُبُعِ الثُّمُنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقَدْ رَوَى مِسْعَرٌ عَنْ أَزْهَرَ عَنْ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُحْدِثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ ". وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا " رُدُّوا الْخُصُومَ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّهُ آثَرُ لِلصِّدْقِ، وَأَقَلُّ لِلْخِيَانَةِ ". وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا: " رُدُّوا الْخُصُومَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الشَّنَآنَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فَصْلٌ. [الْحُقُوقُ ضَرْبَانِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ عِبَادِهِ] . وَالْحُقُوقُ نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ؛ فَحَقُّ اللَّهِ لَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا، وَإِنَّمَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فِي إقَامَتِهَا، لَا فِي إهْمَالِهَا، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ بِالْحُدُودِ، وَإِذَا بَلَغَتْ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ وَالْإِسْقَاطَ وَالْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَالصُّلْحُ الْعَادِلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] وَالصُّلْحُ الْجَائِرُ هُوَ الظُّلْمُ بِعَيْنِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْتَمِدُ الْعَدْلَ فِي الصُّلْحِ، بَلْ يُصْلِحُ صُلْحًا ظَالِمًا جَائِرًا، فَيُصَالِحُ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى دُونِ الطَّفِيفِ مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ بَيْنَ كَعْبٍ وَغَرِيمِهِ وَصَالَحَ أَعْدَلَ الصُّلْحِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الشَّطْرَ وَيَدَعَ الشَّطْرَ؛ وَكَذَلِكَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى طَلَاقِ سَوْدَةَ رَضِيَتْ بِأَنْ تَهَبَ لَهُ لَيْلَتَهَا وَتَبْقَى عَلَى حَقِّهَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، فَهَذَا أَعْدَلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا وَأَخْذِ بَعْضِهِ وَأَنْ يُمْسِكَهَا كَانَ هَذَا مِنْ الصُّلْحِ الْعَادِلِ، وَكَذَلِكَ أَرْشَدَ الْخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا الْمَوَارِيثُ بِأَنْ يَتَوَخَّيَا الْحَقَّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ثُمَّ يُحْلِلْ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ؛ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ أَوَّلًا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَحِينَئِذٍ أَمَرَ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ لَا بِالصُّلْحِ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ، فَفِي الْإِصْلَاحِ مَعَ ظُلْمِهَا هَضْمٌ لِحَقِّ الطَّائِفَةِ الْمَظْلُومَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُصْلِحِينَ يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَادِرِ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي بِهِ الْقَادِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، وَيَكُونُ الْإِغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَصْلَحَ، وَلَا يُمَكِّنُ الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ، وَهَذَا ظُلْمٌ، بَلْ يُمَكِّنُ الْمَظْلُومَ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ إلَيْهِ بِرِضَاهُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ حَقِّهِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ لِصَاحِبِ الْجَاهِ، وَلَا يَشْتَبِهُ بِالْإِكْرَاهِ لِلْآخَرِ بِالْمُحَابَاةِ وَنَحْوِهَا. فَصْلٌ. [الصُّلْحُ إمَّا مَرْدُودٌ وَإِمَّا جَائِزٌ نَافِذٌ] وَالصُّلْحُ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ بُضْعٍ حَلَالٍ، أَوْ إحْلَالَ بِضْع حَرَامٍ، أَوْ إرْقَاقَ حُرٍّ، أَوْ نَقْلَ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءً عَنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، أَوْ أَكْلَ رَبًّا، أَوْ إسْقَاطَ وَاجِبٍ، أَوْ تَعْطِيلَ حَدٍّ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذَا صُلْحٌ جَائِزٌ مَرْدُودٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فَالصُّلْحُ الْجَائِزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ فِيهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ؛ فَهَذَا أَعْدَلُ الصُّلْحِ وَأَحَقُّهُ، وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ؛ فَيَكُونُ الْمُصْلِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْلِ، فَدَرَجَةُ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ، أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» وَقَدْ جَاءَ فِي أَثَرٍ: أَصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهُ يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] [فَصْلٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ] فَصْلٌ. [يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ] وَقَوْلُهُ: " مَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ " هَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ تَكُونُ حُجَّتُهُ أَوْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً، فَلَوْ عَجَّلَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ بَطَلَ حَقُّهُ، فَإِذَا سَأَلَ أَمَدًا تَحْضُرُ فِيهِ حُجَّتُهُ أُجِيبَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ وَمُدَافَعَتُهُ لِلْحَاكِمِ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَمَدًا، بَلْ يَفْصِلُ الْحُكُومَةَ، فَإِنَّ ضَرْبَ هَذَا الْأَمَدِ إنَّمَا كَانَ لِتَمَامِ الْعَدْلِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ إبْطَالٌ لِلْعَدْلِ لَمْ يُجَبْ إلَيْهِ الْخَصْمُ. [تَغَيُّرُ الْحُكْم بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ] . [قَدْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ] وَقَوْلُهُ: " وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْت بِهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْت فِيهِ رَأْيَك وَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَلَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ " يُرِيدُ إنَّكَ إذَا اجْتَهَدْت فِي حُكُومَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَك مَرَّةً أُخْرَى فَلَا يَمْنَعُك الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ مِنْ إعَادَتِهِ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ مَانِعًا مِنْ الْعَمَلِ بِالثَّانِي إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى الْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ قَدْ سَبَقَ الثَّانِي وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ أَسْبَقُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَلَا يُبْطِلُهُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ عَلَى خِلَافِهِ، بَلْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي عَلَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخُوَّتَهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَأَخَوَيْهَا لِأُمِّهَا، فَأَشْرَكَ عُمَرُ بَيْنَ الْأُخُوَّةِ لِلْأُمِّ وَالْأَبِ وَالْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فِي الثُّلُثِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّك لَمْ تُشْرِكْ بَيْنَهُمْ عَامَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عُمَرُ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يَوْمئِذٍ، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا الْيَوْمَ؛ فَأَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كِلَا الِاجْتِهَادَيْنِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الثَّانِي، وَلَمْ يَنْقَضِ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي، فَجَرَى أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ بَعْدَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. [مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ] قَوْلُهُ: " وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ " لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ - كَانُوا عُدُولًا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ مَانِعُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جُرِّبَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّورِ؛ فَلَا يُوثَقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ مَنْ جُلِدَ فِي حَدٍّ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، أَوْ مُتَّهَمٌ بِأَنْ يَجُرَّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ كَشَهَادَةِ السَّيِّدِ لِعَتِيقِهِ بِمَالٍ أَوْ شَهَادَةِ الْعَتِيقِ لِسَيِّدِهِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ مُنْقَطِعًا إلَيْهِ يَنَالُهُ نَفْعُهُ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ لَا تُقْبَلُ مَعَ التُّهْمَةِ، وَتُقْبَلُ بِدُونِهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. [شَهَادَةُ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ أَوْ عَلَيْهِ] وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ جَوَّزَ شَهَادَةَ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ مُطْلَقًا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْقَرَابَةَ مَانِعَةً مِنْ الشَّهَادَةِ بِحَالٍ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ بِالْعُمُومَاتِ الَّتِي لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَجْنَبِيٍّ وَقَرِيبٍ، وَهَؤُلَاءِ أَسْعَدُ بِالْعُمُومَاتِ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ شَهَادَةَ الْأُصُولِ لِلْفُرُوعِ وَالْفُرُوعِ لِلْأُصُولِ خَاصَّةً، وَجَوَّزَتْ شَهَادَةَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ بِالْمَنْعِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ لَكَانَتْ شَهَادَةً مِنْهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْهُ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا فَاطِمَةُ بُضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا» قَالُوا: وَكَذَلِكَ بَنُو الْبَنَاتِ، فَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِذَا شَهِدَ لَهُ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ لِشَيْءٍ مِنْهُ، قَالَ: وَبَنُوهُ هُمْ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ شَهِدَ لِبَعْضِهِ، قَالُوا: وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ، وَالْوَالِدُ مُتَّهَمٌ فِي وَلَدِهِ فَهُوَ ظَنِينٌ فِي قَرَابَتِهِ، قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَوْلَادِ «إنَّكُمْ لَتَبْخَلُونَ وَتُجَبِنُّونَ، وَإِنَّكُمْ لَمِنْ رِيحَانِ اللَّهِ» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالِكُ لِأَبِيك» فَإِذَا كَانَ مَالُ الِابْنِ لِأَبِيهِ فَإِذَا شَهِدَ لَهُ الْأَبُ بِمَالٍ كَانَ قَدْ شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، قَالُوا: وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثنا جَرِيرٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ يَزِيدَ الْجَزَرِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قَالَ: أَحْسَبُهُ يَزِيدَ بْنَ سِنَانٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَلَا مَجْلُودٍ» قَالُوا: وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْبَعْضِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ مَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، كَمَا مَنَعَ مِنْ إعْطَائِهِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَمِنْ قَتْلِهِ بِالْوَلَدِ، وَحَدِّهِ بِقَذْفِهِ؛ قَالُوا: وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يُطَالَبُ بِهِ، وَلَا يُحْبَسُ مِنْ أَجْلِهِ، قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] وَلَمْ يَذْكُرْ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي بُيُوتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا دُونَهَا، وَإِلَّا فَبُيُوتُهُمْ أَقْرَبُ مِنْ بُيُوتِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ: قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أَيْ وَلَدًا، فَالْوَلَدُ جُزْءٌ؛ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ فِي جُزْئِهِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» فَكَيْفَ يَشْهَدُ الرَّجُلُ لِكَسْبِهِ؟ قَالُوا: وَالْإِنْسَانُ مُتَّهَمٌ فِي وَلَدِهِ، مَفْتُونٌ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْءِ لِمَنْ قَدْ جُعِلَ مَفْتُونًا بِهِ؟ وَالْفِتْنَةُ مَحَلُّ التُّهْمَةِ. فَصْلٌ قَالَ الْآخَرُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وَلَا رَيْبَ فِي دُخُولِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَقَارِبِ فِي هَذَا اللَّفْظِ كَدُخُولِ الْأَجَانِبِ؛ وَتَنَاوُلِهَا لِلْجَمِيعِ بِتَنَاوُلٍ وَاحِدٍ، هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَا رَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ أَبًا وَلَا وَلَدًا وَلَا أَخًا وَلَا قَرَابَةً، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَتَلْزَمُ الْحُجَّةُ بِإِجْمَاعِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، وَالْأَخُ لِأَخِيهِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثنا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحَ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتَرَكَتْ شَهَادَةَ مَنْ يُتَّهَمُ إذَا كَانَتْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، لَمْ يَتَّهِمْ إلَّا هَؤُلَاءِ فِي آخَرِ الزَّمَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ جَدِّهِ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ شُرَيْحٍ، فَأَتَاهُ عَلِيُّ بْنُ كَاهِلٍ وَامْرَأَةٌ وَخَصْمٌ، فَشَهِدَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ كَاهِلٍ وَهُوَ زَوْجُهَا، وَشَهِدَ لَهَا أَبُوهَا، فَأَجَازَ شُرَيْحٌ شَهَادَتَهُمَا، فَقَالَ الْخَصْمُ: هَذَا أَبُوهَا وَهَذَا زَوْجُهَا، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَتَعَلَّمُ شَيْئًا تَجْرَحُ بِهِ شَهَادَتَهُمَا؟ كُلُّ مُسْلِمٍ شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ: سَمِعْت شُرَيْحًا أَجَازَ لِامْرَأَةٍ شَهَادَةَ أَبِيهَا وَزَوْجِهَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إنَّهُ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا، وَقَالَ شُرَيْحٌ: فَمَنْ يَشْهَدُ لِلْمَرْأَةِ إلَّا أَبُوهَا وَزَوْجُهَا؟ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا شَبَابَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: شَهِدْت لِأُمِّي عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَضَى بِشَهَادَتِي. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَجَازَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبِيهِ إذَا كَانَ عَدْلًا. قَالُوا: فَهَؤُلَاءِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمِيعُ السَّلَفِ وَشُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَالْأَبِ لِابْنِهِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَبِهَذَا يَقُولُ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي دَاوُد بْنَ عَلِيٍّ وَأَصْحَابَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ الَّذِينَ رَدُّوا شَهَادَةَ الِابْنَ لِأَبِيهِ وَالْأَخَ لِأَخِيهِ هُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ لَمْ يَكُونُوا يَرُدُّونَهَا. قَالُوا: وَأَمَّا حُجَّتُكُمْ عَلَى الْمَنْعِ فَمَدَارُهَا عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَعْضِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ وَأَنَّهَا تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْبَعْضِيَّةَ لَا تُوجِبُ أَنْ تَكُونَ كَبَعْضِهِ فِي الْأَحْكَامِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ تَحْرِيمِهِ وُجُوبُهُ عَلَى الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَعْضَهُ، وَلَا مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى أَحَدِهِمَا وُجُوبُهُ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ» فَلَا يُجْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِذَنْبِهِ، وَلَا يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَا الْحَجُّ بِغِنَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ مِنْهُ وَإِجَارَتِهِ وَمُضَارَبَتِهِ وَمُشَارَكَتِهِ، فَلَوْ امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ لِكَوْنِهِ جُزْءَاهُ فَيَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ لَامْتَنَعَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ، إذْ يَكُونُ عَاقِدًا لَهَا مَعَ نَفْسِهِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مُتَّهَمٌ بِشَهَادَتِهِ لَهُ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْعُقُودِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَّهِمُ فِيهَا مَعَهُ. قِيلَ: هَذَا عَوْدٌ مِنْكُمْ إلَى الْمَأْخَذِ الثَّانِي، وَهُوَ مَأْخَذُ التُّهْمَةِ فَيُقَالُ: التُّهْمَةُ وَحْدَهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْمَنْعِ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تُهْمَةَ الْإِنْسَانِ فِي صَدِيقِهِ وَعَشِيرِهِ وَمَنْ يَعْنِيهِ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ أَعْظَمُ مِنْ تُهْمَتِهِ فِي أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُحَابِي صَدِيقَهُ وَعَشِيرَهُ وَذَا وُدِّهِ أَعْظَمَ مِمَّا يُحَابِي أَبَاهُ وَابْنَهُ. فَإِنْ قُلْتُمْ: الِاعْتِبَارُ بِالْمَظِنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْضَبِطُ، بِخِلَافِ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهَا لِانْتِشَارِهَا وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا لَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ فِي الْأَصْنَافِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ، وَعَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامَ، دُونَ مَظَانِّهَا، فَأَيْنَ عَلَّقَ الشَّارِعُ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ أَوْ الْبُنُوَّةِ أَوْ الْأُخُوَّةِ؟ وَالتَّابِعُونَ إنَّمَا نَظَرُوا إلَى التُّهْمَةِ، فَهِيَ الْوَصْفُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَا تَأْثِيرَ لِخُصُوصِ الْقَرَابَةِ وَلَا عُمُومِهَا، بَلْ قَدْ تُوجَدُ الْقَرَابَةُ حَيْثُ لَا تُهْمَةَ، وَتُوجَدُ التُّهْمَةُ حَيْثُ لَا قَرَابَةَ، وَالشَّارِعُ إنَّمَا عَلَّقَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَكَوْنُ الشَّاهِدِ مَرَضِيًّا، وَعَلَّقَ عَدَمَ قَبُولِهَا بِالْفِسْقِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَلَا قَرَابَةٍ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّهَمٌ مَعَهُ فِي الْمُحَابَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ إبْطَالُهَا، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَلَمْ يُحَابِهِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ، وَلَوْ حَابَاهُ بَطَلَ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، فَعَلَّقَ الْبُطْلَانَ بِالتُّهْمَةِ لَا بِمَظِنَّتِهَا. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» فَلَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبِيهِ، فَإِنَّ الْأَبَ لَيْسَ هُوَ وَمَالُهُ لِابْنِهِ، وَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى [عَدَمِ] قَبُولِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَكْثَرُ مُنَازِعِينَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَالَ الِابْنِ لَهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَأَنَّ الْأَبَ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْئًا، وَاَلَّذِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ حَمَّلْتُمُوهُ إيَّاهُ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَمْ تَقُولُوا بِهِ، وَنَحْنُ نَتَلَقَّى أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَنَسْتَعْمِلُهَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وُجُوهِهَا، وَلَوْ دَلَّ قَوْلُهُ: «أَنْتَ وَمَالِكُ لِأَبِيك» عَلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ لَكُنَّا أَوَّلَ ذَاهِبٍ إلَى ذَلِكَ، وَلَمَا سَبَقْتُمُونَا إلَيْهِ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ؟ وَاللَّامُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ لِلْمِلْكِ قَطْعًا، وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ وَلَا لِلْإِبَاحَةِ إذْ لَا يُبَاحُ مَالُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ بَعْضُ السَّلَفِ فَقَالَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَمَنْ يَقُولُ هِيَ لِلْإِبَاحَةِ أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ، وَإِلَّا تَعَطَّلَتْ فَائِدَتُهُ وَدَلَالَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ أَخْذِهِ مَا شَاءَ مِنْ مَالِهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ لَهُ بِحَالٍ، مَعَ الْقَطْعِ أَوْ ظُهُورِ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ لَهُ بِنِكَاحٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ مَا لَا تَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُعْطَى مِنْ زَكَاتِهِ، وَلَا يُقَادُ بِهِ، وَلَا يُحَدُّ بِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ، وَلَا يُحْبَسُ بِهِ؛ فَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذِهِ مَسَائِلُ نِزَاعٍ لَا مَسَائِلُ إجْمَاعٍ، وَلَوْ سَلِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ حَيْثُ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ؛ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَإِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ اقْتَضَتْهَا الْأُبُوَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاتِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي حَدِّهِ بِهِ، وَإِقَادَتِهِ مِنْهُ، وَحَبْسِهِ بِدَيْنِهِ، فَإِنَّ مَنْصِبَ أُبُوَّتِهِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَقُبْحَهُ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَهِيَ خَبَرٌ يَعْتَمِدُ الصِّدْقَ وَالْعَدَالَةَ، فَإِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي الْإِخْبَارِ فَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِهِ قَبِيحًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِرَدِّ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِهِ وَاتِّهَامِهِ. قَالُوا: وَالشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَصْدِيقِ الصَّادِقِ وَقَبُولِ خَبَرِهِ، وَتَكْذِيبِ الْكَاذِبِ، وَالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ الْمُتَّهَمِ؛ فَهِيَ لَا تَرُدُّ حَقًّا، وَلَا تَقْبَلُ بَاطِلًا. قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ فِي قَرَابَتِهِ أَوْ ذِي وِلَايَةٍ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا ظَهَرَتْ تُهْمَتُهُ، ثُمَّ مُنَازَعُونَا لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ شَهَادَةَ كُلِّ قَرَابَةٍ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِقَرَابَةِ الْإِيلَادِ بِالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَعْلِيقُ الْمَنْعِ بِتُهْمَةِ الْقَرَابَةِ، فَأَلْغَيْتُمْ وَصْفَ التُّهْمَةِ، وَخَصَصْتُمْ وَصْفَ الْقَرَابَةِ بِفَرْدٍ مِنْهَا؛ فَكُنَّا نَحْنُ أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ مِنْكُمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ فُلَانًا؛ وَلَا يُجِيزُونَ شَهَادَتَهُمْ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُوَكِّلُ لَا يَتَّهِمَانِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ فَالْجُمْهُورُ يُجِيزُونَهَا، وَهُوَ الَّذِي فِي التَّهْذِيبِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى شَرْطٍ؛ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا لَمْ تَنَلْهُ صِلَتُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: تَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، فَإِنْ كَانَ مُبْرِزًا جَازَ فِي الْكَثِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ التُّهْمَةُ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمَا يَكْسِبُ بِهِ الشَّاهِدُ شَرَفًا وَجَاهًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَالْأَبِ لِابْنِهِ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ فَعَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْمَنْعُ، وَالْقَبُولُ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ فَتُقْبَلُ وَشَهَادَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ فَلَا تُقْبَلُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَبُولَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] . وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ عَنْهُ رِوَايَةً ثَانِيَةً أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَلَمْ أَجِدْ فِي الْجَامِعِ، يَعْنِي جَامِعَ الْخَلَّالِ، خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُقْبَلُ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ فِي قِصَاصٍ وَلَا حَدِّ قَذْفٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَهَذَا قِيَاسٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْحَدَّ وَالْقَتْلَ فِي صُورَةِ الْمَنْعِ لِكَوْنِ الْمُسْتَحِقِّ هُوَ الِابْنُ، وَهُنَا الْمُسْتَحِقُّ أَجْنَبِيٌّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ التُّهْمَةِ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ جَائِزَةٌ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَطَرُّقَ التُّهْمَةِ إلَيْهِ مِثْلُ تَطَرُّقِهَا إلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الِابْنَيْنِ عَلَى أَبِيهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا جَائِزَةٌ، مَعَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأُمِّ، وَيَتَوَفَّرُ حَظُّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَيَخْلُو لَهَا وَجْهُ الزَّوْجِ، وَلَمْ تُرَدَّ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِاحْتِمَالِ التُّهْمَةِ؛ فَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَالِدِهِ وَعَكْسُهُ بِحَيْثُ لَا تُهْمَةَ هُنَاكَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [فَصْلٌ شَاهِدُ الزُّورِ] . فَصْلٌ: [شَاهِدُ الزُّورِ] وَقَوْلُهُ: " إلَّا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ تَسْتَقِلُّ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ» . [الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ] [الْكَذِبُ مِنْ الْكَبَائِرِ] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الشَّهَادَةِ: هَلْ هُوَ مِنْ الصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ الْكَبَائِرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ فِي تَمَامِهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ صِفَاتِ شَرِّ الْبَرِّيَّةِ، وَهُمْ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، فَلَمْ يَصِفْ بِهِ إلَّا كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا، وَجَعَلَهُ عَلَمَ أَهْلِ النَّارِ وَشِعَارَهُمْ وَجَعَلَ الصِّدْقَ عَلَمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشِعَارَهُمْ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرِّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَصْدُقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَكْذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ» . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَهُ الْكَذْبَةَ فَمَا تَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً» . وَقَالَ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ: ثنا مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثنا أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا كَانَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ، وَمَا جَرَّبَ عَلَى أَحَدٍ كَذِبًا فَرَجَعَ إلَيْهِ مَا كَانَ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْهُ تَوْبَةً» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيق ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذْبَةٍ كَذَبَهَا» وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " إيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبُ الْإِيمَانَ " يُرْوَى مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا؛ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أَبِيهِ قَالَ: " الْمُسْلِمُ يُطْبَعُ عَلَى كُلِّ طَبِيعَةٍ غَيْرَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ "، وَيُرْوَى مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا قَالَ: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] » . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ وَفُشُوُّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَكِتْمَانُ شَهَادَةِ الْحَقِّ» . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ: ثنا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ مَالًا، فَجَحَدَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَشَهِدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: لَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا شَهِدَ عَلَيَّ بِحَقٍّ، وَمَا عَلِمْتُهُ إلَّا رَجُلًا صَالِحًا، غَيْرَ هَذِهِ الزَّلَّةِ فَإِنَّهُ فَعَلَ هَذَا لِحِقْدٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيَّ، وَكَانَ مُحَارِبٌ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الرَّجُلِ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ تَشِيبُ فِيهِ الْوَلَدَانِ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَتَضْرِبُ الطَّيْرُ بِأَذْنَابِهَا وَتَضَعُ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا ذَنْبَ عَلَيْهَا وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا يُقَارُّ قَدَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يُقْذَفَ بِهِ فِي النَّارِ فَإِنْ كُنْت شَهِدْت بِحَقٍّ فَاتَّقِ اللَّهَ وَأَقِمْ عَلَى شَهَادَتِك، وَإِنْ كُنْت شَهِدْت بِبَاطِلٍ فَاتَّقِ اللَّهَ وَغَطَّ رَأْسَك وَاخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ» . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: «كُنْت فِي مَجْلِسِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَهُوَ فِي قَضَائِهِ، حَتَّى تَقَدَّمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، اُدْعُ فُلَانًا، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاَللَّهِ إنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَيَشْهَدَنَّ بِزُورٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَنِي عَنْهُ لَأُزَكِّيَنَّهُ؛ فَلَمَّا جَاءَ الشَّاهِدُ قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ الطَّيْرَ لِتَضْرِبَ بِمَنَاقِيرِهَا، وَتَقْذِفَ مَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَتُحَرِّكَ أَذْنَابَهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تُقَارُّ قَدَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يُقْذَفَ بِهِ فِي النَّارِ ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ: كُنْت أُشْهِدْت عَلَى شَهَادَةٍ وَقَدْ نَسِيتُهَا، أَرْجِعُ فَأَتَذَكَّرُهَا، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ» ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارَ ثنا زَافِرٌ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ قَالَ: «كُنْت عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ، فَشَهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَاهِدٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ شَهِدَ عَلَيَّ بِزُورٍ، وَلَئِنْ سُئِلَتْ عَنْهُ لَيُزَكَّيَنَّ، وَكَانَ مُحَارِبٌ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَزُولُ قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ» وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ إلَى مُحَارِبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 [فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْكَذَّابِ] وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ الْكَذِبُ؛ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي نَفْسِ آلَةِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَشَهَادَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ؛ فَإِنَّ اللِّسَانَ الْكَذُوبَ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الَّذِي قَدْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، فَشَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ لِسَانٌ كَذُوبٌ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شِعَارَ الْكَاذِبِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِعَارَ الْكَاذِبِ عَلَى رَسُولِهِ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ، وَالْكَذِبُ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي سَوَادِ الْوَجْهِ، وَيَكْسُوهُ بُرْقُعًا مِنْ الْمَقْتِ يَرَاهُ كُلُّ صَادِقٍ؛ فَسِيَّمَا الْكَاذِبُ فِي وَجْهِهِ يُنَادَى عَلَيْهِ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ، وَالصَّادِقُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَهَابَةً وَجَلَالَةً، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ وَأَحَبَّهُ، وَالْكَاذِبُ يَرْزُقُهُ إهَانَةً وَمَقْتًا، فَمَنْ رَآهُ مَقَتَهُ وَاحْتَقَرَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ] . فَصْلٌ [رَدُّ شَهَادَةِ الْمَجْلُودِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ] وَقَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِهِ " أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ " الْمُرَادُ بِهِ الْقَاذِفُ إذَا حُدَّ لِلْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَالْقُرْآنُ نَصٌّ فِيهِ؛ وَأَمَّا إذَا تَابَ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ تَابَ، وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ ثنا قَيْسٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرَةَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ يُشْهِدُهُ قَالَ: أَشْهِدْ غَيْرِي، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَسَّقُونِي، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ. وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَّدَ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ مِنْ الْفَاسِقِينَ، وَبَقِيَ الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَتَأْبِيدِهِ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ آدَمَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا مَحْدُودَةٍ، وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» وَلَهُ طُرُقٌ إلَى عَمْرٍو. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عَمْرٍو، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرٍو قَالُوا: وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ فِي حَدٍّ، وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ، وَلَا مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتَهُ جُعِلَ مِنْ تَمَامِ عُقُوبَتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَتَرَتَّبُ الْمَنْعُ إلَّا بَعْدَ الْحَدِّ، فَلَوْ قَذَفَ وَلَمْ يُحَدَّ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا زَادَهُ طُهْرَةً وَخَفَّفَ عَنْهُ إثْمَ الْقَذْفِ أَوْ رَفَعَهُ، فَهُوَ بَعْدَ الْحَدِّ خَيْرٌ مِنْهُ قَبْلَهُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، فَرَدُّهَا مِنْ تَمَامِ عُقُوبَتِهِ وَحَدُّهُ وَمَا كَانَ مِنْ الْحُدُودِ وَلَوَازِمِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِهَذَا لَوْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ تَمْنَعْ تَوْبَتُهُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ جُعِلَ عُقُوبَةً لِهَذَا الذَّنْبِ؛ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحَدِّ. قَالَ الْآخَرُونَ، وَاللَّفْظُ لِلشَّافِعِيِّ: وَالثُّنْيَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ إلَّا أَنْ يَفْرُقَ بَيْنَ ذَلِكَ خَبَرٌ، وَأَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ لَا تَجُوزُ، وَأَشْهَدُ لَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ أَقْبَلُ شَهَادَتَك، قَالَ سُفْيَانُ: نَسِيتُ اسْمَ الَّذِي حَدَّثَ الزُّهْرِيَّ، فَلَمَّا قُمْنَا سَأَلْت مَنْ حَضَرَ، فَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَقُلْت لِسُفْيَانَ: فَهَلْ شَكَكْت فِيمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: لَا هُوَ سَعِيدٌ غَيْرُ شَكٍّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ فَيُسَمَّى سَعِيدًا، وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَنْ سَعِيدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَخْبَرَنِي بِهِ مِنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا جَلَدَ الثَّلَاثَةَ اسْتَتَابَهُمْ، فَرَجَعَ اثْنَانِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَرْجِعَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ وَشِبْلٍ وَنَافِعٍ: مَنْ تَابَ مِنْكُمْ قَبِلْت شَهَادَتَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ: تُوبُوا تُقْبَلْ شَهَادَتُكُمْ، فَتَابَ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتُوبَ، فَكَانَ عُمَرُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ. قَالُوا: وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ سِوَى الْحَدِّ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْقَاذِفِ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ؛ قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَكَّةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أَهْلُ الْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا تُقْبَلَ أَبَدًا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ إنَّمَا تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ فِيمَا نَرَى، وَاَلَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَهَا يَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى انْقَطَعَ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْفِسْقِ خَاصَّةً دُونَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَتَأَوَّلُوا أَنَّ الْكَلَامَ تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَانْتَظَمَ الِاسْتِثْنَاءُ كُلَّ مَا كَانَ قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْمُولُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِالشَّيْءِ أَكْثَرَ مِنْ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي الزَّانِي الْمَجْلُودِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذَا تَابَ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إذَا تَابَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثُمَّ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ، وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَلَا يَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟ ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْهُ: إذَا فَرَغَ مِنْ ضَرْبِهِ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. قَالُوا: وَأَمَّا تِلْكَ الْآثَارُ الَّتِي رَوَيْتُمُوهَا فَفِيهَا ضَعْفٌ؛ فَإِنَّ آدَمَ بْنَ فَائِدٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَرُوَاتَهُ عَنْ عُمَرَ قِسْمَانِ: ثِقَاتٌ، وَضُعَفَاءُ، فَالثِّقَاتُ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ " أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ " وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الضُّعَفَاءُ كَالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ وَآدَمَ وَالْحَجَّاجِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ يَزِيدُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ لَحُمِلَتْ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ، فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَقَدْ قُبِلَ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. قَالُوا: وَأَعْظَمُ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ الْكُفْرُ وَالسَّحَرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالزِّنَا، وَلَوْ تَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا؛ فَالتَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. قَالُوا: وَأَيْنَ جِنَايَةُ قَتْلِهِ مِنْ قَذْفِهِ؟ قَالُوا: وَالْحَدُّ يَدْرَأُ عَنْهُ عُقُوبَةَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ طُهْرَةٌ لَهُ؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ طُهْرَةٌ لِأَهْلِهَا، فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ يَتَطَهَّرْ بِالْحَدِّ وَيُرَدُّ أَطْهَرَ مَا يَكُونُ؟ فَإِنَّهُ بِالْحَدِّ وَالتَّوْبَةِ قَدْ يَطْهُرُ طُهْرًا كَامِلًا. قَالُوا: وَرَدُّ الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَقِيبَ هَذَا الْحُكْمِ، وَهِيَ الْفِسْقُ، وَقَدْ ارْتَفَعَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ سَبَبُ الرَّدِّ؛ فَيَجِبُ ارْتِفَاعُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قَالُوا: وَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ بِقَذْفِهِ، حُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَالِ فِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بَعْدَ زَوَالِ فِسْقِهِ؟ قَالُوا: وَلَا عَهْدَ لَنَا فِي الشَّرِيعَةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ أَصْلًا يُتَابُ مِنْهُ وَيَبْقَى أَثَرُهُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَهَلْ هَذَا إلَّا خِلَافُ الْمَعْهُودِ مِنْهَا، وَخِلَافُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» ؟ وَعِنْدَ هَذَا فَيُقَالُ: تَوْبَتُهُ مِنْ الْقَذْفِ تُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَقْذِفْ، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ الْمَانِعُونَ: الْقَذْفُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَوْفَى الْجَرَائِمَ، فَنَاسَبَ تَغْلِيظَ الزَّجْرِ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الزَّجْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْقَلْبِ وَالنِّكَايَةِ فِي النَّفْسِ؛ إذْ هُوَ عَزْلٌ لِوِلَايَةِ لِسَانِهِ الَّذِي اسْتَطَالَ بِهِ عَلَى عِرْضِ أَخِيهِ، وَإِبْطَالٌ لَهَا، ثُمَّ هُوَ عُقُوبَةٌ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِلِسَانِهِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ فِيهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدْ اعْتَبَرَ هَذَا حَيْثُ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ، فَإِنَّهُ حَدٌّ مَشْرُوعٌ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عُقُوبَةَ الزَّانِي بِقَطْعِ الْعُضْوِ الَّذِي جَنَى بِهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عُضْوٌ خَفِيٌّ مَسْتُورٌ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، فَلَا يَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ بِقَطْعِهِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ آلَاتِ التَّنَاسُلِ وَانْقِطَاعِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ لَذَّةَ الْبَدَنِ جَمِيعَهُ بِالزِّنَا كَلَذَّةِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، فَاَلَّذِي نَالَ الْبَدَنَ مِنْ اللَّذَّةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلُ مَا نَالَ الْفَرْجَ، وَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَطْعَ هَذَا الْعُضْوِ مُفْضٍ إلَى الْهَلَاكِ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ لَا تَسْتَوْجِبُ جَرِيمَتُهُ الْهَلَاكَ، وَالْمُحْصَنُ إنَّمَا يُنَاسِبُ جَرِيمَتَهُ أَشْنَعُ الْقِتْلَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُهَا قَطْعُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَافْتَرَقَا. قَالُوا: وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ قَبْلَ الْحَدِّ وَرَدِّهَا بَعْدَهُ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ جُعِلَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَتَكْمِلَتِهِ؛ فَهُوَ كَالصِّفَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِلْحَدِّ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ يُنْقِصُ عِنْدَ النَّاسِ، وَتَقِلُّ حُرْمَتُهُ، وَهُوَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَائِمٌ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُنْتَهِكِهَا. قَالُوا: وَأَمَّا التَّائِبُ مِنْ الزِّنَا وَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ فَإِنَّمَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ لِأَنَّ رَدَّهَا كَانَ نَتِيجَةَ الْفِسْقِ، وَقَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَدَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَافْتَرَقَا. قَالَ الْقَابِلُونَ: تَغْلِيظُ الزَّجْرِ لَا ضَابِطَ لَهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْجَرَائِمِ جَعَلَ الشَّارِعُ مَصْلَحَةَ الزَّجْرِ عَلَيْهَا بِالْحَدِّ، وَإِلَّا فَلَا تَطْلُقُ نِسَاؤُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالُهُ، وَلَا يُعْزَلُ عَنْ مَنْصِبِهِ، وَلَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ فِي الزَّجْرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَتَغْلِيظُ الزَّجْرِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُنْتَشِرَةِ الَّتِي لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تَنْضَبِطُ، وَقَدْ حَصَلَ إيلَامُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالنِّكَايَةِ فِي النَّفْسِ بِالضَّرْبِ الَّذِي أُخِذَ مِنْ ظَهْرِهِ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ لَا يَنْزَجِرُ بِهِ أَكْثَرُ الْقَاذِفِينَ، وَإِنَّمَا يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ وَيَنْزَجِرُ أَعْيَانُ النَّاسِ، وَقَلَّ أَنْ يُوجَدَ الْقَذْفُ مِنْ أَحَدِهِمْ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ غَالِبًا مِنْ الرَّعَاعِ وَالسَّقَطِ وَمَنْ لَا يُبَالِي بِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَقَبُولِهَا؛ وَأَيْضًا فَكَمْ مِنْ قَاذِفٍ انْقَضَى عُمُرُهُ وَمَا أَدَّى شَهَادَةً عِنْدَ حَاكِمٍ، وَمَصْلَحَةُ الزَّجْرِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَنْعِ النُّفُوسِ مَا هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ مِنْهَا، ثُمَّ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا يُعَارِضُهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا؛ فَإِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ أَبَدًا تَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْحُقُوقِ عَلَى الْغَيْرِ وَتَعْطِيلُ الشَّهَادَةِ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقَبُولِ فَإِنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ عَدْلٍ تَائِبٍ قَدْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اعْتِبَارَ مَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ مِنْهَا مَفْسَدَةٌ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ مِنْهَا عِدَّةُ مَفَاسِدَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ وَحَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالشَّارِعُ لَهُ تَطَلَّعَ إلَى حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ وَعَدَمِ إضَاعَتِهَا، فَكَيْفَ يُبْطِلُ حَقًّا قَدْ شَهِدَ بِهِ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى دِينِهِ رِوَايَةً وَفَتْوَى؟ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " إنَّ الْعُقُوبَةَ تَكُونُ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ " فَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عُقُوبَةِ الشَّارِبِ وَالزَّانِي، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عُقُوبَةَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ دُونَ اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ عُقُوبَةَ اللِّسَانِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ التُّهْمَةِ، فَإِذَا زَالَ الْفِسْقُ بِالتَّوْبَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْعُقُوبَةِ بَعْدَهَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحَدَّ تَمَّ بِاسْتِيفَاءِ عَدَدِهِ، وَسَبَبُهُ نَفْسُ الْقَذْفِ؛ وَأَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ فَحُكْمٌ آخَرُ أَوْجَبَهُ الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ، لَا الْحَدُّ، فَالْقَذْفُ أَوْجَبَ حُكْمَيْنِ: ثُبُوتُ الْفِسْقِ، وَحُصُولُ الْحَدِّ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ. [فَصْلٌ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ] فَصْلٌ: [رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ] وَقَوْلُهُ: " أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ " الظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِالْقَرَابَةِ كَمَا لَا تُرَدُّ بِالْوَلَاءِ، وَإِنَّمَا تُرَدُّ بِتُهْمَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثنا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، وَالْأَخُ لِأَخِيهِ، إذَا كَانُوا عُدُولًا، لَمْ يَقُلْ اللَّهُ حِينَ قَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إلَّا وَالِدًا وَوَلَدًا وَأَخًا، هَذَا لَفْظُهُ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 رِوَايَتَانِ، بَلْ إنَّمَا مَنَعَ مِنْ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ فِي قَرَابَتِهِ وَوَلَائِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْر عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَمْ تَزَلْ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا، وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُ الشَّاهِدِ لِظَنِّ صِدْقِهِ، فَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا عَارَضَتْ التُّهْمَةُ الظَّنَّ، فَبَقِيَتْ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَيْسَ لَهَا مُعَارِضٌ مُقَاوِمٌ [فَصْلٌ شَهَادَةُ مَسْتُورِ الْحَالِ] وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَوَلَّى مِنْ الْعِبَادِ السَّرَائِرَ وَسَتَرَ عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ " يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ لَنَا مِنْهُ عَلَانِيَةُ خَيْرٍ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَوَكَلْنَا سَرِيرَتَهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى السَّرَائِرِ، بَلْ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَالسَّرَائِرُ تَبَعٌ لَهَا، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَعَلَى السَّرَائِرِ، وَالظَّوَاهِرُ تَبَعٌ لَهَا. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " ثُمَّ قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْ عِبَادِهِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ " وَلَا يَدُلُّ كَلَامُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، بَلْ قَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ثنا الْحَجَّاجُ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا يُوسِرَ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ بِشُهَدَاءِ السُّوءِ؛ فَإِنَّا لَا نَقْبَلُ إلَّا الْعُدُولَ وَثَنًا إِسْحَاقُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ لَا يُوسِرَنَّ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ وَثَنًا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " وَسَتَرَ عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ " يَعْنِي الْمَحَارِمَ، وَهِيَ حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنْ قُرْبَانِهَا، وَالْحَدُّ يُرَادُ بِهِ الذَّنْبُ تَارَةً وَالْعُقُوبَةُ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: " إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ " يُرِيدُ بِالْبَيِّنَاتِ الْأَدِلَّةَ وَالشَّوَاهِدَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الْحَدُّ فِي الزِّنَا بِالْحَبَلِ، فَهُوَ بَيِّنَةٌ صَادِقَةٌ، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ مِنْ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ رَائِحَةُ الْخَمْرِ بَيِّنَةٌ عَلَى شُرْبِهَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ أَهْل الْمَدِينَةِ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فَصْلٌ. وَقَوْلُهُ: " وَالْأَيْمَانُ " يُرِيدُ بِهَا أَيْمَانَ الزَّوْجِ فِي اللِّعَانِ، وَأَيْمَانَ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي الْقَسَامَةِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ [الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ] فَصْلٌ [الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ] وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فَمَا أَدْلَى إلَيْك مِمَّا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْرِفْ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمِدْ فِيمَا تَرَى إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ " هَذَا أَحَدُ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقَيَّاسُونَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، بَلْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَحَدُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَقِيهٌ. [إشَارَاتُ الْقُرْآنِ إلَى الْقِيَاسِ] وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَاسَ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى فِي الْإِمْكَانِ، وَجَعَلَ النَّشْأَةَ الْأُولَى أَصْلًا وَالثَّانِيَةَ فَرْعًا عَلَيْهَا؛ وَقَاسَ حَيَاةَ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى حَيَاةِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالنَّبَاتِ، وَقَاسَ الْخَلْقَ الْجَدِيدَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَعْدَاؤُهُ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مِنْ قِيَاسِ الْأُولَى كَمَا جَعَلَ قِيَاسَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى مِنْ قِيَاسِ الْأُولَى؛ وَقَاسَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ، وَصَرَّفَهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُلُّهَا أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ يُنَبِّهُ بِهَا عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْأَمْثَالَ كُلَّهَا قِيَاسَاتٌ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْمُمَثَّلِ مِنْ الْمُمَثَّلِ بِهِ، وَقَدْ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا تَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] فَالْقِيَاسُ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنْ خَاصَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ رَكَّزَ اللَّهُ فِطَرَ النَّاسِ وَعُقُولَهُمْ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَإِنْكَارِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَإِنْكَارِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَمَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ جَمِيعُهُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إمَّا اسْتِدْلَالٌ بِمُعَيَّنٍ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ بِمُعَيَّنٍ عَلَى عَامٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى مُعَيَّنٍ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى عَامٍّ؛ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَجَامِعُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْمُعَيَّنِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ، فَكُلُّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ وَمَدْلُولًا لَهُ، وَهَذَا النَّوْعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَال بِالْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ. وَالثَّانِي: الِاسْتِدْلَال بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الْحَرِيقِ، وَالثَّانِي كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى النَّارِ، وَالثَّالِثُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى الدُّخَانِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّلَازُمِ، فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيَاسُ الْفَرْقِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، فَلَوْ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَانْسَدَّتْ طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ. قَالُوا: وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْعَامِّ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؛ إذْ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ لَمَا كَانَ هَذَا الْمُعَيَّنُ دَلِيلًا عَلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَمِنْ هَذَا أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ بِتَعْذِيبِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ شَامِلٌ عَلَى مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَتَعْدِيَةِ هَذَا الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِيبَ إخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَاتِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] فَهَذَا مَحْضُ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى مَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمَ مِثْلِهِ لَمَا لَزِمَتْ التَّعْدِيَةُ، وَلَا تَمَّتْ الْحُجَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى عَقِيبَ إخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَةِ قَوْمِ عَادٍ حِينَ رَأَوْا الْعَارِضَ فِي السَّمَاءِ فَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25] ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] كَيْفَ تَجِدُ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَكُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَأَنَّا إذَا كُنَّا قَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِمَعْصِيَةِ رُسُلِنَا وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ مَا مُكِّنُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَيْشِ فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَأَنَّ هَذَا مَحْضُ عَدْلِ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّيْرُ الْحِسِّيُّ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالدَّوَابِّ أَوْ السَّيْرُ الْمَعْنَوِيُّ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْ كَانَ اللَّفْظُ يَعُمُّهُمَا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُخَاطَبِينَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ أُولِي الْأَبْصَارِ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ حَتَّى تَعْبُرَ الْعُقُولُ مِنْهُ إلَيْهِ لَمَا حَصَلَ الِاعْتِبَارُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حُكْمِهِ وَحِكْمَتُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36] فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاطِلٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَّرَ الْعُقُولَ وَنَبَّهَ الْفِطَرَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ إعْطَاءِ النَّظِيرِ حُكْمَ نَظِيرِهِ، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُخَالِفِهِ فِي الْحُكْمِ؟ وَكُلُّ هَذَا مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ وَجَعَلَهُ قَرِينَهُ وَوَزِيرَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] فَهَذَا الْكِتَابُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] وَالْمِيزَانُ يُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْآلَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْعَدْلُ وَمَا يُضَادُّهُ؛ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ؛ فَالْأَوْلَى تَسْمِيَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ اسْمُ مَدْحٍ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَمَمْدُوحٍ وَمَذْمُومٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُهُ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَوْرِدُ تَقْسِيمٍ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ كِتَابِهِ. وَالْفَاسِدُ مَا يُضَادُّهُ كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا عَلَى الرِّبَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ التَّرَاضِي بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ، وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي جَوَازِ أَكْلِهَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ مِنْ إزْهَاقِ الرُّوحِ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا بِفِعْلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا تَجِدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذَمَّ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالَهُ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ، وَهَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 [أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ] وَالْأَقْيِسَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةٌ: قِيَاسُ عِلَّةٍ، وَقِيَاسُ دَلَالَةٍ، وَقِيَاسُ شَبَهٍ، وَقَدْ وَرَدَتْ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ. [قِيَاسُ الْعِلَّةِ] فَأَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِيسَى نَظِيرُ آدَمَ فِي التَّكْوِينِ بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ مَجِيئُهَا طَوْعًا لِمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ وُجُودُ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَنْ يُقِرُّ بِوُجُودِ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ؟ وَوُجُودِ حَوَّاءَ مِنْ غَيْرِ أُمٍّ؟ فَآدَمُ وَعِيسَى نَظِيرَانِ يَجْمَعُهُمَا الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ بِهِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ فَانْظُرُوا إلَى عَوَاقِبِهِمْ السَّيِّئَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَهُمْ الْأَصْلُ وَأَنْتُمْ الْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ التَّكْذِيبُ، وَالْحُكْمُ الْهَلَاكُ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ إهْلَاكَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْقُرُونِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَعْنَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ ذُنُوبُهُمْ، فَهُمْ الْأَصْلُ وَنَحْنُ الْفَرْعُ، وَالذُّنُوبُ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ، وَالْحُكْمُ الْهَلَاكُ؛ فَهَذَا مَحْضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ سُبْحَانَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْأَوْلَى، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا كَانُوا أَقْوَى مِنَّا فَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَشِدَّتُهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ هَذَا الْكَافِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقِيلَ: هُوَ رَفْعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْتُمْ كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَقِيلَ: نَصْبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَعْمَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: إنَّ التَّشْبِيهَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الْعَذَابِ، ثُمَّ قِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَعَنَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ كَمَا لَعَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: بَلْ الْعَامِلُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَعْدُ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ كَوَعْدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَلَعْنُهُمْ كَلَعْنِهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالْعَذَابِ الَّذِي لَهُمْ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي الْوَعِيدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيهِ كَمَا تُسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ، وَكَوْنُهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، وَأَلْغَى الْوَصْفَ الْفَارِقَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ اقْتَضَتْ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْجَزَاءِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] فَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 69] هُوَ الْحُكْمُ، وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ هُمْ الْأَصْلُ، وَالْمُخَاطَبُونَ الْفَرْعُ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] قَالَ: بِذَنْبِهِمْ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَمْتَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَلَاقَ هُوَ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ، كَأَنَّهُ الَّذِي خُلِقَ لِلْإِنْسَانِ وَقُدِّرَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ قَسْمُهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَنَصِيبُهُ الَّذِي نُصِبَ لَهُ أَيْ أُثْبِتَ، وَقِطُّهُ الَّذِي قُطَّ لَهُ أَيْ قُطِعَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 200] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: 69] فَبِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ هِيَ الْخَلَاقُ، فَاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْسُ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ مِنْ الْخَلَاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ لَكَانَ لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهُمْ بِهَا أَخْذُ حُظُوظِهِمْ الْعَاجِلَةِ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ إلَّا لِدُنْيَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفُرُوعِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَأَنَّهُ يَنَالُهُمْ مَا نَالَهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] فَقِيلَ: الَّذِي صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 مَحْذُوفٍ، أَيْ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوا، وَقِيلَ: لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَخَوْضِ الْقَوْمِ الَّذِي خَاضُوا، وَهُوَ فَاعِلُ الْخَوْضِ، وَقِيلَ: الَّذِي مَصْدَرِيَّةٌ كَمَا أَيْ كَخَوْضِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ مَوْضِعُ الَّذِينَ [أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ الْبِدَعُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إمَّا أَنْ يَقَعَ بِالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْخَوْضُ، أَوْ يَقَعُ فِي الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْخَلَاقِ، فَالْأَوَّلُ الْبِدَعُ، وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ، وَبِهِمَا كُذِّبَتْ الرُّسُلُ، وَعُصِيَ الرَّبُّ، وَدُخِلَتْ النَّارُ، وَحَلَّتْ الْعُقُوبَاتُ، فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنْ النَّاسِ صِنْفَيْنِ: صَاحِبُ هَوًى فِتْنَتُهُ هَوَاهُ، وَصَاحِبُ دُنْيَا أَعْجَبَتْهُ دُنْيَاهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذَا يُشْبِهُ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَفِي صِفَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصَبَرَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ، أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا، وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا، وَهَذِهِ حَالُ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فَبِالصَّبْرِ تُتْرَكُ الشَّهَوَاتُ، وَبِالْيَقِينِ تُدْفَعُ الشُّبُهَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] . وَفِي بَعْضِ الْمَرَاسِيلِ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} [التوبة: 69] إشَارَةٌ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَهُوَ دَاءُ الْعُصَاةِ وَقَوْلُهُ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] إشَارَةٌ إلَى الشُّبُهَاتِ وَهُوَ دَاءُ الْمُتَبَدِّعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَمِعَانِ فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ إلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي عَمَلِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِخَلَاقِهِ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِخَلَاقِهِمْ، وَيَخُوضُ كَخَوْضِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَهُمْ مِنْ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ كَمَا لِلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حَضَّهُمْ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] . فَتَأَمَّلْ صِحَّةَ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِفَادَتَهُ لِمَنْ عُلِّقَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ قَدْ تَسَاوَيَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَكَّدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِضَرْبٍ مِنْ الْأَوْلَى، وَهُوَ شِدَّةُ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَى اللَّهِ عِقَابُ الْأَقْوَى مِنْهُمْ بِذَنْبِهِ فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِقَابُ مَنْ هُوَ دُونَهُ؟ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: إنْ شِئْت أَذْهَبْتُكُمْ وَاسْتَخْلَفْت غَيْرَكُمْ كَمَا أَذْهَبْت مَنْ قَبْلَكُمْ وَاسْتَخْلَفَتْكُمْ فَذِكْرُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ: عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَهِيَ عُمُومُ مَشِيئَتِهِ وَكَمَالِهَا، وَالْحُكْمُ، وَهُوَ إذْهَابُهُ بِهِمْ وَإِتْيَانُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَالْأَصْلُ، وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَالْفَرْعُ، وَهُمْ الْمُخَاطَبُونَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ قَبْلُ الْمُكَذِّبِينَ أَصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَالْفَرْعُ نُفُوسُهُمْ، فَإِذَا سَاوَوْهُمْ فِي الْمَعْنَى سَاوَوْهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [المزمل: 16] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْنَا كَمَا أَرْسَلَ مُوسَى إلَى فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ عَصَى رَسُولَهُ فَأَخَذَهُ أَخْذًا وَبِيلًا، فَهَكَذَا مَنْ عَصَى مِنْكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ فُتِحَ لَك بَابُهُ [فَصْلٌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ] وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ وَمَلْزُومِهَا؛ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] فَدَلَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَحَقَّقُوهُ وَشَاهَدُوهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ، وَذَلِكَ قِيَاسُ إحْيَاءٍ عَلَى إحْيَاءٍ، وَاعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ؛ وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ هِيَ عُمُومُ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالُ حِكْمَتِهِ؛ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] فَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَقَرَّبَ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ جِدًّا بِلَفْظِ الْإِخْرَاجِ، أَيْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَرْضِ أَحْيَاءً كَمَا يَخْرُجُ الْحَيُّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيَخْرُجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْحَيِّ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [القيامة: 39] {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ إلَى أَنْ صَارَ مِنْهُ الزَّوْجَانِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَمَارَةُ وُجُودِ صَانِعٍ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ: عِبَادَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي النُّطْفَةِ الْمُهِينَةِ الْحَقِيرَةِ مِنْ الْأَطْوَارِ، وَسَوْقُهَا فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ مَرْتَبَةٍ إلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ وَتَقْوِيمٍ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ وَلَا يُقِيمُهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ حِينِ كَانَ نُطْفَةً إلَى أَنْ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ فِي مَرَاتِبِ كَمَالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ إلَى أَنْ يَصِيرَ جَارَهُ فِي دَارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَيَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُمَا إحْيَاءَانِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِالْآخَرِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِيَاسًا آخَرَ أَنَّ مِنْ الْأَرْضِ مَا يَكُونُ أَرْضًا طَيِّبَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ أَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ أَرْضًا خَبِيثَةً لَا تُخْرِجُ نَبَاتَهَا إلَّا نَكِدًا، أَيْ قَلِيلًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَهَذِهِ إذَا أَنْزَلَ عَلَيْهَا الْمَاءَ لَمْ تُخْرِجْ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْقُلُوبِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِحُصُولِ الْحَيَاةِ بِهَذَا وَهَذَا، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَرْضِ إذْ هِيَ مَحَلُّ الْأَعْمَالِ كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ مَحَلُّ النَّبَاتِ، وَأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُ بِالْوَحْيِ وَلَا يَزْكُو عَلَيْهِ وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَطَرِ وَلَا تُخْرِجُ نَبَاتَهَا بِهِ إلَّا قَلِيلًا لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي آمَنَ بِالْوَحْيِ وَزَكَا عَلَيْهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ كَالْأَرْضِ الَّتِي أَخْرَجَتْ نَبَاتَهَا بِالْمَطَرِ؛ فَالْمُؤْمِنُ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَقَلَهُ وَتَدَبَّرَهُ بَانَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَشُبِّهَ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ الَّذِي يُمْرِعُ وَيُخْصِبُ وَيَحْسُنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أَثَرُ الْمَطَرِ عَلَيْهِ فَيُنْبِتُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْوَحْيِ عَكْسُهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] يَقُولُ سُبْحَانَهُ: إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَلَسْتُمْ تَرْتَابُونَ فِي أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ، وَلَسْتُمْ تَرْتَابُونَ فِي مَبْدَأِ خَلْقِكُمْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إلَى حِينِ الْمَوْتِ، وَالْبَعْثُ الَّذِي وَعُدْتُمْ بِهِ نَظِيرُ النَّشْأَةِ الْأُولَى فَهُمَا نَظِيرَانِ فِي الْإِمْكَانِ وَالْوُقُوعِ، فَإِعَادَتُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ خَلْقًا جَدِيدًا كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى الَّتِي لَا تَرْتَابُونَ فِيهَا، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ إحْدَى النَّشْأَتَيْنِ مَعَ مُشَاهَدَتِكُمْ لِنَظِيرِهَا؟ وَقَدْ أَعَادَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى وَأَبْدَاهُ فِي كِتَابِهِ بِأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ، وَأَدَلِّهَا، وَأَفْصَحِهَا، وَأَقْطَعِهَا لِلْعُذْرِ، وَأَلْزَمِهَا لِلْحُجَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 58 - 60] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] فَدَلَّهُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تَذَّكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ النَّشْأَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم: 46 - 47] وَفِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38] إلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] وَفِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَشَرَةَ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77] فَذَكَّرَهُ مَبْدَأَ خَلْقِهِ لِيَدُلَّهُ بِهِ عَلَى النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْجَاحِدَ لَوْ ذَكَرَ خَلْقَهُ لَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ، بَلْ لَمَّا نَسِيَ خَلْقَهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ؛ فَتَحْتَ قَوْلِهِ: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] أَلْطَفُ جَوَابٍ وَأَبْيَنُ دَلِيلٍ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ جَحَدَك أَنْ تَكُونَ قَدْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا: فُلَانٌ جَحَدَنِي الْإِحْسَانَ إلَيْهِ وَنَسِيَ الثِّيَابَ الَّتِي عَلَيْهِ وَالْمَالَ الَّذِي مَعَهُ وَالدَّارَ الَّتِي هُوَ فِيهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ جَحْدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْك؛ ثُمَّ أُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يَتَضَمَّنُ أَبْلَغَ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ مَا جَحَدَهُ فَقَالَ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] فَهَذَا جَوَابٌ وَاسْتِدْلَالٌ قَاطِعٌ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْإِخْبَارِ بِعُمُومِ عِلْمِهِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ لِقُصُورِ عِلْمِهِ أَوْ قُصُورٍ فِي قُدْرَتِهِ، وَلَا قُصُورَ فِي عِلْمِ مَنْ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، وَلَا قُدْرَةَ فَوْقَ قُدْرَةِ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَكَيْفَ تَعْجِزُ قُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ عَنْ إحْيَائِكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ وَلَمْ نَعْجِزْ عَنْ النَّشْأَةِ الْأُولَى وَلَا عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ مُتَضَمِّنٍ لِلْجَوَابِ عَنْ شُبَهِ الْمُنْكَرِينَ بِأَلْطَفِ الْوُجُوهِ وَأَبْيَنِهَا وَأَقْرَبِهَا إلَى الْعَقْلِ، فَقَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] فَإِذَنْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَمَامِ قُدْرَتِهِ وَإِخْرَاجِ الْأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ كَمَا أَخْرَجَ النَّارَ مِنْ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ. وَفِي ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةِ مَنْ قَالَ مِنْ مُنْكَرِي الْمَعَادِ الْمَوْتُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالْحَيَاةُ طَبْعُهَا الرُّطُوبَةُ وَالْحَرَارَةُ، فَإِذَا حَلَّ الْمَوْتُ بِالْجِسْمِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَحِلَّ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَضَادِّ مَا بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَلِيقُ بِعُقُولِ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ لَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تُجَامِعُ الْمَوْتَ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ لِيَلْزَمَ مَا قَالُوا، بَلْ إذَا أَوْجَدَ اللَّهُ فِيهِ الْحَيَاةَ وَطَبْعَهَا ارْتَفَعَ الْمَوْتُ وَطَبْعُهُ، وَهَذَا الشَّجَرُ الْأَخْضَرُ طَبْعُهُ الرُّطُوبَةُ وَالْبُرُودَةُ تَخْرُجُ مِنْهُ النَّارُ الْحَارَّةُ الْيَابِسَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَوْضَحُ لِلْعُقُولِ مِنْ كُلِّ دَلِيلٍ، وَهُوَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ عِظَمِهَا وَسُمْعَتِهَا وَأَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِلْخَلْقِ الضَّعِيفِ إلَيْهِمَا، وَمَنْ لَمْ تَعْجِزْ قُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ كَيْفَ تَعْجِزُ عَنْ إحْيَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ؟ ثُمَّ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِذِكْرِ وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِهِ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ فَقَالَ: {بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] فَكَوْنُهُ خَلَّاقًا عَلِيمًا يَقْتَضِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ، وَلَا يُعْجِزُهُ مَا أَرَادَهُ مِنْ الْخَلْقِ، ثُمَّ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ عُمُومَ إرَادَتِهِ وَكَمَالِهَا لَا يَقْصُرُ عَنْهُ وَلَا عَنْ شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْصَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ، بَلْ يَأْتِي طَائِعًا مُنْقَادًا لِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، ثُمَّ زَادَهُ تَأْكِيدًا وَإِيضَاحًا بِقَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا نَطَقَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَعَادِ مُعَظِّمًا لَهَا بِأَنَّ مُلْكَ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ الْحَقِّ فِي مَمْلُوكِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَيِّ تَصَرُّفٍ شَاءَهُ فِيهِ، ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] كَمَا أَنَّهُمْ ابْتَدَءُوا مِنْهُ هُوَ فَكَذَلِكَ مَرْجِعُهُمْ إلَيْهِ، فَمِنْهُ الْمَبْدَأُ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ؟ وَأَنَّ إلَى رَبِّك الْمُنْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فَتَأَمَّلْ تَضَمُّنَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - عَلَى اخْتِصَارِهَا وَإِيجَازِهَا وَبَلَاغَتِهَا - لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ رَدًّا يَتَضَمَّنُ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إعَادَتِهِمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَقَالَ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] فَلَمَّا اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعِيدَهُمْ اللَّهُ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ أَنْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا قِيلَ لَهُمْ: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتَ أَوْ السَّمَاءَ أَوْ الْأَرْضَ أَوْ أَيَّ خَلْقٍ اسْتَعْظَمْتُمُوهُ وَكَبُرَ فِي صُدُورِكُمْ، وَمَضْمُونُ الدَّلِيلِ أَنَّكُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ مَقْهُورُونَ عَلَى مَا يَشَاءُ خَالِقُكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِكُمْ مِنْ خِلْقَةٍ إلَى خِلْقَةٍ لَا تَقْبَلُ الِاضْمِحْلَالَ كَالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الْخِلْقَةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لَنَفَذَتْ أَحْكَامِي وَقُدْرَتِي وَمَشِيئَتِي، وَلَمْ تَسْبِقُونِي وَلَمْ تَفُوتُونِي، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ: اصْعَدْ إلَى السَّمَاءِ فَإِنِّي لَاحِقُك؛ أَيْ لَوْ صَعِدْت إلَى السَّمَاءِ لَحِقْتُك، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ أَعْظَمَ خَلْقًا مِنْ ذَلِكَ لَمَا أَعْجَزْتُمُونِي وَلَمَا فُتُّمُونِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ صَوِّرُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَدِّرُوهَا خَلْقًا لَا يَضْمَحِلُّ وَلَا يَنْحَلُ، فَإِنَّا سَنُمِيتُكُمْ ثُمَّ نُحْيِيكُمْ وَنُعِيدُكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّكُمْ لَوْ قَدَرْتُمْ عَلَى نَقْلِ خِلْقَتِكُمْ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ هِيَ أَشَدَّ مِنْهَا وَأَقْوَى لَنَفَذَتْ مَشِيئَتُنَا وَقُدْرَتُنَا فِيكُمْ وَلَمْ تُعْجِزُونَا، فَكَيْفَ وَأَنْتُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَالْمَعْنَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّكُمْ صَوِّرُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَنْزِلُوهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، ثُمَّ اُنْظُرُوا أَتَفُوتُونَا وَتُعْجِزُونَا أَمْ قُدْرَتُنَا وَمَشِيئَتُنَا مُحِيطَةٌ بِكُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ؟ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي لَا تَعْرِضُ فِيهَا شُبْهَةٌ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لَا تَجِدُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ عَنْ الْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ لَهَا بُدًّا، فَلَمَّا عَلِمَ الْقَوْمُ صِحَّةَ هَذَا الْبُرْهَانِ وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ انْتَقَلُوا إلَى الْمُطَالَبَةِ بِمَنْ يُعِيدُهُمْ فَقَالُوا: مَنْ يُعِيدُنَا؟ وَهَذَا سَوَاءٌ كَانَ سُؤَالًا مِنْهُمْ عَنْ تَعْيِينِ الْمُعِيدِ أَوْ إنْكَارًا مِنْهُمْ لَهُ فَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ التَّعَنُّتِ وَأَبْيَنِهِ، وَلِهَذَا كَانَ جَوَابُهُ: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] وَلَمَّا عَلِمَ الْقَوْمُ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ قَاطِعٌ انْتَقَلُوا إلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ التَّعَنُّتِ؛ وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ وَقْتِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ، فَأَنْغَضُوا إلَيْهِ رُءُوسَهُمْ وَقَالُوا: مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فَلْيَتَأَمَّلْ اللَّبِيبُ لُطْفَ مَوْقِعِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَاسْتِلْزَامَهُ لِمَدْلُولِهِ اسْتِلْزَامًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ السُّؤَالَاتِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا أَبْلَغَ جَوَابٍ وَأَصَحَّهُ وَأَوْضَحَهُ، فَلِلَّهِ مَا يَفُوتُ الْمُعْرِضِينَ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الْمُتَعَوَّضِينَ عَنْهُ بِزُبَالَةِ الْأَذْهَانِ وَنُخَالَةِ الْأَفْكَارِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا نَظِيرَ إحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَإِخْرَاجَ النَّبَاتِ مِنْهَا نَظِيرَ إخْرَاجِهِمْ مِنْ الْقُبُورِ، وَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً وَدَلِيلًا عَلَى خَمْسَةِ مَطَالِبَ: أَحَدُهَا: وُجُودُ الصَّانِعِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَفْعَالِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى. الثَّالِثُ: عُمُومُ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. الرَّابِعُ: إتْيَانُ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا لَا رَيْبَ فِيهَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنْ الْقُبُورِ كَمَا أَخْرَجَ النَّبَاتَ مِنْ الْأَرْضِ. وَقَدْ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كِتَابِهِ مِرَارًا؛ لِصِحَّةِ مُقَدَّمَاتِهِ، وَوُضُوحِ دَلَالَتِهِ، وَقُرْبِ تَنَاوُلِهِ، وَبُعْدِهِ مِنْ كُلِّ مُعَارِضَةٍ وَشُبْهَةٍ، وَجَعْلِهِ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] فَالْمُنِيبُ إلَى رَبِّهِ يَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ، فَإِذَا تَذَكَّرَ تَبَصَّرَ بِهِ، فَالتَّذَكُّرُ قَبْلَ التَّبَصُّرِ، وَإِنْ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، وَالتَّذَكُّرُ: تَفَعُّلٌ مِنْ الذِّكْرِ، وَهُوَ حُضُورُ صُورَةٍ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَهُ الْقَلْبُ وَشَاهَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ أَوْجَبَ لَهُ الْبَصِيرَةَ، فَأَبْصَرَ مَا جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَكَانَ فِي حَقِّهِ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى، وَالْهُدَى مَدَارُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: التَّذَكُّرُ، وَالتَّبَصُّرُ وَقَدْ دَعَا سُبْحَانَهُ الْإِنْسَانَ إلَى أَنْ يَنْظُرَ فِي مَبْدَأِ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وَيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَعَادِهِ وَصِدْقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] فَالدَّافِقُ عَلَى بَابِهِ، لَيْسَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُهُمْ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ جَارٍ وَوَاقِفٍ وَسَاكِنٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّلْبِ صُلْبُ الرَّجُلِ، وَاخْتُلِفَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التَّرَائِبِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا تَرَائِبُهُ أَيْضًا، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ مَا بَيْنَ التَّرْقُوَةِ إلَى الثَّنْدُوَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وَلَمْ يَقُلْ يَخْرُجُ مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَاءُ الرَّجُلِ خَارِجًا مِنْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَمَا قَالَ فِي اللَّبَنِ: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66] وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالنُّطْفَةُ هِيَ مَاءُ الرَّجُلِ، كَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالنُّطْفَةُ الْمَاءُ الصَّافِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالنُّطْفَةُ مَاءُ الرَّجُلِ، وَالْجَمْعُ نُطَفٌ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يُوصَفُ بِالدَّفْقِ وَالنَّضْحِ إنَّمَا هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، وَلَا يُقَالُ نَضَحَتْ الْمَرْأَةُ الْمَاءَ وَلَا دَفَقَتْهُ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الْآخَرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: التَّرَائِبُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَهْلُ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدُوا لِامْرِئِ الْقَيْسِ: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ التَّرَائِبِ بِالْمَرْأَةِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّرَائِبُ عِظَامُ الصَّدْرِ مَا بَيْنَ التَّرْقُوَةِ إلَى الثَّنْدُوَةِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَيْ إنَّ اللَّهَ عَلَى رَدِّهِ إلَيْهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَمَنْ قَالَ: " إنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَاءِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى رَجْعِهِ فِي الْإِحْلِيلِ أَوْ فِي الصَّدْرِ أَوْ حَبْسِهِ عَنْ الْخُرُوجِ لَقَادِرٌ " فَقَدْ أَبْعَدَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَأْبَاهُ، وَطَرِيقَةُ الْقُرْآنُ - وَهِيَ الِاسْتِدْلَال بِالْمَبْدَإِ وَالنَّشْأَةِ الْأُولَى عَلَى الْمَعَادِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ - وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِالظَّرْفِ، وَهُوَ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَعَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْظُرَ فِي مَبْدَأِ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّهُ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى مَعَادِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى رَبِّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ نَظَرَهُ فِي إخْرَاجِ طَعَامِهِ مِنْ الْأَرْضِ دَلِيلًا عَلَى إخْرَاجِهِ هُوَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، اسْتِدْلَالًا بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ رَدَّا عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99] أَيْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ الْخَلْقُ الْجَدِيدُ، وَهِيَ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُمْ هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَلَا تَنَافِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ حَقَّ فَهْمِهِ تَخَبَّطَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَعَادِ، وَبَقِيَ مِنْهُ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ؛ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ دَلَّهُمْ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْبَعْثِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ بِضَرْبٍ مِنْ الْأَوْلَى، وَهُوَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، فَالْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْكُمْ أَقْدَرُ عَلَى خَلْقِكُمْ. وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ إعَادَتِهِ، فَلَيْسَ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقِيَامَةِ إلَّا مُجَرَّدُ تَكْذِيبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَتَعْجِيزُ قُدْرَتِهِ، وَنِسْبَةُ عَمَلِهِ إلَى الْقُصُورِ، وَالْقَدَحُ فِي حِكْمَتِهِ؛ وَلِهَذَا يُخْبِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ بِرَبِّهِ، جَاحِدٌ لَهُ، لَمْ يُقِرَّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5] وَقَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ الَّذِي قَالَ: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] فَقَالَ لَهُ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} [الكهف: 37] فَمُنْكِرُ الْمَعَادِ كَافِرٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] يَقُولُ تَعَالَى: اُنْظُرُوا كَيْفَ بَدَأْت الْخَلْقَ؛ فَاعْتَبِرُوا الْإِعَادَةَ بِالِابْتِدَاءِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] . وقَوْله تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] . وَقَوْلُهُ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104] وَالسِّجِلُّ: الْوَرَقُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ، وَالْكِتَابُ: نَفْسُ الْمَكْتُوبِ، وَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عَلَى: أَيْ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ الدُّرْجِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ السُّطُورِ الْمَكْتُوبَةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ فَقَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] [فَصْلٌ قِيَاسُ الشَّبَهِ] ِ وَأَمْثِلَةٌ لَهُ] وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَّا عَنْ الْمُبْطِلِينَ؛ فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِمْ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ وَلَا دَلِيلِهَا، وَإِنَّمَا أَلْحَقُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَامِعٍ سِوَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ، فَقَالُوا: هَذَا مَقِيسٌ عَلَى أَخِيهِ، بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، وَذَاكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بِالشَّبَهِ الْفَارِغِ، وَالْقِيَاسِ بِالصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسَاوِي، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَالتَّسَاوِي فِي قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّسَاوِي فِي السَّرِقَةِ لَوْ كَانَتْ حَقًّا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّسَاوِي فِيهَا؛ فَيَكُونُ الْجَمْعُ لِنَوْعِ شَبَهٍ خَالٍ عَنْ الْعِلَّةِ وَدَلِيلِهَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] فَاعْتُبِرُوا صُورَةَ مُجَرَّدِ الْآدَمِيَّةِ وَشَبَهَ الْمُجَانَسَةِ فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ؛ فَكَمَا لَا نَكُونُ نَحْنُ رُسُلًا فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ، فَإِذَا تَسَاوَيْنَا فِي هَذَا الشَّبَهِ فَأَنْتُمْ مِثْلُنَا لَا مَزِيَّةَ لَكُمْ عَلَيْنَا، وَهَذَا مِنْ أبطل الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ وَجَعْلِ بَعْضِ هَذَا النَّوْعِ شَرِيفًا وَبَعْضَهُ دَنِيًّا، وَبَعْضَهُ مَرْءُوسًا وَبَعْضَهُ رَئِيسًا، وَبَعْضَهُ مَلِكًا وَبَعْضَهُ سُوقَةً، يُبْطِلُ هَذَا الْقِيَاسَ، كَمَا أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] . وَأَجَابَتْ الرُّسُلُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] وَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33] {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] فَاعْتَبَرُوا الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ قِيَاسِ شَبَهٍ وَجَمْعٍ صُورِيٍّ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَمِنْ هَذَا قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ، وَمِنْهُ قِيَاسُهُمْ الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَرْدُودًا مَذْمُومًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ أَشْبَاحٌ وَصُوَرٌ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ مَعْدُومٌ فِيهَا، وَأَنَّهَا لَوْ دُعِيَتْ لَمْ تُجِبْ؛ فَهِيَ صُوَرٌ خَالِيَةٌ عَنْ أَوْصَافٍ وَمَعَانٍ تَقْتَضِي عِبَادَتَهَا، وَزَادَ هَذَا تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] أَيْ أَنَّ جَمِيعَ مَا لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْأَعْضَاءِ الَّتِي نَحَتَتْهَا أَيْدِيكُمْ إنَّمَا هِيَ صُوَرٌ عَاطِلَةٌ عَنْ حَقَائِقِهَا وَصِفَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ الْمُخْتَصَّ بِالرِّجْلِ هُوَ مَشْيُهَا، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الرِّجْلِ؛ وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِالْيَدِ هُوَ بَطْشُهَا وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الْيَدِ؛ وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ إبْصَارُهَا وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ؛ وَمِنْ الْأُذُنِ سَمْعُهَا وَهُوَ مَعْدُومٌ فِيهَا، وَالصُّوَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ثَابِتَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَكُلُّهَا فَارِغَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ الْأَوْصَافِ وَالْمَعَانِي، فَاسْتَوَى وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُدْحِضٌ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ الْخَالِي عَنْ الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ وَالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. [ضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ] وَمِنْ هَذَا مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ؛ فَإِنَّهَا تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِي حُكْمِهِ، وَتَقْرِيبُ الْمَعْقُولِ مِنْ الْمَحْسُوسِ، أَوْ أَحَدُ الْمَحْسُوسَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، وَاعْتِبَارُ أَحَدِهَا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ - أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 18 - 19] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] فَضَرَبَ لِلْمُنَافِقِينَ بِحَسْبِ حَالِهِمْ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا نَارِيًّا، وَمَثَلًا مَائِيًّا، لِمَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ مِنْ الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ وَالْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ النَّارَ مَادَّةُ النُّورِ، وَالْمَاءَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاءِ مُتَضَمِّنًا لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَتِهَا، وَلِهَذَا سَمَّاهُ رُوحًا وَنُورًا، وَجَعَلَ قَابِلِيهِ أَحْيَاءَ فِي النُّورِ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا أَمْوَاتًا فِي الظُّلُمَاتِ، وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الْمُنَافِقِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَظِّهِمْ مِنْ الْوَحْيِ وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَوْقَدَ نَارًا لِتُضِيءَ لَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَاسْتَضَاءُوا بِهِ، وَانْتَفَعُوا بِهِ، وَآمَنُوا بِهِ، وَخَالَطُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصُحْبَتِهِمْ مَادَّةً مِنْ قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ طَفِئَ عَنْهُمْ، وَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ بِنَارِهِمْ؛ فَإِنَّ النَّارَ فِيهَا الْإِضَاءَةُ وَالْإِحْرَاقُ، فَذَهَبَ اللَّهُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْإِضَاءَةِ، وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنْ الْإِحْرَاقِ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، فَهَذَا حَالُ مَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ، وَعَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ فَارَقَهُ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَثَلِ الْمَائِيِّ، فَشَبَّهَهُمْ بِأَصْحَابِ صَيِّبٍ - وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ أَيْ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ - فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَلِضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ وَوَعِيدُهُ وَتَهْدِيدُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَخِطَابُهُ الَّذِي يُشْبِهُ الصَّوَاعِقَ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَصَابَهُ مَطَرٌ فِيهِ ظُلْمَةٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَلِضَعْفِهِ وَخَوْرِهِ جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَغَمَضَ عَيْنَيْهِ خَشْيَةً مِنْ صَاعِقَةٍ تُصِيبُهُ، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا كَثِيرًا مِنْ مَخَانِيثِ تَلَامِيذِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ إذَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِبِدْعَتِهِمْ رَأَيْتُهُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ. وَيَقُولُ مُخَنَّثُهُمْ: سُدُّوا عَنَّا هَذَا الْبَابَ، وَاقْرَءُوا شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَتَرَى قُلُوبَهُمْ مُوَلِّيَةٌ وَهُمْ يَجْمَحُونَ لِثِقَلِ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ شِرْكِهِمْ، إذَا جُرِّدَ لَهُمْ التَّوْحِيدُ وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ النُّصُوصُ الْمُبْطِلَةُ لِشِرْكِهِمْ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى سَدِّ آذَانِهِمْ لَفَعَلُوا، وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَعْدَاءَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَمِعُوا نُصُوصَ الثَّنَاءِ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَصِحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جِدًّا، وَأَنْكَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ؛ وَهَذَا كُلُّهُ شَبَهٌ ظَاهِرٌ، وَمَثَلٌ مُحَقَّقٌ مِنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ بِالْمَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ تَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُمْ. فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الْمَثَلَيْنِ الْمَائِيَّ وَالنَّارِيَّ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17] شَبَّهَ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِحَيَاةِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، فَقَلْبٌ كَبِيرٌ يَسَعُ عِلْمًا عَظِيمًا كَوَادٍ كَبِيرٍ يَسَعُ مَاءً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كَثِيرًا وَقَلْبٌ صَغِيرٌ إنَّمَا يَسَعُ يَحْسِبُهُ كَالْوَادِي الصَّغِيرِ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، وَاحْتَمَلَتْ قُلُوبٌ مِنْ الْهُدَى وَالْعَمَلِ بِقَدَرِهَا؛ وَكَمَا أَنَّ السَّيْلَ إذَا خَالَطَ الْأَرْضَ وَمَرَّ عَلَيْهَا احْتَمَلَ غُثَاءً وَزَبَدًا فَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْعِلْمُ إذَا خَالَطَ الْقُلُوبَ أَثَارَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ لِيُقْلِعَهَا وَيُذْهِبَهَا كَمَا يُثِيرُ الدَّوَاءُ وَقْتَ شُرْبِهِ مِنْ الْبَدَنِ أَخْلَاطَهُ فَيَتَكَدَّرُ بِهَا شَارِبُهُ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ نَفْعِ الدَّوَاءِ، فَإِنَّهُ أَثَارَهَا لِيُذْهِبَ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُهَا وَلَا يُشَارِكُهَا؛ وَهَكَذَا يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ النَّارِيَّ فَقَالَ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17] وَهُوَ الْخَبَثُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ سَبْكِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ فَتُخْرِجُهُ النَّارُ وَتُمَيِّزُهُ وَتَفْصِلُهُ عَنْ الْجَوْهَرِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُرْمَى وَيُطْرَحُ وَيَذْهَبُ جُفَاءً؛ فَكَذَلِكَ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ يَرْمِيهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَيَطْرَحُهَا وَيَجْفُوهَا كَمَا يَطْرَحُ السَّيْلُ وَالنَّارُ ذَلِكَ الزَّبَدَ وَالْغُثَاءَ وَالْخَبَثَ، وَيَسْتَقِرُّ فِي قَرَارِ الْوَادِي الْمَاءُ الصَّافِي الَّذِي يَسْتَقِي مِنْهُ النَّاسُ وَيَزْرَعُونَ وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ، كَذَلِكَ يَسْتَقِرُّ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ وَجَذْرِهِ الْإِيمَانُ الْخَالِصُ الصَّافِي الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ؛ وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُمَا وَيَعْرِفْ مَا يُرَادُ مِنْهُمَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِمَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] شَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ فَتَرُوقُهُ بِزِينَتِهَا وَتُعْجِبُهُ فَيَمِيلُ إلَيْهَا وَيَهْوَاهَا اغْتِرَارًا مِنْهُ بِهَا، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا قَادِرٌ عَلَيْهَا سُلِبَهَا بَغْتَةً أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهَا، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَشَبَّهَهَا بِالْأَرْضِ الَّتِي يَنْزِلُ الْغَيْثُ عَلَيْهَا فَتُعْشِبُ وَيَحْسُنُ نَبَاتُهَا وَيَرُوقُ مَنْظَرُهَا لِلنَّاظِرِ، فَيَغْتَرَّ بِهِ، وَيَظُنَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا، مَالِكٌ لَهَا، فَيَأْتِيهَا أَمْرُ اللَّهِ فَتُدْرِكُ نَبَاتَهَا الْآفَةُ بَغْتَةً، فَتُصْبِحُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَيَخِيبُ ظَنُّهُ، وَتُصْبِحُ يَدَاهُ صِفْرًا مِنْهَا: فَكَذَا حَالُ الدُّنْيَا وَالْوَاثِقُ بِهَا سَوَاءٌ؛ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ التَّشْبِيهِ وَالْقِيَاسِ، وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا عُرْضَةً لِهَذِهِ الْآفَاتِ، وَالْجَنَّةُ سَلِيمَةً مِنْهَا قَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] فَسَمَّاهَا هُنَا دَارَ السَّلَامِ لِسَلَامَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الدُّنْيَا، فَعَمَّ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهَا، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ يَشَاءُ، فَذَاكَ عَدْلُهُ وَهَذَا فَضْلُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24] فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْكُفَّارَ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِخْبَاتِ إلَى رَبِّهِمْ، فَوَصَفَهُمْ بِعُبُودِيَّةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَجَعَلَ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ مِنْ حَيْثُ كَانَ قَلْبُهُ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ أَصَمَّ عَنْ سَمَاعِهِ؛ فَشَبَّهَهُ بِمَنْ بَصَرُهُ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ وَسَمْعُهُ أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ بَصِيرُ الْقَلْبِ سَمِيعُهُ، كَبَصِيرِ الْعَيْنِ وَسَمِيعِ الْأُذُنِ؛ فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ قِيَاسَيْنِ وَتَمْثِيلَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ نَفَى التَّسْوِيَةَ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [هود: 24] . وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَهُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي ضَعْفِهِمْ وَمَا قَصَدُوهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ كَالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَهُوَ أَوْهَنُ الْبُيُوتِ وَأَضْعَفُهَا؛ وَتَحْتَ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَضْعَفُ مَا كَانُوا حِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ فَلَمْ يَسْتَفِيدُوا بِمَنْ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ إلَّا ضَعْفًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81] {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ - لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75] . وَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إهْلَاكَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يَتَعَزَّزُ بِهِ وَيَتَكَبَّرُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ إلَّا ضِدُّ مَقْصُودِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثَالِ وَأَدَلِّهَا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَخَسَارَةِ صَاحِبِهِ وَحُصُولِهِ عَلَى ضِدِّ مَقْصُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَيْفَ نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ عِلْمَهُمْ بِوَهَنِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَإِنَّمَا نَفَى عَنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عِلْمَهُمْ بِأَنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ كَالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا فَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ الْأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ يُفِيدُهُمْ عِزًّا، وَقُدْرَةً، فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوهُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39 - 40] . ذَكَرَ سُبْحَانَهُ لِلْكَافِرِينَ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا بِالسَّرَابِ، وَمَثَلًا بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ الْهُدَى وَالْحَقِّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ خِلَافَ مَا كَانَ يَظُنُّهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَعِلْمٍ، فَإِذَا انْكَشَفَتْ الْحَقَائِقُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّ عَقَائِدَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا كَانَتْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يُرَى فِي عَيْنِ النَّاظِرِ مَاءً وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَكَذَا الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ، يَحْسَبُهَا الْعَامِلُ نَافِعَةً لَهُ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَتَأَمَّلْ جَعْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ السَّرَابَ بِالْقِيعَةِ - وَهِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ الْخَالِيَةُ مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْعَالَمِ - فَمَحَلُّ السَّرَابِ أَرْضُ قَفْرٍ لَا شَيْءَ بِهَا، وَالسَّرَابُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مُطَابِقٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الَّتِي أَقْفَرَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى. وَتَأَمَّلْ مَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] وَالظَّمْآنُ الَّذِي قَدْ اشْتَدَّ عَطَشُهُ فَرَأَى السَّرَابَ فَظَنَّهُ مَاءً فَتَبِعَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بَلْ خَانَهُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ، لَمَّا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَلِغَيْرِ اللَّهِ جُعِلَتْ كَالسَّرَابِ، فَرَفَعَتْ لَهُمْ أَظْمَأَ مَا كَانُوا وَأَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، وَوَجَدُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ ثَمَّ؛ فَجَازَاهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَوَفَّاهُمْ حِسَابَهُمْ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ «ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا السَّرَابُ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ بْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ بْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ: فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 حَالُ كُلِّ صَاحِبِ بَاطِلٍ، فَإِنَّهُ يَخُونُهُ بَاطِلُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ كَاسْمِهِ بَاطِلٌ؛ فَإِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَا حَقٍّ كَانَ مُتَعَلَّقُهُ بَاطِلًا؛ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ غَايَةُ الْعَمَلِ بَاطِلَةً - كَالْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ - بَطَلَ الْعَمَلُ بِبُطْلَانِ غَايَتِهِ، وَتَضَرَّرَ عَامِلُهُ بِبُطْلَانِهِ، وَبِحُصُولِ ضِدِّ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ، فَلَمْ يَذْهَبْ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَاعْتِقَادُهُ، لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، بَلْ صَارَ مُعَذَّبًا بِفَوَاتِ نَفْعِهِ، وَبِحُصُولِ ضِدِّ النَّفْعِ؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] فَهَذَا مَثَلُ الضَّالِّ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى. فَصْلٌ وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَصْحَابٌ مَثَلُ الظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَالْهُدَى، وَآثَرُوا عَلَيْهِ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ، فَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةُ الطَّبْعِ وَظُلْمَةُ النُّفُوسِ وَظُلْمَةُ الْجَهْلِ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ فَصَارُوا جَاهِلِينَ، وَظُلْمَةُ اتِّبَاعِ الْغَيِّ وَالْهَوَى، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ لَا سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ غَشِيَهُ مَوْجٌ وَمِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ مَوْجٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ مُظْلِمٌ، فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ الْمَوْجِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ الَّتِي لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّهُ مِنْهَا إلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَهَذَانِ الْمَثَلَانِ بِالسَّرَابِ الَّذِي ظَنَّهُ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالظُّلُمَاتُ الْمُضَادَّةُ لِلنُّورِ نَظِيرُ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَائِيُّ وَالْمَثَلُ النَّارِيُّ، وَجَعَلَ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمَا الْحَيَاةَ وَالْإِشْرَاقَ وَحَظَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمَا الظُّلْمَةَ الْمُضَادَّةَ لِلنُّورِ وَالْمَوْتَ الْمُضَادَّ لِلْحَيَاةِ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ فِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ، حَظُّهُمْ مِنْ الْمَاءِ السَّرَابُ الَّذِي يَغُرُّ النَّاظِرَ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَحَظُّهُمْ الظُّلُمَاتُ الْمُتَرَاكِمَةُ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ حَالُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ عَدِمُوا مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَالْإِضَاءَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الْوَحْيِ؛ فَيَكُونُ الْمَثَلَانِ صِفَتَيْنِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَنْوِيعُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ هُمْ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَحُسْنِ ظَنٍّ بِالْأَسْلَافِ، فَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَأَصْحَابُ الْمَثَلِ الثَّانِي هُمْ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَآثَرُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَبْصَرُوهُ، وَجَحَدُوهُ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوهُ، فَهَذَا حَالُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوَّلُ حَالُ الضَّالِّينَ؛ وَحَالُ الطَّائِفَتَيْنِ مُخَالِفٌ لِحَالِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} [النور: 35] إلَى قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38] فَتَضَمَّنَتْ الْآيَاتُ أَوْصَافَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ: الْمُنْعَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ النُّورِ، وَالضَّالِّينَ وَهُمْ أَصْحَابُ السَّرَابِ، وَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَالْمَثَلُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَثَلَيْنِ لِأَصْحَابِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالْمَثَلُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكِلَاهُمَا مُضَادٌّ لِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا مَثَّلَ حَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْعُلُومِ الْفَاسِدَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فِيهِ، وَأَنَّهَا أَمْوَاجٌ مُتَرَاكِمَةٌ مِنْ فَوْقِهَا سَحَابٌ مُظْلِمٌ، وَهَكَذَا أَمْوَاجُ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ فِي قُلُوبِهِمْ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا سُحُبُ الْغَيِّ وَالْهَوَى وَالْبَاطِلِ، فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلْيُطَابِقْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَثَلَيْنِ، يَعْرِفْ عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتَهُ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نُورًا، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى الظُّلْمَةِ الَّتِي خُلِقُوا فِيهَا فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْهَا إلَى النُّورِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ» فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، فَمَنْ أَرَادَ هِدَايَتَهُ جَعَلَ لَهُ نُورًا وُجُودِيًّا يُحْيِي بِهِ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ كَمَا يُحْيِي بَدَنَهُ بِالرُّوحِ الَّتِي يَنْفُخُهَا فِيهِ، فَهُمَا حَيَاتَانِ: حَيَاةُ الْبَدَنِ بِالرُّوحِ، وَحَيَاةُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ بِالنُّورِ، وَلِهَذَا سَمَّى سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ رُوحًا لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فَجَعَلَ وَحَيَّهُ رُوحًا وَنُورًا، فَمَنْ لَمْ يُحْيِهِ بِهَذَا الرُّوحِ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا مِنْهُ فَهُوَ فِي الظُّلُمَاتِ مَا لَهُ مِنْ نُورٍ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] فَشَبَّهَ أَكْثَرَ النَّاسِ بِالْأَنْعَامِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ التَّسَاوِي فِي عَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَجَعَلَ الْأَكْثَرِينَ أَضَلَّ سَبِيلًا مِنْ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ يَهْدِيهَا سَائِقُهَا فَتَهْتَدِي وَتَتْبَعُ الطَّرِيقَ، فَلَا تَحِيدُ عَنْهَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَالْأَكْثَرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يَدْعُوهُمْ الرُّسُلُ وَيُهْدُونَهُمْ السَّبِيلَ فَلَا يَسْتَجِيبُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَضُرُّهُمْ وَبَيْنَ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْأَنْعَامُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَضُرُّهَا مِنْ النَّبَاتِ وَالطَّرِيقِ فَتَجْتَنِبُهُ وَمَا يَنْفَعُهَا فَتُؤْثِرُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ لِلْأَنْعَامِ قُلُوبًا تَعْقِلُ بِهَا، وَلَا أَلْسِنَةً تَنْطِقُ بِهَا، وَأَعْطَى ذَلِكَ لِهَؤُلَاءِ ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، فَهُمْ أَضَلُّ مِنْ الْبَهَائِمِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الطَّرِيقِ مَعَ الدَّلِيلِ إلَيْهِ أَضَلُّ وَأَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ لَا يَهْتَدِي حَيْثُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] وَهَذَا دَلِيلُ قِيَاسٍ احْتَجَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَمِلْكِهِ شُرَكَاءَ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً يَعْرِفُونَ صِحَّتَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَبْلَغِ الْحِجَاجِ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ، مُقَرَّرٌ عِنْدَهَا، مَعْلُومٌ لَهَا، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ شُرَكَاءَ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ؟ أَيْ هَلْ يُشَارِكُكُمْ عَبِيدُكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَيُشَاطِرُوكُمْ إيَّاهَا، وَيَسْتَأْثِرُونَ بِبَعْضِهَا عَلَيْكُمْ، كَمَا يَخَافُ الشَّرِيكُ شَرِيكَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالْمَعْنَى هَلْ يَرْضَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكَهُ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يَنْفَرِدَ فِي مَالِهِ بِأَمْرٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَخَافُ غَيْرَهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَحْرَارِ؟ فَإِذَا لَمْ تَرْضَوْا ذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ فَلِمَ عَدَلْتُمْ بِي مِنْ خَلْقِي مَنْ هُوَ مَمْلُوكٌ لِي؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ بَاطِلًا فِي فِطَرِكُمْ وَعُقُولِكُمْ - مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَيْكُمْ مُمْكِنٌ فِي حَقِّكُمْ؛ إذْ لَيْسَ عَبِيدُكُمْ مِلْكًا لَكُمْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُمْ إخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، وَأَنْتُمْ وَهُمْ عَبِيدٌ لِي - فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّي، مَعَ أَنَّ مَنْ جَعَلْتُمُوهُمْ لِي شُرَكَاءَ عَبِيدِي وَمِلْكِي وَخَلْقِي؟ فَهَكَذَا يَكُونُ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لِأُولِي الْعُقُولِ [فَصْلٌ قِيَاسِ الْعَكْسِ] فَصْلٌ [مَثَلٌ مِنْ قِيَاسِ الْعَكْسِ] وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 هَذَانِ مَثَلَانِ مُتَضَمِّنَانِ قِيَاسَيْنِ مِنْ قِيَاسِ الْعَكْسِ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ لِنَفْيِ عِلَّتِهِ وَمُوجِبِهِ، فَإِنْ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ: قِيَاسُ طَرْدٍ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ؛ وَقِيَاسُ عَكْسٍ يَقْتَضِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْفَرْعِ لِنَفْيِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ؛ فَالْمَثَلُ الْأَوَّلُ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْأَوْثَانِ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُ كَيْف يَشَاءُ عَلَى عَبِيدِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَلَيْلًا وَنَهَارًا يَمِينُهُ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةُ سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْأَوْثَانُ مَمْلُوكَةٌ عَاجِزَةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَكَيْف يَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِي وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِي مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ وَالْفَرْقِ الْمُبِينِ؟ هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ؛ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَيْرِ الَّذِي عِنْدَهُ ثُمَّ رَزَقَهُ مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْكَافِرُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عَاجِزٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَسْتَوِي الرَّجُلَانِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ؟ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالْمُرَادِ، فَإِنَّهُ أَظْهَرُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَأَوْضَحُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَأَعْظَمُ فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَأَقْرَبُ نَسَبًا بِقَوْلِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْمِثْلِ وَأَحْكَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ كَمِنْ رَزَقَهُ مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَالْكَافِرُ الْمُشْرِكُ كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَهَذَا مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ وَأَرْشِدْ إلَيْهِ، فَذَكَره ابْنُ عَبَّاسٍ مُنَبِّهًا عَلَى إرَادَتِهِ لَا أَنَّ الْآيَةَ اخْتَصَّتْ بِهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّك تَجِدْهُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَيُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا غَيْرُهُ فَيَحْكِيه قَوْلُهُ. فَصْلٌ. وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ أَيْضًا فَالصَّنَمُ الَّذِي يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَبْكَمَ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَنْطِقُ، بَلْ هُوَ أَبْكَمُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، قَدْ عَدِمَ النُّطْقَ الْقَلْبِيَّ وَاللِّسَانِيَّ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَمَعَ هَذَا فَأَيْنَمَا أَرَسْلَتَهُ لَا يَأْتِيَك بِخَيْرٍ، وَلَا يَقْضِي لَك حَاجَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ، يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ وَالْحَمْدِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ بِالْعَدْلِ - وَهُوَ الْحَقُّ - يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالَمٌ بِهِ، مُعَلِّمٌ لَهُ، رَاضٍ بِهِ، آمِرٌ لِعِبَادِهِ بِهِ، مُحِبٌّ لِأَهْلِهِ، لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يَأْمُرُ بِسِوَاهُ، بَلْ تَنَزَّهَ عَنْ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ وَالسَّفَهُ وَالْبَاطِلُ، بَلْ أَمْرُهُ وَشَرْعُهُ عَدْلٌ كُلُّهُ، وَأَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَهُمْ الْمُجَاوِرُونَ لَهُ عَنْ يَمِينِهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، وَأَمْرُهُ بِالْعَدْلِ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الدِّينِيَّ وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَكِلَاهُمَا عَدْلٌ لَا جَوْرَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِي حُكْمُك، عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك» فَقَضَاؤُهُ هُوَ أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ. فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقْضِيِّ الْمُقَدَّرِ مَا هُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ فَالْقَضَاءُ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَالْقَدَرُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] فَقَوْلُهُ: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] نَظِيرُ قَوْلِهِ: «نَاصِيَتِي بِيَدِك» وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] نَظِيرُ قَوْلِهِ: «عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك» . فَالْأَوَّلُ مُلْكُهُ، وَالثَّانِي حَمْدُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَحِكْمَةٌ وَعَدْلٌ؛ فَهُوَ عَلَى الْحَقِّ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَلَا يَقْضِي عَلَى الْعَبْدِ بِمَا يَكُونُ ظَالِمًا لَهُ بِهِ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ، وَلَا يَنْقُصُهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَلَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهَا شَيْئًا، وَلَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَا يَفْعَلُ قَطُّ مَا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْعَوَاقِبُ الْحَمِيدَةُ، وَالْغَايَاتُ الْمَطْلُوبَةُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] يَقُولُ: إنَّ رَبِّي عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، يُجَازِي الْمُحْسِنَ مِنْ خَلْقِهِ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ لَهُ، وَالْإِيمَانَ بِهِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ طَرِيقِ شِبْلِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] قَالَ: الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ، فَإِنَّ كَوْنَهُ بِالْمِرْصَادِ هُوَ مُجَازَاةُ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: إنَّ رَبِّي يَحُثُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَحُضُّكُمْ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي أُرِيدَ بِهَا فَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ، وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ آمِرًا بِالْعَدْلِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 مُسْتَقِيمٍ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ حَثَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ جُمْلَةِ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَدْ أَصَابُوا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: مَعْنَى كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَنَّ مَرَدَّ الْعِبَادِ وَالْأُمُورِ كُلِّهَا إلَى اللَّهِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ فَهُوَ حَقٌّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: مَعْنَاهُ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ وَفِي مِلْكِهِ وَقَبْضَتِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ فَرَّقَ شُعَيْبٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] فَهُمَا مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْعَرَبِيَّةُ غَيْرَهُ إلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ؛ وَقَالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ صِرَاطُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ هُوَ مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ؛ فَصِرَاطُهُ الَّذِي هُوَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ حَمْدُهُ وَكَمَالُهُ وَمَجْدُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَفِعْلِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَانٍ مِثْلُ الْآيَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ، أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي تَشْبِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كَلَامِهِ وَتَدَبُّرِهِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 50] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] شَبَّهَهُمْ فِي إعْرَاضِهِمْ وَنُفُورِهِمْ عَنْ الْقُرْآنِ بِحُمُرٍ رَأَتْ الْأَسَدَ أَوْ الرُّمَاةَ فَفَرَّتْ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ فِي جَهْلِهِمْ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَالْحُمُرِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا، فَإِذَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْأَسَدِ أَوْ الرَّمْيِ نَفَرَتْ مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ، وَهَذَا غَايَةُ الذَّمِّ لِهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ نَفَرُوا عَنْ الْهُدَى الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَحَيَاتُهُمْ كَنُفُورِ الْحُمُرِ عَنْ مَا يُهْلِكُهَا وَيَعْقِرُهَا، وَتَحْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الْمُسْتَنْفِرَةِ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ النَّافِرَةِ؛ فَإِنَّهَا لِشِدَّةِ نُفُورِهَا قَدْ اسْتَنْفَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَضَّهُ عَلَى النُّفُورِ، فَإِنَّ فِي الِاسْتِفْعَالِ مِنْ الطَّلَبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَكَأَنَّهَا تَوَاصَتْ بِالنُّفُورِ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْفَاءِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَسْوَرَةَ اسْتَنْفَرَهَا وَحَمَلَهَا عَلَى النُّفُورِ بِبَأْسِهِ وَشِدَّتِهِ. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] فَقَاسَ مَنْ حَمَّلَهُ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ وَيَتَدَبَّرَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ ثُمَّ خَالَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ إلَّا عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ، فَقِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَهُّمٍ وَلَا اتِّبَاعٍ وَلَا تَحْكِيمٍ لَهُ وَعَمَلٍ بِمُوجِبِهِ، كَحِمَارٍ عَلَى ظَهْرِهِ زَامِلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا حَمْلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ لَيْسَ إلَّا؛ فَحَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَحَظِّ هَذَا الْحِمَارِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ؛ فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176] فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَنْ آتَاهُ كِتَابَهُ وَعَلَّمَهُ الْعِلْمَ الَّذِي مَنَعَهُ غَيْرَهُ، فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَآثَرَ سَخَطَ اللَّهِ عَلَى رِضَاهُ، وَدُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، وَالْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ؛ بِالْكَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَخْبَثِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَوْضَعِهَا قَدْرًا، وَأَخَسِّهَا نَفْسًا، وَهِمَّتُهُ لَا تَتَعَدَّى بَطْنُهُ، وَأَشَدُّهَا شَرُّهَا وَحِرْصًا، وَمِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَا يَمْشِي إلَّا وَخَطْمُهُ فِي الْأَرْضِ يَتَشَمَّمُ وَيَسْتَرْوِحُ حِرْصًا وَشَرَهًا، وَلَا يَزَالُ يَشُمُّ دُبُرَهُ دُونَ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِذَا رَمَيْت إلَيْهِ بِحَجَرٍ رَجَعَ إلَيْهِ لِيَعَضَّهُ مِنْ فَرَطَ نَهْمَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَمْهَنِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَحْمَلِهَا لِلْهَوَانِ، وَأَرْضَاهَا بِالدَّنَايَا، وَالْجِيَفُ الْقَذِرَةُ الْمُرَوِّحَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، وَالْعُذْرَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْحَلْوَى، وَإِذَا ظَفِرَ بِمَيْتَةٍ تَكْفِي مِائَةَ كَلْبٍ لَمْ يَدَعْ كَلْبًا وَاحِدًا يَتَنَاوَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مِنْهَا شَيْئًا إلَّا هَرَّ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ لِحِرْصِهِ وَبُخْلِهِ وَشَرَهِهِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ وَحِرْصِهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ رَثَّةٍ وَثِيَابٍ دَنِيَّةٍ وَحَالٍ زَرِيَّةٍ نَبَحَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ مُشَارَكَتَهُ لَهُ وَمُنَازَعَتَهُ فِي قَوْلَتِهِ، وَإِذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَثِيَابٍ جَمِيلَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَضَعَ لَهُ خَطْمَهُ بِالْأَرْضِ، وَخَضَعَ لَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَهُ. وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا وَعَاجِلَهَا عَلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِ بِالْكَلْبِ فِي حَالِ لَهَثِهِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَالُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ انْسِلَاخِهِ مِنْ آيَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ هَوَاهُ إنَّمَا كَانَ لِشِدَّةِ لَهَفِهِ عَلَى الدُّنْيَا لِانْقِطَاعِ قَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ شَدِيدُ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، وَلَهَفُهُ نَظِيرُ لَهَفِ الْكَلْبِ الدَّائِمِ فِي حَالِ إزْعَاجِهِ وَتَرْكِهِ، وَاللَّهَفُ وَاللَّهَثُ شَقِيقَانِ وَأَخَوَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، فَهُوَ مَثَلُ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ؛ قُلْت: مُرَادُهُ بِانْقِطَاعِ فُؤَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ وَتَرْكِ اللَّهَثِ؛ وَهَكَذَا الَّذِي انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْ الدُّنْيَا وَتَرْكِ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْهَفُ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَهَذَا يَلْهَثُ مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْ الْمَاءِ، فَالْكَلْبُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيَوَانَاتِ صَبْرًا عَنْ الْمَاءِ، وَإِذَا عَطِشَ أَكَلَ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْجُوعِ؛ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانَاتِ لَهَثًا، يَلْهَثُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَوَاقِفًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ؛ فَحَرَارَةُ الْحِرْصِ فِي كَبِدِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَثِ، فَهَكَذَا مُشْبِهُهُ شِدَّةُ الْحِرْصِ وَحَرَارَةُ الشَّهْوَةِ فِي قَلْبِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَفِ، فَإِنْ حَمَلْت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةَ وَالنَّصِيحَةَ فَهُوَ يَلْهَفُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ وَلَمْ تَعِظْهُ فَهُوَ يَلْهَفُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ مَثَلُ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى خَيْرٍ، كَالْكَلْبِ إنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ طُرِدَ لَهَثَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ، دُعِيَ أَوْ لَمْ يُدْعَ، وُعِظَ أَوْ لَمْ يُوعَظْ، كَالْكَلْبِ يَلْهَثُ طُرِدَ أَوْ تُرِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَنْبَحُ إنْ حَمَلْت عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إلَّا الْكَلْبَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ وَحَالِ الرَّاحَةِ وَحَالِ الصِّحَّةِ وَحَالِ الْمَرَضِ وَالْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، وَقَالَ: إنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ كَالْكَلْبِ إنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ وَإِنْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ لَهَثَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى: فَمِنْهَا قَوْلُهُ: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ، وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] أَيْ خَرَجَ مِنْهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا، وَفَارَقَهَا فِرَاقَ الْجِلْدِ يُسْلَخُ عَنْ اللَّحْمِ، وَلَمْ يَقُلْ فَسَلَخْنَاهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 175] أَيْ لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] وَكَانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا بِآيَاتِ اللَّهِ، مَحْمِيَّ الْجَانِبِ بِهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، لَا يَنَالُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا عَلَى غِرَّةٍ وَخَطْفَةٍ، فَلَمَّا انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ظَفِرَ بِهِ الشَّيْطَانُ ظَفْرَ الْأَسَدِ بِفَرِيسَتِهِ، فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ الْعَامِلِينَ بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، كَعُلَمَاءِ السُّوءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ وَقَصْدِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَعْلَمْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ بِهِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ عَبْدَهُ إذَا شَاءَ بِمَا آتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ بِهِ رَأْسًا، فَإِنَّ الْخَافِضَ الرَّافِعَ سُبْحَانَهُ خَفَضَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ شِئْنَا فَضَّلْنَاهُ وَشَرَّفْنَاهُ وَرَفَعْنَا قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِعَمَلِهِ بِهَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {لَرَفَعْنَاهُ} [الأعراف: 176] عَائِدٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِمَا مَعَهُ مِنْ آيَاتِنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ وَعَصَمْنَاهُ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ، وَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْمُرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ كَثِيرًا مَا يُنَبِّهُونَ عَلَى لَازِمِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا: وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَكَنَ إلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَكَنَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَضِيَ بِالدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَزِمَهَا وَأَبْطَأَ، وَالْمُخْلِدُ مِنْ الرِّجَالِ: هُوَ الَّذِي يُبْطِئُ مِشْيَتَهُ، وَمِنْ الدَّوَابِّ: الَّتِي تَبْقَى ثَنَايَاهُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ رُبَاعِيَّتُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَدَ وَأَخْلَدَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْبَقَاءُ، وَيُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ، إذَا أَقَامَ بِهِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ ... وَعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا قُلْت: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] أَيْ قَدْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ؛ لِذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُونَ وَلَا يَكْبَرُونَ، وَهُمْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا؛ وَقِيلَ: هُمْ الْمُقَرَّطُونَ فِي آذَانِهِمْ وَالْمُسَوَّرُونَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَسَّرُوا اللَّفْظَةَ بِبَعْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 لَوَازِمِهَا، وَذَلِكَ أَمَارَةُ التَّخْلِيدِ عَلَى ذَلِكَ السِّنِّ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] قَالَ الْكَلْبِيُّ: اتَّبَعَ مَسَافِلَ الْأُمُورِ وَتَرَكَ مَعَالِيَهَا، وَقَالَ أَبُو وَرَقٍ: اخْتَارَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ الدُّنْيَا وَأَطَاعَ شَيْطَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْقَوْمِ يَعْنِي الَّذِينَ حَارَبُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَقَالَ يَمَانٌ: اتَّبَعَ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى مَا فَعَلَ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْرَاكُ بِلَكِنَّ يَقْتَضِي أَنْ يُثْبِتَ بَعْدَهَا مَا نَفَى قَبْلَهَا، أَوْ يَنْفِيَ مَا أَثْبَتَ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ شِئْت لَأَعْطَيْتُهُ لَكِنِّي لَمْ أُعْطِهِ، وَلَوْ شِئْت لَمَا فَعَلْت كَذَا لَكِنِّي فَعَلْتُهُ؛ فَالِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ أَوْ لَمْ نَرْفَعْ، فَكَيْفَ اسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] ؟ قِيلَ: هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْمَلْحُوظِ فِيهِ جَانِبُ الْمَعْنَى الْمَعْدُولِ فِيهِ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَقْتَضِي رَفْعَهُ بِالْآيَاتِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَلَكِنَّهُ آثَرَ الدُّنْيَا وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى وَلَوْ لَزِمَ آيَاتِنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، فَذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمُرَادُ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَمُسَبَّبَةٌ عَنْهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ لَزِمَهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، قَالَ: أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} [الأعراف: 176] فَاسْتَدْرَكَ الْمَشِيئَةَ بِإِخْلَادِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ {وَلَوْ شِئْنَا} [الأعراف: 176] فِي مَعْنَى مَا هُوَ فِعْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ، فَهَذَا مِنْهُ شِنْشِنَةٌ نَعْرِفُهَا مِنْ قَدَرِيٍّ نَافٍ لِلْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ مُبْعِدٍ لِلنُّجْعَةِ فِي جَعْلِ كَلَامِ اللَّهِ مُعْتَزِلِيًّا قَدَرِيًّا، فَأَيْنَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ شِئْنَا} [الأعراف: 176] مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَوْ لَزِمَهَا " ثُمَّ إذَا كَانَ اللُّزُومُ لَهَا مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْحَقُّ بَطَلَ أَصْلُهُ. وَقَوْلُهُ: " إنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الْآيَاتِ " مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ وَأَبْطَلَهُ، بَلْ لُزُومُهُ لِآيَاتِهِ تَابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَتْبُوعَةٌ، لَا تَابِعَةٌ، وَسَبَبٌ لَا مُسَبَّبٌ، وَمُوجِبٌ مُقْتَضٍ لَا مُقْتَضًى، فَمَا شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ وُجُودُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ امْتَنَعَ وُجُودُهُ [فَصْلٌ مِثْل مِنْ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ] وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّهُ شَبَّهَ تَمْزِيقَ عِرْضِ الْأَخِ بِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ يُمَزِّقُ عِرْضَ أَخِيهِ فِي غِيبَتِهِ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْطَعُ لَحْمَهُ فِي حَالِ غِيبَةِ رُوحِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ ذَمِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُقَطَّعُ لَحْمُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّنَاصُرَ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا الْمُغْتَابُ ضِدَّ مُقْتَضَاهَا مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالطَّعْنِ كَانَ ذَلِكَ نَظِيرَ تَقْطِيعِ لَحْمِ أَخِيهِ، وَالْأُخُوَّةُ تَقْتَضِي حِفْظَهُ وَصِيَانَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُتَمَتِّعًا بِعَرْضِ أَخِيهِ مُتَفَكِّهًا بِغِيبَتِهِ وَذَمِّهِ مُتَحَلِّيًا بِذَلِكَ شُبِّهَ بِآكِلِ لَحْمِ أَخِيهِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُحِبًّا لِذَلِكَ مُعْجَبًا بِهِ شُبِّهَ بِمَنْ يُحِبُّ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا، وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ أَكْلِهِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَمْزِيقِهِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ وَحُسْنَ مَوْقِعِهِ وَمُطَابِقَةَ الْمَعْقُولِ فِيهِ الْمَحْسُوسَ، وَتَأَمَّلْ إخْبَارَهُ عَنْهُمْ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ مَيْتًا، وَوَصْفَهُمْ بِذَلِكَ فِي آخَرِ الْآيَةِ، وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهَا أَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي طِبَاعِهِمْ فَكَيْفَ يُحِبُّونَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ: فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَرِهُوهُ عَلَى مَا أَحَبُّوهُ، وَشَبَّهَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْهُ؛ فَلِهَذَا يُوجِبُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَمَّا هُوَ نَظِيرُهُ وَمُشْبِهُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] . فَشَبَّهَ تَعَالَى أَعْمَالَ الْكُفَّارِ فِي بُطْلَانِهَا وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِرَمَادٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؛ فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ فِي حُبُوطِهَا وَذَهَابِهَا بَاطِلًا كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ لِكَوْنِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاس مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَكَوْنِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَلَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَقْتَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ وَلَا فَائِدَةٍ نَافِعَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ، وَالْأَعْمَالُ أَرْبَعَةٌ، فَوَاحِدٌ مَقْبُولٌ وَثَلَاثُهُ مَرْدُودَةٌ؛ فَالْمَقْبُولُ الْخَالِصُ الصَّوَابُ، فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالثَّلَاثَةُ الْمَرْدُودَةُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ. وَفِي تَشْبِيهِهَا بِالرَّمَادِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ لِلتَّشَابُهِ الَّذِي بَيْنَ أَعْمَالِهِمْ وَبَيْنَ الرَّمَادِ فِي إحْرَاقِ النَّارِ وَإِذْهَابِهَا لِأَصْلِ هَذَا وَهَذَا، فَكَانَتْ الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ طُعْمَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لِلنَّارِ، وَبِهَا تُسْعَرُ النَّارُ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَيُنْشِئُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الْبَاطِلَةِ نَارًا وَعَذَابًا، كَمَا يُنْشِئُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الَّتِي هِيَ خَالِصَةٌ لِوَجْهِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ نَعِيمًا وَرُوحًا، فَأَثَّرَتْ النَّارُ فِي أَعْمَالِ أُولَئِكَ حَتَّى جَعَلَتْهَا رَمَادًا، فَهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وُقُودُ النَّارِ. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَالشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الثَّمَرَ النَّافِعَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ " الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهَا تُثْمِرُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرَضِيٍّ لِلَّهِ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يَقُولُ يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إلَى السَّمَاءِ ". وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: " كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ هَذَا مَثَلُ الْإِيمَانِ؛ فَالْإِيمَانُ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ. وَأَصْلُهَا الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ الْإِخْلَاصُ فِيهِ، وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاءِ خَشْيَةُ اللَّهِ " وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَأَحْسَنُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ شَجَرَةَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الثَّابِتَةِ الْأَصْلِ الْبَاسِقَةِ الْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ عُلُوًّا، الَّتِي لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا كُلَّ حِينٍ، وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا التَّشْبِيهَ رَأَيْتَهُ مُطَابِقًا لِشَجَرَةِ التَّوْحِيدِ الثَّابِتَةِ الرَّاسِخَةِ فِي الْقَلْبِ، الَّتِي فُرُوعُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَاعِدَةٌ إلَى السَّمَاءِ، وَلَا تُزَال هَذِهِ الشَّجَرَةُ تُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّ وَقْتٍ؛ بِحَسْبِ ثَبَاتِهَا فِي الْقَلْبِ، وَمَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهَا، وَإِخْلَاصِهِ فِيهَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَتِهَا، وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهَا، وَمُرَاعَاتِهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَمَنْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي قَلْبِهِ بِحَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهَا وَاتَّصَفَ قَلْبُهُ بِهَا وَانْصَبَغَ بِهَا بِصِبْغَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا أَحْسَنَ صِبْغَةً مِنْهَا فَعَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا قَلْبُهُ لِلَّهِ وَيَشْهَدُ بِهَا لِسَانُهُ وَتُصَدِّقُهَا جَوَارِحُهُ، وَنَفَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَلَوَازِمَهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَوَاطَأَ قَلْبُهُ لِسَانَهُ فِي هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَانْقَادَتْ جَوَارِحُهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ طَائِعَةً سَالِكَةً سُبُلَ رَبِّهِ ذُلُلًا غَيْرَ نَاكِبَةٍ عَنْهَا وَلَا بَاغِيَةٍ سِوَاهَا بَدَلًا كَمَا لَا يَبْتَغِي الْقَلْبُ سِوَى مَعْبُودِهِ الْحَقِّ بَدَلًا. فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّاعِدِ إلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ؛ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ إلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تُثْمِرُ كَلِمًا كَثِيرًا طَيِّبًا يُقَارِنُهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ لِقَائِلِهَا عَمَلًا صَالِحًا كُلَّ وَقْتٍ. [أَثَرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إذَا شَهِدَ بِهَا الْمُؤْمِنُ عَارِفًا بِمَعْنَاهَا وَحَقِيقَتِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَّصِفًا بِمُوجِبِهَا قَائِمًا قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ بِشَهَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ رَاسِخٌ فِي قَلْبِهِ، وَفُرُوعُهَا مُتَّصِلَةٌ بِالسَّمَاءِ، وَهِيَ مُخْرِجَةٌ لِثَمَرَتِهَا كُلَّ وَقْتٍ. وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ النَّخْلَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] يَعْنِي بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الْمُؤْمِنَ، وَيَعْنِي بِالْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَكَلَّمُ فَيَبْلُغُ عَمَلُهُ وَقَوْلُهُ السَّمَاءَ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ فِي قَوْلِهِ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] قَالَ: ذَلِكَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، لَا يَزَالُ يَخْرُجُ مِنْهُ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] قَالَ: ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ، ضَرَبَ مَثَلَهُ فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ، قَالَ: أَصْلُ عَمَلِهِ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ذِكْرُهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْمَثَلِ الْمُؤْمِنُ، وَالنَّخْلَةُ مُشَبَّهَةٌ بِهِ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَا، وَإِذَا كَانَتْ النَّخْلَةُ شَجَرَةً طَيِّبَةً فَالْمُؤْمِنُ الْمُشَبَّهُ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَالنَّخْلَةُ مِنْ أَشْرَفِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ. [بَعْضُ أَسْرَارِ تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالشَّجَرَةِ] وَفِي هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَقْتَضِيه عِلْمُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَحِكْمَتُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عُرُوقٍ وَسَاقٍ وَفُرُوعٍ وَوَرَقٍ وَثَمَرٍ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِيُطَابِقَ الْمُشَبَّهُ الْمُشَبَّهَ بِهِ، فَعُرُوقُهَا الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْيَقِينُ، وَسَاقُهَا الْإِخْلَاصُ، وَفُرُوعُهَا الْأَعْمَالُ، وَثَمَرَتُهَا مَا تُوجِبُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْآثَارِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الْمَمْدُوحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّمْتِ الصَّالِحِ وَالْهَدْيِ وَالدَّلِّ الْمَرْضِيِّ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى غَرْسِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِي الْقَلْبِ وَثُبُوتِهَا فِيهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَعْلُومِهِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِهِ وَالِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ رُسُلُهُ وَالْإِخْلَاصُ قَائِمٌ فِي الْقَلْبِ وَالْأَعْمَالُ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ، وَالْهَدْيُ وَالدَّلُّ وَالسَّمْتُ مُشَابِهٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ مُنَاسِبٌ لَهَا، عُلِمَ أَنَّ شَجَرَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ الشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَبْقَى حَيَّةً إلَّا بِمَادَّةٍ تُسْقِيهَا وَتُنَمِّيهَا، فَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا السَّقْيُ أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ، فَهَكَذَا شَجَرَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَلْبِ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهَا صَاحِبُهَا بِسَقْيِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَوْدِ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَإِلَّا أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْإِيمَانَ يَخْلَقُ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ فَجَدِّدُوا إيمَانَكُمْ» وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرْسُ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهُ صَاحِبُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَهْلَكَ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ شِدَّةَ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَوْقَاتِ وَعَظِيمِ رَحْمَتِهِ وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ بِأَنْ وَظَّفَهَا عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا مَادَّةً لِسَقْيِ غِرَاسِ التَّوْحِيدِ الَّذِي غَرَسَهُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَرْسَ وَالزَّرْعَ النَّافِعَ قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُخَالِطَهُ دَغَلٌ وَنَبْتٌ غَرِيبٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنْ تَعَاهَدَهُ رَبُّهُ وَنَقَّاهُ وَقَلَعَهُ كَمُلَ الْغَرْسُ وَالزَّرْعُ، وَاسْتَوَى، وَتَمَّ نَبَاتُهُ، وَكَانَ أَوْفَرَ لِثَمَرَتِهِ، وَأَطْيَبَ وَأَزْكَى، وَإِنْ تَرَكَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ، أَوْ يُضْعِفَ الْأَصْلَ وَيَجْعَلَ الثَّمَرَةَ ذَمِيمَةً نَاقِصَةً بِحَسْبِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِقْهُ نَفْسٍ فِي هَذَا وَمَعْرِفَةٌ بِهِ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ رِبْحٌ كَبِيرٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا سَعْيُهُ فِي شَيْئَيْنِ: سَقْيِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا، فَبِسَقْيِهَا تَبْقَى وَتَدُومُ وَبِتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا تَكْمُلُ وَتَتِمُّ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْمَثَلُ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ، وَلَعَلَّهَا قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ بِحَسَبِ أَذْهَانِنَا الْوَاقِفَةِ، وَقُلُوبِنَا الْمُخْطِئَةِ، وَعُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ، وَأَعْمَالِنَا الَّتِي تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَإِلَّا فَلَوْ طَهُرَتْ مِنَّا الْقُلُوبُ، وَصَفَتْ الْأَذْهَانُ وَزَكَتْ النُّفُوسُ، وَخَلَصَتْ الْأَعْمَالُ، وَتَجَرَّدَتْ لَهُمْ لِلتَّلَقِّي عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَشَاهَدْنَا مِنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ مَا تَضْمَحِلُّ عِنْدَهُ الْعُلُومُ، وَتَتَلَاشَى عِنْدَهُ مَعَارِفُ الْخَلْقِ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ قَدْرَ عُلُومِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الصَّحَابَةِ وَمَعَارِفِهِمْ، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ عُلُومِهِمْ وَعُلُومِ مَنْ بَعْدَهُمْ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْفَضْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ. فَصْلٌ. [مَثَلُ الْكَافِرِ] ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فَشَبَّهَهَا بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، فَلَا عِرْقَ ثَابِتٌ، وَلَا فَرْعَ عَالٍ، وَلَا ثَمَرَةَ زَاكِيَةٌ، فَلَا ظِلَّ، وَلَا جَنًى، وَلَا سَاقَ قَائِمٌ، وَلَا عِرْقَ فِي الْأَرْضِ ثَابِتٌ، فَلَا أَسْفَلَهَا مُغْدِقٌ وَلَا أَعْلَاهَا مُونِقٌ، وَلَا جَنَى لَهَا، وَلَا تَعْلُو بَلْ تُعْلَى. وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ أَكْثَرَ كَلَامِ هَذَا الْخَلْقِ فِي خِطَابِهِمْ وَكَسْبِهِمْ وَجَدَهُ كَذَلِكَ؛ فَالْخُسْرَانُ الْوُقُوفُ مَعَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ أَفْضَلِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْكَافِرِ بِشَجَرَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَيْسَ لَهَا ثَمَرَةٌ، وَلَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَعْمَلُ خَيْرًا وَلَا يَقُولُهُ، وَلَا يَجْعَلُ اللَّهَ فِيهِ بَرَكَةً وَلَا مَنْفَعَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]- وَهِيَ الشِّرْكُ - {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] يَعْنِي الْكَافِرَ، {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26] ، يَقُولُ: الشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَأْخُذُ بِهِ الْكَافِرُ وَلَا بُرْهَانٌ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ الْمُشْرِكِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ؛ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ مَثَلُ الْكَافِرِ، لَيْسَ لِقَوْلِهِ وَلَا لِعَمَلِهِ أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ قَوْلُهُ وَلَا عَمَلُهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ لَهَا فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا وَلَا فِي السَّمَاءِ مِصْعَدًا، إلَّا أَنْ تَلْزَمَ عُنُقَ صَاحِبِهَا حَتَّى يُوَافَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {اجْتُثَّتْ} [إبراهيم: 26] أَيْ اُسْتُؤْصِلَتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا بِإِيمَانِهِمْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يُضِلُّ الظَّالِمِينَ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَأَضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعَدْلِهِ لِظُلْمِهِمْ، وَثَبَّتَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ لِإِيمَانِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَتَحْتَ قَوْلِهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كَنْزٌ عَظِيمٌ مَنْ وُفِّقَ لِمَظِنَّتِهِ وَأَحْسَنَ اسْتِخْرَاجَهُ وَاقْتِنَاءَهُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ فَقَدْ غَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ تَثْبِيتِ اللَّهِ لَهُ طُرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنْ لَمْ يُثَبِّتْهُ وَإِلَّا زَالَتْ سَمَاءُ إيمَانِهِ وَأَرْضِهِ عَنْ مَكَانِهِمَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} [الإسراء: 74] وَقَالَ تَعَالَى لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «وَهُوَ يَسْأَلُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ» وَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ قِسْمَانِ: مُوَفَّقٌ بِالتَّثْبِيتِ، وَمَخْذُولٌ بِتَرْكِ التَّثْبِيتِ، وَمَادَّةُ التَّثْبِيتِ أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ وَفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ، فَبِهِمَا يُثَبِّتُ اللَّهُ عَبْدَهُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَثْبَتَ قَوْلًا وَأَحْسَنَ فِعْلًا كَانَ أَعْظَمَ تَثْبِيتًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] فَأَثْبَتُ النَّاسِ قَلْبًا أَثْبَتُهُمْ قَوْلًا، وَالْقَوْلُ الثَّابِتُ هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهُوَ ضِدُّ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الْكَذِبِ؛ فَالْقَوْلُ نَوْعَانِ: ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَبَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَثْبَتُ الْقَوْلِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَلَوَازِمُهَا، فَهِيَ أَعْظَمُ مَا يُثَبِّتُ اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا تَرَى الصَّادِقَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَالْكَاذِبَ مِنْ أَمْهَنِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ تَلَوُّثًا وَأَقَلِّهِمْ ثَبَاتًا، وَأَهْلُ الْفِرَاسَةِ يَعْرِفُونَ صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْ ثَبَاتِ قَلْبِهِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ وَشَجَاعَتِهِ وَمَهَابَتِهِ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ الْكَاذِبِ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ إلَّا عَلَى ضَعِيفِ الْبَصِيرَةِ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ بِهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا فَهِمْت مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا أَنِّي رَأَيْت لِكَلَامِهِ صَوْلَةً لَيْسَتْ بِصَوْلَةِ مُبْطِلٍ، فَمَا مُنِحَ الْعَبْدُ مِنْحَةً أَفْضَلَ مِنْ مِنْحَةِ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَيَجِدُ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّابِتِ ثَمَرَتَهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إلَيْهِ فِي قُبُورِهِمْ وَيَوْمَ مَعَادِهِمْ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ» . [سُؤَالُ الْقَبْرِ وَالتَّثْبِيتُ فِيهِ] وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُبَيَّنًا فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ؛ فَمِنْهَا مَا فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْت، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 مَنْزِلُك لَوْ كَفَرْت بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ آمَنْت فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ لَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اُسْكُنْ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا اهْتَدَيْت، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُك لَوْ آمَنَتْ بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ كَفَرْت فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ الْمَلَكُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إلَّا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] » . وَفِي الْمُسْنَدِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ: يَأْتِيهِ آتِ، يَعْنِي فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَا رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَهِيَ آخَرُ فِتْنَةٍ تَعْرِضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] . فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؛ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] قَالَ: إذَا قِيلَ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ فَيَقُولُ رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت، عَلَى هَذَا عِشْت، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ» . وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: فَتَرْجِعُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الِانْتِهَارِ، فَيُجْلِسَانِهِ وَيَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، وَمَا دِينُك: فَيَقُولُ: الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ أَوْ النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيَك؟ قَالَ: فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] » . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ: مَا قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيَقُولُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ مَا نَسْأَلُك عَنْهُ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيُقَالُ: إنَّك سَتَفْعَلُ، فَأَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُك، فَيَقُولُ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْت هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَك فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ تُجْعَلُ نِسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ، وَهِيَ طَيْرٌ خُضْرٌ تَعَلَّقَ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ إلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ مِنْ التُّرَابِ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] » وَلَا تَسْتَطِيلُ هَذَا الْفَصْلَ الْمُعْتَرِضَ فِي الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ، بَلْ وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَشَدُّ ضَرُورَةً إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّفَسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ - حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31] فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَثَلَ وَمُطَابَقَتَهُ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَتَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَك فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهُ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا، وَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِرَجُلٍ قَدْ تَسَبَّبَ إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ هَلَاكًا لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ، فَصَوَّرَ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فِي الْهُوِيِّ فَتَمَزَّقَ مِزَقًا فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَنْظُرُ إلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُشَبَّهِ وَمُقَابِلِهِ مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُمَثَّلِ بِالْمُمَثَّلِ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مِصْعَدَهُ وَمَهْبِطَهُ، فَمِنْهَا هَبَطَ إلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهَا يَصْعَدُ مِنْهَا، وَشَبَّهَ تَارِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بِالسَّاقِطِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيقِ الشَّدِيدِ وَالْآلَامِ الْمُتَرَاكِمَةِ وَالطَّيْرِ الَّذِي تَخْطَفُ أَعْضَاءَهُ وَتُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ بِالشَّيَاطِينِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ وَتَؤُزُّهُ أَزًّا وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ؛ فَكُلُّ شَيْطَانٍ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مُزْعَةٌ مِنْ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ طَيْرٍ مُزْعَةً مِنْ لَحْمِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَهْوِي بِهِ فِي مَكَان سَحِيقٍ هُوَ هَوَاهُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى إلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَان وَأَبْعَدِهِ مِنْ السَّمَاءِ. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74] حَقِيقٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ قَلْبُهُ لِهَذَا الْمَثَلِ، وَيَتَدَبَّرَهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مَوَادَّ الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْبُودَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إيجَادِ مَا يَنْفَعُ عَابِدُهُ وَإِعْدَامِ مَا يَضُرُّهُ، وَالْآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ وَلَوْ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ لِخَلْقِهِ، فَكَيْفَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؟ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْ الذُّبَابِ إذَا سَلَبَهُمْ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنْ طِيبٍ وَنَحْوِهِ فَيَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، فَلَا هُمْ قَادِرُونَ عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْحَيَوَانَاتِ وَلَا عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُ وَاسْتِرْجَاعِ مَا سَلَبَهُمْ إيَّاهُ، فَلَا أَعْجِزَ مِنْ هَذِهِ الْآلِهَةِ، وَلَا أَضْعَفَ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَسْتَحْسِنُ عَاقِلٌ عِبَادَتَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَهَذَا الْمَثَلُ مِنْ أَبْلَغِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَتَجْهِيلِ أَهْلِهِ، وَتَقْبِيحِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ تَلَاعَبَ بِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَلَاعُبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ حَيْثُ أَعْطَوْا الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَعْضِ لَوَازِمِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْغِنَى عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْ يُصْعَدَ إلَى الرَّبِّ فِي جَمِيعِ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَإِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، فَأَعْطَوْهَا صُوَرًا وَتَمَاثِيلَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى أَقَلِّ مَخْلُوقَاتٍ لِآلِهَةِ الْحَقِّ وَأَذَلِّهَا وَأَصْغَرِهَا وَأَحْقَرِهَا، وَلَوْ اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ. وَأَدَلُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ وَانْتِفَاءِ إلَهِيَّتِهِمْ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْأَقَلَّ الْأَذَلَّ الْعَاجِزَ الضَّعِيفَ لَوْ اخْتَطَفَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَاسْتَلَبَهُ فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] قِيلَ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الْمَعْبُودُ، فَهُوَ عَاجِزٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَاجِزٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ السَّالِبِ وَالْمَسْلُوبِ، وَهُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْإِلَهِ وَالذُّبَابِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ؛ وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ: الطَّالِبُ الْإِلَهُ الْبَاطِلُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا اسْتَلَبَهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: الطَّالِبُ الذُّبَابُ، وَالْمَطْلُوبُ الْإِلَهُ، فَالذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، فَضَعْفُ الْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَلِبِ وَالْمُسْتَلَبِ؛ فَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 جَعَلَ هَذَا إلَهًا مَعَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ فَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَثَلَ نَاعِقًا أَيْ مُصَوِّتًا بِالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، وَمَنْعُوقًا بِهِ وَهُوَ الدَّوَابُّ، فَقِيلَ: النَّاعِقُ الْعَابِدُ وَهُوَ الدَّاعِي لِلصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ هُوَ الْمَنْعُوقُ بِهِ الْمَدْعُوُّ، وَإِنَّ حَالَ الْكَافِرِ فِي دُعَائِهِ كَحَالِ مَنْ يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُهُ، هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَاسْتَشْكَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: قَوْلُهُ: {إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ " إلَّا " زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى بِمَا لَا يَسْمَعُ دُعَاءً وَنِدَاءً، قَالُوا: وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إلَّا مُنَاخَةً أَيْ مَا تَنْفَكُّ مُنَاخَةً، وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ " إلَّا " لَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَدْعُوِّ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ فِي دُعَاءٍ وَنِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ إلَّا الْعَنَاءُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مِمَّا يَقُولُ الرَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الصَّوْتِ؛ فَالرَّاعِي هُوَ دَاعِي الْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ هُمْ الْبَهَائِمُ الْمَنْعُوقُ بِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَمَثَلُك يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ؛ وَعَلَى قَوْلِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَدَاعِيهمْ كَمَثَلِ الْغَنَمِ وَالنَّاعِقِ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَلَك أَنْ تَجْعَلَ هَذَا مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ، وَأَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ الْمُرَكَّبِ كَانَ تَشْبِيهًا لِلْكُفَّارِ فِي عَدَمِ فِقْهِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِالْغَنَمِ الَّتِي يَنْعَقُ بِهَا الرَّاعِي فَلَا تَفْقَهُ مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا غَيْرَ الصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ هُوَ الدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، وَدُعَاءُ دَاعِيهمْ إلَى الطَّرِيقِ وَالْهُدَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَنْعِقُ بِهَا، وَدُعَاؤُهُمْ إلَى الْهُدَى بِمَنْزِلَةِ النَّعْقِ، وَإِدْرَاكُهُمْ مُجَرَّدَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ كَإِدْرَاكِ الْبَهَائِمِ مُجَرَّدَ صَوْتِ النَّاعِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] شَبَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَقَةَ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ أَوْ جَمِيعُ سُبُلِ الْخَيْرِ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، بِمَنْ بَذَرَ بَذْرًا فَأَنْبَتَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ سَبْعَ سَنَابِلَ اشْتَمَلَتْ كُلُّ سُنْبُلَةٍ عَلَى مِائَةِ حَبَّةٍ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فَوْقَ ذَلِكَ بِحَسْبِ حَالِ الْمُنْفِقِ وَإِيمَانِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَإِحْسَانِهِ وَنَفْعِ نَفَقَتِهِ وَقَدْرِهَا وَوُقُوعِهَا مَوْقِعَهَا؛ فَإِنَّ ثَوَابَ الْإِنْفَاقِ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّثْبِيتِ عِنْدَ النَّفَقَةِ، وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ بِقَلْبٍ ثَابِتٍ قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَسَمَحَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَخَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ خُرُوجَهُ مِنْ يَدِهِ، فَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ، غَيْرُ جَزِعٍ وَلَا هَلِعٍ وَلَا مُتْبِعِهِ نَفْسَهُ تَرْجُفُ يَدُهُ وَفُؤَادُهُ، وَيَتَفَاوَتُ بِحَسْبِ نَفْعِ الْإِنْفَاقِ وَمَصَارِفِهِ بِمَوَاقِعِهِ، وَبِحَسْبِ طِيبِ الْمُنْفِقِ وَزَكَاتِهِ وَتَحْتَ هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الْإِنْفَاقَ بِالْبَذْرِ. فَالْمُنْفِقُ مَالَهُ الطَّيِّبَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ بَاذِرٌ مَالَهُ فِي أَرْضٍ زَكِيَّةِ، فَمُغِلُّهُ بِحَسْبِ بَذْرِهِ وَطِيبِ أَرْضِهِ وَتَعَاهُدِ الْبَذْرِ بِالسَّقْيِ وَنَفْيِ الدَّغَلِ وَالنَّبَاتِ الْغَرِيبِ عَنْهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَلَمْ تُحْرِقْ الزَّرْعَ نَارٌ وَلَا لَحِقَتْهُ جَائِحَةٌ جَاءَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَكَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي تَكُونُ الْجَنَّةُ فِيهِ نُصْبَ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ فَتَتَرَبَّى الْأَشْجَارُ هُنَاكَ أَتَمَّ تَرْبِيَةٍ فَنَزَلَ عَلَيْهَا مِنْ السَّمَاءِ مَطَرٌ عَظِيمُ الْقَطْرِ مُتَتَابِعٌ فَرَوَاهَا وَنَمَّاهَا فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْ مَا يُؤْتِيهِ غَيْرُهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَابِلِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ: مَطَرٌ صَغِيرُ الْقَطْرِ، يَكْفِيهَا لِكَرَمِ مَنْبَتِهَا؛ يَزْكُو عَلَى الظِّلِّ وَيَنْمِي عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ فِي ذِكْرِ نَوْعَيْ الْوَابِلِ وَالطَّلِّ إشَارَةً إلَى نَوْعَيْ الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ إنْفَاقُهُ وَابِلًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إنْفَاقُهُ طَلًّا، وَاَللَّهُ لَا يُضِيعُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَإِنْ عَرَضَ لِهَذَا الْعَامِلِ مَا يُغْرِقُ أَعْمَالَهُ وَيُبْطِلُ حَسَنَاتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ اسْتِيفَاءِ الْأَعْمَالِ وَإِحْرَازِ الْأُجُورِ وَجَدَ هَذَا الْعَامِلُ عَمَلَهُ قَدْ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ، فَحَسْرَتُهُ حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ حَسْرَةِ هَذَا عَلَى جَنَّتِهِ. فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْحَسْرَةِ لِسَلْبِ النِّعْمَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مَعَ عِظَمِ قَدْرِهَا وَمَنْفَعَتِهَا، وَاَلَّذِي ذَهَبَتْ عَنْهُ قَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَالضَّعْفُ فَهُوَ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَى نِعْمَتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، بَلْ هُمْ فِي عِيَالِهِ فَحَاجَتُهُ إلَى نِعْمَتِهِ حِينَئِذٍ أَشَدُّ مَا كَانَتْ لِضَعْفِهِ وَضَعْفِ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ عَظِيمٌ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَالثَّمَرِ، وَسُلْطَانُ ثَمَرِهِ أَجَلُّ الْفَوَاكِهِ وَأَنْفَعُهَا، وَهُوَ ثَمَرُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، فَمُغَلَّهُ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ ذُرِّيَّتِهِ، فَأَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ وَجَدَهُ مُحْتَرِقًا كُلَّهُ كَالصَّرِيمِ، فَأَيُّ حَسْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ حَسْرَتِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُخْتَمُ لَهُ بِالْفَسَادِ فِي آخَرِ عُمْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا مَثَلُ الْمُفَرِّطِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ السُّدِّيَّ: هَذَا مَثَلُ الْمُرَائِي فِي نَفَقَتِهِ الَّذِي يُنْفِقُ لِغَيْرِ اللَّهِ، يَنْقَطِعُ عَنْهُ نَفْعُهَا أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِ، وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الصَّحَابَةَ يَوْمًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وَقَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: قُلْ يَا ابْنَ أَخِي وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَك، قَالَ: ضَرَبَ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ: لِأَيِّ عَمَلٍ؟ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِالْحَسَنَاتِ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ كُلَّهَا؛ قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاَللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ مِنْ النَّاسِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ أَفْقَرُ مَا كَانَ إلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاَللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إلَى عَمَلِهِ إذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا. فَصْلٌ. [الرِّيَاءُ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى تُبْطِلُ الْأَعْمَالَ] فَإِنْ عَرَضَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ؛ فَالرِّيَاءُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهَا سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الثَّوَابَ الَّذِي كَانَتْ سَبَبًا لَهُ، فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ - وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ - عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ - وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ - فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَتَأَمَّلْ أَجْزَاءَ هَذَا الْمَثَلِ الْبَلِيغِ، وَانْطِبَاقِهَا عَلَى أَجْزَاءِ الْمُمَثَّلِ بِهِ، تَعْرِفْ عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتَهُ، فَإِنَّ الْحَجَرَ فِي مُقَابِلَةِ قَلْبِ هَذَا الْمُرَائِي وَالْمَانِّ وَالْمُؤْذِي، فَقَلْبُهُ فِي قَسْوَتِهِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ التُّرَابِ الَّذِي عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ؛ فَقَسْوَةُ مَا تَحْتَهُ وَصَلَابَتُهُ تَمْنَعُهُ مِنْ النَّبَاتِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَابِلِ؛ فَلَيْسَ لَهُ مَادَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِاَلَّذِي يَقْبَلُ الْمَاءَ وَيُنْبِتُ الْكَلَأَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَكَذَلِكَ قَلْبُ الْمُرَائِي لَيْسَ لَهُ ثَبَاتٌ عِنْدَ وَابِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ وَابِلُ الْوَحْيِ انْكَشَفَ عَنْهُ ذَلِكَ التُّرَابِ الْيَسِيرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَبَرَزَ مَا تَحْتَهُ حَجَرًا صَلْدًا لَا نَبَاتَ فِيهِ؛ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَمَلِ الْمُرَائِي وَنَفَقَتِهِ، لَا يَقْدِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَوَابِ شَيْءٍ مِنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116] {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُنْفِقُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَكَسْبِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لَا يَبْتَغُونَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَمَا يُنْفِقُونَهُ لِيَصُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، بِالزَّرْعِ الَّذِي زَرَعَهُ صَاحِبُهُ يَرْجُو نَفْعَهُ وَخَيْرَهُ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ جِدًّا، يُحْرِقُ بَرْدُهَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَأَهْلَكَتْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الصِّرِّ؛ فَقِيلَ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ، وَقِيلَ: النَّارُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا وُصِفَتْ النَّارُ بِأَنَّهَا صِرٌّ لِتَصْرِيَتِهَا عِنْدَ الِالْتِهَابِ، وَقِيلَ: الصِّرُّ الصَّوْتُ الَّذِي يَصْحَبُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ هُبُوبِهَا، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ؛ فَهُوَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ بِيَبْسِهِ لِلْحَرْثِ كَمَا تُحْرِقُهُ النَّارُ، وَفِيهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ. وَفِي قَوْلِهِ: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ إصَابَتِهَا لِحَرْثِهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ؛ فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ حَتَّى أَهْلَكَتْ زَرْعَهُمْ وَأَيْبَسَتْهُ، فَظُلْمُهُمْ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي أَهْلَكَتْ أَعْمَالَهُمْ وَنَفَقَاتِهِمْ وَأَتْلَفَتْهَا. فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُشْرِكِ وَالْمُوَحِّدِ؛ فَالْمُشْرِكُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ جَمَاعَةٌ مُتَنَازِعُونَ مُخْتَلِفُونَ مُتَشَاحُّونَ، وَالرَّجُلُ الْمُتَشَاكِسُ: الضَّيِّقُ الْخُلُقِ، فَالْمُشْرِكُ، لَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى شُبِّهَ بِعَبْدٍ يَمْلِكُهُ جَمَاعَةٌ مُتَنَافِسُونَ فِي خِدْمَتِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْلُغَ رِضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَالْمُوَحِّدُ لَمَّا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَدْ سَلَمَ لَهُ، وَعَلِمَ مَقَاصِدَهُ، وَعَرَفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الطَّرِيقَ إلَى رِضَاهُ، فَهُوَ فِي رَاحَةٍ مِنْ تَشَاحُنِ الْخُلَطَاءِ فِيهِ، بَلْ هُوَ سَالِمٌ لِمَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ فِيهِ، مَعَ رَأْفَةِ مَالِكِهِ بِهِ، وَرَحْمَتِهِ لَهُ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، وَتَوَلِّيهِ لِمَصَالِحِهِ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ الْعَبْدَانِ؟ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْثَالِ؛ فَإِنَّ الْخَالِصَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِقُّ مِنْ مَعُونَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَالْتِفَاتِهِ إلَيْهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الشُّرَكَاءِ الْمُتَشَاكِسِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَصْلٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 10 - 12] فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالٍ: مَثَلٌ لِلْكُفَّارِ، وَمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَضَمَّنَ مَثَلُ الْكُفَّارِ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَدَاوَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ مَعَ كُفْرِهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ لُحْمَةِ نَسَبٍ أَوْ صِلَةِ صِهْرٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّصَالِ. فَإِنَّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُتَّصِلًا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، فَلَوْ نَفَعَتْ وَصْلَةُ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ أَوْ النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَنَفَعَتْ الْوَصْلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ لُوطٍ وَنُوحٍ وَامْرَأَتَيْهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] قَطَعَتْ الْآيَةُ حِينَئِذٍ طَمَعَ مَنْ رَكِبَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَرَجَا أَنْ يَنْفَعَهُ صَلَاحُ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، فَلَا اتِّصَالَ فَوْقَ اتِّصَالِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، وَلَمْ يُغْنِ نُوحٌ عَنْ ابْنِهِ، وَلَا إبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا نُوحٌ وَلَا لُوطٌ عَنْ امْرَأَتَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وَقَالَ: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] وَهَذَا كُلُّهُ تَكْذِيبٌ لِأَطْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُحْبَةٍ يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ يُجِيرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 هُوَ يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا أَصْلُ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ وَشِرْكِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِإِبْطَالِهِ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِهِ وَمُعَادَاتِهِمْ. فَصْلٌ. وَأَمَّا الْمَثَلَانِ اللَّذَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَأَحَدُهُمَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَوَجْهُ الْمَثَلِ أَنَّ اتِّصَالَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا إذَا فَارَقَهُ فِي كُفْرِهِ وَعَمَلِهِ، فَمَعْصِيَةُ الْغَيْرِ لَا تَضُرُّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ إذَا أَضَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَتَأْتِي عَامَّةً، فَلَمْ يَضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ اتِّصَالُهَا بِهِ وَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ الْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَنْفَعْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَلُوطٍ اتِّصَالُهُمَا بِهِمَا وَهُمَا رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْمَثَلُ الثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ مَرْيَمَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ النِّسَاءِ: الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَالْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الْكَافِرِ، وَالْمَرْأَةَ الْعَزَبَ الَّتِي لَا وَصْلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدٍ: فَالْأَوْلَى لَا تَنْفَعُهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا تَضُرُّهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا، وَالثَّالِثَةُ لَا يَضُرُّهَا عَدَمُ الْوَصْلَةِ شَيْئًا. ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْبَدِيعَةِ مَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ؛ فَإِنَّهَا سِيقَتْ فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَظَاهُرِهِنَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يُطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُرِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُنَّ اتِّصَالُهُنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا لَمْ يَنْفَعْ امْرَأَة نُوحٍ وَلُوط اتِّصَالهمَا بِهِمَا، وَلِهَذَا إنَّمَا ضَرْب فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَثَلَ اتِّصَالَ النِّكَاحِ دُونَ الْقَرَابَةِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ يُحَذِّرُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا الْمَثَلَ الثَّانِيَ يُحَرِّضُهُمَا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ. وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْيَمَ أَيْضًا اعْتِبَارٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا لَمْ يَضُرَّهَا عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا قَذْفُ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْيَهُودَ لَهَا، وَنِسْبَتُهُمْ إيَّاهَا وَابْنَهَا إلَى مَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِهَا الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى الْمُصْطَفَاةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَضُرُّ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَدْحُ الْفُجَّارِ وَالْفُسَّاقِ فِيهِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إنْ كَانَتْ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهَا عَلَى مَا قَالَ فِيهَا الْكَاذِبُونَ إنْ كَانَتْ قَبْلَهَا، كَمَا فِي ذِكْرِ التَّمْثِيلِ بِامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ تَحْذِيرٌ لَهَا وَلِحَفْصَةَ مِمَّا اعْتَمَدَتَاهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَمْثَالُ التَّحْذِيرَ لَهُنَّ وَالتَّخْوِيفَ، وَالتَّحْرِيضَ لَهُنَّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالتَّسْلِيَةِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ لِمَنْ أُوذِيَ مِنْهُنَّ وَكُذِبَ عَلَيْهِ، وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ فَوْقَ هَذَا وَأَجَلُّ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا أَسْرَارُ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قَالُوا: فَهَذَا بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ التَّمْثِيلِ وَالْقِيَاسِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَاعْتِبَارِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي وَارْتِبَاطِهَا بِأَحْكَامِهَا تَأْثِيرًا وَاسْتِدْلَالًا [السِّرُّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ] قَالُوا: قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ وَصَرَّفَهَا قَدْرًا وَشَرْعًا وَيَقَظَةً وَمَنَامًا، وَدَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِذَلِكَ، وَعُبُورِهِمْ مِنْ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، بَلْ هَذَا أَهْلُ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ؛ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ، وَاعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّيَابَ فِي التَّأْوِيلِ كَالْقُمُصِ تَدُلُّ عَلَى الدِّينِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ أَوْ نَظَافَةٍ أَوْ دَنَسٍ فَهُوَ فِي الدِّينِ كَمَا أَوَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ بَدَنَهُ وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ [الرُّؤْيَا الْحُلْمِيَّةُ وَتَأْوِيلُهَا] وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَالِ النَّشْأَةِ، وَأَنَّ الطِّفْلَ إذَا خُلِّيَ وَفِطْرَتَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ اللَّبَنِ؛ فَهُوَ مَفْطُورٌ عَلَى إيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّاسَ. وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ الْبَقَرِ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ، مَعَ عَدَمِ شَرِّهَا وَكَثْرَةِ خَيْرِهَا وَحَاجَةِ الْأَرْضِ وَأَهْلِهَا إلَيْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقَرًا تُنْحَرُ» كَانَ ذَلِكَ نَحْرًا فِي أَصْحَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ مَا بَذَرَهُ كَمَا يَخْرُجُ لِلْبَاذِرِ زَرْعُ مَا بَذَرَهُ؛ فَالدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ، وَالْأَعْمَالُ الْبَذْرُ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ طُلُوعِ الزَّرْعِ لِلْبَاذِرِ وَحَصَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانَدِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَا ظِلَّ وَلَا ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا شَبَّهَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ خَالِيَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَفِي كَوْنِهَا مُسَنَّدَةً نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْخَشَبَ إذَا اُنْتُفِعَ بِهِ جُعِلَ فِي سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَظَانِّ الِانْتِفَاعِ، وَمَا دَامَ مَتْرُوكًا فَارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ جُعِلَ مُسْنَدًا بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَشَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لِإِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ، فَهَذِهِ تُحْرِقُ الْأَثَاثَ وَالْمَتَاعَ وَالْأَبْدَانَ، وَهَذِهِ تُحْرِقُ الْقُلُوبَ وَالْأَدْيَانَ وَالْإِيمَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالْأَشْرَافِ؛ لِحُصُولِ هِدَايَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِارْتِفَاعِ الْأَشْرَافِ بَيْنَ النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ وَصَلَاحِ حَالِ النَّاسِ. وَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الدَّمِ فِي التَّأْوِيلِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمَالِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ أَنَّ قِوَامَ الْبَدَنِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدَثُ فِي التَّأْوِيلِ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ فِي الدِّينِ؛ فَالْحَدَثُ الْأَصْغَرُ ذَنْبٌ صَغِيرٌ وَالْأَكْبَرُ ذَنْبٌ كَبِيرٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ فِي التَّأْوِيلِ بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ؛ فَالْيَهُودِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَصْدِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ الْحَقِّ، وَالنَّصْرَانِيَّة تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيدُ فِي التَّأْوِيلِ وَأَنْوَاعُ السِّلَاحِ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ بِحَسَبِ جَوْهَرِ ذَلِكَ السِّلَاحِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ تَدُلُّ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَطِيبِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالرَّائِحَةُ الْخَبِيثَةُ بِالْعَكْسِ، وَالْمِيزَانُ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْجَرَادُ يَدُلُّ عَلَى الْجُنُودِ وَالْعَسَاكِرِ وَالْغَوْغَاءِ الَّذِينَ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَالنَّحْلُ يَدُلُّ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ طَيِّبًا وَيَعْمَلُ صَالِحًا، وَالدِّيكُ رَجُلٌ عَالِي الْهِمَّةِ بَعِيدُ الصِّيتِ، وَالْحَيَّةُ عَدُوٌّ أَوْ صَاحِبُ بِدْعَةٍ يُهْلِكُ بِسُمِّهِ، وَالْحَشَرَاتُ أَوْغَادُ النَّاسِ، وَالْخُلْدُ رَجُلٌ أَعْمَى يَتَكَفَّفُ النَّاسَ بِالسُّؤَالِ، وَالذِّئْبُ رَجُلٌ غَشُومٌ ظَلُومٌ غَادِرٌ فَاجِرٌ، وَالثَّعْلَبُ رَجُلٌ غَادِرٌ مَكَّارٌ مُحْتَالٌ مُرَاوِغٌ عَنْ الْحَقِّ، وَالْكَلْبُ عَدُوٌّ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الصَّخَبِ وَالشَّرِّ فِي كَلَامِهِ وَسِبَابِهِ، أَوْ رَجُلٌ مُبْتَدِعٌ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ مُؤْثِرٌ لَهُ عَلَى دِينِهِ، وَالسِّنَّوْرُ الْعَبْدُ وَالْخَادِمُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ، وَالْفَأْرَةُ امْرَأَةُ سُوءٍ فَاسِقَةٌ فَاجِرَةٌ، وَالْأَسَدُ رَجُلٌ قَاهِرٌ مُسَلَّطٌ، وَالْكَبْشُ الرَّجُلُ الْمَنِيعُ الْمَتْبُوعُ. وَمِنْ كُلِّيَّاتِ التَّعْبِيرِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وِعَاءٌ لِلْمَاءِ فَهُوَ دَالٌ عَلَى الْأَثَاثِ، وَكُلَّ مَا كَانَ وِعَاءً لِلْمَالِ كَالصُّنْدُوقِ وَالْكِيسِ وَالْجِرَابِ فَهُوَ دَالٌ عَلَى الْقَلْبِ، وَكُلُّ مَدْخُولٍ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَمُمْتَزِجٍ وَمُخْتَلَطٍ فَدَالٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَالتَّعَاوُنِ أَوْ النِّكَاحِ، وَكُلُّ سُقُوطٍ وَخُرُورٍ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ فَمَذْمُومٌ، وَكُلُّ صُعُودٍ وَارْتِفَاعٍ فَمَحْمُودٌ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ وَكَانَ مِمَّنْ يَلِيقُ بِهِ، وَكُلُّ مَا أَحْرَقَتْهُ النَّارُ فَجَائِحَةٌ وَلَيْسَ يُرْجَى صَلَاحُهُ وَلَا حَيَاتُهُ، وَكَذَلِكَ مَا انْكَسَرَ مِنْ الْأَوْعِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الَّتِي لَا يَنْشَعِبُ مِثْلُهَا؛ وَكُلُّ مَا خُطِفَ وَسُرِقَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى خَاطِفُهُ وَلَا سَارِقُهُ فَإِنَّهُ ضَائِعٌ لَا يُرْجَى، وَمَا عُرِفَ خَاطِفُهُ أَوْ سَارِقُهُ أَوْ مَكَانُهُ أَوْ لَمْ يَغِبْ عَنْ عَيْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُرْجَى عَوْدُهُ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ مَحْمُودَةٍ فِي الْجِسْمِ وَالْقَامَةِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَاللِّحْيَةِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ فَزِيَادَةُ خَيْرٍ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ مُتَجَاوِزَةٍ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ فَمَذْمُومَةٌ وَشَرٌّ وَفَضِيحَةٌ. وَكُلُّ مَا رَأَى مِنْ اللِّبَاسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَمَكْرُوهٌ كَالْعِمَامَةِ فِي الرِّجْلِ وَالْخُفِّ فِي الرَّأْسِ وَالْعِقْدِ فِي السَّاقِ، وَكُلُّ مَنْ اسْتَقْضَى أَوْ اسْتَخْلَفَ أَوْ أَمَّرَ أَوْ اسْتَوْزَرَ أَوْ خَطَبَ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ نَالَ بَلَاءً مِنْ الدُّنْيَا وَشَرًّا وَفَضِيحَةً وَشُهْرَةً قَبِيحَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ مَكْرُوهًا مِنْ الْمُلَابِسِ فَخَلِقُهُ أَهْوَنُ عَلَى لَابِسِهِ مِنْ جَدِيدِهِ، وَالْجَوْزُ مَالٌ مَكْنُوزٌ، فَإِنْ تَفَقَّعَ كَانَ قَبِيحًا وَشَرًّا، وَمَنْ صَارَ لَهُ رِيشٌ أَوْ جَنَاحٌ صَارَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ طَارَ سَافَرَ، وَخُرُوجُ الْمَرِيضِ مِنْ دَارِهِ سَاكِتًا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِ، وَمُتَكَلِّمًا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ يَدُلُّ عَلَى النَّجَاةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ شَرٍّ وَضِيقٍ هُوَ فِيهِ وَعَلَى تَوْبَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى فَضَاءٍ وَسَعَةٍ فَهُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَالسَّفَرُ وَالنُّقْلَةُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ بِحَسَبِ حَالِ الْمَكَانَيْنِ. وَمَنْ عَادَ فِي الْمَنَامِ إلَى حَالٍ كَانَ فِيهَا فِي الْيَقَظَةِ عَادَ إلَيْهِ مَا فَارَقَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَوْتُ الرَّجُلِ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى تَوْبَتِهِ وَرُجُوعِهِ إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ رُجُوعٌ إلَى اللَّهِ، قَالَ - تَعَالَى -: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] وَالْمَرْهُونُ مَأْسُورٌ بِدَيْنٍ أَوْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ لِلَّهِ أَوْ لِعَبِيدِهِ، وَوَدَاعُ الْمَرِيضِ أَهْلَهُ أَوْ تَوْدِيعُهُمْ لَهُ دَالٌ عَلَى مَوْتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ كُلُّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ. وَأُصُولُ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةِ إنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15] وَتُعَبَّرُ بِالتِّجَارَةِ، وَالْخَشَبُ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْحِجَارَةُ بِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، وَالْبَيْضُ بِالنِّسَاءِ، وَاللِّبَاسُ أَيْضًا بِهِنَّ، وَشُرْبُ الْمَاءِ بِالْفِتْنَةِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الرَّجُلِ بِغَيْبَتِهِ، وَالْمَفَاتِيحُ بِالْكَسْبِ وَالْخَزَائِنِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْفَتْحُ يُعَبَّرُ مَرَّةً بِالدُّعَاءِ وَمَرَّةً بِالنَّصْرِ، وَكَالْمَلِكِ يُرَى فِي مَحَلَّةٍ لَا عَادَةَ لَهُ بِدُخُولِهَا يُعَبَّرُ بِإِذْلَالِ أَهْلِهَا وَفَسَادِهَا، وَالْحَبْلُ يُعَبَّرُ بِالْعَهْدِ وَالْحَقِّ وَالْعَضُدِ، وَالنُّعَاسُ قَدْ يُعَبَّرُ بِالْأَمْنِ، وَالْبَقْلُ وَالْبَصَلُ وَالثُّومُ وَالْعَدَسُ يُعَبَّرُ لِمَنْ أَخَذَهُ بِأَنَّهُ قَدْ اسْتَبْدَلَ شَيْئًا أَدْنَى بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ دَارٍ، وَالْمَرَضُ يُعَبَّرُ بِالنِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَشَهْوَةِ الرِّيَاءِ، وَالطِّفْلُ الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وَالنِّكَاحُ بِالْبِنَاءِ، وَالرَّمَادُ بِالْعَمَلِ الْبَاطِلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم: 18] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَالنُّورُ يُعَبَّرُ بِالْهُدَى، وَالظُّلْمَةُ بِالضَّلَالِ. وَمِنْ هَا هُنَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَابِسِ بْنِ سَعْدٍ الطَّائِيِّ وَقَدْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَقْتَتِلَانِ، وَالنُّجُومَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَعَ أَيِّهِمَا كُنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْقَمَرِ عَلَى الشَّمْسِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوَّةِ، اذْهَبْ فَلَسْتَ تَعْمَلُ لِي عَمَلًا، وَلَا تُقْتَلُ إلَّا فِي لَبْسٍ مِنْ الْأَمْرِ، فَقُتِلَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَقِيلَ لِعَابِرٍ: رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَخَلَا فِي جَوْفِي، فَقَالَ: تَمُوتُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] {يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 10] . وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ سِيرِينَ: رَأَيْتُ مَعِي أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةِ خُبْزٍ فَطَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ: تَمُوتُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} [الفرقان: 45] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] . وَأَخَذَ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّهُ حَمَلَ رِزْقَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ لَهُ آخَرُ: رَأَيْتُ كِيسِي مَمْلُوءًا أَرَضَةً، فَقَالَ: أَنْتَ مَيِّتٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ: 14] وَالنَّخْلَةُ تَدُلُّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَعَلَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْحَنْظَلَةُ تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَالصَّنَمُ يَدُلُّ عَلَى الْعَبْدِ السُّوءِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالْبُسْتَانُ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَاحْتِرَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى حُبُوطِهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَنْقُضُ غَزْلًا أَوْ ثَوْبًا لِعَبِيدِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَإِنَّهُ يَنْقُضُ عَهْدًا وَيَنْكُثُهُ، وَالْمَشْيُ سَوِيًّا فِي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْأَخْذُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ يَدُلُّ عَلَى عُدُولِهِ عَنْهُ إلَى مَا خَالَفَهُ، وَإِذَا عَرَضَتْ لَهُ طَرِيقَانِ ذَاتُ يَمِينٍ وَذَاتُ شِمَالٍ فَسَلَكَ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَظُهُورُ عَوْرَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ ذَنْبٌ يَرْتَكِبُهُ وَيَفْتَضِحُ بِهِ، وَهُرُوبُهُ وَفِرَارُهُ مِنْ شَيْءٍ نَجَاةٌ وَظَفَرٌ، وَغَرَقُهُ فِي الْمَاءِ فِتْنَةٌ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِحَبْلٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَمَسُّكُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ وَاعْتِصَامُهُ بِحَبْلِهِ، فَإِنْ انْقَطَعَ بِهِ فَارَقَ الْعِصْمَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَ أَمْرًا فَإِنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ. فَالرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ يَضْرِبُهَا الْمَلَكُ الَّذِي قَدْ وَكَّلَهُ اللَّهُ بِالرُّؤْيَا لِيَسْتَدِلَّ الرَّائِي بِمَا ضُرِبَ بِهِ مِنْ الْمِثْلِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَيُعَبَّرُ مِنْهُ إلَى شَبَهِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ تَأْوِيلُهَا تَعْبِيرًا، وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنْ الْعُبُورِ، كَمَا أَنَّ الِاتِّعَاظَ يُسَمَّى اعْتِبَارًا وَعِبْرَةً لِعُبُورِ الْمُتَّعِظِ مِنْ النَّظِيرِ إلَى نَظِيرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَحُكْمُ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ لَبَطَلَ هَذَا التَّعْبِيرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَلَمَا وُجِدَ إلَيْهِ سَبِيلٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِعِبَادِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَمَرَ بِاسْتِمَاعِ أَمْثَالِهِ، وَدَعَا عِبَادَهُ إلَى تَعَقُّلِهَا، وَالتَّفْكِيرِ فِيهَا، وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا. [تَسْوِيَة الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ] [فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ] وَأَمَّا أَحْكَامُهُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَكُلُّهَا هَكَذَا، تَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، وَاعْتِبَارِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَعَدَمِ تَسْوِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَشَرِيعَتُهُ - سُبْحَانَهُ - مُنَزَّهَةٌ أَوْ تَنْهَى عَنْ شَيْءٍ لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ، ثُمَّ تُبِيحُ مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ أَزِيدَ مِنْهَا، فَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ فَمَا عَرَفَهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا؛ وَلَا قَدَّرَهَا حَقَّ قَدْرِهَا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تُبِيحُ شَيْئًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ إلَيْهِ وَمَصْلَحَتِهِ ثُمَّ تُحَرِّمُ مَا هُوَ أَحْوَجُ إلَيْهِ وَالْمَصْلَحَةُ فِي إبَاحَتِهِ أَظْهَرُ، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُشَرِّعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحِيَلِ مَا يَسْقُطُ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ، أَوْ يُبِيحَ بِهِ مَا حَرَّمَهُ، وَلَعَنَ فَاعِلَهُ، وَآذَنَهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ، وَشَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدَ؛ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَوِّغُ التَّوَصُّلَ إلَيْهِ بِأَدْنَى حِيلَةٍ، وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ اعْتَمَدَ هَذَا فِيمَا يَحْمِيهِ مِنْهُ الطَّبِيبُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ لَكَانَ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ، سَاعِيًا فِي ضَرَرِهِ، وَعُدَّ سَفِيهًا مُفْرِطًا، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، وَحُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، وَعَلَى إنْكَارِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَعَلَى إنْكَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْعَقْلُ وَالْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْعًا وَقَدْرًا يَأْبَى ذَلِكَ. [يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَمِثَالِهِ] وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ مُمَاثِلًا لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَذَلَ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ نُصْرَتُهُ فِيهِ، وَمَنْ سَمَحَ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ، وَالرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَمَنْ أَنْفَقَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَوْعَى أَوْعَى عَلَيْهِ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا اللَّهُ لَهُ عَنْ حَقِّهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ اسْتَقْصَى اسْتَقْصَى اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الشَّارِعُ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ، وَاقْتِضَائِهَا لِأَحْكَامِهَا، وَعَدَمِ تَخَلُّفِهَا عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ يُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَيُوجِبُ تَخَلُّفُ أَثَرِهَا عَنْهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35] {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: 28 - 26] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] . [فَصْلٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ] [جَاءَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ] وَقَدْ جَاءَ التَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالْبَاءِ تَارَةً، وَبِاللَّامِ تَارَةً، وَبِأَنْ تَارَةً، وَبِمَجْمُوعِهِمَا تَارَةً، وَبِكَيْ تَارَةً، وَمِنْ أَجْلِ تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ تَارَةً، وَبِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِالسَّبَبِيَّةِ تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لَهُ تَارَةً، وَبِلَمَّا تَارَةً، وَبِأَنَّ الْمُشَدَّدَةَ تَارَةً، وَبِلَعَلَّ تَارَةً، وَبِالْمَفْعُولِ لَهُ تَارَةً؛ فَالْأَوَّلُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97] وَأَنْ كَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ثُمَّ قِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَقُولُوا، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا، وَأَنْ وَاللَّامَ كَقَوْلِهِ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَغَالِبُ مَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي النَّفْيِ فَتَأَمَّلْهُ. وَكَيْ كَقَوْلِهِ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] . وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَالْفَاءُ كَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139] ، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] ، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [المزمل: 16] . وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] وَقَوْلِهِ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَوْلِهِ: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] ، {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] ، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] . وَلَمَّا كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] وَإِنَّ الْمُشَدَّدَةَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77] ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] . وَلَعَلَّ كَقَوْلِهِ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73] ، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] . وَالْمَفْعُولُ لَهُ كَقَوْلِهِ: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] أَيْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ جَزَاءَ نِعْمَةِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَمِنْ أَجْلِ كَقَوْلِهِ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 [مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ] وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلَلَ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيهَا؛ لِيَدُلّ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِهَا، وَتَعْدِيهَا بِتَعَدِّي أَوْصَافَهَا وَعِلَلِهَا، كَقَوْلِهِ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ: «، تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ، وَقَوْلِهِ: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، وَقَوْلِهِ: «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» ، وَقَوْلِهِ فِي الْهِرَّةِ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» ، وَنَهْيِهِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَتَقْرِيبِهِ الطِّيبَ وَقَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَقَوْلِهِ: «، إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» ، ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، - وقَوْله تَعَالَى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَقَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] ، «وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَنَهَى عَنْهُ.» وَقَوْلِهِ: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَقَوْلِهِ: «، إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِالْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» ، وَقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» . وَقَالَ وَقَدْ «سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إلَّا بِضْعَةٌ مِنْكَ» ، وَقَوْلِهِ فِي «ابْنَةِ حَمْزَةَ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي؛ إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ» ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّدَقَةِ: «إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . وَقَدْ قَرَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحْكَامَ إلَى أُمَّتِهِ بِذِكْرِ نَظَائِرِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَضَرَبَ لَهَا الْأَمْثَالَ، «فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: صَنَعْتُ الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرًا عَظِيمًا، قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ فَقُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَصُمْ» وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ الْمِثْلِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَأَنَّ الْمَعَانِيَ وَالْعِلَلَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ هَذَا التَّشْبِيهِ مَعْنًى، فَذَكَرَهُ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ مِثْلِهِ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْقُبْلَةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْوَطْءِ كَنِسْبَةِ وَضْعِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى شُرْبِهِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَضُرُّ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ، «وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحُجَّ عَنْهُ» ، فَقَرَّبَ الْحُكْمَ مِنْ الْحُكْمِ، وَجَعَلَ دَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَأَلْحَقَ النَّظِيرَ بِالنَّظِيرِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبٍ مِنْ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ» ، وَهَذَا مِنْ قِيَاسُ الْعَكْسِ الْجَلِيِّ الْبَيِّنِ، وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ ضِدِّ عِلَّتِهِ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» . وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. وَمِنْ تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّيَّ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: اقْضُوا اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» ، وَهَذَا الَّذِي تَرْجَمَهُ الْبُخَارِيِّ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْقِيَاسِ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُفْرِطُونَ فِيهِ وَلَا الْمُفَرِّطُونَ، فَإِنَّ النَّاسَ فِيهِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ مَنْ يَنْفِي الْعِلَلَ وَالْمَعَانِيَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ، وَيَجُوزُ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - شَرَعَ الْأَحْكَامَ لِعِلَلٍ وَمَصَالِحَ، وَرَبَطَهَا بِأَوْصَافٍ مُؤَثِّرَةٍ فِيهَا مُقْتَضِيَةٍ لَهَا طَرْدًا وَعَكْسًا، وَأَنَّهُ قَدْ يُوجِبُ الشَّيْءَ وَيُحَرِّمُ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُحَرِّمُ الشَّيْءَ وَيُبِيحُ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَنْهَى عَنْ الشَّيْءِ لَا لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ، وَيَأْمُرُ بِهِ لَا لِمَصْلَحَةٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةُ، وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِيهِ، وَتَوَسَّعُوا جِدًّا، وَجَمَعُوا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَدْنَى جَامِعٍ مِنْ شَبَهٍ أَوْ طَرْدٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَخَيَّلُونَهُ عِلَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّتَهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَيَجْعَلُونَهُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحُكْمَ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ فِي الْأَحْكَامِ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا «كَقَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ: هَلْ تَدْعُ الصَّلَاةَ زَمَنَ اسْتِحَاضَتِهَا؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَأَمَرَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ هَذَا الدَّمِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَ بِدَمِ حَيْضٍ» وَهَذَا قِيَاسٌ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ وَالْفَرْقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فَإِنْ قِيلَ: فَشَرْطُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ ذِكْرُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ. قِيلَ: هَذَا مِنْ حُسْنِ الِاخْتِصَارِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِالْوَصْفِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُعَلِّلُ بَعْلَةٍ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْأَصْلِ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ لِذِكْرِ الْأَصْلِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِهِ، فَيَعْرِفُ السَّامِعُ الْأَصْلَ حِينَ يَسْمَعُ ذِكْرَ الْعِلَّةِ؛ فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَلَّلَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مَعَ هَذَا الدَّمِ بِأَنَّهُ عِرْقٌ صَارَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مَعْلُومًا، فَإِنَّ كُلَّ سَامِعٍ سَمِعَ هَذَا يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ دَمَ الْعِرْقِ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ قَالَ: " هُوَ عِرْقٌ فَلَا يُوجِبُ تَرْكَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ دَمِ الْعُرُوقِ لَكَانَ عِيًّا، وَعُدَّ مِنْ الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَائِقًا بِفَصَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا بِعَجْرَفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتُكَلِّفْهُمْ وَتَطْوِيلِهِمْ. وَنَظِيرُ هَذَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ سَأَلَ عَنْ مَسِّ ذَكَرِهِ هَلْ إلَّا بِضْعَةٌ مِنْكَ» ، فَاسْتَغْنَى بِهَذَا عَنْ تَكَلُّفِ قَوْلِهِ كَسَائِرِ الْبِضْعَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» ، فَبَيَّنَ أَنَّ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ شَقِيقَانِ وَنَظِيرَانِ لَا يَتَفَاوَتَانِ وَلَا يَتَبَايَنَانِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الثَّابِتِ فِي فِطَرِهِمْ أَنَّ حُكْمَ الشَّقِيقَيْنِ وَالنَّظِيرَيْنِ حُكْمٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقَدْرِ أَوْ لِلشَّرْعِ أَوْ لَهُمَا؛ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي الشَّقِيقَيْنِ وَتَشَابُهِ الْقَرِينَيْنِ وَإِعْطَاءِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْآخَرِ. [فَصْلٌ حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ إلَى الْيَمَنِ] وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 حَدِيثٌ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ فَهُمْ أَصْحَابُ مُعَاذٍ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْحَدِيثِ وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ لَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الشُّهْرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ سُمِّيَ، كَيْفَ وَشُهْرَةُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ بِالْعِلْمِ وَالدَّيْنِ وَالْفَضْلِ وَالصِّدْقِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَخْفَى؟ وَلَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِهِ مُتَّهَمٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا مَجْرُوحٌ، بَلْ أَصْحَابُهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ وَخِيَارِهِمْ، لَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَشُعْبَةُ حَامِلُ لِوَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: إذَا رَأَيْتَ شُعْبَةَ فِي إسْنَادِ حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا إسْنَادٌ مُتَّصِلٌ، وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ نَقَلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، كَمَا وَقَفْنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ «، هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، وَقَوْلِهِ: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الْبَيْعَ» ، وَقَوْلِهِ: «الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ» ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَلَقَّتْهَا الْكَافَّةُ عَنْ الْكَافَّةِ غَنُوا بِصِحَّتِهَا عِنْدَهُمْ عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهَا، فَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا احْتَجُّوا بِهِ جَمِيعًا غَنُوا عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ وَجَعَلَ لَهُ عَلَى خَطَئِهِ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ أَجْرًا وَاحِدًا إذَا كَانَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ وَاتِّبَاعَهُ. [فَصْلٌ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ] فَصْلٌ: [كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يَجْتَهِدُونَ وَيَقِيسُونَ] وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْتَهِدُونَ فِي النَّوَازِلِ، وَيَقِيسُونَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَعْتَبِرُونَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ. قَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى: ثنا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْجَنَّةِ: كُلُّ قَوْمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَصْلَحَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُزْرُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيُعْرَفُ الْحَقُّ بِالْمُقَايَسَةِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا، وَرَفْعُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَدْ اجْتَهَدَ الصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ، كَمَا أَمَرَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَنْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاجْتَهَدَ بَعْضُهُمْ وَصَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا التَّأْخِيرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ النُّهُوضِ، فَنَظَرُوا إلَى الْمَعْنَى، وَاجْتَهَدَ آخَرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَأَخَّرُوهَا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَصَلَّوْهَا لَيْلًا، نَظَرُوا إلَى اللَّفْظِ، وَهَؤُلَاءِ سَلَفُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهَؤُلَاءِ سَلَفُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي وَالْقِيَاسِ. «وَلَمَّا كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْيَمَنِ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: هُوَ ابْنِي، فَأَقْرَعَ عَلِيٌّ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْقَارِعِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ لِلرَّجُلَيْنِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . «وَاجْتَهَدَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَحَكَمَ فِيهِمْ بِاجْتِهَادِهِ، فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» . «وَاجْتَهَدَ الصَّحَابِيَّانِ اللَّذَانِ خَرَجَا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، فَصَوَّبَهُمَا، وَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَصَبْتَ السَّنَةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ وَقَالَ لِلْآخَرِ لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» . وَلَمَّا «قَاسَ مُجَزِّزٌ الْمُدْلِجِيُّ وَقَافَ وَحَكَمَ بِقِيَاسِ وَقِيَافَتِهِ عَلَى أَنَّ أَقْدَامَ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ ابْنِهِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ سُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْحَقِّ» ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ وَابْنُهُ أُسَامَةُ أَسْوَدَ، فَأَلْحَقَ هَذَا الْقَائِفُ الْفَرْعَ بِنَظِيرِهِ وَأَصْله وَأَلْغَى وَصْفَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكَلَالَةُ " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ ". فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ: " إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ أَئِمَّةُ الْمُهْتَدِينَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ. . وَقَدْ اجْتَهَدَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ وَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، وَوَفَّقَهُ اللَّهُ لِلصَّوَابِ، وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَسْأَلُهُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، فَقَالَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَلِلْأَبِ بَقِيَّةُ الْمَالِ، فَقَالَ: تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ تَقُولُهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: أَقُولُهُ بِرَأْيِي، وَلَا أُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى أَبٍ. وَقَايَسَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمُكَاتَبِ، وَقَايَسَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ. وَقَاسَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَضْرَاسَ بِالْأَصَابِعِ، وَقَالَ: عَقْلُهَا سَوَاءٌ، اعْتَبِرُوهَا بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 [مَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِيَاسِ] قَالَ الْمُزَنِيّ: الْفُقَهَاءُ مِنْ عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا وَهَلُمَّ جَرًّا اسْتَعْمَلُوا الْمَقَايِيسَ فِي الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي أَمْرِ دَيْنِهِمْ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا بِأَنَّ نَظِيرَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَنَظِيرَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ؛ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إنْكَارُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ التَّشْبِيهُ بِالْأُمُورِ وَالتَّمْثِيلُ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ: وَمِنْ الْقِيَاسِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ صَيْدٌ مَا عَدَا الْمُكَلَّبَ مِنْ الْجَوَارِحِ قِيَاسًا عَلَى الْكِلَابِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] . وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُحْصَنُونَ قِيَاسًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إلَّا مَنْ شَذَّ مِمَّنْ لَا يَكَادُ قَوْلُهُ خِلَافًا، وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] . فَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الْخَطَأِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إلَّا مَنْ شَذَّ؛ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ قِيَاسًا، وَقَالَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُدَايَنَاتِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، فَدَخَلَ فِي مَعْنَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] ، قِيَاسًا الْمَوَارِيثُ وَالْوَدَائِعُ وَالْغُصُوبُ وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْأُخْتَيْنِ، وَقَالَ عَمَّنْ أَعْسَرَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبَا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُعْسِرٍ بِدَيْنٍ حَلَالٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ قِيَاسًا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوْرِيثُ الذَّكَرِ ضِعْفَيْ مِيرَاثِ الْأُنْثَى مُنْفَرِدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ فِي اجْتِمَاعِهِمَا بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وَقَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا قِيَاسُ التَّظَاهُرِ بِالْبِنْتِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْأُمِّ، وَقِيَاسُ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَقِيَاسُ تَحْرِيمِ الْأُخْتَيْنِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ مِنْ الْإِمَاءِ عَلَى الْحَرَائِرِ فِي الْجَمْعِ فِي التَّسَرِّي، قَالَ: وَهَذَا لَوْ تَقَصَّيْتُهُ لَطَالَ بِهِ الْكِتَابُ. [جَوَابُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَرَدُّهُ] قُلْتُ: بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُعْرَفُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ، وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 رَامَ بَعْضُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ إدْخَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ؛ فَأَدْخَلَ قَذْفَ الرِّجَالِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَجَعَلَ الْمُحْصَنَاتِ صِفَةً لِلْفُرُوجِ لَا لِلنِّسَاءِ، وَأَدْخَلَ صَيْدَ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، وَقَوْلِهِ: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، وَإِنْ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْكَلْبِ فَمَعْنَاهُ مُغْرِينَ لَهَا عَلَى الصَّيْدِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: مُكَلِّبِينَ مَعْنَاهُ مُعَلَّمِينَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ مُكَلِّبِينَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ صَيْدِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ بِالْكِلَابِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَمَا جَزَمُوا بِتَحْرِيمِ أَجْزَاءِ الْخِنْزِيرِ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، وَأَعَادُوا الضَّمِيرَ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، وَهُمْ مُضْطَرُّونَ فِيهَا - وَلَا بُدَّ - إلَى الْقِيَاسِ، أَوْ الْقَوْلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ، فَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى يَقُولُ فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» ، إنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالسَّمْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَدْهَانِ وَالْمَائِعَاتِ، هَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْفَتِيَّا لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالدِّبْسِ؛ كَمَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالْهِرَّةِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ» ، لَا يُفَرِّقُ عَالِمٌ يَفْهَمُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَمِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] ، أَيْ إنْ طَلَّقَهَا الثَّانِيَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا وَالْمُرَادُ بِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالصُّورَةِ الَّتِي يُطْلَقُ فِيهَا الثَّانِي فَقَطْ، بَلْ مَتَى تَفَارَقَا بِمَوْتٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ، وَقَوْلُهُ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بَلْ يَعُمُّ سَائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأَ بِهَا، وَلَا يَدَّهِنَ فِيهَا، وَلَا يَكْتَحِلَ مِنْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ عَالِمٌ؛ وَمِنْ ذَلِكَ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْرِمَ عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ» ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ، بَلْ يَتَعَدَّى النَّهْيُ إلَى الْجِبَابِ وَالدُّلُوقِ وَالْمُبَطَّنَاتِ وَالْفَرَّاجِي وَالْأَقْبِيَةِ والعرقشينات، وَإِلَى الْقُبَعِ وَالطَّاقِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ والكلوثة وَالطَّيْلَسَانِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَإِلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالْجُرْمُوقَيْنِ والزربول ذِي السَّاقِ، وَإِلَى التُّبَّانِ وَنَحْوِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ، فَلَوْ ذَهَبَ مَعَهُ بِخِرْقَةٍ وَتَنَظَّفَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَحْجَارِ أَوْ قُطْنٌ أَوْ صُوفٌ أَوْ خَزٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ، وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ غَرَضٌ فِي غَيْرِ التَّنْظِيفِ وَالْإِزَالَةِ، فَمَا كَانَ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِثْلَ الْأَحْجَارِ فِي الْجَوَازِ [بَلْ] أَوْلَى. وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْخِطْبَةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِجَارَةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَلَى إجَارَتِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ دُخُولُ الْإِجَارَةِ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ الْعَامِّ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، فَحَقِيقَتُهَا غَيْرُ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَأَحْكَامُهَا غَيْرُ أَحْكَامِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] . فَأَلْحَقَتْ الْأُمَّةُ أَنْوَاعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي نَقْضِهَا الْغَائِطَ، وَالْآيَةُ لَمْ تَنُصَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إلَّا عَلَيْهِ وَعَلَى اللَّمْسِ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ، وَأَلْحَقَتْ الِاحْتِلَامَ بِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ، وَأَلْحَقَتْ وَاجِدَ ثَمَنِ الْمَاءِ بِوَاجِدِهِ، وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ مِنْ الْعَطَشِ إذَا تَوَضَّأَ بِالْعَادِمِ؛ فَجَوَّزَتْ لَهُ التَّيَمُّمَ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَشِيَ الْمَرَضَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْعُمُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَرِيبُ مَنْ لَهُ فَهْمٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَصْدِ عُمُومِهَا. وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا بِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ أَوْلَى مِنْ إدْخَالِهَا فِي عُمُومَاتٍ لَفْظِيَّةٍ بَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لَهَا لَيْسَتْ بِحُرِّيَّةِ الْفَهْمِ مِمَّا لَا يُنْكِرُ تَنَاوُلَ الْعُمُومَيْنِ لَهَا؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِتَنَاوُلِ الْعُمُومَيْنِ لَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَقَاسَتْ الْأُمَّةُ الرَّهْنَ فِي الْحَضَرِ عَلَى الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ، وَالرَّهْنَ مَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ عَلَى الرَّهْنِ مَعَ عَدَمِهِ، فَإِنْ اُسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ؛ فَلَا عُمُومَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا رَهَنَهَا عَلَى شَعِيرٍ اسْتَقْرَضَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِيَاسِ إمَّا عَلَى الْآيَةِ وَإِمَّا عَلَى السُّنَّةِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ لَمَّا بَاعَ خَمْرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَخَذَهُ فِي الْعُشُورِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ عُمَرَ فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ، أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَى الْيَهُودِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يَحْرُمُ ثَمَنُ الشُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ ثَمَنُ الْخَمْرِ الْحَرَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأْنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ قَالَا: ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - قَالَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ: كَمْ يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: ثِنْتَيْنِ، وَطَلَاقُهُ ثِنْتَانِ، وَهَذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ أَنَّ عُمَرُ قَالَ: لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجْعَلَ عِدَّةَ الْأَمَةِ حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا شَهْرًا وَنِصْفًا، فَسَكَتَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ: عِدَّةُ الْأَمَةِ إذَا لَمْ تَحِضْ شَهْرَانِ كَعِدَّتِهَا إذَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ، وَيُطَلِّقُ طَلْقَتَيْنِ، وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا، وَقَالَ عَلِيٌّ: عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرٌ وَنِصْفٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نَصَّفُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى تَنْصِيفِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - الْحَدَّ عَلَى الْأَمَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدَّمُوا الصِّدِّيقَ فِي الْخِلَافَةِ وَقَالُوا: رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا، أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ فَقَاسُوا الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى عَلَى إمَامَةِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَتَرْتِيبٍ وَاحِدٍ وَحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ مَنْعُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِرَأْيِهِمَا، وَكَذَلِكَ تَسْوِيَةُ الصِّدِّيقِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ بِرَأْيِهِ، وَتَفْضِيلُ عَمَلٍ بِرَأْيِهِ، وَكَذَلِكَ إلْحَاقُ عُمَرَ حَدَّ الْخَمْرِ بِحَدِّ الْقَذْفِ بِرَأْيِهِ، وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ، وَكَذَلِكَ تَوْرِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِرَأْيِهِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ، كَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ» ، قَالَ: أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَزَيْدٌ لَمَّا وَرَّثَا الْأُمَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ قَاسَا وُجُودَ الزَّوْجِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجٌ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْأَبِ ضِعْفُ مَا لِلْأُمِّ، فَقَدَّرَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كُلُّ الْمَالِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إذَا اجْتَمَعَا وَكَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الذَّكَرُ ضِعْفَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى كَالْأَوْلَادِ وَبَنِي الْأَبِ، وَإِمَّا أَنْ تُسَاوِيَهُ كَوَلَدِ الْأُمِّ، وَأَمَّا أَنَّ الْأُنْثَى تَأْخُذُ ضِعْفَ مَا يَأْخُذُ الذَّكَرُ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي دَرَجَتِهِ فَلَا عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الصَّحَابَةُ فِي الْفَرَائِضِ بِالْعَوْلِ وَإِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى جَمِيعِ ذَوِي الْفُرُوضِ قِيَاسًا عَلَى إدْخَالِ النَّقْصِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إذَا ضَاقَ مَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ تَوْفِيَتِهِمْ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْغُرَمَاءِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ» ، وَهَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ، عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْحِرْمَانِ وَتَوْفِيَةَ بَعْضِهِمْ بِأَخْذِ نَصِيبِهِ لَيْسَ مِنْ الْعَدْلِ. [قِيَاسُ الصَّحَابَةِ حَدَّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ] وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأْنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاوَرَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَقَالَ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَرِبُوهَا وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: إنَّ السَّكْرَانَ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَاجْعَلْهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، فَجَعَلَهُ عُمَرُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ أَنَّ عُمَرَ شَاوَرَ النَّاسَ، وَرَوَاهُ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اسْتَشَارَهُمْ عُمَرُ، فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ عَلِيٌّ بِهَذَا الْقِيَاسِ، بَلْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ وَبَرَةَ الصَّلْتِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى عُمَرَ، فَأَتَيْتُهُ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مُتَّكِئُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إنَّ النَّاسَ انْبَسَطُوا فِي الْخَمْرِ، وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُمْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكَ، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَاهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلِّغْ صَاحِبَكَ مَا قَالُوا، فَضَرَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 خَالِدٌ ثَمَانِينَ، وَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ إذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الْقَوِيِّ الْمُنْتَهِكِ فِي الشَّرَابِ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ، وَإِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الزَّلَّةُ الضَّعِيفُ ضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ، وَهَذِهِ مَرَاسِيلُ وَمُسْنَدَاتٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَشُهْرَتُهَا تُغْنِي عَنْ إسْنَادِهَا. [قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ] [قِيَاسُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ] وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى الْحَنَّاطِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَرِهَ عُمَرُ الْكَلَامَ فِي الْجَدِّ حَتَّى صَارَ جَدًّا، وَقَالَ: إنَّهُ كَانَ مِنْ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَسَأَلَ عَنْهَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِشَجَرَةٍ خَرَجَتْ وَلَهَا أَغْصَانٌ، قَالَ: فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ، فَجَعَلَ الثُّلُثَ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَجَرَةٌ نَبَتَتْ، فَانْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ، فَانْشَعَبَ مِنْ الْغُصْنِ غُصْنَانِ، فَمَا جَعْلُ الْغُصْنِ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ الْغُصْنِ الثَّانِي، وَقَدْ خَرَجَ الْغُصْنَانِ مِنْ الْغُصْنِ الْأَوَّلِ؟ قَالَ: ثُمَّ سَأَلَ عَلِيًّا، فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا وَادِيًا سَالَ فِيهِ سَيْلٌ فَجَعَلَهُ أَخًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِتَّةٍ، فَأَعْطَاهُ السُّدُسَ، وَبَلَغَنِي أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ جَعَلَهُ سَيْلًا، قَالَ: فَانْشَعَبَ مِنْهُ شُعْبَةٌ، ثُمَّ انْشَعَبَتْ شُعْبَتَانِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الشُّعْبَةَ الْوُسْطَى تَيْبَسُ أَمَا كَانَتْ تَرْجِعُ إلَى الشُّعْبَتَيْنِ جَمِيعًا؟ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَكَانَ زَيْدٌ يَجْعَلُهُ أَخًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَلَاثَةً هُوَ ثَالِثُهُمْ، فَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَجْعَلُهُ أَخًا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِتَّةٍ وَهُوَ سَادِسُهُمْ، وَيُعْطِيهِ السُّدُسَ، فَإِنْ زَادُوا عَلَى سِتَّةٍ أَعْطَاهُ السُّدُسَ، وَصَارَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا اسْتَشَارَ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ قَالَ زَيْدٌ: وَكَانَ رَأْيِي يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْإِخْوَةَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ أَخِيهِمْ مِنْ الْجَدِّ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرَى يَوْمئِذٍ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى بِمِيرَاثِ ابْنِ ابْنِهِ مِنْ إخْوَتِهِ، فَتَحَاوَرْتُ أَنَا وَعُمَرُ مُحَاوَرَةً شَدِيدَةً، فَضَرَبْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ مَثَلًا، فَقُلْتُ: لَوْ أَنَّ شَجَرَةً تَشَعَّبَ مِنْ أَصْلِهَا غُصْنٌ ثُمَّ تَشَعَّبَ فِي ذَلِكَ الْغُصْنِ خُوطَانِ ذَلِكَ الْغُصْنُ يَجْمَعُ الْخُوطَيْنِ دُونَ الْأَصْلِ وَيَغْذُوهُمَا، أَلَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَحَدَ الْخُوطَيْنِ أَقْرَبُ إلَى أَخِيهِ مِنْهُ إلَى الْأَصْلِ؟ قَالَ زَيْدٌ: فَأَنَا أَعْذِلُهُ وَأَضْرِبُ لَهُ هَذِهِ الْأَمْثَالَ وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنْ الْإِخْوَةِ، وَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي قَضَيْتُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الْيَوْمَ لِبَعْضِهِمْ لَقَضَيْتُ بِهِ لِلْجَدِّ كُلِّهِ، وَلَكِنْ لَعَلِّي لَا أُخَيِّبُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ ذَوِي حَقٍّ. وَضَرَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ يَوْمَئِذٍ مَثَلًا مَعْنَاهُ لَوْ أَنَّ سَيْلًا سَالَ فَخَلَجَ مِنْهُ خَلِيجٌ، ثُمَّ خَلَجَ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيجِ شُعْبَتَانِ. وَرَأْيُ الصِّدِّيقِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَأَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ، لِعَشْرَةِ أَوْجُهٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ، وَيَعْرِفُونَهَا بِالْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ يَقْدَحُ فِي كُلِّ سَنَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ وَأَثَرٍ مِنْ هَذَا الْآثَارِ، فَهَذِهِ فِي تَعَدُّدِهَا وَاخْتِلَافِ وُجُوهِهَا وَطُرُقِهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الْإِخْبَارِ بِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُيَيِّ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ، وَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِي قَتَلَتْهُ امْرَأَةُ أَبِيهِ وَخَلِيلُهَا، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيَّ أَنْ اُقْتُلْهُمَا فَلَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ كُلُّهُمْ لَقَتَلْتُهُمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ وَأَبُو بَكْرٍ قَالَا جَمِيعًا: إنَّ عُمَرَ كَانَ يَشُكُّ فِيهَا حَتَّى قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ نَفَرًا اشْتَرَكُوا فِي سَرِقَةِ جَزُورٍ، فَأَخَذَ هَذَا عُضْوًا وَهَذَا عُضْوًا، أَكُنْتَ قَاطِعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَذَلِكَ حِينَ اسْتَخْرَجَ لَهُ الرَّأْيُ. [بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَوَارِجِ] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي عَلِيٌّ إلَى الْحَرُورِيَّةِ لِأُكَلِّمَهُمْ، فَلَمَّا قَالُوا: " لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ " قُلْتُ: أَجَلْ، صَدَقْتُمْ، لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ حَكَّمَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَحَكَّمَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ؛ فَالْحُكْمُ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ وَالصَّيْدِ أَفْضَلُ أَمْ الْحُكْمُ فِي الْأُمَّةِ يَرْجِعُ بِهَا، وَيَحْقِنُ دِمَاءَهَا، وَيَلُمُّ شَعَثُهَا؟ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ثنا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا، فَإِنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَيْهِمْ فَأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأُكَلِّمَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَخْشَى عَلَيْكَ مِنْهُمْ، قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا حَسَنَ الْخُلُقِ لَا أُوذِيَ أَحَدًا، قَالَ: فَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الْيَمَنِيَّةِ وَتَرَجَّلْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ، فَقَالُوا لِي: مَا هَذَا اللِّبَاسُ؟ فَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الْيَمَنِيَّةِ، فَقَالُوا لَا بَأْسَ، فَمَا جَاءَ بِكَ؟ فَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِي، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَتَنُهُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ مِنْكُمْ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، أَبْلَغَكُمْ عَنْهُمْ وَأَبْلَغَهُمْ عَنْكُمْ، فَمَا الَّذِي نَقَمْتُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ خَصِمُونَ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَلِّمُوهُ، فَانْتَحَى لِي رَجُلَانِ مِنْهُمْ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَقَالُوا: إنْ شِئْتَ تَكَلَّمْتَ وَإِنْ شِئْتَ تَكَلَّمْنَا، فَقُلْتُ: بَلْ تَكَلَّمُوا، فَقَالُوا: ثَلَاثٌ نَقَمْنَاهُنَّ عَلَيْهِ، جَعَلَ الْحُكْمَ إلَى الرِّجَالِ وَقَالَ اللَّهُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ، فَقُلْتُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحُكْمَ مِنْ أَمْرِهِ إلَى الرِّجَالِ فِي رُبْعِ دِرْهَمٍ فِي الْأَرْنَبِ وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، أَفَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: وَأُخْرَى مَحَا نَفْسَهُ أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمِيرُ الْكَافِرِينَ هُوَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إنْ قَرَأْتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُمْ أَوْ أَرَاهُ قَدْ بَلَّغَكُمْ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: اُكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: " اُمْحُ يَا عَلِيُّ " أَفَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ قَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ وَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَخَرَجْتُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، فَأَنْتُمْ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، وَكُلَّمَا جِئْتُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقُولُ: أَفَخَرَجْتُ مِنْهَا: فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سِتَّةُ آلَافٍ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيَاسُهُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ وَأَوْضَحُهُ. وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مُخَالَفَتَهُ لِلْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فَقَالَ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا جَعَلَ أَبَ الْأَبِ أَبًا؟ وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ. وَلَمَّا خَصَّ الصِّدِّيقُ أُمَّ الْأُمِّ بِالْمِيرَاثِ دُونَ أُمِّ الْأَبِ قَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: لَقَدْ وَرَّثْتَ امْرَأَةً مِنْ مَيِّتٍ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَرِثَ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ، فَشَرَّكَ بَيْنَهُمَا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرْنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَتْ جَدَّتَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَعْطَى الْمِيرَاثَ أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، قَدْ أَعْطَيْتَ الْمِيرَاثَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا، فَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَلَمَّا شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُكْمِلُوا النِّصَابَ حَدَّهُمْ عُمَرُ، قِيَاسًا عَلَى الْقَاذِفِ، وَلَمْ يَكُونُوا قَذَفَةً بَلْ شُهُودًا؛ وَقَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ: إنْ نَتَّبِعْ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَسَدُّ، وَإِنْ نَتَّبِعْ رَأْيَ مَنْ قَبْلَكَ فَلَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ كَانَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ، فَقَالَ لَهُ قَاضِيهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأْيُكَ مَعَ رَأْيِ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ فِي الْفُرْقَةِ. وَلَمَّا أَرْسَلَ عُمَرُ إلَى الْمَرْأَةِ فَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ: إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ؛ وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا الْمَأْثَمُ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَحْطُوطًا عَنْكَ، وَأَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ، فَقَاسَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى مُؤَدِّبِ امْرَأَتِهِ وَغُلَامِهِ وَوَلَدِهِ، وَقَاسَهُ عَلِيٌّ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ، فَاتَّبَعَ عُمَرُ قِيَاسَ عَلِيٍّ. وَلَمَّا اُحْتُضِرَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى بِالْخِلَافَةِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَاسَ وِلَايَتَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ إذْ هُوَ صَاحِبُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى وِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ إذْ كَانُوا هُمْ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ [اخْتِلَافُ الصَّحَابَة فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ] [اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ] وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: سَأَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ عَنْ الْخِيَارِ، فَقُلْتُ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ، فَاتَّبَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَصَ الْأَمْرُ إلَيَّ وَعَلِمْتُ أَنِّي أُسْأَلُ عَنْ الْفُرُوجِ عُدْتُ إلَى مَا كُنْتُ أَرَى، فَقَالَ لَهُ زَاذَانُ: لَأَمْرٌ جَامَعْتَ عَلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَكْتَ رَأْيَكَ لَهُ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَمْرٍ انْفَرَدْتَ بِهِ، فَضَحِكَ وَقَالَ: أَمَا إنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَخَالَفَنِي وَإِيَّاهُ، وَقَالَ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَزَوْجُهَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَهَذَا رَأْيٌ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَرَأْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْوَى وَأَصَحُّ. وَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي الْجَدِّ رَأْيًا فَاتَّبِعُونِي، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ نَتَّبِعْ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ رَشِيدٌ، وَإِنْ نَتَّبِعْ رَأْيَ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعِمَّ ذُو الرَّأْيِ كَانَ، وَهَلْ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْمُعَادَةِ وَالْأَكْدَرِيَّةِ نَصٌّ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ إلَّا مُجَرَّدَ الرَّأْيِ؟ . وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَقَالَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ وَبَصَرَا الدَّيْنِ وَسَمْعُهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: هُوَ يَمِينٌ، وَتَبِعَهُمَا حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَقَالَ سَيْفُ اللَّهِ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَزَيْدٌ: هُوَ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ. [الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ] فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَثَّلُوا الْوَقَائِعَ بِنَظَائِرِهَا، وَشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا، وَرَدُّوا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ فِي أَحْكَامِهَا، وَفَتَحُوا لِلْعُلَمَاءِ بَابَ الِاجْتِهَادِ، وَنَهَجُوا لَهُمْ طَرِيقَهُ، وَبَيَّنُوا لَهُمْ سَبِيلَهُ، وَهَلْ يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، وَيُعْمِي عَلَيْهِ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ، فَمَنْ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى الْغَضَبِ وَحْدَهُ دُونَ الْهَمِّ الْمُزْعِجِ وَالْخَوْفِ الْمُقْلِقِ وَالْجُوعِ وَالظَّمَأِ الشَّدِيدِ وَشُغْلِ الْقَلْبِ الْمَانِعِ مِنْ الْفَهْمِ فَقَدْ قَلَّ فِقْهُهُ وَفَهْمُهُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْحُكْمِ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْأَلْفَاظُ لَمْ تُقْصَدْ لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلْمَعَانِي، وَالتَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمُرَادُهُ يَظْهَرُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ تَارَةً، وَمِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ تَارَةً، وَقَدْ يَكُونُ فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَقْوَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ اللَّفْظِ أَقْوَى، وَقَدْ يَتَقَارَبَانِ كَمَا إذَا قَالَ الدَّلِيلُ لِغَيْرِهِ: لَا تَسْلُكُ الطَّرِيقَ فَإِنَّ فِيهَا مَنْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، أَوْ هِيَ مَعْطَشَةٌ مَخُوفَةٌ عَلِمَ هُوَ وَكُلُّ سَامِعٍ أَنَّ قَصْدَهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِهِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ نَهْيَهُ عَنْ كُلِّ طَرِيقٍ هَذَا شَأْنُهَا؛ فَلَوْ خَالَفَهُ وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى عَطِبَ بِهَا حَسُنَ لَوْمُهُ، وَنُسِبَ إلَى مُخَالَفَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَلَوْ قَالَ الطَّبِيبُ لِلْعَلِيلِ وَعِنْدَهُ لَحْمُ ضَأْنٍ: لَا تَأْكُلُ الضَّأْنَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي مَادَّةِ الْمَرَضِ، لِفَهْمِ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْهُ أَنَّ لَحْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كَذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُمَا لَعُدَّ مُخَالِفًا، وَالتَّحَاكُمُ فِي ذَلِكَ إلَى فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ، وَلَوْ مَنَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِإِحْسَانِهِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لَهُ لُقْمَةً، وَلَا شَرِبْتُ لَهُ مَاءً، يُرِيدُ خَلَاصَهُ مِنْ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبِلَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ وَالذَّهَبَ وَالثِّيَابَ وَالشَّاةَ وَنَحْوَهَا لَعَدَّهُ الْعُقَلَاءُ وَاقِعًا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَمُرْتَكِبًا لِذُرْوَةِ سَنَامِهِ؛ وَلَوْ لَامَهُ عَاقِلٌ عَلَى كَلَامِهِ لِمَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مُحَادَثَتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُهُ، ثُمَّ رَآهُ خَالِيًا بِهِ يُوَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ وَيُعَاشِرُهُ وَلَا يُكَلِّمُهُ لَعَدُّوهُ مُرْتَكِبًا لِأَشَدَّ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَهُ. وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ؛ وَلِهَذَا فَهِمَتْ الْأُمَّةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ، جَمِيعَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ مِنْ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْمَسْكَنِ وَغَيْرِهَا. [الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ] وَفَهِمْتُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إرَادَةَ النَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أَنْوَاعِ الْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ نُصُوصٌ أُخْرَى بِالنَّهْيِ عَنْ عُمُومِ الْأَذَى، فَلَوْ بَصَقَ رَجُلٌ فِي وَجْهِ وَالِدَيْهِ وَضَرَبَهُمَا بِالنَّعْلِ وَقَالَ: إنِّي لَمْ أَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ لَعَدَّهُ النَّاسُ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ وَالْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ مِنْ مُجَرَّدِ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ التَّأْفِيفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ نَهْيٌ غَيْرُهُ، وَمَنْعُ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْفِطْرَةِ. فَمَنْ عَرَفَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَجَبَ اتِّبَاعُ مُرَادِهِ، وَالْأَلْفَاظُ لَمْ تُقْصَدْ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَدِلَّةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا ظَهَرَ مُرَادُهُ وَوَضَحَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ عَمَلٌ بِمُقْتَضَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِشَارَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ بِإِيمَاءَةٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ، أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ، أَوْ عَادَةٍ لَهُ مُطَّرِدَةٍ لَا يُخِلُّ بِهَا، أَوْ مِنْ مُقْتَضَى كَمَالِهِ وَكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ مِنْهُ إرَادَةُ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ وَتَرْكُ إرَادَةِ مَا هُوَ مُتَيَقَّنٌ مَصْلَحَتُهُ، وَأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى إرَادَتِهِ لِلنَّظِيرِ بِإِرَادَةِ نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ وَشَبَهِهِ، وَعَلَى كَرَاهَةِ الشَّيْءِ بِكَرَاهَةِ مِثْلِهِ وَنَظِيرِهِ وَمُشَبَّهِهِ، فَيَقْطَعُ الْعَارِفُ بِهِ وَبِحِكْمَتِهِ وَأَوْصَافِهِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا وَيَكْرَهُ هَذَا، وَيُحِبُّ هَذَا وَيَبْغَضُ هَذَا. وَأَنْتَ تَجِدُ مَنْ لَهُ اعْتِنَاءٌ شَدِيدٌ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ وَأَقْوَالِهِ كَيْفَ يَفْهَمُ مُرَادَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَمَذَاهِبِهِ؟ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفْتِي بِكَذَا وَيَقُولُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِكَذَا وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ، لِمَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ صَرِيحًا، وَجَمِيعُ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. [الْعِبْرَةُ بِإِرَادَةِ التَّكَلُّمِ لَا بِلَفْظِهِ] وَهَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَاللَّفْظُ الْخَاصُّ قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى مَعْنَى الْعُمُومِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَامُّ قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى الْخُصُوصِ بِالْإِرَادَةِ، فَإِذَا دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، أَوْ قِيلَ لَهُ: " نَمْ " فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَنَامُ، أَوْ: " اشْرَبْ هَذَا الْمَاءَ " فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ نُقِلَتْ إلَى مَعْنَى الْخُصُوصِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي يَقْطَعُ السَّامِعُ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّفْيَ الْعَامَّ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ تَعَبُّدِيَّةً، وَالْعَارِفُ يَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ؟ وَاللَّفْظِيُّ يَقُولُ: مَاذَا قَالَ؟ كَمَا كَانَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] ، فَذَمَّ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ كَلَامَهُ، وَالْفِقْهُ أَخَصُّ مِنْ الْفَهْمِ، وَهُوَ فَهْمُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ وَضْعِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي هَذَا تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُمْ فِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى إذْنِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَإِبَاحَتِهِ بِإِقْرَارِهِ وَعَدَمِ إنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُرَادِ بِغَيْرِ لَفْظٍ، بَلْ بِمَا عُرِفَ مِنْ مُوجِبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ حَتَّى يُبَيِّنَهُ. وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ بِمَا عَرَفَتْهُ مِنْ حِكْمَةِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يُخْزِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْعَزِيزَ الرَّحِيمَ الَّذِي هُوَ أَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ وَإِلَهُ الْعَالَمِينَ لَا يُخْزِيهِ، وَلَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْهَا قَبْلَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، بَلْ اسْتِدْلَالٌ عَلَى صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا فِي حَقِّ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، فَهَذَا مَعْرِفَةٌ مِنْهَا بِمُرَادِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَمَا يَفْعَلُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَمُجَازَاتِهِ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ أَفْهَمَ الْأَمَةِ لِمُرَادِ نَبِيِّهَا وَأَتْبَعَ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ وَمَقْصُودِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَظْهَرُ لَهُ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. [بِمَ يُعْرَفُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ؟] وَالْعِلْمُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ يُعْرَفُ تَارَةً مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ، وَتَارَةً مِنْ عُمُومِ عِلَّتِهِ، وَالْحَوَالَةُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْضَحُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَى الثَّانِي أَوْضَحُ لِأَرْبَابِ الْمَعَانِي وَالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَا يُخِلُّ بِمَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ التَّقْصِيرُ بِهَا عَنْ عُمُومِهَا، وَهَضْمُهَا تَارَةً وَتَحْمِيلُهَا فَوْقَ مَا أُرِيدَ بِهَا تَارَةً، وَيَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْمَعَانِي فِيهَا نَظِيرُ مَا يَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آفَاتٍ هِيَ مُنْشَأُ غَلَطِ الْفَرِيقَيْنِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ، فَنَقُولُ: [بَعْضُ الْأَغْلَاطِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا أَهْلُ الْأَلْفَاظِ وَأَهْلُ الْمَعَانِي] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ، فَلَفْظُ الْخَمْرِ عَامٌّ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ، فَإِخْرَاجُ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ عَنْ شُمُولِ اسْمِ الْخَمْرِ لَهَا تَقْصِيرٌ بِهِ وَهَضْمٌ لِعُمُومِهِ، بَلْ الْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَإِخْرَاجُ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَيْسِرِ عَنْ شُمُولِ اسْمِهِ لَهَا تَقْصِيرٌ أَيْضًا بِهِ، وَهَضْمٌ لِمَعْنَاهُ، فَمَا الَّذِي جَعَلَ النَّرْدَ الْخَالِيَ عَنْ الْعِوَضِ مِنْ الْمَيْسِرِ وَأَخْرَجَ الشِّطْرَنْجَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَظْهَرْ أَنْوَاعِ الْمَيْسِرِ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ مَيْسِرٌ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: هُوَ مَيْسِرُ الْعَجَمِ. وَأَمَّا تَحْمِيلُ اللَّفْظِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ فَكَمَا حُمِّلَ لَفْظُ قَوْله تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ الَّتِي هِيَ رِبًا بِحِيلَةٍ وَجَعْلِهَا مِنْ التِّجَارَةِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ الرِّبَا الصَّرِيحَ تِجَارَةٌ لِلْمُرَابِي وَأَيُّ تِجَارَةٍ، وَكَمَا حُمِّلَ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] عَلَى مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ وَجَعْلِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ الْمَلْعُونِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلًا فِي اسْمِ الزَّوْجِ، وَهَذَا فِي التَّجَاوُزِ يُقَابِلُ الْأَوَّلَ فِي التَّقْصِيرِ. وَلِهَذَا كَانَ مَعْرِفَةُ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَصْلَ الْعِلْمِ وَقَاعِدَتَهُ وَأَخِيَّتَهُ الَّتِي يُرْجَعُ إلَيْهَا، فَلَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ عَنْهَا، وَلَا يُدْخِلُ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، بَلْ يُعْطِيهَا حَقَّهَا، وَيُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهَا. وَمِنْ هَذَا لَفْظُ الْأَيْمَانِ وَالْحَلِفِ، أَخْرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُ الْأَيْمَانَ الِالْتِزَامِيَّةَ الَّتِي يَلْتَزِمُ صَاحِبُهَا بِهَا إيجَابَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ، وَأَدْخَلَتْ طَائِفَةٌ فِيهَا التَّعْلِيقَ الْمَحْضَ الَّذِي لَا يَقْتَضِي حَضًّا وَلَا مَنْعًا، وَالْأَوَّلُ نَقْصٌ مِنْ الْمَعْنَى، وَالثَّانِي تَحْمِيلٌ لَهُ فَوْقَ مَعْنَاهُ. وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظُ الرِّبَا، أَدْخَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى تَنَاوُلِ اسْمِ الرِّبَا لَهُ كَبَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ وَالدِّبْسِ بِالْعِنَبِ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ، وَكُلُّ مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ رِبَوِيٍّ وَعُمِلَ مِنْهُ بِأَصْلِهِ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ اسْمِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْمَصِيرَ إلَيْهِ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مِيزَانٍ صَحِيحٍ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ مُدِّ عَجْوَةٍ مَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ الرِّبَا. وَأَخْرَجَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ الرِّبَا الصَّحِيحِ حَقِيقَةً قَصْدًا وَشَرْعًا كَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الرِّبَا الصَّرِيحِ، وَمَفْسَدَةُ الرِّبَا الْبَحْتِ الَّذِي لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالسَّلَالِيمِ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ، وَأَخْرَجَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَإِنْ كَانَ كَوْنُهُ مِنْ الرِّبَا أَخْفَى مِنْ كَوْنِ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ مِنْهُ، فَإِنَّ التَّمَاثُلَ مَوْجُودٌ فِيهِ فِي الْحَالِ دُونَ الْمَآلِ، وَحَقِيقَةُ الرِّبَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ مِنْهَا فِي الْعَقْدِ الرِّبَوِيِّ الَّذِي لَا حِيلَةَ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ، قَصَرَتْ بِهَا طَائِفَةٌ، فَأَخْرَجَتْ مِنْهُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ وَشَهَادَةَ الْعَبِيدِ الْعُدُولِ الصَّادِقِينَ الْمَقْبُولِي الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَحْضُرُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ كَالْأَعْرَاسِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَشَهَادَةَ الزَّوْجِ فِي اللِّعَانِ إذَا نَكَلَتْ الْمَرْأَةُ، وَأَيْمَانَ الْمُدَّعِينَ الدَّمَ إذَا ظَهَرَ اللَّوْثُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ الْحَقَّ أَعْظَمَ مِنْ بَيَانِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهَادَةِ الْقَاذِفِ، وَشَهَادَةَ الْأَعْمَى عَلَى مَا يَتَيَقَّنُهُ، وَشَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْلِمٌ، وَشَهَادَةَ الْحَالِ فِي تَدَاعِي الزَّوْجَيْنِ مَتَاعَ الْبَيْتِ وَتَدَاعِي النَّجَّارِ وَالْخَيَّاطِ آلَتَهُمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَدْخَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مَا لَيْسَ مِنْهُ كَشَهَادَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ، وَشَهَادَةِ وُجُوهِ الْأَجْرِ وَمَعَاقِدِ الْقِمْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَا بَيَّنَ الْحَقَّ فَهُوَ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يُعَطِّلْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ حَقًّا بَعْدَمَا تَبَيَّنَّ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ أَصْلًا، بَلْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ سِوَاهُ أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ الْحَقُّ وَوَضَحَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ وَنَصْرُهُ، وَحَرُمَ تَعْطِيلُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، وَيَكْفِي الْمُسْتَبْصِرَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي جَانِبِ اللَّفْظِ فُهِمَ نَظِيرُهُ فِي جَانِبِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ. [الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ] وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ حَمَّلُوا مَعَانِيَ النُّصُوصِ فَوْقَ مَا حَمَّلَهَا الشَّارِعُ، وَأَصْحَابُ الْأَلْفَاظِ وَالظَّوَاهِرِ قَصَرُوا بِمَعَانِيهَا عَنْ مُرَادِهِ، فَأُولَئِكَ قَالُوا: إذَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ فِي الْبَحْرِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَنَجَّسُوا بِهَا الْمَاءَ الْكَثِيرَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ بِتِلْكَ الْقَطْرَةِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: إذَا بَالَ جَرَّةً مِنْ بَوْلٍ وَصَبَّهَا فِي الْمَاءِ لَمْ تُنَجِّسْهُ، وَإِذَا بَالَ فِي الْمَاءِ نَفْسِهِ وَلَوْ أَدْنَى شَيْءٍ نَجَّسَهُ، وَنَجَّسَ أَصْحَابَ الرَّأْيِ وَالْمَقَايِيسِ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَ أَلْفِ قِنْطَارٍ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ بِمِثْلِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالدَّمِ، وَالشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ مَنْ يُنَجِّسُ شَعْرَهُمَا. وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَالْأَلْفَاظِ عِنْدَهُمْ لَوْ وَقَعَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بِكَمَالِهِ أَوْ أَيُّ مَيْتَةٍ كَانَتْ فِي أَيْ ذَائِبٍ كَانَ مِنْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ أَوْ خَلٍّ أَوْ دِبْسٍ أَوْ وَدَكٍ غَيْرِ السَّمْنِ أُلْقِيَتْ الْمَيْتَةُ فَقَطْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَائِعُ حَلَالًا طَاهِرًا كُلَّهُ، فَإِنْ وَقَعَ مَا عَدَا الْفَأْرَةَ فِي السَّمْنِ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ أَيْ نَجَاسَةٍ كَانَتْ فَهُوَ طَاهِرٌ حَلَالٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ» يَعْنِي فِي الْإِحْرَامِ، فَسَوَّى بَيْنَ يَدَيْهَا وَوَجْهِهَا فِي النَّهْيِ عَمَّا صُنِعَ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا، وَلَا أَمَرَهَا بِكَشْفِهِ أَلْبَتَّةَ، وَنِسَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ كُنَّ يَسْدُلْنَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ إذَا حَاذَاهُنَّ الرُّكْبَانُ، فَإِذَا جَاوَزُوهُنَّ كَشَفْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ؟ فَقَالَتْ: لَا تَنْتَقِبُ، وَلَا تَتَلَثَّمُ، وَتَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا، فَجَاوَزَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، وَمَنَعَتْهَا مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا جُمْلَةً، قَالُوا: وَإِذَا سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَلَا تَدَعْ الثَّوْبَ يَمَسُّ وَجْهَهَا، فَإِنْ مَسَّهُ افْتَدَتْ وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا أَلْبَتَّةَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا إذَا غَطَّتْ يَدَهَا افْتَدَتْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ وَجَعَلَهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِمِ، فَنَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالنِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ، هَذَا لِلْبَدَنِ وَهَذَا لِلْوَجْهِ وَهَذَا لِلْيَدَيْنِ، وَلَا يَحْرُمُ سَتْرُ الْبَدَنِ، فَكَيْفَ يَحْرُمُ سَتْرُ الْوَجْهِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ لَهَا أَنْ تُدْنِيَ عَلَيْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا لِئَلَّا تُعْرَفَ وَيُفْتَتَنَ بِصُورَتِهَا؟ وَلَوْلَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُحْرِمِ وَلَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ» ، لَجَازَ تَغْطِيَتُهُ بِغَيْرِ الْعِمَامَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَمِّرُونَ وُجُوهَهُمْ مُحْرِمُونَ؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَقَدْ أُمِرَ بِكَشْفِ رَأْسِهِ فَالْمَرْأَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَصَرَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى فَلَمْ تَمْنَعْ الْمُحْرِمَةَ مِنْ الْبُرْقُعِ وَلَا اللِّثَامِ، قَالُوا: إلَّا أَنْ يَدْخُلَا فِي اسْمِ النِّقَابِ فَتُمْنَعُ مِنْهُ، وَعُذْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَرْجِعَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَدَخَلَ فِي لَفْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ، وَالصَّوَابُ النَّهْيُ عَمَّا دَخَلَ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ وَعُمُومِ مَعْنَاهُ وَعِلَّتِهِ؛ فَإِنَّ الْبُرْقُعَ وَاللِّثَامَ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّيَا نِقَابًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ، بَلْ إذَا نُهِيَتْ عَنْ النِّقَابِ فَالْبُرْقُعُ وَاللِّثَامُ أَوْلَى؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَتْهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ اللِّثَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظُ الْفِدْيَةِ، أَدْخَلَ فِيهَا طَائِفَةٌ خُلْعَ الْحِيلَةِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ ضِدُّ الْفِدْيَةِ؛ إذْ الْمُرَادُ بَقَاءُ النِّكَاحِ بِالْخَلَاصِ مِنْ الْحِنْثِ، وَهِيَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِزَوَالِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى زَوَالِهِ، وَأَخْرَجَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مَا فِيهِ حَقِيقَةُ الْفِدْيَةِ وَمَعْنَاهَا، وَاشْتَرَطَتْ لَهُ لَفْظًا مُعَيَّنًا، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِدْيَةً وَخُلْعًا إلَّا بِهِ، وَأُولَئِكَ تَجَاوَزُوا بِهِ، وَهَؤُلَاءِ قَصَرُوا بِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَهُ الْمَالُ فَهُوَ فِدْيَةٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَالْأَلْفَاظُ لَمْ تُرَدْ لِذَوَاتِهَا وَلَا تُعُبِّدْنَا بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ إلَى الْمَعَانِي؛ فَلَا فَرْقَ قَطُّ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ: " اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ " أَوْ " فَادِنِي بِأَلْفٍ " لَا حَقِيقَةً وَلَا شَرْعًا، وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا؛ وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ عَامٌّ فِي ذَلِكَ، لَمْ يُقَيِّدْهُ أَحَدُهُمَا بِلَفْظٍ، وَلَا اسْتَثْنَى لَفْظًا دُونَ لَفْظٍ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَامَّةُ طَلَاقِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْفِدَاءُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْخُلْعُ فُرْقَةٌ، وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَقَالَ: الْخُلْعُ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ: مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَقَالَ: إذَا خَالَعَا بَعْدَ تَطْلِيقَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ رَاجَعَهَا فَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: الْخُلْعُ مِثْلُ حَدِيثِ سَهْلَةَ إذَا كَرِهَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ وَقَالَتْ: لَا أَبَرُّ لَكَ قَسَمًا، وَلَا أُطِيعُ لَكَ أَمْرًا، وَلَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ، فَقَدْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ» ، قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ، وَجَعَلَ أَحْمَدُ ذَلِكَ فِدَاءً. وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْخُلْعِ: أَفَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ هُوَ أَمْ تَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ فِدَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالْفِدَاءَ فِي وَسَطِهَا، وَذَكَرَ الطَّلَاقَ بَعْدُ؛ فَالْفِدَاءُ لَيْسَ هُوَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ الْفِدَاءَ فِدَاءً لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ الْأَحْكَامَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِأَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَا يَقْصُرَ بِهَا، وَيُعْطِيَ اللَّفْظَ حَقَّهُ وَالْمَعْنَى حَقَّهُ؛ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَهْلَ الِاسْتِنْبَاطِ فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ إنَّمَا هُوَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَنِسْبَةُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، فَيُعْتَبَرُ مَا يَصِحُّ مِنْهَا بِصِحَّةِ مِثْلِهِ وَمُشْبِهِهِ وَنَظِيرِهِ، وَيُلْغَى مَا لَا يَصِحُّ، هَذَا الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الِاسْتِنْبَاطُ كَالِاسْتِخْرَاجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ طَرِيقَةَ الِاسْتِنْبَاطِ؛ إذْ مَوْضُوعَاتُ الْأَلْفَاظِ لَا تُنَالُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا تُنَالُ بِهِ الْعِلَلُ وَالْمَعَانِي وَالْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ وَمَقَاصِدُ الْمُتَكَلِّمِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - ذَمَّ مَنْ سَمِعَ ظَاهِرًا مُجَرَّدًا فَأَذَاعَهُ وَأَفْشَاهُ، وَحَمِدَ مَنْ اسْتَنْبَطَ مِنْ أَوَّلِ الْعِلْمِ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ. وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ اسْتِخْرَاجُ الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى عَلَى غَيْرِ مُسْتَنْبِطِهِ، وَمِنْهُ اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ مِنْ أَرْضِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا، وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَعُمُومِهِ أَوْ خُصُوصِهِ، فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ سَائِرِ مَنْ يَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هَذَا فَهْمُ لَوَازِمِ الْمَعْنَى وَنَظَائِرِهِ وَمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا غَيْرُ الْمُرَادِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْمُرَادِ. وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ، وَجَدْتَ الْآيَةَ مِنْ أَظْهَرْ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رُوحٌ مُطَهَّرٌ، فَمَا لِلْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ وَوَجَدْتَ الْآيَةَ أُخْتَ قَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] ، وَوَجَدْتَهَا دَالَّةً بِأَحْسَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ، وَوَجَدْتَهَا دَالَّةً أَيْضًا بِأَلْطَفِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ وَطَعْمَهُ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ، كَمَا فَهِمَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْبُخَارِيَّ مِنْ الْآيَةِ فَقَالَ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93] : " لَا يَمَسُّهُ " لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إلَّا الْمُؤْمِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ، وَتَجِدُ تَحْتَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَنَالُ مَعَانِيَهُ وَيَفْهَمُهُ كَمَا يَنْبَغِي إلَّا الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ النَّجِسَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ فَهْمِهِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، فَتَأَمَّلْ هَذَا النَّسَبَ الْقَرِيبَ وَعَقْدَ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَيْنَ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ مِنْ الْآيَةِ وَاسْتِنْبَاطُ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا مِنْ الْآيَةِ بِأَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَبْيَنِهِ. فَهَذَا مِنْ الْفَهْمِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] كَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ وُجُودُ بَدَنِهِ وَذَاتِهِ فِيهِمْ دَفَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ، فَكَيْفَ وُجُودُ سِرِّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَوُجُودُ مَا جَاءَ بِهِ إذَا كَانَ فِي قَوْمٍ أَوْ كَانَ فِي شَخْصٍ؟ ، أَفَلَيْسَ دَفْعُهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؟ ،. وَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَهُ بِأَلْطَفِ دَلَالَةٍ وَأَدَقِّهَا وَأَحْسَنِهَا أَنَّهُ مَنْ اجْتَنَبَ الشِّرْكَ جَمِيعَهُ كُفِّرَتْ عَنْهُ كَبَائِرُهُ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْكَبَائِرِ إلَى الشِّرْكِ كَنِسْبَةِ الصَّغَائِرِ إلَى الْكَبَائِرِ فَإِذَا وَقَعَتْ الصَّغَائِرُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَالْكَبَائِرُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ، وَتَجِدُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: «ابْنَ آدَمَ إنَّكَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيَتْنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» ، وَقَوْلُهُ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ النَّارَ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ، بَلْ مَحْوُ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ مِنْ مَحْوِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِلصَّغَائِرِ. وَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ، كَيْفَ نَبَّهَهُمْ بِالسَّفَرِ الْحِسِّيِّ عَلَى السَّفَرِ إلَيْهِ؟ ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ السَّفَرَيْنِ كَمَا جَمَعَ لَهُمْ الزَّادَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ زَادِ سَفَرِهِمْ وَزَادِ مَعَادِهِمْ؟ وَكَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللِّبَاسَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] ، فَذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - زِينَةَ ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَنَبَّهَهُمْ بِالْحِسِّيِّ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ؛ وَفَهْمُ هَذَا الْقَدْرِ زَائِدٌ عَلَى فَهْمِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَوَضْعِهِ فِي أَصْلِ اللِّسَانِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. [فَصْلٌ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ] قَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ فُصُولٍ نَافِعَةٍ وَأُصُولٍ جَامِعَةٍ فِي تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا بِقَرِيبٍ مِنْهَا، فَلْنَذْكُرْ مَعَ ذَلِكَ مَا قَابَلَهَا مِنْ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْوَحْيَيْنِ، وَهَا نَحْنُ نَسُوقُهَا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً بِحَمْدِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَحَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِهَذَا وَلَا هَذَا. وَلَا يُقَالُ: الرَّدُّ إلَى الْقِيَاسِ هُوَ مِنْ الرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لِدَلَالَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا رَدَّنَا إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَمْ يَرُدَّنَا إلَى قِيَاسِ عُقُولِنَا وَآرَائِنَا قَطُّ، بَلْ قَالَ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ أَنْتَ، وَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] ، وَقَالَ: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] ، فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُدًى لَمْ يَنْحَصِرْ الْهُدَى فِي الْوَحْيِ، وَقَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، فَنَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَتَحْكِيمُ سُنَّتِهِ فَقَطْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ، أَيْ لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَرَّمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ إيجَابِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: " حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ الرِّبَا فِي الْبُرِّ " فَقُلْنَا: وَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَى قَوْلِكَ الْبَلُّوطَ، فَهَذَا مَحْضُ التَّقَدُّمِ. قَالُوا: وَقَدْ حَرَّمَ - سُبْحَانَهُ - أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ وَاقَعْنَا هَذَا الْمُحَرَّمَ يَقِينًا، فَإِنَّا غَيْرُ عَالَمِينَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرِيمَهُ فِي الْقَدِيدِ مِنْ اللُّحُومِ، وَهَذَا قَفْوٌ مِنَّا مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَتَعَدٍّ لِمَا حُدَّ لَنَا، " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ "، وَالْوَاجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا نَتَجَاوَزَهَا وَلَا نُقَصِّرَ بِهَا. وَلَا يُقَالُ: فَإِبْطَالُ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَقَفْوٌ مِنْكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ [عِلْمٌ] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْرَجْنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إلَيْنَا رَسُولَهُ يُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، فَمَا عَلِمْنَاهُ وَبَيَّنَهُ لَنَا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ، وَمَا لَمْ يُعَلِّمْنَاهُ وَلَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ؛ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فَاَلَّذِي أَكْمَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَبَيَّنَهُ وَهُوَ دِينُنَا، لَا دَيْنَ لَنَا سِوَاهُ، فَأَيْنَ فِيمَا أَكْمَلَهُ لَنَا " قِيسُوا مَا سَكَتُّ عَنْهُ عَلَى مَا تَكَلَّمْتُ بِإِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِلَّةً أَوْ دَلِيلَ عِلَّةٍ أَوْ وَصْفًا شَبَهِيًّا، فَاسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وَانْسِبُوهُ إلَيَّ وَإِلَى رَسُولِي وَإِلَى دِينِي وَاحْكُمُوا بِهِ عَلَيَّ ". قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ -: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] ، وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ: " إنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَنَهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الظَّنِّ ظَنُّ الْقِيَاسِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَرَّمَ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالْحَلْوَى بِالْعِنَبِ وَالنَّشَا بِالْبُرِّ، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ مُجَرَّدَةٌ لَا تُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الضُّرَاطِ عَلَى " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " مِنْ الظَّنِّ الَّذِي نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِهِ وَتَحْكِيمِهِ وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ بَاطِلٌ، فَأَيْنَ الضُّرَاطُ مِنْ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ "؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْأَعْضَاءَ الطَّاهِرَةَ الطَّيِّبَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى أَخْبَثَ الْعَذِرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ ظَنًّا فَلَا نَدْرِي مَا الظَّنُّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الْقَوْلَ بِهِ وَذَمَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسَلَخَهُ مِنْ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عُبَّادِ الصُّلْبَانِ وَالْيَهُودِ الَّذِي هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أَوْلِيَائِهِ وَخِيَارِ خَلْقِهِ وِسَادَاتِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَصُلَحَائِهَا فِي تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ يُذَمُّ اتِّبَاعُهُ. قَالُوا: وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فَقَتَلْتُمْ أَلْفَ وَلِيٍّ لِلَّهِ قَتَلُوا نَصْرَانِيًّا وَاحِدًا يُجَاهِرُهُمْ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ عَلَانِيَةً، وَلَمْ تَقِيسُوا مَنْ ضَرَبَ رَأْسَ رَجُلٍ بِدَبُّوسِ فَنَثَرَ دِمَاغَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْ طَعَنَهُ بِمِسَلَّةٍ فَقَتَلَهُ. قَالُوا: وَسَنُبَيِّنُ لَكُمْ مِنْ تَنَاقُضِ أَقْيِسَتِكُمْ وَاخْتِلَافِهَا وَشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. قَالُوا: وَاَللَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَكِلْ بَيَانَ شَرِيعَتِهِ إلَى آرَائِنَا وَأَقْيِسَتِنَا وَاسْتِنْبَاطِنَا، وَإِنَّمَا وَكَلَهَا إلَى رَسُولِهِ الْمُبَيِّنِ عَنْهُ، فَمَا بَيَّنَهُ عَنْهُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ: هَلْ اعْتِمَادُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الشَّبَهِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَدْسِيَّةِ التَّخْمِينِيَّةِ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ أَمْ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ وَظُنُونِهِمْ وَحَدْسِهِمْ؟ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فَأَيْنَ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي إذَا حَرَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبْتُهُ أَوْ أَبَحْتُهُ فَاسْتَخْرَجُوا وَصْفًا مَا شَبَهِيًّا جَامِعًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ جَمِيعِ مَا سَكَتُّ عَنْهُ فَأَلْحِقُوهُ بِهِ وَقِيسُوا عَلَيْهِ. قَالُوا: وَاَللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ نَهَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ، فَكَمَا لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ لَا تُضْرَبُ لِدِينِهِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِشَبَهِ مَا ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِدِينِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَمْثَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا، كَمَا أَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي نَامُوا عَنْهَا فَقَالُوا: «أَلَا نُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا مِنْ الْغَدِ؟ فَقَالَ: أَيَنْهَاكُمْ عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ» ، وَكَمَا «قَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ» ، وَكَمَا «قَالَ لِمَنْ سَأَلَتْهُ عَنْ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» ، وَكَمَا «قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ: هَلْ يُثَابُ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ» . [مِنْ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ] وَمِنْ أَحْسَنِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ وَأَبْلَغِهَا وَأَعْظَمِهَا تَقْرِيبًا إلَى الْأَفْهَامِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِيَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إنْ سَبَقْتَنِي أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أُولَاهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ. فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، وَكُلُّهُمْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْتَدِي مِنْكُمْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ، وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْجِهَادِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ عُنُقِهِ إلَّا أَنْ يُرَاجِعَ. وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ؟ فَقَالَ: وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُوَا اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا وَمَثَّلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنَ الْقَارِئَ لِلْقُرْآنِ بِالْأُتْرُجَّةِ فِي طِيبِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَضِدَّهُ بِالْحَنْظَلَةِ، وَالْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ بِالتَّمْرَةِ فِي طِيبِ الطَّعْمِ وَعَدَمِ الرِّيحِ، وَالْفَاجِرَ الْقَارِئَ بِالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَّلَ الْمُؤْمِنَ بِالْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيَاحُ تُمِيلُهَا وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَّلَ الْمُنَافِقَ بِشَجَرَةِ الْأَرْزِ - وَهِيَ الصَّنَوْبَرَةُ - لَا تَهْتَزُّ وَلَا تَمِيلُ حَتَّى تُقْطَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَثَّلَ الْمُؤْمِنَ بِالنَّخْلَةِ فِي كَثْرَةِ خَيْرِهَا وَمَنَافِعِهَا وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا وَانْتِيَابِهِمْ لَهَا لِمَنَافِعِهِمْ بِهَا، وَشَبَّهَ أُمَّتَهُ بِالْمَطَرِ فِي نَفْعِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَحَيَاةِ الْوُجُودِ بِهِ، وَمَثَّلَ أُمَّتَهُ وَالْأُمَّتَيْنِ الْكِتَابِيَّتَيْنِ قَبْلَهَا فِيمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّتَهُ وَأَكْرَمَهَا بِهِ بِأُجَرَاءَ عَمِلُوا بِأَجْرٍ مُسَمًّى لِرَجُلٍ يَوْمًا عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ، فَلَمْ يُكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ مِنْ أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَعَمِلَتْ أُمَّتُهُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ فَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ، وَضَرَبَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ مَثَلَ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ ابْتَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ مَائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ الدَّاعِي، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، فَمَنْ أَجَابَهُ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ وَأَكَلَ مِنْهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَدْخُلْ دَارِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا» . ، وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، عَلَى كَنَفَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ لَهُمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُدْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعْرُجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ، لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَلَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حَتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» فَلْيَتَأَمَّلْ الْعَارِفُ قَدْرَ هَذَا الْمَثَلِ، وَلْيَتَدَبَّرْهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، وَيَزِنْ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَنْظُرْ أَيْنَ هُوَ مِنْهُ؟ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنِي دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، فَكُنْتُ أَنَا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ مِنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا. وَمَثَّلَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ بِالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ الرَّامَهُرْمُزِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحَرَّانِيُّ ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابْلُتِّيُّ ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثني سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُوتِيتُ الْحِكْمَةَ، وَضُرِبَ لِي مِنْ الْأَمْثَالِ مَثَلُ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إذْ أَتَانِي مَلَكَانِ فَقَامَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَقَامَ الْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: اضْرِبْ مَثَلًا وَأَنَا أُفَسِّرُهُ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي وَأَهْوَى إلَيَّ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ وَلِتَسْمَعْ أُذُنُكَ وَلِيَعِ قَلْبُكَ، قَالَ: فَكُنْتُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأُذُنُ فَتَسْمَعُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَيَعِي، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَتَنَامُ، قَالَ: فَضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: بِرْكَةٌ فِيهَا شَجَرَةٌ ثَابِتَةٌ، وَفِي الشَّجَرَةِ غُصْنٌ خَارِجٌ، فَجَاءَ ضَارِبٌ فَضَرَبَ الشَّجَرَةَ، فَوَقَعَ الْغُصْنُ وَوَقَعَ مَعَهُ وَرَقٌ كَثِيرٌ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْبِرْكَةِ لَمْ يَعْدُهَا، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، فَوَقَعَ وَرَقٌ كَثِيرٌ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْبِرْكَةِ لَمْ يَعُدْهَا، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَوَقَعَ وَرِقٌ كَثِيرٌ، لَا أَدْرِي مَا وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرُ أَوْ مَا خَرَجَ مِنْهَا، قَالَ: فَفَسَّرَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ: أَمَّا الْبِرْكَةُ فَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ فَهِيَ الْأُمَّةُ، وَأَمَّا الْغُصْنُ فَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا الضَّارِبُ فَمَلَكُ الْمَوْتِ: ضَرَبَ الضَّرْبَةَ الْأُولَى فِي الْقَرْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الْأَوَّلِ فَوَقَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ طَبَقَتِهِ، وَضَرَبَ الثَّانِيَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي، فَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَلَا أَدْرِي مَا وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرُ أَمْ مَا خَرَجَ مِنْهَا» . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» . وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ سَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ» ، وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ «، إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي، وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوَا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ: «مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَزَرَعُوا وَسَقَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دَيْنِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «وَاَللَّهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يَلُمْ، إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ وَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهَا وَأَصْلَحَ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَبَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ كَبُعْدِ الْكَوْكَبَيْنِ أَحَدُهُمَا يَطْلُعُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ يَغِيبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَمَثَّلَ نَفْسَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا بِرَاكِبٍ مَرَّ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَرَأَى شَجَرَةً، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَهَا، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» ، «وَمَرَّ مَعَ الصَّحَابَةِ بِسَخْلَةٍ مَنْبُوذَةٍ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا» . وَقَالَ: «إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 سَلَكُوا مَفَازَةً غَبْرَاءَ لَا يَدْرُونَ مَا قَطَعُوا مِنْهَا أَكْثَرُ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَحَسِرَتْ ظُهُورُهُمْ، وَنَفَدَ زَادُهُمْ، وَسَقَطُوا بَيْنَ ظَهْرَيْ الْمَفَازَةِ، فَأَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ يَقْطُرُ رَأْسُهُ، فَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَحَدِيثُ عَهْدٍ بِرِيفٍ، فَانْتَهَى إلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ، مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: مَا تَرَى كَيْفَ حَسِرَتْ ظُهُورُنَا وَنَفَذَتْ أَزْوَادُنَا بَيْنَ ظَهْرَيْ هَذِهِ الْمَفَازَةِ لَا نَدْرِي مَا قَطَعْنَا مِنْهَا أَكْثَرُ أَمْ مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إنْ أَوْرَدْتُكُمْ مَاءً رَوَاءً وَرِيَاضًا خُضْرًا؟ قَالُوا: حُكْمُكَ، قَالَ: تُعْطُونِي عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ أَلَّا تَعْصُونِي، فَفَعَلُوا، فَمَالَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ مَاءً رُوَاءٍ وَرِيَاضًا خُضْرًا، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ: هَلُمُّوا إلَى رِيَاضٍ أَعْشَبَ مِنْ رِيَاضِكُمْ هَذِهِ وَمَاءٍ أَرْوَى مِنْ مَائِكُمْ هَذَا، فَقَالَ جُلُّ الْقَوْمِ: مَا قَدَرْنَا عَلَى هَذَا حَتَّى كِدْنَا أَنْ لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: أَلَسْتُمْ قَدْ جَعَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ أَنْ لَا تَعْصُوهُ؟ فَقَدْ صَدَقَكُمْ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ، فَآخِرُ حَدِيثِهِ مِثْلُ أَوَّلِهِ، فَرَاحَ وَرَاحُوا مَعَهُ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا خُضْرًا، وَمَاءً رَوَاءً، وَأَتَى الْآخَرِينَ الْعَدُوَّ مِنْ لَيْلَتِهِمْ فَأَصْبَحُوا مَا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَإِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْقِطْعَةِ الْجَيِّدَةِ مِنْ الذَّهَبِ أُدْخِلَتْ فِي النَّارِ فَنُفِخَ عَلَيْهَا فَخَرَجَتْ جَيِّدَةً» . وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ - أَوْ النَّحْلَةِ - إنْ شَاوَرْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ مَاشِيَتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْإِيمَانِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ يَجُولُ مَا يَجُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَخِيَّتِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَفْتَرِقُ مَا يَفْتَرِقُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْإِيمَانِ» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إذَا اشْتَكَى شَيْءٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَكُرُّ إلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إنْ تَعَهَّدَ صَاحِبُهَا عَقْلَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَغْفَلَهَا ذَهَبَتْ، وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ بِهِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ» ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ مَاعِزِ بْنِ سُوَيْد الْعَرْجِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ مَثَلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ حَتَّى إذَا دَنَا نِفَاسُهَا أَسْقَطَتْ، فَلَا حَامِلُ وَلَا ذَاتُ رَضَاعٍ؛ وَمَثَلُ الْمُصَلِّي كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يَخْلُصُ لَهُ الرِّبْحُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ نَافِلَةً حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ» . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَوْسِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 «مَثَلُ الَّذِي يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ وَلَا يَحْمِلُ إلَّا شَرَّهَا كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ: آجِرْنِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَخُذْ بِأُذُنِ شَاةٍ مِنْهَا، فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّمَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، وَإِنَّمَا مَثَلُ عَمَلِ أَحَدِكُمْ كَمَثَلِ الْوِعَاءِ إذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ» . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اسْتَضَافَ قَوْمًا فَأَضَافُوهُ، وَلَهُمْ كَلْبَةٌ تَنْبَحُ، قَالَ: فَقَالَتْ الْكَلْبَةُ: وَاَللَّهِ لَا أَنْبَحُ ضَيْفَ أَهْلِي اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَعَوَى جِرَاؤُهَا فِي بَطْنِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيًّا لَهُمْ أَوْ قَيْلًا لَهُمْ، فَقَالَ: مَثَلُ هَذِهِ مَثَلُ أُمَّةٍ تَكُونُ بَعْدَكُمْ يَقْهَرُ سُفَهَاؤُهَا حُكَمَاءَهَا وَيَغْلِبُ سُفَهَاؤُهَا عُلَمَاءَهَا» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُّوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» . وَفِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَهَذَا بِعُودٍ، حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ» ، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَرْفَعُهُ «إنَّ مَطْعَمَ بْنَ آدَمَ ضَرَبَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، فَانْظُرْ مَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ وَإِنَّ فَرْخَهُ وَمِلْحَهُ قَدْ عَلِمَ إلَى مَا يَصِيرُ» . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَلَّادٍ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْدَانَ ثنا يُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمِصِّيصِيُّ ثنا حَجَّاجٌ الْأَعْوَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي ضَرَبْتُ لِلدُّنْيَا مَثَلًا، وَلِابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ، مَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءَ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِأَحَدِهِمْ: إنَّكَ كُنْتَ لِي خَلِيلًا، وَكُنْتَ أَبَرَّ الثَّلَاثَةَ عِنْدِي، وَقَدْ نَزَلَ بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَمَاذَا عِنْدِي؟ وَهَذَا أَمْرُ اللَّهِ قَدْ غَلَبَنِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، وَلَا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، وَلَا أُؤَخِّرَ سَاعَتَكَ، وَلَكِنْ هَا أَنَا ذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَخُذْنِي زَادًا تَذْهَبُ بِهِ مَعَكَ، فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا الثَّانِيَ فَقَالَ: إنَّكَ كُنْتَ لِي خَلِيلًا، وَكُنْتَ أَبَرَّ الثَّلَاثَةِ عِنْدِي، وَقَدْ نَزَلَ بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَمَاذَا عِنْدِي؟ وَهَذَا أَمْرُ اللَّهِ غَلَبَنِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، وَلَا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، وَلَا أُؤَخِّرَ سَاعَتَكَ، وَلَكِنْ سَأَقُومُ عَلَيْكَ فِي مَرَضِكَ، فَإِذَا مِتَّ أَنْقَيْتُ غُسْلَكَ وَجَدَّدْتُ كِسْوَتَكَ وَسَتَرْتُ جَسَدَكَ وَعَوْرَتَكَ قَالَ: ثُمَّ دَعَا الثَّالِثَ فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، وَكُنْتَ أَهْوَنَ الثَّلَاثَةِ عَلَيَّ، وَكُنْتُ لَكَ مُضَيِّعًا، وَفِيكَ زَاهِدًا، فَمَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: عِنْدِي أَبِي قَرِينُكَ وَحَلِيفُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَدْخُلُ مَعَكَ قَبْرَكَ حِين تَدْخُلُهُ، وَأَخْرُجُ مِنْهُ حِينَ تَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا أُفَارِقُكَ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا مَالُهُ وَأَهْلُهُ وَعَمَلُهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَ خُذْنِي زَادًا فَمَالُهُ، وَالثَّانِي أَهْلُهُ، وَالثَّالِثُ عَمَلُهُ» . وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا بِسِيَاقِ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ أَتَدْرُونَ مَا مَثَلُ أَحَدِكُمْ وَمَثَلُ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَعَمَلِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: إنَّمَا مَثَلُ أَحَدِكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَعَمَلِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَعْضَ إخْوَتِهِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِي مِنْ الْأَمْرِ مَا تَرَى، فَمَالِي عِنْدَكَ؟ وَمَا لَدَيْكَ؟ فَقَالَ: لَكَ عِنْدِي أَنْ أُمْرِضَكَ وَلَا أُزَايِلَكَ، وَأَنْ أَقُومَ بِشَأْنِكَ، فَإِذَا مِتَّ غَسَّلْتُكَ وَكَفَّنْتُكَ وَحَمَلْتُكَ مَعَ الْحَامِلِينَ، أَحْمِلُكَ طَوْرًا وَأُمِيطُ عَنْكَ طَوْرًا، فَإِذَا رَجَعْتُ أَثْنَيْتُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ هُنَا عِنْدَ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْكَ، هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، فَمَا تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لَا نَسْمَعُ طَائِلًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْأَخِ الْآخَرِ: أَتَرَى مَا قَدْ نَزَلَ بِي؟ فَمَالِي لَدَيْكَ؟ وَمَالِي عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي غَنَاءٌ إلَّا وَأَنْتَ فِي الْأَحْيَاءِ، فَإِذَا مِتَّ ذَهَبَ بِكَ مَذْهَبٌ وَذَهَبَ بِي مَذْهَبٌ، هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ مَالُهُ، كَيْف تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: لَا نَسْمَعُ طَائِلًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَخِيهِ الْآخَرِ: أَتَرَى مَا قَدْ نَزَلَ بِي وَمَا رَدَّ عَلَيَّ أَهْلِي وَمَالِي؟ فَمَالِي عِنْدَكَ؟ وَمَا لِي لَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ فِي لَحْدِكَ، وَأَنِيسُكَ فِي وَحْشَتِكَ، وَأَقْعُدُ يَوْمَ الْوَزْنِ فِي مِيزَانِكَ فَأُثَقِّلُ مِيزَانَكَ. هَذَا أَخُوهُ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُ، كَيْفَ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوا: خَيْرُ أَخٍ وَخَيْرُ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ صَاحِبِ الْمِسْكِ، إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ، إنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ شَرَرِهِ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ - أَوْ جُنَّتَانِ - مِنْ حَدِيدٍ مِنْ لَدُنْ ثَدْيِهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ سَبَغَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يَجُرَّ بَنَانَهُ وَيَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ قُلِّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ» ، وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَتَعَجَّلُونَ أُجُورَهُمْ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» . [فَصْلٌ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ] قَالُوا: فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقْرِيبِ الْمُرَادِ، وَتَفْهِيمِ الْمَعْنَى، وَإِيصَالِهِ إلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَإِحْضَارِهِ فِي نَفْسِهِ بِصُورَةِ الْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى تَعَقُّلِهِ وَفَهْمِهِ وَضَبْطِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ لَهُ بِاسْتِحْضَارِ نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ تَأْنَسُ بِالنَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ الْأُنْسَ التَّامَّ، وَتَنْفِرُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ النَّظِيرِ؛ فَفِي الْأَمْثَالِ مِنْ تَأْنِيسِ النَّفْسِ وَسُرْعَةِ قَبُولِهَا وَانْقِيَادِهَا لِمَا ضُرِبَ لَهَا مَثَلُهُ مِنْ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا يَجْحَدُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ، وَكُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَمْثَالُ ازْدَادَ الْمَعْنَى ظُهُورًا وَوُضُوحًا، فَالْأَمْثَالُ شَوَاهِدُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَمُزَكِّيَةٌ لَهُ، فَهِيَ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] ، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ وَثَمَرَتُهُ. [فَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ] وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهِمْنَا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا عَلَى أَقَلِّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ؟ هَذَا بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْفَهْمِ، كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ: بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّامِعَ، فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا نَجْهَلُ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يُسْتَفَادَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى مَنْ قَطَعَ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: «صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ» ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى صَاعًا مِنْ إهْلِيلِجٍ جَازَ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، يُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِنْ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْوَلِيُّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي - وَهُوَ بِأَقْصَى الشَّرْقِ وَهِيَ بِأَقْصَى الْغَرْبِ - فَقَالَ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: " قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ " وَمَعَ هَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَيَسْتَلْحِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ. وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» ، أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ أَوْ بُكُورِ الْحَدَّادِ أَوْ بِمَرَازِبِ الْحَدِيدِ الْعِظَامِ حَتَّى خَلَطَ دِمَاغَهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ قَوَدًا، وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» ، أَنَّ مِنْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ أَوْ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ وَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 بِالشُّبُهَاتِ» ، فَهَذَا فِي مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ، وَهِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، أَوْ فِي الْفَاعِلِ، أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَوْ عَرَضَ هَذَا عَلَى فَهْمٍ مِنْ فَرْضٍ مِنْ الْعَالَمِينَ لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ مَنْ يَطَأُ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ، وَتَحْرِيمِ اللَّهِ لِذَلِكَ، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ «، ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ. فَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ هُوَ الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَنُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَهْمِهِ بِوَجْهٍ مَا. قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66] ، وَمِنْ قَوْلِهِ: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] ، تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكِشْكِ بِاللَّبَنِ، وَبَيْعِ الْخَلِّ بِالْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ . قَالُوا: وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، وَلَمْ يَقُلْ " إلَى قِيَاسَاتِكُمْ وَآرَائِكُمْ " وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَرَاءَ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتَهَا حَاكِمَةً بَيْنَ الْأُمَّةِ أَبَدًا. وَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، فَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ مِنْ الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ خَاصَّةً وَقَالَ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] ، وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، قَالُوا: فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ شَرْعُ غَيْرِهِ الْبَاطِلِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَنْ إيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَفْوٌ عَفَا عَنْهُ لِعِبَادِهِ، يُبَاحُ إبَاحَةُ الْعَفْوِ؛ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ وَلَا إيجَابُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ أَوْ حَرَّمَهُ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ هَذَا الْقِسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلْغَاءَهُ؛ إذْ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ شَبَهٌ وَوَصْفٌ جَامِعٌ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ، فَلَوْ جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِسْمٌ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ حَرَّمَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا حَرَّمَهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَحْرِيمُ مَا سَكَتَ عَنْهُ تَبْدِيلًا لِحُكْمِهِ، وَقَدْ ذَمَّ - تَعَالَى - مَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ؛ فَمَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْحُكْمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الَّذِي شَرَعَ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ تَسَبَّبَ إلَى تَحْرِيمِ الشَّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَرَّمَ السُّكُوتَ عَنْهُ بِقِيَاسِهِ وَبِرَأْيِهِ؟ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ لَمَّا كَانَ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْبَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ، لَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ذَلِكَ وَسَامَحَ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا يَعْفُو عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عَامٍّ يُحَرِّمُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَانَ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ مِمَّنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبْحَثَ عَنْهُ، وَلَا يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ، اكْتِفَاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ؛ فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ أَصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ. قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا كِتَابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ مِنْ السُّؤَالِ مَا تَرَكَهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتْرُكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَا نَقُولَ لَهُ: لِمَ حَرَّمَتْ كَذَا؟ لِنُلْحِقَ بِهِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَجَعَلَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةً، لَا رَابِعَ لَهَا: مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ اجْتِنَابُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ عَنْهُ. وَهَذَا حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَخُصُّ الصَّحَابَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ فُرِضَ عَلَيْنَا نَحْنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وَتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إثْبَاتٌ لِحُكْمِ الْعَفْوِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَهُوَ الْإِبَاحَةُ الْعَامَّةُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ، فَقَدْ اسْتَوْعَبَ الْحَدِيثُ أَقْسَامَ الدِّينِ كُلَّهَا، فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا مُبَاحٌ؛ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمُسْتَحَبُّ فَرْعَانِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ خَارِجَيْنِ عَنْ الْمُبَاحِ؛ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ، فَوَكَلَ بَيَانَهُ إلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - لَا إلَى الْقَيَّاسِينَ والأرائيين، وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] ، فَقَسَّمَ الْحُكْمَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ أَذِنَ فِيهِ وَهُوَ الْحَقُّ وَقِسْمٍ اُفْتُرِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَأَيْنَ أَذِنَ لَنَا أَنْ نَقِيسَ الْبَلُّوطَ عَلَى التَّمْرِ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ؟ وَأَنْ نَقِيسَ الْقَصْدِيرَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَرْدَلَ عَلَى الْبُرِّ؟ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَّانَا بِهَذَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا قَائِلُونَ لِمُنَازِعِينَا: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] فَمَا لَمْ تَأْتِنَا بِهِ وَصِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَيْنُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَلَمْ يُبِحْ لَنَا قَطُّ أَنْ نَرُدَّ ذَلِكَ إلَى رَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا تَقْلِيدِ إمَامٍ وَلَا مَنَامٍ وَلَا كُشُوفٍ وَلَا إلْهَامٍ وَلَا حَدِيثِ قَلْبٍ وَلَا اسْتِحْسَانٍ وَلَا مَعْقُولٍ وَلَا شَرِيعَةِ الدِّيوَانِ وَلَا سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ، وَلَا عَوَائِدِ النَّاسِ الَّتِي لَيْسَ عَلَى شَرَائِعِ الْمُسْلِمِينَ أَضَرُّ مِنْهَا، فَكُلُّ هَذِهِ طَوَاغِيتُ، مَنْ تَحَاكَمَ إلَيْهَا أَوْ دَعَا مُنَازِعَهُ إلَى التَّحَاكُمِ إلَيْهَا فَقَدْ حَاكَمَ إلَى الطَّاغُوتِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] ، قَالُوا: وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا نَصٌّ عَلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلدَّيْنِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِمَا فِيهِ نَصٌّ، وَمَنْ مَثَّلَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ إيجَابِهِ بِمَا حَرَّمَهُ أَوْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَوْ عَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لَأَعْلَمَنَا بِهِ، وَلَمَا أَغْفَلَهُ - سُبْحَانَهُ - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ، وَلْيُبَيِّنْ لَنَا مَا نَتَّقِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إذْ يَقُولُ - سُبْحَانَهُ -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَلَمَّا وَكَلَهُ إلَى آرَائِنَا وَمَقَايِيسِنَا الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهَذَا يَقِيسُ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَظِيرُهُ فَيَجِيءُ مُنَازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِيَاسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُبْدِي مِنْ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مِثْلَ مَا أَبْدَاهُ مُنَازِعُوهُ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مَعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَلَيْسَا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وَقَالَ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ رَبِّهِ - سُبْحَانَهُ - بَيَّنَهُ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُقُوعَ كُلِّ اسْمٍ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 اسْمَ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَاسْمَ التَّمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَلُّوطَ، وَاسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقَصْدِيرَ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ عِنْدَ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا إذَا مَاتَ صَارَ نَجَسًا خَبِيثًا، وَأَنَّ هَذَا عَنْ الْبَيَانِ الَّذِي وَلَّاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ وَبَعَثَهُ بِهِ أَبْعَدَ شَيْءٍ وَأَشَدَّهُ مُنَافَاةً لَهُ، فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ قَطْعًا، فَلَيْسَ إذًا مِنْ الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» ، وَلَوْ كَانَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ خَيْرًا لَهُمْ لَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ، وَلَقَالَ لَهُمْ: إذَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَوْ حَرَّمْتُهُ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَصْفٌ جَامِعٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَلَمَا حَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْحَذَرِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -، وَقَدْ أَحْكَمَ اللِّسَانُ كُلَّ اسْمٍ عَلَى مُسَمَّاهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْعَرَبُ مِنْ لِسَانِهَا، فَإِذَا نَصَّ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ نَصَّ رَسُولُهُ عَلَى اسْمٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَجَبَ أَلَّا يُوقَعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ إلَّا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَا يَتَعَدَّى بِهِ الْوَضْعَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الدِّينِ؛ فَالْأَوَّلُ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي التَّخْصِيصُ الْبَاطِلُ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ النُّصُوصِ فَإِنَّهُ تَارَةً يَزِيدُ فِي النَّصِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ، وَمَرَّةً يَنْقُصُ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِهِ وَيَقُولُ: هَذَا تَخْصِيصٌ، وَمَرَّةً يَتْرُكُ النَّصَّ جُمْلَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، أَوْ خِلَافُ الْأُصُولِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ النَّاسِ لِلْأَحَادِيثِ، وَكَانَ كُلَّمَا تَوَغَّلَ فِيهِ الرَّجُلُ [فِيهِ] كَانَ أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّمَا اشْتَدَّ تَوَغُّلُ الرَّجُلِ فِيهِ اشْتَدَّتْ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَنِ، وَلَا نَرَى خِلَافَ السُّنَنِ وَالْأُثَّارِ إلَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ قَدْ عُطِّلَتْ بِهِ؟ ، وَكَمْ مِنْ أَثَرٍ دُرِسَ حُكْمُهُ بِسَبَبِهِ؟ فَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ عِنْدَ والأرائيين وَالْقِيَاسِيِّينَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مُعَطَّلَةٌ أَحْكَامُهَا، مَعْزُولَةٌ عَنْ سُلْطَانِهَا وَوِلَايَتِهَا، لَهَا الِاسْمُ وَلِغَيْرِهَا الْحُكْمُ، مِنْهَا السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَلِغَيْرِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَإِلَّا فَلِمَاذَا تُرِكَ حَدِيثُ الْعَرَايَا، وَحَدِيثُ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْعَقْدِ سَبْعَ لَيَالٍ إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَثَلَاثًا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا ثُمَّ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَحَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ. وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَجَوَازِ التَّحَلُّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بِالشَّرْطِ، وَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ جَاءَ فَوَصَفَ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ، وَحَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَحَدِيثُ إتْمَامِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَحَدِيثُ إتْمَامِ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِمَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً، وَحَدِيثُ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَحَدِيثُ الْحَجِّ عَنْ الْمَرِيضِ الْمَأْيُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَحَدِيثُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ. وَحَدِيثُ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَحَدِيثُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَحَدِيثُ الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ إذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ وَهُوَ سَبَبُ الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إذَا افْتَرَقَا، وَحَدِيثُ قَطْعِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَحَدِيثُ رَجْمِ الْكِتَابِيَّيْنِ فِي الزِّنَا، وَحَدِيثُ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أُمِرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ، وَحَدِيثُ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، وَحَدِيثُ " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "، وَحَدِيثُ " لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ". وَحَدِيثُ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَحَدِيثُ " أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " وَحَدِيثُ أَصْدِقْهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، وَحَدِيثُ إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَحَدِيثُ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ "، وَحَدِيثُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَحَدِيثُ " ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ "، وَحَدِيثُ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَحَدِيثُ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ، وَحَدِيثُ " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ "، وَأَحَادِيثُ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ إشْعَارِ الْهَدْيِ، وَحَدِيثُ " إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ "، وَحَدِيثُ مَنْعِ الرَّجُلِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَّهُ جَوْرٌ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ "، وَحَدِيثُ الْقَسَامَةِ، وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ. وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ "، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَحَدِيثُ الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَلَا يَرْجِعُ غَيْرُهُ، وَحَدِيثُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ مِنْ الْغَدِ إذَا عَلِمَ بِالْعِيدِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحَدِيثُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَحَدِيثُ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ. وَحَدِيثُ بَيْعِ جَابِرٍ بَعِيرَهُ وَاشْتِرَاطِ ظَهْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَحَدِيثُ لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، وَحَدِيثُ أَنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوُفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجُ، وَحَدِيثُ مَنْ بَاعَ عَبْدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، وَحَدِيثُ إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ أَيَّتَهمَا شَاءَ، وَحَدِيثُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ، وَحَدِيثُ مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَأَحَادِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَحَادِيثُ الِاسْتِفْتَاحِ. وَحَدِيثُ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكْتَتَانِ فِي الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَحَدِيثُ حَمْلِ الصِّبْيَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَحَادِيثُ الْقُرْعَةِ، وَأَحَادِيثُ الْعَقِيقَةِ، وَحَدِيثُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، وَحَدِيثُ أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ، وَحَدِيثُ إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، وَحَدِيثُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ لَمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ وَلَمْ يُقَرَّبْ طِيبًا، إلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي كَانَ تَرْكُهَا مِنْ أَجْلِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ؟ . فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ الْأُمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَلَا حُفِظَ لَهُمْ تَرْكُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ إلَّا لِنَصٍّ نَاسِخٍ لَهُ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ تَوَغُّلًا فِي الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ كَانَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَأَنَّ شَيْئًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ لَأَبْيَنُ شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلدِّينِ، فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَطَابَقَ السُّنَّةَ أَعْظَمَ مُطَابَقَةٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَصْحَابُهُ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَكَانُوا أَسْعَدَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَلْيُرُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا قَدْ خَالَفُوهُ كَمَا أَرَيْنَاهُمْ آنِفًا مَا خَالَفُوهُ مِنْ السُّنَّةِ بِجَرِيرَةِ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَيْنَا بَعْدَهُمْ أَنْ لَا نَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِحَيْثُ لَا يَدْرِي النَّاظِرُ فِيهَا أَيُّهَا الصَّوَابُ حَقًّا لَكَانَتْ مُتَّفِقَةً يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالسُّنَّةِ الَّتِي يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82] ، لَا بِآرَائِنَا وَلَا مَقَايِيسِنَا، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] ، فَمَا لَمْ يَقُلْهُ - سُبْحَانَهُ - وَلَا هَدَى إلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] ، فَقَسَّمَ الْأُمُورَ إلَى قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إتْبَاعٌ لِمَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 [فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ نَهَى عَنْهُ] وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدَعْ أُمَّتَهُ إلَى الْقِيَاسِ قَطُّ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ وَأُسَامَةَ مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي شَأْنِ الْحُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَرْسَلَ بِهِمَا إلَيْهِمَا فَلَبِسَهَا أُسَامَةُ قِيَاسًا لِلُّبْسِ عَلَى التَّمَلُّكِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ وَكِسْوَتِهَا لِغَيْرِهِ، وَرَدَّهَا عُمَرُ قِيَاسًا لِتَمَلُّكِهَا عَلَى لُبْسِهَا، فَأُسَامَةُ أَبَاحَ، وَعُمَرُ حَرَّمَ قِيَاسًا، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ، «وَقَالَ لِعُمَرَ: إنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا» ، «وَقَالَ لِأُسَامَةَ إنِّي لَمْ أَبْعَثْهَا إلَيْكَ لِتَلْبِسَهَا، وَلَكِنْ بَعَثْتُهَا إلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا لِنِسَائِكَ» ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فِي الْحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ، فَقَاسَا قِيَاسًا أَخْطَأ فِيهِ، فَأَحَدُهُمَا قَاسَ اللُّبْسَ عَلَى الْمِلْكِ، وَعُمَرُ قَاسَ التَّمَلُّكَ عَلَى اللُّبْسِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ مِنْ اللُّبْسِ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَبَاحَهُ مِنْ التَّمَلُّكِ لَا يَتَعَدَّى إلَى اللُّبْسِ، وَهَذَا عَيْنُ إبْطَالِ الْقِيَاسِ. وَصَحَّ عَنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» ، وَهَذَا الْخِطَابُ كَمَا يَعُمُّ أَوَّلُهُ لِلصَّحَابَةِ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ فَهَكَذَا آخِرُهُ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ لِيُحَرِّمَهُ أَوْ يُوجِبَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» . قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ إلَّا جَرِيرَ بْنَ عُثْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ، وَمَعَ هَذَا فَاحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الِانْحِرَافِ عَنْ عَلِيٍّ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ إمَامٌ جَلِيلٌ، وَكَانَ سَيْفًا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةٌ تَقْرُبُ مِنْ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ قَالَ «، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مُبَاحٌ فَبَطَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَالْمَقِيسُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ بِلَا رَيْبٍ؛ فَيَكُونُ عَفْوًا بِلَا رَيْبٍ، فَإِلْحَاقُهُ بِالْمُحَرَّمِ تَحْرِيمٌ لِمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. ، وَفِي قَوْلِهِ «، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» بَيَانٌ جَلِيٌّ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِبٍ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَهُ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَجِيءَ مَا يَرْفَعُ ذَلِكَ، أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ النَّدْبُ، وَأَنَّ مَا لَا نَسْتَطِيعُهُ فَسَاقِطٌ عَنَّا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُغَلِّسِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثنا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ ثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ ثنا سَيْفُ بْنُ هَارُونَ الْبُرْجُمِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَشْيَاءَ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» ، وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ مَرْفُوعٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. [فَصْلٌ نهى الصَّحَابَةُ عَنْ الْقِيَاسِ] فَصْلٌ [الصَّحَابَةُ نَهَوْا عَنْ الْقِيَاسِ أَيْضًا] وَأَمَّا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا جَاءَكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَرْبَعٌ» ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ «، لَا تُسَمِّينَ غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَيُقَالُ: لَا، إنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ» . قَالُوا: فَلَمْ يُجِزْ سَمُرَةُ أَنْ يَنْهَى عَمَّا عَدَا الْأَرْبَعَ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ زِيَادَةً فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَرْبَعِ بِالْقِيَاسِ التَّسْمِيَةَ بِسَعْدٍ وَفَرَجٍ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ وَنَحْوِهَا، وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقِيَاسِيِّينَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا النَّصُّ أَوْلَى بِالنَّهْيِ؛ فَيَكُونُ إلْحَاقُهَا بِقِيَاسِ الْأُولَى أَوْ مِثْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ قَوْلَهُ «، إنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ» ، مَرْفُوعٌ مِنْ نَفْسِ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ لَعَلَّ سَمُرَةَ أَرَادَ بِهَا إنَّمَا حَفِظْتُ هَذِهِ الْأَرْبَعَ فَلَا تَزِيدُنَّ عَلَيَّ فِي الرِّوَايَةِ. قِيلَ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَصَرِيحٌ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَمَعَ هَذَا فَخَصَّ النَّهْيَ بِالْأَرْبَعِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَقَوْلُهُ " إنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ " يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الرِّوَايَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا، وَنَفْيَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا رِوَايَةً وَحُكْمًا؛ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَقَالَ شُعْبَةُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ فَيْرُوزَ قَالَ: «قُلْتُ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: حَدِّثْنِي مَا كَرِهَ أَوْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْقَرْنِ أَوْ الْأُذُنِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتُ مِنْهُ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ» ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقِيَاسِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ؛ فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قَدْ وَضَحَتْ الْأُمُورُ، وَتَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُتْرَكْ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ مُتَكَلِّمٌ إلَّا أَنْ يَضِلَّ عَبْدٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ بُيِّنَ لَهُ، وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحْدِثُونَ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدَّيْنِ لَكَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ طَاقَةٌ بِقِيَاسِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ عَلَى نَظِيرِهِ بِوَصْفٍ جَامِعٍ شَبَهِيٍّ، وَإِذَا كَانَ الْقِيَاسِيُّونَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ الصَّحَابَةُ؟ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ لَكَانَ الْجَمِيعُ مُبَيَّنًا، وَلَمَّا قَسَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ إلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَإِلَى مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى قَوْلِكُمْ قَدْ بَيَّنَ الْجَمِيعَ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ بَيَّنَ الْجَمِيعَ. قُلْنَا: مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - نُطْقًا فَقَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ نُطْقًا بَلْ سَكَتَ عَنْهُ فَقَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ عَفْوٌ، وَأَمَّا الْقِيَاسِيُّونَ فَيَقُولُونَ: مَا سَكَتَ عَنْهُ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَفَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَنَحْنُ أَسْعَدُ بِالْبَيَانِ النُّطْقِيِّ وَالسُّكُوتِيِّ مِنْكُمْ لِتَعْمِيمِنَا الْبَيَانَيْنِ وَعَدَمِ تَنَاقُضِنَا فِيهِمَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ عَامٌ أَمْطُرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ، ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْثَلِمُ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ: الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: كِتَابٌ نَاطِقٌ، وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَلَا أَدْرِي، وَقَوْلُهُ لِأَبِي الشَّعْثَاءِ: لَا تُفْتِيَنَّ إلَّا بِكِتَابٍ نَاطِقٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الْأَخْضَرِ، قُلْتُ: فَالْأَبْيَضُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي» ، وَلَمْ يَقُلْ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْأَخْضَرِ وَالْأَبْيَضِ كَمَا يُبَادِرُ إلَيْهِ الْقِيَاسِيُّونَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَاسَ خَارِجٌ عَنْ كِلَيْهِمَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مُعَاذٍ: تَكُونُ فِتَنٌ يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ الْقُرْآنُ، حَتَّى يَقْرَأَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَيَقْرَأَهُ الرَّجُلُ فَلَا يَتَّبِعُ، فَيَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَقْرَأَنَّهُ عَلَانِيَةً، فَيَقْرَأَهُ عَلَانِيَةً فَلَا يَتَّبِعُ، فَيَتَّخِذُ مَسْجِدًا وَيَبْتَدِعُ، فَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّكُمْ إنْ عَمِلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أُحِلَّ لَكُمْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إذَا لَقِيَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْ الْمُكَايَلَةِ، يَعْنِي الْمُقَايَسَةِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا جَعْفَرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إيَّاكَ وَالْمُكَايَلَةَ، يَعْنِي الْمُقَايَسَةَ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدِثًا فَعَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ ذَمِّ التَّابِعُونَ لِلْقِيَاسِ] فَصْلٌ [التَّابِعُونَ يُصَرِّحُونَ بِذَمِّ الْقِيَاسِ] وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَتَابِعُوهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَمِّ الْقِيَاسِ، وَإِبْطَالِهِ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا ابْنِ عُلَيَّةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عِمْرَانَ ثنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الطَّائِفِيُّ حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: الْقِيَاسُ شُؤْمٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ فَهَلَكَ، وَإِنَّمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ شُرَيْحًا الْكِنْدِيَّ هُوَ الْقَاضِي قَالَ: إنَّ السُّنَّةَ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ ثنا وَهْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ دَاوُد الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا لَهَا بَيَانٌ، إذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْتَ فِيهَا فَلَا تَتَّبِعْ مَسْأَلَتَكَ أَرَأَيْتَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ إذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَا تَقِسْ شَيْئًا بِشَيْءٍ، فَرُبَّمَا حَرَّمْتَ حَلَالًا أَوْ حَلَّلْتَ حَرَامًا، وَإِذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ فَقُلْ: لَا أَعْلَمُ، وَأَنَا شَرِيكُكَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إيَّاكُمْ وَالْمُقَايَسَةَ؛ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنْ أَخَذْتُمْ بِالْمُقَايَسَةِ لَتُحِلُّنَّ الْحَرَامَ وَلَتُحَرِّمُنَّ الْحَلَالَ، وَلَكِنْ مَا بَلَغَكُمْ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْفَظُوهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثنا يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ ثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: السُّنَّةُ لَمْ تُوضَعْ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ثنا صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ لِي عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ يَوْمًا، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدَيْ: إنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمْ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ. وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَقَالَ: أَخَذَ هَذَا عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيّ: ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكَّارَ الْقُرَشِيُّ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الرَّبَعِيُّ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَقِسْ فَإِنَّا غَدًا نَقِفُ نَحْنُ وَمَنْ خَالَفَنَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَنَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ اللَّهُ، وَتَقُولُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ: رَأَيْنَا، وَقِسْنَا، فَيَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَبِكُمْ مَا يَشَاءُ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَكُنْتُ لَهُ صَدِيقًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَى جَعْفَرِ وَقُلْتُ لَهُ: أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَهُ فِقْهٌ وَعَقْلٌ، فَقَالَ لِي جَعْفَرٌ: لَعَلَّهُ الَّذِي يَقِيسُ الدِّينَ بِرَأْيِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: أَهُوَ النُّعْمَانُ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: نَعَمْ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَقِسْ الدِّينَ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ؛ إذْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثُمَّ قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَخْبِرْنِي عَنْ كَلِمَةٍ أَوَّلُهَا شِرْكٌ وَآخِرُهَا إيمَانٌ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ جَعْفَرٌ: هِيَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَلَوْ قَالَ " لَا إلَهَ " ثُمَّ أَمْسَكَ كَانَ مُشْرِكًا؛ فَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا شِرْكٌ وَآخِرُهَا إيمَانٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، أَيُّهُمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ: قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، أَوْ الزِّنَا؟ قَالَ: بَلْ قَتْلُ النَّفْسِ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: إنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يَقْبَلْ فِي الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةً، فَكَيْفَ يَقُومُ لَكَ قِيَاسٌ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهُمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ: الصَّوْمُ، أَوْ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: بَلْ الصَّلَاةُ، قَالَ: فَمَا بَالُ الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَلَا تَقِسْ، فَإِنَّا نَقِفُ غَدًا نَحْنُ وَأَنْتَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَقُولُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ: قِسْنَا، وَرَأَيْنَا، فَيَفْعَلُ اللَّهُ بِنَا وَبِكُمْ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: الْزَمْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَمْرَانِ تَرَكْتُهُمَا فِيكُمْ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ» . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَقَالَ مَالِكٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيِّدَ الْعَالَمِينَ، يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ» ، فَإِذَا كَانَ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يُجِيبُ إلَّا بِالْوَحْيِ، وَإِلَّا لَمْ يُجِبْ، فَمِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ إجَابَةُ مَنْ أَجَابَ بِرَأْيِهِ، أَوْ قِيَاسُ، أَوْ تَقْلِيدُ مَنْ يُحْسَنُ بِهِ الظَّنُّ، أَوْ عُرْفٌ، أَوْ عَادَةٌ، أَوْ سِيَاسَةٌ، أَوْ ذَوْقٌ، أَوْ كَشْفٌ، أَوْ مَنَامٌ، أَوْ اسْتِحْسَانٌ، أَوْ خَرْصٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو: ثنا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ يَقُولُ لِيَحْيَى بْنِ صَالِحٍ الْوُحَاظِيِّ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا، احْذَرْ الرَّأْيَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِنْ بَعْضِ قِيَاسِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ لِي حَمَّادُ بْنُ أَبِي حَنِيفَةَ: قَالَ أَبِي: مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقِيَاسَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَمْ يَفْقَهْ. فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَفْقَهُ مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقِيَاسَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ، قَالُوا: فَتَبًّا لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَفْقَهُ الْمَرْءُ إلَّا بِتَرْكِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ: مَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ. وَقَالَ دَاوُد بْنُ الزِّبْرِقَانِ عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: ثنا الشَّعْبِيُّ يَوْمًا قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَصِيرَ الْجَهْلُ عِلْمًا وَالْعِلْمُ جَهْلًا، قَالُوا: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: كُنَّا نَتَّبِعُ الْآثَارَ وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ الْقِيَاسُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَقَالَ وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا عِيسَى الْخَيَّاطُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَأَنْ أَتَعَنَّى بِعَنِيَّةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ بِرَأْيٍ. قُلْتُ: رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَعَنِيَّةٌ بِوَزْنِ غَنِيَّةٍ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّ الْعَنِيَّةَ أَخْلَاطٌ تُنْقَعُ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ. حِينًا حَتَّى تُطْلَى بِهَا الْإِبِلُ مِنْ الْجَرَبِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ، قِيلَ: لِمَ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ تَزِلَّ رِجْلِي. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: فَقِسْ لَنَا بِرَأْيِكَ، فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي. وَكَانَ يَقُولُ: إيَّاكُمْ وَالْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ؛ فَإِنَّ الرَّأْيَ قَدْ يَزِلُّ. . وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ الْقِيَاسِ فَتُحِلَّ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمَ حَلَالًا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَى أَصْحَابِ الْقَرَائِنِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِكَلَامٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ ثنا صَالِحُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَقَدْ بَغَّضَ إلَيَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هَذَا الْمَسْجِدَ، حَتَّى لَهُوَ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ كُنَاسَةِ دَارِي، قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الأرائيون أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ قَالَ: تَرَكَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْآثَارَ وَاَللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خَاقَانَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ فِي آخِرِ خَرْجَةٍ خَرَجَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَوْصِنَا، فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا الرَّأْيَ إمَامًا [فَصْلٌ الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا] فَصْلٌ: [الْقِيَاسُ يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا] قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا تَعَارَضَتْ الْأَقْيِسَةُ، وَنَاقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتَرَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَنَازِعِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْقِيَاسِ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الْقِيَاسُ، فَيُبْدِي مُنَازِعُهُ قِيَاسًا آخَرَ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَحُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ لَا تَتَعَارَضُ، وَلَا تَتَهَافَتُ. قَالُوا: فَلَوْ جَازَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ لَأَفْضَى إلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي حَذَّرَ اللَّهُ مِنْهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ عَامَّةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ قِيَاسٌ مُقْتَضَاهُ نَقِيضُ حُكْمِ الْآخَرِ اخْتَلَفَ، وَلَا بُدَّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا صَرِيحٌ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . الثَّانِي: أَنَّ الِاخْتِلَافَ سَبَبُهُ اشْتِبَاهُ الْحَقِّ وَخَفَاؤُهُ، وَهَذَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - ذَمَّ الِاخْتِلَافَ فِي كِتَابِهِ، وَنَهَى عَنْ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ، فَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وَقَالَ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ، أَيْ كُلُّ فِرْقَةٍ صَنَّفُوا كُتُبًا أَخَذُوا بِهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَدَعَوْا إلَيْهَا دُونَ كُتُبِ الْآخَرِينَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ سَوَاءٌ، وَقَالَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِائْتِلَافِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» وَقَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» وَكَانَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ إذَا رَأَى مِنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافًا يَسِيرًا فِي فَهْمِ النُّصُوصِ يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِيهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَيَقُولُ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ» وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بَعْدَهُ أَشَدَّ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافَ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَصَانَ اللَّهُ خِلَافَتَهُ عَنْ الِاخْتِلَافِ الْمُسْتَقِرِّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَأَمَّا خِلَافَةُ عُمَرَ فَتَنَازَعَ الصَّحَابَةُ تَنَازُعًا يَسِيرًا فِي قَلِيلٍ مِنْ الْمَسَائِلِ جِدًّا، وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى اجْتِهَادِهِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ وَلَا طَعْنٍ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ صَحِبَ الِاخْتِلَافَ فِيهَا بَعْضُ الْكَلَامِ وَاللَّوْمِ، كَمَا لَامَ عَلِيٌّ عُثْمَانَ فِي أَمْرِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَامَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَائِشَةُ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْوِلَايَاتِ، فَلَمَّا أَفَضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْجَنَّةِ صَارَ الِاخْتِلَافُ بِالسَّيْفِ. [الِاخْتِلَافُ مَهْلَكَةٌ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مُنَافٍ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّكُمْ إنْ اخْتَلَفْتُمْ كَانَ مَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافًا. وَلَمَّا سَمِعَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ يَخْتَلِفَانِ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفَا، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ لَا أَسْمَعُ اثْنَيْنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مَقَامِي هَذَا إلَّا صَنَعْتُ وَصَنَعْتُ. وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - فِي خِلَافَتِهِ لِقُضَاتِهِ: اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ، وَأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَلَاكَ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِنَا إنَّمَا كَانَ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٌ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَرَنَا، قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَا تُهَيِّجُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَهَجَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَوَ لَيْسَ عَنْ هَذَا نُهِيتُمْ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا» وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنَيْ الْعَاصِ أَنَّهُمَا قَالَا: «جَلَسْنَا مَجْلِسًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّهُ أَشَدُّ اغْتِبَاطًا، فَإِذَا رِجَالٌ عِنْدَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ يَتَرَاجَعُونَ فِي الْقَدَرِ، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُمْ اعْتَزَلْنَاهُمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَ الْحُجْرَةِ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: يَا قَوْمِ بِهَذَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمْ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَآنِي أَنَا وَأَخِي جَالِسَيْنِ، فَغَبَطْنَا أَنْفُسَنَا أَنْ لَا يَكُونَ رَآنَا مَعَهُمْ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحُمَيْدِيَّ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: أَجْمَعَ آلُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهَا صَحِيفَةُ عَبْدِ اللَّهِ. [لَيْسَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ] [إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ] قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ صَوَابًا، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ، وَلَكِنْ لَيْسَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَا سِيَّمَا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَإِنَّ الْفَرْعَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ وَصْفَانِ شَبِيهَانِ لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ، فَلَيْسَ جَعْلُ أَحَدِهِمَا صَوَابًا دُونَ الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَتْ لِي الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا» وَجَوَامِعُ الْكَلِمِ: هِيَ الْأَلْفَاظُ الْكُلِّيَّةُ الْعَامَّةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِأَفْرَادِهَا، فَإِذَا انْضَافَ ذَلِكَ إلَى بَيَانِهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى رُتَبِ الْبَيَانِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إلَى لَفْظٍ أَطْوَلَ مِنْهَا وَأَقَلَّ بَيَانًا، مَعَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الْجَامِعَةَ تُزِيلُ الْوَهْمَ وَتَرْفَعُ الشَّكَّ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ. فَكَانَ يَقُولُ: «لَا تَبِيعُوا كُلَّ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ بِمِثْلِهِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَهَذَا أَخْصَرُ وَأَبْيَنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَأَدُلُّ وَأَجْمَعُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ، وَيَدُلَّ بِهَا عَلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْأَنْوَاعِ، فَكَمَالُ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَالُ شَفَقَتِهِ وَنُصْحِهِ وَكَمَالُ فَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ يَأْبَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْقِيَاسِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهَا؛ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَمْ يُفِدْ الْقِيَاسُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ مُتَحَقِّقٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهَا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا مُتَيَقَّنَةٌ فَلَا تُرْفَعُ بِأَمْرٍ لَا تُتَيَقَّنُ صِحَّتُهُ؛ إذْ الْيَقِينُ يَمْتَنِعُ رَفْعُهُ بِغَيْرِ يَقِينٍ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ غَالِبَ الْقِيَاسَاتِ الَّتِي رَأَيْنَا الْقِيَاسِيِّينَ يَسْتَعْمِلُونَهَا رَجْمٌ بِالظُّنُونِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْأُمَّةِ فِي اقْتِحَامِهِمْ وَرَطَاتِ الرَّجْمِ بِالظُّنُونِ حَتَّى يُخْبَطُوا فِيهَا خَبْطَ عَشْوَاءَ فِي ظَلْمَاءَ، وَيَحْكُمُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقِيَاسِيِّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ هُوَ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُ أَحَلَّ كَذَا وَحَرَّمَهُ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ خَبَرُهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ هُوَ وَلَا رَسُولُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] . قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَنَا طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ بِعِلَّتِهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَنَا طَرِيقٌ، وَإِذَا كَانَ لَنَا طَرِيقٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَلَّلٍ، وَإِذَا كَانَ مُعَلَّلًا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةُ وَأَنْ تَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ وَأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَهَا، وَإِذَا ظَهَرَتْ الْعِلَّةُ احْتَمَلَ أَنْ لَا تَكُونَ فِي الْفَرْعِ، وَإِذَا كَانَتْ فِيهِ احْتَمَلَ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا لِمُعَارِضٍ آخَرَ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هَدَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ؟ قَالُوا: وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمُ وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ شَبَهُ الْفَرْعِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَلَيْسَ قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي تَعْدِيَةِ حُكْمِهِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِهِ بِغَيْرِ النَّصِّ، فَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلَا يَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِغَيْرِ النَّصِّ كَحُكْمِ الْأَصْلِ، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قِيَاسَكُمْ أَوْلَى مِنْ هَذَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النُّصُوصِ وَأَشَدُّ مُوَافَقَةً لَهَا مِنْ قِيَاسِكُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَحُكْمُ اللَّهِ بِإِيجَابِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ مَحَبَّتَهُ، وَإِرَادَتَهُ لِوُجُودِهِ، وَعِلْمَهُ بِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أَوْجَبَهُ، وَكَلَامَهُ الطَّلَبِيَّ وَالْخَبَرِيَّ، وَجَعَلَ فِعْلَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِثَابَتِهِ عَلَيْهِ، وَتَرْكَهُ سَبَبًا لِضِدِّ ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْعِلْمِ بِهَذَا إلَّا مِنْ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ خَبَرِ رَسُولِهِ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ؟ هَذَا ظَاهِرُ الِامْتِنَاعِ. [لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ] [لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسِ حُجَّةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ] قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّةِ أَحْكَامِهِ لَكَانَ حُجَّةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسَائِرِ الْحُجَجِ، فَلِمَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَعْدَهُ. وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقِيسُ عَلَى مَا سَمِعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَلَوْ كَانَ هُوَ مَعْقُولَ النُّصُوصِ لَكَانَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ وَشُمُولُ الْمَعْنَى كَتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِاللَّفْظِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَلَمَّا قُلْتُمْ لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ فِي زَمَنِ النَّصِّ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعَلُّقَ النُّصُوصِ بِالصَّحَابَةِ كَتَعَلُّقِهَا بِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهَا عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدٌ. قَالُوا: وَلِأَنَّا لَسْنَا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ عَدَمِ تَعْلِيقِ الشَّارِعِ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُبْدِ بِهِ الْقِيَاسِيُّونَ وَأَنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالِاسْمِ بِحَيْثُ يُوجَدُ بِوُجُودِهِ وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ بَلْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ تَعْلِيقٌ بِمَا لَنَا طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ بِهِ طَرْدًا وَعَكْسًا، بِخِلَافِ تَعْلِيقِهِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فَإِنَّهُ خَرْصٌ وَخَزْرٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ تَرِدْ بِهِ الشَّرِيعَةُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَمَلِ بِالظُّنُونِ إلَّا فِيمَا تَيَقَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِهِ؛ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ الظُّنُونِ، فَمَنْعُهُ مَنْعٌ يَقِينِيٌّ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، فَلَا تَتْرُكُهُ إلَّا بِيَقِينٍ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ يَقْتَضِي أَلَّا يَثْبُتَ الْفَرْعُ إلَّا بِمَا يَثْبُتَ بِهِ الْأَصْلُ، فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَزِمَ تَوَقُّفُ الْفَرْعِ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى النَّصِّ كَالْأَصْلِ؛ فَالْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالِاسْمِ وَحْدَهُ، أَوْ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَحْدَهُ، أَوْ بِهِمَا، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالِاسْمِ وَحْدَهُ أَوْ بِهِمَا بَطَلَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا لَزِمَ أَمْرَانِ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا: إلْغَاءُ الِاسْمِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَقِلَّ بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ وَهُوَ الِاسْمُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ لَمْ يَكُنْ جَعْلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ إذْ التَّأْثِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لِلْوَصْفِ وَحْدَهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ فَرْعٌ وَأَصْلٌ، بَلْ تَكُونَ الصُّورَتَانِ فَرْدَيْنِ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، كَمَا يَكُونَ أَفْرَادُ الْعَامِّ لَفْظًا كَذَلِكَ لَيْسَ بَعْضُهَا أَصْلًا لِبَعْضٍ. قَالُوا: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَيَانَ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ أَعْلَى مِنْ الْبَيَانِ بِالْقِيَاسِ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ الشَّارِعُ - مَعَ كَمَالِ حِكْمَتِهِ - عَنْ الْبَيَانِ الْجَلِيِّ إلَى الْبَيَانِ الْأَخْفَى؟ قَالُوا: وَنَسْأَلُ الْقِيَاسِيَّ عَنْ مَحَلِّ الْقِيَاسِ، أَيَجِبُ فِي الشَّيْئَيْنِ إذَا تَشَابَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمْ إذَا اشْتَبَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَعْضِهَا؟ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ تَرَكَ قَوْلَهُ وَادَّعَى مُحَالًا، إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَفَارِقٌ، وَإِنْ قَالَ بِالثَّانِي قِيلَ لَهُ: فَهَلَّا حَكَمْتَ لِلْفَرْعِ بِضِدِّ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ أَجْلِ الْوَجْهِ الَّذِي خَالَفَهُ فِيهِ؟ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ جِهَةَ وِفَاقٍ تَدُلُّ عَلَى الِائْتِلَافِ فَهَذِهِ جِهَةُ افْتِرَاقٍ تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ فَلَيْسَ إلْحَاقُ صُوَرِ النِّزَاعِ بِمُوجَبِ الْوِفَاقِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِمُوجَبِ الِافْتِرَاقِ. قَالُوا: وَلَا يَنْفَعُهُ الِاعْتِذَارُ بِأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ مِنْ أَجْلِهِ عَدَّيْتُ - الْحُكْمَ، وَإِلَّا فَلَا. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ عِدَّةُ أَوْصَافٍ فَتَعْيِينُكَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ عَارَضَكَ فِيهِ مُنَازِعُوكَ فَادَّعَوْا أَنَّ الْحُكْمَ شُرِعَ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْتَ. مِثَالُهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا نَصَّ عَلَى رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَرُمَ التَّفَاضُلُ لِأَجْلِهِ هُوَ الْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنُ فِي الْمَوْزُونَاتِ، قَالَ لَهُ مُنَازِعُهُ: لَا، بَلْ كَوْنُهَا مَطْعُومَةً فَقَالَ آخَرُ: لَا، بَلْ هُوَ كَوْنُهَا مُقْتَاتَةً وَمُدَّخَرَةً، فَقَالَ آخَرُ: لَا، بَلْ كَوْنُهَا تَجْرِي فِيهَا الزَّكَاةُ، فَقَالَ آخَرُ: لَا بَلْ كَوْنُهَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا ادَّعَاهُ دُونَ مُنَازَعَةٍ، وَيَقْدَحُ فِيمَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ قَدَحٌ فِي قَوْلِ مُنَازِعِهِ، إلَّا وَيَتَهَيَّأُ لِمُنَازَعِهِ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونُهُ، فَلَوْ ظَنَّ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْعِلَّةُ كَوْنُهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا تُنْبِتُهُ لَهُمْ الْأَرْضُ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَالَ: إنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ أَنْ لَا يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَاحْتِجَاجُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْآخَرِينَ وَاحْتِجَاجِهِمْ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ الدِّينِ بِسَبِيلٍ؟ ، قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ النَّصُّ فِي الْأَصْلِ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ نُطْقًا، وَتَعْدِيَتُهُ إلَى مَا فِي مَعْنَاهُ بِالْعِلَّةِ، فَإِذَا نُسِخَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ هَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْ يَزُولُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " يَبْقَى " فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ قُلْتُمْ " يَزُولُ " تَنَاقَضْتُمْ؛ إذْ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ نَسْخَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ لَا يُوجِبُ نَسْخَ جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَالْعَامِّ إذَا خُصَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ غَيْرِهِ؛ فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا فَمَا الْمُوجِبُ لِارْتِفَاعِ الثَّانِي؟ وَإِنْ قُلْتُمْ " يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَيَرْتَفِعُ بِالْقِيَاسِ " قِيلَ: إنَّمَا أَثْبَتُّمُوهُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ عِنْدَكُمْ، وَالْعِلَّةُ لَمْ تَزُلْ بِالنَّسْخِ، وَهِيَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ، وَمَا دَامَ السَّبَبُ قَائِمًا فَالْمُسَبِّبُ كَذَلِكَ، وَلَوْ زَالَتْ الْعِلَّةُ بِالنَّسْخِ لَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ قَوْلِكُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: نَسْخُ حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي نَسْخَ كَوْنِ الْعِلَّةِ عِلَّةً. قِيلَ: هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ النَّصَّ اقْتَضَى ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكَوْنُ وَصْفِ كَذَا عِلَّةَ مُقْتَضَى التَّعْدِيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَهُمَا حُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ؛ فَزَوَالُ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْآخَرِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ لَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ مِثْلَهُ أَوْ شِبْهَهُ " وَلَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ شَيْءٍ فِي كَلَامِهِ، وَطُرُقُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مُتَنَوِّعَةٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ غُلَاةِ الْقِيَاسِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الْحَوَادِثِ، وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْغَالِي الْجَافِي عَنْ النُّصُوصِ فَالْحَاجَةُ إلَى الْقِيَاسِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النُّصُوصِ، فَهَلَّا جَاءَتْ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِهِ وَمُرَاعَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِحِفْظِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنْ لَا تُتَعَدَّى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - حَدَّ لِعِبَادِهِ حُدُودَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِكَلَامِهِ، وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ كَلَامُهُ، فَحُدُودُ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حَدِّ الِاسْمِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنَزِّلُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْدَهُ بِمَا وُضِعَ لَهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَوْضُوعِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدَّ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَحَدَّ التَّمْرِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَلُّوطُ، وَحَدَّ الذَّهَبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقُطْنَ؛ وَلَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ مَا يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَمْنَعُ خُرُوجَ بَعْضِهِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَأَعَدْنَاهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِالدِّينِ أَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ. وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي لَهَا حُدُودٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّاهَا أَوْ خَصَّهَا بِبَعْضِهِ أَوْ أَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَهُ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَهَا. وَنَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى وَنَظَائِرِهَا، فَحُكْمُهَا فِي تَنَاوُلِهَا لِمُسَمَّيَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ كَحُكْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي تَنَاوُلِهِ لِمُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ. وَنَوْعٌ لَهُ حَدٌّ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَحُدَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بِحَدٍّ غَيْرِ الْمُتَعَارَفِ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّرَخُّصِ وَالسَّفَهِ وَالْجُنُونِ الْمُوجِبِ لِلْحَجْرِ وَالشِّقَاقِ الْمُوجِبِ لِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَالنُّشُوزِ الْمُسَوِّغِ لِهَجْرِ الزَّوْجَةِ وَضَرْبِهَا وَالتَّرَاضِي الْمُسَوِّغِ لِحَلِّ التِّجَارَةِ وَالضِّرَارِ الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي تَنَاوُلِهِ لِمُسَمَّاهُ الْعُرْفِيِّ كَالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي تَنَاوُلِهِمَا لِمُسَمَّاهُمَا. وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمُرَاعَاتُهَا مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُحْوِجٍ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ مَنْ قَصَّرَ [فِي] هَذِهِ الْحُدُودِ، وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ. مِثَالُهُ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ، فَلَمَّا احْتَاجُوا إلَى تَقْرِيرِ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ سَلَكُوا طَرِيقَ الْقِيَاسِ، وَقَاسُوا مَا عَدَا ذَلِكَ النَّوْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ الْآخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: لَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ، وَطَالَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، وَكَثُرَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ حَدَّهُ بِحَدٍّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْكِرِ فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» فَأَغْنَانَا هَذَا الْحَدُّ عَنْ بَابٍ طَوِيلٍ عَرِيضٍ كَثِيرِ التَّعَبِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَأَثْبَتْنَا التَّحْرِيمَ بِنَصِّهِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ الْمَيْسِرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى الشِّطْرَنْجِ مَثَلًا فَرَامُوا تَحْرِيمَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ آخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَصِحَّتِهِ، وَطَالَ النِّزَاعُ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ الْمَيْسِرِ حَقَّهُ وَعَرَفُوا حَدَّهُ لَعَلِمُوا أَنَّ دُخُولَ الشِّطْرَنْجِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالُوا: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ السَّارِقِ حَيْثُ أَخْرَجُوا مِنْهُ نَبَّاشَ الْقُبُورِ، ثُمَّ رَامُوا قِيَاسَهُ فِي الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ، فَقَالَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ: الْحُدُودُ وَالْأَسْمَاءُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، فَأَطَالُوا وَأَعْرَضُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ السَّارِقِ حَدَّهُ لَرَأَوْا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَدِّهِ وَمُسَمَّاهُ بَيْنَ سَارِقِ الْأَثْمَانِ وَسَارِقِ الْأَكْفَانِ، وَأَنَّ إثْبَاتَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالنُّصُوصِ لَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ. وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلًا نَدِينُ اللَّهَ بِهِ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِنَا لَهُ وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ: إنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحْوِجْنَا إلَى قِيَاسٍ قَطُّ، وَإِنَّ فِيهَا غُنْيَةً وَكِفَايَةً عَنْ كُلِّ رَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَسِيَاسَةٍ وَاسْتِحْسَانٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِفَهْمٍ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدَهُ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] . وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: " إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى " الْفَهْمَ الْفَهْمَ ". [فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ] قَالُوا: وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانَهُ تَنَاقُضُ أَهْلِهِ فِيهِ، وَاضْطِرَابُهُمْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا. أَمَّا التَّأْصِيلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالشَّبَهِ، وَالطَّرْدِ، وَهُمْ غُلَاتُهُمْ كَفُقَهَاء مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّونَ فِي طَرَائِفِهِمْ عَلَى مُنَازِعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْعِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ بِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَنَاطِرُ وَلَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ؛ فَلَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ إلَى التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَعْظِيمِهِ. وَطَائِفَةٌ يَحْتَجُّونَ بِالْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ دُونَهُ، وَتَقُولُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ هُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: أَنْ يَتَجَاذَبَ الْحَادِثَةَ أَصْلَانِ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ أَوْصَافٌ، فَتَلْحَقُ الْحَادِثَةُ بِأَكْثَرِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْإِبَاحَةِ أَشْبَهَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ وَبِالْحَظْرِ بِثَلَاثَةٍ؛ فَيَلْحَقُ بِالْإِبَاحَةِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، فَأَمَّا إذَا أَشْبَهَهُ فِي حَالٍ وَخَالَفَهُ فِي حَالٍ فَأَرَدْتَ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِهَا، فَإِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَمَا أَقْبَلْتَ بِهِ وَأَدْبَرْتَ بِهِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا قِيَاسَ إلَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَطْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً. . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقِيَاسِيُّونَ فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَجْرِي فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا بَلْ لَا تُثْبِتُ الْأَسْمَاءُ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْقِيَاسِ الْأَحْكَامُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَأَجْرَاهُ جُمْهُورُهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَاللُّغَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ فَقَطْ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَعَهَا الْأَسْبَابَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِيَاسٌ أَوْلَى، وَقِيَاسُ مِثْلٍ، وَقِيَاسٌ أَدْنَى، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى خَبَرِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، فَجُمْهُورُهُمْ قَدَّمَ الْخَبَرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَرَجِ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ الْمَالِكِيَّانِ: هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ طَرْدُ هَذَا الْقَوْلِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ، وَاضْطَرَبُوا فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ، وَعَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْقِيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْمُرْسَلَ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ، وَأَكْثَرُهُمْ - بَلْ كُلُّهُمْ - يُقَدِّمُونَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي التَّأْصِيلِ. وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فِي التَّفْصِيلِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَسِيرًا يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ قِيَاسِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسًا وَتَرْكِهِمْ فِيهَا مِثْلَهُ أَوْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، أَوْ تَرْكِهِمْ نَظِيرَ ذَلِكَ الْقِيَاسِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ. [أَمْثِلَةٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ] فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَقَاسُوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَنْبِذَةِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ حَقًّا فَقَدْ تَرَكُوهُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَقَدْ اسْتَعْمَلُوهُ، وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الْخَلَّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَيْفَ كَانَ نَبِيذُ التَّمْرِ تَمْرَةً طَيِّبَةً وَمَاءً طَهُورًا، وَلَمْ يَكُنْ الْخَلُّ عِنَبَةً طَيِّبَةً وَمَاءً طَهُورًا، وَالْمَرَقُ لَحْمًا طَيِّبًا وَمَاءً طَهُورًا، وَنَقِيعُ الْمِشْمِشِ وَالزَّبِيبِ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ ادَّعَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُضُوءِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ. فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْخَلِّ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَهَلَّا قِسْتُمْ الْمَنْعَ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الْوُضُوءِ بِالْخَلِّ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: اقْتَصَرْنَا عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ وَلَمْ نَقِسْ عَلَيْهِ، قِيلَ لَكُمْ: فَهَلَّا سَلَكْتُمْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ نُصُوصِهِ، وَاقْتَصَرْتُمْ عَلَى مَحَالِّهَا الْخَاصَّةِ، وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، قِيلَ لَكُمْ: فَقَدْ صَرَّحْتُمْ أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَرِدُ بِخِلَافِ الْحَقِّ أَصْلًا، ثُمَّ مِنْ قَاعِدَتِكُمْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يُقْبَلْ، وَفِي أَيِّ الْأُصُولِ وَجَدْتُمْ مَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ وَلَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ دَاخِلَهُمَا؟ فَإِنْ قَالُوا: اقْتَصَرْنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَوْضِعِ النَّصِّ، قِيلَ: فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ بِهِ عَلَى خَارِجِ مَكَّةَ فَقَطْ حَيْثُ جَاءَ الْحَدِيثُ؟ وَكَيْفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 سَاغَ لَكُمْ قِيَاسُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُضُوءِ دُونَ قِيَاسِ دَاخِلِ الْمِصْرِ عَلَى خَارِجِهِ؟ وَقِيَاسُ الْعِنَبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ وَالدِّبْسِ الطَّيِّبِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ عَلَى الثَّمَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ، فَقِسْتُمْ قِيَاسًا، وَتَرَكْتُمْ مِثْلَهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَهَلَّا اقْتَصَرْتُمْ عَلَى مَوْرِدِ الْحَدِيثِ وَلَا عَدَّيْتُمُوهُ إلَى أَشْبَاهِهِ وَنَظَائِرِهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ عَلَى خَبَرٍ مَرْوِيٍّ «يَا بَنِي الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» فَقِسْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَأَبَحْتُمْ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، وَقِسْتُمْ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ طَاهِرٌ لَاقَى أَعْضَاءً طَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْعَذِرَةَ وَالدَّمَ وَالْمَيْتَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَتَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ مِنْهُ وَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ وَمِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ انْتِقَالِهِ مِنْ عُضْوِ الْمُتَطَهِّرِ الْوَاحِدِ إلَى عُضْوِهِ الْآخَرِ وَبَيْنَ انْتِقَالِهِ إلَى عُضْوِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ» ، وَلَا رَيْبَ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ قِيَاسَ جَسَدِ الْمُسْلِمِ عَلَى جَسَدِ أَخِيهِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْعَذِرَةِ وَالْجِيَفِ وَالْمَيْتَاتِ وَالدَّمِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ الرَّجُلُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَعْتَقَهُ فِي كَفَّارَتِهِ وَالْمَالِ الَّذِي أَخْرَجَهُ فِي زَكَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْهُ، وَهُوَ قِيَاسُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي قَدْ أَدَّى بِهِ عِبَادَةً عَلَى الثَّوْبِ الَّذِي قَدْ صَلَّى فِيهِ، وَعَلَى الْحَصَى الَّذِي رَمَى بِهِ الْجِمَارَ مَرَّةً عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْكُمْ الرَّمْيَ بِهَا ثَانِيَةً، وَعَلَى الْحَجَرِ الَّذِي اسْتَجْمَرَ بِهِ مَرَّةً إذَا غَسَلَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَجَاسَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي وَرَدَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فَلَمْ تُغَيِّرْ لَهُ لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا عَلَى الْمَاءِ الَّذِي غَيَّرَتْ النَّجَاسَةُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ، وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْقِيَاسِ عَنْ الشَّرْعِ وَالْحُسْنِ. وَتَرَكْتُمْ قِيَاسًا أَصَحَّ مِنْهُ، وَهُوَ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَقِيَاسُ الْوَارِدِ عَلَى الْمَوْرُودِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ وَالْأَوْصَافِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِ مِائَةِ رِطْلٍ مَاءً وَقَعَ فِيهِ شَعْرَةُ كَلْبٍ عَلَى مِائَةِ رِطْلٍ خَالَطَهَا مِثْلُهَا بَوْلًا وَعَذِرَةً حَتَّى غَيَّرَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَاءٍ جَارٍ بِقَدْرِ طَرَفِ الْخِنْصَرِ تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ إذَا وَقَعَ فِيهِ مِثْلُ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ، فَنَجَّسْتُمْ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ فَلَمْ تَقِيسُوا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ غَدِيرٍ كَبِيرٍ فِي غَرْبِيِّهِ نَجَاسَةٌ عَلَى الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمَاسٌّ لِمَا قَدْ تَنَجَّسَ عِنْدَكُمْ مُمَاسَّةً مُسْتَوِيَةً. وَقَاسُوا بَاطِنَ الْأَنْفِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَأَوْجَبُوا الِاسْتِنْشَاقَ، وَلَمْ يَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالِاسْتِنْشَاقِ نَصًّا، فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، وَأَسْقَطُوا الْوُجُوبَ فِي مَحَلِّ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَوْجَبُوهُ فِي غَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِغُسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ كَالْأَمْرِ بِغُسْلِ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ سَوَاءٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ النِّسْيَانَ عَلَى الْعَمْدِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا، وَفِيمَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَالْحَلْقِ وَالصَّيْدِ، وَفِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ فِي السَّلَامِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ، وَفِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقِسْتُمْ الْجَاهِلَ عَلَى النَّاسِي فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي مَسَائِلَ أُخَرَ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ نَسِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَلَوْ جَهِلَ فَظَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَسَدَ صَوْمُهُ، مَعَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَعْذُرُ الْجَاهِلَ كَمَا تَعْذُرُ النَّاسِيَ أَوْ أَعْظَمَ؟ كَمَا عَذَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا مَضَى، وَعَذَرَ الْحَامِلَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِجَهْلِهَا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهَا مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِإِعَادَةِ مَا مَضَى، وَعَذَرَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ بِأَكْلِهِ فِي رَمَضَانَ حِينَ تَبَيَّنَّ لَهُ الْخَيْطَانِ اللَّذَانِ جَعَلَهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ أَبَا ذَرٍّ بِجَهْلِهِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَأَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ الَّذِينَ تَمَعَّكُوا فِي التُّرَابِ كَتَمَعُّكِ الدَّابَّةِ لَمَّا سَمِعُوا فَرْضَ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ بِكَلَامِهِ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِجَهْلِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَعَذَرَ أَهْلَ قُبَاءَ بِصَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِهِ بِجَهْلِهِمْ بِالنَّاسِخِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَعَذَرَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ فَلَمْ يَحُدُّوهُ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ وَقَلِيلِهَا فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَطَهَارَةُ الْجَمِيعِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَتَرَكَ الْجَمِيعُ صَرِيحَ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ، فَطَائِفَةٌ لَمْ تَقِسْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَطَائِفَةٌ قَاسَتْ عَلَيْهِ الْخِنْزِيرَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَالذِّئْبِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، وَقِيَاسُ الْخِنْزِيرِ عَلَى الذِّئْبِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْكَلْبِ، وَطَائِفَةٌ قَاسَتْ عَلَيْهِ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ، وَقِيَاسُهُمَا عَلَى الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ قَرِينَتُهُمَا فِي الذِّكْرِ وَامْتِنَانُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - عَلَى عِبَادِهِ لَهَا بِرُكُوبِهَا وَاِتِّخَاذِهَا زِينَةً وَمُلَامَسَةُ النَّاسِ لَهَا أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِ الْبَغْلِ عَلَى الْكَلْبِ، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الشَّبَهَ بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْفَرَسِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ. وَقِيَاسُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ عَلَى السِّنَّوْرِ بِشِدَّةِ مُلَامَسَتِهِمَا وَالْحَاجَةِ إلَيْهِمَا وَشُرْبِهِمَا مِنْ آنِيَةِ الْبَيْتِ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْكَلْبِ. وَقِسْتُمْ الْخَنَافِسَ وَالزَّنَابِيرَ وَالْعَقَارِبَ وَالصَّرْدَانِ عَلَى الذُّبَابِ فِي أَنَّهَا لَا تُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ بِعَدَمِ النَّفْسِ السَّائِلَةِ لَهَا وَقِلَّةِ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّنْجِيسَ فِيهَا، وَنَجَّسَ مَنْ نَجَّسَ مِنْكُمْ الْعِظَامَ بِالْمَوْتِ مَعَ تَعَرِّيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْسَ السَّائِلَةَ الَّتِي فِي تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقِيسَةِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْسِ السَّائِلَةِ الَّتِي فِي الْعِظَامِ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا شَرِبَ مِنْهُ الصَّقْرُ وَالْبَازِي وَالْحَدَأَةُ وَالْعُقَابُ وَالْأَحْنَاشُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَمَا شَرِبَ مِنْهُ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْفَرْقِ فِي هَذَا بَيْنَ سِبَاعِ الطُّيُورِ وَسِبَاعِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَقَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي هَذَا. وَتَرَكْتُمْ صَرِيحَ الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَنَبِيذِ الْعِنَبِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَنْ مَعَهُ إنَاءَانِ طَاهِرٌ وَنَجَسٌ فَقُلْتُمْ: يُرِيقُهُمَا وَيَتَيَمَّمُ، وَلَا يَتَحَرَّى فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ كَذَلِكَ يَتَحَرَّى فِيهِمَا، وَالْوُضُوءُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجَسِ، ثُمَّ قُلْتُمْ: فَلَوْ كَانَتْ الْآنِيَةُ ثَلَاثَةً تَحَرَّى، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَهُوَ فَرْقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا عَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْإِنَاءِ الَّذِي كُلُّهُ بَوْلٌ وَبَيْنَ الْإِنَاءِ الَّذِي نِصْفُهُ فَأَكْثَرُ بَوْلٌ، فَجَوَّزُوا الِاجْتِهَادَ بَيْنَ الثَّانِي وَالْإِنَاءِ الطَّاهِرِ، دُونَ الْأَوَّلِ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. وَقِسْتُمْ الْقَيْءَ عَلَى الْبَوْلِ، وَقُلْتُمْ: كِلَاهُمَا طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْجَشْوَةَ الْخَبِيثَةَ عَلَى الْفَسْوَةِ، وَلَمْ تَقُولُوا: كِلَاهُمَا رِيحٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْجَوْفِ. وَقِسْتُمْ الْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ فِي صِحَّتِهِ بِلَا نِيَّةٍ، وَلَمْ تَقِيسُوهُمَا عَلَى التَّيَمُّمِ وَهُمَا أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ، ثُمَّ تَنَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي الْبِئْرِ لَأَخْذِ الدَّلْوِ وَلَمْ يَنْوِ الْغُسْلَ لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ، كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَنَقَضَ أَصْلَهُ فِي أَنَّ مَسَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الْمَاءِ لِبَدَنِ الْجُنُبِ يَرْفَعُ حَدَثَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ وَلَا يَفْسُدُ الْمَاءُ، فَنَقَضَ أَصْلَهُ فِي فَسَادِ الْمَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ. وَقِسْتُمْ التَّيَمُّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى غَسْل الْيَدَيْنِ إلَيْهِمَا، وَلَمْ تَقِيسُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلَيْهِمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ أَسْعَدُ بِالْقِيَاسِ مِنْكُمْ كَمَا هُمْ أَسْعَدُ بِالنَّصِّ. وَقِسْتُمْ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ عَنْ الثِّيَابِ بِالْمَائِعَاتِ عَلَى إزَالَتِهَا بِالْمَاءِ، وَلَمْ تَقِيسُوا إزَالَتَهَا مِنْ الْقَذَرِ بِهَا عَلَى الْمَاءِ، فَمَا الْفَرْقُ؟ ثُمَّ قُلْتُمْ: تُزَالُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ بِكُلِّ مُزِيلٍ جَامِدٍ، وَلَا تُزَالُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ إلَّا بِالْمَاءِ، وَقُلْتُمْ: تُزَالُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ بِالرَّوْثِ الْيَابِسِ، وَلَا تُزَالُ بِالرَّجِيعِ الْيَابِسِ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي النَّجَاسَةِ. وَقِسْتُمْ قَلِيلَ الْقَيْءِ عَلَى كَثِيرِهِ فِي النَّجَاسَةِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ حَدَثًا، وَقِسْتُمْ نَوْمَ الْمُتَوَرِّكِ عَلَى الْمُضْطَجِعِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهِ نَوْمَ السَّاجِدِ. وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ الْمُؤَيَّدِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ - وَهِيَ مَلْبُوسٌ مُعْتَادٌ سَاتِرٌ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ وَيَشُقُّ نَزْعُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إمَّا لِحَنَكٍ أَوْ لِكِلَابٍ أَوْ لِبَرْدٍ - عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْحِ كَمَا هُمَا سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ فَرْضُهُمَا فِي التَّيَمُّمِ. وَقِسْتُمْ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ، وَلَمْ تَقِيسُوا مَسْحَ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ، وَالْفِعْلُ وَالْبَاءُ وَالْأَمْرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ. وَقِسْتُمْ وُجُودَ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِهِ خَارِجَهَا فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ بِهِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَهْقَهَةِ فِي خَارِجِهَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَأَخْرَجْتُمُوهُ وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَمَنَعْتُمُوهُ. وَقِسْتُمْ وَجْهَ الْمَرْأَةِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ وَتَرَكْتُمْ قِيَاسَ وَجْهِهَا عَلَى يَدَيْهَا أَوْ عَلَى بَدَنِ الرَّجُلِ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ السُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَ يَدَيْهَا وَوَجْهِهَا وَبَيْنَ يَدَيْ الرَّجُلِ وَوَجْهِهِ حَيْثُ قَالَ «لَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَلَا النِّقَابَ» وَكَذَلِكَ قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ» فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ. وَقِسْتُمْ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ عَلَى الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ فَأَبْطَلْتُمُوهُمَا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ وَهُوَ قِيَاسُهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فَإِنَّهُمَا أَشْبَهُ بِهِمَا مِنْهُمَا بِالْإِجَارَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ يَدْفَعُ أَرْضَهُ وَشَجَرَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِمَا وَمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ نَمَاءٍ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ، وَهَذَا كَالْمُضَارَبَةِ سَوَاءٌ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِجَوَازِهَا لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهَا عِنْدَ الْقِيَاسِيِّينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَاشْتَرَطَ أَكْثَرُ مَنْ جَوَّزَهَا كَوْنَ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَقَاسَهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ الْمَالِ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ كَالْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْبَذْرُ يَجْرِي مَجْرَى الْمَاءِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى رَبِّهِ مِثْلُ بَذْرِهِ وَيَقْتَسِمَا الْبَاقِيَ، وَلَوْ كَانَ كَرَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ لَجَازَ، بَلْ اشْتَرَطَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ مِثْلُ بَذْرِهِ كَمَا يَرْجِعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلُ مَالِهِ، فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ كَمَا تَرَكُوا مُوجَبَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَعَمَلَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ. وَقِسْتُمْ إجَارَةَ الْحَيَوَانِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهِ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَقِيَاسُ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّاقَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا عَلَى الظِّئْرِ أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ مِنْ قِيَاسِ ذَلِكَ عَلَى إجَارَةِ الْخُبْزِ لِلْأَكْلِ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ الْمُسْتَخْلَفَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ كَمَا جَرَتْ مَجْرَاهَا فِي الْمَنِيحَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ. وَقِسْتُمْ عَلَى مَا لَا خَفَاءَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْخُبْزَ وَالطَّعَامَ تَذْهَبُ جُمْلَتُهُ بِالْأَكْلِ وَلَا يَخْلُفُهُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ الْقِيَاسِ. وَقِسْتُمْ الصَّدَاقَ عَلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ بِمَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاوِضَانِ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ. وَقِسْتُمْ الرَّجُلَ يَسْرِقُ الْعَيْنَ ثُمَّ يَمْلِكُهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَطْعِ عَلَى مَا إذَا مَلَكَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسْقِطْ الْقَطْعَ عَنْ سَارِقِ الرِّدَاءِ بَعْدَمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ صَفْوَانُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْأَمَةِ ثُمَّ يَمْلِكُهَا فَلَمْ تَرَوْا ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَقِسْتُمْ قِيَاسًا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا فَقُلْتُمْ: إذَا قُطِعَ بِسَرِقَتِهَا مَرَّةً ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ بِهَا ثَانِيًا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ بِهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا ثَانِيَةً فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَوْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ. وَقِسْتُمْ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فِي الِانْعِقَادِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ عَلَى نَذْرِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْقَابِلِ لَهُ شَرْعًا، وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَمُوجَبَ السُّنَّةِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ الْحَيْضِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وَقِسْتُمْ وَجَعَلْتُمْ الْمُحْتَقِنَ بِالْخَمْرِ كَشَارِبِهَا فِي الْفِطْرِ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ تَجْعَلُوهُ كَشَارِبِهَا فِي الْحَدِّ. وَقِسْتُمْ الْكَافِرَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ بِهِ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ الشَّبَهَ الَّذِي بَيْنَ الْمُعَاهَدِ وَالْحَرْبِيِّ أَعْظَمُ مِنْ الشَّبَهِ الَّذِي بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ سَوَّى بَيْنَ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي إدْخَالِهِمْ نَارَ جَهَنَّمَ، وَفِي قَطْعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي عَدَمِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي مَنْعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَطْعِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ - وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَهُ - وَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكَافِرِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَلَمْ تَقِيسُوا الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْحُرِّ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَجَعَلْتُمْ حُرْمَةَ عَدُوِّ اللَّهِ الْكَافِرِ فِي أَطْرَافِهِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ وَلِيِّهِ الْمُؤْمِنِ، وَكَأَنَّ نَقْصَ الْمُؤْمِنِ الْعُبُودِيَّةُ الْمُوجِبَ لِلْأَجْرَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْقُصُ عِنْدَكُمْ مِنْ نَقْصِ الْكُفْرِ، وَقُلْتُمْ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهَا، وَقُلْتُمْ: يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْآخَرِ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ، إلَّا أَنْ تَتَسَاوَى قِيمَتُهُمَا، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَلْغَى التَّفَاوُتَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ فِي الْفَضْلِ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلِعَدَمِ ضَبْطِ التَّسَاوِي، فَأَلْغَيْتُمْ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَاعْتَبَرْتُمْ مَا أَلْغَاهُ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَقِسْتُمْ قَوْلَهُ " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا أَوْ بَايَعْتُهُ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ " عَلَى مَا إذَا قَالَ " إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ عَدَّيْتُمْ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا " ثُمَّ كَلَّمَهُ، وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى قَوْلِهِ " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، أَوْ حَجٌّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ " وَقُلْتُمْ: هَذَا يَمِينٌ لَا تَعْلِيقُ مَقْصُودٍ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا " يَمِينٌ لَا تَعْلِيقٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَزِيزَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِمَصَالِحِ الْأَفْهَامِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي بَابِ تَرْجَمَتِهِ الْبَابِ الثَّالِثِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالشَّرْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يُقْضَى بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكَ " قَالَ: إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى يَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ، ثُمَّ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَاتَا مَعًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَيَتَوَارَثَانِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، وَلَا تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَلَوْ حَنِثَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَتَوَارَثَا، فَحَيْثُ أَثْبَتَ التَّوَارُثَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا عِنْدَهُ يَمِينُ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ عِنْدَ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: إذَا قَالَ " إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ حَجَّةٌ " لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلنَّذْرِ، فَإِذَا قَالَ: " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمٌ، أَوْ صَدَقَةٌ " لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَجَاجٌ وَغَضَبٌ، فَهُوَ يَمِينٌ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَجَعَلْتُمْ قَصْدَهُ لِعَدَمِ الْوُقُوعِ مَانِعًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إيجَابُ مَا الْتَزَمَ، وَوُجُوبُهُ عَلَيْهِ، وَوُقُوعُهُ. وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ " وَفَعَلَهُ لَزِمَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ قَصْدُ الْحَلِفِ مِنْ وُقُوعِهِ، وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ، وَمَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى اللَّهِ، فَخَالَفْتُمْ صَرِيحَ الْقِيَاسِ وَالْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ يَكُونُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: إذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» فَجَعَلْتُمُوهُ يَمِينًا، ثُمَّ قُلْتُمْ: يَلْزَمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أُجَامِعُهَا سَنَةً " فَهُوَ مُولٍ فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وَالْأَلِيَّةُ وَالْإِيلَاءُ وَالِائْتِلَاءُ هُوَ الْحَلِفُ بِعَيْنِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا» وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] . وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ ثُمَّ قُلْتُمْ: وَلَيْسَ بِيَمِينٍ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، مَا الَّذِي أَحَلَّهُ عَامًا وَحَرَّمَهُ عَامًا، وَجَعَلَهُ يَمِينًا وَلَيْسَ بِيَمِينٍ؟ ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: إنْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ " وَفَعَلَهُ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْكُفْرَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْفِعْلِ بِمَنْعِهَا مِنْ الْكُفْرِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ نَقَضْتُمُوهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ وُقُوعِ الْكُفْرِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي " فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ": فَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْتُهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَحَنِثَ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَلَا تُفَرِّقُ اللُّغَةُ وَلَا الشَّرِيعَةُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَأَنْ وَالْفِعْلِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ الْتَزَمَ فِي الْأَوَّلِ التَّطْلِيقَ وَهُوَ فِعْلُهُ، وَفِي الثَّانِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ. قِيلَ: هَذَا الْفَرْقُ الَّذِي تَخَيَّلْتُمُوهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ التَّطْلِيقُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ كَوْنُهَا طَالِقًا، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ، فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ: الْتِزَامُ التَّطْلِيقِ، وَهَذَا غَيْرُ الطَّلَاقِ بِلَا شَكٍّ. وَالثَّانِي: إيقَاعُ التَّطْلِيقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ بِعَيْنِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» . الثَّالِثُ: صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ طَالِقًا وَبَيْنُونَتُهَا، فَالْقَائِلُ " إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ " لَمْ يُرِدْ هَذَا الثَّالِثَ قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى الشَّارِعِ، وَالْمُكَلَّفُ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ " فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي " إنَّمَا هُوَ فِعْلُهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا طَالِقًا فَهَذَا وَصْفُهَا، فَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهَا. فَلْيَنْظُرْ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ الَّذِي الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الْمَحْضِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ لِيَخْتَرْ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " إنْ حَلَفْتُ بِطَلَاقِكِ أَوْ وَقَعَ مِنِّي يَمِينٌ بِطَلَاقِكِ " أَوْ لَمْ يَقُلْ بِطَلَاقِكِ بَلْ قَالَ: " مَتَى حَلَفْتُ أَوْ أَوْقَعْتُ يَمِينًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ قَالَ: " إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " حَنِثَ وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ وَأَوْقَعَ الْيَمِينَ، فَأَدْخَلْتُمْ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ الْمُكَلَّفِ، وَلَمْ تُدْخِلُوهُ فِي اسْمِ الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ اتَّبَعْتُمْ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، وَقَدْ أَرَيْنَاكُمْ مُخَالَفَتَكُمْ لِصَرِيحِ الْقِيَاسِ مُخَالَفَةً لَا يُمْكِنُكُمْ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا بِوَجْهٍ. وَمُخَالَفَتُكُمْ لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَظَهَرَ عِنْدَ الْمُنْصِفِينَ أَنَّا أَوْلَى بِالْقِيَاسِ وَالِاتِّبَاعِ مِنْكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَصَدَّقَ الشُّهُودَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ تَصْدِيقَهُمْ إنَّمَا زَادَهُمْ قُوَّةً، وَزَادَ الْإِمَامَ يَقِينًا وَعِلْمًا أَعْظَمَ مِنْ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبِهِ. وَتَفْرِيقُكُمْ - بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَإِذَا أَقَرَّ فَلَا عَمَلَ لِلْبَيِّنَةِ، وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً لَا يَكْفِي فَيَسْقُطُ الْحَدُّ - تَفْرِيقٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ هَاهُنَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ إنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَصْدِيقُ الْبَيِّنَةِ الَّتِي وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ، فَسَوَاءٌ أَقَرَّ أَمْ لَمْ يُقِرَّ، فَالْعَمَلُ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيِّنَةِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَظَنَّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَوَطِئَهَا حُدَّ حَدَّ الزِّنَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ أُمِّهِ وَوَطِئَهَا كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ، وَلَوْ حَبِلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ وَوَلَدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ تُحَدَّ، وَلَوْ تَقَايَأَ الْخَمْرَ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يُحَدَّ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالثَّابِتَ عَنْ الصَّحَابَةِ ثُبُوتًا لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ وَرَائِحَةِ الْخَمْرِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَطَعَنَ فِي عَدَالَتِهِمْ حُبِسَ إلَّا أَنْ تُزَكَّى الشُّهُودُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِمَالٍ فَطَعَنَ فِي عَدَالَتِهِمَا لَمْ يُحْبَسْ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَقِسْتُمْ دَعْوَى الْمَرْأَتَيْنِ الْوَلَدَ وَإِلْحَاقَهُ بِهِمَا وَجَعْلَهُمَا أُمَّيْنِ لَهُ عَلَى دَعْوَى الرَّجُلَيْنِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْوَلَدِ مِنْ أُمَّيْنِ مَعْلُومُ الِاسْتِحَالَةِ، وَتَخْلِيقُهُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلَيْنِ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ، كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقَائِفُ عِنْدَ عُمَرَ وَصَدَّقَهُ. وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ " طَلِّقْ امْرَأَتِي " فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " طَلِّقِي نَفْسَكِ " فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " تَمْلِيكٌ لَا تَوْكِيلٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فَيُقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَتَوْكِيلٌ فَلَا يَتَقَيَّدُ، وَهَذَا الْفَرْقُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ وَلَمْ تَذْكُرُوا حُجَّةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " طَلِّقِي نَفْسَكِ " تَمْلِيكٌ، وَقَوْلَكُمْ " الْوَكِيلُ لَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ " جَوَابُهُ: لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الشَّرِيكُ وَكِيلًا بَعْدَ قَبْضِ الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ هَذَا الْفَرْقَ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ " أَبْرِئْ نَفْسَكَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْكَ " فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَيَكُونُ تَوْكِيلًا، مَعَ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَعَ نَفْسِهِ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " وَ " أَبْرِئْ نَفْسَكَ مِمَّا عَلَيْكَ مِنْ الدَّيْنِ " وَهُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ. وَقَالُوا: مَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى أَنَّ زَيْدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لِمَنْ تَزَوَّجَهَا مِنْ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى أَنَّ فُلَانَةَ تَزَوَّجَتْهُ بِوَلِيٍّ وَرِضًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ هَذِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ لِمَنْ تَزَوَّجَهَا مِمَّنْ يَدْرِي بَاطِنَ الْأَمْرِ، فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ نَاقَضُوا فَقَالُوا: لَوْ شَهِدُوا لَهُ زُورًا بِأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ مَمْلُوكَتَهُ هَذِهِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ نَاقَضُوا بِذَلِكَ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقَالُوا: لَوْ شَهِدَا بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ الْمُطَلِّقِ وَكَانَا كَاذِبَيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ وَحَبْسُهَا عَلَى زَوْجِهَا أَعْظَمُ مِنْ حَبْسِهَا عَلَى عِدَّتِهِ، فَأَحَلُّوهَا فِي أَعْظَمِ الْعِصْمَتَيْنِ، وَحَرَّمُوهَا فِي أَدْنَاهُمَا، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْعِدَّةِ. وَقُلْتُمْ: لَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ إذَا زَنَا بِالْمُسْلِمَةِ وَلَوْ كَانَتْ قُرَشِيَّةً عَلَوِيَّةً أَوْ عَبَّاسِيَّةً وَلَا بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ جَهْرَةً فِي أَسْوَاقِنَا وَمَجَامِعِنَا، وَلَا بِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ، وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْصُومُ الْمَالِ وَالدَّمِ، حَتَّى إذَا مَنَعَ دِينَارًا وَاحِدًا مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ وَقَالَ: " لَا أُعْطِيكُمُوهُ " انْتَقَضَ بِذَلِكَ عَهْدُهُ، وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقُلْتُمْ: لَوْ سَرَقَ لِمُسْلِمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَلَوْ قَذَفَهُ حُدَّ بِقَذْفِهِ، فَيَا لِلْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ الْمُنَاقِضِ لِلدِّينِ وَالْعَقْلِ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَكْفِي فِي رَدِّهَا تَصَوُّرُهَا، كَيْفَ اسْتَجَازَ الْمُسْتَجِيزُ تَقْدِيمَهَا عَلَى السُّنَنِ وَالْآثَارِ؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَجَزْتُمْ شَهَادَةَ الْفَاسِقَيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ وَالْأَعْمَيَيْنِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ فِيهِ عَبْدَانِ صَالِحَانِ عَالِمَانِ يُفْتِيَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ بِشَهَادَتِهِمَا، فَمَنَعْتُمْ انْعِقَادَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ عَدَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَقَدْتُمُوهُ بِشَهَادَةِ مَنْ فَسَّقَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى زَيْدٍ أَنَّهُ غَصَبَ عَمْرًا مَالًا أَوْ شَجَّهُ أَوْ قَذَفَهُ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ بَاعَهُ وَشَهِدَ آخَرُ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ وَقُضِيَ عَلَيْهِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لَهُ: " بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ " فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، فَلَوْ قَالَ: " بِعْتُكَ هَذِهِ النَّعْجَةَ بِعَشَرَةٍ " فَإِذَا هِيَ كَبْشٌ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بِأَنْ قُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ مُخْتَلِفٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ النَّعْجَةِ وَالْكَبْشِ مُتَقَارِبٌ وَهُوَ اللَّحْمُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأُنْثَى لَا يُوجَدُ فِي الذَّكَرِ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَضِرَابُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يُوجَدُ فِي الْأُنْثَى، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ بِأَنْ قُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بِعْتُكَ هَذَا الْقَمْحَ " فَإِذَا هُوَ شَعِيرٌ أَوْ " هَذِهِ الْأَلْيَةَ " فَإِذَا هِيَ شَحْمٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ تَقَارُبِ الْقَصْدِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا مِنْ ثَوْبَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، فَلَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَقَالَ: " بِعْتُكَ وَاحِدًا مِنْهَا " صَحَّ الْبَيْعُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمُوهُ مَعَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَصَحَّحْتُمُوهُ مَعَ زِيَادَتِهِمَا؟ أَفَتَرَى زِيَادَةَ الثَّوْبِ الثَّالِثِ خَفَّفَتْ الْغَرَرَ وَرَفَعَتْ الْجَهَالَةَ؟ ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْجَهَالَةَ وَالتَّغْرِيرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُرْتَفِعًا وَالْآخَرُ رَدِيئًا فَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثَةً فَالثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ وَالْوَسَطَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " بِعْتُكَ أَوْسَطَهَا " وَذَلِكَ أَقَلُّ غَرَرًا مِنْ بَيْعِهِ وَاحِدًا مِنْ اثْنَيْنِ رَدِيءٍ وَجَيِّدٍ، وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إلْغَائِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ مَا زَادَ الْمَسْأَلَةَ إلَّا غَرَرًا وَجَهَالَةً، فَإِنَّ النِّزَاعَ كَانَ يَكُونُ فِي ثَوْبَيْنِ فَقَطْ وَأَمَّا الْآنَ فَصَارَ فِي ثَلَاثَةٍ، وَإِذَا قَالَ: " إنَّمَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْوَسَطِ " قَالَ الْآخَرُ " بَلْ عَلَى الْأَدْنَى، أَوْ عَلَى الْأَعْلَى ". وَقُلْتُمْ: لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ أَرَادَ وَطْأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا فَرَاغَ رَحِمِهَا بِأَنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ كَانَتْ بَائِعَتُهَا امْرَأَةً مَعَهُ فِي الدَّارِ بِحَيْثُ تَيَقَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ مَشْغُولَةِ الرَّحِمِ، أَوْ بَاعَهَا وَقَدْ ابْتَدَأَتْ فِي الْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلْتُمْ: لَوْ وَطِئَهَا السَّيِّدُ الْبَارِحَةَ ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْغَدَ جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا وَرَحِمُهَا مُشْتَغِلٌ عَلَى مَاءِ الْوَطْءِ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةَ وَحِكْمَةَ الشَّارِعِ لِفَرْقٍ مُتَخَيَّلٍ لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا صَحَّ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِفَرَاغِ الرَّحِمِ، فَإِذَا حُكِمَ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا، فَيُقَالُ: يَالِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَحْكُمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِوَطْئِهَا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا حُكْمٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؟ نَعَمْ لَوْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: " لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا وَيَحْكُمَ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا " لَكَانَ هَذَا فَرْقًا صَحِيحًا وَكَلَامًا مُتَوَجِّهًا، وَيُقَالُ حِينَئِذٍ: لَا مَعْنَى لِاسْتِبْرَاءِ الزَّوْجِ، فَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا عَقِيبَ الْعَقْدِ فَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقُلْتُمْ: مَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ السَّبْعِ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ إنَّهُ يَجْبُرُهُ بِدَمٍ وَصَحَّ حَجُّهُ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، فَخَرَجْتُمْ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَرْكَانَ لَا مَدْخَلَ لِلدَّمِ فِي تَرْكِهَا، وَمَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ لَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ مُمْتَثِلًا بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ، وَلَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَ كُلِّهِ، كَمَا لَا يَقُومُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَالْمَأْمُورُ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ بَعْدُ، وَهُوَ فِي عُهْدَتِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسَامِحْ الْمُتَوَضِّئَ بِتَرْكِ لُمْعَةٍ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يُصِبْهَا الْمَاءُ، وَلَا أَقَامَ الْأَكْثَرَ مَقَامَ الْكُلِّ، وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْمِيزَانُ الْعَادِلُ، لَا هَذَا الْمِيزَانُ الْعَائِلُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقِسْتُمْ الِادِّهَانَ بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الِادِّهَانِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَقِيسُوا نَبِيذَ التَّمْرِ عَلَى نَبِيذِ الْعِنَبِ مَعَ قُرْبِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا. وَقُلْتُمْ: لَوْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدْ يُتَّخَذُ وَسِيلَةً وَحِيلَةً إلَى إسْقَاطِ مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ، فَلَا تَسْقُطُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالْمَرَضَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ احْتَالَ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ فَمَلَّكَ مَالَهُ لِزَوْجَتِهِ لَحْظَةً فَلَمَّا انْقَضَى الْحَوْلُ اسْتَرَدَّهُ مِنْهَا، وَاعْتِذَارُكُمْ بِالْفَرْقِ - بِأَنَّ هَذَا تَحَيُّلٌ عَلَى مَنْعِ الْوُجُوبِ، وَذَاكَ تَحَايُلٌ عَلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ - اعْتِذَارًا لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَجُوزُ التَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ أَحْكَامِهِ بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهَا وَلَا تَسْقُطُ بِذَلِكَ. وَإِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ لِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هُنَا قَائِمٌ وَهُوَ الْغِنَى بِمِلْكِ النِّصَابِ، وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْغِنَى بِهَذَا التَّحَيُّلِ. وَلَا يَعُدُّهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَفْسُهُ فَقِيرًا مِسْكِينًا بِهَذَا التَّحَيُّلِ يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. هَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ، فَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ خَفَايَا الْأُمُورِ وَخَبَايَا الصُّدُورِ؟ وَأَيْنَ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ وَالْعَدْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ التَّحَيُّلِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ؟ وَكَيْفَ تَخْرُجُ الْحِيلَةُ الْمُفْسِدَةُ الَّتِي فِي الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي كَوْنِهَا مُفْسِدَةً؟ أَمْ كَيْفَ يُقَلِّلُ بِهَا مَصْلَحَةً مَحْضَةً وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَزِيدُ بِالْحِيلَةِ وَلَا تَزُولُ وَتُضَاعَفُ وَلَا تَضْعُفُ؟ فَكَيْفَ تَزُولُ الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ بِأَنْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَعْقِدَا بِنِيَّةِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَا يَشْرِطَاهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؟ فَإِذَا أَخْلَيَا صُلْبَ الْعَقْدِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِشَرْطِهِ حَسْبُ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالنَّاسُ وَهُمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا عُقِدَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، أَكَانَتْ هَذِهِ اللَّعْنَةُ عَلَى مُجَرَّدِ ذِكْرِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَقْدِ انْقَلَبَتْ اللَّعْنَةُ رَحْمَةً وَثَوَابًا؟ وَهَلْ الِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ إلَّا بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا؟ وَهَلْ الْأَلْفَاظُ إلَّا مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا قَصْدَ الْوَسَائِلِ؟ فَكَيْفَ يُضَاعُ الْمَقْصُودُ وَيُعْدَلُ عَنْهُ فِي عَقْدٍ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ لَفْظٍ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ إبْدَالِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بِغَيْرِهِ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ؟ هَذَا مِمَّا تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَأَصْحَابُ الْحِيَلِ تَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَا احْتَالُوا عَلَيْهِ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ مُسَاوٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَهَا فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَفْسَدَةِ وَالْفَارِقُ أَمْرٌ صُورِيٌّ أَوْ لَفْظِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ وَلَا شَيْءَ مَعَهَا وَبَيْنَ أَنْ يَضُمَّ إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ خِرْقَةً تُسَاوِي فَلْسًا أَوْ عُودَ حَطَبٍ أَوْ أُذُنَ شَاةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ فَسُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْجَبَ حَالَ هَذِهِ الضَّمِيمَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ، كَيْفَ جَاءَتْ إلَى الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَرْبِ مَنْ تَوَسَّلَ إلَيْهَا بِعَقْدِ الرِّبَا فَأَزَالَتْهَا وَمَحَتْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ قَلَبَتْهَا مَصْلَحَةً، وَجَعَلَتْ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سِلْمًا وَرِضًا؟ وَكَيْفَ جَاءَ مُحَلِّلُ الرِّبَا الْمُسْتَعَارُ الَّذِي هُوَ أَخُو مُحَلِّلِ النِّكَاحِ إلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فَكَشَطَهَا كَشْطَ الْجِلْدِ عَنْ اللَّحْمِ بَلْ قَلَبَهَا مَصَالِحَ بِإِدْخَالِ سِلْعَةٍ بَيْنَ الْمُرَابِيَيْنِ تَعَاقَدَا عَلَيْهَا صُورَةً ثُمَّ أُعِيدَتْ إلَى مَالِكِهَا؟ وَلِلَّهِ مَا أَفْقَهَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الدِّينِ وَأَعْلَمهُ بِالْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، حَيْثُ سُئِلَ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا جَرِيرَةٌ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ اهْتَدَتْ هَذِهِ الْجَرِيرَةُ لِقَلْبِ مَفْسَدَةِ الرِّبَا مَصْلَحَةً وَلَعْنَةَ آكِلِهِ رَحْمَةً وَتَحْرِيمَهُ إذْنًا وَإِبَاحَةً؟ ثُمَّ أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ فِي إبَاحَةِ الْعِينَةِ الَّتِي لَا غَرَضَ لِلْمُرَابِيَيْنِ فِي السِّلْعَةِ قَطُّ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُمَا وَالْحَاضِرُونَ مِنْ أَخْذِ مِائَةٍ حَالَّةً وَبَذْلِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مُؤَجَّلَةً، لَيْسَ لَهُمَا غَرَضٌ وَرَاءَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ: إذَا أَرَدْتُمْ حِلَّ هَذَا فَتَحَيَّلُوا عَلَيْهِ بِإِحْضَارِ سِلْعَةٍ يَشْتَرِيهَا آكِلُ الرِّبَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَبِيعُهَا لِلْمُرَابِي بِنَقْدٍ حَاضِرٍ فَيَنْصَرِفَانِ عَلَى مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَالسِّلْعَةُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا عُدُولٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْقَصْدِ وَالْمَفْسَدَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ بَلْ مَفْسَدَةُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الرِّبَا الْخَالِي عَنْ الْحِيلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ الْعَادِلِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا، وَلِهَذَا عَاقَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَنْ احْتَالَ عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ بِمَا لَمْ يُعَاقِبْ بِهِ مَنْ ارْتَكَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ عَاصِيًا، فَهَذَا مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ الَّتِي يُتَابُ مِنْهَا، وَذَاكَ مِنْ جِنْسِ الْبِدَعِ الَّتِي يَظُنُّ صَاحِبُهَا أَنَّهُ مِنْ الْمُحْسِنِينَ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ تَنَاقُضِ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ مَعًا فِي الطَّلَاقِ فَقُلْتُمْ: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِيقَاعِهِ، وَلَوْ وَكَّلَهُمَا مَعًا فِي الْخُلْعِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، وَفُرْقَتُهُمْ بَيْنَ [الْأَمْرَيْنِ] بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّ الْخَلْع كَالْبَيْعِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الِانْفِرَادُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّأْيِ وَلَمْ يَرْضَ بِانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ قَوْلِهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ احْتِيَاجَ الطَّلَاقِ وَمُفَارَقَةَ الزَّوْجَةِ إلَى الرَّأْيِ وَالْخِبْرَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ مِثْلُ احْتِيَاجِ الْخُلْعِ أَوْ أَعْظَمُ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِبَعْثِ الْحُكْمَيْنِ مَعًا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالطَّلَاقِ، مَعَ أَنَّهُمَا وَكِيلَانِ عِنْدَ الْقِيَاسِيِّينَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا حُكْمَيْنِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادَ، فَمَا بَالُ وَكِيلَيْ الزَّوْجِ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَمُوجَبِ النَّصِّ؟ وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " طَلِّقِي نَفْسَكِ " ثُمَّ نَهَاهَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ نَهَاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ طَلَّقَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ: فَخَرَجْتُمْ عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَهَا تَمْلِيكٌ وَقَوْلَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ تَوْكِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذَا الْفَرْقِ قَرِيبًا. وَقُلْتُمْ: لَوْ وَصَّى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَإِنْ أَجَازَ سَيِّدُهُ، وَلَوْ وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ رَدَّهَا السَّيِّدُ وَلَكِنْ تُكْرَهُ بِدُونِ إذْنِهِ، وَقُلْتُمْ: إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْ الْمَيِّتِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ الْمَيِّتِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَارِثِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْمُوصِي، وَتَصَرَّفَ الْوَصِيُّ بِحَقِّ الْوَكَالَةِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا خَالَفَ الْمُوصِي، وَهَذَا فَرْقٌ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْعِتْقِ فِي هَذَا الْعَبْدِ قَطَعَ مِلْكَ الْوَارِثِ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى إلَى أَجْنَبِيٍّ بِعِتْقِهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ التَّرِكَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ " وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ وَلَوْ قَالَ: " بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ " وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَلِلْحَيِّ نِصْفُهُ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَقَصْدًا، وَاقْتِضَاءُ الْوَاوِ لِلتَّشْرِيكِ كَاقْتِضَاءِ " بَيْنَ " وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْإِقْرَارِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ لَوْ كَانَا حَيَّيْنِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا فَالْوَصِيَّةُ لَازِمَةٌ فِي ثُلُثِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ غَنَمِهِ وَلَا غَنَمَ لَهُ ثُمَّ اكْتَسَبَ غَنَمًا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، فَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ تَفْرِيقًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَلَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ [فَصْلٌ مَثَلٌ مِمَّا جَمَعَ فِيهِ الْقِيَاسِيُّونَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ] وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَعْضَاءِ النَّجِسَةِ، فَنَجَّسْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي يُلَاقِي هَذِهِ وَهَذِهِ عِنْدَ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فَقُلْتُمْ: يَصِحُّ أَحَدُهُمَا بِلَا نِيَّةٍ دُونَ الْآخَرِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الشُّعُورِ وَالْأَعْضَاءِ فَنَجَّسْتُمْ كِلَيْهِمَا بِالْمَوْتِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَنَجَّسْتُمْ مِنْهَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ دُونَ سَائِرِهَا، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَهُوَ النَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاكِرُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِثْمِ فَجَمَعْتُمْ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَمَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا. وَكَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، وَكَمَنْ تَطَيَّبَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ أَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فَأَوْجَبْتُمْ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ جَاهِلًا بِبَقَاءِ النَّهَارِ دُونَ النَّاسِي، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ عُقُودِ الْإِجَارَاتِ كَاسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ لِطَحْنِ الْحَبِّ بِنِصْفِ كُرٍّ مِنْ دَقِيقٍ وَاسْتِئْجَارِهِ لِطَحْنِهِ بِنِصْفِ كُرٍّ مِنْهُ فَصَحَّحْتُمْ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِيَ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْعِوَضِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ بِهِ لَيْسَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِي الْعَمَلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهَذَا فَرْقٌ صُورِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ مَفْسَدَةٌ قَطُّ، لَا جَهَالَةَ وَلَا رِبَا وَلَا غَرَرَ وَلَا تَنَازُعَ وَلَا هِيَ مِمَّا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ، وَأَيُّ غَرَرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ أَوْ مَضَرَّةٍ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ غَزْلَهُ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا بِرُبُعِهِ وَزَيْتُونَهُ يَعْصِرُهُ زَيْتًا بِرُبُعِهِ وَحَبَّهُ يَطْحَنُهُ بِرُبُعِهِ؟ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمْلِكُ عِوَضًا يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْأَجِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَمَلِ، وَقَدْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ. وَلَمْ يَأْتِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ نَصٌّ يَمْنَعُهُ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا مُرْسَلَةٌ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَقُلْتُمْ: لَوْ اشْتَرَى عِنَبًا لِيَعْصِرَهُ خَمْرًا أَوْ سِلَاحًا لِيَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِيَقْتُلَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِهِ أَوْ اشْتَرَى عِنَبًا لِيَأْكُلَهُ، كِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَتَّخِذَهَا كَنِيسَةً يُعْبَدَ فِيهَا الصَّلِيبُ وَالنَّارُ جَازَ لَهُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَسْكُنَهَا، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَتَّخِذَهَا مَسْجِدًا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ اسْتِئْجَارِهِ بِطَعَامٍ مُسَمًّى وَثِيَابٍ مُعَيَّنَةٍ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُؤَجِّرُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ فِي السَّفَرِ وَالْغَزْوِ بِطَعَامِ بَطْنِهِ وَمَرْكُوبِهِ، وَهُمْ أَفْقَهُ الْأُمَّةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ عَقْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِيهِمَا بِالتَّرَاضِي، وَعَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - تَرَاضِيَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَالْحَاضِرُونَ. فَقُلْتُمْ: هَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا الْحِلَّ حَتَّى صَرَّحَا بِلَفْظِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، وَلَا يَكْفِيهِمَا أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا رَاضٍ بِهَذَا كُلَّ الرِّضَا، وَلَا قَدْ رَضِيتُ بِهَذَا عِوَضًا عَنْ هَذَا، مَعَ كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ أَدَلَّ عَلَى الرِّضَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرْطًا لِلْحِلِّ مِنْ لَفْظِهِ بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، فَإِنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِيهِ، وَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا كَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا، بَلْ هَذِهِ الْعُقُودُ تَقَعُ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْنَا الشَّارِعُ فِيهَا بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَبَيْنَ كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهَا. وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُقُوعِ النِّكَاحِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلِمَةً عَرَبِيَّةً، وَالْعَجَبُ أَنَّكُمْ اشْتَرَطْتُمْ تَلَفُّظَهُ بِلَفْظٍ لَا يَدْرِي مَا مَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ صَوْتٍ فِي الْهَوَاءِ فَارِغٍ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، فَعَقَدْتُمْ الْعَقْدَ بِهِ، وَأَبْطَلْتُمُوهُ بِتَلَفُّظِهِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَيَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَعْنَاهُ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ، وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ إلَّا ضِدَّ هَذَا، فَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ. وَبِإِزَاءِ هَذَا الْقِيَاسِ مَنْ يُجَوِّزُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَيُجَوِّزُ انْعِقَادَ الصَّلَاةِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ كَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَجَلَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْعَظِيمُ، وَنَحْوِهِ - عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ فَارِسِيًّا وَيُجَوِّزُ إبْدَالَ لَفْظِ التَّشَهُّدِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ جِنَايَاتِ الْآرَاءِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ أَلْفَاظِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَقَاصِدَهَا وَالْمُرَادُ مِنْهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، إذْ لَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَنَا التَّعَبُّدَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَتَعَدَّاهَا. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ إيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ وَجَعَلْتُمُوهَا كَالزَّوْجَةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ مِنْ مُلَازَمَةِ الرَّجْعِيَّةِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَنْزِلَهُمَا حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَحَيْثُ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَوْلِ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ الرَّضِيعَيْنِ فَقُلْتُمْ: يُغْسَلَانِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَكَثِيرِهِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَأَوْجَبْتُمْ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا فِي الْمَعْنَى وَلَا فِي النَّقْلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ إلَّا مُرَتِّبًا وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ كَمَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا مُرَتِّبًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَنْكُوسَةَ لَيْسَتْ كَالْمُسْتَقِيمَةِ، وَيَكْفِي هَذَا الْوُضُوءَ اسْمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ وُضُوءٌ مُنَكَّسٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِبَادَةً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَرَفْعِ الْحَدَثِ فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَاشْتَرَطْتُمْ النِّيَّةَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ الْمَاءَ يُطَهِّرُ بِطَبْعِهِ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا إلَّا بِالنِّيَّةِ فَرْقٌ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ مُزِيلٌ لَهَا بِطَبْعِهِ. وَأَمَّا رَفْعُ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ رَافِعًا لَهُ بِطَبْعِهِ، إذْ الْحَدَثُ لَيْسَ جِسْمًا مَحْسُوسًا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُهُ بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا لَمْ تُقَارِنْهُ النِّيَّةُ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ بَدَنِ أَطْيَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ وَلِيُّ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ وَبَيْنَ بَدَنِ أَخْبَثِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ عَدُوّهُ الْكَافِرُ، فَنَجَّسْتُمْ كِلَيْهِمَا بِالْمَوْتِ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ غُسِّلَ الْمُسْلِمُ ثُمَّ وَقَعَ فِي مَاءٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَلَوْ غُسِّلَ الْكَافِرُ ثُمَّ وَقَعَ فِي مَاءٍ نَجَّسَهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فِي الْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا غُسِّلَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ فَطَهُرَ بِالْغُسْلِ لِاسْتِحَالَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَجِسٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَنْقُضُ مَا أَصَّلْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ بِالْمَوْتِ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ فَلَا تَزُولُ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا قَائِمٌ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَزَوَالُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ سَبَبِهِ مُمْتَنِعٌ، فَأَيُّ الْقِيَاسَيْنِ هُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: لَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْ الْعَصْرِ رَكْعَةً صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّهُ فِي الصُّبْحِ خَرَجَ مِنْ وَقْتٍ كَامِلٍ إلَى غَيْرِ وَقْتٍ كَامِلٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَفِي الْعَصْرِ خَرَجَ مِنْ وَقْتٍ كَامِلٍ إلَى وَقْتٍ كَامِلٍ وَهُوَ وَقْتُ صَلَاةٍ فَافْتَرَقَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْقِيَاسِ إلَّا مُخَالَفَتُهُ لِصَرِيحِ السُّنَّةِ لَكَفَى فِي بُطْلَانِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ؟ ، فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَ وَقْتَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، فَهُوَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَنْفَعُ كَمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَكِنَّهُ خَرَجَ إلَى وَقْتِ نَهْيٍ فِي الصُّبْحِ وَهُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى وَقْتِ نَهْيٍ فِي الْمَغْرِبِ. قِيلَ: هَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ نَهْيٍ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا بَلْ هُوَ وَقْتُ أَمْرٍ بِإِتْمَامِهَا بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ حَيْثُ يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَإِنْ كَانَ وَقْتَ نَهْيٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّطَوُّعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمِيزَانَ الصَّحِيحَ مَعَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: الْمُخْتَلِعَةُ الْبَائِنَةُ الَّتِي قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا يَلْحَقُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الطَّلَاقُ، فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ جَعَلَ هَذِهِ مُفْتَدِيَةً لِنَفْسِهَا مَالِكَةً لَهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ وَتِلْكَ زَوْجُهَا أَحَقُّ بِهَا، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَأَوْقَعْتُمْ عَلَيْهَا مُرْسَلَ الطَّلَاقِ دُونَ مُعَلَّقِهِ وَصَرِيحَهُ دُونَ كِنَايَتِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ مَلَّكَهُ اللَّهُ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ مَلَّكَهُ الْآخَرَ، وَمَنْ لَمْ يُمَلِّكْهُ هَذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ هَذَا. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَمَنَعْتُمْ مِنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَنْظُرُ، وَقِيلَ لَهُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقِسْتُمُوهُ عَلَى الْأَحْنَاشِ وَالْفِئْرَانِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ لُحُومِ الْخَيْلِ الَّتِي أَكَلَهَا الصَّحَابَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَجَمَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا فِي الْحِلِّ، وَفَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ الضَّبِّ وَالْحَنَشِ فِي التَّحْرِيمِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا حَيْثُ قَالَ: «تَوَضَّؤُا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» فَقُلْتُمْ لَا نَتَوَضَّأُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ فِي الْقَيْءِ: إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَهُوَ حَدَثٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ يَكُونُ كَثِيرُهُ حَدَثًا دُونَ قَلِيلَةِ، وَأَمَّا النَّوْمُ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَظِنَّتُهُ، فَاعْتَبَرُوا مَا يَكُونُ مَظِنَّةً وَهُوَ الْكَثِيرُ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ فِي قِرَاءَتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فَتْحَهُ قِرَاءَةٌ مِنْهُ، وَالْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ قُلْتُمْ: فَلَوْ فَتَحَ عَلَى قَارِئٍ غَيْرِ إمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَتْحَهُ عَلَيْهِ مُخَاطَبَةٌ لَهُ فَأَبْطَلَتْ الصَّلَاةَ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ إنْ كَانَ مُخَاطَبَةً فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُخَاطَبَةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَيْسَ بِمُخَاطَبَةٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةً فَقُلْتُمْ: لَمَّا نَوَى الْفَتْحَ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا إلَى كَوْنِهِ مُخَاطِبًا بِالنِّيَّةِ، وَلَوْ نَوَى الرِّبَا الصَّرِيحَ وَالتَّحْلِيلَ الصَّرِيحَ وَإِسْقَاطَ الزَّكَاةِ بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي اتَّخَذَهُ حِيلَةً لَمْ يَكُنْ مُرَابِيًا وَلَا مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ وَلَا مُحَلِّلًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ أَثَّرَتْ نِيَّةُ الْفَتْحِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى الْقَارِئِ وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا إلَى كَوْنِهِ مُخَاطِبًا وَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ مَعَ إسَاءَتِهِ بِهِمَا وَقَصْدِهِ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَتَجْعَلُهُ مُرَابِيًا مُحَلِّلًا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا وَتَفْرِيقٌ بَيْنً مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا؟ وَقُلْتُمْ: لَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ، وَلَوْ اقْتَدَى الْمُقِيمُ بِالْمُسَافِرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى عَكْسِهِ لَكَانَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِكُمْ سَوَاءٌ، وَلَأَمْكَنَهُ تَعْلِيلُهُ بِنَحْوِ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ. وَوَجَّهْتُمْ الْفَرْقَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ أَنْ يَنْتَقِلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، وَبِخُرُوجِ الْوَقْتِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارًا لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ فَبَقِيَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ اقْتِدَاءَهُ بِالْمُقِيمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ مَنْ فَرْضُهُ رَكْعَتَانِ بِمَنْ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، كَمُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا اقْتَدَى بِمُصَلِّي الظُّهْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنْ يَنْتَقِلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ لَمْ يَنْتَقِلْ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ انْتَقَلَ فَرْضُهُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ. ثُمَّ نَاقَضْتُمْ وَقُلْتُمْ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا وَخَلْفُهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُقِيمًا فَإِنَّ فَرْضَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى فَرْضِ إمَامِهِ وَهُوَ فَرْضُ الْمُقِيمِينَ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الْأَصْلِ مَدْخُولٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ سَوَاءٌ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ وَالْوَضْعِ وَالْوُجُوبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتَا فِي كَوْنِ الْإِمَامِ مُصَلِّيًا، فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ أَرْبَعًا وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْوَقْتِ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ هُوَ بِعَيْنِهِ فَرَضَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ نَاسِيًا، فَإِنَّ وَقْتَ الْيَقَظَةِ وَالذِّكْرَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ، وَعُذْرُ السَّفَرِ قَائِمٌ، وَارْتِبَاطُ صَلَاتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ حَاصِلٌ، فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ الْجَامِعِ وَقِيَامِ الْحِكْمَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْقَصْرِ وَالْمُرَجِّحَةِ لِمَصْلَحَةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ؟ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا - وَهُوَ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، فَجَعَلْتُمْ أَقَلَّ الْحَيْضِ مَحْدُودًا إمَّا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ بِيَوْمٍ، وَلَمْ تَجِدُوا أَقَلَّ النِّفَاسِ، وَكِلَاهُمَا دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ يَمْنَعُ أَشْيَاءَ وَيُوجِبُ أَشْيَاءَ، وَلَيْسَا اسْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ لَمْ يُعْرَفَا إلَّا بِالشَّرِيعَةِ، بَلْ هُمَا اسْمَانِ لُغَوِيَّانِ، رَدَّ الشَّارِعُ أُمَّتَهُ فِيهِمَا إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النِّسَاءُ حَيْضًا وَنِفَاسًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَقَدْ ذَكَرْتُمْ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي النِّفَاسِ، فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ؟ وَلَمْ يَأْتِ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ تَحْدِيدُ أَقَلِّ الْحَيْضِ بِحَدٍّ أَبَدًا، وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يَقْتَضِيهِ. وَالْعَجَبُ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ حَيْثُ لَمْ يَحُدَّهُ الشَّارِعُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: حَدُّ أَقَلِّهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الثَّلَاثِ فَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى حَدِيثٍ تَوَهَّمُوهُ صَحِيحًا وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَهُمْ أَعْذَرُ مِنْ وَجْهٍ، قَالَ الْمُفَرِّقُونَ: بَلْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ لِلْقِيَاسِ عَلَمًا ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ وَهُوَ تَقَدُّمُ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، لِوُجُودِ عَلَمِهِ الدَّالِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعَ الْحَيْضِ عَلَمٌ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الرَّحِمِ، فَإِذَا امْتَدَّ زَمَنُهُ صَارَ امْتِدَادُهُ عَلَمًا وَدَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ حَيْضٌ مُعْتَادٌ، وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَيْضٌ فَصَارَ كَدَمِ الرُّعَافِ. ثُمَّ نَاقَضُوا فِي هَذَا الْفَرْقِ نَفْسَهُ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ، فَقَالَ أَصْحَابُ الثَّلَاثِ: لَوْ امْتَدَّ يَوْمَيْنِ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا حَتَّى يَمْتَدَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الْيَوْمِ: لَوْ امْتَدَّ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الْعَصْرِ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ حَيْضًا حَتَّى يَمْتَدَّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَرَجُوا بِالْقِيَاسِ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ. وَقُلْتُمْ: إذَا صَلَّى جَالِسًا ثُمَّ تَشَهَّدَ فِي حَالِ الْقِيَامِ سَهْوًا فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَرَأَ فِي حَالِ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ، وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقُلْتُمْ: إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَانْصَرَفَ لِيَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ لَهُ الْمُضِيُّ عَلَى صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ، ثُمَّ قُلْتُمْ: لَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَضِّئًا فَانْصَرَفَ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَوْ طَاهِرَ الثَّوْبِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى صَلَاتِهِ، فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَتَرَكْتُمْ مَحْضَ الْقِيَاسِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا ظَنَّ سَبْقَ الْحَدَثِ فَقَدْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ انْصِرَافَ اسْتِئْنَافٍ لَا انْصِرَافَ رَفْضٍ، فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا ظَنَّهُ جَازَ لَهُ الْمُضِيُّ، فَلَمْ يَصِرْ قَاصِدًا لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ الْبِنَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ انْصِرَافَ رَفْضٍ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ الرَّفْضَ لَمْ تَصِرْ الصَّلَاةُ مَرْفُوضَةً كَمَا لَوْ سَلَّمَ سَاهِيًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ أَنَّ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْهَا انْصِرَافَ رَفْضٍ وَنَوَى الرَّفْضَ مُقَارِنًا لِانْصِرَافِهِ، فَبَطَلَتْ كَمَا لَوْ سَلَّمَ عَامِدًا، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ مُجْدٍ شَيْئًا، بَلْ هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ انْصَرَفَ انْصِرَافًا مَأْذُونًا فِيهِ أَوْ مَأْمُورًا بِهِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، بَلْ هَذَا الْفَرْقُ حَقِيقٌ بِاقْتِضَائِهِ ضِدَّ مَا ذَكَرْتُمْ، فَإِنَّهُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَانْصِرَافُهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ بِتَرْكِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فَإِنَّ انْصِرَافَهُ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ هَذَا الِانْصِرَافِ وَتَبْطُلُ بِالِانْصِرَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ ثُمَّ إنَّهُ أَيْضًا فِي انْصِرَافِهِ [حِينَ] ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ يَنْصَرِفُ انْصِرَافَ تَرْكٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهَا، فَتَرَكَهَا تَرْكَ مَنْ قَدْ أَكْمَلَهَا، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَإِنَّمَا تَرَكَهَا تَرْكَ قَاصِدٍ لِتَكْمِلَتِهَا، فَهِيَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " وَقَالَ آخَرُ: " وَأَنَا لِلَّهِ عَلَيَّ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ " لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ بِسَبَبَيْنِ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُؤَدَّى فَرْضٌ خَلْفَ فَرْضٍ آخَرَ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ الْآخَرُ: " وَأَنَا لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَوْجَبْتَ عَلَى نَفْسِكَ " جَازَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الْآخَرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَصَارَتَا كَالظُّهْرِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا لَيْسَ يُجْدِي شَيْئًا، فَإِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفٌ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا هُوَ عَيْنُ الْوَاجِبِ عَلَى الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ بِأَدَاءِ الْآخَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ نَظِيرَ مَا وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ بِنَذْرِهِ، فَالسَّبَبُ مُمَاثِلٌ، وَالْوَاجِبُ مُمَاثِلٌ، وَالتَّعَدُّدُ فِي الْجَانِبَيْنِ سَوَاءٌ، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، وَخُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ النَّصُّ وَالْمِيزَانُ بَيْنَهُمَا، فَقُلْتُمْ: إذَا ظَفِرَ بِرِكَازٍ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْخُمُسُ، ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى أَوْلَادِهِ وَإِلَى نَفْسِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُشْرُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى وَلَدِهِ وَلَا إلَى نَفْسِهِ، وَكِلَاهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرِّكَازُ مَالًا مَجْمُوعًا لَمْ يَكُنْ نَمَاؤُهُ وَكَمَالُهُ بِفِعْلِهِ فَالْمُؤْنَةُ فِيهِ أَيْسَرُ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَلَمَّا كَانَ الزَّرْعُ فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْعَمَلِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الرِّكَازِ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ نِصْفَهُ وَهُوَ الْعُشْرُ، فَإِنْ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ بِالسَّقْيِ بِالْكُلْفَةِ حُطَّ الْوَاجِبُ إلَى نِصْفِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ، فَإِنْ اشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ فِي الْمَالِ غَيْرُهُ بِالتِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كُلَّ وَقْتٍ وَحِفْظُهُ وَكِرَاءُ مَخْزَنِهِ وَنَقْلُهُ خُفِّفَ إلَى شَطْرِهِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ فِي اعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْوَاجِبِ وَقِلَّتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ الْأَكْثَرَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مُؤْنَةً وَتَعَبًا وَكُلْفَةً لِأَوْلَادِهِ وَيَمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ أَضْعَفَهُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ فِي الزَّكَاةِ وَمَخْرَجُ الْجَمِيعِ وَإِيجَابُهُ وَاحِدٌ نَصًّا وَاعْتِبَارًا؟ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» . وَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْدَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ مَالًا فَغَابَ عَنْهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ارْتِجَاعِهِ مِنْهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَفَنَهُ بِمَغَارَةٍ فَنَسِيَهُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ أَوْدَعَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَنَسِيَهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ تِلْكَ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا، وَالْمَالُ خَارِجٌ عَنْ قَبْضَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ارْتِجَاعِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَغَارَةِ أَنَّهُ لَوْ دَفَنَهُ خَفِيَ مَوْضِعٌ مِنْهَا ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إذَا عَرَفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَغَارَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَبَيْنَ الْمُودَعِ بِوَجْهٍ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقُلْتُمْ: لَوْ دَفَنَهُ فِي دَارِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهُ سِنِينَ ثُمَّ عَرَفَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى. وَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ فَأَخْرَجَ ثِنْتَيْنِ سَمِينَتَيْنِ تُسَاوِي الْأَرْبَعَ جَازَ، فَطَرْدُ قِيَاسِكُمْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَقْفِزَةِ بُرٍّ فَأَخْرَجَ خَمْسَةً مِنْ بُرٍّ مُرْتَفِعٍ يُسَاوِي قِيمَةَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ جَازَ، وَطَرْدُهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ فَأَخْرَجَ بَعِيرًا يُسَاوِي قِيمَةَ الْخَمْسَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَاعٌ فِي الْفِطْرَةِ فَأَخْرَجَ رُبُعَ صَاعٍ يُسَاوِي الصَّاعَ الَّذِي لَوْ أَخْرَجَهُ لَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ طَرَدْتُمْ هَذَا الْقِيَاسَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُدُولِ عَنْهَا، وَلَزِمَكُمْ طَرْدُهُ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَ عُشْرَ رَقَبَةٍ تُسَاوِي قِيمَةَ رَقَبَةٍ غَيْرِهَا جَازَ، وَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمِائَةِ شَاةٍ فَتَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ تَسَاوِي قِيمَةَ الْمِائَةِ جَازَ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَقُلْتُمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّتَانِ فَذَبَحَ وَاحِدًا سَمِينًا يُسَاوِي وَسَطَيْنِ لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بِأَنْ قُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ فِي الْأُضْحِيَّةَ الذَّبْحُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا تَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ فِي الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْأَجْوَدِ الْأَقَلِّ كَمَا يَحْصُلُ بِالْأَكْثَرِ إذَا كَانَ دُونَهُ، وَهَذَا فَرْقٌ إنْ صَحَّ لَكُمْ فِي الْأُضْحِيَّةَ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الصُّوَرِ، فَكَيْفَ وَلَا يَصِحُّ فِي الْأُضْحِيَّةَ؟ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الزَّكَاةِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، وَمِنْهَا إقَامَةُ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ بِفِعْلِ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ. وَمِنْهَا شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ. وَمِنْهَا إحْرَازُ الْمَالِ وَحِفْظُهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْهُ. وَمِنْهَا الْمُوَاسَاةُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ رَبِّ الْمَالِ وَمَصْلَحَةِ الْآخِذِ. وَمِنْهَا التَّعَبُّدُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يُنْقِصَ مِنْهَا وَلَا يُغَيِّرَ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ إنْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْ مَقْصُودِ إرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْأُضْحِيَّةَ فَلَيْسَتْ بِدُونِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إلْغَاؤُهَا وَاعْتِبَارُ مُجَرَّدِ إرَاقَةِ الدَّمِ؟ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْفَرْقَ يَنْعَكِسُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِأَجَلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ وَأَعْلَاهُ وَأَغْلَاهُ ثَمَنًا وَأَنْفَسُهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَنَالَهُ - سُبْحَانَهُ - لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُهُ تَقْوَى الْعَبْدِ مِنْهُ، وَمَحَبَّتُهُ لَهُ، وَإِيثَارُهُ بِالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِأَحَبِّ شَيْءٍ إلَى الْعَبْدِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ وَأَنْفَسَهُ لَدَيْهِ، كَمَا يَتَقَرَّبُ الْمُحِبُّ إلَى مَحْبُوبِهِ بِأَنْفَسِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَفْضَلِهِ عِنْدَهُ. وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إلَى مَحْبُوبِهِ بِأَفْضَلِ هَدِيَّةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَأَجَلِّهَا وَأَعْلَاهَا كَانَ أَحْظَى لَدَيْهِ، وَأَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِأَلْفِ وَاحِدٍ رَدِيءٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ. وَقَدْ نَبَّهَ - سُبْحَانَهُ - عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَقَالَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَنَذَرَ عُمَرُ أَنْ يَنْحَرَ نَجِيبَةً فَأُعْطِيَ بِهَا نَجِيبَتَيْنِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَهُمَا بِهَا وَيَنْحَرَهُمَا، فَقَالَ: «لَا، بَلْ انْحَرْهَا إيَّاهَا» فَاعْتُبِرَ فِي الْأُضْحِيَّةَ عَيْنُ الْمَنْذُورِ دُونَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ نَفْسُ الْوَاجِبِ دُونَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَطَرْدُ قِيَاسِكُمْ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ جِيَادٍ فَأَخْرَجَ عَشَرَةً مِنْ أَرْدَأِ الشِّيَاهِ وَأَهْزَلِهَا وَقِيمَتُهُنَّ قِيمَةُ الْأَرْبَعِ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ جِيَادٍ فَأَخْرَجَ عِشْرِينَ ابْنَ لَبُونٍ مِنْ أَرْدَأِ الْإِبِلِ وَأَهْزَلِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ مَنَعْتُمْ ذَلِكَ نَقَضْتُمْ الْقِيَاسَ، وَإِنْ طَرَدْتُمُوهُ تَيَمَّمْتُمْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ، وَسَلَّطْتُمْ رَبَّ الْمَالِ عَلَى إخْرَاجِ رَدِيئِهِ وَمَعَايِبِهِ عَنْ جَيِّدِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّقْوِيمِ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ مَا فِيهِ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُ وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ بَيْنَهُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقُلْتُمْ: يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ مُعَيَّنًا بِالشَّرْعِ أَجْزَأَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، بِخِلَافِ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَبَنَيْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ " فَصَامَهُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَوْ قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا " فَصَامَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ، وَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُ مِنْ صَوْمِ الْفَرْضِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَهَذَا فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِئُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَسَوَّيْتُمْ بَيْنَهُمَا فِي إجْزَائِهِمَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ وَقَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَبَعْضٍ فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ وَقَدْ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا. وَالْفَرْقُ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَمْ يَصِرْ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَمْسَكَ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، فَإِذَا لَمْ تُقَارِنْ النِّيَّةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ فَقَدْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً، فَلَمْ يُؤَدِّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَعْيِينُهُ لَا يَزِيدُ وُجُوبَهُ إلَّا تَأْكِيدًا وَاقْتِضَاءً، فَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْمُعَيَّنَ أَوْلَى بِوُجُوبِ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَكَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، فَلَا يَصِحُّ الْفَرْضُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَالنَّفَلُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْفَرْضِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفَلَ قَاعِدًا وَرَاكِبًا عَلَى دَابَّتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا. وَفِي ذَلِكَ تَكْثِيرُ النَّفْلِ وَتَيْسِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الدُّخُولِ فِيهِ، وَالرَّجُلُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَعَدَمِهِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَإِتْمَامِهِ خُيِّرَ بَيْنَ التَّبْيِيتِ وَالنِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ السُّنَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِمَاعِ الصَّائِمِ وَالْمُعْتَكِفِ فَقُلْتُمْ: لَوْ جَامَعَ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلَوْ جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ نَاسِيًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَلَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَيْلًا. وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ فَلَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ فَحَرُمَ فِيهِ الْجِمَاعُ، فَنَهَارُ الصَّائِمِ كَلَيْلِ الْمُعْتَكِفِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالْجِمَاعُ مَحْظُورٌ فِي الْوَقْتَيْنِ، وَوِزَانُ لَيْلِ الصَّائِمِ الْيَوْمُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ مِنْ اعْتِكَافِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقُلْتُمْ: لَوْ دَخَلَ عَرَفَةَ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ أَوْ حَاجَةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْوُقُوفَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوُقُوفِ، وَلَوْ دَارَ حَوْلَ الْبَيْتِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ سَقَطَ مِنْهُ وَلَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ. وَفَرَّقْتُمْ تَفْرِيقًا فَاسِدًا فَقُلْتُمْ: الْمَقْصُودُ الْحُضُورُ بِعَرَفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ حَصَلَ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْعِبَادَةُ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيُقَالُ: وَالْمَقْصُودُ بِعَرَفَةَ الْعِبَادَةُ أَيْضًا، فَكِلَاهُمَا رُكْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُكَلَّفُ امْتِثَالَ الْأَمْرِ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَمَا الَّذِي صَحَّحَ هَذَا وَأَبْطَلَ هَذَا؟ ، وَلَمَّا تَنَبَّهَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ لِفَسَادِ هَذَا الْفَرْقِ عَدَلَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَقَالَ: الْوُقُوفُ رُكْنٌ يَقَعُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَامِ، فَنِيَّةُ الْحَجِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ، كَأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَيَقَعُ خَارِجَ الْعِبَادَةِ فَلَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْإِحْرَامِ فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ لِأَصْحَابِ هَذَا الْفَرْقِ: رُدُّونَا إلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ فَسَادًا وَتَنَاقُضًا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ الطَّوَافَ وَالْوُقُوفَ كِلَاهُمَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ تَضَمَّنَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ لِهَذَا الرُّكْنِ دُونَ هَذَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ طَوَافَ الْمُعْتَمِرِ يَقَعُ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَيْضًا فَطَوَافُ الزِّيَارَةِ يَقَعُ فِي بَقِيَّةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَهُ تَحَلُّلًا أَوَّلَ نَاقِصًا، وَالتَّحَلُّلُ الْكَامِلُ مَوْقُوفٌ عَلَى الطَّوَافِ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ وَالْقِيَاس بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: إذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَجَدَّدَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَجَدَّدَ إحْرَامَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الْقِيَاسُ، فَإِنَّ إحْرَامَهُمَا قَبْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ صَحِيحٌ وَهُوَ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، وَقَدْ صَارَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَأَجْزَأَهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إحْرَامٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا وُجِدَ مِنْهُمَا مِنْ الْإِحْرَامِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَوُجُودُ الْإِحْرَامِ السَّابِقِ عَلَى الْعِتْقِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا بِحَيْثُ يَكُونُ عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ وُجُودِهِ، وَتَفْرِيقُكُمْ بِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ إحْرَامُ تَخَلُّقٍ وَعَادَةٍ وَبِالْبُلُوغِ انْعَدَمَ ذَلِكَ فَصَحَّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِحْرَامُهُ إحْرَامُ عِبَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَصَحَّ إحْرَامُهُ مُوجَبًا فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمُوجَبِهِ فَرْقٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ مُثَابٌ عَلَى إحْرَامِهِ بِالنَّصِّ، وَإِحْرَامُهُ إحْرَامُ عِبَادَةٍ - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ - كَإِحْرَامِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ بَيْنَهُ فَقُلْتُمْ: لَوْ قَالَ: " أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً " فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّفَقَةَ وَيَأْكُلَ بِهَا وَيَشْرَبَ وَلَا يَحُجَّ، وَلَوْ قَالَ: " أَحِجُّوهُ عَنِّي " لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّفَقَةَ إلَّا بِشَرْطِ الْحَجِّ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الْإِيصَاءِ بِالنَّفَقَةِ لَهُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ، وَلَا حَقَّ لِلْمُوصِي فِي الْحَجِّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ، فَصَحَّحْنَا الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ، وَلَمْ نُلْزِمْ الْمُوصَى بِمَا لَا حَقَّ لِلْمُوصِي فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَعُودَ نَفْعُهُ إلَيْهِ بِثَوَابِ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لَمْ تَنْفُذْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا الْفَرْقُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُبْطِلُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ بِتَعَيُّنِ الْحَجِّ قَطَعَ مَا تَوَهَّمْتُمُوهُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إعَانَتَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ لِيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي الثَّوَابِ، ذَاكَ بِالْبَدَنِ وَهَذَا بِالْمَالِ، وَلِهَذَا عَيَّنَ الْحَجَّ مَصْرِفًا لِلْوَصِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ ذَلِكَ وَتَمْكِينُهُ مِنْ الْمَالِ يَصْرِفُهُ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ، هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: " أَعْطُوا فُلَانًا أَلْفًا لِيَبْنِيَ بِهَا مَسْجِدًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ قَنْطَرَةً " لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ وَلَا يَفْعَلَ مَا أُوصِيَ بِهِ، كَذَلِكَ الْحَجُّ سَوَاءٌ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ مَحْضُ الْقِيَاسِ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: " أَنْتَ حُرٌّ أَمْسِ " عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ " لَمْ تَطْلُقْ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا كَانَ حُرًّا أَمْسِ اقْتَضَى تَحْرِيمَ شِرَائِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ الْيَوْمَ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَكَوْنُهَا مُطَلَّقَةً أَمْسِ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ نِكَاحِهَا الْيَوْمَ، وَهَذَا فَرْقٌ صُورِيٌّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إنْ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِهِ وَقَعَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَإِنْ امْتَنَعَ تَقَدُّمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى سَبَبِهِ لَمْ يَقَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَمَا بَالُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ دُونَ الْآخَرِ؟ . فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِخْبَارِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ بِالْأَمْسِ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا الْيَوْمَ، فَعَتَقَ بِاعْتِرَافِهِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 طَالِقٌ أَمْسِ لَمْ يَلْزَمْ بُطْلَانُ النِّكَاحِ الْيَوْمَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ قَدْ طَلَّقَهَا أَمْسِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَ هُوَ بِهَا الْيَوْمَ. قُلْنَا: إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ مِنْ غَيْرِي، أَوْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، فَيَنْفَعَهُ حَيْثُ يَدِينُ، فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِالْأَمْسِ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ. قِيلَ: هَذَا يُمْكِنُ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي لَمْ يُسْتَوْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ ثَلَاثًا " وَلَمْ يَقُلْ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي وَلَا نَوَاهُ فَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِلْعَبْدِ " أَنْتَ حُرٌّ أَمْسِ " فَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: يَجِبُ عَلَى الْبَائِنِ الْإِحْدَادُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَالْإِحْدَادُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ مَوْتِ الزَّوْجِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى وَأَثْبَتَ وَخَصَّ الْإِحْدَادَ بِالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ فَارَقَتْ الْمَبْتُوتَةَ فِي وَصْفِ الْعِدَّةِ وَقَدْرِهَا وَسَبَبِهَا، فَإِنَّ سَبَبَهَا الْمَوْتُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا، وَسَبَبُ عِدَّةِ الْبَائِنِ الْفِرَاقُ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا، ثُمَّ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمْ فَقُلْتُمْ: إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً أَوْ غَيْرَ بَالِغَةٍ فَلَا إحْدَادَ عَلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ. وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ بَيْنَهُمَا فَقُلْتُمْ: لَوْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَوْ ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا حَرَمِيًّا فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْمَانِعَ فِي ذَبْحِ الْمُحْرِمِ فِيهِ، فَهُوَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ، فَالذَّابِحُ غَيْرُ أَهْلٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الذَّابِحُ أَهْلٌ، وَالْمَذْبُوحُ مَحَلٌّ لِلذَّبْحِ إذَا كَانَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ حُرْمَةُ الْمَكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ حَلَّ ذَبْحُهُ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ فَرْقٍ، وَهُوَ بِاقْتِضَاءِ عَكْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَانِعَ فِي الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ فِي نَفْسِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ كَذَبْحِ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَالْمَانِعُ فِي ذَبْحِ الْمُحْرِمِ فِي الْفَاعِلِ، فَهُوَ كَذَبْحِ الْغَاصِبِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَطَرَدَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَأَصَابَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَأَطَارَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ضَمِنَهُ، وَكِلَاهُمَا تَوَلَّدَ الْقَتْلُ فِيهِ عَنْ فِعْلِهِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الرَّمْيَ حَصَلَ بِمُبَاشَرَتِهِ وَقُوَّتِهِ الَّتِي أَمَدَّتْ السَّهْمَ فَهُوَ مَحْضُ فِعْلِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ فَإِنَّ الصَّيْدَ فِيهِ يُضَافُ إلَى فِعْلِ الْكَلْبِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ إرْسَالَ السَّهْمِ وَالْكَلْبِ كِلَاهُمَا مِنْ فِعْلِهِ فَاَلَّذِي تَوَلَّدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مِنْهُمَا تَوَلَّدَ عَنْ فِعْلِهِ، وَجَرَيَانُ السَّهْمِ وَعَدْوُ الْكَلْبِ كِلَاهُمَا هُوَ السَّبَبُ فِيهِ، وَكَوْنُ الْكَلْبِ لَهُ اخْتِيَارٌ وَالسَّهْمِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إذْ كَانَ اخْتِيَارُ الْكَلْبِ بِسَبَبِ إرْسَالِ صَاحِبِهِ لَهُ. وَقُلْتُمْ: لَوْ رَهَنَ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ شَجَرًا مُثْمِرًا دَخَلَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ فِي الرَّهْنِ، وَلَوْ بَاعَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ فِي الْبَيْعِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّهْنَ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ، وَاتِّصَالُ الرَّهْنِ بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِشَاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ لَبَطَلَ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ اتِّصَالَهُ بِغَيْرِهِ لَا يُبْطِلُهُ، إذْ الْإِشَاعَةُ لَا تُنَافِيهِ، وَهَذَا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ هُنَا اتِّصَالُ مُجَاوَرَةٍ، لَا إشَاعَةٍ، فَهُوَ كَرَهْنِ زَيْتٍ فِي ظُرُوفِهِ وَقُمَاشٍ فِي أَعْدَالِهِ وَنَحْوِهِ. وَقُلْتُمْ: لَوْ أُكْرِهَ عَلَى هِبَةِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ فَوَهَبَهَا لَهُ مَالِكُهَا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَتَفْرِيقُكُمْ - بِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ صَدَرَ عَنْ إكْرَاهٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعِتْقِ، وَذَاكَ بَيْعٌ صَدَرَ عَنْ إكْرَاهٍ وَالْإِكْرَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ - لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى التَّمْلِيكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُكْرَهِ غَرَضٌ فِي الْإِعْتَاقِ، وَالتَّمْلِيكُ لَمْ يَصِحَّ، وَالْعِتْقُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ فَلَا يَنْفُذُ كَالْبَيْعِ سَوَاءٌ. هَذَا مَعَ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ الْقِيَاسَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، فَصَحَّحْتُمْ الْعِتْقَ دُونَ الْبَيْعِ، وَفَرَّقْتُمْ بِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَدْخُلُهُ خِيَارٌ فَصَحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعُ يَدْخُلُهُ الْخِيَارُ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَالشَّهَادَةَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَلَا تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ عُقُودُ الْمُكْرَهِ مِنْ النُّفُوذِ لِعَدَمِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ مُصَحِّحُ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَمْرٌ تَسْتَوِي فِيهِ عُقُودُهُ كُلُّهَا مُعَاوَضَتُهَا وَتَبَرُّعَاتُهَا وَعِتْقُهُ وَطَلَاقُهُ وَخُلْعُهُ وَإِقْرَارُهُ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، فَأَقْوَالُهُ كَأَقْوَالِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، فَاعْتِبَارُ بَعْضِهَا وَإِلْغَاءُ بَعْضِهَا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقُلْتُمْ: لَوْ وَقَعَ فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا تَحَرَّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ قَطْرَةَ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلِ آدَمِيٍّ نَجَّسَهُ كُلَّهُ، وَإِذَا وَقَعَ فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ وَالْأَمْصَارِ الْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالْأَخْبَاثُ لَا تُنَجِّسُهَا مَا لَمْ يَأْخُذْ وَجْهَ رُبُعِ الْمَاءِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ أَقْرَبُ إلَى الطِّيبِ وَالطَّهَارَةِ حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ هَذَا، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ نَجَّسْتُمْ الْأَدْهَانَ وَالْأَلْبَانَ وَالْخَلَّ وَالْمَائِعَاتِ بِأَسْرِهَا بِالْقَطْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالدَّمِ، وَعَفَوْتُمْ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَمَّا دُونَ قَدْرِ الْكَفِّ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ. وَقِسْتُمْ الْعَفْوَ عَنْ رُبُعِ الثَّوْبِ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ وَوُجُوبِ حَلْقِ رُبُعِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَيْنَ مَسْحُ الرَّأْسِ عَنْ غُسْلِ النَّجَاسَةِ؟ وَلَمْ يَقِيسُوا الْمَاءَ وَالْمَائِعَ عَلَى الثَّوْبِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أَلْبَتَّةَ وَظُهُورُ عَيْنِهَا وَرَائِحَتِهَا فِي الثَّوْبِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَيْثُ يَعْفُو عَنْ قَدْرِ ذِرَاعٍ فِي ذِرَاعٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَنْ قَدْرِ شِبْرٍ فِي شِبْرٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْعَفْوُ عَمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا نِسْبَةَ لَهُ إلَيْهِ فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِيهِ بِوَجْهٍ بَلْ يُحِيلُهَا وَيُذْهِبُ عَيْنَهَا وَأَثَرَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الشَّرْعُ وَالْحِسُّ بَيْنَهُمَا، فَقِسْتُمْ الْمَنِيَّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ مَا جَمَعَ الشَّرْعُ وَالْحِسُّ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الْإِسْكَارِ، فَجَعَلْتُمْ بَعْضَهَا نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَبَعْضَهَا طَاهِرًا طَيِّبًا كَاللَّبَنِ وَالْمَاءِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ مَاؤُهَا وَطِينُهَا، فَإِنْ نُزِحَ مِنْهَا دَلْوٌ فَتَرَشْرَشَ عَلَى حِيطَانِهَا تَنَجَّسَتْ حِيطَانُهَا، وَكُلَّمَا نُزِحَ مِنْهَا شَيْءٌ نَبَعَ مَكَانَهُ شَيْءٌ فَصَادَفَ مَاءً نَجِسًا وَطِينًا نَجِسًا، فَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا مَثَلًا فَنُزِحَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ كَانَ الْمَنْزُوحُ وَالْبَاقِي كُلُّهُ نَجِسًا، وَالْحِيطَانُ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَاءُ وَالطِّينُ الَّذِي فِي قَرَارِ الْبِئْرِ، حَتَّى إذَا نُزِحَ الدَّلْوُ الْأَرْبَعُونَ قَشْقَشَ النَّجَاسَةَ كُلَّهَا، فَطَهُرَ الطِّينُ وَالْمَاءُ وَحِيطَانُ الْبِئْرِ وَطَهُرَ نَفْسُهُ، فَمَا رُئِيَ أَكْرَمُ مِنْ هَذَا الدَّلْوِ وَلَا أَعْقَلُ وَلَا أَخْيَرُ. فَصْلٌ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَاسُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ عَلَى مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَدْرِي مَا هُوَ، ثُمَّ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ جَازَ، وَقَاسُوهُ عَلَى جَوَازِ إسْمَاعِهَا إيَّاهُ، فَقَاسُوا أَبْعَدَ قِيَاسٍ، وَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَهَا إلَى الْحَجِّ جَازَ، وَنَزَلَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعُرْفِ، فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدُ الْعَقْدِ الْإِجَارَةَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا؟ ثُمَّ نَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ مُنَاقَضَةٍ فَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَبْدَهَا الْآبِقَ مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا صَحَّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ؟ فَالْغَرَرُ الَّذِي فِي هَذَا الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِنْ الْغَرَرِ الَّذِي فِي حَمْلِهَا إلَى الْحَجِّ بِكَثِيرٍ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ أَوْ بَعْضَهُ صَحَّ. وَقَدْ تَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَقَدْ لَا تَقْبَلُهُ، وَقَدْ يُطَاوِعُهَا لِسَانُهَا وَقَدْ يَأْبَى عَلَيْهَا، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ مَعَ اخْتِلَافِهِ لِامْتِنَاعِ مَنْ يُسَاوِيهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ لِقُرْبِهِ وَإِنْ اتَّفَقَ مَنْ يُسَاوِيهَا فِي النَّسَبِ فَنَادِرٌ جِدًّا مَنْ يُسَاوِيهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَقِلُّ الْمَهْرُ بِسَبَبِهَا وَيَكْثُرُ فَالْجَهَالَةُ الَّتِي فِي حَجِّهِ بِهَا دُونَ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ صَحَّ وَلَهَا الْوَسَطُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْوَسَطِ مِنْ التَّفَاوُتِ مَا فِيهِ، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَبْدَ زَيْدٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، مَعَ أَنَّهُ غَرَرٌ ظَاهِرٌ، إذْ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ لَهُ، وَهُوَ رِضَى زَيْدٍ بِبَيْعِهِ، فَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِي رَدِّ عَبْدِهَا الْآبِقِ، وَكِلَاهُمَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْحَجِّ بِهَا، وَقُلْتُمْ: لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا مُدَّةً صَحَّ، وَلَيْسَ جَهَالَةُ حُمْلَانِهَا إلَى الْحَجِّ بِأَعْظَمَ مِنْ جَهَالَةِ أَوْقَاتِ الرَّعْيِ وَمَكَانِهِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَعِيدَةٌ مِنْ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ وَلَا تُعْرَفُ مَنْصُوصَةً عَنْهُ، بَلْ نُصُوصُهُ عَلَى خِلَافِهَا، قَالَ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا، فِيمَنْ تَزَوَّجَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةَ عَبِيدٍ يُعْطِي مِنْ أَوْسَطِهِمْ، فَإِنْ تَشَاحَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: وَتَسْتَقِيمُ الْقُرْعَةُ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقُلْتُمْ: لَوْ خَالَعَهَا عَلَى كَفَالَةِ وَلَدِهَا عَشَرَ سِنِينَ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَيَا لَلْعَجَبِ، أَيْنَ جَهَالَةُ هَذَا مِنْ جَهَالَةِ حُمْلَانِهَا إلَى الْحَجِّ؟ فَصْلٌ وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: لَهُ أَنْ يُجْبِرَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ الْمُفْتِيَةَ الْعَالِمَةَ بِدِينِ اللَّهِ الَّتِي تُفْتِي فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلَى نِكَاحِهَا بِمَنْ هِيَ أَكْرَهُ النَّاسِ لَهُ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَنْهُ نُفْرَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا حَتَّى لَوْ عَيَّنَتْ كُفُؤًا شَابًّا جَمِيلًا دَيِّنًا تُحِبُّهُ وَعَيَّنَ كُفُؤًا شَيْخًا مُشَوَّهًا دَمِيمًا كَانَ الْعِبْرَةُ بِتَعْيِينِهِ دُونَهَا، فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةَ وَمَقْصُودَ النِّكَاحِ مِنْ الْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ لَهَا حَبْلًا أَوْ عُودَ أَرَاكٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَصِحَّ إلَّا بِرِضَاهَا، وَلَهُ أَنْ يَرِقَّهَا مُدَّةَ الْعُمُرِ عِنْدَ مَنْ هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ فِيهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا. قَالُوا: وَكَمَا خَرَجْتُمْ عَنْ مَحْض الْقِيَاسِ خَرَجْتُمْ عَنْ صَرِيحِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ جَارِيَةً بِكْرًا زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، وَخَيَّرَ أُخْرَى ثَيِّبًا» . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: لَوْ تَصَرَّفَ فِي حَبْلٍ مِنْ مَالِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَظِّ لَهَا كَانَ مَرْدُودًا، حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ فِي بَعْضِهَا عَلَى خِلَافِ حَظِّهَا كَانَ لَازِمًا، ثُمَّ قُلْتُمْ: هُوَ أَخْبَرُ بِحَظِّهَا مِنْهَا، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْحِسُّ، فَإِنَّهَا أَعْلَمُ بِمَيْلِهَا وَنُفْرَتِهَا وَحَظِّهَا مِمَّنْ تُحِبُّ أَنْ تُعَاشِرَهُ وَتَكْرَهُ عِشْرَتَهُ، وَتَعَلَّقْتُمْ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا» . وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، وَتَرَكْتُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْذَنُ فَتَسْتَحْيِي، قَالَ: إذْنُهَا صِمَاتُهَا» فَنَهَى أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 تُنْكَحَ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهَا، وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ شَرْعُهُ وَحُكْمُهُ، فَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ. فَصْلٌ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَالْبَاذِنْجَانِ إلَّا لَقْطَةً، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَعْدُومَ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَجَعَلُوا الْمَعْدُومَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ فِي مَنَافِعِ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ كَمَا تُسْتَخْلَفُ الْمَنَافِعُ، وَمَا يَقْدِرُ مِنْ عُرُوضِ الْخَطَرِ لَهُ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ جَوَّزُوا بَيْعَ الثَّمَرَةِ إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَجْزَاءِ مَعْدُومَةٌ فَجَازَ بَيْعُهَا تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ، فَإِنْ فَرَّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءٌ مُتَّصِلَةٌ وَتِلْكَ أَعْيَانٌ مُنْفَصِلَةٌ، فَهُوَ فَرْقٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ الثَّمَرَةِ الَّتِي بَدَا صَلَاحُهَا مَا يُخْرِجُ أَثْمَارًا مُتَعَدِّدَةً كَالتُّوتِ وَالتِّينِ فَهُوَ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَالتَّفْرِيقُ خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ وَإِلْزَامٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِأَعْظَمِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَرُدُّهَا الْقِيَاسُ فَإِنَّ اللَّقْطَةَ لَا ضَابِطَ لَهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَقْثَأَةِ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ اسْتِقْصَاءَهَا، وَالْبَائِعُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ الصِّغَارِ، فَيَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّشَاحُنِ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ النِّزَاعِ الَّتِي مِنْ تَأَمُّلِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ لِإِبْطَالِهَا وَإِعْدَامِهَا إلَى الْمَفْسَدَةِ الْيَسِيرَةِ الَّتِي فِي جَعْلِ مَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعًا لِمَا وُجِدَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ؟ وَقَدْ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالْغَرَرُ شَيْءٌ وَهَذَا شَيْءٌ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا الْبَيْعُ غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا. [فَصْلٌ مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ مُرَاعَاةُ بَعْضِ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ] ِ] : وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إذَا شَرَطَتْ الزَّوْجَةُ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا الزَّوْجُ مِنْ بَلَدِهَا أَوْ دَارِهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ، فَتَرَكُوا مَحْضَ الْقِيَاسِ، بَلْ قِيَاسَ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ شَرَطَتْ فِي الْمَهْرِ تَأْجِيلًا أَوْ غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، فَأَيْنَ الْمَقْصُودُ الَّذِي لَهَا فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ إلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي فِي هَذَا الشَّرْطِ؟ وَأَيْنَ فَوَاتُهُ إلَى فَوَاتِهِ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَوْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً شَابَّةً سَوِيَّةً فَبَانَتْ عَجُوزًا شَمْطَاءَ قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ أَنَّهُ لَا فَسْخَ لِأَحَدِهِمَا بِفَوَاتِ شَرْطِهِ، حَتَّى إذَا فَاتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ الصَّدَاقِ فَلَهَا الْفَسْخُ بِفَوَاتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ بِهَا وَقَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا ثُمَّ فَاتَ الصَّدَاقُ جَمِيعُهُ وَلَمْ تَظْفَرْ مِنْهُ بِحَبَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا فَسْخَ لَهَا، وَقَسَّمَ الشَّرْطَ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يُؤْوِيهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يَطَأَهَا أَوْ لَا يُنْفِقَ عَلَى أَوْلَادِهِ مِنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ الَّذِي فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مَا هُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ الْقِيَاسُ وَالشَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقْتُمْ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَفَاءَ بِشُرُوطِ النِّكَاحِ الَّتِي يَسْتَحِلُّ بِهَا الزَّوْجُ فَرْجَ امْرَأَتِهِ أَوْلَى مِنْ الْوَفَاءِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ دُونَ سَائِرِ الشُّرُوطِ وَأَحَقَّهَا بِعَدَمِ الْوَفَاءِ، وَجَعَلْتُمْ الْوَفَاءَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُخَالِفِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَتَرْكِ النِّكَاحِ وَكَشَرْطِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَرَطَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ وَإِلَى جَانِبِهِ الْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الشَّرْطَ فِي النَّذْرِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ وَطَاعَةٌ فَلَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَهُ بُقْعَةٌ عَيَّنَهَا النَّاذِرُ لِلصَّلَاةِ إلَّا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ، وَقَدْ شَرَطَ النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ تَعَيُّنَهُ، فَأَلْغَاهُ الشَّارِعُ لِفَضِيلَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطُ الْوَاقِفِ الَّذِي غَيَّرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَازِمًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؟ وَتَعْيِينُ الصَّلَاةِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ لَمْ يُرَغِّبْ الشَّارِعُ فِيهِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي النَّذْرِ، وَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ فِي الْوَقْفِ. [هَلْ يُعْتَبَرُ شَرْطُ الْوَاقِفِ مُطْلَقًا؟] فَإِنْ قُلْتُمْ: الْوَاقِفُ لَمْ يُخْرِجْ مَالَهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ، فَلَزِمَ اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ فِي الْوَقْفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالنَّاذِرُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ، وَالْقُرَبُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْمَسَاجِدِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ، فَتَعَيُّنُ بَعْضِهَا لَغْوٌ. قِيلَ: هَذَا الْفَرْقُ بِعَيْنِهِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ إلْغَاءَ مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ، وَاعْتِبَارَ مَا فِيهِ قَرَابَةٌ، فَإِنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ فَتَقَرُّبُهُ بِوَقْفِهِ كَتَقَرُّبِهِ بِنَذْرِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُبَدِّلُ مَالَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَاجِلَةٌ أَوْ آجِلَةٌ، وَالْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِ مُبَاحَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا وَقَدْ يَبْذُلُهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَإِنَّمَا يَبْذُلُهُ فِيمَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: " إنَّ هَذَا الْمَصْرِفَ لَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ إنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْهُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا " لَبَادَرَ إلَيْهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَاقِلَ إذَا قِيلَ لَهُ: " إذَا بَذَلْتَ مَالَكَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الشَّرْطِ حَصَلَ لَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ حَصَلَ لَكَ أَجْرَانِ " فَإِنَّهُ يَخْتَارُ مَا فِيهِ الْأَجْرُ الزَّائِدُ، فَكَيْفَ إذَا قِيلَ لَهُ: " إنَّ هَذَا لَا أَجْرَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ "؟ فَكَيْفَ إذَا قِيلَ: " إنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُضَادٌّ لَهُ يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "؟ وَهَذَا كَشَرْطِ الْعُزُوبِيَّةِ مَثَلًا وَتَرْكِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شَرْطٌ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ سُنَّةٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ وَصَوْمِهَا أَوْ سُنَّةٍ دُونَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَتَرْكِ شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي قَضَاؤُهُ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ، هُوَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَمُعْظَمُ أَصْحَابِنَا قَطَعُوا بِالْبُطْلَانِ، هَذَا مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْغِنَى وَصْفٌ مُبَاحٌ وَنِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ، وَصَاحِبُهُ إذَا كَانَ شَاكِرًا فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ مَعَ صَبْرِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، فَكَيْفَ يُلْغَى هَذَا الشَّرْطُ وَيَصِحُّ شَرْطُ التَّرَهُّبِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» ؟ . يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَنْ شَرَطَ التَّعَزُّبَ فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ، فَقَصَدَ أَنْ يَتَعَبَّدَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَبَرَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَقَالَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَكَانَ قَصْدُ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ هُوَ قَصْدُ هَؤُلَاءِ الْوَاقِفِينَ بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا تَرْفِيَةَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ الَّذِي يَشْغَلُهُمْ، تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ بِتَرْكِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ مَا قَالَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ الْإِلْزَامُ بِتَرْكِ شَيْءٍ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ؟ هَذَا مِمَّا لَا تَحْتَمِلُهُ الشَّرِيعَةُ بِوَجْهٍ. [تُعْرَضُ شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ] فَالصَّوَابُ الَّذِي لَا تُسَوِّغُ الشَّرِيعَةُ غَيْرَهُ عَرْضُ شَرْطِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَعَلَى شَرْطِهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَهُ وَشَرْطَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا خَالَفَهُ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا مَرْدُودًا، وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ رَدِّ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ رَدِّ فَتْوَى الْمُفْتِي، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى رَدِّ وَصِيَّةِ الْجَانِفِ فِي وَصِيَّتِهِ وَالْآثِمِ فِيهَا، مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ، وَهِيَ أَوْسَعُ مِنْ الْوَقْفِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِرَدِّ كُلِّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، فَهَذَا الشَّرْطُ مَرْدُودٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ وَيَعْتَبِرَهُ وَيُصَحِّحَهُ. ثُمَّ كَيْفَ يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي إنَّمَا أَخْرَجَ الْوَاقِفُ مَالَهُ لِمَنْ قَامَ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قُرْبَةً وَلَا لِلْوَاقِفَيْنِ فِيهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمْ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ، وَلَا يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي إنَّمَا بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ بُضْعَهَا لِلزَّوْجِ بِشَرْطِ وَفَائِهِ لَهَا بِهَا، وَلَهَا فِيهِ أَصَحُّ غَرَضٍ وَمَقْصُودٍ، وَهِيَ أَحَقُّ مِنْ كُلِّ شَرْطٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ هَذَا إلَّا خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالسُّنَّةِ؟ [خَطَأُ الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ] : ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، وَنَحْنُ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَنَعْتَذِرُ مِمَّا جَاءَ بِهِ قَائِلُهُ، وَلَا نُعَدِّلُ بِنُصُوصِ الشَّارِعِ غَيْرَهَا أَبَدًا، وَإِنَّ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي الدَّلَالَةِ، وَتَخْصِيصِ عَامِّهَا بِخَاصِّهَا، وَحَمْلِ مُطْلَقِهَا عَلَى مُقَيَّدِهَا، وَاعْتِبَارِ مَفْهُومِهَا كَمَا يُعْتَبَرُ مَنْطُوقُهَا، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ كَنُصُوصِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ وَتَأْثِيمِ مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِمَنْ لَهُ نِسْبَةٌ مَا إلَى الْعِلْمِ، فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَاكِمِ لَيْسَ كَنَصِّ الشَّارِعِ، بَلْ يُرَدُّ مَا خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَشَرْطُ الْوَاقِفِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ وَشُرُوطِ الزَّوْجَاتِ، وَخُرُوجِهِمْ فِيهَا عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَّةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَسَّمَ يُعْطِي الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَالْعَزَبَ حَظًّا، وَقَالَ ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ» ذَكَرَ مِنْهُمْ النَّاكِحَ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَمُصَحِّحُو هَذَا الشَّرْطِ عَكَسُوا مَقْصُودَهُ، فَقَالُوا: نُعْطِيهِ مَا دَامَ عَزْبًا، فَإِذَا تَزَوَّجَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُعِينَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَامَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَالْوَفَاءُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ السُّنَّةِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى فَضْلِ الصَّوْمِ أَوْ الصَّلَاةِ لَا يَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا، حَتَّى إذَا خَالَفَ الْأَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْأَرْضَى لَهُ كَانَ بَارًّا مُثَابًا قَائِمًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، يُوَضِّحُ بُطْلَانَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الشُّرُوطِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: كُلُّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، حَتَّى أَبْطَلْتُمْ بِذَلِكَ شَرْطَ دَارِ الزَّوْجَةِ أَوْ بَلَدِهَا، وَأَبْطَلْتُمْ اشْتِرَاطَ الْبَائِعِ الِانْتِفَاعَ بِالْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَأَبْطَلْتُمْ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ، وَأَبْطَلْتُمْ اشْتِرَاطَ نَفْعِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي صَحَّحَهَا النَّصُّ، وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالْقِيَاسُ. كَمَا صَحَّحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ اشْتِرَاطَ الْمَرْأَةِ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَدَلَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ أَحَقُّ مِنْ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ، وَكَمَا صَحَّحَتْ السُّنَّةُ اشْتِرَاطَ انْتِفَاعِ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَأَبْطَلْتُمْ ذَلِكَ، وَقُلْتُمْ: يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَصَحَّحْتُمْ الشُّرُوطَ الْمُخَالِفَةَ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْوَقْفِ لِعَقْدِ الْوَقْفِ، إذْ هُوَ عَقْدُ قُرْبَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا رَيْبَ أَنَّ شَرْطَ مَا يُخَالِفُ الْقُرْبَةَ يُنَاقِضُهُ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ أَوْ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَانِ فَعُدُولُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قِدَمِهِ وَكَثْرَةِ جَمَاعَتِهِ فَيَتَعَدَّاهُ إلَى مَكَان أَقَلَّ جَمَاعَةً وَأَنْقَصَ فَضِيلَةً وَأَقَلَّ أَجْرًا اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُخَالِفِ لِمُقْتَضَى عَقْدِ الْوَقْفِ خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ الْقُبُورِ، فَإِذَا مَنَعْتُمْ فِعْلَهَا فِي بُيُوتِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ [فِعْلَهَا] بَيْنَ الْمَقَابِرِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْوَقْفَ وَإِلَّا كَانَ تَنَاوُلُهُ حَرَامًا كُنْتُمْ قَدْ أَلْزَمْتُمُوهُ بِتَرْكِ الْأَحَبِّ إلَى اللَّهِ الْأَنْفَعِ لِلْعَبْدِ، وَالْعُدُولِ إلَى الْأَنْقَصِ الْمَفْضُولِ أَوْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ تَفْصِيلًا وَقَصْدِ الْوَاقِفِ إجْمَالًا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَالْأَحَبَّ إلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا إرْضَاءً لِلَّهِ اشْتَرَطَهُ، فَنَحْنُ نَظَرْنَا إلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَأَنْتُمْ نَظَرْتُمْ إلَى مُجَرَّدِ لَفْظِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَقْصُودَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ لَا، ثُمَّ لَا يُمْكِنُكُمْ طَرْدُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ حَتَّى لَا يُخَالِطَ النَّاسَ بَلْ يَتَوَفَّرَ عَلَى الْخَلْوَةِ وَالذِّكْرِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، أَوْ شَرَطَ عَلَى الْفُقَهَاءِ أَلَّا يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَصُومُوا تَطَوُّعًا وَلَا يُصَلُّوا النَّوَافِلَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُمْكِنُكُمْ تَصْحِيحُ هَذِهِ الشُّرُوطِ؟ فَإِنْ أَبْطَلْتُمُوهَا فَعَقْدُ النِّكَاحِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهَا، أَوْ مُسَاوٍ لَهُ فِي أَصْلِ الْقُرْبَةِ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الْعَتِيقِ الْأَكْثَرِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ، وَذِكْرُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ بَيْنَ الْقُبُورِ، فَكَيْفَ تُلْزِمُونَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَفْضُولَةِ وَتُبْطِلُونَ ذَلِكَ؟ فَمَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْ الشُّرُوطِ وَمَا لَا يَصِحُّ؟ ثُمَّ لَوْ شَرَطَ الْمَبِيتَ فِي الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ وَلَمْ يَشْتَرِطَ التَّعَزُّبَ فَأَبَحْتُمْ لَهُ التَّزَوُّجَ فَطَالَبَتْهُ الزَّوْجَةُ بِحَقِّهَا مِنْ الْمَبِيتِ وَطَالَبْتُمُوهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْهُ فَكَيْفَ تَقْسِمُونَهُ بَيْنَهُمَا؟ أَمْ مَاذَا تُقَدِّمُونَ: مَا أَوْجَبَهُ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْمَبِيتِ وَالْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ وَصِيَانَةِ الْمَرْأَةِ وَحِفْظِهَا وَحُصُولِ الْإِيوَاءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ النِّكَاحِ، أَمْ مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ وَتَجْعَلُونَ شَرْطَهُ أَحَقَّ وَالْوَفَاءَ بِهِ أَلْزَمَ؟ أَمْ تَمْنَعُونَهُ مِنْ النِّكَاحِ وَالشَّارِعُ وَالْوَاقِفُ لَمْ يَمْنَعَاهُ مِنْهُ؟ فَالْحَقُّ أَنَّ مَبِيتَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ جَازَ لَهُ، بَلْ اُسْتُحِبَّ تَرْكُ شَرْطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الْوَاقِفِ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ تَنَاوُلِ الْوَقْفِ، بَلْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَهُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ، فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَلَا مَرْضَاةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ بَعْضِ مَا فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي هُوَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ هَلْ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ قِصَاصٌ] وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمُتَأَخِّرُو أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَخَرَجُوا عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَمُوجَبِ النُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ ضَمَانَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فَأَمَرَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْأَمْثَلُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَهَذَا الْمَلْطُومُ الْمَضْرُوبُ قَدْ اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُعْتَدِي كَمَا فَعَلَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ وَالْأَمْثَلُ، وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَطْمَةً بِلَطْمَةٍ وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ فِي مَحَلِّهِمَا بِالْآلَةِ الَّتِي لَطَمَهُ بِهَا، أَوْ بِمِثْلِهَا أَقْرَبُ إلَى الْمُمَاثَلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ تَعْزِيرِهِ بِهَا بِغَيْرِ جِنْسِ اعْتِدَائِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَهَذَا هُوَ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَحْضُ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَصِّ مَذْهَبِهِ وَأُصُولِهِ كَمَا خَرَجَ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُتَرْجِمِ لَهُ " بَابٌ فِي الْقِصَاصِ مِنْ اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ ": حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْقِصَاصِ مِنْ اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ، فَقَالَ: " عَلَيْهِ الْقَوَدُ مِنْ اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ " وَبِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْجُوزَجَانِيُّ " وَبِهِ أَقُولُ، لَمَّا حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: لَطَمَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا يَوْمًا لَطْمَةً، فَقَالَ لَهُ: اقْتَصَّ، فَعَفَا الرَّجُلُ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ أَنْبَأَ شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقًا يَقُولُ: لَطَمَ ابْنُ أَخٍ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 رَجُلًا مِنْ مُرَادٍ، فَأَقَادَهُ خَالِدٌ مِنْهُ. حَدَّثَنَا أَبُو بَهْزٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: لَطَمَنِي عُثْمَانُ ثُمَّ أَقَادَنِي فَعَفَوْتُ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَصْفَهَانِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ نَاجِيَةَ عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - أَقَادَ مِنْ لَطْمَةٍ. وَحَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ ثنا سُفْيَانُ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادِ ابْنِ أَخِي عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنْ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَقَادَ مِنْ لَطْمَةٍ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَلَكِنْ إنَّمَا بَعَثْتُهُمْ لِيُبَلِّغُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا فِيكُمْ فَيْئَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ فَوَاَلَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَقَامَ إلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا لَا أَقُصُّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ؟ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ ابْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: تَلَاحَى رَجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَلَمْ أَخْنُقْكَ حَتَّى سَلَحْت؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْكَ شُهُودٌ، فَاشْهَدُوا عَلَى مَا قَالَ، ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: يَخْنُقُهُ كَمَا خَنَقَهُ حَتَّى يُحْدِثَ، أَوْ يَفْتَدِيَ مِنْهُ، فَافْتَدَى مِنْهُ بِأَرْبَعِينَ بَعِيرًا، فَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَحْسَبُهُ ذَكَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ. ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي لَيْثٍ اقْتَتَلَا، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَكَسَرَ أَنْفَهُ، فَانْكَسَرَ عَظْمُ كَفِّ الضَّارِبِ، فَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْفِ الْمَضْرُوبِ وَلَمْ يَقُدْ مِنْ يَدِ الضَّارِبِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ لِهَذَا أَيْضًا الْقَوَدُ مِنْ كَفِّهِ، قَضَى عُثْمَانُ أَنَّ كُلَّ مُقْتَتِلَيْنِ اقْتَتَلَا ضَمِنَا مَا بَيْنَهُمَا، فَأُقِيدَ مِنْهُ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ كَسَرَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَدَيْ، قَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُلَّةُ أَصْحَابِهِ فَإِلَى مَنْ يَرْكَنُ بَعْدَهُمْ؟ ، أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ خِلَافُهُمْ؟ " قُلْتُ: وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ قَسْمًا أَقْبَلَ رَجُلٌ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَجَرَحَ وَجْهَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَعَالَ فَاسْتَقِدْ، فَقَالَ: بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي خَاطِبٌ الْعَشِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقِصَاصَ، فَعَرَضْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَرَضُوا، أَرَضِيتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ، فَكَفُّوا عَنْهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ، فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْقَوَدِ فِي الشَّجَّةِ وَلِهَذَا صُولِحُوا مِنْ الْقَوَدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى رَضُوا، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ الْأَرْشَ فَقَطْ لَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ طَلَبُوا الْقَوَدَ: إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا حَقُّكُمْ فِي الْأَرْشِ. فَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَعَارَضَ الْمَانِعُونَ هَذَا كُلَّهُ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: اللَّطْمَةُ وَالضَّرْبَةُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْمُمَاثَلَةُ، وَالْقِصَاصُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْمُمَاثَلَةِ. وَنَظَرُ الصَّحَابَةِ أَكْمَلُ وَأَصَحُّ وَأَتْبَعُ لِلْقِيَاسِ، كَمَا هُوَ أَتْبَعُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: قِصَاصٌ قَرِيبٌ إلَى الْمُمَاثَلَةِ، أَوْ تَعْزِيرٌ بَعِيدٌ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ جِنْسُ الْجِنَايَةِ وَلَا قَدْرُهَا، بَلْ قَدْ يُعَزَّرُ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، وَقَدْ يَكُونُ لَطَمَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ، فَأَيْنَ حَرَارَةُ السَّوْطِ وَيُبْسُهُ إلَى لِينِ الْيَدِ، وَقَدْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَفِي الْعُقُوبَةِ بِجِنْسِ مَا فَعَلَهُ تَحَرٍّ لِلْمُمَاثِلَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، فَإِنَّهُ قِصَاصٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ فِي مِثْلِ الْمَحَلِّ الَّذِي ضَرَبَ فِيهِ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ يُسَاوِيهِ، أَوْ يَزِيدُ قَلِيلًا، أَوْ يَنْقُصُ قَلِيلًا، وَذَلِكَ عَفْوٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ الْمَقْدُورِ، وَعَفَا عَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى قِصَاصًا، فَإِنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَمِنْهُ قَصَّ الْأَثَرَ إذَا اتَّبَعَهُ وَقَصَّ الْحَدِيثَ إذَا أَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْمُقَاصَّةُ: سُقُوطُ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ بِمِثْلِهِ جِنْسًا وَصِفَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْوِيمٌ لِلْجِنَايَةِ، فَهُوَ قِيمَةٌ لِغَيْرِ الْمِثْلِيِّ وَالْعُدُولُ إلَيْهِ كَالْعُدُولِ إلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ ضَرْبٌ لَهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَهُوَ إمَّا زَائِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ، وَلَا يَكُونُ مُمَاثِلًا وَلَا قَرِيبًا مِنْ الْمِثْلِ. فَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ، وَالثَّانِي تَقْوِيمٌ لِلْجِنَايَةِ بِغَيْرِ جِنْسِهَا كَبَدَلِ الْمُتْلَفِ، وَالنِّزَاعُ أَيْضًا فِيهِ وَاقِعٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَالْآنِيَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ، فَأَكْثَرُ الْقِيَاسِيِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ قَالُوا: الْوَاجِبُ فِي بَدَلِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِتْلَافِ الْقِيمَةُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمِثْلَ فِي الْجِنْسِ يَتَعَذَّرُ، ثُمَّ طَرَدَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ قِيَاسَهُمْ فَقَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ إنَّمَا تَجِبُ قِيمَتُهُ لَا مِثْلُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا. ثُمَّ طَرَدُوا هَذَا الْقِيَاسَ فِي الْقَرْضِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ قَرْضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَرْضِ رَدُّ الْمِثْلِ، وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ هَذَا الْقِيَاسِ فِي الصَّيْدِ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ [عَلَى أَنَّهُ] يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ وَهُوَ مِثْلٌ مُقَيَّدٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ قَرْضَ الْحَيَوَانِ أَيْضًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَقَضَى جَمَلًا رُبَاعِيًّا، وَقَالَ إنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُوجَبِ قَرْضِ الْحَيَوَانِ، هَلْ يَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ، أَوْ الْمِثْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَاَلَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِالْقِيمَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَيَوَانَ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَمَا عَدَاهُ كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا بِالْقِيمَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِدَارِ يُهْدَمُ، هَلْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، أَوْ يُعَادُ مِثْلُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا لِلشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَمَا عَدَاهُ فَمُنَاقِضٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ تَقْرِيبًا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى ضَمَانِ الصَّيْدِ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ بَعِيرٍ وَبَعِيرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ النَّعَامَةِ وَالْبَعِيرِ وَبَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ أَعْظَمُ مِنْهَا بَيْنَ طَيْرٍ وَشَاةٍ، وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَلَ الْبَعِيرِ الَّذِي أَقْرَضَهُ مِثْلَهُ دُونَ قِيمَتِهِ وَرَدَّ عِوَضَ الْقَصْعَةِ الَّتِي كَسَرَتْهَا بَعْضُ أَزْوَاجِهِ قَصْعَتَهَا نَظِيرَهَا، وَقَالَ: إنَاءٌ بِإِنَاءٍ وَطَعَامٌ بِطَعَامٍ، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الضَّمَانِ، وَهَذَا عَيْنُ الْعَدْلِ وَمَحْضُ الْقِيَاسِ وَتَأْوِيلُ الْقُرْآنِ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي مَسَائِلِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: قَالَ سُفْيَانُ: مَنْ كَسَرَ شَيْئًا صَحِيحًا فَقِيمَتُهُ صَحِيحًا، فَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ يُوجَدُ مِثْلُهُ فَمِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَكْسِرُ قَصْعَةَ الرَّجُلِ، أَوْ عَصَاهُ، أَوْ يَشُقُّ ثَوْبًا لِرَجُلٍ، قَالَ: عَلَيْهِ الْمِثْلُ فِي الْعَصَا وَالْقَصْعَةِ وَالثَّوْبِ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ الشَّقُّ قَلِيلًا؟ فَقَالَ: صَاحِبُ الثَّوْبِ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ: مَنْ كَسَرَ شَيْئًا صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مِثْلُهُ فَمِثْلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، فَإِذَا كَسَرَ الذَّهَبَ فَإِنَّهُ يُصْلِحُهُ إنْ كَانَ خَلْخَالًا، وَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 دِينَارًا أَعْطَى دِينَارًا آخَرَ مَكَانَهُ، قَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ: وَعَلَيْهِ الْمِثْلُ فِي الْعَصَا وَالْقَصْعَةِ وَالْقَصَبَةِ إذَا كَسَرَ وَفِي الثَّوْبِ، وَلَا أَقُولُ فِي الْعَبْدِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَيَوَانِ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ شَقَّ الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِثْلَهُ، وَاحْتَجَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فَقَالَ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ، كُلُوا، فَأَكَلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ حَتَّى جَاءَتْ قَصْعَةُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ إلَى الرَّسُولِ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِهِ» وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طَعَامٌ بِطَعَامٍ وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ» وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ قَالَ: إنَاءٌ مِثْلُ إنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ» وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُهُ الصَّحِيحُ عَنْهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ فِي إرْشَادِهِ: وَمَنْ اسْتَهْلَكَ لِآدَمِيٍّ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ إنْ وُجِدَ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَضَى عُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ فِصْلَانًا بِفِصْلَانٍ مِثْلِهَا وَبِالْمِثْلِ قَضَى شُرَيْحٌ وَالْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ بِهِ قَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ، أَوْجَبَ الْقِيمَةَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَكْثَرُ وَلَا أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ» قَالُوا: أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إتْلَافِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ الْقِيمَةَ لَا الْمِثْلَ، فَقِسْنَا عَلَى هَذَا كُلَّ حَيَوَانٍ، ثُمَّ عَدَّيْنَاهُ إلَى كُلِّ [غَيْرِ] مِثْلِيٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ أَضْبَطُ وَأَحْصَرُ بِخِلَافِ الْمِثْلِ، قَالَ الْآخَرُونَ: أَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَسَمْعًا لَهُ وَطَاعَةً، وَلَكِنْ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَا أُرِيدَ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّضْمِينُ الَّذِي يَضْمَنُهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَضْمِينِ الْمُتْلَفَاتِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ بِقِيمَتِهِ، فَإِنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ يَمْلِكُهُ الْمُعْتَقُ ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ لِيُعْتَقَ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالسِّرَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ، وَإِنْ تَنَازَعُوا: هَلْ يَسْرِي عَقِيبَ عِتْقِهِ، أَوْ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، أَوْ يَكُونَ مَوْقُوفًا فَإِذَا أَدَّى تَبَيَّنَّ أَنَّهُ عَتَقَ مِنْ حِينِ الْعِتْقِ؟ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يَبْتَنِي مَا لَوْ أَعْتَقَ الشَّرِيكُ نَصِيبَهُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُعْتَقُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَيَبْتَنِي عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إذَا قَالَ أَحَدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الشَّرِيكَيْنِ " إذَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَك فَنَصِيبِي حُرٌّ " فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ وَيُعْتَقُ نَصِيبُهُ مِنْ مَالِ الْمُعْتِقِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَيُعْتَقُ عَلَى الْمُعَلَّقِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا كَتَضْمِينِ الشَّفِيعِ الثَّمَنَ إذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ، وَلَكِنْ مِنْ بَابِ التَّقْوِيمِ لِلدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ، لَكِنَّ الشَّفِيعَ أَدْخَلَ الشَّارِعُ الشِّقْصَ فِي مِلْكِهِ بِالثَّمَنِ بِاخْتِيَارِهِ وَالشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ أَدْخَلَ الشِّقْصَ فِي مِلْكِهِ بِالْقِيمَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَكِلَاهُمَا تَمْلِيكٌ: هَذَا بِالثَّمَنِ، وَهَذَا بِالْقِيمَةِ، فَهَذَا شَيْءٌ وَضَمَانُ الْمُتْلَفِ شَيْءٌ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْكَامِلَ إذَا أُتْلِفَ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَا لَا يُقْسَمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ وَالْجَوْهَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَإِنْ تَنَازَعَا وَتَشَاجَرَا بِيعَتْ الْعَيْنُ وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا ثَمَنُهَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا كَمَا يُقْسَمُ الْمِثْلِيُّ، فَحَقُّهُمَا فِي الْمِثْلِيِّ فِي عَيْنِهِ. وَفِي الْمُتَقَوِّمِ عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ فِي قِيمَتِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقِيمَةِ لَمَا أُجِيبَ إلَى الْبَيْعِ إذَا طَلَبَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِذَا أَتْلَفَ لَهُ نِصْفَ عَبْدٍ فَلَوْ ضَمِنَاهُ بِمِثْلِهِ لَفَاتَ حَقُّهُ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ لَهُ شَرْعًا عِنْدَ طَلَبِ الْبَيْعِ، وَالشَّرِيكُ إنَّمَا حَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَهُمَا لَوْ تَقَاسَمَاهُ تَقَاسَمَاهُ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ضَمِنَهُ بِالْمِثْلِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ إنْ طَرَدَ قِيَاسَهُ، وَإِمَّا التَّنَاقُضُ الْبَيِّنُ إنْ لَمْ يَطْرُدْهُ [فَصْلٌ حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ] وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبْتَنِي الْحُكُومَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّتِي حَكَمَ فِيهَا النَّبِيَّانِ الْكَرِيمَانِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - إذْ حَكَمَا فِي الْحَرْثِ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَالْحَرْثُ: هُوَ الْبُسْتَانُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بُسْتَانَ عِنَبٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَرْمِ، وَالنَّفْشُ: رَعْيُ الْغَنَمِ لَيْلًا، فَحَكَمَ دَاوُد بِقِيمَةِ الْمُتْلَفِ، فَاعْتَبَرَ الْغَنَمَ فَوَجَدَهَا بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، فَدَفَعَهَا إلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ، أَوْ تَعَذَّرَ بَيْعُهَا وَرَضُوا بِدَفْعِهَا وَرَضِيَ أُولَئِكَ بِأَخْذِهَا بَدَلًا عَنْ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَقَضَى بِالضَّمَانِ عَلَى أَصْحَابِ الْغَنَمِ، وَأَنْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ بِالْمِثْلِ بِأَنْ يَعْمُرُوا الْبُسْتَانَ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ مُغَلَّةً مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى حِينِ الْعَوْدِ، بَلْ أَعْطَى أَصْحَابَ الْبُسْتَانِ مَاشِيَةَ أُولَئِكَ لِيَأْخُذُوا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 نَمَائِهَا بِقَدْرِ نَمَاءِ الْبُسْتَانِ فَيَسْتَوْفُوا مِنْ نَمَاءِ غَنَمِهِمْ نَظِيرَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ نَمَاءِ حَرْثِهِمْ، وَقَدْ اعْتَبَرَ النماءين فَوَجَدَهُمَا سَوَاءً وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِدْرَاكِهِ. وَقَدْ تَنَازَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مُوَافَقَةُ الْحُكْمِ السُّلَيْمَانِيِّ فِي ضَمَانِ النَّفْشِ وَفِي الْمِثْلِ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ خِلَافُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُوَافَقَتُهُ فِي ضَمَانِ النَّفْشِ دُونَ التَّضْمِينِ بِالْمِثْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: مُوَافَقَتُهُ فِي التَّضْمِينِ بِالْمِثْلِ دُونَ النَّفْشِ كَمَا إذَا رَعَاهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ دُونَ مَا إذَا تَفَلَّتَتْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّفْشَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ بِحَالٍ، وَمَا وَجَبَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاعِي بِغَيْرِ النَّفْشِ فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَا حَكَمَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَمَانٌ عَلَى أَهْلِهَا، فَصَحَّ بِحُكْمِهِ ضَمَانُ النَّفْشِ، وَصَحَّ بِالنُّصُوصِ السَّابِقَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْمِثْلِ، وَصَحَّ بِنَصِّ الْكِتَابِ الثَّنَاءُ عَلَى سُلَيْمَانَ بِتَفْهِيمِ هَذَا الْحُكْمِ، فَصَحَّ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ] [هَلْ يُفْعَلُ بِالْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟] وَمِنْ ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: هَلْ يُفْعَلُ بِالْجَانِي كَمَا يُفْعَلُ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ كَاللِّوَاطِ وَتَجْرِيعِهِ الْخَمْرَ لَمْ يُفْعَلْ بِهِ كَمَا فَعَلَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَتَحْرِيقِهِ بِالنَّارِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْمَاءِ وَرَضِّ رَأْسِهِ بِالْحَجَرِ وَمَنْعِهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ يَفْعَلُونَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُزْهِقِ وَغَيْرِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَقُولَانِ: لَا يُقْتَلُ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ خَاصَّةً وَأَحْمَدُ [فِي] رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ يَقُولُ: إنْ كَانَ الْجُرْحُ مُزْهِقًا فُعِلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَإِلَّا قُتِلَ بِالسَّيْفِ. وَفِي رِوَايَةٍ رَابِعَةٍ يَقُولُ: إنْ كَانَ مُزْهِقًا، أَوْ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ بِنَفْسِهِ لَوْ انْفَرَدَ فُعِلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَالْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضَّ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ كَمَا فَعَلَ بِالْجَارِيَةِ» ، وَلَيْسَ هَذَا قَتْلًا لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ؛ لِأَنَّ نَاقِضَ الْعَهْدِ إنَّمَا يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ، وَفِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ «مَنْ حَرَّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» وَحَدِيثُ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِجَيِّدٍ، وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، فَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ، وَاسْمُ الْقِصَاصِ يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُمَاثَلَةَ. [ضَمَانُ إتْلَافِ الْمَالِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إتْلَافُ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَبِيدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ مَالَهُ كَمَا أَتْلَفَ مَالَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ كَالثَّوْبِ يَشُقُّهُ وَالْإِنَاءِ يَكْسِرُهُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ عَلَيْهِ نَظِيرَ مَا أَتْلَفَهُ، بَلْ لَهُ الْقِيمَةُ، أَوْ الْمِثْلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِنَظِيرِ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَهُ الْجَانِي بِهِ، فَيَشُقُّ ثَوْبَهُ كَمَا شَقَّ ثَوْبَهُ، وَيَكْسِرُ عَصَاهُ كَمَا كَسَرَ عَصَاهُ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ مَنَعَهُ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَلَا إجْمَاعٌ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ لِحَقِّ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ حُرْمَةُ الْمَالِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، وَإِذَا مَكَّنَهُ الشَّارِعُ أَنْ يُتْلِفَ طَرَفَهُ بِطَرَفِهِ فَتَمْكِينُهُ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَالِهِ هُوَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ مِنْ التَّشَفِّي وَدَرْكِ الْغَيْظِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي أَذَاهُ وَإِتْلَافِ ثِيَابِهِ وَيُعْطِيهِ قِيمَتَهَا، وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَيَشْفِي نَفْسَهُ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَيَبْقَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِغَبْنِهِ وَغَيْظِهِ، فَكَيْفَ يَقَعُ إعْطَاؤُهُ الْقِيمَةَ مِنْ شِفَاءِ غَيْظِهِ وَدَرْكِ ثَأْرِهِ وَبَرْدِ قَلْبِهِ وَإِذَاقَةِ الْجَانِي مِنْ الْأَذَى مَا ذَاقَ هُوَ؟ فَحِكْمَةُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْبَاهِرَةِ وَقِيَاسُهَا مَعًا يَأْبَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ إحْرَاقِ زُرُوعِ الْكُفَّارِ وَقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ إذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا وَهَذَا عَيْنُ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الصَّحَابَةَ عَلَى قَطْعِ نَخْلِ الْيَهُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ خِزْيِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ خِزْيَ الْجَانِي الظَّالِمِ وَيُشَرِّعُهُ، وَإِذَا جَازَ تَحْرِيقُ مَتَاعِ الْغَالِّ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي خِيَانَتِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَلَأَنْ يُحَرِّقَ مَالَهُ إذَا حَرَّقَ مَالَ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا شُرِعَتْ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ فِي حَقِّ اللَّهِ الَّذِي مُسَامَحَتُهُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ فَلَأَنْ تُشْرَعَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الشَّحِيحِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - شَرَعَ الْقِصَاصَ زَجْرًا لِلنُّفُوسِ عَنْ الْعُدْوَانِ، وَكَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُوجِبَ الدِّيَةَ اسْتِدْرَاكًا لِظِلَامَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَلَكِنَّ مَا شَرَعَهُ أَكْمَلُ وَأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ، وَأَشْفَى لِغَيْظِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَأَحْفَظُ لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْآخَرِ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِ طَرَفِهِ - قَتَلَهُ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَأَعْطَى دِيَتَهُ، وَالْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْعُدْوَانِ عَلَى الْمَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَنْجَبِرُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ نَظِيرَ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ. قِيلَ: إذَا رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَضِيَ بِدِيَةِ طَرَفِهِ، فَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِهِ قَالَ الْأَحْمَدَانِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ: وَصَاحِبُ الشَّيْءِ يُخَيَّرُ، إنْ شَاءَ شَقَّ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِثْلَهُ. [كَيْفَ يُجْزَى الْجَانِي عَلَى الْعِرْضِ؟] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجِنَايَةُ عَلَى الْعِرْضِ، فَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ كَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَقَذْفِهِ وَسَبِّ وَالِدَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ سَبَّهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ سَخِرَ بِهِ، أَوْ هَزَأَ بِهِ، أَوْ بَالَ عَلَيْهِ، أَوْ بَصَقَ عَلَيْهِ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِهِ مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَسَعَهُ، أَوْ صَفَعَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِهِ سَوَاءً، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ التَّعْزِيرِ الْمُخَالِفِ لِلْجِنَايَةِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهَا، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُكَلِّمُهُ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ، فَسَبَّتْهَا، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَنْظُرَ إلَى عَائِشَةَ هَلْ تَتَكَلَّمُ، فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: إنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ هَذِهِ الْقِصَّةُ، «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ، وَقَالَتْ: ثُمَّ وَقَعَتْ فِي، فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْقُبُ طَرَفَهُ: هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا؟ قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ، فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَثْخَنْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبَسَّمَ: إنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ» ، وَفِي لَفْظٍ فِيهِمَا «لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا غَلَبَةً» . وَقَدْ حَكَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] :] لَمَّا قَالُوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77] ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ كِتْمَانَ الْحَالِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَثِيرًا جِدًّا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [فَصْلٌ فِي قُوَّة أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ] فَصْلٌ [قُوَّةُ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ قَالُوا: وَهَذَا غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، وَقَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ، مِنْ تَنَاقُضِ الْقِيَاسِيِّينَ الْآرَائِيِّينَ وَقَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ وَتَرْكِهِمْ لِمَا هُوَ نَظِيرُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ وَخُرُوجِهِمْ فِي الْقِيَاسِ عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ، كَمَا أَوْجَبَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ، فَلْيُوجِدْنَا الْقِيَاسِيُّونَ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا صَرِيحًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ قَدْ خَالَفْنَاهُ لِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَقْلِيدِ رَجُلٍ، وَلَنْ يَجِدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَإِنْ كَانَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ دِينًا فَقَدْ أَرَيْنَاهُمْ مُخَالَفَتَهُ صَرِيحًا، ثُمَّ نَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِمُخَالَفَتِهِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّا إنَّمَا خَالَفْنَاهُ لِلنُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ؟ فَانْظُرْ إلَى هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ تَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُهُمَا، وَالْحِزْبَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ ارْتَفَعَ فِي مُعْتَرَكِ الْحَرْبِ عَجَاجُهُمَا، فَجَرَّ كُلٌّ مِنْهُمَا جَيْشًا مِنْ الْحُجَجِ لَا تَقُومُ لَهُ الْجِبَالُ، وَتَتَضَاءَلُ لَهُ شَجَاعَةُ الْأَبْطَالِ، وَأَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ بِمَا خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الصِّعَابُ، وَانْقَادَ لَهُ عِلْمُ كُلِّ عَالِمٍ، وَنَفَّذَ حُكْمَهُ كُلُّ حَاكِمٍ، وَكَانَ نِهَايَةَ قَدَمِ الْفَاضِلِ النِّحْرِيرِ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَفْهَمَ عَنْهُمَا مَا قَالَاهُ، وَيُحِيطَ عِلْمًا بِمَا أَصَّلَاهُ وَفَصَّلَاهُ؛ فَلْيَعْرِفْ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَدْرَهُ، وَلَا يَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ سَوِيقَتِهِ بِحَارًا طَامِيَةً، وَفَوْقَ مَرْتَبَتِهِ فِي الْعِلْمِ مَرَاتِبُ فَوْقَ السُّهَى عَالِيَةً، فَإِنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ، وَجُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَانِ، فَلْيَجْلِسْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَحْكُمْ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ، فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَإِنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَنْفَعُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: قَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَتَحَصَّلَ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَكَذَا وَجْهًا، وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَصَحَّحَ الْآخَرَ سَبْعَةٌ، وَإِنْ عَلَا نَسَبُ عِلْمِهِ قَالَ " نَصَّ عَلَيْهِ " فَانْقَطَعَ النِّزَاعُ، وَلُزَّ ذَلِكَ النَّصُّ فِي قَرَنِ الْإِجْمَاعِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. فَصْلٌ [الْقَوْلُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ] قَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، فَكِلَاهُمَا فِي الْإِنْزَالِ أَخَوَانِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ شَقِيقَانِ، وَكَمَا لَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ فِي نَفْسِهِ فَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ لَا يَتَنَاقَضُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ الْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ النَّصِّ الصَّرِيحِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بَلْ كُلُّهَا مُتَصَادِقَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ؛ فَلَا يُنَاقِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ الصَّحِيحَ أَبَدًا، وَنُصُوصُ الشَّارِعِ نَوْعَانِ: أَخْبَارٌ، وَأَوَامِرُ، فَكَمَا أَنَّ أَخْبَارَهُ لَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ، بَلْ هِيَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوَافِقُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ جُمْلَةً أَوْ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَنَوْعٌ يَعْجِزُ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِ تَفْصِيلِهِ وَإِنْ أَدْرَكَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَهَكَذَا أَوَامِرُهُ - سُبْحَانَهُ - نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْهَدُ بِهِ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ، وَنَوْعٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِالشَّهَادَةِ بِهِ وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي الْأَخْبَارِ مُحَالٌ وَهُوَ وُرُودُهَا بِمَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ فَكَذَلِكَ الْأَوَامِرُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانَ الصَّحِيحَ. [إحَاطَةُ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إنَّمَا تَنْفَصِلُ بَعْدَ تَمْهِيدِ قَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الذِّكْرَ الْأَمْرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَإِذْنًا وَعَفْوًا، كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْقَدَرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهَا عِلْمًا وَكِتَابَةً وَقَدَرًا، فَعِلْمُهُ وَكِتَابُهُ وَقَدَرُهُ قَدْ أَحْصَى جَمِيعَ أَفْعَالِ عِبَادِهِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَغَيْرَهَا، وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِبَاحَتُهُ وَعَفْوُهُ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَلَا يَخْرُجُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ: إمَّا الْكَوْنِيَّ، وَإِمَّا الشَّرْعِيَّ الْأَمْرِيَّ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَجَمِيعَ مَا نَهَى عَنْهُ وَجَمِيعَ مَا أَحَلَّهُ وَجَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ وَجَمِيعَ مَا عَفَا عَنْهُ، وَبِهَذَا يَكُونُ دِينُهُ كَامِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وَلَكِنْ قَدْ يَقْصُرُ فَهْمُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ فَهْمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَعَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَمَوْقِعِهَا، وَتَفَاوُتُ الْأُمَّةِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَفْهَامُ مُتَسَاوِيَةً لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَلَمَا خَصَّ - سُبْحَانَهُ - سُلَيْمَانَ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ فِي الْحَرْثِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى دَاوُد بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى فِي كِتَابِهِ إلَيْهِ " الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إلَيْكَ ". وَقَالَ عَلِيٌّ " إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ "، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالتَّأْوِيلِ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالتَّأْوِيلُ إدْرَاكُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَئُولُ إلَيْهَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ أَخِيَّتُهُ وَأَصْلُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ فَقِهَ فِي الدِّينِ عَرَفَ التَّأْوِيلَ، فَمَعْرِفَةُ التَّأْوِيلِ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْوِيلَ التَّحْرِيفِ وَتَبْدِيلَ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 [فَصْلٌ هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ] فَصْلٌ [اخْتَلَفُوا هَلْ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِحُكْمِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ] وَالنَّاسُ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: إنَّ النُّصُوصَ لَا تُحِيطُ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَغَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ حَتَّى قَالَ: وَلَا بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا، قَالُوا: فَالْحَاجَةُ إلَى الْقِيَاسِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَى النُّصُوصِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ هَذَا مِقْدَارُ النُّصُوصِ فِي فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ لَا مِقْدَارُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّ النُّصُوصَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَحَوَادِثَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَإِحَاطَةَ الْمُتَنَاهِي بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ فَاسِدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ مَا لَا تَتَنَاهَى أَفْرَادُهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ أَنْوَاعًا، فَيُحْكَمَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَتَدْخُلَ الْأَفْرَادُ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى تَحْتَ ذَلِكَ. النَّوْعِ الثَّانِي: أَنَّ أَنْوَاعَ الْأَفْعَالِ بَلْ وَالْأَعْرَاضِ كُلِّهَا مُتَنَاهِيَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُ تَنَاهِيهَا فَإِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ الْمَوْجُودَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَهَذَا كَمَا تُجْعَلُ الْأَقَارِبُ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا مُبَاحًا، وَهُوَ بَنَاتُ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَبَنَاتُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ يُجْعَلُ مَا يُنْقِضُ الْوُضُوءَ مَحْصُورًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَا يُنْقِضُهُ؛ وَكَذَلِكَ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَمَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ يَضْبِطُونَ مَذَاهِبَهُمْ وَيَحْصُرُونَهَا بِجَوَامِعَ تُحِيطُ بِمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ مَعَ قُصُورِ بَيَانِهِمْ فَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِي بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ وَقَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَجْمَعُ أَنْوَاعًا وَأَفْرَادًا وَتَدُلُّ دَلَالَتَيْنِ دَلَالَةَ طَرْدٍ وَدَلَالَةَ عَكْسٍ. وَهَذَا كَمَا سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كَالْبِتْعِ وَالْمِزْرِ، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَ «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» «وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا» «وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» «وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» «وَكُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» «وَكُلَّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» وَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ جَامِعَةً فَاذَّةً: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] فَدَخَلَ فِي الْخَمْرِ كُلُّ مُسْكِرٍ، جَامِدًا كَانَ أَوْ مَائِعًا مِنْ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَدَخَلَ فِي الْمَيْسِرِ كُلُّ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَكُلُّ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ يُوقِعُ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كُلُّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كُلُّ طَيِّبٍ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْفُرُوجِ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] مَا لَا تُحْصَى أَفْرَادُهُ مِنْ الْجِنَايَاتِ وَعُقُوبَاتُهَا حَتَّى اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَالْكَسْعَةِ كَمَا فَهِمَ الصَّحَابَةُ. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] تَحْرِيمُ كُلِّ فَاحِشَةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ، وَكُلُّ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ فِي مَالٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ عِرْضٍ، وَكُلُّ شِرْكٍ بِاَللَّهِ وَإِنْ دَقَّ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ إرَادَةٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ عَدْلًا بِغَيْرِهِ فِي اللَّفْظِ أَوْ الْقَصْدِ أَوْ الِاعْتِقَادِ، وَكُلُّ قَوْلٍ عَلَى اللَّهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ عَنْهُ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ فِي تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ إسْقَاطٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْهُ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا أَوْ خَبَرًا عَنْ فِعْلِهِ؛ فَالْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ حَرَامٌ فِي أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ. وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وُجُوبُهُ فِي كُلِّ جُرْحٍ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا تَخْصِيصًا، بَلْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وُجُوبُ نَفَقَةِ الطِّفْلِ وَكِسْوَتِهِ وَنَفَقَةِ مُرْضِعَتِهِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] جَمِيعُ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْمَرْأَةِ وَعَلَيْهَا، وَأَنَّ مَرَدَّ ذَلِكَ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَيَجْعَلُونَهُ مَعْرُوفًا لَا مُنْكَرًا، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ كَفِيلَانِ بِهَذَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ. فَصْلٌ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: قَابَلَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةَ، وَقَالَتْ: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ، لَيْسَ مِنْهُ، وَأَنْكَرُوا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ الظَّاهِرَ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُشَرِّعْ شَيْئًا لِحِكْمَةٍ أَصْلًا، وَنَفَوْا تَعْلِيلَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَجَوَّزُوا - بَلْ جَزَمُوا - بِأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرْعِ، وَجَعَلُوا كُلَّ مَقْدُورٍ فَهُوَ عَدْلٌ، وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَخَالَفُوا الْقَدَرِيَّةَ وَالنَّفَّات، فَقَدْ أَصَابُوا فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَتَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَأَصَابُوا فِي إثْبَاتِ تَنَاقُضِ الْقَدَرِيَّةِ وَالنَّفَّات، وَلَكِنْ رَدُّوا مِنْ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ مَا سَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِهِ خُصُومَهُمْ، وَصَارُوا مِمَّنْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ، وَقَابَلَ الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ، وَمَكَّنُوا خُصُومَهُمْ بِمَا نَفَوْهُ مِنْ الْحَقِّ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فَصْلٌ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْمٌ نَفَوْا الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ وَالْأَسْبَابَ، وَأَقَرُّوا بِالْقِيَاسِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَقَالُوا: إنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ أَمَارَاتٍ وَعَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ كَمَا قَالُوهُ فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ وَقَالُوا: إنَّ الدُّعَاءَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، لَا أَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالْقَبِيحَةُ عَلَامَاتٌ مَحْضَةٌ لَيْسَتْ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا وَجَدُوهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ مُقْتَرِنًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ قَالُوا أَحَدُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى الْآخَرِ، مُقَارِنٌ لَهُ اقْتِرَانًا عَادِيًا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطُ سَبَبِيَّةٍ وَلَا عِلَّةٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَلَيْسَ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ غَيْرُ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ، وَطَالِبُ الْحَقِّ إذَا رَأَى مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَمُنَاقَضَةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ وَمُعَارَضَةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ بَقِيَ فِي الْحِيرَةِ، فَتَارَةً يَتَحَيَّزُ إلَى فِرْقَةٍ مِنْهَا، لَهُ مَا لَهَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهَا، وَتَارَةً يَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَذِهِ الْفِرَقِ تَمِيمِيًّا مَرَّةً وَقَيْسِيًّا أُخْرَى، وَتَارَةً يُلْقِي الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا وَيَقِفُ فِي النَّظَّارَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ خَفَاءُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالْمَذْهَبِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فِي الْمَذَاهِبِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْأَدْيَانِ، وَعَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَالْفُقَهَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي خَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ - وَأَمْرِهِ، وَإِثْبَاتِ لَامَ التَّعْلِيلِ وَبَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرْعِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ رَآهُ يُنْكِرُ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُنْحَرِفَتَيْنِ عَنْ الْوَسَطِ، فَيُنْكِرُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ، وَقَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُنْكَرِينَ لِلْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَا يَرْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَلَا بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ نُفَاةِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ. وَعَامَّةُ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ قَوْلِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَالْجَهْمِيَّةُ رُءُوسُ الْجَبْرِيَّةِ وَأَئِمَّتُهُمْ أَنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَإِنْ أَقَرُّوا بِلَفْظٍ مُجَرَّدٍ فَارِغٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَالْقَدَرِيَّةُ وَالنَّفَّات أَنْكَرُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا نَوْعًا مِنْ الْمُلْكِ بِلَا حَمْدٍ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا نَوْعًا مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ، فَأَنْكَرَ أُولَئِكَ عُمُومَ حَمْدِهِ، وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ عُمُومَ مُلْكِهِ، وَأَثْبَتَ لَهُ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ عُمُومَ الْمُلْكِ وَعُمُومَ الْحَمْدِ كَمَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، فَلَهُ كَمَالُ الْمُلْكِ وَكَمَالُ الْحَمْدِ، فَلَا يَخْرُجُ عَيْنٌ وَلَا فِعْلٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمُلْكِهِ، وَلَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ وَغَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، وَهُوَ فِي عُمُومِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمُلْكِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ حَمْدُهُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِهِ وَلِأَجْلِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَمَا انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ انْقَسَمُوا فِي فَرْعِهِ - وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الْقِيَاسُ - إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ أَنْكَرَتْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ بِهِ وَأَنْكَرَتْ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَالْمُنَاسِبَاتِ، وَالْفِرْقَتَانِ أَخْلَتْ النُّصُوصَ عَنْ تَنَاوُلِهَا لِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَنَّهَا أَحَالَتْ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَالَتْ غُلَاتُهُمْ: أَحَالَتْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ مُتَوَسِّطُوهُمْ: بَلْ أَحَالَتْ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا إلَّا بِهِ. وَالصَّوَابُ وَرَاءَ مَا عَلَيْهِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ، وَهُوَ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَمْ يُحِلْنَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى رَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، بَلْ قَدْ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا، وَالنُّصُوصُ كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ بِهَا، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلنُّصُوصِ، فَهُمَا دَلِيلَانِ: الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، وَقَدْ تَخْفَى دَلَالَةُ النَّصِّ أَوْ لَا تَبْلُغُ الْعَالِمَ فَيَعْدِلُ إلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَدْ يَظْهَرُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَيَكُونُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَقَدْ يَظْهَرُ مُخَالِفًا لَهُ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَكِنَّ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ قَدْ تَخْفَى مُوَافَقَتُهُ أَوْ مُخَالَفَتُهُ. [أخطاء المختلفين فِي إحاطة النُّصُوص بِأَحْكَام الحوادث] [الْخَطَأ الْأَوَّل والثانى] فَصْلٌ [كُلُّ فِرْقَةٍ سَدَّتْ بَابًا مِنْ الْحَقِّ] وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ، فَاضْطُرُّوا إلَى تَوْسِعَةِ طَرِيقٍ أُخْرَى أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ، فَنُفَاتُ الْقِيَاسِ لَمَّا سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ وَاعْتِبَارِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَهُوَ مِنْ الْمِيزَانِ وَالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ احْتَاجُوا إلَى تَوْسِعَةِ الظَّاهِرِ وَالِاسْتِصْحَابِ، فَحَمَّلُوهُمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ وَوَسَّعُوهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعَانِهِ، فَحَيْثُ فَهِمُوا مِنْ النَّصِّ حُكْمًا أَثْبَتُوهُ وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا وَرَاءَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهُ نَفَوْهُ، وَحَمَّلُوا الِاسْتِصْحَابَ، وَأَحْسَنُوا فِي اعْتِنَائِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَنَصْرِهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ تَقْدِيمِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا مِنْ رَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَحْسَنُوا فِي رَدِّ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ، وَبَيَانِهِمْ تَنَاقُضَ أَهْلِهَا فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ وَتَرْكِهِمْ لَهُ، وَأَخْذِهِمْ بِقِيَاسٍ وَتَرْكِهِمْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَلَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: رَدُّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَنْصُوصَ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي يَجْرِي النَّصُّ عَلَيْهَا مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ «قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ حِمَارًا عَلَى كَثْرَةِ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ: لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا تَلْعَنُوا كُلَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فَإِنَّهَا رِجْسٌ» بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نَهَى عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرِّ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ " لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ " نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ: " لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ " نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَ " لَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الْخَطَأُ الثَّانِي: تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمْ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ إيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ضَرْبًا وَلَا سَبًّا وَلَا إهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ أُفٍّ، فَقَصَّرُوا فِي فَهْمِ الْكِتَابِ كَمَا قَصَّرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ. [الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ] [الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ] الْخَطَأُ الثَّالِثُ: تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَجَزْمُهُمْ بِمُوجَبِهِ، لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ. [الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ] وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهَا فَالِاسْتِصْحَابُ: اسْتِفْعَالٌ مِنْ الصُّحْبَةِ، وَهِيَ اسْتِدَامَةُ إثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. [اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ] فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِبْقَاءِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَأَنْ يُدْفَعَ بِهِ مَنْ ادَّعَى تَغْيِيرَ الْحَالِ لِإِبْقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ إنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى مُوجِبِ الْحُكْمِ، لَا إلَى عَدَمِ الْمُغَيِّرِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا نَافِيًا وَلَا مُثْبِتًا أَمْسَكْنَا، لَا نُثْبِتُ الْحُكْمَ وَلَا نَنْفِيهِ، بَلْ نَدْفَعُ بِالِاسْتِصْحَابِ دَعْوَى مَنْ أَثْبَتَهُ، فَيَكُونُ حَالُ الْمُتَمَسِّكِ [بِالِاسْتِصْحَابِ] كَحَالِ الْمُعْتَرِضِ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ، فَهُوَ يَمْنَعُهُ الدَّلَالَةَ حَتَّى يُثْبِتَهَا، لَا أَنَّهُ يُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ، وَهَذَا غَيْرُ حَالِ الْمُعَارِضِ، فَالْمُعَارِضُ لَوْنٌ وَالْمُعْتَرِضُ لَوْنٌ، فَالْمُعْتَرِضُ يَمْنَعُ دَلَالَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الدَّلِيلِ، وَالْمُعَارِضُ يُسَلِّمُ دَلَالَتَهُ وَيُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى نَقِيضِهِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ النَّاقِلِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. [اسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ] ثُمَّ النَّوْعُ الثَّانِي اسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ، كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الطَّهَارَةِ وَحُكْمِ الْحَدَثِ وَاسْتِصْحَابِ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَبَقَاءِ الْمِلْكِ وَشُغْلِ الذِّمَّةِ بِمَا تَشْغَلُ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ الشَّارِعُ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ فِي قَوْلِهِ فِي الصَّيْدِ " وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فَلَا تَأْكُلْهُ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ " وَقَوْلِهِ: " وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ " لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الذَّبَائِحِ التَّحْرِيمَ وَشَكَّ هَلْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمُبِيحُ أَمْ لَا؟ بَقِيَ الصَّيْدُ عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّحْرِيمِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ عَلَى طَهَارَتِهِ وَلَمْ يُزِلْهَا بِالشَّكِّ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ الْمُتَطَهِّرِ عَلَى طَهَارَتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوُضُوءِ مَعَ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ، بَلْ قَالَ: " لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا "، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ أُمِرَ الشَّاكُّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْيَقِينِ وَيَطْرَحَ الشَّكَّ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا رَفْعُهُ لِلنِّكَاحِ الْمُتَيَقَّنِ بِقَوْلِ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ إنَّهَا أَرْضَعَتْ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْأَبْضَاعِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ الزَّوْجَةُ بِظَاهِرِ الْحَالِ مَعَ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الظَّاهِرَ ظَاهِرٌ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الشَّهَادَةُ، فَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا وَبَقِيَ أَصْلُ التَّحْرِيمِ لَا مُعَارِضَ لَهُ، فَهَذَا الَّذِي حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ عَيْنُ الصَّوَابِ وَمَحْضُ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ لِتَجَاذُبِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ. مِثَالُهُ أَنَّ مَالِكًا مَنَعَ الرَّجُلَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ الطَّهَارَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا نُخْرِجُهُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالشَّكِّ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَا نُدْخِلُهُ فِي الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ، فَيَكُونُ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا الشَّكُّ، فَإِنْ قُلْتُمْ: يَقِينُ الْحَدَثِ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْوُضُوءِ فَلَا يَعُودُ بِالشَّكِّ، قَالَ مُنَازِعُهُمْ: وَيَقِينُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْوُجُوبِ فَلَا يَعُودُ بِالشَّكِّ، قَالُوا: وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَحْتَجُّونَ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ حُجَجِنَا، فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُصَلِّيَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا بِالشَّكِّ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَجْوِيزِ الدُّخُولِ فِيهَا بِالشَّكِّ؟ وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا فَإِنَّ مَالِكًا يُلْزِمُهُ بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ طَلَاقًا وَشَكَّ هَلْ هُوَ مِمَّا تُزِيلُ أَثَرَهُ الرَّجْعَةُ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصَحُّ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مُتَيَقَّنٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يُعَارِضْ يَقِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 النِّكَاحِ إلَّا شَكٌّ مَحْضٌ فَلَا يَزُولُ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ الَّتِي شَكَّ فِي انْتِقَاضِهَا، فَإِنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ شُغْلُ الذِّمَّةِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي فَرَاغِهَا، وَلَا يُقَالُ هُنَا: إنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ شَكَكْنَا فِي الْحِلِّ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ زَالَ بِنِكَاحٍ مُتَيَقَّنٍ وَقَدْ حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَا يَرْفَعُهُ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِوُضُوءٍ مُتَيَقَّنٍ ثُمَّ شَكَّ فِي زَوَالِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مُتَيَقَّنٌ لِلتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ شَاكٌّ فِي الْحِلِّ بِالرَّجْعَةِ، فَكَانَ جَانِبُ التَّحْرِيمِ أَقْوَى، قِيلَ: لَيْسَتْ الرَّجْعِيَّةُ بِمُحَرَّمَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا، وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ وَتَتَعَرَّضَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَالْوَطْءُ رَجْعَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَحْدَهُ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي الْقَسْمِ خَاصَّةً، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَقَوْلُكُمْ " إنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ " إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ التَّحْرِيمَ الْمُطْلَقَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ مُطْلَقَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنْ يَكُونَ بِثَلَاثٍ، فَإِنَّ مُطْلَقَ التَّحْرِيمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاحِدَةٍ أَوْ يَكُونَ بِثَلَاثٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ الْأَخَصِّ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. فَصْلٌ [اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ] الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ شَاقِلَا وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْحَلْوَانِيِّ وَابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا كَانَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ مَحَلِّ النِّزَاعِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَأَمَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَا إجْمَاعَ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُسْتَصْحَبُ، إذْ يَمْتَنِعُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالِاسْتِصْحَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَمْرٍ ثَابِتٍ فَيُسْتَصْحَبُ ثُبُوتُهُ، أَوْ لِأَمْرٍ مُنْتَفٍ فَيُسْتَصْحَبُ نَفْيُهُ، قَالَ الْأَوَّلُونَ: غَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَنَحْنُ لَمْ نَدَّعِ الْإِجْمَاعَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلْ اسْتَصْحَبْنَا حَالَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُزِيلُهُ، قَالَ الْآخَرُونَ: الْحُكْمُ إذَا كَانَ إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ، وَقَدْ زَالَ الْإِجْمَاعُ، زَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ دَلِيلِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ لَثَبَتَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَالَ الْمُثْبِتُونَ: الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا، وَعَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ ثُبُوتَهُ، فَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ هُوَ عِلَّةَ ثُبُوتِهِ وَلَا سَبَبَ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ زَوَالِ الْعِلَّةِ زَوَالُ مَعْلُولِهَا، وَمِنْ زَوَالِ السَّبَبِ زَوَالُ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَنِدٌ إلَى نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْإِجْمَاعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا، لَكِنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَإِنَّ الْبَقَاءَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ، وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فَيَفْتَقِرُ إلَى مَا يُزِيلُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ، وَإِلَى مَا يُحْدِثُ الثَّانِيَ، وَإِلَى مَا يَنْفِيهِ، فَكَانَ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْحَادِثُ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْبَاقِي، فَيَكُونُ الْبَقَاءُ أَوْلَى مِنْ التَّغَيُّرِ، وَهَذَا مِثْلُ اسْتِصْحَابِ حَالِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ بَرِيئَةً قَبْلَ وُجُودِ مَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ شَاغِلٌ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَصْلُ الْبَرَاءَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مِنْ جِنْسِ اسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ. وَمَنْ لَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُزِيلِ فَلَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأَدِلَّةَ النَّاقِلَةَ، كَمَا لَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِالِاسْتِصْحَابِ لِمَنْ يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ النَّاقِلَةَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاسْتِصْحَابُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ انْتِفَاءَ النَّاقِلِ، فَإِنْ قَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ بِانْتِفَاءِ النَّاقِلِ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ، كَمَا يُقْطَعُ بِبَقَاءِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَإِنْ ظَنَّ انْتِفَاءَ النَّاقِلِ أَوْ ظَنَّ انْتِفَاءَ دَلَالَتِهِ ظَنَّ انْتِفَاءَ النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ مَعْنًى مُؤْثَرًا وَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ اقْتِضَائِهِ تَبَيَّنَّ لَهُ انْتِفَاءُ النَّقْلِ، مِثْلُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَإِلَّا فَمَعَ تَجْوِيزِهِ لِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لَا يَطْمَئِنُّ بِبَقَاءِ الْوُضُوءِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ طَهَارَتِهِ، كَالنِّزَاعِ فِي بُطْلَانِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَبِالْخَارِجِ النَّادِرِ مِنْهُمَا، وَبِمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةٍ وَغَيْرِهَا، وَبِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا يُمْكِنُهُ اعْتِقَادُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا يُوجِبُ الِانْتِقَالَ، وَإِلَّا بَقِيَ شَاكًّا، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّةُ النَّاقِلِ - كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِخَبَرٍ - فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ، لَمْ يُؤْمَرْ بِتَصْدِيقِهِ وَلَا بِتَكْذِيبِهِ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَعَ خَبَرِهِ لَا يَسْتَدِلُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ كَمَا كَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ بِدُونِ خَبَرِهِ، وَلِهَذَا جُعِلَ لَوْثًا وَشُبْهَةً، وَإِذَا شَهِدَ مَجْهُولُ الْحَالِ فَإِنَّهُ هُنَاكَ شَاكٌّ فِي حَالِ الشَّاهِدِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الشَّكُّ فِي حَالِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ عَدْلًا تَمَّ الدَّلِيلُ، وَعِنْدَ شَهَادَةِ الْمَجْهُولِينَ تَضْعُفُ الْبَرَاءَةُ أَعْظَمَ مِمَّا تَضْعُفُ عِنْدَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَإِنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا وَلَكِنْ لَا تُعْرَفُ دَلَالَتُهُ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ صِدْقَهُ مُمْكِنٌ. فَصْلٌ [الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ حُجَّةٌ أَنَّ تَبَدُّلَ حَالِ الْمَحَلِّ الْمُجْمَعِ عَلَى حُكْمِهِ أَوَّلًا كَتَبَدُّلِ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَشَخْصِهِ، وَتَبَدُّلُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَغَيُّرُهَا لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يَمْنَعُ اسْتِصْحَابَ مَا ثَبَتَ لَهُ قَبْلَ التَّبَدُّلِ، فَكَذَلِكَ تَبَدُّلُ وَصْفِهِ وَحَالِهِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِصْحَابَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْحَادِثَ نَاقِلًا لِلْحُكْمِ مُثْبِتًا لِضِدِّهِ، كَمَا جَعَلَ الدِّبَاغَ نَاقِلًا لِحُكْمِ نَجَاسَةِ الْجِلْدِ، وَتَخْلِيلَ الْخَمْرِ نَاقِلًا لِلْحُكْمِ بِتَحْرِيمِهَا، وَحُدُوثَ الِاحْتِلَامِ نَاقِلًا لِحُكْمِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى التَّمَسُّكُ بِالِاسْتِصْحَابِ صَحِيحًا، وَأَمَّا مُجَرَّدُ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، وَالنِّزَاعُ فِي رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَحُدُوثِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَاسْتِيلَادِ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ مَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: إنَّهُ قَدْ زَالَ حُكْمُ الِاسْتِصْحَابِ بِالنِّزَاعِ الْحَادِثِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ لَا يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ، فَلَا يُمْكِنُ الْمُعْتَرِضَ رَفْعُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْحَادِثَ جَعَلَهُ الشَّارِعُ دَلِيلًا عَلَى نَقْلِ الْحُكْمِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مُعَارِضًا فِي الدَّلِيلِ لَا قَادِحًا فِي الِاسْتِصْحَابِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [الْخَطَأُ الرَّابِعُ اعْتِقَاد أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ] فَصْلٌ [الْأَصْلِيُّ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ أَوْ الْفَسَادُ؟] الْخَطَأُ الرَّابِعُ لَهُمْ: اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ، فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ إلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَأْثِيمَ إلَّا مَا أَثَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ، فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَعَهُ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حَتَّى يُحَرِّمَهَا، وَلِهَذَا نَعَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ - وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ - وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَوْ سَكَتَ عَنْ إبَاحَةِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا، فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ كُلِّهَا، فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهَا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «بَعَثَنِي قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنْ ارْجِعْ إلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ قَالَ: فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمْتُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ «حُذَيْفَةَ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٍ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: إنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: انْصَرَفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ فِي بَيْتِهَا، فَقَالَتْ: تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟ فَقَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا إنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» . «وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُوفِيَ بِالنَّذْرِ الَّذِي نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اعْتِكَافِهِ لَيْلَةً عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهَذَا عَقْدٌ كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ» . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثنا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ عِدَةً وَتُخْلِفْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَذَا لَكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَهِيَ كَذْبَةٌ» وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقَّ» وَلَيْسَتْ الْعُمْدَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَصْلٌ [أَجْوِبَةُ الْمَانِعِينَ] وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يُجِيبُونَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ: تَارَةً بِنَسْخِهَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ الْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَتَارَةً بِالْقَدْحِ فِي سَنَدِ مَا يُمْكِنُهُمْ الْقَدْحُ فِيهِ، وَتَارَةً بِمُعَارَضَتِهَا بِنُصُوصٍ أُخَرَ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» وَكَقَوْلِهِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: فَصَحَّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ إبْطَالُ كُلِّ عَهْدٍ وَعَقْدٍ وَوَعْدٍ وَشَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ أَوْ النَّصُّ عَلَى إبَاحَتِهِ، قَالُوا: وَكُلُّ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ إيجَابُهُ وَلَا الْإِذْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ الْتَزَمَ فِيهِ إبَاحَةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ تَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، أَوْ إسْقَاطَ مَا أَوْجَبَهُ، أَوْ إيجَابَ مَا أَسْقَطَهُ، وَلَا خَامِسَ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنْ مَلَّكْتُمْ الْمُشْتَرِطَ وَالْمُعَاقِدَ وَالْمُعَاهِدَ جَمِيعَ ذَلِكَ انْسَلَخْتُمْ مِنْ الدِّينِ، وَإِنْ مَلَّكْتُمُوهُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ تَنَاقَضْتُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ؟ وَلَنْ تَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَصْلٌ [رَدُّ الْجُمْهُورِ عَلَى أَجْوِبَةِ الْمَانِعِينَ] قَالَ الْجُمْهُورُ: أَمَّا دَعْوَاكُمْ النَّسْخَ فَإِنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ تَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَلَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهَا، وَتَجِبُ مُخَالَفَتُهَا، وَلَيْسَ مَعَكُمْ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ بِذَلِكَ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَأَيْنَ الْتِجَاؤُكُمْ إلَى الِاسْتِصْحَابِ وَالتَّسَبُّبِ بِهِ مَا أَمْكَنَكُمْ؟ . وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُمُومِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِبُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا ضَعْفُ بَعْضِهَا مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ فَلَا يَقْدَحُ فِي سَائِرِهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَةً. وَأَمَّا مُعَارَضَتُهَا بِمَا ذَكَرْتُمْ فَلَيْسَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَعَارُضٌ، وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: " مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ قَطْعًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ عُلِمَتْ مَنْ السُّنَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ حُكْمُهُ كَقَوْلِهِ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فِي كَسْرِ السِّنِّ» فَكِتَابُهُ - سُبْحَانَهُ - يُطْلَقُ عَلَى كَلَامِهِ وَعَلَى حُكْمِهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، فَشَرْطُ خِلَافِ ذَلِكَ يَكُونُ شَرْطًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي هَذَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ يَكُونُ بَاطِلًا حَرَامًا؟ وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ هُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ إبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ أَوْ إسْقَاطُ مَا أَوْجَبَهُ، لَا إبَاحَةُ مَا سَكَتَ عَنْهُ وَعَفَا عَنْهُ، بَلْ تَحْرِيمُهُ هُوَ نَفْيُ تَعَدِّي حُدُودِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّرْطِ لِأَحَدِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فَفَاتَكُمْ قِسْمٌ خَامِسٌ وَهُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِلْمُكَلَّفِ تَنْوِيعَ أَحْكَامِهِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي مَلَّكَهُ إيَّاهَا، فَيُبَاشِرُ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُحِلُّهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، أَوْ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلَالًا لَهُ، أَوْ يُوجِبُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، أَوْ يُسْقِطُ [وُجُوبَهُ] بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِهِ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَحَلَّ وَحَرَّمَ وَأَوْجَبَ وَأَسْقَطَ، وَإِنَّمَا إلَى الْعَبْدِ الْأَسْبَابُ الْمُقْتَضِيَةُ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ إلَّا، فَكَمَا أَنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ وَنِكَاحَ الْمَرْأَةِ يُحِلُّ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ وَطَلَاقُهَا وَبَيْعُهَا بِالْعَكْسِ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ وَيُسْقِطُ عَنْهُ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهَا، كَذَلِكَ الْتِزَامُهُ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَالشَّرْطِ، فَإِذَا مَلَكَ تَغْيِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الْحُكْمِ بِالْعَقْدِ مَلَكَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَأَبَاحَ التِّجَارَةَ الَّتِي تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَرْطٍ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ جَازَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَإِلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يَلْتَزِمَاهُ وَلَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَلَا هُمَا الْتَزَمَاهُ، وَلَا إبْطَالُ مَا شَرَطَاهُ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمَا شَرْطَهُ، وَمُحَرِّمُ الْحَلَالِ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامِ، فَهَؤُلَاءِ أَلْغَوْا مِنْ شُرُوطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا لَمْ يُلْغِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْقِيَاسِيِّينَ فَاعْتَبَرُوا مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، بَلْ الصَّوَابُ إلْغَاءُ كُلِّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ، وَاعْتِبَارُ كُلِّ شَرْطٍ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ أَخْطَاءُ الْقِيَاسِيِّينَ] وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَنُوا بِالنُّصُوصِ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهَا وَافِيَةً بِالْأَحْكَامِ وَلَا شَامِلَةً لَهَا وَغُلَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَفِ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا فَوَسَّعُوا طُرُقَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَقَالُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَعَلَّقُوا الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَهَا بِهَا، وَاسْتَنْبَطُوا عِلَلًا لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَّعَ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ اضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَارَضُوا بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فَتَارَةً يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ، وَتَارَةً يُقَدِّمُونَ النَّصَّ، وَتَارَةً يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّصِّ الْمَشْهُورِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا إلَى أَنْ اعْتَقَدُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ أَنَّهَا شُرِّعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكَانَ خَطَؤُهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ظَنُّهُمْ قُصُورَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ. الثَّانِي: مُعَارَضَةُ كَثِيرٍ مِنْ النُّصُوصِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. الثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْمِيزَانِ وَالْقِيَاسِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدْلَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. الرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا لَمْ يُعْلَمْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهَا وَإِلْغَاؤُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الْخَامِسُ: تَنَاقُضُهُمْ فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. [فَصْلُ فِي شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ] [الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ] وَنَحْنُ نَعْقِدُ هَهُنَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ شُمُولِ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا عَنْ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي سُقُوطِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَبُطْلَانِهَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمٌ يُخَالِفُ الْمِيزَانَ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وَهَذِهِ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهَمِّ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِقْدَارُ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتُهَا وَهَيْمَنَتُهَا وَسِعَتُهَا وَفَضْلُهَا وَشَرَفُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ عَامُّ الرِّسَالَةِ إلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَدَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، فَكَمَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ رِسَالَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمَّةُ عَنْهَا وَعَنْ بَيَانِهِ لَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُوفِي هَذِهِ حَقَّهَا وَلَا نُقَارِبُ، وَأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ عُلُومِنَا وَفَوْقَ إدْرَاكِنَا، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ وَنُشِيرُ أَدْنَى إشَارَةٍ إلَى مَا يَفْتَحُ أَبْوَابَهَا وَيَنْهَجُ طُرُقَهَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: [شُمُولُ النُّصُوصِ وَإِغْنَاؤُهَا عَنْ الْقِيَاسِ] فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَنْ الْقِيَاسِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مُقَدَّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ، وَإِضَافِيَّةٌ، فَالْحَقِيقِيَّةُ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَالْإِضَافِيَّةُ تَابِعَةٌ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ، وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ، وَصَفَاءِ ذِهْنِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَلْفَاظِ وَمَرَاتِبِهَا، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِحَسَبِ تَبَايُنِ السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَكْثَرَهُمْ رِوَايَةً لَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَفْقَهَ مِنْهُمَا، بَلْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَفْقَهُ مِنْهُمَا وَمِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ إتْيَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِ: " إنَّكَ سَتَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ " فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ الْعَامِ الَّذِي يَأْتُونَهُ فِيهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَهْمَهُ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ» شُمُولَ لَفْظِهِ لِحُسْنِ الثَّوْبِ وَحُسْنِ النَّعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ " بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ". وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إذَا اُحْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ، وَاَللَّهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا اُحْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابُ الْمُنَاقَشَةِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 عَمَلِ السُّوءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْمَرَضِ وَالنَّصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] مَعَ أَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ عِنْدَ إعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنْ التَّأَمُّلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ، بَلْ قَالَ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وَلُبْسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ تَغْطِيَتُهُ لَهُ وَإِحَاطَتُهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَا يُغَطِّي الْإِيمَانَ وَيُحِيطُ بِهِ وَيَلْبَسُهُ إلَّا الْكُفْرُ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ لَا تُحِيطُ بِالْمُؤْمِنِ أَبَدًا، فَإِنَّ إيمَانَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إحَاطَةِ الْخَطِيئَةِ بِهِ، وَمَعَ أَنَّ سِيَاقَ قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] ثُمَّ حَكَمَ اللَّهِ أَعْدَلَ حُكْمٍ وَأَصْدَقَهُ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَالْهُدَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ الشِّرْكُ. «وَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَاعْتَرَفَ عُمَرُ بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ» ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظَهْرَهُمْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ، وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهَا رِجْسًا. وَفَهِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ، وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ لَهَا حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ. وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ فَأَقَرَّ بِهِ. وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ الْخَمْرِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لَفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنْ الْمَطَاعِمِ، فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انْغِمَاسَ الرَّجُلِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا. وَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِالْعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ» فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَأُشْكِلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنْ الْيَهُودِ: هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ،؛ لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ عَنْ السَّاكِتِينَ: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسَوْا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَةً وَفَرِحَ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: مَا تَقُولُونَ فِي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] السُّورَةَ؟ قَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَعْلَمَهُ إيَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْفَهْمِ وَأَلْطَفِهِ، وَلَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَنْ يُعَلِّقَ الِاسْتِغْفَارَ بِعَمَلِهِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ - سُبْحَانَهُ - مِنْ نِعْمَةِ فَتْحِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، فَعَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْأَجَلِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَلْقَى رَبَّهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَيَقْدَمَ عَلَيْهِ مَسْرُورًا رَاضِيًا مَرْضِيًّا عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَائِمًا. فَعَلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الْفَتْحِ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي هَذَا الدِّينِ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ مُقَدَّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ انْتِقَالِهِ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. وَأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ الَّتِي تُرَقِّيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ بَقِيَّةٌ فَأَمَرَهُ بِتَوْفِيَتِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - شَرَعَ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ، فَشَرَعَهَا فِي خَاتِمَةِ الْحَجِّ وَقِيَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 اللَّيْلِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا» ، وَشُرِعَ لِلْمُتَوَضِّئِ بَعْدَ كَمَالِ وُضُوئِهِ أَنْ يَقُولَ " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ " فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ عَقِيبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَ تَوْفِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، فَكَأَنَّ التَّبْلِيغَ عِبَادَةٌ قَدْ أَكْمَلَهَا وَأَدَّاهَا، فَشُرِعَ لَهُ الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَهَا. وَالْمَقْصُودُ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَيَفْهَمُ مِنْ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ، وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ. وَهَذَا كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] [مَعَ قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَمَا فَهِمَ الصِّدِّيقُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَأَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ إلَى هَذَا الْفَهْمِ حَيْثُ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ السُّؤَالَ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ قَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] فَدَلَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يُبَيِّنُ لَهُ الْمُرَادَ مِنْهَا وَهِيَ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّهُ وَرَّثَ فِيهَا وَلَدَ الْأُمِّ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِيهَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَإِنْ عَلَا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ عِدَّةَ مَسَائِلَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وَمَسَائِلَ قَدْ اُحْتُجَّ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّصُّ وَأَغْنَى فِيهَا عَنْ الْقِيَاسِ. [الْمَسْأَلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشْتَرَكَةُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى اخْتِصَاصِ وَلَدِ الْأُمِّ فِيهَا بِالثُّلُثِ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَهَؤُلَاءِ وَلَدُ الْأُمِّ، فَلَوْ أَدْخَلْنَا مَعَهُمْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ فِي الثُّلُثِ بَلْ يُزَاحِمُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ مِنْهُمْ، إلْغَاءً لِقَرَابَةِ الْأَبِ، قِيلَ: هَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فَذَكَرَ حُكْمَ وَاحِدِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ حُكْمًا يَخْتَصُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدُهُمْ، وَقَالَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَذَكَرَ حُكْمَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأَبَوَيْنِ وَاحِدِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَهُوَ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ جَمَاعَتُهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدُهُمْ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَكَذَا حُكْمُ وَلَدِ الْأُمِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ غَيْرُ الْآخَرِ، فَلَا يُشَارِكُ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ الْآخَرَ، وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّانِي هُوَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْأَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ وَلَدُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا فَسَّرَتْهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ " مِنْ أُمٍّ " وَهِيَ تَفْسِيرٌ وَزِيَادَةُ إيضَاحٍ، وَإِلَّا فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ السِّيَاقِ وَلِهَذَا ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - وَلَدَ الْأُمِّ فِي آيَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمْ أَصْحَابُ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهُ، وَلَا حَظَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي التَّعْصِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَحَدًا مِنْ الْعَصَبَةِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي آيَةِ الْعَمُودَيْنِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لِجِنْسِهِمْ حَظًّا فِي التَّعْصِيبِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَالزَّوْجَيْنِ: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْعَمُودَيْنِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُ ضِرَارَ الزَّوْجِ وَوَلَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عَصَبَتِهِ بِخِلَافِ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يُضَارُّهُمْ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ أَعْطَى وَلَدَ الْأُمِّ الثُّلُثَ لَمْ يَجُزْ تَنْقِيصُهُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ فَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ وَهُمْ عَصَبَتُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تُبْقِ الْفَرَائِضُ شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِسِ " هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا " فَقَوْلٌ بَاطِلٌ حِسًّا وَشَرْعًا، فَإِنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ حِمَارًا لَكَانَتْ الْأُمُّ أَتَانًا، وَإِذَا قِيلَ: يُقَدَّرُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ كَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ شَرْعًا فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - حَكَمَ فِي وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فِي وَلَدِ الْأُمِّ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَبُ إنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمْ يَضُرَّهُمْ. قِيلَ: بَلْ قَدْ يَضُرُّهُمْ كَمَا يَنْفَعُهُمْ، فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَوَلَدُ الْأَبَوَيْنِ مِائَةً وَفَضَلَ نِصْفُ سُدُسٍ انْفَرَدَ وَلَدُ الْأُمِّ بِالسُّدُسِ، وَاشْتَرَكَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي نِصْفِ السُّدُسِ، فَهَلَّا قَبِلْتُمْ قَوْلَهُمْ هَهُنَا هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا؟ وَهَلَّا قَدَّرْتُمْ الْأَبَ مَعْدُومًا فَخَرَجْتُمْ عَنْ الْقِيَاسِ كَمَا خَرَجْتُمْ عَنْ النَّصِّ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يُنْقِصَهُمْ الْأَبُ جَازَ أَنْ يَحْرِمَهُمْ، وَأَيْضًا فَالْقَرَابَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُلْتَئِمَةُ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لَا تُفَرَّقُ أَحْكَامُهَا، هَذِهِ قَاعِدَةُ النَّسَبِ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، فَالْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا نَجْعَلُهُ كَأَخٍ مِنْ أَبٍ وَأَخٍ مِنْ أُمٍّ فَنُعْطِيهِ السُّدُسَ فَرْضًا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْبَاقِي تَعْصِيبًا بِقَرَابَةِ الْأَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْقَرَابَتَيْنِ، فَقُلْتُمْ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ: يُعْطَى الْأَخُ لِلْأُمِّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ السُّدُسَ وَيُقَاسِمُ ابْنُ الْعَمِّ بِقَرَابَةِ الْعُمُومَةِ. قِيلَ: نَعَمْ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ شُرَيْحٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ أَعْطَى الْجَمِيعَ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي بُنُوَّةِ الْعَمِّ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الْأُخُوَّةُ لِلْأُمِّ فَمُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُقْتَرِنَةً بِأُبُوَّةٍ حَتَّى يُجْعَلَ كَابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبَوَيْنِ، فَهَهُنَا قَرَابَةُ الْأُمِّ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ قَرَابَةِ الْعُمُومَةِ، بِخِلَافِ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ بِقَرَابَةِ الْأَبِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ عَدَمَ التَّشْرِيكِ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا أَخَوَاتٌ لِأَبٍ لَفُرِضَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَعَالَتْ الْفَرِيضَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ سَقَطْنَ بِهِ، وَيُسَمَّى الْأَخَ الْمَشْئُومَ، فَلَمَّا كُنَّ بِوُجُودِهِ يَصِرْنَ عَصَبَةً صَارَ تَارَةً يَنْفَعُهُنَّ وَتَارَةً يَضُرُّهُنَّ، وَلَمْ يُجْعَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حَالِ الضِّرَارِ، فَكَذَلِكَ قَرَابَةُ الْأَبِ لَمَّا صَارَ الْإِخْوَةُ بِهَا عَصْبَةً صَارَ يَنْفَعُهُمْ تَارَةً وَيَضُرُّهُمْ أُخْرَى، وَهَذَا شَأْنُ الْعَصَبَةِ فَإِنَّ الْعَصَبَةَ تَارَةً تَحُوزُ الْمَالَ وَتَارَةً تَحُوزُ أَكْثَرَهُ وَتَارَةً تَحُوزُ أَقَلَّهُ وَتَارَةً تَخِيبُ، فَمَنْ أَعْطَى الْعَصَبَةَ مَعَ اسْتِغْرَاقِ الْفُرُوضِ الْمَالَ خَرَجَ عَنْ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَعَنْ مُوجَبِ النَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. قِيلَ: لَكِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ حَيْثُ يُؤْخَذُ حَقُّهُمْ وَيُعْطَاهُ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يَعْقِلُونَ عَنْ الْمَيِّتِ وَيُنْفِقُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُشَارِكُوا مَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يُنْفِقُ فِي مِيرَاثِهِ، فَعَاقِلَةُ الْمَرْأَةِ - مِنْ أَعْمَامِهَا وَبَنِي عَمِّهَا وَإِخْوَتِهَا - يَعْقِلُونَ عَنْهَا، وَمِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْقِلَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ وَيَكُونَ الْمِيرَاثُ لِوَلَدِ الْأُمِّ. [الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُمَرِيَّتَانِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ فِيهَا كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى إعْطَائِهَا الثُّلُثَ كَامِلًا مَعَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الطَّرِيقَيْنِ. وَالثَّانِي: دَلَالَتُهُ عَلَى إعْطَائِهَا ثُلُثَ الْبَاقِي، وَهُوَ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا أَعْطَاهَا الثُّلُثَ كَامِلًا إذَا انْفَرَدَ الْأَبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - سُبْحَانَهُ -: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] شَرَطَ أَنَّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ عَدَمَ الْوَلَدِ وَتَفَرُّدَهُمَا بِمِيرَاثِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تَفَرَّدَا بِمِيرَاثِهِ، قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ تَفَرُّدُهُمَا شَرْطًا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فَائِدَةٌ، وَكَانَ تَطْوِيلًا يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " فَلَمَّا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] عُلِمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُمِّ الثُّلُثَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأُمِّ كُلَّهَا نَصًّا وَإِيمَاءً، فَذَكَرَ أَنَّ لَهَا السُّدُسَ مَعَ الْإِخْوَةِ وَأَنَّ لَهَا الثُّلُثَ كَامِلًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَتَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ، بَقِيَ لَهَا حَالَةٌ ثَالِثَةٌ - وَهِيَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ تَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ - وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَإِمَّا أَنْ تُعْطَى فِي هَذِهِ الْحَالِ الثُّلُثَ كَامِلًا وَهُوَ خِلَافُ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ تُعْطَى السُّدُسَ فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضَهَا إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مَعَ الْوَلَدِ وَمَعَ الْإِخْوَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا وَهَذَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَبَوَانِ، وَلَا يُشَارِكُهُمَا فِيهِ مُشَارِكٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ كُلِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجٌ وَلَا زَوْجَةٌ، فَإِذَا تَقَاسَمَاهُ أَثْلَاثًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَتَقَاسَمَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ تَأْخُذُونَ حُكْمَهَا إذَا وَرِثَتْهُ الْأُمُّ [وَ] مَنْ دُونَ الْأَبِ كَالْجَدِّ وَالْعَمِّ وَالْأَخِ وَابْنِهِ؟ قِيلَ: إذَا كَانَتْ تَأْخُذُ الثُّلُثَ مَعَ الْأَبِ فَأَخْذُهَا لَهُ مَعَ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْعَصَبَاتِ أَوْلَى، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ أَعْطَيْتُمُوهَا الثُّلُثَ كَامِلًا إذَا كَانَ مَعَهَا وَمَعَ هَذِهِ الْعَصَبَةِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْأَبِ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا جَعَلَ لَهَا الثُّلُثَ كَامِلًا إذَا انْفَرَدَ الْأَبَوَانِ بِمِيرَاثِهِ عَلَى مَا قَرَرْتُمُوهُ فَإِذَا كَانَ جَدٌّ وَأُمٌّ أَوْ عَمٌّ وَأُمٌّ أَوْ أَخٌ وَأُمٌّ أَوْ ابْنُ عَمٍّ أَوْ ابْنُ أَخٍ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَمِنْ أَيْنَ أَعْطَيْتُ الثُّلُثَ كَامِلًا، وَلَمْ يَنْفَرِدْ الْأَبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ؟ قِيلَ: بِالتَّنْبِيهِ وَدَلَالَةِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهَا إذَا أَخَذَتْ الثُّلُثَ كَامِلًا مَعَ الْأَبِ فَلَأَنْ تَأْخُذَهُ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ أَوْلَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَعَ هَذِهِ الْعَصَبَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ، وَلَوْ اسْتَوْعَبَتْ الْفُرُوضُ الْمَالَ سَقَطَ، كَأُمٍّ وَزَوْجٍ وَأَخٍ لِأُمٍّ، بِخِلَافِ الْأَبِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ تَأْخُذُونَ حُكْمَهَا إذَا كَانَ مَعَ الْعَصَبَةِ ذُو فَرْضٍ غَيْرَ الْبَنَاتِ وَالزَّوْجَةِ؟ قِيلَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ وَلَدِ الْأُمِّ أَوْ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ وَاحِدَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ أَعْطَاهَا السُّدُسَ مَعَ الْإِخْوَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَأْخُذُ الثُّلُثَ مَعَ الْوَاحِدِ إذْ لَيْسَ بِإِخْوَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بَقِيَ الْأُخْتَانِ وَالْأَخَوَانِ، فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَجُمْهُورُهُمْ أَدْخَلُوا الِاثْنَيْنِ فِي لَفْظِ الْإِخْوَةِ، وَأَبَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَظَرُهُ أَقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَنَظَرُ الصَّحَابَةِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْنَى وَأَوْلَى بِهِ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ إنَّمَا حَجَبُوهَا إلَى السُّدُسِ لِزِيَادَةِ مِيرَاثِهِمْ عَلَى مِيرَاثِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ أَخًا وَاحِدًا لَكَانَ لَهَا الثُّلُثُ مَعَهُ، فَإِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ وَلَدَ أُمٍّ كَانَ فَرْضُهُمْ الثُّلُثَ اثْنَيْنِ كَانَا أَوْ مِائَةً، فَالِاثْنَانِ وَالْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كُنَّ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَفَرْضُ الثِّنْتَيْنِ وَمَا زَادَ وَاحِدٌ، فَحَجْبُهَا عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِاثْنَيْنِ كَحَجْبِهَا بِثَلَاثَةٍ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا الْفَهْمُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ فَهْمِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ طَرْدُ ذَلِكَ فِي الذُّكُورِ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأَبَوَيْنِ لِمَعْنًى يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ تَوْفِيرُ السُّدُسِ الَّذِي حُجِبَتْ عَنْهُ لَهُمْ لِزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْوَاحِدِ نَظَرًا لَهُمْ وَرِعَايَةً لِجَانِبِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ اخْتَصَّ بِهِ الْجَمَاعَةُ عَنْ الْوَاحِدِ اشْتَرَكَ فِيهِ الِاثْنَانِ وَمَا فَوْقَهُمَا كَوَلَدِ الْأُمِّ وَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، وَالْحَجْبُ هَهُنَا قَدْ اخْتَصَّ بِهِ الْجَمَاعَةُ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الِاثْنَانِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْمِيزَانُ الْمُوَافِقُ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَفَهْمِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الثِّنْتَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمَا فِي الْحُكْمِ كَمَا سَيَأْتِي. فَهَكَذَا دُخُولُ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِخْوَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الْإِخْوَةِ كَلَفْظِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الَّذِي جَاوَزَ الْوَاحِدَ وَإِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى اثْنَيْنِ، فَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِالْجَمْعِ مِنْ ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ الِاثْنَانِ كَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَفْظُ الْجَمْعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الْمُتَكَثِّرِ أَعَمَّ مِنْ تَكْثِيرِهِ بِوَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْمَثْنَى قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَدُّدُهُ بِوَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، نَحْوُ: {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَدَلَالَتُهُمَا حِينَئِذٍ عَلَى الْجِنْسِ الْمُتَكَثِّرِ، وَأَيْضًا فَاسْتِعْمَالُ الِاثْنَيْنِ فِي الْجَمْعِ بِقَرِينَةٍ وَاسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ بِقَرِينَةٍ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَخَ الْوَاحِدَ وَالْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ فَوْقَهُمَا، وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ وَسَائِرُ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ قَدْ يُعْنَى بِهِ الْجِنْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعَدُّدِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] وَقَدْ يُعْنَى بِهِ الْعَدَدُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ بَلْ لِجِنْسِ التَّعَدُّدِ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِ الِاثْنَانِ وَمَا زَادَ، وَالثَّالِثُ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ فَمَا زَادَ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَإِذَا قُيِّدَ اخْتَصَّ بِمَا قُيِّدَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فَقَوْلُهُ: {كَانُوا} [النساء: 12] ضَمِيرُ جَمْعٍ، ثُمَّ قَالَ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فَذَكَرَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُضْمَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَهُمْ} [النساء: 12] وَالْمُظْهَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {شُرَكَاءُ} [النساء: 12] وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا قَوْلَهُ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] فَذَكَرَ حُكْمَ الْوَاحِدِ وَحُكْمَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ قَطْعًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 12] أَيْ أَكْثَرَ مِنْ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأُخْتِ وَالْأَخِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي الْفَرَائِضِ تَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، ثَلَاثَةً كَانَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ قَدْ يَخْتَصُّ بِالِاثْنَيْنِ مَعَ الْبَيَانِ وَعَدَمِ اللَّبْسِ، كَالْجَمْعِ الْمُضَافِ إلَى اثْنَيْنِ مِمَّا يَكُونُ الْمُضَافُ فِيهِ جُزْءًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ كَجُزْئِهِ، نَحْوُ " قُلُوبِهِمَا " وَ " أَيْدِيهِمَا " فَكَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ مِمَّا فَوْقَهُمَا مَعَ الْبَيَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: اخْتِصَاصُهُ بِالِاثْنَيْنِ. الثَّانِيَةُ: صَلَاحِيَّتُهُ لَهُمَا. الثَّالِثَةُ: اخْتِصَاصُهُ بِمَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَهَذِهِ الْحَالُ لَهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ تَقْيِيدِهِ فَبِحَسَبِ مَا قُيِّدَ بِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَظَهَرَ أَنَّ فَهْمَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ أَحْسَنُ مِنْ فَهْمِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَجْبِ الْأُمِّ بِالِاثْنَيْنِ، كَمَا فَهْمُهُمْ فِي الْعُمَرِيَّتَيْنِ أَتَمُّ مِنْ فَهْمِهِ، وَقَوَاعِدُ الْفَرَائِضِ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ كَالِابْنِ وَالْبِنْتِ وَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الذَّكَرُ ضِعْفَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى أَوْ يُسَاوِيهَا، فَأَمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْأُنْثَى ضِعْفَ الذَّكَرِ فَهَذَا خِلَافُ قَاعِدَةِ الْفَرَائِضِ الَّتِي أَوْجَبَهَا شَرْعُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ، وَقَدْ عَهِدْنَا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَعْطَى الْأَبَ ضِعْفَ مَا أَعْطَى الْأُمَّ إذَا انْفَرَدَ الْأَبَوَانِ بِمِيرَاثِ الْوَلَدِ، وَسَاوَى بَيْنَهُمَا فِي وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَمْ يُفَضِّلْهَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ جَعْلُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ نَصِيبِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَثْلَاثًا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ أَوْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْمَالِ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِدَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ إذْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، وَمَا يَأْخُذُهُ الْأَبَوَانِ يَأْخُذَانِهِ بِالْقَرَابَةِ، فَصَارَا هُمَا الْمُسْتَقِلَّيْنِ بِمِيرَاثِ الْوَلَدِ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا فِي طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقُسِمَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَهُنَا سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ هَلَّا أَعْطَيْتُمُوهَا ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ إذَا أَخَذَتْ الرُّبْعَ وَأَخَذَتْ هِيَ الثُّلُثَ كَانَ الْبَاقِي لِلْأَبِ وَهُوَ أَكْثَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مِنْ الَّذِي أَخَذَتْهُ، فَوَفَّيْتُمْ حِينَئِذٍ بِالْقَاعِدَةِ، وَأَعْطَيْتُمُوهَا الثُّلُثَ كَامِلًا؟ وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ هَلَّا جَعَلْتُمْ لَهَا ثُلُثَ الْبَاقِي إذَا كَانَ بَدَلَ الْأَبِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَدٌّ؟ قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ ذَاهِبُونَ مِنْ السَّلَفِ الطَّيِّبِ، فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَى الثَّانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ، وَقَوْلُهُمْ أَصَحُّ فِي الْمِيزَانِ وَأَقْرَبُ إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّا لَوْ أَعْطَيْنَاهَا الثُّلُثَ كَامِلًا بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ كُنَّا قَدْ خَرَجْنَا عَنْ قَاعِدَةِ الْفَرَائِضِ وَقِيَاسِهَا، وَعَنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ الْأَبَ حِينَئِذٍ يَأْخُذُ رُبْعًا وَسُدُسًا، وَالْأُمُّ لَا تُسَاوِيهِ وَلَا تَأْخُذُ شَطْرَهُ، وَهِيَ فِي طَبَقَتِهِ، وَهَذَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ قَطُّ، وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ لَا تَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ فَإِنَّ الْجَدَّ أَبْعَدُ مِنْهَا، وَهُوَ يُحْجَبُ بِالْأَبِ، فَلَيْسَ فِي طَبَقَتِهَا فَلَا يَحْجُبُهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطَى ثُلُثَ الْبَاقِي وَيُفَضَّلُ الْجَدُّ عَلَيْهَا بِمِثْلِ مَا تَأْخُذُ، فَإِنَّهَا أَقْرَبُ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي دَرَجَتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطَى السُّدُسَ، فَكَانَ فَرْضُهَا الثُّلُثَ كَامِلًا. وَهَذَا مِمَّا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ النُّصُوصِ بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، أَوْ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوْلَى، أَوْ بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي فِيهِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَشْبَهِ الْأَصْلَيْنِ بِهِ، أَوْ تَنْبِيهِ اللَّفْظِ، أَوْ إشَارَتِهِ وَفَحْوَاهُ، أَوْ بِدَلَالَةِ التَّرْكِيبِ، وَهُوَ ضَمُّ نَصٍّ إلَى نَصٍّ آخَرَ، وَهِيَ غَيْرُ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ، بَلْ هِيَ أَلْطَفُ مِنْهَا وَأَدَقُّ وَأَصَحُّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأُمَّ مَعَ الْأَبِ كَالْبِنْتِ مَعَ الِابْنِ وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الزَّوْجَ ضِعْفَ مَا أَعْطَى الزَّوْجَةَ تَفَضُّلًا لِجَانِبِ الذُّكُورِيَّةِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا فِي وَلَدِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ وَيُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ وَهُوَ الْأُمُّ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَعْصِيبٌ، بِخِلَافِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِنَّهُمْ يُدْلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَائِرُ الْعَصَبَةِ يُدْلُونَ بِذَكَرٍ كَوَلَدِ الْبَنِينَ وَكَالْإِخْوَةِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، فَإِعْطَاءُ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ يُدْلِي بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَصَبَةٍ، وَأَمَّا مَنْ يُدْلِي بِالْأُمُومَةِ كَوَلَدِ الْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ، وَكَانَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فِي الْأَخْذِ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فِي بَابِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَا فِي بَابِ الْأُبُوَّةِ وَلَا الْبُنُوَّةِ وَلَا الْأُخُوَّةِ، فَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ، وَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ تَنَاظَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْعُمَرِيَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إعْطَاؤُهَا الثُّلُثَ كُلَّهُ مَعَ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالَ، بَلْ كِتَابُ اللَّهِ يَمْنَعُ إعْطَاءَهَا الثُّلُثَ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْطَاهَا الثُّلُثَ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الزَّوْجِ لَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَكَانَتْ تَسْتَحِقُّهُ مُطْلَقًا، فَلَمَّا خَصَّ الثُّلُثَ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّهُ مُطْلَقًا، وَلَوْ أَعْطَيْتَهُ مُطْلَقًا لَكَانَ قَوْلُهُ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ وَنَقْصًا فِي الْمَعْنَى، وَكَانَ ذِكْرُهُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطَى السُّدُسَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ لَهَا مَعَ الْوَلَدِ أَوْ الْإِخْوَةِ، فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُعْطَى السُّدُسَ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا تُعْطَى الثُّلُثَ، وَكَانَ قِسْمَةُ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِثْلَ قِسْمَةِ أَصْلِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَصْلًا لَا فِي الْقِيَاسِ وَلَا فِي الْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ هَذِهِ دَلَالَةٌ خِطَابِيَّةٌ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ مَحْضَةٌ؟ قِيلَ: هِيَ ذَاتُ وَجْهَيْنِ: فَهِيَ لَفْظِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْخِطَابِ، وَضَمِّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ، وَاعْتِبَارِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَقِيَاسِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَأَكْثَرُ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» وَقَوْلِهِ: «أَيُّمَا رَجُلٍ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ شِرْكًا لَهُ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ» حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْحَوَانِيتَ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] فَخَصَّ الْإِنَاثَ بِاللَّفْظِ، إذْ كُنَّ سَبَبَ النُّزُولِ، فَنَصَّ عَلَيْهِمْ بِخُصُوصِهِنَّ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ فَهْمِ مَنْ قَالَ مِنْ جَهْلِ الظَّاهِرِ: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْفُرُوجُ الْمُحْصَنَاتُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَفْهَمُهُ السَّامِعُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَلَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] . وَلَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] وَلَا مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] بَلْ هَذَا مِنْ عُرْفِ الشَّارِعِ، حَيْثُ يُعَبِّرُ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ عَنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَهَذَا غَيْرُ بَابِ الْقِيَاسِ. وَهَذَا تَارَةً يَكُونُ لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْخَاصِّ صَارَ فِي الْعُرْفِ عَامًّا كَقَوْلِهِ: " لَا يَمْلِكُونَ نَقِيرًا "، وَ {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] ، {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] وَنَحْوِهِ، وَتَارَةً لِكَوْنِهِ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ تَعْمِيمُ الْمَعْنَى لِكُلِّ مَا كَانَ مُمَاثِلًا لِلْمَذْكُورِ، وَأَنَّ التَّعْيِينَ فِي اللَّفْظِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّخْصِيصُ بَلْ التَّمْثِيلُ، أَوْ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِ إلَى تَعْيِينِهِ بِالذِّكْرِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ. [فَصَلِّ مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ] فَصْلٌ: [مَسْأَلَةُ مِيرَاثِ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِيرَاثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ وَأَنَّهُنَّ عَصَبَةٌ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا أَوْجَبَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ هُوَ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ مَعَ عَدَمِ وَلَدِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ لَهَا النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ، وَنَقْصًا فِي الْمَعْنَى، وَإِيهَامًا لِغَيْرِ الْمُرَادِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَعَ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ النِّصْفَ، وَالْوَلَدُ إمَّا ذَكَرٌ وَإِمَّا أُنْثَى، فَأَمَّا الذَّكَرُ فَإِنَّهُ يُسْقِطُهَا كَمَا يُسْقِطُ الْأَخَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَدَلَّ قَوْلُهُ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يُسْقِطُهُ كَمَا يُسْقِطُهَا، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَأْخُذُ النِّصْفَ وَلَا تَمْنَعُ الْأَخَ عَنْ النِّصْفِ الْبَاقِي إذَا كَانَتْ بِنْتٌ وَأَخٌ، بَلْ دَلَّ الْقُرْآنُ مَعَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْأَخَ يَفُوزُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي مِيرَاثَ الْأُخْتِ مَعَ إنَاثِ الْوَلَدِ بِغَيْرِ جِهَةِ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا صَرِيحُهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ، فَبَقِيَ هَهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يُفْرَضَ لَهَا أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ، وَإِمَّا أَنْ تُحْرَمَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ، إذْ لَيْسَ لِلْأُخْتِ فَرْضٌ مُقَدَّرٌ غَيْرُ النِّصْفِ، فَلَوْ فَرَضْنَا لَهَا أَقَلَّ مِنْهُ لَكَانَ ذَلِكَ وَضْعَ شَرْعٍ جَدِيدٍ، فَبَقِيَ إمَّا الْحِرْمَانَ وَإِمَّا التَّعْصِيبَ، وَالْحِرْمَانُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، فَإِنَّهَا وَأَخَاهَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لَا تُزَاحِمُ الْبِنْتَ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ أَخُوهَا بِالْبِنْتِ لَمْ تَسْقُطْ هِيَ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ بِالْبِنْتِ وَلَمْ يَسْقُطْ أَخُوهَا بِهَا لَكَانَ أَقْوَى مِنْهَا وَأَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلَوْ أَسْقَطَتْهَا الْبِنْتُ إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ أَخِيهَا لَأَسْقَطَتْهَا مَعَ أَخِيهَا، فَإِنَّ أَخَاهَا لَا يَزِيدُهَا قُوَّةً، وَلَا يُحَصِّلُ لَهَا نَفْعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا مُضِرًّا لَهَا ضَرَرَ نُقْصَانٍ أَوْ ضَرَرَ حِرْمَانٍ، كَمَا إذَا خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَإِنَّهَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ عَائِلًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَخُوهَا سَقَطَا مَعًا، وَلَا تَنْتَفِعُ لَهُ فِي الْفَرَائِضِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَسْقَطَتْهَا الْبِنْتُ إذَا انْفَرَدَتْ لَأَسْقَطَتْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مَعَ مَنْ يُضَعِّفُهَا وَلَا يُقَوِّيهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبِنْتَ إذَا لَمْ تُسْقِطُ ابْنَ الْأَخِ وَابْنَ الْعَمِّ وَابْنَ عَمِّ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ بَعُدَ فَأَنْ لَا تُسْقِطَ الْأُخْتَ مَعَ قُرْبِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ إسْقَاطُ الْبَعِيدِ بِالْقَرِيبِ، وَتَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ، وَهَذَا عَكْسُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَقْدِيمُ الْأَبْعَدِ جِدًّا الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَسَائِطُ كَثِيرَةٌ عَلَى الْأَقْرَبِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ إلَّا وَاسِطَةُ الْأَبِ وَحْدَهُ، فَكَيْفَ يَرِثُ ابْنُ عَمِّ جَدِّ الْمَيِّتِ مَثَلًا مَعَ الْبِنْتِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَسَائِطُ كَثِيرَةٌ وَتُحْرَمُ الْأُخْتُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي رَكَضَتْ مَعَهُ فِي صُلْبِ أَبِيهِ وَرَحِمِ أُمِّهِ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ شَرْعًا، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمِيزَانِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ فَهْمِ النَّصِّ فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي الْأَخِ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مِيرَاثَهُ مِنْهَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى، فَهَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] لَا يَنْفِي أَنْ تَرِثَ غَيْرَ النِّصْفِ مَعَ إنَاثِ الْوَلَدِ أَوْ تَرِثَ الْبَاقِيَ إذَا كَانَ نِصْفًا؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا إيَّاهُ، فَرْضًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ جِدًّا، وَأَيْضًا فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يُقَالَ يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْبِنْتِ، أَوْ يُقَالَ تَسْقُطُ مَعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ يُقَالَ تَأْخُذُ مَا فَضَلَ بَعْدَ فَرْضِ الْبِنْتِ أَوْ الْبَنَاتِ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا فَرَضَ لَهَا النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ هَذَا الشَّرْطِ وَفَرْضُ النِّصْفِ لَهَا مَعَ وُجُودِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا أَعْطَاهَا النِّصْفَ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ كَلَالَةً فَلَا يُفْرَضُ لَهَا مَعَهُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهَا لَوْ فُرِضَ لَهَا النِّصْفُ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ لَنَقَصَتْ الْبِنْتُ عَنْ النِّصْفِ إذَا عَالَتْ الْفَرِيضَةُ كَزَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ وَبِنْتٍ وَأُخْتٍ وَإِخْوَةٍ، وَالْإِخْوَةُ لَا يُزَاحِمُونَ الْأَوْلَادَ لَا بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَإِنَّ الْأَوْلَادَ أَوْلَى مِنْهُمْ، فَبَطَلَ فَرْضُ النِّصْفِ، وَبَطَلَ سُقُوطُهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً لَهَا مَا بَقِيَ، وَهِيَ أَوْلَى بِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ مِنْهَا، وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَافَقَ قَضَاؤُهُ كِتَابَ رَبِّهِ وَالْمِيزَانَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ كِتَابِهِ، وَبِذَلِكَ قَضَى الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: لَكِنْ خَرَجْتُمْ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَإِذَا أَعْطَيْنَا الْبِنْتَ فَرْضَهَا وَجَبَ أَنْ يُعْطَى الْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ أَوْ الْعَمِّ أَوْ ابْنِهِ دُونَ الْأُخْتِ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ ذَكَرٌ، فَأَنْتُمْ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذَا النَّصِّ وَأَعْطَيْتُمُوهُ الْأُنْثَى، فَكُنَّا أَسْعَدَ بِالنَّصِّ مِنْكُمْ، وَعَمِلْنَا بِهِ وَبِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ أَعْطَى الْبِنْتَ النِّصْفَ وَبِنْتَ الِابْنِ السُّدُسَ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، فَكَانَتْ الْأُخْتُ عَصَبَةً، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ قَوْلِكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ أَسْقَطَ الْأُخْتَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَسُقُوطُهَا بِالْكُلِّيَّةِ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: رَجُلٌ تَرَكَ ابْنَتَهُ، وَأُخْتَهُ لِأَبِيهِ، وَأُمَّهُ، فَقَالَ: لِابْنَتِهِ النِّصْفُ وَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلَيْسَ لِأُخْتِهِ مِمَّا تَرَكَ، وَهُوَ لِعَصَبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إنَّ عُمَرَ قَضَى بِغَيْرِ ذَلِكَ جَعَلَ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ طَاوُسٍ فَقَالَ لِي: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَتَجِدُونَهُ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ، مِيرَاثُ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فَالْجَوَابُ أَنَّ نُصُوصَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَجِبُ الْأَخْذُ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يُتْرَكُ لَهُ نَصٌّ إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ نَاسِخٍ لَهُ، لَا يُتْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا رَأْيٍ وَلَا عَمَلِ أَهْلِ بَلَدٍ وَلَا إجْمَاعٍ، وَمُحَالٌ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ نَصٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصٌّ آخَرُ يَنْسَخُهُ، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» عَامٌّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ: عَتِيقُهَا، وَلَقِيطُهَا، وَوَلَدُهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا عَصَبَةُ عَتِيقِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا عَصَبَةَ لَقِيطِهَا وَوَلَدِهَا الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَإِذَا خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّوَرُ بِالنَّصِّ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ خُصَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» إنَّمَا هُوَ فِي الْأَقَارِبِ الْوَارِثِينَ بِالنَّسَبِ وَهَذَا لَا تَخْصِيصَ فِيهِ. قِيلَ فَأَنْتُمْ تُقَدِّمُونَ الْمُعْتِقَ عَلَى الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، وَلَيْسَ مِنْ الْأَقَارِبِ، فَخَالَفْتُمْ النَّصَّيْنِ مَعًا، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَأَكَّدَهُ بِالذُّكُورَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْعَاصِبَ بِنَفْسِهِ الْمَذْكُورَ هُوَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِ الرَّجُلِ مَا يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ» وَنَحْوِهِ مِمَّا يُذْكَرُ فِيهِ لَفْظُ الرَّجُلِ وَالْحُكْمُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ «فَابْنُ لَبُونِ ذَكَرٍ» لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الذَّكَرُ دُونَ الْأُنْثَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِلْعَاصِبِ بِغَيْرِهِ، فَدَلَّ قَضَاؤُهُ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي إعْطَاءِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ مَا بَقِيَ أَنَّ الْأُخْتَ عَصَبَةٌ بِغَيْرِهَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» بَلْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، بَلْ كَانَ الْعَصَبَةُ عَصَبَةً بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ أَوْلَاهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ أَحَقَّهُمْ بِالْمَالِ، وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ الْعَصَبَتَانِ فَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الصَّحِيحُ أَنَّ تَعْصِيبَ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ تَعْصِيبِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ أَعْطَاهَا الْبَاقِيَ وَلَمْ يُعْطِهِ لِابْنِ عَمِّهِ مَعَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ بَنُو عَمٍّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَقَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَا حَكَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءً عَامًّا كُلِّيًّا، فَالْأَمْرُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَظْهَرَ وَأَظْهَرَ. فَصْلٌ وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ - قَوْله تَعَالَى -: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] إنَّمَا يَدُلُّ مَنْطُوقُهُ عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَالْمَفْهُومُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَفْصِيلٌ حَصَلَ بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ مُخَالِفَةً لِكُلِّ صُوَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الْمَنْطُوقِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ تَوَهَّمَ بَاطِلًا، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ فَانْتَفَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَوْ جَمِيعُهَا جَازَ أَنْ يَخْلُفَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى. وَأَمَّا قَصْدُ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالتَّفْصِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا نَفَيْنَا إرْثَهَا مَعَ ذُكُورِ الْوَلَدِ أَوْ نَفَيْنَا إرْثَهَا النِّصْفَ فَرْضًا مَعَ إنَاثِهِمْ وَفَّيْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. فَصْلٌ [الْمُرَادُ بِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ فِي الْمَوَارِيثِ] وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ أَوْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ وَبَنُو ابْنٍ لَمْ يَنْفَرِدْ الذَّكَرُ بِالْبَاقِي دُونَ الْإِنَاثِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَتَعْصِيبُ الْأُخْتِ بِالْبِنْتِ كَتَعْصِيبِهَا بِأَخِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» مُوجِبًا لِاخْتِصَاصِ أَخِيهَا دُونَهَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِاخْتِصَاصِ ابْنِ عَمِّ الْجَدِّ بِالْبَاقِي دُونَهَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهَا أَخُوهَا لَمْ تَسْقُطْ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْبَنَاتِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخِيهَا. هَذَا، وَأَخُوهَا أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُسْقِطْهَا الْأَخُ فَلَأَنْ لَا يُسْقِطَهَا ابْنُ عَمِّ الْجَدِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِذَا لَمْ يُسْقِطْهَا وَرِثَتْ دُونَهُ، لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَخِ فَإِنَّهَا تُشَارِكُهُ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ مِنْ الْمَيِّتِ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ الْمُوَافِقِ لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَلِقَضَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا تَخْصِيصَ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَفْقَهُ وَأَلْطَفُ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ جِنْسَ أَهْلِ الْفُرُوضِ فِيهَا مُقَدَّمُونَ عَلَى جِنْسِ الْعَصَبَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَا فَرْضٍ مَحْضٍ أَوْ كَانَ لَهُ مَعَ فَرْضِهِ تَعْصِيبٌ فِي حَالٍ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ، وَالْأَخَوَاتُ مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْفَرَائِضِ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُنَّ عَلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ مِمَّنْ لَا يَرِثُ إلَّا بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْضِ كَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ وَبَنِي الْإِخْوَةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حِرْمَانِهِنَّ مَعَ الْبَنَاتِ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى حِرْمَانِهِنَّ مَعَ إخْوَتِهِنَّ وَحِرْمَانِ بَنَاتِ الِابْنِ، بَلْ الْبَنَاتِ أَنْفُسِهِنَّ مَعَ إخْوَتِهِنَّ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا الْآخَرُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ أَنَّا رَأَيْنَا قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْبَعِيدَ مِنْ الْعَصَبَاتِ يُعَصِّبُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرْضٌ، كَمَا إذَا كَانَ بَنَاتٌ وَبَنَاتُ ابْنٍ وَأَسْفَلُ مِنْهُنَّ ابْنُ ابْنِ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فَيَحْصُلُ لَهُنَّ الْمِيرَاثُ بَعْدَ أَنْ كُنَّ مَحْرُومَاتٍ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَعِيدَ مِنْ الْعَصَبَاتِ يَمْنَعُ الْأَقْرَبَ مِنْ الْمِيرَاثِ بَعْدَ أَنْ كَانَ وَارِثًا فَهَذَا مُمْتَنِعٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَهُوَ عَكْسُ قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَفِي الْحَدِيثِ مَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ» وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا كَانُوا كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ بِالْفِعْلِ كَانَ الْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ بِالْقُوَّةِ وَإِنْ حُجِبَ عَنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِهِ دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ مَعَهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ إذَا كَانَ أَهْلُ الْفَرَائِضِ مُطْلَقًا مَعْدُومِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ مِيرَاثُ الْبَنَاتِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِيرَاثُ الْبَنَاتِ وَقَدْ دَلَّ صَرِيحُ النَّصِّ عَلَى أَنَّ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفَ وَلِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، بَقِيَ الثِّنْتَانِ، فَأَشْكَلَ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى حُكْمِهِمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَقَالُوا: إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأُخْتَيْنِ. قَالُوا: وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - نَصَّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ دُونَ الْأَخَوَاتِ، وَنَصَّ عَلَى الْبَنَاتِ دُونَ الْبِنْتَيْنِ، فَأَخَذْنَا حُكْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنْ الْأُخْرَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ أُخِذَ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْأَخْذِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَخَذْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَإِذَا أَخَذَ الذَّكَرُ الثُّلُثَيْنِ وَالْأُنْثَى الثُّلُثَ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا كَانَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ، لَا الرُّبْعُ، فَأَنْ يَكُونَ لَهَا الثُّلُثُ مَعَ الْأُنْثَى أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا مِنْ تَنْبِيهِ النَّصِّ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَخَذْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَقُيِّدَ النِّصْفُ بِكَوْنِهَا وَاحِدَةً، فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهَا إلَّا فِي حَالِ وَحْدَتِهَا، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا مِثْلُهَا فَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَهَا عَنْ النِّصْفِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} [النساء: 11] وَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَغْوًا مُوهِمًا خِلَافَ الْمُرَادِ بِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ انْتِقَالُ الْفَرْضِ مِنْ النِّصْفِ إلَى مَا فَوْقَهُ وَهُوَ الثُّلُثَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَالْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِمَا فَوْقَهُمَا؟ قِيلَ: حُسْنُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَتَأْلِيفِهِ وَمُطَابِقَةِ مُضْمَرِهِ لِظَاهِرِهِ أَوْجَبَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَالضَّمِيرُ فِي: {كُنَّ} [النساء: 11] مَجْمُوعٌ يُطَابِقُ الْأَوْلَادَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ نِسَاءً فَذَكَرَ لَفْظَ الْأَوْلَادِ وَهُوَ جَمْعٌ وَضَمِيرَ: {كُنَّ} [النساء: 11] وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ وَ: {نِسَاءً} [النساء: 11] وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ". وَفِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَدْ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَاحِدَةِ نَصًّا وَمِيرَاثَ الِاثْنَيْنِ تَنْبِيهًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَتِهِنَّ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ كَمَا زَادَ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْأُخْرَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِيرَاثَ الِاثْنَتَيْنِ قَدْ عُلِمَ مِنْ النَّصِّ، فَلَوْ قَالَ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] كَانَ تَكْرِيرًا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ حُكْمُ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْجَمْعِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْإِيجَازِ، وَتَطَابَقَ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ وَحَسُنَ تَأْلِيفُهُ وَتَنَاسُبُهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ سِيَاقِ آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فَلَمْ يَتَقَدَّمْ اسْمُ جَمْعٍ وَلَا ضَمِيرُ جَمْعٍ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْوَاحِدَةِ وَأَنَّهُ النِّصْفُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ مِيرَاثِ الْأُخْتَيْنِ وَأَنَّهُ الثُّلُثَانِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْأُخْرَى إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا أَخَذَتْ نِصْفًا آخَرَ، وَدَلَّ تَشْرِيكُهُ بَيْنَ الْبَنَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ فِي الثُّلُثَيْنِ عَلَى تَشْرِيكِهِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْبَنَاتِ أَقْرَبُ مِنْ الْأَخَوَاتِ وَيُسْقِطْنَ فَرْضَهُنَّ، فَجَاءَ بَيَانُهُ - سُبْحَانَهُ - فِي كُلٍّ مِنْ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الِابْنَتَيْنِ بِمَا تَقَرَّرَ بَيْنَ مِيرَاثِ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَفِي آيَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الْأُخْتِ وَالْأُخْتَيْنِ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ مِيرَاثَ مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، إذْ قَدْ عُلِمَ بَيَانُ الزَّائِدِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ فِي مَنْ هُنَّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ اجْتِمَاعِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، فَاسْتَوْعَبَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ. [فَصَلِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ مَعَ الْبِنْتِ، وَسُقُوطُهَا إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ، دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا أَخْفَى مِنْ سَائِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَبَيَانُهَا أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الْبَنِينَ، دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] يَتَنَاوَلُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُمْ وَلَدُهُ وَوَلَدُ بَنِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِنْتٌ فَلَهَا النِّصْفُ، وَبَقِيَ مِنْ نَصِيبِ الْبَنَاتِ السُّدُسُ، فَإِذَا كَانَ ابْنُ ابْنٍ أَخَذَ الْبَاقِيَ كُلَّهُ بِالتَّعْصِيبِ لِلنَّصِّ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخَوَاتُهُ شَارَكْنَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُنَّ مَعَهُ عَصَبَةٌ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» لَا يَمْنَعُ أَنْ تَأْخُذَ الْأُنْثَى إذَا كَانَتْ عَصَبَةً بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا أَخَذَتْ الْأُخْتُ مَعَ الْبِنْتِ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْبِنْتِ إلَّا بَنَاتُ ابْنٍ فَقَدْ كُنَّ بِصَدَدِ أَخْذِ الثُّلُثَيْنِ لَوْلَا الْبِنْتُ، فَإِذَا أَخَذَتْ النِّصْفَ فَالسُّدُسُ الْبَاقِي لَا مَانِعَ لَهُنَّ مِنْ أَخْذِهِ فَيَفُزْنَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَنَاتٌ أَخَذْنَ جَمِيعَ الثُّلُثَيْنِ، فَإِذَا قُدِّمَتْ الْبِنْتُ عَلَيْهِنَّ بِالنِّصْفِ أَخَذْنَ بَقِيَّةَ الثُّلُثَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنَّ يَفُزْنَ بِهِمَا جَمِيعًا لَوْلَا الْبِنْتُ، وَهَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ أَعْطَيْتُمْ بَنَاتِ الِابْنِ إذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ وَكَانَ مَعَهُنَّ أَخُوهُنَّ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْبَاقِيَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ؟ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانٌ مُسْتَوْفًى، وَأَنَّ هَذَا حُكْمُ كُلِّ عَصَبَةٍ مَعَ وَارِثٍ مِنْ جِنْسِهِ فِي دَرَجَتِهِ كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الْأَعْمَامِ وَبَنِي الْإِخْوَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ عَصَّبَ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ مَنْ فَوْقَهُ وَلَيْسَ فِي دَرَجَتِهِ؟ قِيلَ: إذَا كَانَ يُعَصِّبُ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ أَنَّهُ أَنْزَلُ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَلَا يُسْقِطُهُ فَتَعْصِيبُهُ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِذَا كَانَ الْأَنْزَلُ لَا يَقْوَى هُوَ عَلَى إسْقَاطِهِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَى إسْقَاطِ الْأَعْلَى؟ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَا يُعَصِّبُ بِهِ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ، بَلْ يَخُصُّهُ بِالْبَاقِي. وَوَجْهُ قَوْلِهَا أَنَّهَا لَا تَرِثُ مُفْرَدَةً فَلَا تَرِثُ مَعَ أَخِيهَا، كَالْمَحْجُوبَةِ بِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ وَارِثَةً كَبِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ، فَإِنَّهَا وَارِثَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ مِمَّنْ يَسْتَفِيدُ التَّعْصِيبَ بِأَخِيهَا. وَهُنَا إنَّمَا سَقَطَ مِيرَاثُهَا بِالْفَرْضِ لِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهَا الثُّلُثَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمِيرَاثِ بِالْفَرْضِ سُقُوطُهُ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْأَخِ، وَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْأَخِ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً فَيَمْنَعُهَا الْمِيرَاثَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَوْلَاهُ وَرِثَتْ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْأَخُ الْمَشْئُومُ فَالْعَدْلُ يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَهَا عَصَبَةً فَيُوَرِّثُهَا إذَا لَمْ تَرِثْ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْأَخُ النَّافِعُ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ فُهِمَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وَالنِّزَاعُ فِي الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ أَوْ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ كَبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ وَالْبَنَاتِ سَوَاءٌ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِيرَاثُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثًا إلَّا فِي الْكَلَالَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَلَالَةِ، وَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَالَ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْأُمِّ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فَسَوَّى بَيْنَ مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ فِي الْكَلَالَةِ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي جِهَةِ الْإِرْثِ وَمِقْدَارِهِ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ لَا يُدْخِلُهُمْ فِي الْكَلَالَةِ، بَلْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ صِدْقِ اسْمِ الْكَلَالَةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْقَرَابَةِ، فَكَيْفَ أُدْخِلَ وَلَدُ الْأَبِ فِي الْكَلَالَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ وُجُودُهُ صِدْقَ اسْمِهَا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَفْرِيقٌ مَحْضٌ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَمْنَعُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَيُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَنْ كَوْنِهَا كَلَالَةً، لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَنِسْبَةُ أَبِ الْأَبِ إلَى الْمَيِّتِ كَنِسْبَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ إلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ نَزَلَ يُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَنْ الْكَلَالَةِ فَكَذَلِكَ أَبُ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: [وَهُوَ] أَنَّ نِسْبَةَ الْإِخْوَةِ إلَى الْجَدِّ كَنِسْبَةِ الْأَعْمَامِ إلَى أَبِي الْجَدِّ، فَإِنَّ الْأَخَ ابْنُ الْأَبِ وَالْعَمَّ ابْنُ الْجَدِّ، فَإِذَا خَلَّفَ عَمَّهُ وَأَبَا جَدِّهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ خَلَّفَ أَخَاهُ وَجَدَّهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِ الْجَدِّ عَلَى الْعَمِّ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْجَدِّ عَلَى الْأَخِ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا قِيَاسًا جَلِيًّا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ ابْنِ الْأَخِ إلَى الْأَخِ كَنِسْبَةِ أَبِ الْجَدِّ إلَى الْجَدِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فَإِذَا قَالَ الْأَخُ: أَنَا أَرِثُ مَعَ الْجَدِّ لِأَنِّي ابْنُ أَبِ الْمَيِّتِ وَالْجَدُّ أَبُو أَبِيهِ فَكِلَانَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ سَوَاءٌ، صَاحَ ابْنُ الْأَخِ مَعَ أَبِ الْجَدِّ وَقَالَ: أَنَا ابْنُ ابْنِ أَبِ الْمَيِّتِ فَكَيْف حَرَمْتُمُونِي مَعَ أَبِي أَبِي أَبِيهِ وَدَرَجَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ وَكَيْف سَمِعْتُمْ قَوْلَ أَبِي مَعَ الْجَدِّ وَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلِي مَعَ أَبِي الْجَدِّ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَبُو الْجَدِّ جَدٌّ وَإِنْ عَلَا، وَلَيْسَ ابْنُ الْأَخِ أَخًا. قِيلَ: فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَبُو الْأَبِ أَبًا، وَ [أَبُو] الْجَدِّ جَدًّا، فَمَا لِلْإِخْوَةِ مِيرَاثٌ مَعَ الْأَبِ بِحَالٍ. فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ نَجْعَلُ أَبَا الْجَدِّ جَدًّا، وَلَا نَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا. قِيلَ: هَكَذَا فَعَلْتُمْ، وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَتَنَاقَضْتُمْ أَبْيَنَ تَنَاقُضٍ، وَجَعَلْتُمُوهُ أَبًا فِي مَوْضِعٍ وَأَخْرَجْتُمُوهُ عَنْ الْأُبُوَّةِ فِي مَوْضِعٍ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ الْجَدِّ إلَى الْأَبِ فِي الْعَمُودِ الْأَعْلَى كَنِسْبَةِ ابْنِ الِابْنِ إلَى الِابْنِ فِي الْعَمُودِ الْأَسْفَلِ، فَهَذَا أَبُو أَبِيهِ، وَهَذَا ابْنُ ابْنِهِ، فَهَذَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِأَبِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُدْلِي إلَيْهِ بِابْنِهِ، فَكَمَا كَانَ ابْنُ الِابْنِ ابْنًا فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْأَبِ أَبًا، فَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسُ: [وَهُوَ] أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - سَمَّى الْجَدَّ أَبًا فِي قَوْلِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وَقَوْلِهِ: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] وَقَوْلِ يُوسُفَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ «هَذَا أَبُوكَ آدَم وَهَذَا أَبُوكَ إبْرَاهِيمُ» «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِ مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ قَالُوا: صَدَقْتَ» . وَسَمَّى ابْنَ الِابْنِ ابْنًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وَ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» وَالْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَلَازِمَةِ الْمُتَضَايِفَةِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْبُنُوَّةِ لِابْنِ الِابْنِ إلَّا مَعَ ثُبُوتِ الْأُبُوَّةِ لِأَبِ الْأَبِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الْجَدَّ لَوْ مَاتَ وَرِثَهُ بَنُو بَنِيهِ دُونَ إخْوَتِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَهَكَذَا الْأَبُ إذَا مَاتَ يَرِثُهُ أَبُو أَبِيهِ دُونَ إخْوَتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ لِزَيْدٍ: كَيْف يَرِثُنِي أَوْلَادُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عَبْدِ اللَّهِ دُونَ إخْوَتِي وَلَا أَرِثُهُمْ دُونَ إخْوَتِهِمْ؟ ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَغْمَزَ فِيهِ وَلَا تَطْفِيفَ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: [وَهُوَ] أَنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ وَأُصُولَهَا إذَا كَانَ قَرَابَةُ الْمُدْلِي مِنْ الْوَاسِطَةِ مِنْ جِنْسِ قَرَابَةِ الْوَاسِطَةِ كَانَ أَقْوَى مِمَّا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْقَرَابَتَيْنِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُدْلِي إلَيْهِ ابْنُهُ بِقَرَابَةِ الْبُنُوَّةِ، وَأَبُوهُ يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ، فَإِذَا أَدْلَى إلَيْهِ وَاحِدٌ بِبُنُوَّةِ الْبُنُوَّةِ وَإِنْ بَعُدَتْ كَانَ أَقْوَى مِمَّنْ يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ بُنُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ قَرُبَتْ، فَكَذَلِكَ قَرَابَةُ أُبُوَّةِ الْأُبُوَّةِ وَإِنْ عَلَتْ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ بُنُوَّةِ الْأَبِ وَإِنْ قَرُبَتْ، وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا فِي تَقْدِيمِ جَدِّ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا عَلَى ابْنِ الْأَخِ وَإِنْ قَرُبَ وَعَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي يُدْلِي بِهَا الْجَدُّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ، وَالْقَرَابَةُ الَّتِي يُدْلِي بِهَا الْأَخُ وَبَنُوهُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَهِيَ بُنُوَّةُ الْأُبُوَّةِ، وَلِهَذَا قُدِّمَتْ قَرَابَةُ ابْنِ الْأَخِ عَلَى قَرَابَةِ ابْنِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةُ بُنُوَّةِ أَبٍ، وَتِلْكَ قَرَابَةُ بُنُوَّةِ أَبِي أَبٍ، فَبَيْنَ ابْنِ الْأَخِ فِيهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ، فَبِوَاسِطَتِهَا وَصَلَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْعَمِّ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ جِنْسَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأُبُوَّةُ وَالثَّانِي بُنُوَّتُهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِنَاءُ بَابِ الْعَصَبَاتِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَنِي أَبٍ أَدْنَى وَإِنْ بَعُدُوا عَنْ الْمَيِّتِ يُقَدَّمُونَ فِي التَّعْصِيبِ عَلَى بَنِي الْأَبِ الْأَعْلَى وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ، فَابْنُ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَمِّ الْقَرِيبِ، وَابْنُ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ وَإِنْ نَزَلَ يُقَدَّمُ عَلَى عَمِّ الْأَبِ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يَقُومُ أَقْصَاهُ مَقَامَ أَدْنَاهُ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْصَى عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَدْنَى، فَيُقَدَّمُ ابْنُ ابْنِ الِابْنِ عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ الْعَمَّ، فَمَا بَالُ أَبِ الْأَبِ وَحْدَهُ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَبُ؟ وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ تَمْثِيلِ الْأَخِ وَالْجَدِّ بِالشَّجَرَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا غُصْنَانِ وَالنَّهْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ سَاقِيَتَانِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ الْبَسِيطَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمُرَكَّبَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ قِيَاسُ الْقَرَابَةِ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ قَرَابَةِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْأَصْلِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، ثُمَّ نَقُولُ: بَلْ النَّهْرُ الْأَعْلَى أَوْلَى بِالْجَدْوَلِ مِنْ الْجَدْوَلِ الَّتِي اُشْتُقَّ مِنْهُ، وَأَصْلُ الشَّجَرَةِ أَوْلَى بِغُصْنِهَا مِنْ الْغُصْنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا صِنْوُهُ وَنَظِيرُهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ أَصْلُهُ وَحَامِلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاحْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى أَصْلِهِ أَقْوَى مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى نَظِيرِهِ، فَأَصْلُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَظِيرِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: [وَهُوَ] أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ طَرْدُهُ، وَلَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 اُنْتُقِضَ، فَإِنَّ طَرْدَهُ تَقْدِيمُ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بُطْلَانِ طَرْدِهِ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي التَّعْصِيبِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ عَصَبَةٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَبُ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِثْنَاءَ الْإِخْوَةِ خَاصَّةً مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِاسْتِثْنَائِهِمْ قُوَّتَهُمْ وَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوَاتُهُمْ لَهُ فِي الْقُرْبِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي بَنِيهِمْ وَآبَائِهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهِ هُوَ وَالْإِخْوَةُ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْأَخَ لَا يُسَاوِي الْجَدَّ، فَإِنَّ لَهُمْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: تَوْرِيثُهُ مَعَهُ، وَالْمُوَرِّثُونَ لَا يَجْعَلُونَهُ كَأَخٍ مُطْلَقًا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُقَاسِمُ بِهِ الْإِخْوَةَ إلَى الثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاسِمُهُمْ بِهِ إلَى السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنْ ذَلِكَ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ فَرْضًا وَأَدْخَلُوا النَّقْصَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَمُوهُمْ، كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ وَأَخٍ، فَلَوْ كَانَ الْأَخُ مُسَاوِيًا لِلْجَدِّ وَأَوْلَى مِنْهُ كَمَا ادَّعَى الْمُوَرِّثُونَ أَنَّهُ الْقِيَاسُ لَسَاوَاهُ فِي هَذَا السُّدُسِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْجَدَّ أَقْوَى، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ عَصَبَتَانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْمُوَرِّثِينَ لِلْإِخْوَةِ لَمْ يَقُولُوا فِي التَّوْرِيثِ قَوْلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ مَعَ تَنَاقُضِهِمْ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمُونَ لَهُ عَلَى الْإِخْوَةِ فَهُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَعَدَمِ التَّنَاقُضِ، فَإِنَّ مِنْ الْمُوَرِّثِينَ مَنْ يُزَاحِمُ بِهِ إلَى الثُّلُثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَاحِمُ بِهِ إلَى السُّدُسِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْ يَكُونُ عَصَبَةً يُقَاسِمُ عَصَبَةَ نَظِيرِهِ إلَى حَدٍّ ثُمَّ يُفْرَضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِّ، فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مَعَهُمْ عَصَبَةً مُطْلَقًا، وَلَا ذَا فَرْضٍ مُطْلَقًا، وَلَا قَدَّمُوهُ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَلَا سَاوَوْهُ بِهِمْ مُطْلَقًا، ثُمَّ فَرَضُوا لَهُ سُدُسًا أَوْ ثُلُثًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ ثُمَّ حَسَبُوا عَلَيْهِ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَلَمْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا إذَا كَانَ هُنَاكَ إخْوَةٌ لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَهُ عَصَبَةً إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَرَضُوا فِيهَا لِلْأُخْتِ، ثُمَّ لَمْ يُهَنُّوهَا بِمَا فَرَضُوا لَهَا، بَلْ عَادُوا عَلَيْهَا بِالْإِبْطَالِ فَأَخَذُوهُ وَأَخَذُوا مَا أَصَابَهُ فَقَسَمُوهُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ أَعَالُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَاصَّةً مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَلَمْ يُعِيلُوا غَيْرَهَا، ثُمَّ رَدُّوهَا بَعْدَ الْعَوْلِ إلَى التَّعْصِيبِ وَسَلَّمَ الْمُقَدِّمُونَ لَهُ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعَ فَوْزِهِمْ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَدُخُولِهِمْ فِي حِزْبِ الصِّدِّيقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِخْوَةِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ: الْجَدُّ أَبٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي زَمَانِهِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إخْوَتِي وَلَا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي؟ ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ «أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ إنَّ الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ سِوَى اللَّهِ لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» كَانَ يَجْعَلُ الْجَدَّ أَبًا. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ثنا سَالِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثنا وُهَيْبٍ ثنا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَالَ: جَعَلَهُ الَّذِي قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا وَلَكِنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ» يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ جَعَلَهُ أَبًا، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: لَقِيتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي مُوسَى أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَنْزِلُ فِيكُمْ مَنْزِلَةَ الْأَبِ وَأَنْتَ لَا تُنْكِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَوْ كُنْتَ أَنْتَ لَمْ تُنْكِرْ، قَالَ مَرْوَانُ فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُ أَبٌ. ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثنا أَشْعَثُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: إنَّ الْجَدَّ قَدْ مَضَتْ فِيهِ سُنَّةٌ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا، وَلَكِنْ النَّاسُ تَحَيَّرُوا. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: ثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مَرْوَانَ قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إنَّ عُمَرَ قَالَ لِي: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي الْجَدِّ رَأْيًا، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَتَّبِعُوهُ فَاتَّبِعُوهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنْ نَتَّبِعْ رَأْيَكَ فَهُوَ رُشْدٌ، وَإِنْ نَتَّبِعْ رَأْيَ الشَّيْخِ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ كَانَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْعَلُهُ أَبًا وَالْمُوَرِّثُونَ لِلْإِخْوَةِ بَعْدَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّ أَقْوَالَهُ اضْطَرَبَتْ فِيهِ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ كِتَابًا فِي مِيرَاثِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِهِ فَمَحَاهُ. وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ حِينَ طُعِنَ: إنِّي لَمْ أَقْضِ فِي الْجَدِّ شَيْئًا. وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لِابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: شَعِّبْ مَا كُنْتَ تُشَعِّبُ؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ ثنا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ. وَأَمَّا عُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْبَغَوِيّ: ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَا: الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُوَرِّثِينَ كَمَا تَرَى قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي أَصْلِ تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ، وَاضْطَرَبَتْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْرِيثِ، وَخَالَفَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ وَمَنْ مَعَهُ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَقَائِلٌ بِقَوْلِ زَيْدٍ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الصِّدِّيقِ هُوَ الصَّوَابُ وَقَوْلَ زَيْدٍ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَعْصِيبَ الْجَدِّ لِلْأَخَوَاتِ وَهُوَ تَعْصِيبُ الرَّجُلِ جِنْسًا آخَرَ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، إنَّمَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ تَعْصِيبُ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ إذَا كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ فَإِنَّ الرِّجَالَ لَمْ يُعَصِّبُوهُنَّ، وَإِنَّمَا عَصَّبَهُنَّ الْبَنَاتُ، وَلَمَّا كَانَ تَعْصِيبُ الْبَنِينَ أَقْوَى كَانَ الْمِيرَاثُ لَهُمْ دُونَ الْأَخَوَاتِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ عَصَّبَ الْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ، فَإِنَّهُ عَصَّبَهُنَّ بِجِنْسٍ آخَرَ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْهُنَّ، وَهَذَا لَا عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي التَّعْصِيبِ لَكَانُوا إمَّا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ جِهَةِ التَّعْصِيبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَاسْتَوَوْا فِي الْمِيرَاثِ وَالْحِرْمَانِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ إذَا انْفَرَدُوا، وَهَذَا هُوَ التَّعْصِيبُ الْمَعْقُولُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبُطْلَانُهُ أَظْهَرُ، إذْ قَاعِدَةُ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْعَصَبَةَ لَا يَرِثُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَنَا عَصَبَةٌ مِنْ جِنْسَيْنِ يَرِثَانِ مُجْتَمِعَيْنِ قَطُّ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ الْعَصَبَةَ حِكْمَةٌ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ هَذَا الْجِنْسِ وَجَبَ أَنْ يَأْخُذَ دُونَ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْجِنْسُ الْآخَرُ فَيُفْضِي أَحَدُهُمَا إلَى حِرْمَانِهِمَا، وَاشْتِرَاكُهُمَا مُمْتَنِعٌ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ وَفِي بَابِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَأَبٌ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَأَبٌ فِي بَابِ وُجُوبِ إعْتَاقِهِ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، وَأَبٌ فِي بَابِ سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَأَبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْإِجْبَارِ فِي النِّكَاحِ، وَفِي بَابِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَفِي بَابِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَفِي بَابِ الْإِجْبَارِ عَلَى النَّفَقَةِ، وَفِي بَابِ إسْلَامِ ابْنِ ابْنِهِ تَبَعًا لِإِسْلَامِهِ، وَأَبٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ عَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الْأَبِ فَرْضًا وَتَعْصِيبًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَمَا الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْ أُبُوَّتِهِ فِي بَابِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ؟ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا تِلْكَ الْأَبْوَابَ فَالْأَمْرُ فِي أُبُوَّتِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا بَابَ الْمِيرَاثِ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: [وَهُوَ] أَنَّ الَّذِينَ وَرَّثُوا الْإِخْوَةَ مَعَهُ إنَّمَا وَرَّثُوهُمْ لِمُسَاوَاةِ تَعْصِيبِهِ لِتَعْصِيبِهِمْ، ثُمَّ نَقَضُوا الْأَصْلَ: فَقَدَّمُوا تَعْصِيبَهُمْ عَلَى تَعْصِيبِهِ فِي بَابِ الْوَلَاءِ وَأَسْقَطُوهُ بِالْإِخْوَةِ لِقُوَّةِ تَعْصِيبِهِمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ نَقَضُوا ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدَّمُوا الْجَدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَأَسْقَطُوا تَعْصِيبَهُمْ بِتَعْصِيبِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَإِذَا خَلَّفَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأَخَاهَا وَجَدَّهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْبَاقِي، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فِي الْأَوْلَوِيَّةِ وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ أَوْلَى وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْجَدُّ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْبَاقِي بِالنَّصِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ كَافٍ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا، بَلْ بَيَانَ دَلَالَةِ النَّصِّ وَالِاكْتِفَاءَ بِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ شَاهِدٌ وَتَابِعٌ، لَا أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» عَنْ إثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْقِيَاسِ فِي الِاسْمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّصِّ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عَنْ إثْبَاتِ قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ اسْمًا أَوْ حُكْمًا، إذْ السَّارِقُ يَعْنِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ سَارِقَ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فِي تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ - سُبْحَانَهُ - فِي قَوْلِهِ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ فَهَذَا كَفَّارَتُهَا، وَقَدْ أَدْخَلَتْ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا النَّصِّ الْحَلِفَ بِالْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَلِفَ بِأَحَبِّ الْقَرَابَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَى اللَّهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سُنَّةٍ مِنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ بَقِيَّتِهِمْ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ الْحَلِفَ بِالْبَغِيضِ إلَى اللَّهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ تَحْكِيمُ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا عَلَى خِلَافِهِ، فَالْأُمَّةُ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فِي إبْطَالِ كُلِّ عَقْدٍ نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ، وَأَنَّهُ لَغْوٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، نِكَاحًا كَانَ أَوْ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا، إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ إجْمَاعًا مَعْلُومًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنْ الْعُقُودِ صَحِيحٌ لَازِمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، فَهِيَ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْرِيمَهُ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ فَصَّلَ لَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَرَامًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ مُفَصَّلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ] الْفَصْلُ الثَّانِي: [لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ] فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَأَنَّ مَا يُظَنُّ مُخَالَفَتُهُ لِلْقِيَاسِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ وَلَا بُدَّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ كَوْنُهُ مِنْ الشَّرْعِ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ " هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ " لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ [عَلَى] خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ، وَالسَّلَمُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْحَوَالَةُ، وَالْكِتَابَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالْقَرْضُ، وَصِحَّةُ صَوْمِ الْآكِلِ النَّاسِي، وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَهَلْ ذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَا حَصَّلْتُهُ مِنْ جَوَابِهِ بِخَطِّهِ وَلَفْظِهِ، وَمَا فَتَحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِي بِيُمْنِ إرْشَادِهِ، وَبَرَكَةِ تَعْلِيمِهِ، وَحُسْنِ بَيَانِهِ وَتَفْهِيمِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 [لَفْظُ الْقِيَاسِ مُجْمَلٌ] أَصْلُ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَحَيْثُ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِحُكْمٍ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ لِغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعُ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ، لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخِلَافِ قِيَاسٍ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفٍ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَكِنْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ. [شُبْهَةُ مَنْ ظَنَّ خِلَافَ الْقِيَاسِ وَرَدُّهَا] فَاَلَّذِينَ قَالُوا: " الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضٍ، وَالْإِجَارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضُ، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَمَلَ وَالرِّبْحَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ قَالُوا: هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ، لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَالْمُشَارَكَاتُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُقَاسَمَةُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا بَيْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الْبَيْعِ الْخَاصِّ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الْعَمَلُ الْمَقْصُودُ بِهِ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] : أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ اللَّازِمَةُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ أَوْ غَرَرٌ، فَهَذِهِ الْجَعَالَةُ، وَهِيَ عَقْدٌ جَائِزٌ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَإِذَا قَالَ " مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ مِائَةٌ " فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ مَكَان قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً، لَكِنْ هِيَ جَائِزَةٌ، فَإِنْ عَمِلَ الْعَمَلَ اسْتَحَقَّ الْجَعْلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَعْلُ فِيهَا إذَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ جُزْءًا شَائِعًا وَمَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، كَقَوْلِ أَمِيرِ الْغَزْوِ " مَنْ دَلَّ عَلَى حِصْنٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِيهِ " أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ الَّتِي يَسِيرُ بِهَا " لَكُمْ خُمُسُ مَا تَغْنَمُونَ أَوْ رُبْعُهُ ". وَتَنَازَعُوا فِي السَّلَبِ: هَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى الشِّفَاءِ جَازَ، كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَطِيعَ مِنْ الشَّاءِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَرَقَاهُ أَحَدُهُمْ حَتَّى بَرِئَ، وَالْجُعْلُ كَانَ عَلَى الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبِيبًا إجَارَةً لَازِمَةً عَلَى الشِّفَاءِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، فَقَدْ يَشْفِيهِ اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الْجَعَالَةُ، دُونَ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ. فَصْلٌ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَهُوَ: مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعَمَلُ، بَلْ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْمَالُ، وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي نَفْسِ عَمَلِ الْعَامِلِ كَالْمُجَاعِلِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ قَصْدٌ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلِهَذَا لَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ وَلَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ سَمَّى هَذَا جَعَالَةً بِجُزْءٍ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ كَانَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، بَلْ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ: هَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ، وَهَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ، وَمَا قَسَمَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحٍ مُقَدَّرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ مَا نَبَتَ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصِيرَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّ مَبْنَى الْمُشَارَكَاتِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحٍ دُونَ الْآخَرِ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَإِنْ حَصَلَ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْمَغْرَمِ، وَذَهَبَ نَفْعُ بَدَنِ هَذَا كَمَا ذَهَبَ نَفْعُ مَالِ هَذَا، وَلِهَذَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ الْمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ بِرِبْحِ الْمِثْلِ، فَيُعْطَى الْعَامِلُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يُعْطَاهُ مِثْلُهُ إمَّا نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ. فَأَمَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا مُقَدَّرًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَمَا يُعْطَى فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ فَهَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ فَأَعْطَاهُ فِي فَاسِدِهَا عِوَضَ الْمِثْلِ كَمَا يُعْطِيهِ فِي الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى، وَمِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَامِلَ قَدْ يَعْمَلُ عَشْرَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أُعْطِيَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أُعْطِيَ أَضْعَافَ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدَةِ أَضْعَافَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الصَّحِيحَةِ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ظَنُّوا أَنَّهُمَا إجَارَةٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ فَأَبْطَلُوهُمَا، وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَ مِنْهُمَا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ إجَارَتِهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إجَارَتُهَا، وَجَوَّزُوا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بُطْلَانُ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ. وَمَنْ أَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْغَرَرِ مِنْ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ وَمَقْصُودُهُ مِنْ الزَّرْعِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَانَ فِي هَذَا حُصُولُ أَحَدِ الْمُعَاوِضَيْنِ عَلَى مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَأَحَدُهُمَا غَانِمٌ وَلَا بُدَّ، وَالْآخَرُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَإِنْ حَصَلَ الزَّرْعُ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْغَرَرِ مِنْ الْإِجَارَةِ. [الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ الْعَدْلُ] وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، قَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وَالشَّارِعُ نَهَى عَنْ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَعَنْ الْمَيْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِتَحْرِيمِ هَذَا وَهَذَا، وَكِلَاهُمَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُعَامَلَاتِ - كَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَبَيْعِ السِّنِينَ، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةِ، وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعِ الْحَصَاةِ، وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - هِيَ دَاخِلَةٌ إمَّا فِي الرِّبَا وَإِمَّا فِي الْمَيْسِرِ، فَالْإِجَارَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلُ أَنْ يُكْرِيَهُ الدَّارَ بِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 يَكْسِبُهُ الْمُكْتَرِي فِي حَانُوتِهِ مِنْ الْمَالِ هُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ. وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَيْسِرِ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَمِ الْعَدْلِ، وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَارِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ عَامَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَالُوا: الْمُضَارَبَةُ فِيهَا الْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ فِيهَا مِنْ مَالِكِ الْأَرْضِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ، فَهَذَا نَظِيرُ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَأَمَّا الْبَذْرُ الَّذِي لَا يَعُودُ نَظِيرُهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ كَمَا يَذْهَبُ نَفْعُ الْأَرْضِ فَإِلْحَاقُهُ بِالنَّفْعِ الذَّاهِبِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ الْبَاقِي، فَالْعَامِلُ إذَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ ذَهَبَ عَمَلُهُ وَبَذْرُهُ، وَرَبُّ الْأَرْضِ يَذْهَبُ نَفْعُ أَرْضِهِ، وَبَدَنُ هَذَا كَأَرْضِ هَذَا، فَمَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ كَالْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ مِثْلَ هَذَا الْبَذْرِ إلَى صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَكَيْفَ وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الْبَذْرِ عَوْدَ نَظِيرِهِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ؟ . [فَصَلِّ الْحَوَالَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ] ِ] : وَأَمَّا الْحَوَالَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: " إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " قَالُوا: هِيَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَالْكَالِئُ: هُوَ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئٍ. وَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ وَاجِبٍ بِوَاجِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ سَاقِطٍ بِسَاقِطٍ، وَسَاقِطٍ بِوَاجِبٍ، وَوَاجِبٍ بِسَاقِطٍ، وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. قُلْتُ: السَّاقِطُ بِالسَّاقِطِ فِي صُورَةِ الْمُقَاصَّةِ، وَالسَّاقِطُ بِالْوَاجِبِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَسَقَطَ الدَّيْنُ الْمَبِيعُ وَوَجَبَ عِوَضُهُ، وَهِيَ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْوَاجِبِ بِالسَّاقِطِ فَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَسَقَطَ لَهُ عَنْهُ دَيْنٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 إجْمَاعَ فِيهِ. قَالَهُ شَيْخُنَا وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ بَيْعَ كَالِئٍ بِكَالِئٍ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِلَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَيَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَدْ اشْتَغَلَتْ فِيهِ الذِّمَّتَانِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ أَحَدُهُمَا مَا يَأْخُذُهُ فَيَنْتَفِعُ بِتَعْجِيلِهِ وَيَنْتَفِعُ صَاحِبُ الْمُؤَخَّرِ بِرِبْحِهِ، بَلْ كِلَاهُمَا اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ وَمَنْفَعَةٌ مَطْلُوبَةٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَاصِّ، فَإِنَّ ذِمَّتَهُمَا تَبْرَأُ مِنْ أَسْرِهَا، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ لَهُمَا وَلِلشَّارِعِ، فَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَأَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَالْآخَرُ يَنْتَفِعُ بِمَا يَرْبَحُهُ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَشْغَلَ أَحَدُهُمَا ذِمَّتَهُ وَالْآخَرُ يَحْصُلُ عَلَى الرِّبْحِ - وَذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ - جَازَ أَنْ يُفَرِّغَهَا مِنْ دَيْنٍ وَيَشْغَلَهَا بِغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ شَغَلَهَا بِهِ ابْتِدَاءً إمَّا بِقَرْضٍ أَوْ بِمُعَاوَضَةٍ، فَكَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ، فَانْتَقَلَتْ مِنْ شَاغِلٍ إلَى شَاغِلٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَى لَفْظِهِ، بَلْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي جَوَازَهُ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ اقْتَضَتْ نَقْلَ الدَّيْنِ وَتَحْوِيلَهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَقَدْ عَاوَضَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ مِنْ دَيْنِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ فِي ذِمَّةِ ثَالِثٍ، فَإِذَا عَاوَضَهُ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى دَيْنٍ آخَرَ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. رَجَعْنَا إلَى كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي - يَعْنِي مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ -: أَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ جِنْسِ إيفَاءِ الْحَقِّ، لَا مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَدِينِ مَالَهُ كَانَ هَذَا اسْتِيفَاءً، فَإِذَا أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَوَالَةَ فِي مَعْرِضِ الْوَفَاءِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ» فَأَمَرَ الْمَدِينَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْمَطْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَالِمٌ إذَا مَطَلَ، وَأَمَرَ الْغَرِيمَ بِقَبُولِ الْوَفَاءِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أَمَرَ الْمُسْتَحِقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ، وَوَفَاءُ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعُ الْخَاصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا قَبَضَ الْوَفَاءَ صَارَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِثْلُهُ، ثُمَّ إنَّهُ يُقَاصُّ مَا عَلَيْهِ بِمَالِهِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: بَلْ نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي قُبِضَ يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ، وَلَا حَاجَةَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا، وَأُولَئِكَ قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ وَفَاءَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مِنْ جِنْسِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ، وَالْمُعَيَّنُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَيَّنِ، فَمَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ، وَأَيُّ مُعَيَّنٍ اسْتَوْفَاهُ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 [فَصَلِّ الْقَرْضُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا الْقَرْضُ فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " فَشُبْهَتُهُ أَنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ مَعَ تَأَخُّرِ الْقَبْضِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ كَالْعَارِيَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِيحَةً فَقَالَ «أَوْ مَنِيحَةَ ذَهَبٍ أَوْ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْفَاقِ، لَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَإِنَّ بَابَ الْمُعَاوَضَاتِ يُعْطِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلَ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعُودُ إلَيْهِ، وَبَابُ الْقَرْضِ مِنْ جِنْسِ بَابِ الْعَارِيَّةِ وَالْمَنِيحَةِ وَإِفْقَارِ الظَّهْرِ مِمَّا يُعْطِي فِيهِ أَصْلَ الْمَالِ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَسْتَخْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَنَظِيرُهُ وَمِثْلُهُ، فَتَارَةً يَنْتَفِعُ بِالْمَنَافِعِ كَمَا فِي عَارِيَّةِ الْعَقَارِ وَتَارَةً يَمْنَحُهُ مَاشِيَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا أَوْ شَجَرَةً لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا، وَتُسَمَّى الْعَرِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَعْرَاهُ الشَّجَرَةَ، وَأَعَارَهُ الْمَتَاعَ، وَمَنَحَهُ الشَّاةَ، وَأَفْقَرَهُ الظَّهْرَ، وَأَقْرَضَهُ الدَّرَاهِمَ. وَاللَّبَنُ وَالثَّمَرُ لَمَّا كَانَ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا كَانَ فِي الْوَقْفِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ وَالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْرِضُ قَدْ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِالْقَرْضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفْتَجَةِ، وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَخُصُّ الْمُقْرِضَ، بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهَا جَمِيعًا. [فَصَلِّ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَمَنْ قَالَ " إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " فَقَوْلُهُ مِنْ أَبْطَلْ الْأَقْوَالِ وَأَفْسَدِهَا، وَشُبْهَتُهُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً تَنَجَّسَ بِهَا، ثُمَّ لَاقَى الثَّانِي وَالثَّالِثَ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَالنَّجَسُ لَا يُزِيلُ نَجَاسَةً، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً نَجُسَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ، قِيلَ: هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيُقَاسَ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى " مَا تَغَيَّرَ. قِيلَ: هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ حِسًّا وَشَرْعًا، وَلَيْسَ جَعْلُ الْإِزَالَةِ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ " بَلْ يُقَالُ: إنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً لَا يَنْجُسُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا لَاقَاهَا حَالَ الْإِزَالَةِ لَا يَنْجُسُ، فَهَذَا الْقِيَاسُ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِالْمَاءِ حِسًّا وَشَرْعًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ بِالنَّصِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَمَوْرِدُ نِزَاعٍ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَوْرِدُ النِّزَاعِ حُجَّةً عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ؟ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي رَدَّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجُسُ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَهُوَ طَيِّبٌ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ جَمِيعِهَا إذَا وَقَعَ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَاسْتَحَالَتْ بِحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا رِيحٌ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، أَوْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا. وَقَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ يَثْبُتُ لِلْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ، فَمَا دَامَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فَالْحُكْمُ تَابِعٌ لَهَا، فَإِذَا زَالَتْ وَخَلَفَتْهَا الصِّفَةُ الْأُخْرَى زَالَ الْحُكْمُ وَخَلَفَهُ ضِدُّهُ، فَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ، فَهَذَا الْمَاءُ وَالطَّعَامُ كَانَ طَيِّبًا لِقِيَامِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لِطِيبِهِ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ وَخَلَفَتْهَا صِفَةُ الْخُبْثِ عَادَ خَبِيثًا، فَإِذَا زَالَتْ صِفَةُ الْخُبْثِ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَالْعَصِيرِ الطَّيِّبِ إذَا تَخَمَّرَ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَادَ طَيِّبًا، وَالْمَاءُ الْكَثِيرُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ عَادَ طَيِّبًا، وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ صَارَ خَبِيثًا فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَادَ طَيِّبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبٌ الْحِسُّ وَالشَّرْعُ: أَمَّا الْحِسُّ فَلِأَنَّ الْخُبْثَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مَا، لَا فِي لَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ، وَمُحَالٌ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ بِدُونِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ كَانَ طَيِّبًا قَبْلَ مُلَاقَاتِهِ لِمَا يَتَأَثَّرُ بِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَثْبُتَ رَفْعُهُ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ الِاسْتِصْحَابِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الْإِثْمِ بِتَنَاوُلِهِ شُرْبًا أَوْ طَبْخًا أَوْ عَجْنًا، وَمُلَابَسَةُ اسْتِصْحَابِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي قُطِرَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابَةِ لَمْ يُحَدَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ شَرِبَهُ صَبِيٌّ وَقَدْ قُطِرَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ تَنْشُرْ الْحُرْمَةُ، فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: " إنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ " تَنَاقَضُوا أَعْظَمَ تَنَاقُضٍ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُ هَذَا الْأَصْلِ: فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى خِلَافِهِمْ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ، وَمِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 مَنْ اسْتَثْنَى الْجَارِيَ خَاصَّةً، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ إذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ وَمُلَاقَاتِهَا لَهُ إذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ بِفُرُوقٍ: مِنْهَا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى النَّجَاسَةِ فَهُوَ فَاعِلٌ وَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ مَوْرُودٌ مُنْفَعِلٌ وَهُوَ أَضْعَفُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا كَانَ وَارِدًا فَهُوَ جَارٍ وَالْجَارِي لَهُ قُوَّةٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا كَانَ وَارِدًا فَهُوَ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ وَمَا دَامَ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ فَلَهُ عَمَلٌ وَقُوَّةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ فَهُوَ نَجَسٌ أَيْضًا، وَهُوَ فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ لَمْ يُزِلْهَا، وَإِنَّمَا خَفَّفَهَا، وَلَا تَحْصُلْ الْإِزَالَةُ الْمَطْلُوبَةُ إلَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا: أَنْ يُسَيِّرَ النَّجَاسَةِ إذَا اسْتَحَالَتْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِيهِ لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا رَائِحَةٌ فَهِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَا مِنْ الْخَبَائِثِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ» وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ» وَهُمَا نَصَّانِ صَرِيحَانِ فِي أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، وَلَا يَسْلُبُ طَهُورِيَّتَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ، وَمَنْ نَجَّسَهُ بِالْمُلَاقَاةِ أَوْ سَلَبَ طَهُورِيَّتَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَقَدْ جَعَلَهُ يَنْجُسُ وَيَجْنُبُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَالْمَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى يَكُونُ هَذَا حُكْمُهُ، وَحَدِيثُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ مَعْمَرٍ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ بَيَّنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَغَيْرُهُمَا، وَيَكْفِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ مَعْمَرٌ حَدِيثَ التَّفْصِيلِ قَدْ رَوَى عَنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ خِلَافَ مَا رَوَى عَنْهُ مَعْمَرٌ، وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِأَنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، فَهَذِهِ فُتْيَاهُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالُهُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُ، فَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى ذَلِكَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، وَلَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ سِوَاهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ فَمُتَنَاقِضٌ لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ طَرْدُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَظَهَرَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فِيمَا خَالَفَ النَّصَّ لَا فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ. [فَصَلِّ طَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَطَهَارَةُ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ لِوَصْفِ الْخُبْثِ، فَإِذَا زَالَ الْمُوجِبُ زَالَ الْمُوجَبُ، وَهَذَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ فِي مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا بَلْ وَأَصْلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ تَعْدِيَةُ ذَلِكَ إلَى سَائِرِ النَّجَاسَاتِ إذَا اسْتَحَالَتْ، وَقَدْ «نَبَشَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبُورَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ التُّرَابَ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَنْ اللَّبَنِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا عُلِفَتْ بِالنَّجَاسَةِ ثُمَّ حُبِسَتْ وَعُلِفَتْ بِالطَّاهِرَاتِ حَلَّ لَبَنُهَا وَلَحْمُهَا، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وَالثِّمَارُ إذَا سُقِيَتْ بِالْمَاءِ النَّجَسِ ثُمَّ سُقِيَتْ بِالطَّاهِرِ حَلَّتْ لِاسْتِحَالَةِ وَصْفِ الْخُبْثِ وَتَبَدُّلِهِ بِالطَّيِّبِ، وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ الطَّيِّبَ إذَا اسْتَحَالَ خَبِيثًا صَارَ نَجَسًا كَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ إذَا اسْتَحَالَ بَوْلًا وَعَذِرَةً، فَكَيْفَ أَثَّرَتْ الِاسْتِحَالَةُ فِي انْقِلَابِ الطَّيِّبِ خَبِيثًا وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي انْقِلَابِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا؟ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ وَالْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَصْلِ، بَلْ بِوَصْفِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُبْثِ وَقَدْ زَالَ اسْمُهُ وَوَصْفُهُ، وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لِلِاسْمِ وَالْوَصْفُ دَائِرٌ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَالنُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ لَا تَتَنَاوَلُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ وَالرَّمَادَ وَالْمِلْحَ وَالتُّرَابَ وَالْخَلَّ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا. وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا قَالُوا: الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَهَكَذَا الدَّمُ وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النُّصُوصِ وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ النُّصُوصَ. [فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهَا لَحْمٌ، وَاللَّحْمُ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ " فَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، وَكَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرَّاعِيَيْنِ رُعَاةِ الْإِبِلِ وَرُعَاةِ الْغَنَمِ فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ دُونَ أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَأَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ وَالْمُذَكَّى وَالْمَيْتَةِ، فَالْقِيَاسُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ وَأَفْسَدِهِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ بِالْبَاطِلِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَأَصْحَابِ الْغَنَمِ فَقَالَ " الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَصْحَابِ الْغَنَمِ ". وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، وَجَاءَ أَنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ، فَفِيهَا قُوَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي، وَلِهَذَا حَرُمَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا دَوَابُّ عَادِيَةٌ، فَالِاغْتِذَاءُ بِهَا يَجْعَلُ فِي طَبِيعَةِ الْمُغْتَذِي مِنْ الْعُدْوَانِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ، فَإِذَا اغْتَذَى مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَفِيهَا تِلْكَ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ، هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ، وَنَظِيرُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» فَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ كَانَ فِي وُضُوئِهِ مَا يُطْفِئُ تِلْكَ الْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فَتَزُولُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ، وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ إمَّا إيجَابًا مَنْسُوخًا، وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ. وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ النَّسْخَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَمِنْهَا أَنَّ رُوَاةَ أَحَادِيثِ الْوُضُوءِ بَعْضُهُمْ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرْنَا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِهِ مِنْهَا هُوَ اكْتِسَابُهَا مِنْ الْقُوَّةِ النَّارِيَّةِ وَهِيَ مَادَّةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَالنَّارُ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهَا، وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ نَظِيرِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْغَضَبِ، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَ مَا مَعَ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، لَا عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّسْخُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَافِي، وَتَحَقُّقِ التَّارِيخِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ، فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْهُمَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِي لُحُومِ الْإِبِلِ لَازِمَةً كَانَ الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْهَا لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ فِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، وَلَمَّا كَانَ فِي مَمْسُوسِ النَّارِ عَارِضَةٌ صَحَّ فِيهَا الْأَمْرُ وَالتَّرْكُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لُحُومِ الْغَنَمِ فِي الْوُضُوءِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ فِي مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَأَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ دُونَ لُحُومِ الْغَنَمِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَلَمَّا كَانَتْ أَعْطَانُ الْإِبِلِ مَأْوَى الشَّيْطَانِ لَمْ تَكُنْ مَوَاضِعَ لِلصَّلَاةِ كَالْحُشُوشِ، بِخِلَافِ مَبَارِكِهَا فِي السَّفَرِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُنَاكَ عَارِضٌ، وَطَرْدُ هَذَا الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ. وَفِي الْوُضُوءِ مِنْ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ كَلُحُومِ السِّبَاعِ إذَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْوُضُوءُ مِنْهَا أَبْلَغُ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَإِذَا عُقِلَ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعْدِيَتِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] أَمَّا الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ مَنْ قَالَ: " إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " - ذَلِكَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الْفِطْرُ بِمَا دَخَلَ لَا بِمَا خَرَجَ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوهُ، بَلْ الْفِطْرُ بِهَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ: أَنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ شَرَعَ الصَّوْمَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَمِهَا بِالْعَدْلِ، وَأَمَرَ فِيهِ بِغَايَةِ الِاعْتِدَالِ، حَتَّى نَهَى عَنْ الْوِصَالِ، وَأَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَجَعَلَ أَعْدَلَ الصِّيَامِ وَأَفْضَلَهُ صِيَامَ دَاوُد، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِدَالِ فِي الصَّوْمِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْإِنْسَانُ مَا بِهِ قَوَامُهُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا يُخْرِجَ مَا بِهِ قَوَامُهُ كَالْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُ، فَلَمْ يُفْطِرْ بِالِاحْتِلَامِ وَلَا بِالْقَيْءِ الذَّارِعِ كَمَا لَا يُفْطِرُ بِغُبَارِ الطَّحِينِ وَمَا يَسْبِقُ مِنْ الْمَاءِ إلَى الْجَوْفِ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَجَعَلَ الْحَيْضَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ دُونَ الْجَنَابَةِ، لِطُولِ زَمَانِهِ وَكَثْرَةِ خُرُوجِ الدَّمِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّطْهِيرِ قَبْلَ وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ دَمِ الْحِجَامَةِ وَدَمِ الْجُرْحِ فَجَعَلَ الْحِجَامَةَ مِنْ جِنْسِ الْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْحَيْضِ، وَخُرُوجَ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ وَالرُّعَافَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالِاحْتِلَامِ وَذَرْعِ الْقَيْءِ، فَتَنَاسَبَتْ الشَّرِيعَةُ وَتَشَابَهَتْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَظَهَرَ أَنَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْمِيزَانِ الْعَادِلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَابُ التَّيَمُّمِ، قَالُوا: إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّرَابَ مُلَوَّثٌ لَا يُزِيلُ دَرَنًا وَلَا وَسَخًا وَلَا يُطَهِّرُ الْبَدَنَ كَمَا لَا يُطَهِّرُ الثَّوْبَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُضْوَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّتِهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُضَادِّ لِلدِّينِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَخَلَقْنَا مِنْ التُّرَابِ، فَلَنَا مَادَّتَانِ: الْمَاءُ، وَالتُّرَابُ، فَجَعَلَ مِنْهُمَا نَشْأَتَنَا وَأَقْوَاتَنَا، وَبِهِمَا تَطَهُّرَنَا وَتَعَبُّدَنَا، فَالتُّرَابُ أَصْلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ النَّاسُ، وَالْمَاءُ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمَا الْأَصْلُ فِي الطَّبَائِعِ الَّتِي رَكَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا هَذَا الْعَالَمَ وَجَعَلَ قَوَامَهُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْلُ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْأَدْنَاسِ وَالْأَقْذَارِ هُوَ الْمَاءَ فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَّا فِي حَالِ الْعَدَمِ وَالْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَانَ النَّقْلُ عَنْهُ إلَى شَقِيقِهِ وَأَخِيهِ التُّرَابِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَوَّثَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنًا ثُمَّ يُقَوِّي طَهَارَةَ الْبَاطِنِ فَيُزِيلُ دَنَسَ الظَّاهِرِ أَوْ يُخَفِّفُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ بَصَرٌ نَافِذٌ بِحَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَارْتِبَاطِ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ وَتَأَثُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَانْفِعَالِهِ عَنْهُ. فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ التَّيَمُّمِ عَلَى عُضْوَيْنِ: وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي عُضْوَيْنِ فَفِي غَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ مَكْرُوهٌ فِي الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، وَالرِّجْلَانِ مَحَلُّ مُلَابَسَةِ التُّرَابِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَتْرِيبِ الْوَجْهِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِانْكِسَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 لِلَّهِ مَا هُوَ مِنْ أَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُتَرِّبَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ وِقَايَةَ وَجْهِهِ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ رَآهُ قَدْ سَجَدَ وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ وِقَايَةً فَقَالَ " تَرِّبْ وَجْهَكَ " وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي تَتْرِيبِ الرِّجْلَيْنِ. وَأَيْضًا فَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ، وَسَقَطَ عَنْ الْعُضْوَيْنِ الْمَمْسُوحَيْنِ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُمْسَحَانِ فِي الْخُفِّ، وَالرَّأْسَ فِي الْعِمَامَةِ، فَلَمَّا خَفَّفَ عَنْ الْمَغْسُولَيْنِ بِالْمَسْحِ خَفَّفَ عَنْ الْمَمْسُوحَيْنِ بِالْعَفْوِ، إذْ لَوْ مُسِحَا بِالتُّرَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَنْهُمَا، بَلْ كَانَ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ إلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَعْدَلُ الْأُمُورِ وَأَكْمَلُهَا، وَهُوَ الْمِيزَانُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا كَوْنُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ كَتَيَمُّمِ الْمُحْدِثِ فَلَمَّا سَقَطَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ عَنْ الْمُحْدِثِ سَقَطَ مَسْحُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا يُنَاقِضُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ، وَيَدْخُلُ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اللَّهِ فِي شِبْهِ الْبَهَائِمِ إذَا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ، فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَا مَزِيدَ فِي الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا السَّلَمُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ تَوَهَّمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَقِيَاسُ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ الَّتِي لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ، مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إلَيْهِ فِي مَغْلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ، بَلْ مِلْكٌ لِلْغَيْرِ، فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ حِسًّا وَلَا مَعْنًى، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا؟ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ أُمُورًا: أَحَدُهَا: بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ. الثَّانِي: السَّلَمُ الْحَالُّ فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ. الثَّالِثُ: السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ [عَادَةً] ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ عَادَةً فَهُوَ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ، وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْآخَرِ؟ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَهَذَا يَعُمُّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ مِنْ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. فَثَبَتَ أَنَّ إبَاحَةَ السَّلَمِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَشُرِعَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلِهَا، فَشُرِطَ فِيهِ قَبْضُ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ، إذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَحَصَلَ شُغْلُ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِذَا أُخِّرَ الثَّمَنُ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ، وَكَثُرَتْ الْمُخَاطَرَةُ، وَدَخَلَتْ الْمُعَامَلَةُ فِي حَدِّ الْغَرَرِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّارِعُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ كَوْنُهُ مِنْ حَائِطٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ. وَاَلَّذِينَ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْجِنْسِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ قَصَدُوا بِهِ إبْعَادَهُ مِنْ الْغَرَرِ بِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ، لَكِنْ ضَيَّقُوا مَا وَسَّعَ اللَّهُ، وَشَرَطُوا مَا لَمْ يَشْرِطْهُ، وَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ. أَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَوَامُهُ وَوُجُودُهُ كَالثَّمَنِ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ النَّاسِ، إذْ الْحَاجَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ السَّلَمَ الِارْتِفَاقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، هَذَا يَرْتَفِقُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ، وَهَذَا يَرْتَفِقُ بِرُخْصِ الثَّمَنِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِي مُنْقَطِعِ الْجِنْسِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي مُتَّصِلِهِ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَقْوَمُهُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. [فَصَلِّ الْكِتَابَةُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَمَنْ قَالَ هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ قَالَ: هِيَ بَيْعُ السَّيِّدِ مَالَهُ بِمَالِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا بَاعَ الْعَبْدَ نَفْسَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَالسَّيِّدُ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي بَدَنِهِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ حَقُّهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ لَا فِي إنْسَانِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْعَبْدُ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مِلْكَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْكِتَابَةُ بَيْعُهُ نَفْسَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ إذَا اشْتَرَى نَفْسَهُ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، وَهُوَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنَّهُ أَخَّرَ فِيهَا الْعِتْقَ إلَى حِينِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعِوَضَ، فَمَتَى لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعِوَضَ وَعَجَزَ الْعَبْدُ عَنْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْبَيْعِ، فَلَوْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَحْصُلُ السَّيِّدُ عَلَى الْحِرْمَانِ، فَرَاعَى الشَّارِعُ مَصْلَحَةَ السَّيِّدِ وَمَصْلَحَةَ الْعَبْدِ، وَشَرَعَ الْكِتَابَةَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَشَدِّهَا مُطَابَقَةً لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَبِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَجَزَ عَنْ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ أَمْ لَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْتَرِطْ حُكْمَ الْحَاكِمِ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ هُوَ الْفَلَسُ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الثَّمَنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَيَجِبُ تَرْتِيبُ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ وَمُوجَبُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِي السِّلْعَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِعْسَارَ عَيْبٌ فِي الذِّمَّةِ لَوْ عَلِمَ بِهِ الْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ مَالِهِ فِي ذِمَّةِ مُفْلِسٍ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ الْمُوَافِقِ لِلنَّصِّ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ عَجْزُ الزَّوْجِ عَنْ الصَّدَاقِ، أَوْ عَجْزُهُ عَنْ الْوَطْءِ، وَعَجْزُهُ عَنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَطَرْدُهُ عَجْزُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ أَنَّ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ الْبُضْعُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعِوَضِ، وَطَرْدُهُ الصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُصَالِحُ عَلَيْهِ فَلَهُ الْعَوْدُ إلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ، فَهَذَا مُوجَبُ الْعَدْلِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فَصْلٌ: [بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: " هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " قَالُوا: هِيَ بَيْعٌ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ، ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] قَالُوا: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهَا إجَارَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهَذِهِ عَقْدٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ، وَقَالُوا: هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ قِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ شَبَهِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَمَنْشَأُ وَهْمِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَنَافِعَ هِيَ أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا، لَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فِرْقَتَيْنِ: فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّمَا احْتَمَلْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِوُرُودِ النَّصِّ؛ فَلَا نَتَعَدَّى مَحَلَّهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ نُخْرِجُهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمْرًا غَيْرَ اللَّبَنِ، بَلْ هُوَ إلْقَامُ الصَّبِيِّ الثَّدْيَ وَوَضْعُهُ فِي حِجْرِ الْمُرْضِعَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَقَالُوا: يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا، فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَالْبُسْتَانِ قَالُوا: إنَّمَا وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُجَرَّدِ إدْلَاءِ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَإِخْرَاجِهِ، وَعَلَى مُجَرَّدِ إجْرَاءِ الْعَيْنِ فِي أَرْضِهِ، مِمَّا هُوَ قَلْبُ الْحَقَائِقِ، وَجَعْلُ الْمَقْصُودِ وَسِيلَةً وَالْوَسِيلَةِ مَقْصُودَةً؛ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً، وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا، وَإِنَّمَا هِيَ كَفَتْحِ الْبَابِ وَكَقَوَدِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ دَابَّةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ: عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَ إجَارَةَ الظِّئْرِ وَنَحْوِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: [لَيْسَ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظٌ مَحْدُودَةٌ] أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُمْ: " إنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ " دَلِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ مُجْمَلَتَيْنِ غَيْرُ مُفَصَّلَتَيْنِ، قَدْ اخْتَلَطَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْخَطَأُ بِالصَّوَابِ؛ فَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى - وَهِيَ كَوْنُ الْإِجَارَةِ بَيْعًا - إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ الَّذِي يَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْأَعْيَانِ لَا عَلَى الْمَنَافِعِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْبَيْعَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إمَّا عَلَى عَيْنٍ وَإِمَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ، وَمَنْ سَلَّمَ بُطْلَانَ بَيْعِ الْمَعْدُومِ فَإِنَّمَا يُسَلِّمُهُ فِي الْأَعْيَانِ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ: هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ بِأَيِّ لَفْظٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا، وَهَذَا حُكْمٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحُدَّ لِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا، بَلْ ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً، فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فَانْعِقَادُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. قَالَ شَيْخُنَا: بَلْ نُصُوصُ أَحْمَدَ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ؛ وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: " أَعْتَقْتُ أَمَتِي وَجَعَلْتُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا " أَنَّهُ يَعْقِدُ النِّكَاحَ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ النِّكَاحُ بِلَفْظٍ؛ وَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ أَصْلَهُ وَقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: " تَزَوَّجْتُهَا " وَأَمَّا الْقَاضِي فَجَعَلَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ فَجَوَّزَ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَاصَّةً بِدُونِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَأُصُولُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تُخَالِفُ هَذَا؛ فَإِنَّ مِنْ أُصُولِهِ أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلَا يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالصِّيَغِ. وَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالَةِ كَالصَّرِيحِ كَمَا قَالَهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ قَالُوا: مَا عَدَاهُمَا كِنَايَةً فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا اطِّلَاعَ لِلشَّاهِدِ عَلَيْهِ؛ إذْ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْمَسْمُوعِ، لَا عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ثَابِتَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ وَفِي عُرْفِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَالْمُقَدِّمَتَانِ غَيْرُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ فِي النِّكَاحِ فَقَالَ: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» «وَأَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» ، وَلَمْ يَأْتِ مَعَهُ بِلَفْظِ إنْكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ، وَأَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ النِّكَاحَ وَرَدَّ فِيهِ الْأَمَةَ إلَى مَا تَتَعَارَفُهُ نِكَاحًا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ تَقْسِيمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَانَ بَاطِلًا، فَمَا هُوَ الضَّابِطُ لِذَلِكَ؟ وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكَوْنُ اللَّفْظِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَكَمْ مِنْ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عِنْدَ آخَرِينَ، وَفِي مَكَان دُونَ مَكَان وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا عِنْدَ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. [جَوَّزَ الشَّارِعُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: " إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ " إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْعَامَّ فَصَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: " إنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ عَلَى مَعْدُومٍ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ، فَإِنْ قِسْتُمْ بَيْعَ الْمَنَافِعِ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَهَذَا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهَا الْحِسُّ وَالشَّرْعُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَالْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَنَهَى عَنْ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهَا، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ، فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُوجَدَ وَجَوَّزَ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعًا لِمَا وُجِدَ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَبِدُونِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجَوِّزْهُ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ كَالْمَنَافِعِ؛ فَهَذَا جُوِّزَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: أَنَا أَقِيسُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَأَجْعَلُ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا. قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَقَوْلُكَ: " إنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا " دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ. بَلْ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ مَعْدُومًا يُمْكِنُ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ إلَى زَمَنِ وُجُودِهِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمٍ خَاصٍّ، وَأَنْتَ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا؛ فَقِيَاسُكَ فَاسِدٌ، وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ فَسَادِهِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ، فَنَقُولُ: مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ، وَمَا ذَكَرْتَهُ عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ، فَإِنَّكَ إذَا عَلَّلْتَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ وَرَدَ عَلَيْكَ النَّقْضُ بِالْمَنَافِعِ كُلِّهَا وَبِكَثِيرٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 الْأَعْيَانِ وَمَا عَلَّلْنَا بِهِ لَا يُنْتَقَضُ، وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا وَمُنَاسَبَاتُهَا تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ فِي بَيْعِهِ حَالَ الْعَدَمِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ، وَبِذَلِكَ عَلَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ: «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلَا قِمَارًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ يَسِيرَةٌ فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا، وَالْغَرَرُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْمُخَاطَرَةِ؛ فَلَا يُزِيلُ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ بِأَعْلَاهُمَا. بَلْ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ ضِدُّ ذَلِكَ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رِبًا أَوْ مُخَاطَرَةٍ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُزَابَنَةِ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ لِلضَّرُورَةِ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَبَاحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ لِلْخَاطِبِ وَالْمُعَامِلِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. [الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ] قِيلَ: إنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْفَرْعَ اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ حُكْمٍ اسْتَنَدَ إلَى هَذَا الْفَرْقِ الصَّحِيحِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ. وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ أَوْ يَمْنَعُهُ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي جَاءَ الشَّرْعُ دَائِمًا بِإِبْطَالِهِ، كَمَا أَبْطَلَ قِيَاسَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ، وَقِيَاسَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى، وَقِيَاسَ الْمَسِيحِ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصْنَامِ، وَبَيَّنَ الْفَارِقَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ لَهُ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ؟ بِخِلَافِ الْأَصْنَامِ؛ فَمَنْ قَالَ: " إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ " فَقَدْ أَصَابَ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَقَالُوا: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي اعْتَرَفَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ بِبُطْلَانِهِ حَيْثُ قَالُوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 97] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] وَذَمَّ اللَّهُ أَهْلَهُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أَيْ يَقِيسُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ وَمَقَالَةٍ فَاسِدَةٍ فِي أَدْيَانِ الرُّسُلِ فَأَصْلُهَا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، فَمَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَفْعَالَهُ وَعُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِعِبَادِهِ وَرُؤْيَتَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ إلَّا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَمَا أَنْكَرَتْ الْقَدَرِيَّةُ عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَجَعَلَتْ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَمَا ضَلَّتْ الرَّافِضَةُ وَعَادُوا خِيَارَ الْخَلْقِ وَكَفَّرُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبُّوهُمْ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَمَا أَنْكَرَتْ الزَّنَادِقَةُ وَالدَّهْرِيَّةُ مُعَادَ الْأَجْسَامِ وَانْشِقَاقَ السَّمَاوَاتِ وَطِّي الدُّنْيَا وَقَالَتْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَمَا فَسَدَ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ وَخَرَبَ مَا خَرَبَ مِنْهُ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ، وَهُوَ الَّذِي جَرَّ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقِيَاسِ مَا جَرَّ، فَأَصْلُ شَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعُهُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا يَدْرِيهَا إلَّا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْوَاقِعِ وَلَهُ فِقْهٌ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدْرِ. [فَصَلِّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي الْقِيَاس] فَصْلٌ. [مَنْعُ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ] : وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ - فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا. أَحَدُهُمَا: مَنْعُ صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ؛ إذْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ، لَا بِلَفْظٍ عَامٍّ وَلَا بِمَعْنَى عَامٍّ، وَإِنَّمَا فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ؛ فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْعَدَمِ وَلَا الْوُجُودِ، بَلْ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهُوَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا؛ إذْ مُوجَبُ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، فَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِمِيهِ فَهُوَ غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا بِوَكْسٍ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ تَسَلُّمُهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ قَمَرَهُ الْبَائِعُ، وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نُهِيَ عَنْهُ لِلْغَرَرِ لَا لِلْعَدَمِ، كَمَا إذَا بَاعَهُ مَا تَحْمِلُ هَذِهِ الْأَمَةُ أَوْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ فَالْبَيْعُ لَا يُعْرَفُ وُجُودُهُ وَلَا قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ؛ وَهَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ أَنْ يُكْرِيَهُ دَابَّةً لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَهُ أَمَةً لَا يَمْلِكُهَا أَوْ ابْنَةً لَمْ تُولَدْ لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَلَا غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ وَمَا لَا يَقْدِرُ، وَطَرْدُهُ الْهِبَةَ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ فِيهَا؛ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِبَةُ الْمُشَاعِ الْمَجْهُولِ فِي قَوْلِهِ لِصَاحِبِ كُبَّةِ الشَّعْرِ حِينَ أَخَذَهَا مِنْ الْمَغْنَمِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا لَهُ فَقَالَ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ» . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: بَلْ الشَّرْعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ؛ فَإِنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَالْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَأَبَاحَهُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَالْحِصْرِمِ جَازَ، فَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِهِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ التَّبْقِيَةَ إلَى الصَّلَاحِ، وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ قَبْلَ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا وَجَعَلَ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْقَطْعَ، وَحَرَّمَ بَيْعَهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا؛ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا أَذِنَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ، فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ تَأْخِيرِهِ سَوَاءٌ بَدَا صَلَاحُهُ أَوْ لَمْ يَبْدُ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُهُ: " إنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ " جَوَابُهُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ مِمَّا يَسُوغُ لَهُمَا أَنْ يُوجِبَاهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَبِيعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ، بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ التَّأْخِيرَ إمَّا فِي الثَّمَنِ وَإِمَّا فِي الْمُثَمَّنِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَمَصْلَحَةٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ لِلْمَبِيعِ، كَمَا كَانَ لِجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ تَسْلِيمِ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ الشَّارِعُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْآخِرَةِ فِيهَا؟ إذْ قَدْ رَضِيَ بِهَا كَمَا «رَضِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَابِرٍ بِتَأْخِيرِ تَسْلِيمِ الْبَعِيرِ» ، وَلَوْ لَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِهَذَا لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ بَائِعٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ مَالَهُ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ، كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَابَّةً وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، بَلْ لَوْ وَهَبَهُ وَاسْتَثْنَى نَفْعَهُ مُدَّةً، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً، أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوْ كَاتَبَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى وَطْئَهَا مُدَّةَ الْكِتَابَةِ، وَنَحْوَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ، بِنَاءً عَلَى هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الْأَصْلِ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ تَلِي الْعَقْدَ، وَعَلَى هَذَا بَنَوْا مَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مَخْزَنًا لَهُ فِيهِ مَتَاعٌ كَثِيرٌ لَا يُنْقَلُ فِي يَوْمٍ وَلَا أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَمْعُ دَوَابِّ الْبَلَدِ وَنَقْلُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ قَالُوا: هَذَا مُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ، فَيُقَالُ: وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ، كَمَا أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ أَوْسَعُ مِنْ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ. [مَنْعُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ] وَأَيْضًا قَوْلُكُمْ: " إنَّ مُوجَبَ الْعَقْدَ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِيبَهُ " أَتَعْنُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ مُطْلَقِ الْعَقْدِ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ الثَّانِيَ فَمَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْقَسِمُ إلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ مَا قُيِّدَ بِهِ، كَمَا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ وَثُبُوتِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمِينِ هُوَ مَا قُيِّدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ شَيْءٌ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ شَيْءٌ، وَالْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقَّةً الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْقَبْضَ فِي الْحَالِ، بَلْ الْقَبْضُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ انْتِهَاءِ صَلَاحِهَا، وَدَخَلَ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ بَيْعُ مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَقَبْضُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَهُوَ قَبْضٌ يُبِيحُ التَّصَرُّفَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبْضًا لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ، بَلْ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ الْمُعْتَادِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَطْعًا؛ فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَحَّ صِحَّةً لَا رَيْبَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِيهَا؛ فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُهُ عَدَمُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ تَوَقَّفَ فِي صِحَّتِهَا، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الطَّرِيقُ الْأُخْرَى الَّتِي لَا عِلَّةَ لَهَا وَلَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازَعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ، وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّصَرُّفَ لَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ، فَقَبْضُ الْعَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ، وَقَبْضُ الْعَيْنِ الْمُسْتَامَةِ وَالْمُسْتَعَارَةِ وَالْمَغْصُوبَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَا يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ. [فَصَلِّ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَنَحْوِهِمَا] فَصْلٌ: [بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَنَحْوِهِمَا] وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَالْبَاذِنْجَانِ؛ فَمَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً قَالَ: لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ فَهُوَ كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ ظُهُورِهَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَقَوْلُهُمْ أَصَحُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا تَتَمَيَّزُ اللَّقْطَةُ الْمَبِيعَةُ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا تَقُومُ الْمَصْلَحَةُ بِبَيْعِهَا كَذَلِكَ، وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ بِهِ؛ لَكَانَ أَشَقَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَعْظَمَهُ ضَرَرًا؛ وَالشَّرِيعَةُ تَأْتِي بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا لَا يُبَاعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يَنْهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ، وَإِنَّمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لِإِمْكَانِ تَأْخِيرِ بَيْعِهَا إلَى وَقْتِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَنَظِيرُ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَذِنَ فِيهِ سِوَى بَيْعِ الْمَقَاثِي إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِيهَا وَدُخُولُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ كَدُخُولِ أَجْزَاءِ الثِّمَارِ وَمَا يَتَلَاحَقُ فِي الشَّجَرِ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ [فَصَلِّ ضَمَانُ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ] فَصْلٌ: [ضَمَانُ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ] وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ - بُطْلَانَ ضَمَانِ الْحَدَائِقِ وَالْبَسَاتِينِ، وَقَالُوا: هُوَ بَيْعٌ لِلثَّمَرِ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَانِعِينَ [حُجَّةٌ عَلَى مَا] ظَنُّوهُ، فَلَا النَّصُّ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَلَا نَصَّ مَعَ الْمَانِعِينَ وَلَا قِيَاسَ وَلَا إجْمَاعَ؛ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ انْتِفَاءَ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمِنَ حَدِيقَةَ أُسَيْدَ بْنِ حُضَيْرٍ ثَلَاثَ سِنِينَ وَتَسَلَّفَ الضَّمَانَ فَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى أُسَيْدَ، وَهَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ، بَلْ قَوْلَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، وَهَذَا حُجَّةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ مَعَ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ ضَمَانَ الْأَشْجَارِ مُطْلَقًا مَعَ الْأَرْضِ وَبِدُونِهَا، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا وَأَفْرَدَ فِيهِ مُصَنَّفًا؛ فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَقْصُودُهُ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ فَيَخْدُمُ الْأَرْضَ وَيَحْرُثُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَقُومُ عَلَيْهَا، وَهُوَ نَظِيرُ مُسْتَأْجِرِ الْبُسْتَانِ لِيَخْدُمَ شَجَرَهُ وَيَسْقِيَهُ وَيَقُومَ عَلَيْهِ، وَالْحَبُّ نَظِيرُ الثَّمَرِ، وَالشَّجَرُ نَظِيرُ الْأَرْضِ، وَالْعَمَلُ نَظِيرُ الْعَمَلِ؛ فَمَا الَّذِي حَرَّمَ هَذَا وَأَحَلَّ هَذَا؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي ثَمَرًا وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَةِ الْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَشْتَرِي الْحَبَّ وَعَلَى الْبَائِعِ مُؤْنَةُ الزَّرْعِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِفَاءُ الْقِيَاسِ وَالنَّصِّ، كَمَا ظَهَرَ انْتِفَاءُ الْإِجْمَاعِ، بَلْ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَعَ الْمُجَوِّزِينَ، كَمَا مَعَهُمْ الْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالثَّمَرُ أَعْيَانٌ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ، قِيلَ: الْأَعْيَانُ هُنَا حَصَلَتْ بِعَمَلِهِ فِي الْأَصْلِ الْمُسْتَأْجَرِ، كَمَا حَصَلَ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الْحَبَّ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ، وَالثَّمَرُ حَصَلَ مِنْ شَجَرِ الْمُؤَجَّرِ. قِيلَ: لَا أَثَرَ لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الشَّرْعِ، بَلْ قَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا؛ وَالْمُسَاقِي يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ أَصْلِ الْمِلْكِ؛ وَالْمُزَارِعُ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ النَّابِتِ فِي أَرْضِ الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الْفَرْقُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ النَّمَاءُ فِيهَا مُشْتَرَكًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا كَالِاخْتِلَافِ فِي الْمُزَارَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ إجَارَتُهَا عِنْدَكُمْ أَجَوْزَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِجَارَةُ الشَّجَرِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ وَحَرَّمُوهُ تَوَصَّلُوا إلَى جَوَازِهِ بِالْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا، فَإِنَّهُمْ يُؤَجِّرُونَهُ الْأَرْضَ وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَيُسَاقُونَهُ عَلَى الشَّجَرِ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ عَلَى جُزْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 مُسَاقَاةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ وَإِجَارَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، فَجَعَلُوا مَا لَمْ يُقْصَدْ مَقْصُودًا، وَمَا قُصِدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَحَابُوا فِي الْمُسَاقَاةِ أَعْظَمَ مُحَابَاةٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بَاطِلٌ فِي الْوَقْفِ وَبُسْتَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ يَتِيمٍ أَوْ سَفِيهٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَمُحَابَاتُهُمْ إيَّاهُ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ لَا تُسَوِّغُ لَهُمْ مُحَابَاةَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يَسُوغُ اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ، بَلْ كُلُّ عَقْدٍ مُسْتَقِلٌّ بِحُكْمِهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِقْهِهِ؟ وَأَيْنَ الْقِيَاسُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهُ مِنْ الْفِقْهِ؟ فَبَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ؟ [فَصَلِّ إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ] فَصْلٌ: [إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ] فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْإِجَارَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا فِي كِتَابِهِ وَهِيَ إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ - فَبِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ، وَهَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُصُولُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنَافِعِ كَالثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَاللَّبَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْمَاءِ فِي الْبِئْرِ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْوَقْفِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْفَائِدَةِ. فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ الْوَقْفِ مَنْفَعَةً كَالسُّكْنَى وَأَنْ تَكُونَ ثَمَرَةً وَأَنْ تَكُونَ لَبَنًا كَوَقْفِ الْمَاشِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا، وَكَذَلِكَ فِي بَابِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْعَارِيَّةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالْمَتَاعِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، وَالْعَرِيَّةُ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمَنِيحَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَ الشَّاةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْقَرْضُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَرُدُّ بَدَلَهَا الْقَائِمَ مَقَامَ عَيْنِهَا؛ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ تَارَةً يُكْرِيهِ الْعَيْنَ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَعْيَانًا، وَتَارَةً لِلْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا مِنْ بَعْدِ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَلَبَنِ الظِّئْرِ وَنَفْعِ الْبِئْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَانَتْ كَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِجَارَةِ هُوَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ شَيْئًا فَشَيْئًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً، وَكَوْنُهُ جِسْمًا أَوْ مَعْنًى قَائِمًا بِالْجِسْمِ، لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ، بَلْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْحَادِثَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا أَحَقُّ بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِهَا، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ جَوَازُ إجَارَةِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لِرَضَاعِهِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ كَمَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الظِّئْرِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بِطَعَامِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَكِسْوَتِهَا، وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ مِنْ الْبَهَائِمِ بِعَلْفِهَا، وَالْمَاشِيَةِ إذَا عَاوَضَ عَلَى لَبَنِهَا، فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِيَ اللَّبَنَ مُدَّةً، وَيَكُونَ الْعَلْفُ وَالْخِدْمَةُ عَلَى الْبَائِعِ، فَهَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَهَا وَيَكُونَ عَلْفُهَا وَخِدْمَتُهَا عَلَيْهِ، وَلَبَنُهَا لَهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ؛ فَهَذَا إجَارَةٌ وَهُوَ كَضَمَانِ الْبُسْتَانِ سَوَاءٌ وَكَالظِّئْرِ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُسْتَوْفَى شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ؛ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْعَيْنِ لِيَسْقِيَ بِهَا أَرْضَهُ، وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الْحَيَوَانِ مُدَّةً لِلَبَنِهِ، ثُمَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ تَبَعًا لِنَصِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا ضَيَّقُوا بِهَا مَوْرِدَ النَّصِّ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا نَصُّهُ، وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ، وَهُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ الْمَحْضِ؛ فَالْمُجَوِّزُونَ أَسْعَدُ بِالنَّصِّ مِنْ الْمَانِعِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [فَصَلِّ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ عَنْ الْجَانِي طِبْقَ الْقِيَاسِ] فَصْلٌ: [حَمْلُ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ عَنْ الْجَانِي طِبْقَ الْقِيَاسِ] وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْقَائِلِ " حَمْلُ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ عَنْ الْجَانِي عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " وَلِهَذَا لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ وَلَا الْعَبْدَ وَلَا الصُّلْحَ وَلَا الِاعْتِرَافَ وَلَا مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَلَا تَحْمِلُ جِنَايَةَ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لَحَمَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَضْمُونًا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وَلَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهَا؛ وَبِهَذَا جَاءَ شَرْعُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَجَزَاؤُهُ، وَحَمْلُ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ غَيْرُ مُنَاقِضٍ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْعَقْلِ: هَلْ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا تَنَازَعُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي يَجِبُ أَدَاؤُهَا عَنْ الْغَيْرِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، هَلْ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي مَا لَوْ أَخْرَجَهَا مَنْ تَحَمَّلَتْ عَنْهُ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُتَحَمِّلِ لَهَا؛ فَمَنْ قَالَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَيْرِ تَحَمُّلًا قَالَ: يُجْزِئُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَالَ: لَا تُجْزِئُ، بَلْ هِيَ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ الْغَيْرِ، وَكَذَلِكَ الْقَاتِلُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ، هَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَالْعَقْلُ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَسْبَابٍ اقْتَضَتْ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَالٌ كَثِيرٌ، وَالْعَاقِلَةُ إنَّمَا تَحْمِلُ الْخَطَأَ، وَلَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا شُبْهَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْخَطَأُ يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ، وَإِهْدَارُ دَمِ الْمَقْتُولِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ بِالْكُلِّيَّةِ فِيهِ إضْرَارٌ بِأَوْلَادِهِ وَوَرَثَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ بَدَلِهِ؛ فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَقِيَامِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ أَوْجَبَ بَدَلَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنُصْرَتُهُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعَانَتَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَكَذَا مَسْكَنُهُمْ وَإِعْفَافُهُمْ إذَا طَلَبُوا النِّكَاحَ، وَكَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيفٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَمَّدْ سَبَبَ وُجُوبِهَا وَلَا وَجَبَتْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، وَلَيْسَتْ قَلِيلَةً؛ فَالْقَاتِلُ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَمْدِ؛ فَإِنَّ الْجَانِيَ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ بَدَلُ الْقَتْلِ؛ وَبِخِلَافِ شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلْجِنَايَةِ مُتَعَمِّدٌ لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ مُعْتَدٍ، وَبِخِلَافِ بَدَلِ الْمُتْلَفِ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ فِي الْغَالِبِ لَا يَكَادُ الْمُتْلِفُ يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ، وَشَأْنُ النُّفُوسِ غَيْرُ شَأْنِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ مَا دُونَ الثُّلُثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ لِقِلَّتِهِ وَاحْتِمَالِ الْجَانِي حَمْلَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ أَقَلَّ الْمُقَدَّرِ كَأَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَتَحْمِلُ مَا فَوْقَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَحْمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ طَرْدًا لِلْقِيَاسِ؛ وَظَهَرَ بِهَذَا كَوْنُهَا لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ فَإِنَّهُ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ وَمَالٌ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَلَوْ حَمَلَتْ بَدَلَهُ لَحَمَلَتْ بَدَلَ الْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ؛ وَأَمَّا الصُّلْحُ وَالِاعْتِرَافُ فَعَارِضَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِيهِمَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ يَتَوَاطَآنِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ وَيَشْتَرِكَانِ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَيَتَصَالَحَانِ عَلَى تَغْرِيمِ الْعَاقِلَةِ، فَلَا يَسْرِي إقْرَارُهُ وَلَا صُلْحُهُ، فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ الْغَرَامَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الصُّلْحَ وَالِاعْتِرَافَ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ وَدَعْوَاهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ؛ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ، وَيُقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُعْتَرِفِ كَنَظَائِرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ كَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ خَلْقَهُ إلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ إلَّا بِسَدِّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ فِي فُضُولِ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَسُدُّ [بِهِ] خَلَّةَ الْفُقَرَاءِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ بِالْمُحْتَاجِ، فَكَانَ أَمْرُهُ بِالصَّدَقَةِ وَنَهْيُهُ عَنْ الرِّبَا أَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وَقَوْلُهُ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَ النَّاسِ فِي الْأَمْوَالِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: عَدْلٌ، وَظُلْمٌ، وَفَضْلٌ؛ فَالْعَدْلُ الْبَيْعُ، وَالظُّلْمُ الرِّبَا، وَالْفَضْلُ الصَّدَقَةُ؛ فَمَدَحَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ، وَذَمَّ الْمُرَابِينَ وَذَكَرَ عِقَابَهُمْ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالتَّدَايُنَ إلَى أَجْلٍ مُسَمًّى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ حَمْلَ الدِّيَةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 كَحَقِّ الْمَمْلُوكِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ وَالضَّيْفِ، لَيْسَتْ مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَذَاكَ لَوْنٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصَلِّ الْمُصَرَّاةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] فَصْلٌ: [بَيَانُ أَنَّ الْمُصَرَّاةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ، قَالُوا: وَهُوَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّهُ تَضَمَّنَ رَدَّ الْبَيْعِ بِلَا عَيْبٍ وَلَا خَلْفَ فِي صِفَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ «الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» ؛ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ، وَمِنْهَا أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ إيَّاهُ بِغَيْرِ مِثْلِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ مِنْ التَّضْمِينِ بِالْمِثْلِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ، وَالتَّمْرُ لَا قِيمَةَ وَلَا مِثْلَ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ إنَّمَا يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَقَدْ قُدِّرَ هَاهُنَا الضَّمَانُ بِصَاعٍ. قَالَ أَنْصَارُ الْحَدِيثِ: كُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ، وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ لَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يُضْرَبَ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلِّهَا، وَيُقَرُّ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى أَصْلِهِ وَمَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ شَرْعَهُ وَخَلْقَهُ، وَمَا عَدَا هَذَا فَهُوَ الْخَطَأُ الصَّرِيحُ. فَاسْمَعُوا الْآنَ هَدْمَ الْأُصُولِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ تَضَمَّنَ الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ وَلَا فَوَاتِ صِفَةٍ " فَأَيْنَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الرَّدِّ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَتَكْفِينَا هَذِهِ الْمُطَالَبَةُ، وَلَنْ تَجِدُوا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْحَصْرِ سَبِيلًا؛ ثُمَّ نَقُولُ: بَلْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُوجِبُ الرَّدَّ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَهُوَ الرَّدُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، فَإِنَّهُ هُوَ وَالْخُلْفُ فِي الصِّفَةِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ الرَّدُّ بِالتَّدْلِيسِ أَوْلَى مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ يُظْهِرُ صِفَةَ الْمَبِيعِ تَارَةً بِقَوْلِهِ وَتَارَةً بِفِعْلِهِ، فَإِذَا أَظْهَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ فَبَانَ بِخِلَافِهَا كَانَ قَدْ غَشَّهُ وَدَلَّسَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفَسْخِ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ لَكَانَ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا بَذَلَ مَالَهُ فِي الْمَبِيعِ بِنَاءً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِهَا لَمْ يَبْذُلْ لَهُ فِيهَا مَا بَذَلَ، فَإِلْزَامُهُ لِلْمَبِيعِ مَعَ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تُلُقُّوا وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ، وَلَيْسَ هَاهُنَا عَيْبٌ وَلَا خُلْفٌ فِي صِفَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ وَغِشٍّ. فَصْلٌ [ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ] وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ فَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ الْخَرَاجَ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ مِثْلَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَلَدُ وَاللَّبَنُ فَلَا يُسَمَّى خَرَاجًا، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مِنْ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ مَنْ أَفْسَدَ الْقِيَاسَ؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ الْحَادِثَ وَالْغَلَّةَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ الصَّاعَ عِوَضًا عَنْ اللَّبَنِ الْحَادِثِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ فِي الضَّرْعِ، فَضَمَانُهُ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ. وَأَمَّا تَضْمِينُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَفِي غَايَةِ الْعَدْلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ بِمِثْلِهِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَحْفُوظٌ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلْفَسَادِ، فَإِذَا حُلِبَ صَارَ عُرْضَةً لِحَمْضِهِ وَفَسَادِهِ، فَلَوْ ضَمِنَ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ فِي الضَّرْعِ بِلَبَنٍ مَحْلُوبٍ فِي الْإِنَاءِ كَانَ ظُلْمًا تَتَنَزَّهُ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ حَتَّى يُوجِبَ نَظِيرَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْأَقْسَامِ أَنْ تُجْهَلَ الْمُسَاوَاةُ. [الْحِكْمَةُ فِي رَدِّ التَّمْرِ بَدَلِ اللَّبَنِ. وَأَيْضًا فَلَوْ وَكَّلْنَاهُ إلَى تَقْدِيرِهِمَا أَوْ تَقْدِيرِ أَحَدِهِمَا لَكَثُرَ النِّزَاعُ وَالْخَصْمُ بَيْنَهُمَا، فَفَصَلَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ النِّزَاعَ وَقَدَّرَهُ بِحَدٍّ لَا يَتَعَدَّيَانِهِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَفَصْلًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ بِالتَّمْرِ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانَ اللَّبَنُ قُوتًا لَهُمْ، وَهُوَ مَكِيلٌ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ؛ فَكِلَاهُمَا مَطْعُومٌ مُقْتَاتٌ مَكِيلٌ، وَأَيْضًا فَكِلَاهُمَا يَقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَرُزِّ، فَالتَّمْرُ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ صَاعَ التَّمْرِ فِي كُلِّ مَكَان، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قِيلَ: هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَمَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ صَاعًا مِنْ قُوتِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذَا تَعْيِينُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَصْنَافَ الْخَمْسَةَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ مِقْدَارَ الصَّاعِ، وَهَذَا أَرْجَحُ وَأَقْرَبُ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَلَّفُ مَنْ قُوتُهُمْ السَّمَكُ مَثَلًا أَوْ الْأَرُزُّ أَوْ الدُّخْنُ إلَى التَّمْرِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ تَخْصِيصٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ فَصْلٌ [أَمْرُ الَّذِي صَلَّى فَذًّا بِالْإِعَادَةِ] وَمِنْ ذَلِكَ ظَنُّ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ صَلَّى فَذًّا خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ وَالْمَرْأَةَ فَذَّانِ وَصَلَاتُهُمَا صَحِيحَةٌ. وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَأَبْطَلَهُ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّقَدُّمُ، وَأَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ، وَالْمَأْمُومُونَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ الِاصْطِفَافُ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَتُشَاهَدَ أَفْعَالُهُ وَانْتِقَالَاتُهُ، فَإِذَا كَانَ قُدَّامَهُمْ حَصَلَ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي الصَّفِّ لَمْ يُشَاهِدْهُ إلَّا مَنْ يَلِيهِ، وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالتَّقَدُّمِ، وَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً، مُحَافَظَةً عَلَى الْمَقْصُودِ بِالِائْتِمَامِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّ السُّنَّةَ وُقُوفُهَا فَذَّةً إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ تَقِفُ مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ مُصَافَّةِ الرِّجَالِ، فَمَوْقِفُهَا الْمَشْرُوعُ أَنْ تَكُونَ خَلْفَ الصَّفِّ فَذَّةً، وَمَوْقِفُ الرَّجُلِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّفِّ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ وَأَفْسَدِهِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَشْرُوعِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ وَوَقَفَتْ وَحْدَهَا صَحَّتْ صَلَاتُهَا، قِيلَ: هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ إذَا كَانَ صَفُّ النِّسَاءِ فَحُكْمُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فِي كَوْنِهَا فَذَّةً كَحُكْمِ الرَّجُلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَفِّ الرِّجَالِ، لَكِنَّ مَوْقِفَ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَجِدْ خَلْفَ الصَّفِّ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ وَوَقَفَ مَعَهُ فَذًّا صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِلْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ؛ فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا؛ الثَّانِي - وَهُوَ طَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ - إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي قُدَّامَهُ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَكِلَاهُمَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَتْ الْمُصَافَّةُ أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِذَا سَقَطَ مَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهَا لِلْعُذْرِ فَهِيَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّهُ: " لَا وَاجِبَ مَعَ عَجْزٍ، وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 [فَصَلِّ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى مَنْ يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ - وَهُوَ قَوْلُهُ: «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ» - عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَأَنْ يَحْلِبَهَا، وَضَمَّنَهُ ذَلِكَ بِالنَّفَقَةِ لَا بِالْقِيمَةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَالصَّوَابُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا لَا تَقْتَضِي سِوَاهُ؛ فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِلْمَالِكِ فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّهْنَ مَقْبُوضًا بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَمْ يَرْكَبْهُ وَلَمْ يَحْلِبْهُ ذَهَبَ نَفْعُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ مَكَّنَ صَاحِبَهُ مِنْ رُكُوبِهِ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَتَوْثِيقِهِ، وَإِنْ كَلَّفَ صَاحِبَهُ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَأْتِيَ لِيَأْخُذَ لَبَنَهُ شَقَّ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، وَإِنْ كَلَّفَ الْمُرْتَهِنَ بَيْعَ اللَّبَنِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ لِلرَّاهِنِ شَقَّ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ وَمَصْلَحَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْحَيَوَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَيُعَوِّضَ عَنْهُمَا بِالنَّفَقَةِ، فَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَتَوْفِيرُ الْحَقَّيْنِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا، وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ، وَمَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا، فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُهْدَرَ عَلَى صَاحِبِهَا بَاطِلًا وَيُلْزَمُ بِعِوَضِ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ. وَإِنْ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ: " لَا رُجُوعَ لَكَ " كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَكَانَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي مَا فَوْقَهَا فِي الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ شَيْءٌ يُخْتَارُ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ إلْزَامٌ لَهُ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَمُعَاوَضَةٌ لَمْ يَرْضَى بِهَا. قِيلَ: وَهَذَا أَيْضًا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَمُوجَبُ الْكِتَابِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، فَلَوْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ وَلَمْ يَنْوِ التَّبَرُّعَ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ؛ فَجَوَّزَ الرُّجُوعَ فِي الدَّيْنِ دُونَ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا. قَالَ شَيْخُنَا: وَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الْقَوْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا، وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا لَمْ آذَنْ لَكَ فِي النَّفَقَةِ، قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكَ، وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَكَ بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرُ، فَإِذَا رَضِيَ الْمُنْفِقُ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ وَكَانَتْ نَظِيرَ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مَحْضٌ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ النَّصُّ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ، أَنَّ الْمُودَعَ وَالشَّرِيكَ وَالْوَكِيلَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَاعْتَاضَ عَنْ النَّفَقَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ جَازَ ذَلِكَ كَالْمُرْتَهِنِ [فَصَلِّ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ] فَصْلٌ [الْحُكْمُ فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ] وَمِمَّا قِيلَ: " إنَّهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ " حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ إسْنَادِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ أَقْدَمُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ مَعَ لِينٍ فِي سَنَدِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ صَحِيحَةٍ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. [مَنْ أَتْلَفَ مَالِ غَيْرِهِ ضَمِنَهُ] أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ فَوَّتَ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ، وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا؛ فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ - مِثْلَ أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ، أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ، أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ أَوْ دِينَهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيهِ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ، وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فَصْلٌ [الْمُتْلَفَاتُ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ] الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، حَتَّى الْحَيَوَانُ فَإِنَّهُ إذَا اقْتَرَضَهُ رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا اقْتَرَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرُورُ يَضْمَنُ وَلَدَهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ، وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ غَلَّةِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ أُتْلِفَ لَهُ شَجَرٌ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَحُكْمُ سُلَيْمَانَ هُوَ مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَإِنْ كَانَ مِثْلُ الْحَيَوَانِ وَالْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرًا فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الضَّمَانُ بِالدَّرَاهِمِ الْمُخَالِفَةِ لِلْمِثْلِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ وَإِنْ سَاوَتْ الْمَضْمُونَ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالضَّمَانُ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ الْمُسَاوِي لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذِّرَةً حَتَّى فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ أَقْرَبُ مُمَاثَلَةً مِنْ الْجِنْسِ إلَى الْقِيمَةِ؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَمُوجَبُ النُّصُوصِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ] وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ؛ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ الْجَارِيَةُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدَتِهَا فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا إذْ تَصِيرُ زَانِيَةً، وَلَا تُمَكِّنُ سَيِّدَتَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا حَقَّ الْخِدْمَةِ، لِغَيْرَتِهَا مِنْهَا وَطَمَعِهَا فِي السَّيِّدِ، وَاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا، وَتَتَشَامَخُ عَلَى سَيِّدَتِهَا فَلَا تُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْجَانِي إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِمَا يَنْقُصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ، فَقَضَى الشَّارِعُ لِسَيِّدَتِهَا بِالْمِثْلِ، وَمَلَكَهُ الْجَارِيَةَ؛ إذْ لَا يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَأَيْضًا فَلَوْ رَضِيَتْ سَيِّدَتُهَا أَنْ تَبْقَى الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِهَا وَتُغَرِّمُهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا كَانَ لَهَا ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ تَرْضَ وَعَلِمَتْ أَنَّ الْأَمَةَ قَدْ فَسَدَتْ عَلَيْهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِخِدْمَتِهَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْقَضَاءِ أَنْ يَغْرَمَ السَّيِّدُ مِثْلَهَا وَيَمْلِكُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَاطْرُدُوا هَذَا الْقِيَاسَ وَقُولُوا: إنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ قَوْمٍ حَتَّى أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّ لَهُمْ الْقِيمَةَ أَوْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا. قِيلَ: نَعَمْ هَذَا مُوجَبُ الْقِيَاسِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ؛ فَإِنَّ الْإِفْسَادَ الَّذِي فِي وَطْءِ الزَّوْجِ بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ الْإِفْسَادِ الَّذِي فِي وَطْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ جَوَابٌ مُرَكَّبٌ؛ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ فَصْلٌ. وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْجِنَايَةِ، وَلِهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ عُقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ، وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ، فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدَتِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ، وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَثَّلَ بِهَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَوْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ عَلَيْهِ، وَضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فَهَذَا نَهْيٌ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ، كَمَا قِيلَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ لَهُ إمَاءٌ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ بِهَا هُوَ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا، وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ هِيَ فَتَزْنِيَ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ. [مَا مِنْ نَصٍّ صَحِيحٍ إلَّا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَقْلِ] قَالَ شَيْخُنَا: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَمَا عَرَفْتُ حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ قَالَ: وَقَدْ تَدَبَّرْتُ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْتُ قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا، كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّحِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ، بَلْ مَتَى رَأَيْتُ قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا، لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ، فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَمَعْرِفَةِ الْمَعَانِي الَّتِي عُلِّقَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ، فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّهُمْ؛ فَلِهَذَا صَارَتْ أَقْيِسَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَجِيءُ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ، انْتَهَى. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّكُمْ خَرَّجْتُمْ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ، فَمَا تَصْنَعُونَ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَقَدْ وَطِئَ فَرْجًا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ؟ قِيلَ: الْحَدِيثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى الضَّمَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُخَرِّجُونَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي ذَلِكَ: «أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رُجِمَ بِالْحِجَارَةِ» عَلَى الْقِيَاسِ. قِيلَ: هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، مُطَابِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا؛ فَإِنَّ إحْلَالَهَا شُبْهَةٌ كَافِيَةٌ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهَا بِالْإِحْلَالِ كَانَ الْفَرْجُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ الْمِائَةُ تَعْزِيرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَى ارْتِكَابِ فَرْجٍ حَرَامٍ عَلَيْهِ، وَكَانَ إحْلَالُ الزَّوْجَةِ لَهُ وَطْأَهَا شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تُخَرِّجُونَ التَّعْزِيرَ بِالْمِائَةِ عَلَى الْقِيَاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 قِيلَ: هَذَا مِنْ أَسْهَلِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهَا وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ تَنَوَّعَ تَعْزِيرُهُ فِي الْخَمْرِ: فَتَارَةً بِحَلْقِ الرَّأْسِ، وَتَارَةً بِالنَّفْيِ، وَتَارَةً بِزِيَادَةِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ، وَتَارَةً بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ الْخَمَّارِ، وَكَذَلِكَ تَعْزِيرُ الْغَالِّ وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِهِ، وَتَعْزِيرُ مَانِعِ الصَّدَقَةِ بِأَخْذِهَا وَأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ مَعَهَا، وَتَعْزِيرُ كَاتِمِ الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ بِإِضْعَافِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ سَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ يُضَعِّفُ عَلَيْهِ الْغُرْمَ، وَكَذَلِكَ قَاتِلُ الذِّمِّيِّ عَمْدًا أَضْعَفَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ دِيَتَهُ، وَذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُضْرَبُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» . قِيلَ: نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ الْحَدَّ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْحُدُودِ عُقُوبَاتِ الْجِنَايَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالشَّرْعِ خَاصَّةً، وَالْحَدُّ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ نَفْسَ الْجِنَايَةِ تَارَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فَالْأَوَّلُ حُدُودُ الْحَرَامِ، وَالثَّانِي حُدُودُ الْحَلَالِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَالسُّورَانُ حُدُودُ اللَّهِ، وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً جِنْسُ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُضْرَبُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» يُرِيدُ بِهِ الْجِنَايَةَ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ فَمَا دُونَهَا إذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَدِّ الْجِنَايَةُ؟ . قِيلَ: فِي ضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَعَبْدَهُ وَوَلَدَهُ وَأَجِيرَهُ، لِلتَّأْدِيبِ وَنَحْوَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ؛ فَهَذَا أَحْسَنُ مَا خُرِّجَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [فَصَلِّ الْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ لَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ] وَأَمَّا الْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَعَلَى مَنْ شَرَعَ فِيهِمَا أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالدُّخُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِيمَا سِوَاهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ: هَلْ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ أَمْ لَا؟ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ إلَى حِينِ يَتَحَلَّلُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 يُسْقِطُ وَطْؤُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ النُّسُكِ، فَيَكُونُ ارْتِكَابُهُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا الصَّائِمُ إذْ أَفْطَرَ عَمْدًا لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فِطْرُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الْإِمْسَاكِ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: قَدْ بَطَلَ صَوْمُكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْكُلَ فَكُلْ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ وَقَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ إذَا أَفْسَدَهَا، وَقُلْتُمْ: يَمْضِي فِيهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا. قِيلَ: مِنْ هَاهُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُضِيَّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجَّ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ كَمَا لِلصِّيَامِ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَلِلْحَجِّ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ لَا يُمْكِنُ إحْلَالُ الْمُحْرِمِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يُمْكِنُ فِطْرُ الصَّائِمِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى وَقْتِ الْفِطْرِ، فَلَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ وَلَا فِعْلُ الْحَجِّ ثَانِيًا فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا ثَانِيًا فِي وَقْتِهَا؛ وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ وَقْتَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ بِقَدْرِ فِعْلِهِ لَا يَسَعُ غَيْرَهُ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ أَوْسَعَ مِنْهَا فَيَسَعُ غَيْرُهَا، فَيُمْكِنُهُ تَدَارُكَ فِعْلَهَا إذَا فَسَدَتْ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ إذَا فَسَدَا إلَّا فِي وَقْتٍ آخَرَ نَظِيرَ الْوَقْتِ الَّذِي أَفْسَدَهُمَا فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصَلِّ الْعُذْرُ بِالنِّسْيَانِ عَلَى خِلَاف الْقِيَاس] فَصْلٌ [الْعُذْرُ بِالنِّسْيَانِ] وَأَمَّا مَنْ أَكَلَ فِي صَوْمِهِ نَاسِيًا فَمَنْ قَالَ: " عَدَمُ فِطْرِهِ وَمُضِيِّهِ فِي صَوْمِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ نَاسِيًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ وَنَسِيَ حَتَّى صَلَّى، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: " بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ " حُجَّتُهُمْ أَقْوَى؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ، وَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ؛ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فِي صَوْمِهِ مُحَرَّمًا فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ مَأْمُورٍ. وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَطَرْدُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ صِيَامِهِ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ صِيَامُهُ وَلَا إحْرَامُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فَهُوَ كَدِيَةِ الْقَتِيلِ. وَأَمَّا اللِّبَاسُ وَالطِّيبُ فَمِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ، وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ. وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 عَلَيْهِ نَاسِيًا لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يُعَدَّ عَاصِيًا، وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْإِيمَانِ. فَلَا يُعَدُّ حَانِثًا مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا. وَطَرْدُ هَذَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الزَّكَاةَ أَوْ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ نَاسِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ مَا أُمِرَ بِهِ، فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ. وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ نَاسِيًا يُجْعَلُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَنِسْيَانُ تَرْكِ الْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي سُقُوطِهِ، كَمَا كَانَ فِعْلُ الْمَحْظُورِ نَاسِيًا عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنْ فَاعِلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْفَرْقُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُفْطِرَاتِ فِي الصَّوْمِ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْمُفْطِرَاتِ مِنْ بَابِ الْمَحْظُورِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ كَفِعْلِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ شَرْطٌ، وَلَوْلَاهَا لَمَا كَانَ عِبَادَةً، وَلَا أُثِيبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ فَكَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي كَوْنِ هَذَا التَّرْكِ عِبَادَةً، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ تَرْكٍ لَا يَكُونُ عِبَادَةً وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ يَأْثَمْ بِهِ، فَإِذَا نَوَى تَرْكَهَا لِلَّهِ ثُمَّ فَعَلَهَا نَاسِيًا لَمْ يَقْدَحْ نِسْيَانُهُ فِي أَجْرِهِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ تَرْكِهَا لِلَّهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهَا نَاسِيًا، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِعْلَ النَّاسِي غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» فَأَضَافَ فِعْلَهُ نَاسِيًا إلَى اللَّهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُرِدْهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ، وَمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكَلَّفُ بِفِعْلِهِ، لَا بِمَا يُفْعَلُ فِيهِ، فَفِعْلُ النَّاسِي كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَلَمَ الصَّائِمُ فِي مَنَامِهِ أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فِي الْيَقَظَةِ لَمْ يُفْطِرْ، وَلَوْ اسْتَدْعَى ذَلِكَ أَفْطَرَ بِهِ؛ فَلَوْ كَانَ مَا يُوجَدُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ كَمَا يُوجَدُ بِقَصْدِهِ لَأَفْطَرَ بِهَذَا وَهَذَا. [هَلْ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ؟] . فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُفَطِّرُونَ الْمُخْطِئَ كَمَنْ أَكَلَ يَظُنُّهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا أَفْطَرَ. قِيلَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا: فِعْلُ الْمُخْطِئِ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، بِخِلَافِ النَّاسِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُفْطِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْغُرُوبِ دُونَ مَسْأَلَةِ الطُّلُوعِ كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ. قَالَ شَيْخُنَا: وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: لَا يُفْطِرُ فِي الْجَمِيعِ أَقْوَى، وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَوَّى بَيْنَ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْمُخَالَفَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ، وَأَبُوهُ عُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَكَلُوا حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ مِنْ [الْخَيْطِ] الْأَبْيَضِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءٍ وَكَانُوا مُخْطِئِينَ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّهَارَ فَقَالَ: لَا نَقْضِي؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَجَانَفْ لِإِثْمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَقْضِي، وَإِسْنَادُهُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْخَطْبُ يَسِيرٌ؛ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى أَثَرًا وَنَظَرًا، وَأَشْبَهَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. قُلْتُ لَهُ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَمْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَعَلَّ الْحُكْمَ إنَّمَا شَرَعَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. فَأَجَابَنِي بِمَا مَضْمُونُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ اقْتَضَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُفْطِرٌ، وَهَذَا كَمَا لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ؛ فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلْفِطْرِ، وَلَا تَعَرَّضَ فِيهِ لِلْمَانِعِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النِّسْيَانَ مَانِعٌ مِنْ الْفِطْرِ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ، فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَالْجَهْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصَلِّ الْحُكْمُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ] وَمِمَّا ظُنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَا حَكَمَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَجَّلَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَقَدِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 الْمَفْقُودُ بَعْدَ ذَلِكَ فَخَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا؛ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى ذَلِكَ. وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ - وَقِيلَ لَهُ: فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ مِنْ الْمَفْقُودِ؟ - فَقَالَ: مَا فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، هَذَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرُوهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ، قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ ضِيقِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ فِي الْمَفْقُودِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْقَادِمِ بِكُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ نَقُولَ: الْفُرْقَةُ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ فَتَكُونُ زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ، وَغَلَا بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ لَنُقِضَ حُكْمُهُ لِبُعْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: أَخَذَتْ بِبَعْضِ قَوْلِ عُمَرَ، وَتَرَكُوا بَعْضَهُ، فَقَالُوا: إذَا تَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَلَا تُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا رُدَّتْ إلَى الْأَوَّلِ. [مَنْ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ هَلْ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودٌ أَوْ مَوْقُوفٌ] . قَالَ شَيْخُنَا: مَنْ خَالَفَ عُمَرَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا اهْتَدَى إلَيْهِ عُمَرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْخِبْرَةِ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِثْلُ خِبْرَةِ عُمَرَ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأَصْلٍ وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، هَلْ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا لَا تَقِفُ، وَهُوَ أَشْهُرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ التَّفْصِيلُ. وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَكَانَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ وَقَفَ الْعَقْدُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ لَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ؛ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ وَنَحْوِهَا فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَيَئِسَ مِنْهَا فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُمْ؛ فَإِنْ ظَهَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَبَيْنَ التَّضْمِينِ. وَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي اللُّقَطَةِ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَأْخُذُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ثُمَّ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا، فَهُوَ تَصَرُّفٌ مَوْقُوفٌ لَمَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِئْذَانُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ، وَكَذَلِكَ الْمُوصِي بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمَفْقُودُ الْمُنْقَطِعُ خَبَرُهُ إنْ قِيلَ: " إنَّ امْرَأَتَهُ تَبْقَى إلَى أَنْ يُعْلَمَ خَبَرُهُ " بَقِيَتْ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أَنْ تَبْقَى مِنْ الْقَوَاعِدِ أَوْ تَمُوتَ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا، فَلَمَّا أُجِّلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يُكْشَفْ خَبَرُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ ظَاهِرًا. فَإِنْ قِيلَ: يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْحَاجَةِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِقَادِ مَوْتِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ لَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا، وَهَذَا كَمَا سَاغَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا، فَإِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، كَمَا إذَا ظَهَرَ صَاحِبُ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي زَوْجَتِهِ بِالتَّفْرِيقِ، فَيَبْقَى هَذَا التَّفْرِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِذَا أَجَازَهُ صَارَ كَالتَّفْرِيقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا رَيْبٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَاطِلًا فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ، فَكَانَ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدَّهُ، وَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَنْ مِلْكِهِ، وَخُرُوجُ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَخَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ، فَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اخْتَارَهَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا الْمُسَمَّى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي نَصِّ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ بِرَضَاعٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوْجَ الْمُخْتَلِعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ. فَحُكْمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَفْقُودِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، مِثْلَ قَضِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَصَدُّقِهِ عَنْ سَيِّدِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ابْتَاعَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ لَمَّا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَكَتَصَدُّقِ الْغَالِّ بِالْمَالِ الْمَغْلُولِ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ قَسْمُهُ بَيْنَ الْجَيْشِ، وَإِقْرَارُ مُعَاوِيَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَصْوِيبُهُ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا، مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ إصْلَاحٌ بِلَا إفْسَادٍ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يُؤَجِّرَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرُهُ، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَضُرُّهُ، وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يُوقَفُ فِيهَا تَفْرِيقُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ، وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ بِخُرُوجِ بُضْعِ امْرَأَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ: هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا هُوَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِذَا ضَمِنَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ. وَالثَّانِي: قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ، فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَنِكَاحِ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ جِهَتِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَى الثَّانِي، وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ. وَهُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَحْرَاهَا فِي الْقِيَاسِ، وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنْ قَالَ: " إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ تَكُونَ مَعَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ " فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ؛ إذْ كَيْفَ تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدَهَا. وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ، وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ؟ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ الْإِمَامُ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبٍ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ، فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ قِيلَ: " حَقُّ الثَّانِي تَعَلَّقَ بِهَا " قِيلَ: حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي، وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَحْمَدُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَصَوَابُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَرَأَيْتُ الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا، اعْتَبَرُوا هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَسَائِلِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ. فَالْمَنْقُولُ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى ذَلِكَ فَمُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ مُنَاقِضٌ لِلْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ غَيْرَ هَذِهِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ، لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلَّا أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْتُ قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى. [فَصَلِّ مَسْأَلَةُ الزُّبْيَةِ] وَمِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَضَايَا الصَّحَابَةِ وَجَعَلُوهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةُ التَّزَاحُمِ، وَسُقُوطِ الْمُتَزَاحِمِينَ فِي الْبِئْرِ، وَتُسَمَّى «مَسْأَلَةُ الزُّبْيَةِ. وَأَصْلُهَا أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ حَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ؛ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِهَا، فَهَوَى فِيهَا وَاحِدٌ، فَجَذَبَ ثَانِيًا، فَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا، فَجَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ عَلَى الْيَمَنِ، فَقَضَى لِلْأَوَّلِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِي بِثُلُثِهَا، وَلِلثَّالِثِ بِنِصْفِهَا، وَلِلرَّابِعِ بِكَمَالِهَا، وَقَالَ: أَجْعَلُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ رَأْسَ الْبِئْرِ؛ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ» رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، ثنا أَبُو عَوَانَةَ وَأَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا تَوْقِيفًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِأَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ مِنْ فِعْلٍ مَضْمُونٍ وَمُهْدَرٍ سَقَطَ مَا يُقَابِلُ الْمُهْدَرَ وَاعْتُبِرَ مَا يُقَابِلُ الْمَضْمُونَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَوْ أَتْلَفَ مَالًا مُشْتَرَكًا أَوْ حَيَوَانًا سَقَطَ مَا يُقَابِلُ حَقَّهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ مَا يُقَابِلُ حَقَّ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي إتْلَافِ مَالِ أَحَدِهِمَا أَوْ قَتْلِ عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ سَقَطَ عَنْ الْمُشَارِكِ مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِ مِنْ الضَّمَانِ بِقِسْطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَكَ هُوَ وَأَجْنَبِيٌّ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى ثَلَاثَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 بِالْمَنْجَنِيقِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ أَحَدَهُمْ فَقَتَلَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَقْتُولِ سَاقِطٌ وَيَجِبُ ثُلُثَا دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَسْأَلَةِ الْقَارِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ اجْتَمَعْنَ فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَى عُنُقِ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَوَقَصَتْ أَيْ كَسَرَتْ عُنُقَهَا فَمَاتَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَضَى بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا عَلَى عَوَاقِلِهِنَّ، وَأَلْغَى الثُّلُثَ الَّذِي قَابَلَ فِعْلَ الْوَاقِصَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ مَاتُوا بِسُقُوطِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ هَلَكَ بِسَبَبٍ مَرْكَبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: سُقُوطُهُ، وَسُقُوطُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ. وَسُقُوطُ الثَّلَاثَةِ فَوْقَهُ مِنْ فِعْلِهِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَبَقِيَ الرُّبُعُ الْآخَرُ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ التَّزَاحُمِ فَلَمْ يُهْدَرْ؛ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ هَلَاكَهُ كَانَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: جَذْبُ مَنْ قَبْلَهُ لَهُ، وَجَذْبُهُ هُوَ لِثَالِثٍ، وَرَابِعٍ؛ فَسَقَطَ مَا يُقَابِلُ جَذْبُهُ وَهُوَ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَاعْتُبِرَ مَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْبَاقِي؛ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَحَصَلَ تَلَفُهُ بِشَيْئَيْنِ: جَذْبُ مَنْ قَبْلَهُ لَهُ، وَجَذْبُهُ هُوَ لِلرَّابِعِ، فَسَقَطَ فِعْلُهُ دُونَ السَّبَبِ الْآخَرِ؛ فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ النِّصْفُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَيْسَ مِنْهُ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجْذُوبٌ مَحْضٌ، فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَقَضَى بِهَا عَلَى عَوَاقِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْبِئْرَ لِتَدَافُعِهِمْ وَتَزَاحُمِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّكُمْ لَمْ تُوجِبُوا عَلَى عَاقِلَةِ الْجَاذِبِ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ مُبَاشِرٌ، وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ حَضَرَ الْبِئْرَ وَلَمْ يُبَاشِرْ، وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، الثَّانِي: أَنَّ هَذَا هَبْ أَنَّهُ يَتَأَتَّى لَكُمْ فِيمَا إذَا مَاتُوا بِسُقُوطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى لَكُمْ فِي مَسْأَلَةِ الزُّبْيَةِ، وَإِنَّمَا مَاتُوا بِقَتْلِ الْأَسَدِ؟ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَجَاذَبُوا فَغَرِقُوا فِي الْبِئْرِ. قِيلَ: هَذَانِ سُؤَالَانِ قَوِيَّانِ؛ وَجَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَاذِبَ لَمْ يُبَاشِرْ الْإِهْلَاكَ وَإِنَّمَا تَسَبَّبَ إلَيْهِ، وَالْحَاضِرُونَ تَسَبَّبُوا بِالتَّزَاحُمِ، وَكَانَ تَسَبُّبُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَسَبُّبِ الْجَاذِبِ؛ لِأَنَّهُ أُلْجِئَ إلَى الْجَذْبِ؛ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَلْقَى إنْسَانٌ إنْسَانًا عَلَى آخَرَ فَنَفَضَهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَقْتُلَهُ فَمَاتَ فَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُلْقِي. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلتَّلَفِ كَالْأَسَدِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ، لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَلْغَى فِعْلَهُ، وَصَارَ الْحُكْمُ لِلسَّبَبِ؛ فَفِي مَسْأَلَةِ الزُّبْيَةِ لَيْسَ لِلرَّابِعِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْضٌ. فَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَالثَّالِثُ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِهِ فَأَلْغَى مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ وَاعْتَبَرَ فِعْلَ الْغَيْرِ بِهِ، فَكَانَ قِسْطُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ جَاذِبٌ لِوَاحِدٍ وَالْمَجْذُوبُ جَاذِبٌ لِآخَرَ؛ فَكَانَ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَيْرِ فِيهِ ثُلُثُ السَّبَبِ لِجَذْبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الْأَوَّلِ لَهُ فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ السَّبَبِ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ سُقُوطُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ سَقَطُوا بِجَذْبِهِ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا، وَرُبُعُهُ مِنْ وُقُوعِهِ بِتَزَاحُمِ الْحَاضِرِينَ، فَكَانَ حَظُّهُ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَحْمِيلِ عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ مَا يُقَابِلُ فِعْلَهُ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ شُرِعَتْ مُوَاسَاةً وَجَبْرًا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْقَاتِلَ لِنَفْسِهِ أَوْ مُشَارِكًا فِي قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَ نَفْسِهِ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ نَفْسِهِ؛ فَقَضَاءُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَهُوَ أَوْلَى أَيْضًا مِنْ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُ الْمَقْتُولِ عَلَى عَوَاقِلِ الْآخَرِينَ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْجَنِيقِ أَنَّهُ يُلْغِي فِعْلَ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ وَتَجِبُ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ، وَهَذَا أَبْعَدُ عَنْ الْقِيَاسِ مِمَّا قَبْلَهُ؛ إذْ كَيْفَ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ وَالْأَجَانِبُ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ تَحَمَّلَتْهَا الْعَاقِلَةُ لَكَانَتْ عَاقِلَتُهُ أَوْلَى بِتَحَمُّلِهَا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ؛ فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ تَحْمِيلِ دِيَةِ الرَّابِعِ لِعَاقِلَةِ الثَّالِثِ، وَتَحْمِيلِ دِيَةِ الثَّالِثِ لِعَاقِلَةِ الثَّانِي، وَتَحْمِيلِ دِيَةِ الثَّانِي لِعَاقِلَةِ الْأَوَّلِ، وَإِهْدَارُ دِيَةِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ الْجَانِي عَلَى الثَّانِي فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الرَّابِعِ، وَالرَّابِعُ لَمْ يَجْنِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا قَدْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الْقِيَاسِ أَصَحُّ مِنْ قَضَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّ مَا قَضَى بِهِ عَلِيٌّ أَفْقَهُ؛ فَإِنَّ الْحَاضِرِينَ أَلْجَئُوا الْوَاقِفِينَ بِمُزَاحَمَتِهِمْ لَهُمْ فَعَوَاقِلُهُمْ أَوْلَى بِحَمْلِ الدِّيَةِ مِنْ عَوَاقِلِ الْهَالِكِينَ، وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ هَلَاكِ أَوْلِيَائِهِمْ وَحَمْلِ دِيَاتِهِمْ، فَتَتَضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الْمُصِيبَةُ، وَيُكْسَرُوا مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي جَبْرُهُمْ، وَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ تَأْبَى ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ مُصَابٍ حَظًّا مِنْ الْجَبْرِ، وَهَذَا أَصْلُ شَرْعِ حَمْلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ جَبْرًا لِلْمُصَابِ وَإِعَانَةً لَهُ. وَأَيْضًا فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ كَمَا هُمَا مَجْنِيٌّ عَلَيْهِمَا فَهُمَا جَانِيَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَعَلَى مَنْ جَذَبَاهُ، فَحَصَلَ هَلَاكُهُمْ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَأَلْغَى مَا قَابَلَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَاعْتَبَرَ جِنَايَةَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ تَحْمِيلِ دِيَةِ الرَّابِعِ لِعَوَاقِلِ الثَّلَاثَةِ، وَدِيَةِ الثَّالِثِ لِعَاقِلَةِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ، وَدِيَةِ الثَّانِي لِعَاقِلَةِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَيْضًا حَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةِ السَّبَبِ، وَقَدْ اشْتَرَكَ فِي هَلَاكِ الرَّابِعِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ قَبْلَهُ، وَفِي هَلَاكِ الثَّالِثِ الِاثْنَانِ، وَانْفَرَدَ بِهَلَاكِ الثَّانِي الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَدَقُّ وَأَفْقَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 [فَصَلِّ الْحُكْمُ فِي بَصِيرٍ يَقُودُ أَعْمَى فَيَخُرَّانِ مَعًا وَفْقَ الْقِيَاسِ] وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى، فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ، فَخَرَّ الْبَصِيرُ، وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى، فَكَانَ الْأَعْمَى يَدُورُ فِي الْمَوْسِمِ وَيُنْشِدُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرًا ... هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَذَهَبَ إلَى قَضَاءِ عُمَرَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى ضَمَانُ الْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ وَكَانَ سَبَبُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَعْمَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ بِقَصْدِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُغْنِي: لَوْ قِيلَ هَذَا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ. وَالْقِيَاسُ حُكْمُ عُمَرَ؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْدَهُ لَهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يُضْمَنْ كَنَظَائِرِهِ. الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ قَوْدُهُ لَهُ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا، وَمَنْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِذْنَانِ إذْنُ الشَّارِعِ وَإِذْنُ الْأَعْمَى، فَهُوَ مُحْسِنٌ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ مُحْسِنٌ إلَى الْأَعْمَى بِقَوْدِهِ لَهُ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ سَقَطَ عَلَى الْبَصِيرِ فَقَتَلَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ مِنْ سَطْحٍ عَلَى آخَرَ فَقَتَلَهُ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَقَوْلُهُمْ: " هُوَ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ " فَهَذَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ قَوْدَهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، وَقَوْلُهُمْ: " وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ " فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسِيءٌ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ قَوْلُ عُمَرَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 [فَصَلِّ حُكْمُ عَلِيٍّ فِي جَمَاعَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ وَفْقَ الْقِيَاسِ] ِ] . وَمِمَّا أَشْكَلَ عَلَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَظَنُّوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ الْقِيَاسِ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ فِي الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَنَازَعُوا الْوَلَدَ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَذِهِ الْحُكُومَةَ وَنُبَيِّنُ مُطَابَقَتَهَا لِلْقِيَاسِ؛ فَذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: إنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ فِي وَلَدٍ قَدْ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، ثُمَّ قَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، ثُمَّ قَالَ لِاثْنَيْنِ: طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا، فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، إنِّي مُقْرِعٌ بَيْنَكُمْ، فَمَنْ قُرِعَ فَلَهُ الْوَلَدُ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَهُ لِمَنْ قُرِعَ لَهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ أَضْرَاسُهُ أَوْ نَوَاجِذُهُ» . وَفِي إسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكَنْدَرِيُّ الْأَجْلَحُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَى عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لِاثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا؟ قَالَا: لَا، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي صَارَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ لِصَاحِبَيْهِ عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ بِإِسْقَاطِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، قَالَ النَّسَائِيّ: وَهَذَا أَصْوَبُ، قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَلَا يُوجِبُ إرْسَالًا لِلْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ خَيْرٍ سَمِعَ مِنْ عَلِيٍّ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، فَهَبْ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْمَتْنِ، فَمِنْ أَيْنَ يَجِيءُ الْإِرْسَالُ؟ وَبَعْدُ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَذَهَبَ إلَى الْقَوْل بِهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ السُّنَّةُ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَسُئِلَ عَنْهُ فَرَجَّحَ عَلَيْهِ حَدِيثَ الْقَافَةِ وَقَالَ: حَدِيثُ الْقَافَةِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي النَّسَبِ. وَالثَّانِي: تَغْرِيمُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ثُلُثَيْ دِيَةِ وَلَدِهِ لِصَاحِبَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ؛ فَلِذَلِكَ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَبْعَدِ شَيْءٍ عَنْ الْقِيَاسِ. فَيُقَالُ: الْقُرْعَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ فُقْدَانِ مُرَجِّحٍ سِوَاهَا مِنْ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ قَافَةٍ، وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 بِبَعِيدٍ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ إذْ هِيَ غَايَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ تَرْجِيحِ الدَّعْوَى، وَلَهَا دُخُولٌ فِي دَعْوَى الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِقَرِينَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ، فَدُخُولُهَا فِي النَّسَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْخَفِيِّ الْمُسْتَنِدِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَأَمَّا أَمْرُ الدِّيَةِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ يُوجِبُ الدِّيَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْوِيتُ نَسَبِهِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَهُ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَطْءُ كُلِّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْوَلَدِ لَهُ، فَقَدْ فَوَّتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِوَطْئِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَنْ كَانَ لَهُ الْوَلَدُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ مُفَوِّتًا لِنَسَبِهِ عَلَى صَاحِبَيْهِ فَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى إتْلَافِ الْوَلَدِ، وَنُزِّلَ الثَّلَاثَةُ مَنْزِلَةَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَحِصَّةُ الْمُتْلِفُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ إذْ قَدْ عَادَ الْوَلَدُ لَهُ؛ فَيَغْرَمُ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمَا بِوَطْئِهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ شَرْعًا هِيَ دِيَتُهُ، فَلَزِمَهُ لَهُمَا ثُلُثَا قِيمَتِهِ وَهِيَ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَتْلَفَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثَا الْقِيمَةِ لِشَرِيكَيْهِ؛ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ الْحُرِّ عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ الْقُرْعَةِ كَإِتْلَافِ الرَّقِيقِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَنَظِيرُ هَذَا تَضْمِينُ الصَّحَابَةِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ الْأَمَةِ لَمَّا فَاتَ رِقُّهُمْ عَلَى السَّيِّدِ بِحُرِّيَّتِهِمْ، وَكَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ وَأَدَقِّهِ، وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهِ إلَّا أَفْهَامُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَلِهَذَا وَلَدُ الْحُرِّ مِنْ أَمَةِ الْغَيْرِ رَقِيقٌ، وَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ حُرٌّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِالْأَمَةِ رُقَّ نِصْفُهُ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِالْحُرَّةِ عَتَقَ نِصْفُهُ؛ فَوَلَدُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ بِهَذَا الْمَغْرُورِ كَانُوا بِصَدَدِ أَنْ يَكُونُوا أَرِقَّاءَ لِسَيِّدِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الزَّوْجُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ دَخَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ أَحْرَارًا، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ اعْتِقَادَ الْوَاطِئِ، فَانْعَقَدَ وَلَدُهُ أَحْرَارًا، وَقَدْ فَوَّتَهُمْ عَلَى السَّيِّدِ، وَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْآخَرِ، وَلَا تَفْوِيتُ حَقِّ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ؛ فَحَفِظَ الصَّحَابَةُ الْحَقَّيْنِ وَرَاعُوا الْجَانِبَيْنِ، فَحَكَمُوا بِحُرِّيَّةِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُمْ رَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ، وَلَوْ تَوَهَّمَ رِقَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُضَيِّعُوا حَقَّ السَّيِّدِ، بَلْ حَكَمُوا عَلَى الْوَاطِئِ بِفِدَاءِ أَوْلَادِهِ، وَأَعْطُوا الْعَدْلَ حَقَّهُ؛ فَأَوْجَبُوا فِدَاءَهُمْ بِمِثْلِهِمْ تَقْرِيبًا لَا بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ وَفُّوا الْعَدْلَ بِأَنْ مَكَّنُوا الْمَغْرُورَ مِنْ الرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ؛ لِأَنَّ غُرْمَهُ كَانَ بِسَبَبِ غُرُورِهِ، وَالْقِيَاسُ وَالْعَدْلُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِ مَالِ شَخْصٍ أَوْ تَغْرِيمِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 مَا غَرِمَهُ، كَمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ؛ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إتْلَافٌ بِسَبَبٍ، وَإِتْلَافُ الْمُتَسَبِّبِ كَإِتْلَافِ الْمُبَاشِرِ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: وَبَعْدُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ كَمَا هُوَ بَعْضُ الْأُمِّ وَجُزْءٌ مِنْهَا فَهُوَ بَعْضُ الْأَبِ، وَبَعْضِيَّتُهُ لِلْأَبِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضِيَّتِهِ لِلْأُمِّ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ تَخْلِيقَهُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] وَنَظَائِرُهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي إنْ لَمْ تَخْتَصَّ بِمَاءِ الرَّجُلِ فَهِيَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْ الْوَطْءِ وَجُزْءًا مِنْ الْأُمِّ فَكَيْفَ كَانَ مِلْكًا لِسَيِّدِ الْأُمِّ دُونَ سَيِّدِ الْأَبِ؟ وَيُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بَذْرَ غَيْرِهِ فَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْوَلَدَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأَبِ كَمَا هُوَ مُنْعَقِدٌ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ، وَلَكِنْ إنَّمَا تَكُونُ وَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي بَطْنِ الْأُمِّ؛ فَالْأَجْزَاءُ الَّتِي صَارَ بِهَا كَذَلِكَ مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ أَضْعَافُ الْجُزْءِ الَّذِي مِنْ الْأَبِ، مَعَ مُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ؛ فَهُوَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَحْشَائِهَا مِنْ لَحْمِهَا وَدَمِهَا، وَلَمَّا وَضَعَهُ الْأَبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ مَاءً مَهِينًا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى رَمَكَةِ آخَرَ كَانَ الْوَلَدُ لِمَالِكِ الْأُمِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَذْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَهُ قِيمَةٌ قَبْلَ وَضْعِهِ فِي الْأَرْضِ يُعَاوَضُ عَلَيْهِ بِالْأَثْمَانِ، وَعَسْبُ الْفَحْلِ لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهِ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ، وَجَعَلْتُمُوهُ لِلْأُمِّ كَمَا جَعَلْتُمُوهُ لِلْأَبِ. قِيلَ: قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لِلْأَبِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ، وَالْأُمُّ وِعَاءٌ وَإِنْ تَكَوَّنَ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْوَلَدَ خَلِيفَةَ أَبِيهِ وَشَجْنَتِهِ وَالْقَائِمَ مَقَامَهُ، وَوَضَعَ الْأَنْسَابَ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَيُقَالُ: فُلَانٌ بْنُ فُلَانٍ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ وَتَعَارُفُهُمْ وَمُعَامَلَاتُهُمْ إلَّا بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فَلَوْلَا ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ لَمَا حَصَلَ التَّعَارُفُ، وَلَفَسَدَ نِظَامُ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ النِّسَاءَ مُحْتَجِبَاتٍ مَسْتُورَاتٍ عَنْ الْعُيُونِ؛ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْغَالِبِ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 تُعْرَفَ عَيْنُ الْأُمِّ فَيَشْهَدُ عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهَا، فَلَوْ جُعِلَتْ الْأَنْسَابُ لِلْأُمَّهَاتِ لَضَاعَتْ وَفَسَدَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يُدْعَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآبَائِهِمْ لَا بِأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ يُدْعَى النَّاسُ بِآبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ» . فَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ أَنْ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَالنَّسَبَ تَبَعًا لِلْأَبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا طَرَدْتُمْ ذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، بَلْ جَعَلْتُمُوهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَالْوَلَاءُ لَحْمَةٌ كَلَحْمَةِ النَّسَبِ. قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْوَلَاءُ مِنْ آثَارِ الرِّقِّ وَمُوجَبَاتُهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَكَانَ لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ شَائِبَةُ النَّسَبِ وَهُوَ لَحْمَةٌ كَلَحْمَتِهِ رَجَعَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَثَرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْوَلَدَ فِي الدَّيْنِ تَابِعًا لِمَنْ لَهُ النَّسَبُ، بَلْ أَلْحَقْتُمُوهُ بِأَبِيهِ تَارَةً وَبِأُمِّهِ تَارَةً. قِيلَ: الطِّفْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا تَابِعًا لِغَيْرِهِ؛ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ تَابِعًا لِخَيْرِ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ تَغْلِيبًا لِخَيْرِ الدِّينَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ التَّبَعِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ الشَّيْطَانِ، وَتَنْقَطِعُ تَبَعِيَّتُهُ عَمَّنْ هُوَ عَلَى دِينِ الرَّحْمَنِ؛ فَهَذَا مُحَالٌ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلُوهُ تَابِعًا لِسَابِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ لِأَبَوَيْهِ قَدْ انْقَطَعَتْ وَصَارَ السَّابِي هُوَ أَحَقَّ بِهِ. قِيلَ: نَعَمْ، وَهَكَذَا نَقُولُ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ أَهْلِ الشَّامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَام ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِسَابِيهِ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ، قَالُوا: لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْ أَبَوَيْهِ وَصَارَ تَابِعًا لِسَابِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَالثَّانِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَبَوَيْهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ سُبِيَ مَعَ الْأَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 تَبِعَهُ فِي دِينِهِ، وَإِنْ سُبِيَ مَعَ الْأُمِّ وَحْدَهَا فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الثَّغْرِ أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ التَّنَاقُضِ؛ فَإِنَّ السَّابِيَ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ كَوْنِهِمَا أَسِيرَيْنِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، بَلْ انْقِطَاعُ تَبَعِيَّتِهِ لَهُمَا فِي حَالِ أَسْرِهِمَا وَقَهْرِهِمَا وَإِذْلَالِهِمَا وَاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِمَا أَوْلَى مِنْ انْقِطَاعِهَا حَالَ قُوَّةِ شَوْكَتِهِمَا وَخَوْفِ مَعَرَّتِهِمَا، فَمَا الَّذِي يُسَوِّغُ لَهُ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَالشِّرْكَ بِهِ وَأَبَوَاهُ أَسِيرَانِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَمَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَوَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ مَحْضٌ؟ وَأَيْضًا فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا سُبِيَ الْأَبَوَانِ ثُمَّ قُتِلَا فَهَلْ يَسْتَمِرُّ الطِّفْلُ عَلَى كُفْرِهِ عِنْدَكُمْ أَوْ تَحْكُمُونَ بِإِسْلَامِهِ؟ فَمِنْ قَوْلِكُمْ إنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى كُفْرِهِ كَمَا لَوْ مَاتَا فَيُقَالُ: وَأَيُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ أَوْ مَعْنًى مُعْتَبَرٍ أَوْ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ بَيْنَ أَنْ يُقْتَلَا فِي حَالِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ الْأَسْرِ وَالسَّبْيِ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ لِأَجْلِهِ إذَا سُبِيَ وَحْدَهُ زَائِلًا بِسَبَائِهِمَا ثُمَّ قَتْلُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؟ وَأَيْضًا فَهَلْ تَعْتَبِرُونَ وُجُودَ الطِّفْلِ وَالْأَبَوَيْنِ فِي مِلْكِ سَابٍ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونُ مَعَهُمَا فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ؟ فَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ الْأَوَّلَ طُولِبْتُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اعْتَبَرْتُمْ الثَّانِيَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ انْقِطَاعُ تَبَعِيَّتِهِ لَهُمَا وَاسْتِيلَائِهِمَا عَلَيْهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِسَابِيهِ، وَوُجُودِهِمَا بِحَيْثُ لَا يُمَكَّنَانِ مِنْهُ وَمِنْ تَرْبِيَتِهِ وَحَضَانَتِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَهُوَ كَوُجُودِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الطِّفْلَ لَمَّا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جَعْلِهِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِمَالِكِهِ وَسَابِيهِ وَمَنْ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِأَبَوَيْهِ وَلَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْأَبَوَيْنِ قَدْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ الْمِيرَاثُ وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، فَمَا بَالُ وِلَايَةِ الدَّيْنِ الْبَاطِلِ بَاقِيَةٌ وَحْدَهَا؟ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَشْتَرُوا رَقِيقًا مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْأَمْصَارِ، وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ فِي تَمْلِيكِهِ لِلْكَافِرِ وَنَقْلِهِ عَنْ يَدِ الْمُسْلِمِ قَطْعًا لِمَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَعَالِمِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِهِ الْقُرْآنَ، فَرُبَّمَا دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلَوْ كَانَ تَابِعًا لِأَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا لَمْ يُمْنَعَا مِنْ شَرَاهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْأَبَوَانِ أَنْ تَحْكُمُوا بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ لِانْقِطَاعِ تَبَعِيَّتِهِ لِلْأَبَوَيْنِ وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ زَالَ مُعَارِضُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَهْوِيدُ الْأَبَوَيْنِ وَتَنْصِيرِهِمَا. قِيلَ: قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا وَيُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَيَكُونُ مُسْلِمًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَطْرُدُونَ هَذَا فِيمَا لَوْ انْقَطَعَ نَسَبُهُ عَنْ الْأَبِ مِثْلَ كَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا أَوْ مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ؟ قِيلَ: نَعَمْ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِإِسْلَامِهِ بِالْفِطْرَةِ، وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَهُوَ وُجُودُ الْأَبَوَيْنِ، وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي الدَّلِيلِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْهُ اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْمَسْبِيِّ أَنَّ الْمَسْبِيَّ قَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِمَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ، وَصَارَ تَابِعًا لِسَابِيهِ الْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِأَقَارِبِهِ أَوْ وَصِيِّ أَبِيهِ؛ فَإِنْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ فَلَمْ تَنْقَطِعْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَوْصِيَائِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَنْ تَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ وَتَنْصِيرِهِمَا، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ، وَهَذَا لَا مَفْهُومَ لَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ بِمَوْتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَرْكِهِمْ الْأَطْفَالَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا وُلَاةِ الْأُمُورِ لِأَطْفَالِهِمْ، وَلَمْ يَقُولُوا هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُهْمِلُهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَطْرُدُونَ هَذَا الْأَصْلَ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لِلْمَالِكِ، فَتَقُولُونَ: إذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ طِفْلًا كَافِرًا يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، أَوْ تَتَنَاقَضُونَ فَتُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّابِي؟ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ مِنْ أَمَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَوْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ مِنْهُمْ بِأَمَةٍ فَأَوْلَدَهَا ثُمَّ بَاعَ السَّيِّدُ هَذَا الْوَلَدَ لِمُسْلِمٍ. قِيلَ: نَعَمْ نَطْرُدُهُ وَنَحْكُمُ بِإِسْلَامِهِ. قَالَهُ شَيْخُنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَلَكِنَّ جَادَّةَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ كَمَا لَوْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَى. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ شَيْخِنَا؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ لِلْأَبَوَيْنِ قَدْ زَالَتْ، وَانْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ وَالْمِيرَاثُ وَالْحَضَانَةُ بَيْنَ الطِّفْلِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَصَارَ الْمَالِكُ أَحَقَّ بِهِ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ؛ فَلَا يُفْرَدُ عَنْهُ بِحُكْمٍ، فَكَيْفَ يُفْرَدُ عَنْهُ فِي دِينِهِ؟ وَهَذَا طَرْدُ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ فِي مَسْأَلَةِ السَّبَاءِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ] فَصْلٌ [لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ] فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَلَا فِي الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 دَائِرٌ مَعَ أَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّحِيحَ دَائِرٌ مَعَ أَخْبَارِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، فَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِمَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَشْرَعْ مَا يُنَاقِضُ الْمِيزَانَ وَالْعَدْلَ [شُبُهَاتٌ لِنُفَاتِ الْقِيَاسِ وَأَمْثِلَةٌ لَهَا] وَلِنُفَاتِ الْحُكْمِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْقِيَاسِ هَا هُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ فَرَضَ الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ وَأَبْطَلَ الصَّوْمَ بِإِنْزَالِهِ عَمْدًا، وَهُوَ طَاهِرٌ، دُونَ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَهُوَ نَجِسٌ، وَأَوْجَبَ غَسْلَ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَالنَّضْحِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ مَعَ تَسَاوِيهِمَا، وَنَقَصَ الشَّطْرَ مِنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَأَبْقَى الثُّلَاثِيَّةَ وَالثُّنَائِيَّةَ عَلَى حَالِهِمَا، وَأَوْجَبَ قَضَاءَ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ الْقَبِيحَةِ الْمَنْظَرِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَجَوَّزَهُ إلَى الْأَمَةِ الشَّابَّةِ الْبَارِعَةِ الْجَمَالِ، وَقَطَعَ سَارِقَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ دُونَ مُخْتَلِسٍ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ مُنْتَهِبِهَا أَوْ غَاصِبِهَا، ثُمَّ جَعَلَ دِيَتَهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ؛ فَقَطَعَهَا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَجَعَلَ دِيَتَهَا هَذَا الْقَدْرَ الْكَبِيرَ، وَأَوْجَبَ حَدَّ الْفِرْيَةِ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِالزِّنَا دُونَ مَنْ قَذَفَهُ بِالْكُفْرِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَاكْتَفَى فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ الزِّنَا، وَالْقَتْلُ أَكْبَرُ مِنْ الزِّنَا، وَجَلَدَ قَاذِفَ الْحُرِّ الْفَاسِقِ دُونَ الْعَبْدِ الْعَفِيفِ الصَّالِحِ، وَفَرَّقَ فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ مَعَ اسْتِوَاءِ حَالِ الرَّحِمِ فِيهِمَا. وَجَعَلَ عِدَّةَ الْحُرَّةِ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَاسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِحَيْضَةٍ وَالْمَقْصُودُ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَحَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثُمَّ أَبَاحَهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ وَحَالُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَأَوْجَبَ غَسْلَ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ وَلَمْ يُوجِبْ غَسْلَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ وَنَدِمَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَاعْتَبَرَ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقَبْلَ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْمَمْلُوكِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَكَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، وَأَوْجَبَ الصَّدَقَةَ فِي السَّوَائِمِ وَأَسْقَطَهَا عَنْ الْعَوَامِلِ، وَجَعَلَ الْحُرَّةَ الْقَبِيحَةَ الشَّوْهَاءَ تُحْصِنُ الرَّجُلَ وَالْأَمَةَ الْبَارِعَةَ الْجَمَالَ لَا تُحْصِنُهُ، وَنَقَضَ الْوُضُوءَ بِمَسِّ الذَّكَرِ دُونَ مَسِّ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَدُونَ مَسِّ الْعَذِرَةِ وَالدَّمِ، وَأَوْجَبَ الْحَدَّ فِي الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْخَمْرِ وَلَمْ يُوجِبْهُ بِالْأَرْطَالِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الدَّمِ وَالْبَوْلِ، وَقَصَرَ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ عَلَى أَرْبَعٍ وَأَطْلَقَ مِلْكَ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرْأَةِ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ وُجُودِ الشَّهْوَةِ وَقُوَّةِ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَجَوَّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ أَمَتِهِ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَمْتِعَ مِنْ عَبْدِهَا لَا بِوَطْءٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُطَلِّقِ بِالثَّالِثَةِ دُونِ الثَّانِيَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَلَحْمِ الْبَقَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وَالْغَنَمِ وَالْجَوَامِيسِ وَغَيْرِهَا فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَحْدَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ بِمُرُورِ الْأَسْوَدِ وَحْدَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدُّبُرِ فَأَوْجَبَ بِهَا الْوُضُوءَ وَبَيْنَ الْجَشْوَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْحَلْقِ فَلَمْ يُوجِبْ بِهَا الْوُضُوءَ، وَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي خُمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْقَطَهَا عَنْ عِدَّةِ آلَافٍ مِنْ الْخَيْلِ، وَأَوْجَبَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ وَفِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ وَفِي الْمَعْدِنِ الْخُمْسَ، وَأَوْجَبَ فِي أَوَّلِ نِصَابٍ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَفِي أَوَّلِ نِصَابٍ مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ لِكَوْنِهَا آلَةَ الْمَعْصِيَةِ فَأَذْهَبَ الْعُضْوَ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَقْطَعْ اللِّسَانَ الَّذِي يَقْذِفُ بِهِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ وَلَا الْفَرْجَ الَّذِي يَرْتَكِبُ بِهِ الْمُحَرَّمَ، وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّقِيقِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ مَعَ أَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمَحَارِمِ كَحَاجَةِ الْحُرِّ، وَجَعَلَ لِلْقَاذِفِ إسْقَاطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ أَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ، وَجَوَّزَ لِلْمُسَافِرِ الْمُتَرَفِّهِ فِي سَفَرِهِ رُخْصَةَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ دُونَ الْمُقِيمِ الْمَجْهُودِ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ فِي سَبَبِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ طَاعَةً الْوَفَاءَ بِهَا، وَجَوَّزَ لِمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا وَيُكَفِّرَ يَمِينَهُ، وَكِلَاهُمَا قَدْ الْتَزَمَ فِعْلُهَا لِلَّهِ، وَحَرَّمَ الذِّئْبَ وَالْقِرْدَ وَمَا لَهُ نَابٌ مِنْ السِّبَاعِ وَأَبَاحَ الضَّبُعَ عَلَى قَوْلٍ وَلَهَا نَابٌ تَكْسِرُ بِهِ، وَجَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَحْدَهُ بِشَهَادَتَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَشَهَادَتُهُ بِشَهَادَةٍ، وَرَخَّصَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ وَقَالَ: لَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ ثُمَّ شَرَعَ الْجَهْرَ فِي بَعْضِ صَلَاةِ النَّهَارِ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَوَرَّثَ ابْنَ ابْنِ الْعَمِّ وَإِنْ بَعُدَتْ دَرَجَتُهُ دُونَ الْخَالَةِ الَّتِي هِيَ شَقِيقَةُ الْأُمِّ، وَحَرَّمَ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ وَسَلَّطَهُ عَلَى أَخْذِ عَقَارِهِ وَأَرْضِهِ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ شَرَعَ الشُّفْعَةَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصَ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ بِقِسْمَتِهِ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ كَالْجَوْهَرَةِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ، وَحَرَّمَ صَوْمَ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ وَفَرَضَ صَوْمَ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ مَعَ تَسَاوِي الْيَوْمَيْنِ، وَحَرَّمَ عَلَى الْإِنْسَانِ نِكَاحَ بِنْتِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ وَأَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ بِنْتِ أَخِي أَبِيهِ وَأُخْتِ أُمِّهِ، وَحَمَّلَ الْعَاقِلَةَ ضَمَانَ جِنَايَةِ الْخَطَإِ عَلَى النُّفُوسِ دُونَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ لِأَذَى الدَّمِ وَأَبَاحَ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَذَى، وَمَنَعَ بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ بِصَاعٍ فَأَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ؛ فَحَرَّمَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ دُونَ الْجِنْسَيْنِ، وَمَنَعَ الْمَرْأَةَ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى أَبِيهَا وَابْنِهَا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُحِدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَفِي الْعُقُوبَاتِ كَالْحُدُودِ ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ فِي الدِّيَةِ وَالشَّهَادَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وَالْمِيرَاثِ وَالْعَقِيقَةِ، وَخَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَبَعْضَ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ بِخَصَائِصَ مَعَ تَسَاوِيهَا؛ فَجَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَجَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ سَيِّدَ الشُّهُورِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدَ الْأَيَّامِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ مِنًى أَفْضَلَ الْأَيَّامِ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَفْضَلَ بِقَاعِ الْأَرْضِ. [كَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ؟] قَالُوا: وَإِذَا كَانَتْ الشَّرِيعَةُ قَدْ جَاءَتْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ - كَمَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ، وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ وَالْبَالِغِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ فِي طَهَارَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ فِي التَّحْرِيمِ، وَبَيْنَ مَا مَاتَ مِنْ الصَّيْدِ أَوْ ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ فِي ذَلِكَ، وَبَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي تَطْهِيرٍ - بَطَلَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ مَبْدَأَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ، وَهُمَا أَصْلُ قِيَاسِ الطَّرْدِ وَقِيَاسِ الْعَكْسِ. [الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ] . وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ، وَحَمِيَتْ أُنُوفُ أَنْصَارِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِنَصْرِ دِينِهِ وَمَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَآنَ لِحِزْبِ اللَّهِ أَنْ لَا تَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَأَنْ لَا يَتَحَيَّزُوا إلَى فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَنْ يَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِكُلِّ قَوْلٍ حَقٍّ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ، وَلَا يَكُونُوا مِنْ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مَا قَالَهُ طَائِفَتُهُمْ وَفَرِيقُهُمْ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَيَرُدُّونَ مَا قَالَهُ مُنَازِعُوهُمْ وَغَيْرُ وَطَائِفَتِهِمْ كَائِنًا مَا كَانَ؛ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ وَحَمِيَّةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَمَضْمُونٌ لَهُ الذَّمُّ إنْ أَخْطَأَ، وَغَيْرُ مَمْدُوحٍ إنْ أَصَابَ، وَهَذَا حَالٌ لَا يَرْضَى بِهَا مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَهُدِيَ لِرُشْدِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ طَرِيقَيْنِ مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ: [الْجَوَابُ الْمُجْمَلُ] أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصَّوْمِ وَأَضْعَافِهَا وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهَا فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتِهَا، وَمَجِيئُهَا عَلَى وَفْقِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، حَيْثُ فَرَّقَتْ بَيْنَ أَحْكَامِ هَذِهِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لِافْتِرَاقِهَا فِي الصِّفَاتِ الَّتِي اقْتَضَتْ افْتِرَاقَهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَوْ سَاوَتْ بَيْنَهَا فِي الْأَحْكَامِ لَتَوَجَّهَ السُّؤَالُ، وَصَعُبَ الِانْفِصَالُ، وَقَالَ الْقَائِلُ: قَدْ سَاوَتْ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَقَرَنَتْ الشَّيْءَ إلَى غَيْرِ شَبِيهِهِ فِي الْحُكْمِ، وَمَا امْتَازَتْ صُورَةٌ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ بِحُكْمِهَا دُونَ الصُّورَةِ الْأُخْرَى إلَّا لِمَعْنًى قَامَ بِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أَوْجَبَ اخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا اشْتَرَكَتْ صُورَتَانِ فِي حُكْمٍ إلَّا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا يَضُرُّ افْتِرَاقُهُمَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَنْفَعُ اشْتِرَاكُ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مَعْنًى لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ؛ فَالِاعْتِبَارُ فِي الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ وُجُودًا وَعَدَمًا. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ الْأُصُولِيِّينَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ؛ فَأَجَابَ ابْنُ الْخَطِيبِ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: غَالِبُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْمَعْلُومَةِ، وَالْخَصْمُ إنَّمَا بَيَّنَ خِلَافَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا، وَوُرُودُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ لَا يَقْدَحُ فِي حُصُولِ الظَّنِّ، كَمَا أَنَّ الْغَيْمَ الرَّطْبَ إذَا لَمْ يُمْطِرْ نَادِرًا لَا يَقْدَحُ فِي نُزُولِ الْمَطَرِ مِنْهُ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَهُوَ جَوَابُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ بِعَيْنِهِ. وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحْكَامِ إمَّا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ مَا وَقَعَ جَامِعًا، أَوْ لِمُعَارِضٍ لَهُ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فَإِنَّمَا كَانَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنًى جَامِعٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّعْلِيلِ؛ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَإِنْ اتَّحِدْ نَوْعُ الْحُكْمِ أَنْ يُعَلَّلَ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ الْحَنَفِيُّ بِأَنْ قَالَ: لَا مَعْنَى لِهَذَا السُّؤَالِ؛ فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَتْ الْمَسَائِلُ فِي صُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا وَأَسْمَائِهَا، وَلَا أَوْجَبْنَا الْمُخَالَفَةَ بَيْنَهَا مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَتْ فِي الصُّوَرِ وَالْأَعْيَانِ وَالْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِيَاسُ بِالْمَعَانِي الَّتِي جُعِلَتْ أَمَارَاتٌ لِلْحُكْمِ وَبِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، فَنَعْتَبِرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا، ثُمَّ لَا نُبَالِي بِاخْتِلَافِهَا وَلَا اتِّفَاقِهَا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ غَيْرَهَا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ التَّفَاضُلَ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَحْظُورَةَ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ؛ فَحَيْثُ وُجِدَا أَوْجَبْنَا تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَبِيعَاتُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، كَالْحِمَّصِ وَهُوَ مَكِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبُرِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَكِيلًا وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَكَالرَّصَاصِ وَهُوَ مَوْزُونٌ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الذَّهَبِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي أَوْصَافٍ أُخَرَ، فَمَتَى عَقَلَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ وَجُعِلَ عَلَامَةً لَهُ؛ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وُجِدَ، كَمَا رَجَمَ مَاعِزًا لِزِنَاهُ، وَحَكَمَ بِإِلْقَاءِ الْفَأْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا لَمَّا مَاتَتْ فِي السَّمْنِ؛ فَعَقَلْنَا عُمُومَ الْمَعْنَى لِكُلِّ زَانٍ وَعُمُومَ الْمَعْنَى لِكُلِّ مَائِعٍ جَاوَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 النَّجَاسَةَ، إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى تَارَةً يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا، وَتَارَةً يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِأَنْ قَالَ: الْعَقْلُ إنَّمَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ فِيمَا تَمَاثَلَا فِيهِ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ كَالسَّوَادَيْنِ وَالْبَيَاضَيْنِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ قَدْ اجْتَمَعَا فِي مُنَافَاةِ الْحُمْرَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْأَلْوَانِ؛ فَإِنَّ الْقُعُودَ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَبِيحًا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يُوفِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ الْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُتَيَقِّنًا، وَقَدْ يَكُونُ الْقُعُودُ فِي مَكَانَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْحُسْنِ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَفْعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ إنَّمَا وَجَبَ تَسَاوِي حُكْمُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ سَاوَى الْآخَرَ فِيمَا لِأَجْلِهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ الْحُكْمُ إمَّا لِذَاتِهِ كَالسَّوَادَيْنِ أَوْ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كَالْأَسْوَدَيْنِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِعَيْنِهَا يَجْرِي الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إذَا شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي الشَّيْئَيْنِ إذَا اشْتَرَكَا فِيمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِيهِمَا، فَقَدْ بَانَ بِذَلِكَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِأَنْ قَالَ: دَعْوَاكُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ الَّتِي اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي نَفْسِهَا دَعْوَى، وَالْأَمْثِلَةُ لَا تَشْهَدُ لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فِي امْتِنَاعِ أَدَائِهَا مِنْ الْحَائِضِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَالتَّمَاثُلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّاتِ. وَأَيْضًا فَهَذَا يُوجِبُ مَنْعَ الْقِيَاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ جَائِزٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ. [أجوبة مُفَصَّلَة عَمَّا ذَكَرَهُ نفاة الْقِيَاس] فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ النُّظَّارِ، وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ نُفْرِدُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا بِجَوَابٍ مُفَصَّلٍ، وَهُوَ الْمَسْلَكُ الثَّانِي الَّذِي وَعَدْنَا بِهِ. [جَوَابٌ مُفَصَّلٌ (1) لِمَاذَا وَجَبَ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ؟] أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: - وَهِيَ إيجَابُ الشَّارِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ - فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنَ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْمَنِيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُلَالَةً} ؛ لِأَنَّهُ يَسِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَأَمَّا الْبَوْلُ فَإِنَّمَا هُوَ فَضْلَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُسْتَحِيلَةِ فِي الْمَعِدَةِ وَالْمَثَانَةِ؛ فَتَأَثُّرُ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ أَعْظَمُ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، بَلْ جَمِيعُ الْأَرْوَاحِ الْقَائِمَةِ بِالْبَدَنِ فَإِنَّهَا تَقْوَى بِالِاغْتِسَالِ، وَالْغُسْلُ يَخْلُفُ عَلَيْهِ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَهَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالْحِسِّ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَنَابَةَ تُوجِبُ ثِقَلًا وَكَسَلًا وَالْغُسْلُ يُحْدِثُ لَهُ نَشَاطًا وَخِفَّةً، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ: كَأَنَّمَا أَلْقَيْتُ عَنِّي حِمْلًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا أَمْرٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ وَفِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْ الْجَنَابَةِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَصَالِحِ الَّتِي تُلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، مَعَ مَا تُحْدِثُهُ الْجَنَابَةُ مِنْ بُعْدِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَنْ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ زَالَ ذَلِكَ الْبُعْدُ، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ عَرَجَتْ رُوحُهُ، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا أُذِنَ بِالسُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُجْنِبَ إذَا نَامَ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَقَدْ صَرَّحَ أَفَاضِلُ الْأَطِبَّاءِ بِأَنَّ الِاغْتِسَالَ بَعْدَ الْجِمَاعِ يُعِيدُ إلَى الْبَدَنِ قُوَّتَهُ، وَيَخْلُفُ عَلَيْهِ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، وَإِنَّهُ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ، وَتَرْكُهُ مُضِرٌّ، وَيَكْفِي شَهَادَةُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ بِحُسْنِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ شَرَعَ الِاغْتِسَالَ مِنْ الْبَوْلِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ تَمْنَعُهُ حِكْمَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى خَلْقِهِ. [فَصَلِّ غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَنَضْحُهُ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ] فَصْلٌ [ (2) الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ] وَأَمَّا غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَنَضْحِهِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ إذَا لَمْ يَطْعَمَا فَهَذَا لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُغْسَلَانِ جَمِيعًا. وَالثَّانِي: يُنْضَحَانِ. وَالثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهَا وَمَصْلَحَتِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 أَحَدُهَا: كَثْرَةُ حَمْلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلذَّكَرِ، فَتَعُمُّ الْبَلْوَى بِبَوْلِهِ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ غَسْلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ بَوْلَهُ لَا يَنْزِلُ فِي مَكَان وَاحِدٍ، بَلْ يَنْزِلُ مُتَفَرِّقًا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَيَشُقُّ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ كُلَّهُ، بِخِلَافِ بَوْلِ الْأُنْثَى. الثَّالِثُ: أَنَّ بَوْلَ الْأُنْثَى أَخْبَثُ وَأَنْتَنُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ، وَسَبَبُهُ حَرَارَةُ الذَّكَرِ وَرُطُوبَةُ الْأُنْثَى؛ فَالْحَرَارَةُ تُخَفِّفُ مِنْ نَتْنِ الْبَوْلِ وَتُذِيبُ مِنْهَا مَا لَا يَحْصُلُ مَعَ الرُّطُوبَةِ، وَهَذِهِ مَعَانٍ مُؤَثِّرَةٌ يَحْسُنُ اعْتِبَارُهَا فِي الْفَرْقِ [فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَغَيْرِهَا] وَأَمَّا نَقْصُهُ الشَّطْرَ مِنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ الرُّبَاعِيَّةِ دُونَ الثُّلَاثِيَّةِ وَالثُّنَائِيَّةِ فَفِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ؛ فَإِنَّ الرُّبَاعِيَّةِ تَحْتَمِلُ الْحَذْفَ لِطُولِهَا، بِخِلَافِ الثُّنَائِيَّةِ، فَلَوْ حَذَفَ شَطْرَهَا لَأَجْحَفَ بِهَا وَلَزَالَتْ حِكْمَةُ الْوِتْرِ الَّذِي شُرِعَ خَاتِمَةَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا الثُّلَاثِيَّةُ فَلَا يُمْكِنُ شَطْرُهَا، وَحَذْفُ ثُلُثَيْهَا مُخِلٌّ بِهَا، وَحَذْفُ ثُلُثِهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حِكْمَةِ شَرْعِهَا وِتْرًا، فَإِنَّهَا شُرِعَتْ ثَلَاثًا لِتَكُونَ وِتْرَ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ؛ فَأَوْتِرُوا صَلَاةَ اللَّيْلِ» [فَصَلِّ إيجَابُ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ] فَصْلٌ [ (4) لِمَاذَا وَجَبَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ] وَأَمَّا إيجَابُ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ فَمِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَحِكْمَتِهَا وَرِعَايَتِهَا لِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلْعِبَادَةِ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ فِعْلُهَا، وَكَانَ فِي صَلَاتِهَا أَيَّامَ الطُّهْرِ مَا يُغْنِيهَا عَنْ صَلَاةِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، فَيَحْصُلُ لَهَا مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ؛ لِتَكَرُّرِهَا كُلَّ يَوْمٍ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ، وَهُوَ شَهْرٌ وَاحِدٌ فِي الْعَامِ، فَلَوْ سَقَطَ عَنْهَا فِعْلَهُ بِالْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَبِيلٌ إلَى تَدَارُكِ نَظِيرِهِ، وَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصْلَحَتُهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا فِي طُهْرِهَا؛ لِتَحْصُلَ مَصْلَحَةُ الصَّوْمِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَمَامِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ بِشَرْعِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [فَصَلِّ حُكْمُ النَّظَرِ إلَى الْحُرَّةِ وَإِلَى الْأَمَةِ] وَأَمَّا تَحْرِيمُ النَّظَرِ إلَى الْعَجُوزِ الْحُرَّةِ الشَّوْهَاءِ الْقَبِيحَةِ وَإِبَاحَتُهُ إلَى الْأَمَةِ الْبَارِعَةِ الْجَمَالِ فَكَذِبٌ عَلَى الشَّارِعِ، فَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ هَذَا وَأَبَاحَ هَذَا؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 لَمْ يُطْلِقْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِلْأَعْيُنِ النَّظَرَ إلَى الْإِمَاءِ الْبَارِعَاتِ الْجَمَالِ، وَإِذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَمَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ لِلْحَرَائِرِ أَنْ يَسْتُرْنَ وُجُوهَهُنَّ عَنْ الْأَجَانِبِ، وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا فِي إمَاءِ الِاسْتِخْدَامِ وَالِابْتِذَالِ، وَأَمَّا إمَاءُ التَّسَرِّي اللَّاتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِصَوْنِهِنَّ وَحَجْبِهِنَّ فَأَيْنَ أَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَهُنَّ أَنْ يَكْشِفْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَأَذِنَ لِلرِّجَالِ فِي التَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِنَّ؟ فَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْغَلَطَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ، سَمِعَ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَعَوْرَةُ الْأَمَةِ مَا لَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالسَّاقِ؛ فَظَنَّ أَنَّ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا حُكْمُهُ حُكْمُ وَجْهِ الرَّجُلِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي النَّظَرِ، فَإِنَّ الْعَوْرَةَ عَوْرَتَانِ: عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ وَعَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَالْحُرَّةُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ] وَأَمَّا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَتَرْكُ قَطْعِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْغَاصِبِ فَمِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّارِقَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَنْقُبُ الدُّورَ وَيَهْتِكُ الْحِرْزَ وَيَكْسِرُ الْقُفْلَ، وَلَا يُمْكِنُ صَاحِبَ الْمَتَاعِ الِاحْتِرَازُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَشْرَعْ قَطْعَهُ لَسَرَقَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَعَظُمَ الضَّرَرُ، وَاشْتَدَّتْ الْمِحْنَةُ بِالسُّرَّاقِ، بِخِلَافِ الْمُنْتَهِبِ وَالْمُخْتَلِسِ؛ فَإِنَّ الْمُنْتَهِبَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ جَهْرَةً بِمَرْأَى مِنْ النَّاسِ، فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَيُخَلِّصُوا حَقَّ الْمَظْلُومِ، أَوْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِسُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ مَالِكِهِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ نَوْعِ تَفْرِيطٍ يُمَكِّنُ بِهِ الْمُخْتَلِسَ مِنْ اخْتِلَاسِهِ، وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ لَا يُمْكِنُهُ الِاخْتِلَاسُ، فَلَيْسَ كَالسَّارِقِ، بَلْ هُوَ بِالْخَائِنِ أَشْبَهُ؛ وَأَيْضًا فَالْمُخْتَلِسُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهِ غَالِبًا، فَإِنَّهُ الَّذِي يُغَافِلُكَ وَيَخْتَلِسُ مَتَاعَكَ فِي حَالِ تَخَلِّيكَ عَنْهُ وَغَفْلَتِكَ عَنْ حِفْظِهِ، وَهَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ غَالِبًا، فَهُوَ كَالْمُنْتَهِبِ؛ وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَالْأَمْر فِيهِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَطْعِ مِنْ الْمُنْتَهِبِ، وَلَكِنْ يَسُوغُ كَفُّ عُدْوَانِ هَؤُلَاءِ بِالضَّرْبِ وَالنَّكَالِ وَالسِّجْنِ الطَّوِيلِ وَالْعُقُوبَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِقَطْعِ جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ خَائِنٌ، وَالْمُعِيرُ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِ مَالِهِ. وَالِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ؛ فَبَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَرْقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ «امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُطِعَتْ يَدُهَا» ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ الْقَطْعِ: هَلْ كَانَ لِسَرِقَتِهَا؟ وَعَرَّفَهَا الرَّاوِي بِصِفَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ سَبَبُ الْقَطْعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَوْ كَانَ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ هُوَ سَبَبَ الْقَطْعِ مِمَّا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ؟ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا نَنْتَصِرُ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلَ الْآخَرَ فَمُوَافَقَتُهُ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ مَصَالِحِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَا غِنًى لَهُمْ عَنْهَا، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَضَرُورَتُهُ إلَيْهَا إمَّا بِأُجْرَةٍ أَوْ مَجَّانًا، وَلَا يُمَكَّنُ الْمُعِيرَ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْعَارِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ بِمَنْعِ الْعَارِيَّةِ شَرْعًا وَعَادَةً وَعُرْفًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ مَنْ تَوَصَّلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ وَبَيْنَ مَنْ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِالْعَارِيَّةِ وَجَحَدَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ جَاحِدِ الْوَدِيعَةِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ فَرَّطَ حَيْثُ ائْتَمَنَهُ. [فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَدِ فِي الدِّيَةِ وَفِي السَّرِقَةِ] وَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَجَعْلُ دِيَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهُ احْتَاطَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَطْرَافِ، فَقَطَعَهَا فِي رُبُعِ دِينَارٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ دِيَتَهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ حِفْظًا لَهَا وَصِيَانَةً، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ هَذَا السُّؤَالَ وَضَمَّنَهُ بَيْتَيْنِ، فَقَالَ: يَدٌ بِخَمْسِمِئِي مِنْ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارِ تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وَنَسْتَجِيرُ بِمَوْلَانَا مِنْ الْعَارِ فَأَجَابَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا كَانَتْ ثَمِينَةً لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ، وَضَمَّنَهُ النَّاظِمُ قَوْلَهُ: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِي مِنْ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... لَكِنَّهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ حِمَايَةُ الدَّمِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... خِيَانَةُ الْمَالِ فَانْظُرْ حِكْمَةَ الْبَارِي وَرُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَابَ بِقَوْلِهِ: هُنَاكَ مَظْلُومَةٌ غَالَتْ بِقِيمَتِهَا ... وَهَا هُنَا ظَلَمَتْ هَانَتْ عَلَى الْبَارِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَأَجَابَ شَمْسُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلْمَعَرِّيِّ عَارٌ أَيُّمَا عَارِ ... جَهْلُ الْفَتَى وَهْوَ عَنْ ثَوْبِ التُّقَى عَارِ لَا تَقْدَحَنَّ زِنَادَ الشِّعْرِ عَنْ حِكَمٍ ... شَعَائِرُ الشَّرْعِ لَمْ تُقْدَحْ بِأَشْعَارِ فَقِيمَةُ الْيَدِ نِصْفُ الْأَلْفِ مِنْ ذَهَبٍ ... فَإِنْ تَعَدَّتْ فَلَا تَسْوَى بِدِينَارِ [فَصَلِّ حِكْمَةُ جَعْلِ نِصَابِ السَّرِقَةِ رُبُعَ دِينَارٍ] وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْقَطْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مِقْدَارٍ يُجْعَلُ ضَابِطًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ فِلْسٍ أَوْ حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ، وَلَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِهَذَا، وَتُنَزَّهُ حِكْمَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، وَكَانَتْ الثَّلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوَّلَ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، وَهِيَ مِقْدَارُ رُبُعِ دِينَارٍ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ: كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ؛ فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ التَّسَامُحُ فِي الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إذْ لَا يَلْحَقُهُمْ ضَرَرٌ بِفَقْدِهِ، وَفِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّهَا كِفَايَةُ الْمُقْتَصِدِ فِي يَوْمِهِ لَهُ وَلِمَنْ يَمُونُهُ غَالِبًا، وَقُوتُ الْيَوْمِ لِلرَّجُلِ وَأَهْلِهِ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَ غَالِبِ النَّاسِ؛ وَفِي الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» [فَصَلِّ حِكْمَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ الْكُفْرِ] فَصْلٌ [ (9) حِكْمَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ الْكُفْرِ] وَأَمَّا إيجَابُ حَدِّ الْفِرْيَةِ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِالزِّنَا دُونَ الْكُفْرِ فَفِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ؛ فَإِنَّ الْقَاذِفَ غَيْرَهُ بِالزِّنَا لَا سَبِيلَ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، فَجُعِلَ حَدُّ الْفِرْيَةِ تَكْذِيبًا لَهُ، وَتَبْرِئَةً لِعِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي يُجْلَدُ مَنْ رَمَى بِهَا مُسْلِمًا؛ وَأَمَّا مَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّ شَاهِدَ حَالِ الْمُسْلِمِ وَاطِّلَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا كَافٍ فِي تَكْذِيبِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ بِكَذِبِهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا يَلْحَقُهُ بِكَذِبِهِ عَلَيْهِ فِي الرَّمْيِ بِالْفَاحِشَةِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ امْرَأَةً؛ فَإِنَّ الْعَارَ وَالْمَعَرَّةَ الَّتِي تَلْحَقُهَا بِقَذْفِهِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَتَشَعُّبَ ظُنُونِ النَّاسِ وَكَوْنَهُمْ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لَا يَلْحَقُ مِثْلَهُ بِالرَّمْيِ بِالْكُفْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 [فَصَلِّ حِكْمَةُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ الزِّنَا] وَأَمَّا اكْتِفَاؤُهُ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ الزِّنَا فَفِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ احْتَاطَ لِلْقِصَاصِ وَالدِّمَاءِ وَاحْتَاطَ لِحَدِّ الزِّنَا، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةً لَضَاعَتْ الدِّمَاءُ، وَتَوَاثَبَ الْعَادُونَ، وَتَجَرَّءُوا عَلَى الْقَتْلِ؛ وَأَمَّا الزِّنَا فَإِنَّهُ بَالَغَ فِي سَتْرِهِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ سَتْرَهُ، فَاجْتَمَعَ عَلَى سَتْرِهِ شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَّرَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةً يَصِفُونَ الْفِعْلَ وَصْفَ مُشَاهَدَةٍ يَنْتَفِي مَعَهَا الِاحْتِمَالُ؛ وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ، لَمْ يَكْتَفِ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ حِرْصًا عَلَى سَتْرِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ سَتْرَهُ، وَكَرِهَ إظْهَارَهُ، وَالتَّكَلُّمَ بِهِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ يُحِبُّ إشَاعَتَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي جَلْدِ قَاذِفِ الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ] وَأَمَّا جَلْدُ قَاذِفِ الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ فَتَفْرِيقٌ لِشَرْعِهِ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِهِ، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ كَالْحُرِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا قَدَرًا وَلَا شَرْعًا، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي أَخْبَرَ فِيهَا بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ تُسَاوِيَهُمْ عَبِيدُهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَفَضَّلَ الْأَحْرَارَ عَلَى الْعَبِيدِ فِي الْمِلْكِ وَأَسْبَابِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَجَعَلَ الْعَبْدَ مَمْلُوكًا وَالْحُرَّ مَالِكًا، وَلَا يَسْتَوِي الْمَالِكُ وَالْمَمْلُوكُ. وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَذَلِكَ مُوجِبُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ لَا يَبْقَى هُنَاكَ عَبْدٌ وَحُرٌّ وَلَا مَالِكٌ وَلَا مَمْلُوكٌ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ عِدَّةِ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ] وَأَمَّا تَفْرِيقُهُ فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ، وَعِدَّةِ الْحُرَّةِ وَعِدَّةِ الْأَمَةِ، وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدَّةِ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذَا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُهُ إذَا عُرِفَتْ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَتْ الْعِدَّةُ وَعُرِفَ أَجْنَاسُ الْعِدَدِ وَأَنْوَاعُهَا. [الْحُكْمُ فِي الْعِدَّةِ] فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَفِي شَرْعِ الْعِدَّةِ عِدَّةُ حِكَمٍ: مِنْهَا الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ الْوَاطِئَيْنِ فَأَكْثَرُ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ، فَتَخْتَلِطُ الْأَنْسَابُ وَتَفْسُدُ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا تَمْنَعُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الشَّرِيعَةُ وَالْحِكْمَةُ. وَمِنْهَا تَعْظِيمُ خَطَرِ هَذَا الْعَقْدِ، وَرَفْعُ قَدْرِهِ، وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ. وَمِنْهَا تَطْوِيلُ زَمَانِ الرَّجْعَةِ لِلْمُطْلَقِ؛ إذْ لَعَلَّهُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَفِيءَ فَيُصَادِفُ زَمَنًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الرَّجْعَةِ. وَمِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ، وَإِظْهَارُ تَأْثِيرِ فَقْدِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَلِذَلِكَ شَرَعَ الْإِحْدَادَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ. وَمِنْهَا الِاحْتِيَاطُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَمَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ، وَحَقِّ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ؛ فَفِي الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّارِعُ الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ مُدَّتُهُ الْعُمْرُ، وَلِهَذَا أُقِيمُ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ، وَفِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ مَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا. [أَجْنَاسُ الْعِدَدِ] الْمَقَامُ الثَّانِي فِي أَجْنَاسِهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَخَامِسٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْجِنْسُ الْأَوَّلُ: أُمُّ بَابِ الْعِدَّةِ، {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الثَّانِي: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] الثَّالِثُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الرَّابِعُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] الْخَامِسُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ» وَمُقَدَّمُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَضْعُ الْحَمْلِ، فَإِذَا وُجِدَ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ نِزَاعٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، ثَمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى انْقِضَائِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؛ وَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَتَجِبُ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقُ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ انْتِهَاءَ الْعَقْدِ وَانْقِضَاءَهُ اسْتَقَرَّتْ بِهِ الْأَحْكَامُ: مِنْ التَّوَارُثِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْعِدَّةِ هَا هُنَا مُجَرَّدَ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ؛ لِوُجُوبِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِحُصُولِ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِاسْتِوَاءِ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَذَوَاتِ الْقُرُوءِ فِي مُدَّتِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ وَاحِدٌ إلَّا وَلَهُ مَعْنًى وَحِكْمَةٌ يَعْقِلُهُ مَنْ عَقَلَهُ وَيَخْفَى عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعِدَدَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْعَاقِلَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ. وَمِنْهَا أَنَّ رِعَايَةَ حَقِّ الزَّوْجَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجِ الثَّانِي ظَاهِرٌ فِيهَا؛ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 حَرِيمٌ لِانْقِضَاءِ النِّكَاحِ لَمَّا كَمُلَ، وَلِهَذَا تَجِدُ فِيهَا رِعَايَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحُرْمَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ احْتِرَامِهِ وَرِعَايَةِ حُقُوقِهِ تَحْرِيمُ نِسَائِهِ بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ نِسَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا هُنَّ نِسَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا، لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَعْلُومًا فِي حَقِّهِ، فَلَوْ حُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى غَيْرِهِ لَتَضَرَّرَتْ ضَرَرًا مُحَقَّقًا بِغَيْرِ نَفْعٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَوْ تَأَيَّمَتْ عَلَى أَوْلَادِهَا كَانَتْ مَحْمُودَةً عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِي احْتِرَامِ حَقِّ الزَّوْجِ وَتَعْظِيمِ حَرِيمِ هَذَا الْعَقْدِ غَايَةَ الْمُبَالَغَةِ مِنْ تَرَبُّصِ سَنَةٍ فِي شَرِّ ثِيَابِهَا وَحَفْشِ بَيْتِهَا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً وَحِكْمَةً وَمَصْلَحَةً وَنِعْمَةً، بَلْ هِيَ مِنْ أَجْلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ. وَكَانَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ لَهَا، وَأَوْلَى الْمُدَدِ بِذَلِكَ الْمُدَّةُ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا بِوُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ مُضْغَةً فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الطَّوْرِ الرَّابِعِ، فَقُدِّرَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ لِتَظْهَرَ حَيَاتُهُ بِالْحَرَكَةِ إنْ كَانَ ثَمَّ حَمْلٌ. . [فَصَلِّ حِكْمَةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ] وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَسِيسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بَعْضَ مَقَاصِدِهَا. وَلَا يُقَالُ: " هِيَ تَعَبُّدٌ " لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ حُكْمُهَا إذَا عُرِفَ مَا فِيهَا مِنْ الْحُقُوقِ؛ فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَطَلَبُ مَرْضَاتِهِ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَهُوَ اتِّسَاعُ زَمَنِ الرَّجْعَةِ لَهُ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجَةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَأَنْ لَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَرَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَرُتِّبَ عَلَى رِعَايَةِ حَقِّهِ هُوَ لُزُومُ الْمَنْزِلِ وَأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ وَلَا تُخْرَجُ، هَذَا مُوجِبُ الْقُرْآنِ وَمَنْصُوصُ إمَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَامِ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَرُتِّبَ عَلَى حَقِّ الْمُطَلِّقِ تَمْكِينُهُ مِنْ الرَّجْعَةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَعَلَى حَقِّهَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَعَلَى حَقِّ الْوَلَدِ ثُبُوتُ نَسَبِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِأَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي دُخُولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَرَحِمٍ بَرِيءٍ غَيْرِ مَشْغُولٍ بِوَلَدٍ لِغَيْرِهِ؛ فَكَانَ فِي جَعْلِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ رِعَايَةٌ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ، وَتَكْمِيلٌ لَهَا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] فَجَعَلَ الزَّوْجَ أَحَقَّ بِرَدِّهَا فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ طَالَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهَا هَلْ يُمْسِكُهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُولِي تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ هَلْ يَفِيءُ أَوْ يُطَلِّقُ، وَكَمَا جَعَلَ مُدَّةَ تَسْيِيرِ الْكُفَّارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَيَخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْعِلَّةُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْمُخْتَلِعَةَ وَالْمَفْسُوخَ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلَا رَجْعَةَ هُنَاكَ، فَقَدْ وُجِدَ الْحُكْمُ بِدُونِ عِلَّتِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ كَوْنَهَا عِلَّةً. [عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ] قِيلَ: شَرْطُ النَّقْضِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي صُورَةٍ ثَابِتًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ قَوْلًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَكْفِي فِي النَّقْضِ بِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ؛ فَذَهَبَ إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ دَلِيلًا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حَكَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةُ دَلَالَةً صَرِيحَةً، وَعُذْرُ مَنْ خَالَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُ، أَوْ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ، أَوْ ظَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ: أَمَّا رُجْحَانُهُ أَثَرًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ الْمُخْتَلِعَةَ قَطُّ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ، بَلْ قَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ مِنْ «حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ ضَرَبَ امْرَأَةً فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ: خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلِّ سَبِيلَهَا قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» ؛ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَهَا طُرُقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأُعِلَّ الْحَدِيثُ بِعِلَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إرْسَالُهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ " أُمِرَتْ " بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، وَالْعِلَّتَانِ غَيْرُ مُؤَثِّرَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أُمِرَتْ وَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَهَا بِذَلِكَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ وَلَفْظٍ صَرِيحٍ يُفَسِّرُ الْمُحْتَمَلَ وَيُبَيِّنُهُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمُحْتَمَلُ مُعَارِضًا لِلْمُفَسِّرِ بَلْ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ؟ ثُمَّ يَكْفِي فِي ذَلِكَ فَتَاوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: هُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا اقْتِضَاءُ النَّظَرِ لَهُ فَإِنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَمْ تَبْقَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَقَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أَحَقَّ بِبُضْعِهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، فَصَارَتْ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهَا بِمُجَرَّدِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ فِي هَذَا النَّوْعِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ أَوْ تَبَرُّعٍ وَالْمُهَاجِرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الرَّجْعِيَّةِ، وَالْمُخْتَلِعَةُ فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ؛ فَيَنْبَغِي إلْحَاقُهَا بِأَشْبَهِهِمَا بِهَا؛ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هِيَ بِذَوَاتِ الْحَيْضَةِ أَشْبَهُ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ قَسَّمَ النِّسَاءَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْمُفَارَقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ لِزَوْجِهَا فِيهَا. الثَّانِي: الْمُفَارَقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا فِي هَذَا الْقِسْمِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَكَذَا فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ لَمَّا ذَكَرَ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي حَقِّ مَنْ إذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا خُيِّرَ زَوْجُهَا بَيْنَ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ مُفَارَقَتِهَا بِإِحْسَانٍ، وَهِيَ الرَّجْعِيَّةُ قَطْعًا، فَلَمْ يَذْكُرْ الْأَقْرَاءَ أَوْ بَدَلَهَا فِي حَقِّ بَائِنٍ أَلْبَتَّةَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ بَانَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَانْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهَا بِسَبْيٍ أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ خُلْعٍ؛ فَجَعَلَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً لِلِاسْتِبْرَاءِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا ثَلَاثًا؛ إذْ لَا رَجْعَةَ لِلزَّوْجِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْمُنَاسَبَةِ؛ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ وَالْمَوْطُوءَةُ، بِشُبْهَةٍ فَمُوجِبُ الدَّلِيلِ أَنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ فَقَطْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّانِيَةِ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا فِي الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيَاسُهُمَا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ أَبْعَدِ الْقِيَاسِ وَأَفْسَدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ سَلِمَ لَكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَعَكُمْ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى اعْتِدَادِهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مَعَ انْقِطَاعِ حَقِّ زَوْجِهَا مِنْ الرَّجْعَةِ، وَالْقَصْدُ مُجَرَّدُ اسْتِبْرَاءِ رَحِمِهَا. [حِكْمَةُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا] قِيلَ: نَعَمْ هَذَا سُؤَالٌ وَارِدٌ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي عِدَّتِهَا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 هَلْ هِيَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ أَوْ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ؟ فَالْجُمْهُورُ - بَلْ الَّذِي لَا يَعْرِفُ النَّاسُ سِوَاهُ - أَنَّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ وَجْهُهُ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأُولَيَيْنِ أُعْطِيت حُكْمُهُمَا؛ لِيَكُونَ بَابُ الطَّلَاقِ كُلُّهُ بَابًا وَاحِدًا، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ، وَالشَّارِعُ إذَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِوَصْفٍ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَانِعًا مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ، بَلْ هَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ وَتَصَرُّفُهَا فِي مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، عُقُوبَةً لَهُ، وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ لِمُنَاقَضَتِهِمَا مَا قَصَدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ وَكَانَ مِنْ تَمَامِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ أَنَّ طُولَ مُدَّةِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِيمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا آخَرُ بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ مَقْصُودٍ لَا تَحْلِيلٍ مُوجِبٍ لِلَّعْنَةِ، وَيُفَارِقُهَا، وَتَعْتَدُّ مِنْ فِرَاقِهِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ أُخَرَ، طَالَ عَلَيْهِ الِانْتِظَارُ، وَعِيلَ صَبْرُهُ، فَأَمْسَكَ عَنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَهَذَا وَاقِعٌ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالزَّجْرِ؛ فَكَانَ التَّرَبُّصُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي الرَّجْعِيَّةِ نَظَرًا لِلزَّوْجِ وَمُرَاعَاةً لِمَصْلَحَتِهِ لَمَّا لَمْ يُوقِعْ الثَّالِثَةَ الْمُحَرِّمَةَ لَهَا، وَهَا هُنَا كَانَ تَرَبُّصُهَا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لَمَّا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الْمُحَرِّمَ لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، وَأُكِّدَتْ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَتَرَبُّصٍ ثَانٍ. وَقِيلَ: بَلْ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ اللَّبَّانِ؛ فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِالْإِجْمَاعِ فَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنْ لَا يُلْتَفَتَ إلَى قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَقَوْلُهُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [عِدَّةُ الْمُخَيَّرَةِ وَحِكْمَتُهَا] فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ تَعْتَدُّ ثَلَاثَ حِيَضٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ «عَائِشَةَ قَالَتْ: أُمِرَتْ بَرِيرَةَ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ» . قِيلَ: مَا أَصَرْحَهُ مِنْ حَدِيثٍ لَوْ ثَبَتَ، وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْحَدِيثُ وَهِيَ تَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ؟ فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَمْ تُسْعِ مُخَالَفَتُهُ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فِي اعْتِدَادِهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَلَا رَجْعَةَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ يُخَصِّصُ بَعْضَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا مُوجِبُ التَّخْصِيصِ، فَكَيْفَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَيَّرَةِ، فَإِنَّهَا لَوْ جُعِلَتْ عِدَّتُهَا حَيْضَةً وَاحِدَةً لَبَادَرَتْ إلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَهَا، وَأَيِسَ مِنْهَا زَوْجُهَا؟ فَإِذَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ طَالَ زَمَنُ انْتِظَارِهَا وَحَبَسَهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ، وَلَعَلَّهَا تَتَذَكَّرُ زَوْجَهَا فِيهَا وَتَرْغَبُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 رَجْعَتِهِ، وَيَزُولُ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْوَحْشَةِ، وَلَوْ قِيلَ: " إنَّ اعْتِدَادَ الْمُخْتَلِعَةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ " لَكَانَ حَسَنًا عَلَى وَفْقِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ، وَلَكِنَّ هَذَا مَفْقُودٌ فِي الْمَسْبِيَّةِ وَالْمُهَاجِرَةِ وَالزَّانِيَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ. [عِدَّةُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَحِكْمَتُهَا] فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ قَدْ سَلِمَ لَكُمْ، فَكَيْفَ يَسْلَمُ لَكُمْ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا؟ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ عِلَّةَ الْعِدَّةِ مُجَرَّدَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَقَطْ، وَلِهَذَا أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ هَا هُنَا شُرِعَتْ تَعَبُّدًا مَحْضًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ هَذَا بَعْضَ مَقَاصِدِ الْعِدَّةِ وَأَنَّ لَهَا مَقَاصِدَ أُخَرَ مِنْ تَكْمِيلِ شَأْنِ هَذَا الْعَقْدِ وَاحْتِرَامِهِ وَإِظْهَارِ خَطَرِهِ وَشَرَفِهِ فَجُعِلَ لَهُمْ حَرِيمٌ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْآيِسَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي طُوِّلَتْ لَهُ الْعِدَّةُ فِي الْحَائِضِ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ النَّظَرَ فِي مَصْلَحَةِ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَعُقُوبَتِهِ وَزَجْرِهِ فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرِّمِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، هَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ] فَصْلٌ [حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ] وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَإِبَاحَتُهَا لَهُ بَعْدَ نِكَاحِهَا لِلثَّانِي فَلَا يَعْرِفُ حِكْمَتَهُ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ؛ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَمَّا كَانَ إبَاحَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْهُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ كَانَ جَدِيرًا بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَمُرَاعَاتِهَا، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا، وَعَدَمِ تَعْرِيضِهَا لِلزَّوَالِ، وَتَنَوَّعَتْ الشَّرَائِعُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ الَّتِي عَلِمَهَا اللَّهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ، فَجَاءَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ بِإِبَاحَتِهَا لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَيْهَا. وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا لَا يَخْفَى؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ الْمَرْأَةَ وَصَارَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَأَنَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وَأَنَّهَا إذَا نَكَحَتْ غَيْرَهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا، كَانَ تَمَسُّكُهُ بِهَا أَشَدَّ، وَحِذْرُهُ مِنْ مُفَارِقَتِهَا أَعْظَمَ، وَشَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ جَاءَتْ بِحَسَبِ الْأُمَّةِ الْمُوسَوِيَّةِ فِيهَا مِنْ الشِّدَّةِ وَالْإِصْرِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ شَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ بِالْمَنْعِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الطَّلَاقِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ شَرِيعَةٍ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا وَأَقْوَمُهَا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِأَحْسَنِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَكْمَلِهِ وَأَوْفَقِهِ لِلْعَقْلِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَهَا، وَأَتَمَّ عَلَيْهَا نِعْمَتَهُ، وَأَبَاحَ لَهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِأُمَّةٍ غَيْرِهَا، فَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ أَطَايِبِ النِّسَاءِ أَرْبَعًا، وَأَنْ يَتَسَرَّى مِنْ الْإِمَاءِ بِمَا شَاءَ، وَلَيْسَ التَّسَرِّي فِي شَرِيعَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، ثُمَّ أَكْمَلَ لِعَبْدِهِ شَرْعَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، بِأَنْ مَلَّكَهُ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهَا؛ إذْ لَعَلَّ الْأُولَى لَا تَصْلُحُ لَهُ وَلَا تُوَافِقُهُ، فَلَمْ يَجْعَلْهَا غُلًّا فِي عُنُقِهِ، وَقَيْدًا فِي رِجْلِهِ، وَإِصْرًا عَلَى ظَهْرِهِ، وَشَرَعَ لَهُ فِرَاقَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ لَهَا وَلَهُ، بِأَنْ يُفَارِقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ. وَالْغَالِبُ أَنَّهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَيْهَا، وَكَانَ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ، وَصَرَفَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ قَلْبَهُ إلَى مَحَبَّتِهَا، وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى رَدِّهَا مُمْكِنًا، وَالْبَابَ مَفْتُوحًا، فَرَاجَعَ حَبِيبَتَهُ، وَاسْتَقْبَلَ أَمْرَهُ، وَعَادَ إلَى يَدِهِ مَا أَخْرَجَتْهُ يَدُ الْغَضَبِ وَنَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ مِنْهَا، ثُمَّ لَا يَأْمَنُ غَلَبَاتِ الطِّبَاعِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ، فَمُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلَعَلَّهَا أَنْ تَذُوقَ مِنْ مَرَارَةِ الطَّلَاقِ وَخَرَابِ الْبَيْتِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ مُعَاوَدَةِ مَا يُغْضِبُهُ، وَيَذُوقُ هُوَ مِنْ أَلَمِ فِرَاقِهَا مَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّسَرُّعِ إلَى الطَّلَاقِ، فَإِذَا جَاءَتْ الثَّالِثَةُ جَاءَ مَا لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ لَهُ: قَدْ انْدَفَعَتْ حَاجَتُك بِالْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ؛ وَلَمْ يَبْقَ لَك عَلَيْهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ سَبِيلٌ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الثَّالِثَةَ فِرَاقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَنَّهَا الْقَاضِيَةُ أَمْسَكَ عَنْ إيقَاعِهَا، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ تَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَتَزَوُّجٍ بِزَوْجٍ رَاغِبٍ فِي نِكَاحِهَا وَإِمْسَاكِهَا، وَأَنَّ الْأَوَّلَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الثَّانِي دُخُولًا كَامِلًا يَذُوقُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ الْفِرَاقِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةً كَامِلَةً تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ يَأْسُهُ بِهَذَا الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَبْغَضِ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ، وَعَلِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْعَوْدِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، لَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا بِاخْتِيَارِهَا، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَقْصُودَ بِأَنْ لَعَنَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ إذَا لَمْ يَنْكِحْ نِكَاحَ رَغْبَةٍ يَقْصِدُ فِيهِ الْإِمْسَاكَ، بَلْ نَكَحَ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ، وَلَعَنَ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ إذْ رَدَّهَا بِهَذَا النِّكَاحِ، بَلْ يَنْكِحُهَا الثَّانِي كَمَا نَكَحَهَا الْأَوَّلُ، وَيُطَلِّقُهَا كَمَا طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ، وَحِينَئِذٍ فَتُبَاحُ لِلْأَوَّلِ كَمَا تُبَاحُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ. وَأَنْتَ إذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشَّرِيعَتَيْنِ الْمَنْسُوخَتَيْنِ، وَوَازَنْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ الْمُبَدِّلَةِ الْمُبِيحَةِ مَا لَعَنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَاعِلَهُ، تَبَيَّنَ لَك عَظَمَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَجَلَالَتُهَا، وَهَيْمَنَتُهَا عَلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا وَأَحْسَنِهَا وَأَنْفَعْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 لِلْخَلْقِ، وَأَنَّ الشَّرِيعَتَيْنِ الْمَنْسُوخَتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُبَدِّلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَهُمَا فِي وَقْتٍ، وَلَمْ يَشْرَعْ الْمُبَدِّلَةَ أَصْلًا. وَهَذِهِ الدَّقَائِقُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَخْتَصُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِفَهْمِهِ مَنْ يَشَاءُ؛ فَمَنْ وَصَلَ إلَيْهَا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فَلْيُسَلِّمْ لِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالِمِينَ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ شَرِيعَتَهُ فَوْقَ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ وَفْقَ فِطَرِ الْأَلِبَّاءِ: وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ لَا تَتَقَدَّمِي ... إلَى الشَّمْسِ وَاسْتَغْشِي ظَلَامَ اللَّيَالِيَا وَسَامِحْ وَلَا تُنْكِرْ عَلَيْهَا وَخَلِّهَا ... وَإِنْ أَنْكَرَتْ حَقًّا فَقُلْ خَلِّ ذَا لِيَا غَيْرُهُ: عَابَ التَّفَقُّهَ قَوْمٌ لَا عُقُولَ لَهُمْ ... وَمَا عَلَيْهِ إذَا عَابُوهُ مِنْ ضَرَرِ مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ ... أَنْ لَا يَرَى ضَوْءَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ] وَأَمَّا إيجَابُهُ لِغَسْلِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا الرِّيحُ، وَإِسْقَاطُهُ غَسْلَ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَمَا أَوْفَقَهُ لِلْحِكْمَةِ، وَمَا أَشَدَّهُ مُطَابَقَةً لِلْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ: لِمَ كَانَ الْوُضُوءُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دُونَ بَاطِنِ الْمَقْعَدَةِ، مَعَ أَنَّ بَاطِنَ الْمَقْعَدَةِ أَوْلَى بِالْوُضُوءِ مِنْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؟ وَهَذَا سُؤَالٌ مَعْكُوسٌ، مِنْ قَلْبٍ مَنْكُوسٍ؛ فَإِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ كَانَ الْوُضُوءُ فِي الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمَكْشُوفَةِ، وَكَانَ أَحَقُّهَا بِهِ إمَامَهَا وَمُقَدَّمَهَا فِي الذِّكْرِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي نَظَافَتُهُ وَوَضَاءَتُهُ عِنْوَانٌ عَلَى نَظَافَةِ الْقَلْبِ، وَبَعْدَهُ الْيَدَانِ، وَهُمَا آلَةُ الْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ وَالْأَخْذِ، فَهُمَا أَحَقُّ الْأَعْضَاءِ بِالنَّظَافَةِ وَالنَّزَاهَةِ بَعْدَ الْوَجْهِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّأْسُ مَجْمَعَ الْحَوَاسِّ وَأَعْلَى الْبَدَنِ وَأَشْرَفَهُ كَانَ أَحَقَّ بِالنَّظَافَةِ، لَكِنْ لَوْ شَرَعَ غَسْلَهُ فِي الْوُضُوءِ لَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ، وَاشْتَدَّتْ الْبَلِيَّةُ، فَشَرَعَ مَسْحَ جَمِيعِهِ، وَأَقَامَهُ مَقَامَ غَسْلِهِ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً، كَمَا أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ. وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: وَمَا يُجْزِئُ مِسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ الْغَسْلِ وَالنَّظَافَةِ؟ وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ إمْسَاسَ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَةً لَهُ وَتَعَبُّدًا يُؤَثِّرُ فِي نَظَافَتِهِ وَطَهَارَتِهِ مَا لَا يُؤَثِّرُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ بِدُونِ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَالتَّحَاكُمُ فِي هَذَا إلَى الذَّوْقِ السَّلِيمِ، وَالطَّبْعِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا أَنَّ مَعْكَ الْوَجْهِ بِالتُّرَابِ امْتِثَالًا لِلْآمِرِ وَطَاعَةً وَعُبُودِيَّةً تُكْسِبُهُ وَضَاءَةً وَنَظَافَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَبَهْجَةً تَبْدُو عَلَى صَفَحَاتِهِ لِلنَّاظِرِينَ؛ وَلَمَّا كَانَتْ الرِّجْلَانِ تَمَسُّ الْأَرْضَ غَالِبًا، وَتُبَاشِرُ مِنْ الْأَدْنَاسِ مَا لَا تُبَاشِرُهُ بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالْغَسْلِ، وَلَمْ يُوَفَّقْ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْ اجْتَزَأَ بِمَسْحِهِمَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ. فَهَذَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِالْوُضُوءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَحْسُوسُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ هِيَ آلَاتُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُبَاشِرُ بِهَا الْعَبْدُ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَبِهَا يُعْصَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيُطَاعُ؛ فَالْيَدُ تَبْطِشُ، وَالرِّجْلُ تَمْشِي، وَالْعَيْنُ تَنْظُرُ، وَالْأُذُنُ تَسْمَعُ، وَاللِّسَانُ يَتَكَلَّمُ؛ فَكَانَ فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ - امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِقَامَةً لِمَعْبُودِيَّتِهِ - مَا يَقْتَضِي إزَالَةَ مَا لَحِقَهَا مِنْ دَرَنِ الْمَعْصِيَةِ وَوَسَخِهَا. وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي عَنْ الْوُضُوءِ، قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ يَقْرَبُ وُضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْثُرُ إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِاَلَّذِي هُوَ أَهْلُهُ - أَوْ هُوَ لَهُ أَهْلٌ - وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوْ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ» وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي يَقُومُ أَحَدُهُمَا مِنْ اللَّيْلِ يُعَالِجُ نَفْسَهُ إلَى الطَّهُورِ، وَعَلَيْهِ عُقَدٌ، فَيَتَوَضَّأُ؛ فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِي وَرَاءَ الْحِجَابِ: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ قَامَ إلَى وُضُوئِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ ثُمَّ غَسَلَ كَفَّيْهِ نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ كَفَّيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَفَتَيْهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ نَزَلَتْ خَطِيئَتُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ سَلِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ هُوَ لَهُ، وَمِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَإِذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَتَهُ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ سَالِمًا» وَفِيهِ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 مَقْصُودَ الْمَضْمَضَةِ كَمَقْصُودِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ حَاجَةُ اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ إلَى الْغَسْلِ كَحَاجَةِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ؛ فَمَنْ أَنَكْسُ قَلْبًا وَأَفْسَدُ فِطْرَةً وَأَبْطَلُ قِيَاسًا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ غَسْلَ بَاطِنِ الْمَقْعَدَةِ أَوْلَى مِنْ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؟ هَذَا إلَى مَا فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمُقَارِنِ لِنِيَّةِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ مِنْ انْشِرَاحِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ، وَاتِّسَاعِ الصَّدْرِ، وَفَرَحِ النَّفْسِ، وَنَشَاطِ الْأَعْضَاءِ؛ فَتَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِمَا أَوْجَبَ غَسْلَهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ] فَصْلٌ [تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ] وَأَمَّا اعْتِبَارُ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: أَيْنَ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ هَذَا التَّفْرِيقُ؟ بَلْ نَصَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ تَوْبَةِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَتْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ حَدَّ حِرَابِهِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِهَا وَتَعَدِّيهِ فَلَأَنْ تَدْفَعَ التَّوْبَةَ مَا دُونَ حَدِّ الْحِرَابِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحُدُودَ عُقُوبَةً لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَرَفَعَ الْعُقُوبَةَ عَنْ التَّائِبِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَلَيْسَ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَلَا قَدَرِهِ عُقُوبَةُ تَائِبٍ أَلْبَتَّةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَعَادَ قَوْلَهُ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَك» فَهَذَا لَمَّا جَاءَ تَائِبًا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَاعِزٌ جَاءَ تَائِبًا وَالْغَامِدِيَّةُ جَاءَتْ تَائِبَةً، وَأَقَامَ عَلَيْهِمَا الْحَدَّ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُمَا جَاءَا تَائِبَيْنِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَدَّ أُقِيمَ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا احْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَسَأَلْت شَيْخَنَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَجَابَ بِمَا مَضْمُونُهُ بِأَنَّ الْحَدَّ مُطَهِّرٌ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مُطَهِّرَةٌ، وَهُمَا اخْتَارَا التَّطْهِيرَ بِالْحَدِّ عَلَى التَّطْهِيرِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَأَبَيَا إلَّا أَنْ يُطَهَّرَا بِالْحَدِّ، فَأَجَابَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ذَلِكَ وَأَرْشَدَ إلَى اخْتِيَارِ التَّطْهِيرِ بِالتَّوْبَةِ عَلَى التَّطْهِيرِ بِالْحَدِّ، «فَقَالَ فِي حَقِّ مَاعِزٍ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَلَوْ تَعَيَّنَ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا جَازَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 تَرْكُهُ، بَلْ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبِ الْحَدِّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ: «اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك» وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ كَمَا أَقَامَهُ عَلَى مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ لَمَّا اخْتَارَا إقَامَتَهُ وَأَبَيَا إلَّا التَّطْهِيرَ بِهِ، وَلِذَلِكَ رَدَّهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا وَهُمَا يَأْبَيَانِ إلَّا إقَامَتَهُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا الْمَسْلَكُ وَسَطُ مَسْلَكِ مَنْ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ إقَامَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَلْبَتَّةَ، وَبَيْنَ مَسْلَكِ مَنْ يَقُولُ: لَا أَثَرَ لِلتَّوْبَةِ فِي إسْقَاطِهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِذَا تَأَمَّلْت السُّنَّةَ رَأَيْتهَا لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْوَسَطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ قَبُولُ رِوَايَةِ الْعَبْدِ دُونَ شَهَادَتِهِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَقَبِلَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ بِأَنَّهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَمَضْمُونُ السُّؤَالِ أَنَّ رِوَايَةَ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ دُونَ شَهَادَتِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الشَّارِعُ قَوْلَ فَقِيهٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَذْهَبَ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْمَقَامُ لَا يَنْتَصِرُ فِيهِ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَطْ، وَهَذَا السُّؤَالُ كَذِبٌ عَلَى الشَّارِعِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ قَالَ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ، بَلْ رُدُّوهَا، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا مُفْتِيًا فَقِيهًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ لَهْجَةً، بَلْ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْمِيزَانُ الْعَادِلُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَبْدِ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحُرِّ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] كَمَا دَخَلَ فِي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وَهُوَ عَدْلٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كَمَا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وَفِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] الْآيَةَ، كَمَا دَخَلَ فِي جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَوَامِرِ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: مَا عَلِمْت أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ غَالِبِ الْإِجْمَاعَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُتَأَخِّرُونَ؛ فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّارِعِ بِأَنَّهُ أَبْطَلَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَرَدَّهَا شَهَادَةٌ بِلَا عِلْمٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِرَدِّ شَهَادَةِ صَادِقٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 [فَصَلِّ صَدَقَةُ السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا عَنْ الْعَوَامِلِ] وَأَمَّا إيجَابُ الشَّارِعِ الصَّدَقَةَ فِي السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا عَنْ الْعَوَامِلِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ: «لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ غَالِبِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرٍو. وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. ثنا النُّفَيْلِيُّ ثنا زُهَيْرٌ ثنا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ زُهَيْرٌ: أَحْسِبُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَى حَدِيثَ النُّفَيْلِيِّ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يَرْفَعُوهُ، وَرَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا: «لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَلَا فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَقْرِ بْنِ حَبِيبٍ: سَمِعْت أَبَا رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ نَقَلَهُ الصَّقْرُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، وَهُوَ يَأْتِي بِالْمَقْلُوبَاتِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ. وَبَعْدُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: النَّوَاضِحُ وَالْبَقَرُ السَّوَانِي وَبَقَرُ الْحَرْثِ أَنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الزَّكَاةُ إذَا وَجَبَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ غَيْرَهُمَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد: لَا زَكَاةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ، وَلَا الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَإِنَّمَا الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا، وَرُوِيَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مَعَ الْأَثَرِ النَّظَرُ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمَالِ مُعَدًّا لِنَفْعِ صَاحِبِهِ بِهِ كَثِيَابِ بِذْلَتِهِ وَعَبِيدِ خِدْمَتِهِ وَدَارِهِ الَّتِي يَسْكُنُهَا وَدَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا وَكُتُبِهِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ؛ فَلَيْسَ فِيهَا زَكَاةٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي حُلِيِّ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَلْبَسُهُ وَتُعِيرُهُ زَكَاةٌ، فَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي بَقَرِ حَرْثِهِ وَإِبِلِهِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا بِالدُّولَابِ وَغَيْرِهِ؛ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، كَمَا أَنَّهُ مُوجِبُ النُّصُوصِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّائِمَةِ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَصْرُوفَةٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ إلَى الْعَمَلِ؛ فَهِيَ كَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ وَالدَّارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 [فَصَلِّ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي تَحْصِينِ الرَّجُلِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ الْحُرَّةَ الْقَبِيحَةَ الشَّوْهَاءَ تُحْصِنُ الرَّجُلَ، وَالْأَمَةَ الْبَارِعَةَ الْجَمَالِ لَا تُحْصِنُهُ " فَتَعْبِيرٌ سَيْءٌ عَنْ مَعْنًى صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ حِكْمَةَ الشَّارِعِ اقْتَضَتْ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ بِالْحَلَالِ، فَيَتَخَطَّاهُ إلَى الْحَرَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ كَمَالَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْصَنْ، وَاعْتَبَرَ لِلْإِحْصَانِ أَكْمَلَ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ الَّتِي يَرْغَبُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، دُونَ الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يُبِحْ اللَّهُ نِكَاحَهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالنِّعْمَةُ بِهَا لَيْسَتْ كَامِلَةً، وَدُونَ التَّسَرِّي الَّذِي هُوَ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ الْأَمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ لَا تَبْلُغُ رُتْبَةَ الزَّوْجَةِ، لَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا عَادَةً، بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رُتْبَةً، وَالْأَمَةُ لَا تُرَادُ لِمَا تُرَادُ لَهُ الزَّوْجَةُ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، وَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ، فَأَمَتُهُ تَجْرِي فِي الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ وَالِاسْتِخْدَامِ مَجْرَى دَابَّتِهِ وَغُلَامِهِ، بِخِلَافِ الْحَرَائِرِ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ اعْتَبَرَتْ فِي كَمَالِ النِّعْمَةِ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَقَدَ عَلَى حُرَّةٍ وَدَخَلَ بِهَا؛ إذْ بِذَلِكَ يَقْضِي كَمَالَ وَطَرِهِ، وَيُعْطِي شَهْوَتَهُ حَقَّهَا، وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَمُنْشَأُ الْحِكْمَةِ. وَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُحْصَنِينَ، وَلَا يَضُرُّ تَخَلُّفُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ إذْ شَأْنُ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ تُرَاعِيَ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ الْمُنْضَبِطَةَ، وَلَا يَنْقُضُهَا تَخَلُّفُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْرَادِ الصُّوَرِ، كَمَا هَذَا شَأْنُ الْخَلْقِ؛ فَهُوَ مُوجِبُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فِي قَضَائِهِ وَشَرْعِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ ذَكَرِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَدُونَ مَسِّ الْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: «هَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْك» وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ دَالٌّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ. وَسُؤَالُ السَّائِلِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَإِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَنَحْنُ نُجِيبُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَنَقُولُ: هَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ مَحَاسِنِهَا، فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ بِالْوَطْءِ، وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الِانْتِشَارِ غَالِبًا، وَالِانْتِشَارُ الصَّادِرُ عَنْ الْمَسِّ فِي مَظِنَّةِ خُرُوجِ الْمَذْيِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ؛ فَأُقِيمَتْ هَذِهِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ لِخَفَائِهَا وَكَثْرَةِ وُجُودِهَا، كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدِيثِ، وَكَمَا أُقِيمَ لَمْسُ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ مَقَامَ الْحَدَثِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ يُوجِبُ انْتِشَارَ حَرَارَةِ الشَّهْوَةِ وَثَوَرَانَهَا فِي الْبَدَنِ، وَالْوُضُوءُ يُطْفِئُ تِلْكَ الْحَرَارَةِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ، وَلَمْ يَكُنْ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَلَا لِكَوْنِهِ مَجْرَى النَّجَاسَةِ حَتَّى يُورِدَ السَّائِلُ مَسَّ الْعَذِرَةَ وَالْبَوْلَ، وَدَعْوَاهُ بِمُسَاوَاةِ مَسِّ الذَّكَرِ لِلْأَنْفِ مِنْ أَكْذَبِ الدَّعَاوَى وَأَبْطَلْ الْقِيَاسِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْحَدِّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَوْجَبَ الْحَدَّ فِي الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْخَمْرِ دُونَ الْأَرْطَالِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الْبَوْلِ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَمُطَابِقَتِهَا لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَقِيَامِهَا بِالْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّ مَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ النَّفْرَةَ عَنْهُ وَمُجَانَبَتَهُ اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ الْوَازِعِ عَنْهُ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا يَشْتَدُّ تَقَاضِي الطِّبَاعِ لَهُ فَإِنَّهُ غَلَّظَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شِدَّةِ تَقَاضِي الطَّبْعِ لَهُ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ إلَيْهِ مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ، وَجَعَلَ مَا حَوْلَهُ حِمًى، وَمَنَعَ مِنْ قُرْبَانِهِ، وَلِهَذَا عَاقَبَ فِي الزِّنَا بِأَشْنَعِ الْقِتْلَاتِ، وَفِي السَّرِقَةِ بِإِبَانَةِ الْيَدِ، وَفِي الْخَمْرِ بِتَوْسِيعِ الْجَلْدِ ضَرَبًا بِالسَّوْطِ، وَمَنَعَ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ إذْ قَلِيلُهُ دَاعٍ إلَى كَثِيرِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَبَاحَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ خَارِجًا عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ وَمُوجِبِ النُّصُوصِ، وَأَيْضًا فَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالضَّرَرِ الْمُخْتَصِّ وَالْمُتَعَدِّي أَضْعَافُ الضَّرَرِ وَالْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِي شُرْبِ الْبَوْلِ وَأَكْلِ الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُخْتَصٌّ بِمُتَنَاوِلِهَا. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي قَصْرِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَرْبَعٍ دُونَ السَّرِيَّاتِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَقَصَرَ عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَأَبَاحَ مِلْكَ الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَصْرٍ " فَهَذَا مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ وَكَمَالِ شَرِيعَتِهِ، وَمُوَافَقَتِهَا لِلْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْوَطْءِ وَقَضَاءِ الْوَطَرِ، ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ سُلْطَانُ هَذِهِ الشَّهْوَةِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ بِوَاحِدَةٍ، فَأَطْلَقَ لَهُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً، وَكَانَ هَذَا الْعَدَدُ مُوَافِقًا لِعَدَدِ طِبَاعِهِ وَأَرْكَانِهِ، وَعَدَدِ فُصُولِ سَنَتِهِ، وَلِرُجُوعِهِ إلَى الْوَاحِدَةِ بَعْدَ صَبْرِ ثَلَاثٍ عَنْهَا، وَالثَّلَاثُ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، وَقَدْ عَلَّقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الشَّارِعُ بِهَا عِدَّةَ أَحْكَامٍ، وَرَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا، وَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثَلَاثًا، وَجَعَلَ حَدَّ الضِّيَافَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْمُوجِبَةِ ثَلَاثًا، وَأَبَاحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ثَلَاثًا، فَرَحِمَ الضَّرَّةَ بِأَنْ جَعَلَ غَايَةَ انْقِطَاعِ زَوْجِهَا عَنْهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يَعُودُ؛ فَهَذَا مَحْضُ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمَّا كُنَّ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْخَيْلِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ لِقَصْرِ الْمَالِكِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهُنَّ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعَدَدِ مَعْنًى؛ فَكَمَا لَيْسَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُقْصِرَ السَّيِّدُ عَلَى أَرْبَعَةِ عَبِيدٍ أَوْ أَرْبَعِ دَوَابَّ وَثِيَابٍ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُقْصِرَهُ عَلَى أَرْبَعِ إمَاءٍ، وَأَيْضًا فَلِلزَّوْجَةِ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ اقْتَضَاهُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقِيَامُ بِهِ، فَإِنْ شَارَكَهَا غَيْرَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا؛ فَقَصْرُ الْأَزْوَاجِ عَلَى عَدَدٍ يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ أَقْرَبَ مِمَّا زَادَ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَدْلَ وَلَوْ حَرَصُوا عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لِإِمَائِهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لَهُنَّ قَسْمٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي إبَاحَةِ التَّعَدُّدِ لِلرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَإِنَّهُ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ " فَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ عَنْ خِلَافِ ذَلِكَ، وَيُنَزَّهُ شَرْعُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ هَذَا، وَلَوْ أُبِيحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ زَوْجَيْنِ فَأَكْثَرَ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَضَاعَتْ الْأَنْسَابُ، وَقَتَلَ الْأَزْوَاجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَظُمَتْ الْبَلِيَّةُ، وَاشْتَدَّتْ الْفِتْنَةُ، وَقَامَتْ سُوقُ الْحَرْبِ عَلَى سَاقٍ، وَكَيْف يَسْتَقِيمُ حَالُ امْرَأَةٍ فِيهَا شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ؟ وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ حَالُ الشُّرَكَاءِ فِيهَا؟ فَمَجِيءُ الشَّرِيعَةِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ خِلَافِ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَرَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِخَلْقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْف رُوعِيَ جَانِبُ الرَّجُلِ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَنْ يُسِيمَ طَرْفَهُ وَيَقْضِيَ وَطَرَهُ، وَيَنْتَقِلَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ بِحَسَبِ شَهْوَتِهِ وَحَاجَتِهِ، وَدَاعِي الْمَرْأَةِ دَاعِيهِ، وَشَهْوَتُهَا شَهْوَتُهُ؟ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَكُونَ مُخَبَّأَةً مِنْ وَرَاءِ الْخُدُورِ، وَمَحْجُوبَةً فِي كُنِّ بَيْتِهَا، وَكَانَ مِزَاجُهَا أَبْرَدَ مِنْ مِزَاجِ الرَّجُلِ، وَحَرَكَتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ أَقَلَّ مِنْ حَرَكَتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْحَرَارَةِ الَّتِي هِيَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَبُلِيَ بِمَا لَمْ تُبْلَ بِهِ؛ أَطْلَقَ لَهُ مِنْ عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ مَا لَمْ يُطْلِقْ لِلْمَرْأَةِ؛ وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الرِّجَالَ، وَفَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى النِّسَاءِ، كَمَا فَضَّلَهُمْ عَلَيْهِنَّ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ وَوِلَايَةِ الْحُكْمِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ سَاعِينَ فِي مَصَالِحِهِنَّ، يَدْأَبُونَ فِي أَسْبَابِ مَعِيشَتِهِنَّ، وَيَرْكَبُونَ الْأَخْطَارَ، يَجُوبُونَ الْقِفَارَ، وَيُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِكُلِّ بَلِيَّةٍ وَمِحْنَةٍ فِي مَصَالِحِ الزَّوْجَاتِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى شَكُورٌ حَلِيمٌ، فَشَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَجَبَرَهُمْ بِأَنْ مَكَّنَهُمْ مِمَّا لَمْ يُمَكِّنْ مِنْهُ الزَّوْجَاتِ، وَأَنْتَ إذَا قَايَسْت بَيْنَ تَعَبِ الرِّجَالِ وَشَقَائِهِمْ وَكَدِّهِمْ وَنَصَبِهِمْ فِي مَصَالِحِ النِّسَاءِ وَبَيْنَ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ النِّسَاءُ مِنْ الْغَيْرَةِ وَجَدْت حَظَّ الرِّجَالِ مِنْ تَحَمُّلِ ذَلِكَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالدَّأْبِ أَكْثَرَ مِنْ حَظِّ النِّسَاءِ مِنْ تَحَمُّلِ الْغَيْرَةِ؛ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّ شَهْوَةَ الْمَرْأَةِ تَزِيدُ عَلَى شَهْوَةِ الرَّجُلِ " فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَالشَّهْوَةُ مَنْبَعُهَا الْحَرَارَةُ، وَأَيْنَ حَرَارَةُ الْأُنْثَى مِنْ حَرَارَةِ الذَّكَرِ؟ وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ - لِفَرَاغِهَا وَبَطَالَتِهَا وَعَدَمِ مُعَانَاتِهَا لِمَا يَشْغَلُهَا عَنْ أَمْرِ شَهْوَتِهَا وَقَضَاءِ وَطَرِهَا - يَغْمُرُهَا سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ، وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَلَا يَجِدُ عِنْدَهَا مَا يُعَارِضُهُ، بَلْ يُصَادِفُ قَلْبًا فَارِغًا وَنَفْسًا خَالِيَةً فَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا كُلَّ التَّمَكُّنِ؛ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ شَهْوَتَهَا أَضْعَافُ شَهْوَةِ الرَّجُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يُجَامِعَ غَيْرَهَا فِي الْحَالِ، «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ» ، وَطَافَ سُلَيْمَانُ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً فِي لَيْلَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَهُ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ شَهْوَةً وَحَرَارَةً بَاعِثَةً عَلَى الْوَطْءِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا قَضَى الرَّجُلُ وَطَرَهُ فَتَرَتْ شَهْوَتُهَا، وَانْكَسَرَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تَطْلُبْ قَضَاءَهَا مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْحِينِ، فَتَطَابَقَتْ حِكْمَةُ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ وَالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي جَوَازِ اسْتِمْتَاعِ السَّيِّدِ بِأَمَتِهِ دُونَ الْعَبْدِ بِسَيِّدَتِهِ] ِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ أَمَتِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَمْتِعَ مِنْ عَبْدِهَا لَا بِوَطْءٍ وَلَا غَيْرِهِ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَحِكْمَتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّدَ قَاهِرٌ لِمَمْلُوكِهِ، حَاكِمٌ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لَهُ، وَالزَّوْجُ قَاهِرٌ لِزَوْجَتِهِ حَاكِمٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ وَحُكْمِهِ شِبْهُ الْأَسِيرِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ الْعَبْدَ مِنْ نِكَاحِ سَيِّدَتِهِ لِلتَّنَافِي بَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوكَهَا وَبَعْلَهَا، وَبَيْنَ كَوْنِهَا سَيِّدَتَهُ وَمَوْطُوءَتَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ بِالْفِطْرَةِ وَالْعُقُولِ قُبْحُهُ، وَشَرِيعَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَفَرَّقَ بَيْنَ الطَّلْقَاتِ فَجَعَلَ بَعْضَهَا مُحَرِّمًا لِلزَّوْجَةِ وَبَعْضَهَا غَيْرَ مُحَرِّمٍ " فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ وَمَصْلَحَتِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَفَرَّقَ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ اللُّحُومِ فِي الْوُضُوءِ " فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ عَلَى وَفْق الْحِكْمَةِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ] فَصْلٌ [الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَفَرَّقَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ " فَهَذَا سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، وَأَوْرَدَهُ أَبُو ذَرٍّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْفَرْقِ الْبَيِّنِ فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» ، وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَظْهَرُ فِي صُورَةِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ كَثِيرًا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَظَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ مُرُورُ عَدُوِّ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِصَلَاتِهِ، وَيَكُونَ مُرُورُهُ قَدْ جَعَلَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَغِيضَةً إلَى اللَّهِ مَكْرُوهَةً لَهُ، فَيَأْمُرُ الْمُصَلِّيَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُ الْكِلَابِ فَإِنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا شَيَاطِينُ، وَهِيَ مَاعَتَا مِنْهَا وَتَمَرَّدَ، كَمَا أَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ عُتَاتُهُمْ وَمُتَمَرِّدُوهُمْ، وَالْإِبِلَ شَيَاطِينُ الْأَنْعَامِ، وَعَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ؛ فَيَكُونُ مُرُورُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكِلَابِ - وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِهَا وَشَرِّهَا - مُبْغِضًا لِتِلْكَ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَقْطَعَ مُرُورُ الْعَدُوِّ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ وَلِيِّهِ حُكْمَ مُنَاجَاتِهِ لَهُ كَمَا قَطَعَهَا كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ قَهْقَهَةٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الْغَيْرُ نَجَاسَةً أَوْ نَوَّمَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا؟ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي» . وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلشَّارِعِ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ أَسْرَارٌ لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إلَى إدْرَاكِهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَإِنْ أَدْرَكَتْهَا جُمْلَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرِّيحِ وَالْجُشَاءِ فِي الْوُضُوء] فَصْلٌ [الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرِّيحِ وَالْجُشَاءِ] أَمَّا قَوْلُهُ: " وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ الدُّبُرِ وَبَيْنَ الْجَشْوَةِ فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ هَذِهِ دُونَ هَذِهِ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْبَلْغَمِ الْخَارِجِ مِنْ الْفَمِ وَبَيْنَ الْعَذِرَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الرِّيحِ وَالْجُشَاءِ فَهُوَ كَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْبَلْغَمِ وَالْعَذِرَةِ، وَالْجُشَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعُطَاسِ الَّذِي هُوَ رِيحٌ تَحْتَبِسُ فِي الدِّمَاغِ ثُمَّ تَطْلُبُ لَهَا مَنْفَذًا فَتَخْرُجُ مِنْ الْخَيَاشِيمِ فَيَحْدُثُ الْعُطَاسُ، وَكَذَلِكَ الْجُشَاءُ رِيحٌ تَحْتَبِسُ فَوْقَ الْمَعِدَةِ فَتَطْلُبُ الصُّعُودَ، بِخِلَافِ الرِّيحِ الَّتِي تَحْتَبِسُ تَحْتَ الْمَعِدَةِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْجَشْوَةِ وَالضَّرْطَةِ فِي الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ فَهُوَ فَاسِدُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْقَطَهَا عَنْ آلَافٍ مِنْ الْخَيْلِ " فَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي هَذَا الْجِنْسِ دُونَ هَذَا كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَدْ عَفَوْت عَنْ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ؛ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ بَقِيَّةُ: حَدَّثَنِي أَبُو مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْجَبْهَةِ، وَالْكَسْعَةِ وَالنُّخَّةِ» قَالَ بَقِيَّةُ: الْجَبْهَةُ: الْخَيْلُ، وَالْكَسْعَةُ: الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَالنُّخَّةُ: الْمُرَبَّيَاتُ فِي الْبُيُوتِ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: " لَا صَدَقَةَ فِي الْجَبْهَةِ وَالْكَسْعَةِ، وَالْكَسْعَةُ الْحَمِيرُ، وَالْجَبْهَةُ: الْخَيْلُ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ أَنَّ الْخَيْلَ تُرَادُ لِغَيْرِ مَا تُرَادُ لَهُ الْإِبِلُ؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ تُرَادُ لَلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْأَكْلِ وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَالْمَتَاجِرِ وَالِانْتِقَالِ عَلَيْهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَأَمَّا الْخَيْلُ فَإِنَّمَا خُلِقَتْ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّلَبِ وَالْهَرَبِ، وَإِقَامَةِ الدِّينِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ. وَلِلشَّارِعِ قَصْدٌ أَكِيدٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 اقْتِنَائِهَا وَحِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَتَرْغِيبِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَرْغَبَ لِلنُّفُوسِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ اقْتِنَائِهَا وَرِبَاطِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَرِبَاطُ الْخَيْلِ مِنْ جِنْسِ آلَاتِ السِّلَاحِ وَالْحَرْبِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْهَا مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ، بِخِلَافِ مَا أُعِدَّ لِلنَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا مَلَكَ مِنْهُ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هَذَا بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ: «قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ» أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا أُعِدَّ لِلْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ مَا أُعِدَّ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَنَصْرِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ؟ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ، وَإِسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَعْضِ مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَوْجَبَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَفِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ نِصْفَ الْعُشْرِ أَوْ الْعُشْرَ، وَفِي الْمَعْدِنِ الْخُمُسَ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاتِهَا لِلْمَصَالِحِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَطُهْرَةٌ لِلْمَالِ، وَعُبُودِيَّةً لِلرَّبِّ، وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ مَحْبُوبِ الْعَبْدِ لَهُ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ. ثُمَّ فَرَضَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَنْفَعْهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَأَرْفَقِهَا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلَمْ يَفْرِضْهَا فِي كُلِّ مَالٍ، بَلْ فَرَضَهَا فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الرِّبْحُ وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا فِيمَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَلَا غِنًى لَهُ عَنْهُ كَعَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَدَارِهِ وَثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ، بَلْ فَرَضَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ الْمَالِ: الْمَوَاشِي، وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ أَكْثَرُ أَمْوَالِ النَّاسِ الدَّائِرَةُ بَيْنَهُمْ، وَعَامَّةُ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، دُونَ مَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ فِيهِ، ثُمَّ قَسَّمَ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَإِعْدَادِهِ لِلنَّمَاءِ إلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلَى مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَقَسَّمَ الْمَوَاشِيَ إلَى قِسْمَيْنِ: سَائِمَةٍ تَرْعَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا خَسَارَةٍ فَالنِّعْمَةُ فِيهَا كَامِلَةٌ وَالْمِنَّةُ بِهَا وَافِرَةٌ وَالْكُلْفَةُ فِيهَا يَسِيرَةٌ وَالنَّمَاءُ فِيهَا كَثِيرٌ؛ فَخَصَّ هَذَا النَّوْعَ بِالزَّكَاةِ، وَإِلَى مَعْلُوفَةٍ بِالثَّمَنِ أَوْ عَامِلَةٍ فِي مَصَالِحِ أَرْبَابِهَا فِي دَوَالِيهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَحَمْلِ أَمْتِعَتِهِمْ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ زَكَاةً: لِكُلْفَةِ الْمَعْلُوفَةِ وَحَاجَةِ الْمَالِكِينَ إلَى الْعَوَامِلِ فَهِيَ كَثِيَابِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ. ثُمَّ قَسَّمَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَجْرِي مَجْرَى السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فِي سَقْيِهِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ فَأَوْجَبَ فِيهِ الْعُشْرَ، وَقِسْمٍ يُسْقَى بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَلَكِنَّ كُلْفَتَهُ دُونَ كُلْفَةِ الْمَعْلُوفَةِ بِكَثِيرٍ إذْ تِلْكَ تَحْتَاجُ إلَى الْعَلَفِ كُلَّ يَوْمٍ فَكَانَ مَرْتَبَةً بَيْنَ مَرْتَبَةِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ زَكَاةً مَا شَرِبَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْ زَكَاتَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَأَوْجَبَ فِيهِ نِصْفَ الْعُشْرِ. ثُمَّ قَسَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلثَّمَنِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ بِهِ وَالتَّكَسُّبِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالسَّبَائِكِ وَنَحْوِهَا، وَإِلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ دُونَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ كَحِلْيَةِ الْمَرْأَةِ وَآلَاتِ السِّلَاحِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مِثْلِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. ثُمَّ قَسَّمَ الْعُرُوضَ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَقِسْمٌ أُعِدَّ لِلْقِنْيَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَةِ النَّمَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ حُصُولُ النَّمَاءِ وَالرِّبْحِ بِالتِّجَارَةِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرَ مُعَانَاةً وَعَمَلًا خَفَّفَهَا بِأَنْ جَعَلَ فِيهَا رُبُعَ الْعُشْرِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّبْحُ وَالنَّمَاءُ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تُسْقَى بِالْكُلْفَةِ أَقَلَّ كُلْفَةً وَالْعَمَلُ أَيْسَرَ وَلَا يَكُونُ فِي كُلِّ السَّنَةِ جَعَلَهُ ضِعْفَهُ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَلَمَّا كَانَ التَّعَبُ وَالْعَمَلُ فِيمَا يَشْرَبُ بِنَفْسِهِ أَقَلَّ وَالْمَئُونَةُ أَيْسَرَ جَعَلَهُ ضِعْفَ ذَلِكَ وَهُوَ الْعُشْرُ، وَاكْتَفَى فِيهِ بِزَكَاةٍ عَامَّةٍ خَاصَّةٍ؛ فَلَوْ أَقَامَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ أَحْوَالٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ نَمَاؤُهُ وَزِيَادَتُهُ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ؛ فَإِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلنَّمَاءِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرِّكَازُ مَالًا مَجْمُوعًا مُحَصَّلًا وَكُلْفَةُ تَحْصِيلِهِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَكْثَرِ مِنْ اسْتِخْرَاجِهِ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ ضِعْفَ ذَلِكَ وَهُوَ الْخُمُسُ. فَانْظُرْ إلَى تَنَاسُبِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي بَهَرَ الْعُقُولَ حُسْنُهَا وَكَمَالُهَا، وَشَهِدَتْ الْفِطَرُ بِحِكْمَتِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُطْرَقْ الْعَالَمُ شَرِيعَةً أَفْضَلَ مِنْهَا. وَلَوْ اجْتَمَعَتْ عُقُولُ الْعُقَلَاءِ وَفِطَرُ الْأَلِبَّاءِ وَاقْتَرَحَتْ شَيْئًا يَكُونُ أَحْسَنَ مُقْتَرَحٍ لَمْ يَصِلْ اقْتِرَاحُهَا إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ قَدَّرَ الشَّارِعُ لِمَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ نُصُبًا مُقَدَّرَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ النُّصُبُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا لَا يُجْحِفُ الْمُوَاسَاةَ بِبَعْضِهِ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ مِنْهَا، وَإِلَى مَا يُجْحِفُ الْمُوَاسَاةَ بِبَعْضِهِ فَجَعَلَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا دُونَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْمُوَاسَاةُ لَا تُحْتَمَلُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَا كُلَّ شَهْرٍ، إذْ فِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جَعَلَهَا كُلَّ عَامٍ مَرَّةً كَمَا جَعَلَ الصِّيَامَ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ لَا يَشُقُّ فِعْلُهَا كُلَّ يَوْمٍ وَظَّفَهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ يَشُقُّ تَكَرُّرُ وُجُوبِهِ كُلَّ عَامٍ جَعَلَهُ وَظِيفَةَ الْعُمْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ مِقْدَارَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ فِي الزَّكَاةِ وَجَدَهُ مِمَّا لَا يَضُرُّ الْمُخْرِجَ فَقْدُهُ، وَيَنْفَعُ الْفَقِيرَ أَخْذُهُ، وَرَآهُ قَدْ رَاعَى فِي حَالِ صَاحِبِ الْمَالِ وَجَانِبِهِ حَقَّ الرِّعَايَةِ، وَنَفَعَ الْآخِذَ بِهِ، وَقَصَدَ إلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَعْلَاهُ وَأَشْرَفِهِ؛ فَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ دُونَ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهَا، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ السَّائِمَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ دُونَ مَا يَقِلُّ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّيُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَدُونَ الطَّيْرِ كُلِّهِ، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَشْرَفَهُ وَهُوَ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ دُونَ الْبُقُولِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَالْأَنْوَارِ. وَغَيْرُ خَافٍ تَمَيُّزُ مَا أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يُوجِبْهَا فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ وَنَفْعِهِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْوَالِ لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ لَأَضَرَّ فَقْدُهُ بِالنَّاسِ، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُوجِبْ فِيهِ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْفَضَلَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ الَّتِي لَوْ فُقِدَتْ لَمْ يَعْظُمْ الضَّرَرُ بِفَقْدِهَا، وَكَذَلِكَ رَاعَى فِي الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ: أَحَدَهُمَا: حَاجَةُ الْأَخْذِ. وَالثَّانِي: نَفْعُهُ؛ فَجَعَلَ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، وَنَوْعًا يَأْخُذُ لِنَفْعِهِ، وَحَرَّمَهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُمَا. [فَصَلِّ حِكْمَةُ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ لِسَانِ الْقَاذِفِ] ِ مَثَلًا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الَّتِي بَاشَرَ بِهَا الْجِنَايَةَ، وَلَمْ يَقْطَعْ فَرْجَ الزَّانِي وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْجِنَايَةَ، وَلَا لِسَانَ الْقَاذِفِ وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْقَذْفَ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا نَافِعًا فِي الْحُدُودِ وَمَقَادِيرِهَا، وَكَمَالِ رُتَبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا، وَاقْتِضَاءِ كُلِّ جِنَايَةٍ لِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ اقْتِرَاحٌ، وَنُورِدُ أَسْئِلَةً لَمْ يُورِدْهَا هَذَا السَّائِلُ، وَنَنْفَصِلُ عَنْهَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ أَحْسَنَ انْفِصَالٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَمَّا خَلَقَ الْعِبَادَ وَخَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ فِي حِكْمَتِهِ بُدٌّ مِنْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الِابْتِلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَخَارِجًا عَنْهَا، فَجَعَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ الْعُقُولَ الصَّحِيحَةَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْإِرَادَةَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمَيْلَ وَالنُّفُورَ وَالْأَخْلَاقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الْمُتَضَادَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِآثَارِهَا اقْتِضَاءَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبِهِ وَاَلَّتِي فِي الْخَارِجِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَطْلُبُ النُّفُوسُ حُصُولَهَا فَتُنَافِسُ فِيهِ، وَتَكْرَهُ حُصُولَهُ فَتَدْفَعُهُ عَنْهَا، ثُمَّ أَكَّدَ أَسْبَابَ هَذَا الِابْتِلَاءِ بِأَنْ وَكَّلَ بِهَا قُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الظَّالِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَقُرَنَاءَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَيِّرَةِ الْعَادِلَةِ الطَّيِّبَةِ، وَجَعَلَ دَوَاعِيَ الْقَلْبِ وَمُيُولَهُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُمَا؛ فَهُوَ إلَى دَاعِي الْخَيْرِ مَرَّةً وَإِلَى دَاعِي الشَّرِّ مَرَّةً، لِيَتِمَّ الِابْتِلَاءُ فِي دَارِ الِامْتِحَانِ، وَتَظْهَرَ حِكْمَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، وَهُمَا مُقْتَضَى مُلْكِ الرَّبِّ وَحَمْدِهِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُلْكُهُ وَحَمْدُهُ فِيهِمَا كَمَا ظَهَرَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ بِحُكْمِ إيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ لِيُتِمَّ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ لِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَادَاةِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْإِرَادَاتِ كَمَا حَصَلَ بَيْنَ مَنْ قَامَتْ بِهِ. فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حُصُولِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا قَارَنَهَا مِنْ الْأَسْبَابِ مِنْ التَّنَافُسِ وَالتَّحَاسُدِ وَالِانْقِيَادِ لِدَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَتَعَدِّي مَا حُدَّ لَهُ وَالتَّقْصِيرُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُعُبِّدَ بِهِ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهَا اغْتِرَارُهَا بِمَوَارِدِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ مِنْ مَصَادِرِهَا، وَإِيثَارِهَا مَا تَتَعَجَّلُهُ مِنْ يَسِيرِ اللَّذَّةِ فِي دُنْيَاهَا عَلَى مَا تَتَأَجَّلُهُ مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ فِي أُخْرَاهَا، وَنُزُولِهَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، وَتَجَافِيهَا عَنْ الْغَائِبِ الْمَوْعُودِ وَذَلِكَ مُوجِبُ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ جَهْلِهَا وَظُلْمِهَا؛ فَاقْتَضَتْ أَسْمَاءُ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ وَنِعْمَتُهُ السَّابِغَةُ وَرَحْمَتُهُ الشَّامِلَةُ وَجُودُهُ الْوَاسِعُ أَنْ لَا يَضْرِبَ عَنْ عِبَادِهِ الذِّكْرَ صَفْحًا، وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ سُدًى، وَلَا يُخَلِّيَهُمْ وَدَوَاعِيَ أَنْفُسِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ، بَلْ رَكَّبَ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى عَرَّفَهُمْ بِهِ مُفَصَّلًا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ بِأَنْ أَقَامَ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَصَرَفَ لَهُمْ طُرُقَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَضَرَبَ لَهُمْ الْأَمْثَالَ وَأَزَالَ عَنْهُمْ كُلَّ إشْكَالٍ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ غَايَةَ التَّمْكِينِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ بِكُلِّ سَبَبٍ، وَسَلَّطَهُمْ عَلَى قَهْرِ طِبَاعِهِمْ بِمَا يَجُرُّهُمْ إلَى إيثَارِ الْعَوَاقِبِ عَلَى الْمُبَادِي وَرَفْضِ الْيَسِيرِ الْفَانِي مِنْ اللَّذَّةِ إلَى الْعَظِيمِ الْبَاقِي مِنْهَا، وَأَرْشَدَهُمْ إلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ وَإِيثَارِ مَا تَقْضِي بِهِ عُقُولُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَأَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ بِمَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَالْمَثُوبَةِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَتَحْقِيقِ ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ لِبَعْضِهِ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَإِمَارَةً لِتَحْقِيقِ مَا أَخَّرَهُ عَنْهُمْ فِي دَارِ الْجَزَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَالْمَثُوبَةِ، وَيَكُونُ الْعَاجِلُ مُذَكِّرًا بِالْآجِلِ، وَالْقَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ بِالْكَثِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَاضِرُ الْفَائِتُ مُؤْذِنًا بِالْغَائِبِ الدَّائِمِ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَظُنُّهُ بِهِ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَأَرْدَاهُ ظَنُّهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ. [مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ شَرْعُ الْحُدُودِ] فَكَانَ مِنْ بَعْضِ حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَرَحْمَتِهِ أَنْ شَرَعَ الْعُقُوبَاتِ فِي الْجِنَايَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي الرُّءُوسِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ، كَالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ؛ فَأَحْكَمَ سُبْحَانَهُ وُجُوهَ الزَّجْرِ الرَّادِعَةَ عَنْ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، وَشَرَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، مَعَ عَدَمِ الْمُجَاوَزَةِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْجَانِي مِنْ الرَّدْعِ؛ فَلَمْ يَشْرَعْ فِي الْكَذِبِ قَطْعَ اللِّسَانِ وَلَا الْقَتْلَ، وَلَا فِي الزِّنَا الْخِصَاءَ، وَلَا فِي السَّرِقَةِ إعْدَامَ النَّفْسِ. وَإِنَّمَا شَرَعَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مُوجِبُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ لِتَزُولَ النَّوَائِبُ، وَتَنْقَطِعَ الْأَطْمَاعُ عَنْ التَّظَالُمِ وَالْعُدْوَانِ، وَيَقْتَنِعَ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا آتَاهُ مَالِكُهُ وَخَالِقُهُ؛ فَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِلَابِ غَيْرِهِ حَقَّهُ. [تَفَاوَتَتْ الْجِنَايَاتُ فَتَفَاوَتَتْ الْعُقُوبَاتُ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَاتِ الْأَرْبَعِ مَرَاتِبَ مُتَبَايِنَةً فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي شِدَّةِ الضَّرَرِ وَخِفَّتِهِ، كَتَفَاوُتِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّظْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَصْلُحُ إلْحَاقُهَا فِي الْعُقُوبَةِ بِعُقُوبَةِ مُرْتَكِبِ الْفَاحِشَةِ، وَلَا الْخَدْشَةِ بِالْعُودِ بِالضَّرْبَةِ بِالسَّيْفِ، وَلَا الشَّتْمِ الْخَفِيفِ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا وَالْقَدَحِ فِي الْأَنْسَابِ؛ وَلَا سَرِقَةِ اللُّقْمَةِ وَالْفَلْسِ بِسَرِقَةِ الْمَالِ الْخَطِيرِ الْعَظِيمِ، فَلَمَّا تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْجِنَايَاتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعُقُوبَاتِ، وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ لَوْ وُكِّلُوا إلَى عُقُولِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَتَرْتِيبِ كُلِّ عُقُوبَةٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْجِنَايَةِ جِنْسًا وَوَصْفًا وَقَدْرًا لَذَهَبَتْ بِهِمْ الْآرَاءُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَشَعَّبَتْ بِهِمْ الطُّرُقُ كُلَّ مُشَعَّبٍ، وَلَعَظُمَ الِاخْتِلَافُ وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ، فَكَفَاهُمْ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ مُؤْنَةَ ذَلِكَ، وَأَزَالَ عَنْهُمْ كُلْفَتَهُ، وَتَوَلَّى بِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ تَقْدِيرَهُ نَوْعًا وَقَدْرًا، وَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ جِنَايَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَيَلِيقُ بِهَا مِنْ النَّكَالِ، ثُمَّ بَلَغَ مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ أَنْ جَعَلَ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ كَفَّارَاتٍ لِأَهْلِهَا، وَطُهْرَةً تُزِيلُ عَنْهُمْ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْجِنَايَاتِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالْإِنَابَةُ؛ فَرَحِمَهُمْ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ أَنْوَاعًا مِنْ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَالْآخِرَةِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ دَائِرَةً عَلَى سِتَّةِ أُصُولٍ: قَتْلٍ، وَقَطْعٍ، وَجَلْدٍ، وَنَفْيٍ، وَتَغْرِيمِ مَالٍ، وَتَعْزِيرٍ. [الْقَتْلُ وَمُوجِبُهُ] فَأَمَّا الْقَتْلُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَنْفُسِ؛ فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَالْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ بِالطَّعْنِ فِيهِ وَالِارْتِدَادِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْجِنَايَةُ أَوْلَى بِالْقَتْلِ وَكَفِّ عُدْوَانِ الْجَانِي عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ عُقُوبَةٍ؛ إذْ بَقَاؤُهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ مَفْسَدَةٌ لَهُمْ، وَلَا خَيْرَ يُرْجَى فِي بَقَائِهِ وَلَا مَصْلَحَةَ؛ فَإِذَا حَبَسَ شَرَّهُ وَأَمْسَكَ لِسَانَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ وَالْتَزَمَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَجَرَيَانَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ وَأَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَالدُّنْيَا بَلَاغٌ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ، وَجَعَلَهُ أَيْضًا عُقُوبَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ وَاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَالْفَسَادِ الْعَامِّ. [الْقَطْعُ وَمُوجِبُهُ] وَأَمَّا الْقَطْعُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ مِثْلِهِ عَدْلًا، وَعُقُوبَةَ السَّارِقِ؛ فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِهِ أَبْلَغَ وَأَرْدَعَ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِالْجَلْدِ، وَلَمْ تَبْلُغْ جِنَايَتُهُ حَدَّ الْعُقُوبَةِ بِالْقَتْلِ؛ فَكَانَ أَلْيَقَ الْعُقُوبَاتِ بِهِ إبَانَةَ الْعُضْوِ الَّذِي جَعَلَهُ وَسِيلَةً إلَى أَذَى النَّاسِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ضَرَرُ الْمُحَارِبِ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ السَّارِقِ وَعُدْوَانُهُ أَعْظَمَ؛ ضَمَّ إلَى قَطْعِ يَدِهِ قَطْعَ رِجْلِهِ؛ لِيَكُفَّ عُدْوَانَهُ، وَشَرَّ يَدِهِ الَّتِي بَطَشَ بِهَا، وَرِجْلِهِ الَّتِي سَعَى بِهَا، وَشَرَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الشِّقِّ بِكَمَالِهِ، فَكَفَّ ضَرَرَهُ وَعُدْوَانَهُ، وَرَحِمَهُ بِأَنْ أَبْقَى لَهُ يَدًا مِنْ شِقٍّ وَرِجْلًا مِنْ شِقٍّ. [الْجَلْدُ وَمُوجِبُهُ] وَأَمَّا الْجَلْدُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَعَلَى الْعُقُولِ، وَعَلَى الْأَبْضَاعِ، وَلَمْ تَبْلُغْ هَذِهِ الْجِنَايَاتُ مَبْلَغًا يُوجِبُ الْقَتْلَ وَلَا إبَانَةَ طَرْفٍ، إلَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَبْضَاعِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهَا قَدْ انْتَهَضَتْ سَبَبًا لِأَشْنَعِ الْقِتْلَاتِ، وَلَكِنْ عَارَضَهَا فِي الْبِكْرِ شِدَّةُ الدَّاعِي وَعَدَمُ الْمُعَوِّضِ، فَانْتَهَضَ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يَكُنْ الْجَلْدُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي الزَّجْرِ فَغَلَّظَ بِالنَّفْيِ وَالتَّغْرِيبِ؛ لِيَذُوقَ مِنْ أَلَمِ الْغُرْبَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ وَمُجَانَبَةِ الْأَهْلِ وَالْخُلَطَاءِ مَا يَزْجُرُهُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ؛ وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعُقُولِ بِالسُّكْرِ فَكَانَتْ مَفْسَدَتُهَا لَا تَتَعَدَّى السَّكْرَانَ غَالِبًا وَلِهَذَا لَمْ يُحَرَّمْ السُّكْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَمَا حُرِّمَتْ الْفَوَاحِشُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَكَانَتْ عُقُوبَةُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ ضَرَبَ فِيهَا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ وَالْجَرِيدِ، وَضَرَبَ فِيهَا أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا اسْتَخَفَّ النَّاسُ بِأَمْرِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وَتَتَابَعُوا فِي ارْتِكَابِهَا غَلَّظَهَا الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّتُهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَجَعَلَهَا ثَمَانِينَ بِالسَّوْطِ، وَنَفَى فِيهَا، وَحَلَقَ الرَّأْسَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فِقْهِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ فَهُوَ عُقُوبَةٌ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَزِيَادَةُ أَرْبَعِينَ وَالنَّفْيُ وَالْحَلْقُ أَسْهَلُ مِنْ الْقَتْلِ. فَصْلٌ [تَغْرِيمُ الْمَالِ وَمُوجِبُهُ] وَأَمَّا تَغْرِيمُ الْمَالِ - وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ - فَشَرَعَهَا فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا تَحْرِيقُ مَتَاعِ الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ سَهْمِهِ، وَمِنْهَا إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ، وَمِنْهَا إضْعَافُهُ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ، وَمِنْهَا أَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا عَزْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحْرِيقِ دُورِ مَنْ لَا يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ لَوْلَا مَا مَنَعَهُ مِنْ إنْفَاذِهِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا فَتَتَعَدَّى الْعُقُوبَةُ إلَى غَيْرِ الْجَانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ عُقُوبَةُ الْحَامِلِ، وَمِنْهَا عُقُوبَةُ مَنْ أَسَاءَ عَلَى الْأَمِيرِ فِي الْغَزْوِ بِحِرْمَانِ سَلَبِ الْقَتِيلِ لِمَنْ قَتَلَهُ، حَيْثُ شَفَعَ فِيهِ هَذَا الْمُسِيءُ، وَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعْطَائِهِ، فَحُرِمَ الْمَشْفُوعُ لَهُ عُقُوبَةً لِلشَّافِعِ الْآمِرِ. [التَّغْرِيمُ نَوْعَانِ مَضْبُوطٌ، وَغَيْرُ مَضْبُوطٍ] وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مَضْبُوطٌ، وَنَوْعٌ غَيْرُ مَضْبُوطٍ؛ فَالْمَضْبُوطُ مَا قَابَلَ الْمُتْلَفَ إمَّا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَإِتْلَافِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ كَإِتْلَافِ مَالِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ تَضْمِينَ الصَّيْدِ مُتَضَمِّنٌ لِلْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] وَمِنْهُ مُقَابَلَةُ الْجَانِي بِنَقِيضِ قَصْدِهِ مِنْ الْحِرْمَانِ، كَعُقُوبَةِ الْقَاتِلِ لِمُوَرِّثِهِ بِحِرْمَانِ مِيرَاثِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ بِبُطْلَانِ تَدْبِيرِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُوصَى لَهُ بِبُطْلَانِ وَصِيَّتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عُقُوبَةُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ بِسُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي غَيْرُ الْمُقَدَّرِ فَهَذَا الَّذِي يَدْخُلُهُ اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ فِيهِ الشَّرِيعَةُ بِأَمْرٍ عَامٍّ، وَقَدْرٍ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ كَالْحُدُودِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: هَلْ حُكْمُهُ مَنْسُوخٌ أَوْ ثَابِتٌ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ، وَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى النَّسْخِ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 التَّعْزِيرُ وَمَوَاضِعُهُ] وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ فِيهِ الْحَدُّ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَنَوْعٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا حَدَّ فِيهِ، وَنَوْعٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ؛ فَالْأَوَّلُ - كَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَالثَّانِي: - كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالثَّالِثُ - كَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا وَدُخُولِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَالْحَدُّ فِيهِ مُغْنٍ عَنْ التَّعْزِيرِ، وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهَلْ يَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ تَعْزِيرٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَفِيهِ التَّعْزِيرُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ هَلْ هُوَ كَالْحَدِّ؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ، أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي إقَامَتِهِ، وَتَرْكِهِ كَمَا يَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، الثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمَا كَانَ مِنْ الْمَعَاصِي مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ لَهُ كَفَّارَةً، وَلِهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالسَّرِقَةِ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا عَنْ مُرْتَكِبِهِمَا، بَلْ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَعْمَلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا عَمَلُهَا فِيهَا فِيمَا كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ وَحُرِّمَ لِعَارِضٍ كَالْوَطْءِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ، وَطَرْدُ هَذَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ لَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِهِ، فَكَيْف وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً؟ ، وَعَكْسُ هَذَا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَمْ يُبَحْ قَطُّ، وَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لَوَجَبَتْ فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّارِعِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ. [فَصَلِّ اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ لِإِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ] فَصْلٌ [مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ لِإِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ] وَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْجُنَاةَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ كَمَا لَمْ يُعَذِّبْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الْحُجَّةَ الَّتِي يَأْخُذُهُمْ بِهَا إمَّا مِنْهُمْ وَهِيَ الْإِقْرَارُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إقْرَارِ الْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَصْدَقُ مِنْ إقْرَارِ اللِّسَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْحَالِ بِالْجِنَايَةِ كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ وَقَيْئِهَا وَحَبَلِ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ وَوُجُودِ الْمَسْرُوقِ فِي دَارِ السَّارِقِ وَتَحْتَ ثِيَابِهِ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحُجَّةُ مِنْ خَارِجٍ عَنْهُمْ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، وَاشْتَرَطَ فِيهَا الْعَدَالَةَ وَعَدَمَ التُّهْمَةِ؛ فَلَا أَحْسَنَ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ طُلِبَ مِنَّا الِاقْتِرَاحُ لَمْ نَقْتَرِحْ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَوْفَقَ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ. [السِّرُّ فِي أَنَّ الْعُقُوبَاتِ لَمْ يَطَّرِدْ جَعْلُهَا مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ لَاصِقَةٌ بِالْعُقُولِ وَمُوَافِقَةٌ لِلْمَصَالِحِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ أَفْظَعُ، وَلَا أَقْبَحُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، فَكَيْفَ تَرْدَعُونَ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ بِسَفْكِهِ؟ وَهَلْ مِثَالُ ذَلِكَ إلَّا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ بِنَجَاسَةٍ؟ ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنًا لَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُحْرَقَ ثَوْبُ مَنْ حَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُذْبَحَ حَيَوَانُ مَنْ ذَبَحَ حَيَوَانَ غَيْرِهِ، وَأَنْ تُخَرَّبَ دَارُ مَنْ خَرَّبَ دَارَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ شُتِمَ أَنْ يَشْتُمَ شَاتِمَهُ، وَمَا الْفَرْقُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ أَوْ قَطْعِ مَنْ قَطَعَهُ؟ ، وَإِذَا كَانَ إرَاقَةُ الدَّمِ الْأَوَّلِ مَفْسَدَةً وَقَطْعُ الطَّرَفِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ زَالَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ الثَّانِي وَقَطْعِ الطَّرَفِ الثَّانِي؟ ، وَهَلْ هَذَا إلَّا مُضَاعَفَةٌ لِلْمَفْسَدَةِ وَتَكْثِيرٌ لَهَا؟ وَلَوْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ الْأُولَى تَزُولُ بِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الثَّانِيَةِ لَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ؛ إذْ كَيْفَ تُزَالُ مَفْسَدَةٌ بِمَفْسَدَةِ نَظِيرِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ ، فَكَيْفَ وَالْأُولَى لَا سَبِيلَ إلَى إزَالَتِهَا؟ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ إزَالَةِ مَفْسَدَةِ تَحْرِيقِ الثِّيَابِ وَذَبْحِ الْمَوَاشِي وَخَرَابِ الدُّورِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ كَيْفَ حَسُنَ أَنْ يُعَاقَبَ السَّارِقُ بِقَطْعِ يَدِهِ الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا السَّرِقَةَ، وَلَمْ تَحْسُنْ عُقُوبَةُ الزَّانِي بِقَطْعِ فَرْجِهِ الَّذِي اكْتَسَبَ بِهِ الزِّنَا، وَلَا الْقَاذِفُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ، الَّذِي اكْتَسَبَ بِهِ الْقَذْفَ، وَلَا الْمُزَوِّرُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ أَنَامِلِهِ الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا التَّزْوِيرَ، وَلَا النَّاظِرُ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ بِقَلْعِ عَيْنِهِ الَّتِي اكْتَسَبَ بِهَا الْحَرَامَ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَسَبَبًا لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ الْمَشِيئَةِ، وَلِلَّهِ التَّصَرُّفُ فِي خَلْقِهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحَكُمْ مَا يُرِيدُ. فَالْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالتَّأْيِيدُ - مِنْ طَرِيقَيْنِ: مُجْمَلٌ، وَمُفَصَّلٌ: أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَهُوَ أَنَّ مَنْ شَرَعَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ وَرَتَّبَهَا عَلَى أَسْبَابِهَا جِنْسًا وَقَدْرًا فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ، وَمَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَأَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَخَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا، مَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُمْكِنُهُمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ وَالتَّقْدِيرَاتُ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الْوَاقِعَةَ فِي خَلْقِهِ كَذَلِكَ، فَهَذَا فِي خَلْقِهِ وَذَاكَ فِي أَمْرِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَمَصْدَرُهُمَا جَمِيعًا عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَتَقَاضَى إلَّا إيَّاهُ، كَمَا وَضَعَ قُوَّةَ الْبَصَرِ وَالنُّورِ لِلْبَاصِرِ فِي الْعَيْنِ، وَقُوَّةَ السَّمْعِ فِي الْأُذُنِ، وَقُوَّةَ الشَّمِّ فِي الْأَنْفِ، وَقُوَّةَ النُّطْقِ فِي اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، وَقُوَّةَ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ، وَقُوَّةَ الْمَشْيِ فِي الرِّجْلِ، وَخَصَّ كُلَّ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَحْسُنُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهَيْئَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ، فَشَمَلَ إتْقَانُهُ وَإِحْكَامُهُ لِكُلِّ مَا شَمَلَهُ خَلْقُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَتْقَنَ خَلْقَهُ غَايَةَ الْإِتْقَانِ، وَأَحْكَمَهُ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، فَلَأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُنْكِرَهُ مُجْمَلًا، وَلَا يَكُونَ جَهْلُهُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَإِتْقَانِهِ كَذَلِكَ وَصُدُورِهِ عَنْ مَحْضِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُسَوِّغًا لَهُ إنْكَارَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْظَمَ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ وَجَهْلَهُ فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَرَضَ عَلَى أَيِّ صَاحِبِ صِنَاعَةٍ كَانَتْ مِمَّنْ تَقْصُرُ عَنْهَا مَعْرِفَتُهُ وَإِدْرَاكُهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَأَلَهُ عَمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ صِنَاعَتُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمَقَادِيرِ وَكَيْفَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لَا أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ وَلَا عَلَى شَكْلٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْخَرُ مِنْهُ، وَيَهْزَأُ بِهِ، وَعَجِبَ مِنْ سُخْفِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ. هَذَا مَا تَهَيَّأَهُ بِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِنَاعَتِهِ وَوُصُولِهِ فِيهَا إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ فِيهَا، هَذَا مَعَ أَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ وَعَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَالْجَهْلِ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَتِيدٌ حَاضِرٌ، ثُمَّ لَا يَسَعُهُ إلَّا التَّسْلِيمُ لَهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِحِكْمَتِهِ، وَقَرَارُهُ بِجَهْلِهِ، وَعَجْزُهُ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلَّا وَسِعَهُ ذَلِكَ مَعَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمِ الْعَالِمِينَ وَمَنْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَأَحْكَمَهُ وَأَوْقَعَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي دَفْعِ كُلِّ شُبْهَةٍ وَجَوَابِ كُلِّ سُؤَالٍ، وَهَذَا غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا فَنَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْمُفَصَّلِ، بِحَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ وَمَا يُنَاسِبُ عُلُومَنَا النَّاقِصَةَ وَأَفْهَامَنَا الْجَامِدَةَ وَعُقُولَنَا الضَّعِيفَةَ وَعِبَارَاتِنَا الْقَاصِرَةَ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: [رَدْعُ الْمُفْسِدِينَ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ] أَمَّا قَوْلُهُ: " كَيْفَ تَرْدَعُونَ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ بِسَفْكِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالنَّجَاسَةِ " سُؤَالٌ فِي غَايَةِ الْوَهْنِ وَالْفَسَادِ، وَأَوَّلُ مَا يُقَالُ لِسَائِلِهِ: هَلْ تَرَاهُ رَدَعَ الْمُفْسِدِينَ وَالْجُنَاةَ عَنْ فَسَادِهِمْ وَجِنَايَاتِهِمْ وَكَفَّ عُدْوَانَهُمْ مُسْتَحْسَنًا فِي الْعُقُولِ مُوَافِقًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَوْ لَا تَرَاهُ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: " لَا أَرَاهُ كَذَلِكَ " كَفَانَا مُؤْنَةُ جَوَابِهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ جَمِيعِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَدِيَانَاتِهِمْ وَآرَائِهِمْ، وَلَوْلَا عُقُوبَةُ الْجُنَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 لَأَهْلَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ، وَصَارَتْ حَالُ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْوُحُوشِ أَحْسَنَ مِنْ حَالِ بَنِي آدَمَ، وَإِنْ قَالَ: " بَلْ لَا تَتِمُّ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِذَلِكَ "؛ قِيلَ لَهُ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْجُنَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُؤْلِمٍ يَرْدَعُهُمْ، وَيَجْعَلُ الْجَانِيَ نَكَالًا وَعِظَةً لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَعِنْدَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ إفْسَادِ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَسَبِ جَرِيمَتِهِ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. [التَّسْوِيَةُ فِي الْعُقُوبَاتِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجَرَائِمِ لَا تَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ] وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْعُقُوبَاتِ مَعَ تَفَاوُتِ الْجَرَائِمِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ، بَلْ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ سَاوَى بَيْنَهَا فِي أَدْنَى الْعُقُوبَاتِ لَمْ تَحْصُلْ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ، وَإِنْ سَاوَى بَيْنَهَا فِي أَعْظَمِهَا كَانَ خِلَافَ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ إذْ لَا يَلِيقُ أَنْ يَقْتُلَ بِالنَّظْرَةِ وَالْقُبْلَةِ وَيَقْطَعَ بِسَرِقَةِ الْحَبَّةِ وَالدِّينَارِ. وَكَذَلِكَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْجَرَائِمِ قَبِيحٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، وَكِلَاهُمَا تَأْبَاهُ حِكْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَدْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى خَلْقِهِ، فَأَوْقَعَ الْعُقُوبَةَ تَارَةً بِإِتْلَافِ النَّفْسِ إذَا انْتَهَتْ الْجِنَايَةُ فِي عِظَمِهَا إلَى غَايَةِ الْقُبْحِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الدِّينِ أَوْ الْجِنَايَةِ الَّتِي ضَرَرُهَا عَامٌّ؛ فَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ خَاصَّةً، وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِهَا أَضْعَافَ أَضْعَافِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] فَلَوْلَا الْقِصَاصُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَأَهْلَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ابْتِدَاءً وَاسْتِيفَاءً، فَكَانَ فِي الْقِصَاصِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ التَّجَرُّؤِ عَلَى الدِّمَاءِ بِالْجِنَايَةِ وَبِالِاسْتِيفَاءِ. وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا: " الْقَتْلُ أَنَفَى لِلْقَتْلِ ". وَبِسَفْكِ الدِّمَاءِ تُحْقَنُ الدِّمَاءُ؛ فَلَمْ تُغْسَلْ النَّجَاسَةُ بِالنَّجَاسَةِ، بَلْ الْجِنَايَةُ نَجَاسَةٌ وَالْقِصَاصُ طُهْرَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَوْتِ الْقَاتِلِ وَمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ فَمَوْتُهُ بِالسَّيْفِ أَنْفَعُ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ، وَالْمَوْتُ بِهِ أَسْرَعُ الْمَوْتَاتِ وَأَوْحَاهَا وَأَقَلُّهَا أَلَمًا، فَمَوْتُهُ بِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَلِعُمُومِ النَّاسِ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى إتْلَافِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَبْحِهِ إضْرَارٌ بِالْحَيَوَانِ؛ فَالْمَصَالِحُ الْمَرْتَبَةُ عَلَى ذَبْحِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَفْسَدَةِ إتْلَافِهِ، ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ الْفَاسِدُ يَظْهَرُ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ بِالْمَوْتِ الَّذِي خَتَمَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَسَاوَى فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَلَوْلَاهُ لَمَا هَنَأَ الْعَيْشُ، وَلَا وَسِعَتْهُمْ الْأَرْزَاقُ، وَلَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنُ وَالْمُدُنُ وَالْأَسْوَاقُ وَالطُّرُقَاتُ، وَفِي مُفَارَقَةِ الْبَغِيضِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ مَا فِي مُوَاصَلَةِ الْحَبِيبِ، وَالْمَوْتُ مُخَلِّصٌ لِلْحَيِّ، وَالْمَوْتُ مُرِيحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَمُخْرِجٌ مِنْ دَارِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ [وَ] بَابٌ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْحَيَوَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْمَوْتَ خَيْرًا فَإِنَّهُ ... أَبَرُّ بِنَا مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَأَعْطَفُ يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنْ الْأَذَى ... وَيُدْنِي إلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ فَكَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فِي الْمَوْتِ مِنْ نِعْمَةٍ لَا تُحْصَى، فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِيهِ طُهْرَةٌ لِلْمَقْتُولِ، وَحَيَاةٌ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَتَشَفٍّ لِلْمَظْلُومِ، وَعَدْلٌ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَتْ شَرِيعَتُهُ عَنْ خِلَافِ مَا شَرَعَهَا عَلَيْهِ مِنْ اقْتِرَاحِ الْعُقُولِ الْفَاسِدَةِ وَالْآرَاءِ الضَّالَّةِ الْجَائِرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنًا فِي الْعُقُولِ لَاسْتُحْسِنَ فِي تَحْرِيقِ ثَوْبِهِ وَتَخْرِيبِ دَارِهِ وَذَبْحِ حَيَوَانِهِ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ ". [مُقَابَلَةُ الْإِتْلَافِ بِمِثْلِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ شَرِيعَةُ الظَّالِمِينَ] فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَفْسَدَةَ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ تَنْدَفِعُ بِتَغْرِيمِهِ نَظِيرَ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمِثْلَ يَسُدُّ مَسَدَّ الْمِثْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَتَصِيرُ الْمُقَابَلَةُ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ أَوْ غُلَامَهُ مُقَابَلَةً لِقَتْلِهِ هُوَ ابْنَهُ أَوْ غُلَامَهُ، فَإِنَّ هَذَا شَرْعُ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِي تُنَزَّهُ عَنْهُ شَرِيعَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، عَلَى أَنَّ لِلْمُقَابَلَةِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ مَسَاغًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ بِإِفْسَادِ أَمْوَالِهِمْ إذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا، أَوْ كَانَ يَغِيظُهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَتْلِ عَبْدِهِ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ أَوْ قَتَلَ فَرَسَهُ أَوْ عَقَرَ فَرَسَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ اقْتَضَتْ التَّضْمِينَ بِالْمِثْلِ، لَا إتْلَافَ النَّظِيرِ، كَمَا غَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى زَوْجَتَيْهِ الَّتِي كَسَرَتْ إنَاءَ صَاحِبَتِهَا إنَاءً بَدَلَهُ، وَقَالَ: «إنَاءٌ بِإِنَاءٍ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقَلُّ فَسَادًا، وَأَصْلَحُ لِلْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ مَالُهُ إذَا أَخَذَ نَظِيرَهُ صَارَ كَمَنْ لَمْ يَفُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَانْتَفَعَ بِمَا أَخَذَهُ عِوَضَ مَالِهِ، فَإِذَا مَكَّنَّاهُ مِنْ إتْلَافِهِ كَانَ زِيَادَةً فِي إضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَا يُرَادُ مِنْ التَّشَفِّي وَإِذَاقَةِ الْجَانِي أَلَمَ الْإِتْلَافِ فَحَاصِلٌ بِالْغُرْمِ غَالِبًا، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَا يَتَضَرَّرُ الْجَانِي فِيهَا بِالْغُرْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَلْيَقُ بِالْعَقْلِ، وَأَبْلُغُ فِي الصَّلَاحِ، وَأَوْفَقُ لِلْحِكْمَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ الْقِصَاصَ فِي الْأَمْوَالِ رَدْعًا لِلْجَانِي لَبَقِيَ جَانِبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرُ مُرَاعًى، بَلْ يَبْقَى مُتَأَلِّمًا مُوتُورًا غَيْرَ مَجْبُورٍ، وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا جَاءَتْ بِجَبْرِ هَذَا وَرَدْعِ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَخَيِّرُوا الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يُغَرِّمَ الْجَانِيَ أَوْ يُتْلِفَ عَلَيْهِ نَظِيرَ مَا أَتْلَفَهُ هُوَ، كَمَا خَيَّرْتُمُوهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ، وَخَيَّرْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ بَيْنَ إتْلَافِ الْجَانِي النَّظِيرَ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 حِكْمَةُ تَخْيِيرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ] قِيلَ: لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لِلْجَانِي وَلَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَا لِسَائِرِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ فَسَادٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَفِّي، وَيَكْفِي تَغْرِيبُهُ وَتَعْزِيرُهُ فِي التَّشَفِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ تُدْخِلُ مِنْ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ وَالْعَدَاوَةِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَا لَا تُدْخِلُهُ جِنَايَةُ الْمَالِ وَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَضَاضَةِ وَالْعَارِ وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ وَالْحَمِيَّةِ وَالتَّحَرُّقِ لِأَخْذِ الثَّأْرِ مَا لَا يَجْبُرُهُ الْمَالُ أَبَدًا، حَتَّى إنَّ أَوْلَادَهُمْ وَأَعْقَابَهُمْ لَيُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ، وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ مِنْ الْقَصْدِ فِي الْقِصَاصِ وَإِذَاقَةِ الْجَانِي وَأَوْلِيَائِهِ مَا أَذَاقَهُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَا لَيْسَ لِمَنْ حُرِقَ ثَوْبُهُ أَوْ عُقِرَتْ فَرَسُهُ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُوتُورٌ هُوَ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوتَرْ الْجَانِي وَأَوْلِيَاؤُهُ وَيَجْرَعُوا مِنْ الْأَلَمِ وَالْغَيْظِ مَا يَجْرَعُهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تَعِيبُ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ وَيَرْضَى بِهَا مِنْ دَرْكِ ثَأْرِهِ وَشِفَاءِ غَيْظِهِ، كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ يَهْجُو مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ الْإِبِلِ: وَإِنَّ الَّذِي أَصْبَحْتُمْ تَحْلُبُونَهُ ... دَمٌ غَيْرَ أَنَّ اللَّوْنَ لَيْسَ بِأَشْقَرَا وَقَالَ جَرِيرٌ يُعَيِّرُ مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ فَاشْتَرَى بِهَا نَخْلًا: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي حُجْرٌ بْنِ وَهْبٍ ... بِأَنَّ التَّمْرَ حُلْوٌ فِي الشِّتَاءِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا صُبَّ مَا فِي الْوَطْبِ فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... دَمُ الشَّيْخِ فَاشْرَبْ مِنْ دَمِ الشَّيْخِ أَوْ دَعْ وَقَالَ آخَرُ: خَلِيلَانِ مُخْتَلِفٌ شَكْلُنَا ... أُرِيدُ الْعَلَاءَ وَيَبْغِي السِّمَنْ أُرِيدُ دِمَاءَ بَنِي مَالِكٍ ... وَرَأْيُ الْمُعَلَّى بَيَاضُ اللَّبَنْ وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ قَدْ أَبْطَلَتْهُ وَجَاءَتْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَصْلَحُ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ مِنْ تَخْيِيرِ الْأَوْلِيَاءِ بَيْنَ إدْرَاكِ الثَّأْرِ وَنَيْلِ التَّشَفِّي وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تُعَيِّرُ مَنْ أَخَذَ بَدَلَ مَالِهِ، وَلَمْ تُعَدَّهُ ضَعْفًا وَلَا عَجْزًا أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَنْ أَخَذَ بَدَلَ دَمِ وَلِيِّهِ، فَمَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي طَبْعٍ، وَلَا عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْرِقُ ثَوْبَهُ عِنْدَ الْغَيْظِ، وَيَذْبَحُ مَاشِيَتَهُ، وَيُتْلِفُ مَالَهُ، فَلَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْغَيْظِ وَالِازْدِرَاءِ بِهِ مَا يُلْحِقُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ أَوْ قَلَعَ عَيْنَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 فَصْلٌ [لَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ إتْلَافُ كُلِّ عُضْوٍ وَقَعَتْ بِهِ مَعْصِيَةٌ] وَأَمَّا مُعَاقَبَةُ السَّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ وَتَرْكِ مُعَاقَبَةِ الزَّانِي بِقَطْعِ فَرْجِهِ فَفِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَمَصْلَحَةِ خَلْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ يُتْلِفَ عَلَى كُلِّ جَانٍ كُلَّ عُضْوٍ عَصَاهُ بِهِ، فَيَشْرَعُ قَلْعَ عَيْنِ مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُحَرَّمِ وَقَطْعَ أُذُنِ مَنْ اسْتَمَعَ إلَيْهِ، وَلِسَانِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَيَدِ مَنْ لَطَمَ غَيْرَهُ عُدْوَانًا، وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا مِنْ الْإِسْرَافِ وَالتَّجَاوُزِ فِي الْعُقُوبَةِ وَقَلْبِ مَرَاتِبِهَا؛ وَأَسْمَاءُ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا وَأَفْعَالُهُ الْحَمِيدَةُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مُجَرَّدَ الْأَمْنِ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لَيْسَ إلَّا، وَلَوْ أُرِيدَ هَذَا لَكَانَ قَتَلَ صَاحِبَ الْجَرِيمَةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الزَّجْرُ وَالنَّكَالُ وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْجَرِيمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ إلَى كَفِّ عُدْوَانِهِ أَقْرَبَ، وَأَنْ يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ، وَأَنْ يُحْدِثَ لَهُ مَا يَذُوقُهُ مِنْ الْأَلَمِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَأَنْ يُذَكِّرَهُ ذَلِكَ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ. [الْحِكْمَةُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ] ثُمَّ إنَّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّرِقَةَ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ فَاعِلِهَا سِرًّا كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: " فُلَانٌ يَنْظُرُ إلَى فُلَانٍ مُسَارَقَةً " إذَا كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرًا خَفِيًّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْطِنَ لَهُ، وَالْعَازِمُ عَلَى السَّرِقَةِ مُخْتَفٍ كَاتِمٌ خَائِفٌ أَنْ يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ فَيُؤْخَذَ بِهِ، ثُمَّ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلْهَرَبِ وَالْخَلَاصِ بِنَفْسِهِ إذَا أَخَذَ الشَّيْءَ، وَالْيَدَانِ لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ فِي إعَانَتِهِ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: " وَصَلْت جَنَاحَ فُلَانٍ " إذَا رَأَيْته يَسِيرُ مُنْفَرِدًا فَانْضَمَمْت إلَيْهِ لِتَصْحَبَهُ، فَعُوقِبَ السَّارِقُ بِقَطْعِ الْيَدِ قَصًّا لِجَنَاحِهِ، وَتَسْهِيلًا لِأَخْذِهِ إنْ عَاوَدَ السَّرِقَةَ، فَإِذَا فَعَلَ بِهِ هَذَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ بَقِيَ مَقْصُوصَ أَحَدِ الْجَنَاحَيْنِ ضَعِيفًا فِي الْعَدْوِ، ثُمَّ يَقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلَهُ فَيَزْدَادُ ضَعْفًا فِي عَدْوِهِ، فَلَا يَكَادُ يَفُوتُ الطَّالِبَ، ثُمَّ تُقْطَعُ يَدُهُ الْأُخْرَى فِي الثَّالِثَةِ وَرِجْلُهُ الْأُخْرَى فِي الرَّابِعَةِ، فَيَبْقَى لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ، فَيَسْتَرِيحُ وَيُرِيحُ. [الْحِكْمَةُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَتَنْوِيعِهِ] وَأَمَّا الزَّانِي فَإِنَّهُ يَزْنِي بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَالتَّلَذُّذُ بِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ يَعُمُّ الْبَدَنَ، وَالْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ وُقُوعُهُ بِرِضَا الْمَزْنِيِّ بِهَا، فَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ مَا يَخَافُهُ السَّارِقُ مِنْ الطَّلَبِ، فَعُوقِبَ بِمَا يَعُمُّ بَدَنَهُ مِنْ الْجَلْدِ مَرَّةً وَالْقَتْلِ بِالْحِجَارَةِ مَرَّةً؛ وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْجَرَائِمِ وَكَبَائِرِ الْمَعَاصِي لِمَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ الَّذِي يَبْطُلُ مَعَهُ التَّعَارُفُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى إحْيَاءِ الدِّينِ، وَفِي هَذَا هَلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فَشَاكَلَ فِي مَعَانِيهِ أَوْ فِي أَكْثَرِهَا الْقَتْلَ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ ذَلِكَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 فَزُجِرَ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ لِيَرْتَدِعَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، فَيَعُودُ ذَلِكَ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْعَالَمِ الْمُوَصِّلِ إلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ إنَّ لِلزَّانِي حَالَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا قَدْ تَزَوَّجَ، فَعَلِمَ مَا يَقَعُ بِهِ مِنْ الْعَفَافِ عَنْ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْهَا، وَأَحْرَزَ نَفْسَهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِحَدِّ الزِّنَا، فَزَالَ عُذْرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فِي تَخَطِّي ذَلِكَ إلَى مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِكْرًا، لَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ الْمُحْصَنُ وَلَا عَمِلَ مَا عَمِلَهُ؛ فَحَمَلَ لَهُ مِنْ الْعُذْرِ بَعْضَ مَا أَوْجَبَ لَهُ التَّخْفِيفَ؛ فَحُقِنَ دَمُهُ، وَزُجِرَ بِإِيلَامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْجَلْدِ رَدْعًا عَنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَرَامِ، وَبَعْثًا لَهُ عَلَى الْقَنَعِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْحَلَالِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، جَامِعٌ لِلتَّخْفِيفِ فِي مَوْضِعِهِ وَالتَّغْلِيظُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَطْعِ لِسَانِ الشَّاتِمِ وَالْقَاذِفِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِسْرَافِ وَالْعُدْوَانِ؟ ثُمَّ إنَّ قَطْعَ فَرْجِ الزَّانِي فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ النَّسْلِ، وَقَطْعُهُ عَكْسُ مَقْصُودِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ تَكْثِيرِ الذُّرِّيَّةِ وَذُرِّيَّتِهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ، وَفِيهِ إخْلَاءُ جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ جَرِيمَةُ الزِّنَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ فَكَانَ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ تَعُمَّهُ الْعُقُوبَةُ، ثُمَّ إنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَكِلَاهُمَا زَانٍ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْعُقُوبَةِ، فَكَانَ شَرْعُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ مِنْ اقْتِرَاحِ الْمُقْتَرِحِينَ. [إتْلَافُ النَّفْسِ عُقُوبَةُ أَفْظَعِ أَنْوَاعِ الْجَرَائِمِ] وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ إتْلَافُ النُّفُوسِ فِي مُقَابَلَةِ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا ضَرَرًا وَأَشَدِّهَا فَسَادًا لِلْعَالَمِ، وَهِيَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ، وَالْقَتْلُ وَزِنَا الْمُحْصَنِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فَسَادَ الْوُجُودِ رَآهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَذِهِ هِيَ الثَّلَاثُ الَّتِي «أَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِهَا حَيْثُ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك، قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ. [تَرْتِيبُ الْحَدِّ تَبَعًا لِتَرْتِيبِ الْجَرَائِمِ] ثُمَّ لَمَّا كَانَ سَرِقَةُ الْأَمْوَالِ تَلِي ذَلِكَ فِي الضَّرَرِ وَهُوَ دُونَهُ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ قَطْعَ الطَّرَفِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْقَذْفُ دُونَ سَرِقَةِ الْمَالِ فِي الْمَفْسَدَةِ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْجَلْدُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 شُرْبُ الْمُسْكِرِ أَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ حَدَّهُ دُونَ حَدِّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ كُلِّهَا، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَفَاسِدُ الْجَرَائِمِ بَعْدُ مُتَفَاوِتَةً غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ - وَهِيَ مَا بَيْنَ النَّظْرَةِ وَالْخَلْوَةِ وَالْمُعَانَقَةِ - جُعِلَتْ عُقُوبَاتُهَا رَاجِعَةً إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ، بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِحَسَبِ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ لَمْ يَفْقَهْ حِكْمَةَ الشَّرْعِ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَكَثِيرٌ مِنْ النُّصُوصِ، وَرَأَى عُمَرُ قَدْ زَادَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ عَلَى أَرْبَعِينَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَلَدَ أَرْبَعِينَ، وَعَزَّرَ بِأُمُورٍ لَمْ يُعَزِّرْ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنْفَذَ عَلَى النَّاسِ أَشْيَاءَ عَفَا عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَظُنُّ ذَلِكَ تَعَارُضًا وَتَنَاقُضًا، وَإِنَّمَا أَتَى مِنْ قُصُورِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي أَحْكَامٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي أُخْرَى] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ حَدَّ الرَّقِيقِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، وَحَاجَتُهُمَا إلَى الزَّجْرِ وَاحِدَةٌ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي أَحْكَامٍ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامٍ؛ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِهِمَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي سَبَبِهِمَا. وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْحُرِّ أَقْبَحَ مِنْ وُقُوعِهَا مِنْ الْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ كَمَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَأَنْ جَعَلَهُ مَالِكًا لَا مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَحْتَ قَهْرِ غَيْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهِ، وَمِنْ جِهَةِ تَمَكُّنِهِ بِأَسْبَابِ الْقُدْرَةِ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِمَا عَوَّضَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ، فَقَابَلَ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ بِضِدِّهَا، وَاسْتَعْمَلَ الْقُدْرَةَ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَاسْتَحَقَّ مِنْ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ هُوَ أَخْفَضُ مِنْهُ رُتْبَةً وَأَنْقَصُ مَنْزِلَةً؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ كُلَّمَا كَمُلَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ إذَا ارْتَكَبَ الْجَرَائِمَ أَتَمَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30] {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31] وَهَذَا عَلَى وَفْقِ قَضَايَا الْعُقُولِ وَمُسْتَحْسِنَاتهَا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَمُلَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ طَاعَتُهُ لَهُ أَكْمَلَ، وَشُكْرُهُ لَهُ أَتَمَّ، وَمَعْصِيَتُهُ لَهُ أَقْبَحَ، وَشِدَّةُ الْعُقُوبَةِ تَابِعَةٌ لِقُبْحِ الْمَعْصِيَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى الْجَاهِلِ، وَصُدُورُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ أَقْبَحُ مِنْ صُدُورِهَا مِنْ الْجَاهِلِ، وَلَا يَسْتَوِي عِنْدَ الْمُلُوكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وَالرُّؤَسَاءِ مَنْ عَصَاهُمْ مِنْ خَوَاصِّهِمْ وَحَشَمِهِمْ وَمَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَمَنْ عَصَاهُمْ مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْبُعَدَاءِ؛ فَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ أَخَفَّ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، جَمْعًا بَيْنَ حِكْمَةِ الزَّجْرِ وَحِكْمَةِ نَقْصِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ وَخَطَرِهَا، وَإِعْطَاءً لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا مِنْ الْأَمْرِ كَمَا أَعْطَاهَا حَقَّهَا مِنْ الْقَدْرِ، وَلَا تَنْتَقِضُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرَيْنِ، بَلْ هَذَا مَحْضُ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَقَّانِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِسَيِّدِهِ فَأُعْطِيَ بِإِزَاءِ قِيَامِهِ بِكُلِّ حَقٍّ أَجْرًا، فَاتَّفَقَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْجَزَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [فَصَلِّ حِكْمَةُ شَرْعِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ دُونَ غَيْرِهَا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ لِلْقَاذِفِ إسْقَاطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ أَلْحَقَ بِهِمَا الْعَارَ " فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ قَاذِفَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُسْتَغْنٍ عَنْ قَذْفِهَا، لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ زِنَاهَا لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ فِرَاشَهُ، وَلَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَذْفُهَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَأَذًى لِمُحْصَنَةٍ غَافِلَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً، وَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ بِزِنَاهَا مِنْ الْعَارِ وَالْمَسَبَّةِ وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ وَإِلْحَاقِ وَلَدِ غَيْرِهِ بِهِ، وَانْصِرَافِ قَلْبِهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا، وَنَفْيِ النَّسَبِ الْفَاسِدِ عَنْهُ، وَتَخَلُّصِهِ مِنْ الْمِسَبَّةِ وَالْعَارِ؛ لِكَوْنِهِ زَوْجَ بَغْيٍ فَاجِرَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ لَا تُقِرُّ بِهِ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى تَحَالُفِهَا بِأَغْلَظِ الْإِيمَانِ، وَتَأْكِيدِهَا بِدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ وَدُعَائِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْغَضَبِ إنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ. ثُمَّ يَفْسَخُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَصْفُوَ لِلْآخَرِ أَبَدًا؛ فَهَذَا أَحْسَنُ حُكْمٍ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ بَعْدَهُ أَعْدَلُ مِنْهُ، وَلَا أَحْكَمُ، وَلَا أَصْلَحُ، وَلَوْ جُمِعَتْ عُقُولُ الْعَالَمِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إلَيْهِ، فَتَبَارَكَ مَنْ أَبَانَ رُبُوبِيَّتَهُ وَوَحْدَانِيَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ فِي شَرْعِهِ وَخَلْقِهِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْمُسَافِرِ بِالرُّخَصِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَوَّزَ لِلْمُسَافِرِ الْمُتَرَفِّهِ فِي سَفَرِهِ رُخْصَةَ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ، دُونَ الْمُقِيمِ الْمَجْهُودَ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ يَخْتَصُّ بِالْمُسَافِرِ، وَلَا يُفْطِرُ الْمُقِيمُ إلَّا لِمَرَضٍ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ فِي نَفْسِهِ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشَقَّةٌ وَجَهْدٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ مِنْ أَرْفَهِ النَّاسِ فَإِنَّهُ فِي مَشَقَّةٍ وَجَهْدٍ بِحَسَبِهِ، فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَبِرِّهِ بِهِمْ أَنْ خَفَّفَ عَنْهُمْ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَاكْتَفَى مِنْهُمْ بِالشَّطْرِ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ أَدَاءَ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَاكْتَفَى مِنْهُمْ بِأَدَائِهِ فِي الْحَضَرِ، كَمَا شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ، فَلَمْ يُفَوِّتْ عَلَيْهِمْ مَصْلَحَةَ الْعِبَادَةِ بِإِسْقَاطِهَا فِي السَّفَرِ جُمْلَةً، وَلَمْ يُلْزِمْهُمْ بِهَا فِي السَّفَرِ كَإِلْزَامِهِمْ فِي الْحَضَرِ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا مُوجِبَ لِإِسْقَاطِ بَعْضِ الْوَاجِبِ فِيهَا وَلَا تَأْخِيرِهِ، وَمَا يَعْرِضُ فِيهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالشُّغْلِ فَأَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ؛ فَلَوْ جَازَ لِكُلِّ مَشْغُولٍ وَكُلِّ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ التَّرَخُّصُ ضَاعَ الْوَاجِبُ وَاضْمَحَلَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَوَّزَ لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَنْضَبِطْ؛ فَإِنَّهُ لَا وَصْفَ يَضْبِطُ مَا تَجُوزُ مَعَهُ الرُّخْصَةُ وَمَا لَا تَجُوزُ، بِخِلَافِ السَّفَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ قَدْ عَلَّقَ بِهَا مِنْ التَّخْفِيفِ مَا يُنَاسِبُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَشَقَّةَ مَرَضٍ وَأَلَمٍ يَضُرُّ بِهِ جَازَ مَعَهَا الْفِطْرُ وَالصَّلَاةُ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَصْرِ الْعَدَدِ، وَإِنْ كَانَتْ مَشَقَّةَ تَعَبٍ فَمَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَنُوطَةٌ بِالتَّعَبِ، وَلَا رَاحَةَ لِمَنْ لَا تَعَبَ لَهُ، بَلْ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ، فَتَنَاسَبَتْ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا وَمَصَالِحِهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ. [فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ نَذْرِ الطَّاعَةِ وَالْحَلِفِ بِهَا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَأَوْجَبَ عَلَى مَنْ نَذَرَ لِلَّهِ طَاعَةً الْوَفَاءَ بِهَا، وَجَوَّزَ لِمَنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ يَتْرُكَهَا وَيُكَفِّرَ يَمِينَهُ، وَكِلَاهُمَا قَدْ الْتَزَمَ فِعْلَهَا لِلَّهِ " فَهَذَا السُّؤَالُ يُورَدُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّهَا، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، وَلَأَتَصَدَّقَنَّ، كَمَا يَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ بِهَا كَمَا يَقُولُ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ وَصَدَقَةُ أَلْفٍ. فَإِنْ أُورِدَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُلْتَزَمَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ لَا يَخْرُجُ الْتِزَامُهُ لِلَّهِ عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا: الْتِزَامٌ بِيَمِينٍ مُجَرَّدَةٍ. الثَّانِي: الْتِزَامٌ بِنَذْرٍ مُجَرَّدٍ، الثَّالِثُ: الْتِزَامٌ بِيَمِينٍ مُؤَكَّدَةٍ بِنَذْرٍ، الرَّابِعُ: الْتِزَامٌ بِنَذْرٍ مُؤَكَّدٌ بِيَمِينٍ: فَالْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْلِهِ: " وَاَللَّهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ " وَالثَّانِي نَحْوُ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ " وَالثَّالِثُ نَحْوُ: " وَاَللَّهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا "، وَالرَّابِعُ نَحْوُ: " إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَوَاَللَّهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ " وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فَهَذَا نَذْرٌ مُؤَكَّدٌ بِيَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ " فَعَلَيَّ " إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ النَّذْرِ، بَلْ إذَا قَالَ: إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ تَصَدَّقْت، أَوْ لَأَتَصَدَّقَنَّ، فَهُوَ وَعْدٌ وَعَدَهُ اللَّهَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَإِلَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فَوَعْدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ نَذْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً وَشُكْرًا لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَجَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَا عُقُودَ التَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ أَوْلَى بِاللُّزُومِ مِنْ أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: " لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا " فَإِنَّ هَذَا الْتِزَامٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ وَقَدْ وُجِدَ، فَيَجِبُ فِعْلُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَهُ؛ لِالْتِزَامِهِ لَهُ بِوَعْدِهِ. فَإِنَّ الِالْتِزَامَ تَارَةً يَكُونُ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْوَعْدِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالشُّرُوعِ كَشُرُوعِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالِالْتِزَامُ بِالْوَعْدِ آكَدُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِالشُّرُوعِ، وَآكَدُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ خَالَفَ مَا الْتَزَمَهُ لَهُ بِالْوَعْدِ، وَعَاقَبَهُ بِالنِّفَاقِ فِي قَلْبِهِ، وَمَدَحَ مَنْ وَفَى بِمَا نَذَرَهُ لَهُ، وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ لَهُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَجَاءَ الِالْتِزَامُ بِالْوَعْدِ آكَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِخْلَافُهُ يُعْقِبُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا إذَا حَلَفَ يَمِينًا مُجَرَّدَةً لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذَا حَضٌّ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَحَثٌّ عَلَى فِعْلِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَيْسَ إيجَابًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ، وَلَكِنَّ الْحَالِفَ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّهُ، فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ حِلَّ مَا عَقَدَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَحِلَّةً، فَإِنَّهَا تُحِلُّ عَقْدَ الْيَمِينِ، وَلَيْسَتْ رَافِعَةً لِإِثْمِ الْحِنْثِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، فَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، فَالشَّارِعُ لَمْ يُبِحْ سَبَبَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا اللَّهُ حِلًّا لِعَقْدِ الْيَمِينِ كَمَا شَرَعَ اللَّهُ الِاسْتِثْنَاءَ مَانِعًا مِنْ عَقْدِهَا؛ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَ لِلَّهِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَ بِاَللَّهِ. فَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْوَفَاءُ، وَالثَّانِي يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَسِرُّ هَذَا أَنَّ مَا الْتَزَمَ لَهُ آكَدُ مِمَّا الْتَزَمَ بِهِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَالثَّانِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ؛ فَالْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَالثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ قِسْمُ اللَّهِ مِنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قِسْمُ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: «هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَأَنَّ مَا نَذَرَهُ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَالثَّانِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيُخَيَّرُ الْحَالِفُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، وَكَمَالِهَا وَعِظَمِهَا. وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا أَنَّ الْحَالِفَ بِالْتِزَامِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ قَصْدُهُ أَلَّا تَكُونَ، وَلِكَرَاهَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 لِلُزُومِهَا لَهُ حَلَفَ بِهَا، فَقَصْدُهُ أَلَّا يَكُونَ الشَّرْطُ فِيهَا وَلَا الْجَزَاءُ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَلَمْ يُلْزِمْهُ الشَّارِعُ بِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ وَلَا مُتَقَرِّبٍ بِهِ إلَى اللَّهِ، فَلَمْ يَعْقِدْهُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا عَقَدَهُ بِهِ، فَهُوَ يَمِينٌ مَحْضَةٌ، فَإِلْحَاقُهُ بِنَذْرِ الْقُرْبَةِ إلْحَاقٌ لَهُ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَقَطْعٌ لَهُ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِنَظِيرِهِ، وَعُذْرُ مَنْ أَلْحَقَهُ بِنَذْرِ الْقُرْبَةِ شُبْهَةٌ بِهِ فِي اللَّفْظِ وَالصُّورَةِ، وَلَكِنْ الْمُلْحِقُونَ لَهُ بِالْيَمِينِ أَفْقَهُ وَأَرْعَى لِجَانِبِ الْمَعَانِي، وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " فَحَنِثَ أَنْ لَا يَكْفُرَ بِذَلِكَ إنْ قَصَدَ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ مَنْعٌ مِنْ الْكُفْرِ، وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ احْتَجَّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَكَالْحَلِفِ بِقَوْلِهِ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " وَحَكَاهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي الْعِتْقِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ إجْمَاعًا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ، فَاجْتَهَدَ خُصُومُهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَكَانَ حَاصِلُ مَا رَدُّوا بِهِ قَوْلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: - وَهُوَ عُمْدَةُ الْقَوْمِ - أَنَّهُ خِلَافُ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الْمَقْصُودَيْنِ كَقَوْلِهِ: " إنْ أَبْرَأْتنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَفَعَلْت. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعَمَلَ قَدْ اسْتَمَرَّ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، فَنَقَضَ حُجَجَهُمْ وَأَقَامَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ وَرَقَةٍ، ثُمَّ مَضَى لِسَبِيلِهِ رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ أَجْرًا أَوْ أَجْرَيْنِ، وَهُوَ وَمُنَازِعُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَخْتَصِمُونَ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي النَّابِ] وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَأَبَاحَ الضَّبُعَ وَلَهَا نَابٌ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خَفِيَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ فَقَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ: وَأَمَّا الضَّبُعُ فَرُوِيَ عَنْهُ فِيهَا حَدِيثٌ صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فَذَهَبُوا إلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ أَحَادِيثِ التَّحْرِيمِ، كَمَا خَصَّتْ الْعَرَايَا لِأَحَادِيثِ الْمُزَابَنَةِ. وَطَائِفَةٌ لَمْ تُصَحِّحْهُ وَحَرَّمُوا الضَّبُعَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ذَاتِ الْأَنْيَابِ، وَقَالُوا: وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَصَحَّتْ صِحَّةً لَا مَطْعَنَ فِيهَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ الضَّبُعِ فَتَفَرَّدَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، وَأَحَادِيثُ تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ كُلُّهَا تُخَالِفُهُ، قَالُوا: وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَابِرٌ رَفَعَ الْأَكْلَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنْ يَكُونَ إنَّمَا رَفَعَ إلَيْهِ كَوْنَهَا صَيْدًا فَقَطْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا صَيْدًا جَوَازَ أَكْلِهَا، فَظَنَّ جَابِرٌ أَنَّ كَوْنَهَا صَيْدًا يَدُلُّ عَلَى أَكْلِهَا، فَأَفْتَى بِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَرَفَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَمِعَهُ مِنْ كَوْنِهَا صَيْدًا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ لَفْظَ الْحَدِيثِ لِيَتَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَارَةَ قَالَ: قُلْت لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: آكُلُ الضَّبُعَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَسَمِعْت ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ هُوَ كَوْنُهَا صَيْدًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَارَةَ عَنْ جَابِرٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ فَقَالَ: هِيَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ» قَالُوا: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءُ كَبْشٍ مُسِنٍّ وَيُؤْكَلُ» قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: " وَيُؤْكَلُ " يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ وَالرَّفْعَ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ تُعَارَضْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فِي التَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ صَرِيحًا فِي الْإِبَاحَةِ لَكَانَ فَرْدًا، وَأَحَادِيثُ تَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ مُسْتَفِيضَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ ادَّعَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ تَوَاتُرَهَا، فَلَا يُقَدَّمُ حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَيْهَا. قَالُوا: وَالضَّبُعُ مِنْ أَخْبَثِ الْحَيَوَانِ وَأَشْرَهْهُ، وَهُوَ مُغْرًى بِأَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ وَنَبْشِ قُبُورِ الْأَمْوَاتِ وَإِخْرَاجِهِمْ وَأَكْلِهِمْ، وَيَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَيَكْسِرُ بِنَابِهِ. قَالُوا: وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَوَاتَ الْأَنْيَابِ، وَالضَّبُعُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا وَهَذَا. وَقَالُوا: وَغَايَةُ حَدِيثِ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَيْدٌ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهَا، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ ثَعْلَبًا فَقَالَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، هِيَ صَيْدٌ، وَلَكِنْ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الثَّعْلَبِ، فَقَالَ: الثَّعْلَبُ سَبُعٌ؛ فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ سَبُعٌ وَأَنَّهُ يُفْدَى فِي الْإِحْرَامِ، وَلَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ كَبْشًا ظَنَّ جَابِرٌ أَنَّهُ يُؤْكَلُ فَأَفْتَى بِهِ. وَاَلَّذِينَ صَحَّحُوا الْحَدِيثَ جَعَلُوهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ تَحْرِيمِ ذِي النَّابِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا، حَتَّى قَالُوا: وَيُحَرَّمُ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ إلَّا الضَّبُعَ، وَهَذَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَصِّصَ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ بَيْنَهُمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وَبِحَمْدِ اللَّهِ إلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا رَأَيْت فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ، أَعْنِي شَرِيعَةَ التَّنْزِيلِ لَا شَرِيعَةَ التَّأْوِيلِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَلْفَاظَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَرِيمَةَ تَبَيَّنَ لَهُ انْدِفَاعُ هَذَا السُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَابٌ، وَأَنْ يَكُون مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ بِطَبْعِهَا كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ. وَأَمَّا الضَّبُعُ فَإِنَّمَا فِيهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ كَوْنُهَا ذَاتَ نَابٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ السِّبَاعَ أَخَصُّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ، وَالسَّبُعُ إنَّمَا حَرَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تُوَرِّثُ الْمُغْتَذَى بِهَا شِبْهُهَا؛ فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُوَّةَ السَّبُعِيَّةَ الَّتِي فِي الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ لَيْسَتْ فِي الضَّبُعِ حَتَّى تَجِبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا تُعَدُّ الضَّبُعُ مِنْ السِّبَاعِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ سِرُّ تَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إنَّمَا كَانَ لِمُخَصِّصٍ اقْتَضَاهُ، وَهُوَ مُبَادَرَتُهُ دُونَ مَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى الشَّهَادَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ الْأَعْرَابِيَّ، وَكَانَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَايَعَ الْأَعْرَابِيَّ، وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ بِتَصْدِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَكِنَّ خُزَيْمَةَ تَفَطَّنَ لِدُخُولِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ عُمُومِ الشَّهَادَةِ لِصِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي صِدْقِهِ فِي هَذَا وَهَذَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ فِي هَذَا وَهَذَا؛ فَلَمَّا تَفَطَّنَ خُزَيْمَةُ دُونَ مَنْ حَضَرَ لِذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَنْ تُجْعَلَ شَهَادَتُهُ بِشَهَادَتَيْنِ. [فَصَلِّ سِرُّ تَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ تَضْحِيَتِهِ بِعِنَاقٍ] فَصْلٌ [سِرُّ تَخْصِيصِ أَبُو بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ تَضْحِيَتِهِ بِعِنَاقٍ] وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ بِالْعِنَاقِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ فَلِمُوجِبٍ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُتَأَوِّلًا غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ بِأُضْحِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ أَرَادَ إعَادَةَ الْأُضْحِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا عِنَاقٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ؛ فَرَخَّصَ لَهُ فِي التَّضْحِيَةِ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ ذَبْحٌ تَأَوَّلَ فِيهِ، وَكَانَ مَعْذُورًا بِتَأْوِيلِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يُجْزِئُ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ الْمُسْتَقِرَّ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 [فَصَلِّ سِرُّ التَّفْرِقَةِ فِي الْوَصْفِ بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ] وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فَفِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ هُدُوءِ الْأَصْوَاتِ وَسُكُونِ الْحَرَكَاتِ وَفَرَاغِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْهِمَمِ الْمُشَتَّتَةِ بِالنَّهَارِ، فَالنَّهَارُ مَحِلُّ السَّبْحِ الطَّوِيلِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، وَاللَّيْلُ مَحِلُّ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لِلِّسَانِ وَمُوَاطَأَةِ اللِّسَانِ لِلْأُذُنِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ تَطْوِيلُ قِرَاءَةِ الْفَجْرِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ يَقْرَأُ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ، وَعُمَرُ بِالنَّحْلِ وَهُودٍ وَبَنِي إسْرَائِيلَ وَيُونُسَ وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ أَفْرَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّوَاغِلِ حِينَ انْتِبَاهِهِ مِنْ النَّوْمِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ صَادَفَهُ خَالِيًا مِنْ الشَّوَاغِلِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ؛ وَأَمَّا النَّهَارُ فَلَمَّا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ صَلَاتِهِ سِرِّيَّةً إلَّا إذَا عَارَضَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضٌ أَرْجَحُ مِنْهُ، كَالْمَجَامِعِ الْعِظَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ حِينَئِذٍ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَأَنْفَعُ لِلْجَمْعِ، وَفِيهِ مِنْ قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعِظَامِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ سِرّ تَقْدِيمِ الْعَصَبَةِ الْبُعَدَاءِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاث] فَصْلٌ [سِرٌّ فِي تَقْدِيمِ الْعَصَبَةِ الْبُعَدَاءِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ قَرُبُوا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَوِرْثُ ابْنُ ابْنِ الْعَمِّ وَإِنْ بَعُدَتْ دَرَجَتُهُ دُونَ الْخَالَةِ الَّتِي هِيَ شَقِيقَةٌ لِلْأُمِّ " فَنَعَمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتِهَا؛ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ مِنْ عَصَبَتِهِ الْقَائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَحَمْلِ الْعَقْلِ عَنْهُ، فَبَنُو أَبِيهِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَصَبَتُهُ وَالْمُحَامُونَ دُونَهُ، وَأَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا يَنْتَسِبُونَ إلَى آبَائِهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَقَارِبِ الْبَنَاتِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ فَمِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِأَقَارِبِ الْأَبِ، وَقَدَّمَهُمْ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا وَرِثَ مَعَهُمْ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ مَنْ رَكَضَ الْمَيِّتُ مَعَهُمْ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَهُمْ إخْوَانُهُ أَوْ مَنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ جِدًّا وَهُنَّ جَدَّاتُهُ لِقُوَّةِ إيلَادِهِنَّ وَقُرْبِ أَوْلَادِهِنَّ مِنْهُ؛ فَإِذَا عَدِمَتْ قَرَابَةُ الْأَبِ انْتَقَلَ الْمِيرَاثُ إلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَكَانُوا أَوْلَى مِنْ الْأَجَانِبِ؛ فَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَعْدَلُهُ وَأَحْسَنُهُ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 [فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ] فَصْلٌ: [الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلَى أَخْذِ عَقَارِهِ وَأَرْضِهِ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ شَرَعَ الشُّفْعَةَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ كَالْجَوْهَرَةِ وَالْحَيَوَانِ " فَهَذَا السُّؤَالُ قَدْ أَوْرَدَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَصْلِ الشُّفْعَةِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِهَا مُنَافٍ لِتَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ دُونَ بَعْضٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلشُّفْعَةِ، وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ. وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ نُجِيبُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ؛ فَنَقُولُ: وُرُودُ الشَّرْعِ بِالشُّفْعَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ. مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدْلِهَا وَقِيَامِهَا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وُرُودُهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ حِكْمَةَ الشَّارِعِ اقْتَضَتْ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ إلَّا بِضَرَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ بَقَّاهُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ رَفْعُهُ بِالْتِزَامِ ضَرَرٍ دُونَهُ رَفَعَهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ فَإِنَّ الْخُلَطَاءَ يَكْثُرُ فِيهِمْ بَغْيُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ: بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ، وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْجُمْلَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ؛ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخَذَ عِوَضَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ يَصِلُ إلَى غَرَضِهِ مِنْ الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ؛ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ الْعِوَضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَزُولُ عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى حَقِّهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنِ الْأَحْكَامِ الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ مُنَاقِضٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الشَّارِعُ وَمُضَادٌّ لَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّرَرِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَهُ بِالشُّفْعَةِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ إذَا طَالَبَ شَرِيكَهُ بِالْقِسْمَةِ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْغَرَامَةِ وَالضِّيقِ فِي مَرَافِقِ الْمَنْزِلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُبَّمَا ارْتَفَقَ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ كُلِّهَا وَبِأَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ضَاقَتْ بِهِ الدَّارُ وَقَصُرَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، فَمَكَّنَهُ الشَّارِعُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: بِأَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 مِنْ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَ الشَّارِعُ عَلَى الشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ وَقَالَ: لَا غَرَضَ لِي فِيهِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّلَبُ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ هَذَا مُقْتَضَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ بِوَجْهٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ إلَّا فِيمَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إنَّمَا شُرِعَتْ الشُّفْعَةُ لِرَفْعِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِالشَّرِكَةِ؛ فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ ابْتِيَاعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ ضَرَرِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ رَفْعِ ضَرَرِ الْآخَرِ؛ فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ إذْ فِي ذَلِكَ إزَالَةُ ضَرَرِهِ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى حَقِّهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَصِلُ هَذَا إلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْمَبِيعِ، فَيَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الشُّفْعَةَ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالشَّجَرِ وَالْجَوَاهِرِ وَالدُّورِ الصِّغَارِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَالْحَيَوَانُ دَابَّةٌ تَكُونُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ حِمَارٌ أَوْ مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ: هَذَا كُلُّهُ أَوْكَدُ؛ لِأَنَّ خَلِيطَهُ الشَّرِيكُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ؛ فَإِذَا عَرَضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِلَّا بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْرِضُ عَلَى شَرِيكِهِ عَقَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ نَخْلًا، فَقَالَ الشَّرِيكُ: لَا أُرِيدُ، فَبَاعَهُ، ثُمَّ طَلَبَ الشُّفْعَةَ بَعْدُ، قَالَ: لَهُ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الصَّحِيحِ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ» وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ، وَفِي كِتَابِ " الْخَرَاجِ " عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي نَخْلٍ أَوْ رَبْعَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ؛ وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ، وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامٍ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالْجَارِيَةِ وَالْخَادِمِ» ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَإِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُرْسَلًا؛ فَهَذَا عِلَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ السُّكَّرِيَّ ثِقَةٌ احْتَجَّ بِهِ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، وَإِنْ قُلْنَا: " الزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ " فَرَفْعُ الْحَدِيثِ إذًا صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا قَدْ عَضَّدَتْهُ الْآثَارُ الْمَرْفُوعَةُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَرُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَاتٌ، وَهُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ؛ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مَرِيدًا لِرَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَالْأَعْلَى أَوْلَى بِالرَّفْعِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ الْأَحَادِيثُ مُخْتَصَّةً بِالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ الْمُنْقَسِمَةِ فَإِثْبَاتُ الشُّفْعَةِ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْأَصْلُ عَدَمُ انْتِزَاعِ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ لِثُبُوتِ هَذَا النَّصِّ فِيهِ، وَأَمَّا الْآثَارُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِثُبُوتِهَا فِي الْمَنْقُولِ فَضَعِيفَةٌ مَعْلُولَةٌ؛ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِذَلِكَ، وَقَوْلُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ» يَقْتَضِي انْحِصَارُهَا فِي ذَلِكَ، قَالُوا: وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلَا فَحْلٍ، وَالْأُرَفُ يَقْطَعُ كُلَّ شُفْعَةٍ، وَالْفَحْلُ: النَّخْلُ، وَالْأُرَفُ بِوَزْنِ الْغُرَفِ الْمَعَالِمُ وَالْحُدُودُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَصَحُّهُ مِنْ حَدِيثٍ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ يَتَأَبَّدُ بِتَأَبُّدِهِ، وَفِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ؛ فَهُوَ ضَرَرٌ عَارِضٌ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. قَالُوا: وَالضَّرَرُ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ جِدًّا؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ الشَّرِيكُ إلَى إحْدَاثِ الْمَرَافِقِ، وَتَغْيِيرِ الْأَبْنِيَةِ، وَتَضْيِيقِ الْوَاسِعِ، وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ، وَسُوءِ الْجِوَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ، فَأَيْنَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ فِي الْعَبْدِ وَالْجَوْهَرَةُ وَالسَّيْفُ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ؟ قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلشُّفْعَةِ: إنَّمَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمُ انْتِزَاعِ مِلْكِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ لَهُ وَالْإِضْرَارِ بِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَضَمَّنُ ظُلْمًا وَلَا إضْرَارًا بَلْ مَصْلَحَةً لَهُ بِإِعْطَائِهِ الثَّمَنَ فَلِشَرِيكِهِ دَفْعُ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَنْهُ؛ فَلَيْسَ الْأَصْلُ عَدَمُهُ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُوجِبُ الْمُعَاوَضَةَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الْمَالِ، وَتَرْكُ مُعَاوَضَتِهِ هَا هُنَا لِشَرِيكِهِ مَعَ كَوْنِهِ قَاصِدًا لِلْبَيْعِ ظُلْمٌ مِنْهُ وَإِضْرَارٌ بِشَرِيكِهِ فَلَا يُمَكِّنُهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ مَصَادِرَ الشَّرِيعَةِ وَمَوَارِدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُمَكِّنُ هَذَا الشَّرِيكَ مِنْ نَقْلِ نَصِيبِهِ إلَى غَيْرِ شَرِيكِهِ وَأَنْ يَلْحَقَ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَذَا وَهَذَا، وَلَوْ قَدَّرَ عَدَمَ صِحَّتِهَا بِالشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُولِ فَهِيَ لَمْ تَنْفِ ذَلِكَ، بَلْ نَبَّهَتْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ وَأَمَّا تَأَبُّدُ الضَّرَرِ وَعَدَمُهُ فَفَرْقٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مِنْ الْمَنْقُولِ مَا يَكُونُ تَأَبُّدُهُ كَتَأَبُّدِ الْعَقَارِ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّيْفِ وَالْكِتَابِ وَالْبِئْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَبَّدْ ضَرَرُهُ مَدَى الدَّهْرِ فَقَدْ يَطُولُ ضَرَرُهُ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ، وَلَوْ بَقِيَ ضَرَرُهُ مُدَّةً فَإِنَّ الشَّارِعَ مُرِيدٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 بِكُلِّ طَرِيقٍ وَلَوْ قَصُرَتْ مُدَّتُهُ، وَأَمَّا تَفْرِيقُكُمْ بِكَثْرَةِ الضَّرَرِ فِي الْعَقَارِ وَقِلَّتِهِ فِي الْمَنْقُولِ فَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ الضَّرَرَ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِالْقِسْمَةِ، وَأَمَّا الضَّرَرُ فِي الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِقِسْمَتِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْأَرْضِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمْ. فَصْلٌ [رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعُهُ هُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْجِوَارِ وَالشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ قَدْ يُسِيءُ الْجِوَارَ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا، فَيُعَلِّي الْجِدَارَ، وَيَتْبَعُ الْعِثَارَ، وَيَمْنَعُ الضَّوْءَ، وَيُشْرِفُ عَلَى الْعَوْرَةِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الْعَثْرَةِ، وَيُؤْذِي جَارَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِهِ الْوَاقِعُ، وَأَيْضًا فَالْجَارُ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْحَقِّ وَالذِّمَامِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ فِي كِتَابِهِ، وَوَصَّى بِهِ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَةَ الْوَصِيَّةِ، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِإِكْرَامِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ الْأَجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْأَجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ؛ وَمِثْلُ هَذَا وَلَوْ لَمْ يُرِدْ فِي الشَّرِيكِ فَأَدْنَى الْمَرَاتِبِ مُسَاوَاتُهُ بِهِ فِيمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، لَا سِيَّمَا وَالْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى ضَرَرِ الْمُجَاوَرَةِ فَإِنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا تَجَاوَرَا. قَالُوا: وَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَصَّتْ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُولَاتِ؛ إذْ الْمَنْقُولَاتُ لَا تَتَأَتَّى فِيهَا الْمُجَاوَرَةُ، فَإِذَا ثَبَتَتْ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعَقَارِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا. قَالُوا: وَهَذَا مَعْقُولُ النُّصُوصِ لَوْ لَمْ تَرُدَّ بِالثُّبُوتِ فِيهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ صُرِّحَتْ بِالثُّبُوتِ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ تَصْرِيحِهَا بِالثُّبُوتِ لِلشَّرِيكِ؟ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ، فَانْطَلَقْت مَعَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: أَلَا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنِّي بَيْتِي الَّذِي فِي دَارِهِ، فَقَالَ: لَا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ مُنَجَّمَةٍ، فَقَالَ: قَدْ أُعْطِيت خَمْسَمِائَةٍ نَقْدًا فَمَنَعْته، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» مَا بِعْتُك، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْد الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا قِسْمٌ وَلَا شِرْكٌ إلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الْجِوَارَ قَالَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» أَخْرُجُهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي رَافِعٍ - يَعْنِي الْمُتَقَدِّمَ - وَقَالَ أَيْضًا: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَارُ الدَّارِ أَوْلَى بِالدَّارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى. وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ، وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ كِتَابٌ، وَلَمْ تَزَلْ الْأُمَّةُ تَعْمَلُ بِالْكُتُبِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِالْكُتُبِ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ، وَلَيْسَ اعْتِمَادُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ إلَّا عَلَى الْكُتُبِ فَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ بِمَا فِيهَا تَعَطَّلَتْ الشَّرِيعَةُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتُبُ كُتُبَهُ إلَى الْآفَاقِ وَالنَّوَاحِي فَيَعْمَلُ بِهَا مَنْ تَصِلُ إلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ: هَذَا كِتَابٌ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدُ، وَالنَّاسُ إلَى الْيَوْمِ، فَرَدُّ السُّنَنِ بِهَذَا الْخَيَالِ الْبَارِدِ الْفَاسِدِ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَالْحِفْظُ يَخُونُ، وَالْكِتَابُ لَا يَخُونُ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَكُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ. وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ مِيزَانِ الْكُوفَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرْ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَلَا يُرَدُّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ وَكِيعٌ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ رَوَى حَدِيثًا آخَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الشُّفْعَةِ لَطَرَحْت حَدِيثَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ ثِقَةٌ صَدُوقٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ هَذَا حَافِظٌ ثِقَةٌ صَدُوقٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ بِجَرْحٍ أَلْبَتَّةَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَئِمَّةُ زَمَانِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ،. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَلَا يَحْتَمِلُ مُخَالَفَةَ الْعَرْزَمِيِّ لِمِثْلِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا عَنْ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، فَخَالَفَهُمْ الْعَرْزَمِيُّ، وَلِهَذَا شَهِدَ الْأَئِمَّةُ بِإِنْكَارِ حَدِيثِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمُوهُ عَلَى حَدِيثِ هَؤُلَاءِ، قَالَ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى الشَّامِيُّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا، فَقَالَ: قَدْ أَنْكَرَهُ شُعْبَةُ، فَقُلْت: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ؟ فَقَالَ: حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ مَا قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَنُبَيِّنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ جَابِرٍ لَا يُنَاقِضُ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، بَلْ مَفْهُومُهُ يُوَافِقُ مَنْطُوقَهُ، وَسَائِرُ أَحَادِيثِ جَابِرٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ لِلْجِوَارِ» وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَمَّنْ سَمِعَ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ؛ فَهُوَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِشْهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ الِاعْتِمَادُ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي عَنْ سِمَاكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى جَارِهِ» وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ لِلْجِوَارِ» رَوَاهُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ الصُّرَيْفِينِيُّ: ثنا أَبُو أُمَامَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ثنا قَتَادَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ جَارٌ فِي حَائِطٍ أَوْ شَرِيكٌ فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ» وَهَؤُلَاءِ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ، وَعِلَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - يَقُولُ: سُلَيْمَانُ الْيَشْكُرِيُّ: يُقَالُ إنَّهُ مَاتَ فِي حَيَاةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَتَادَةُ وَلَا أَبُو بِشْرٍ، قَالَ: وَيُقَالُ: إنَّمَا يُحَدِّثُ قَتَادَةَ عَنْ صَحِيفَةِ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ، وَكَانَ لَهُ كِتَابٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قُلْت: وَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ كِتَابًا، وَالْأَخْذُ عَنْ الْكُتُبِ حُجَّةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّفِيعُ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ، وَالْجَارُ أَوْلَى مِنْ الْجَنْبِ» وَإِسْنَادُهُ إلَى الشَّعْبِيِّ صَحِيحٌ، قَالُوا: وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَصِيلِ - وَهُوَ الْجَارُ - أَسْبَقُ مِنْ حَقِّ الدَّخِيلِ، وَكُلُّ مَعْنًى اقْتَضَى ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فَمِثْلُهُ فِي حَقِّ الْجَارِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجِوَارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَيَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ مَا هُوَ مَعْهُودٌ، وَالضَّرَرُ بِذَلِكَ دَائِمٌ مُتَأَبِّدٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ الْجَارِ: إنْ شَاءَ أَقَرَّ الدَّخِيلَ عَلَى جِوَارِهِ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ انْتَزَعَ الْمِلْكَ بِثَمَنِهِ وَاسْتَرَاحَ مِنْ مُؤْنَةِ الْمُجَاوَرَةِ وَمَفْسَدَتِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَإِذَا كَانَ الْجَارُ يَخَافُ التَّأَذِّي بِالْمُجَاوَرَةِ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ، كَانَ كَالشَّرِيكِ يَخَافُ التَّأَذِّي بِشَرِيكِهِ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ. قَالُوا: وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا الْمُسْتَأْجِرُ مَعَ الْمَالِكِ؛ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِجَارَةِ لَا تَتَأَبَّدُ عَادَةً. وَأَيْضًا فَالْمِلْكُ بِالْإِجَارَةِ مِلْكُ مَنْفَعَةٍ، وَلَا لُزُومَ بَيْنَ مِلْكِ الْجَارِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ دَارِ جَارِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ كَمَا أَنَّهُ فِي الشَّرِكَةِ حَاصِلٌ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ؛ فَوَجَبَ بِحُكْمِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ وَرِعَايَتِهِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ إزَالَةُ الضَّرَرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ الْبَائِعَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا، فَيَبْعُدُ الْقَوْلُ بِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ نَصًّا وَقِيَاسًا. [رَدُّ الْمُبْطِلِينَ لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ] قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ: لَا تَضُرُّ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «إنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثنا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا» وَفِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا صُرِفَتْ الطُّرُقُ وَوَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " إذَا صُرِفَتْ الْحُدُودُ وَعَرَفَ النَّاسُ حُدُودَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ بَيْنَهُمْ ". وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فِي الْأَرْضِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْعَبَّاسِ. قَالُوا: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالشَّرِكَةِ هُوَ مَا تُوجِبُهُ مِنْ التَّزَاحُمِ فِي الْمَرَافِقِ وَالْحُقُوقِ وَالْإِحْدَاثِ وَالتَّغْيِيرِ وَالْإِفْضَاءِ إلَى التَّقَاسُمِ الْمُوجِبِ لِنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْجَارِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَفِي الشَّرِكَةِ حُقُوقٌ لَا تُوجَدُ فِي الْجِوَارِ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي الشَّرِكَةِ مُخْتَلِطٌ وَفِي الْجِوَارِ مُتَمَيِّزٌ، وَلِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 مُطَالَبَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَمَنْعٌ شَرْعِيٌّ؛ أَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَفِي الْقِسْمَةِ، وَأَمَّا الْمَنْعُ فَمِنْ التَّصَرُّفِ؛ فَلَمَّا كَانَتْ الشَّرِكَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَبِ وَمَحَلًّا لِلْمَنْعِ كَانَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ الْجَوَابِ، فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ الْجَارِ بِالشَّرِيكِ وَبَيْنَهُمَا هَذَا الِاخْتِلَافُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ رَفْعُ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ، وَهِيَ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ، وَالشَّرِيكُ لَمَّا بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ فَهَذَا الدَّخِيلُ قَدْ عَرَّضَهُ لِمُؤْنَةٍ عَظِيمَةٍ، فَمَكَّنَهُ الشَّارِعُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِانْتِزَاعِ الشِّقْصِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ وَلَا بِالْمُشْتَرِي، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ الشَّارِعُ مِنْ الِانْتِزَاعِ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ مِثْلُهُ وَمُسَاوٍ لَهُ فِي الدَّرَجَةِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا إلَّا وَلِصَاحِبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَاعَ صَارَ الْمُشْتَرِي دَخِيلًا، وَالشَّرِيكُ أَصِيلٌ، فَرَجَّحَ جَانِبَهُ وَثَبَتَ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ. قَالُوا: وَكَمَا أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْجَارِ فَهُوَ أَيْضًا يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَلَا يُزِيلُ ضَرَرَ الْجَارِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا هُوَ وَعِيَالُهُ، فَإِذَا سَلَّطَ الْجَارَ عَلَى إخْرَاجِهِ وَانْتِزَاعِ دَارِهِ مِنْهُ أَضَرَّ بِهِ إضْرَارًا بَيِّنًا، وَأَيُّ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَهُ جَارٌ فَحَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا، وَتَطَلُّبُهُ دَارًا لَا جَارَ لَهَا كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَيْهِ أَوْ كَالْمُتَعَسِّرِ؛ فَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ؛ لِئَلَّا يَضُرَّ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ دَارٍ لَهَا جَارٌ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مَقْصُودَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرِيكِ، وَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِالْحِصَّةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا، وَالشَّرِيكُ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِانْضِمَامِهَا إلَى مِلْكِهِ، فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَرَرٌ فِي انْتِزَاعِهَا مِنْهُ وَإِعْطَائِهِ مَا اشْتَرَاهَا بِهِ. قَالُوا: وَحِينَئِذٍ فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَحَادِيثِ شُفْعَةِ الْجِوَارِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ شُفْعَةِ الشَّرِكَةِ؛ فَيَكُونُ لَفْظُ الْجَارِ فِيهَا مُرَادًا بِهِ الشَّرِيكُ، وَوَجْهُ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَعْنَى وَالِاسْتِعْمَالُ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ مِلْكِ الشَّرِيكِ مُجَاوِرٌ لِمِلْكِ صَاحِبِهِ، فَهُمَا جَارَانِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَإِنَّهُمَا خَلِيطَانِ مُتَجَاوِرَانِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ الزَّوْجَةُ جَارَةً كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ فَتَسْمِيَةُ الشَّرِيكِ جَارًا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَقَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي، هَذَا إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ إلَّا إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِيهَا حَقُّ الْجَارِ عَلَى جَارِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ حَقَّ الْعَرْضِ عَلَيْهِ إذَا أَرَادَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الْبَيْعَ، فَأَيْنَ ثُبُوتُ حَقِّ الِانْتِزَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ ثُبُوتُ حَقِّ الِانْتِزَاعِ، فَهَذَا مُنْتَهَى إقْدَامِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ سِوَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَ الْجَارَيْنِ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَقٌّ مُشْتَرَكٌ أَلْبَتَّةَ - بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَمَيِّزًا مِلْكُهُ وَحُقُوقُ مِلْكِهِ - فَلَا شُفْعَةَ، وَهَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الشُّفْعَةِ: لِمَنْ هِيَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا، فَإِذَا صُرِفَتْ الطُّرُقُ وَعُرِفَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَوْلُ الْقَاضِيَيْنِ سَوَّارِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ: أَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ: إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا كَانَ بَيْنَهُمْ الشُّفْعَةُ مِثْلُ دَارِنَا هَذِهِ، عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي يُحَدِّثُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، انْتَهَى. فَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُثْبِتُونَ شُفْعَةَ الْجِوَارِ مَعَ تَمَيُّزِ الطُّرُقِ وَالْحُقُوقِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسْقِطُونَهَا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الطَّرِيقِ وَالْحُقُوقِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يُوَافِقُونَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا صُرِفَتْ الطُّرُقُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اشْتِرَاكٌ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ، وَيُوَافِقُونَ أَهْلَ الْكُوفَةِ إذَا اشْتَرَكَ الْجَارَانِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ كَالطَّرِيقِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ صَرِيحٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ مَعَ اتِّحَادِ الطَّرِيقِ، وَنَفَاهَا بِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَمَفْهُومُ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَنْطُوقُ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَحَدُهُمَا يُصَدِّقُ الْآخَرَ وَيُوَافِقُهُ، لَا يُعَارِضُهُ وَيُنَاقِضُهُ، وَجَابِرٌ رَوَى اللَّفْظَيْنِ؛ فَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ مِنْ إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ تَصْرِيفِ الطُّرُقِ وَتَمْيِيزِ الْحُدُودِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ بِمَفْهُومِهِ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَنْطُوقِهِ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحَادِيثِ جَابِرٍ بِمَفْهُومِهَا، فَتَوَافَقَتْ السُّنَنُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَائْتَلَفَتْ، وَزَالَ عَنْهَا مَا يُظَنُّ بِهَا مِنْ التَّعَارُضِ، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِالْجِوَارِ حَالَةَ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّ الْبَيْتَيْنِ كَانَا فِي نَفْسِ دَارِ سَعْدٍ وَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ بِلَا رَيْبٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي هَذَا الْقَوْلَ؛ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ شَقِيقُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمِلْكِ، وَالضَّرَرُ الْحَاصِلُ بِالشَّرِكَةِ فِيهَا كَالضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمِلْكِ أَوْ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَرَفْعُهُ مَصْلَحَةً لِلشَّرِيكِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ لِأَجْلِهِ شُفْعَةُ الْخِلْطَةِ فِي الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِي الْخِلْطَةِ فِي حُقُوقِهِ؛ فَهَذَا الْمَذْهَبُ أَوْسَطُ الْمَذَاهِبِ، وَأَجْمَعُهَا لِلْأَدِلَّةِ، وَأَقْرَبُهَا إلَى الْعَدْلِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَحَيْثُ قَالَ: لَا شُفْعَةَ فَفِيمَا إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ، وَحَيْثُ أَثْبَتَهَا فَفِيمَا إذَا لَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا وَهَذَا، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: " إذَا حَدَثَ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ شُفْعَةِ الْجِوَارِ رَآهَا صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ حَمْلِهَا عَلَى الشَّرِيكِ وَعَلَى حَقِّ الْجِوَارِ غَيْرَ الشُّفْعَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: بَقِيَ عَلَيْكُمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» فَأَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْحُدُودِ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ إذَا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الطَّرِيقِ فَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ اخْتَصَرَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّدَ الْحَدِيثَ فَذَكَرَهُمَا، وَلَا يَكُونُ إسْقَاطُ مَنْ أَسْقَطَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ مُبْطِلًا لِحُكْمِ اللَّفْظِ الْآخَرِ. الثَّانِي - أَنَّ تَصْرِيفَ الطُّرُقِ دَاخِلٌ فِي وُقُوعِ الْحُدُودِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً لَمْ تَكُنْ الْحُدُودُ كُلُّهَا وَاقِعَةً، بَلْ بَعْضُهَا حَاصِلٌ، وَبَعْضُهَا مُنْتَفٍ؛ فَوُقُوعُ الْحُدُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ أَوْ يَتَضَمَّنُ تَصْرِيفَ الطُّرُقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَبَعْضِهَا الْآخَرِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَبَعْضِهَا الْآخَرِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ صَوْمَ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَفَرَضَ صَوْمَ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ مَعَ تَسَاوِيهِمَا " فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ كَاذِبَةٌ؛ فَلَيْسَ الْيَوْمَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا؛ فَهَذَا يَوْمٌ مِنْ شَهْرِ الصِّيَامِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا يَوْمُ عِيدِهِمْ وَسُرُورِهِمْ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى شُكْرَانَ صَوْمِهِمْ وَإِتْمَامِهِ، فَهُمْ فِيهِ أَضْيَافُهُ سُبْحَانَهُ، وَالْجَوَادُ الْكَرِيمُ يُحِبُّ مِنْ ضَيْفِهِ أَنْ يَقْبَلَ قِرَاهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ ضِيَافَتِهِ بِصَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ لِلضَّيْفِ أَنْ يَصُومَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ؛ فَمِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ إتْمَامٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَخَاتِمَةُ الْعَمَلِ، وَتَحْرِيمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ أَضْيَافُ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُمْ فِي شُكْرَانِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْلَغُ وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ؟ [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بِنْتِ الْأَخِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَنَحْوِهَا فِي النِّكَاح] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بِنْتِ الْأَخِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَنَحْوِهَا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ عَلَيْهِ نِكَاحَ بِنْتِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَأَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ بِنْتِ أَخِي أَبِيهِ وَبِنْتِ أُخْتِ أُمِّهِ، وَهُمَا سَوَاءٌ " فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى صَادِقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ كَاذِبَةٌ؛ فَلَيْسَتَا سَوَاءٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا فِي الْعُرْفِ، وَلَا فِي الْعُقُولِ، وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ شَرْعًا وَقَدْرًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، وَلَوْ تَسَاوَتْ الْقَرَابَةُ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْأُمُورِ، وَالْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ تُعْطَى حُكْمَ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءَ، وَمَا خَالَفَ شَرْعَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ إمَّا مَجُوسِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْأُمِّ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْخَالَاتِ فِي نِكَاحِ الْجَمِيعِ، وَإِمَّا حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ بَنَاتِ أَعْمَامِهِمْ وَعَمَّاتِهِمْ وَأَخْوَالِهِمْ وَخَالَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ النَّاسَ - وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبُ - أَكْثَرُ بَنُو عَمٍّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَمَّا بُنُوَّةِ عَمٍّ دَانِيَةٍ أَوْ قَاصِيَةٍ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ وَضِيقٌ؛ فَكَانَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَحْسَنَ الْأُمُورِ وَأَلْصَقَهَا بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [فَصَلِّ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ جِنَايَةَ الْخَطَأِ عَلَى النُّفُوسِ دُونَ الْأَمْوَالِ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَمْلُ الْعَاقِلَةِ جِنَايَةَ الْخَطَأِ عَلَى النُّفُوسِ دُونَ الْأَمْوَالِ " قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْحَائِضِ فِي الْوَطْء] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْحَائِضِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْأَذَى، وَأَبَاحَ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَذَى، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ " فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى صَادِقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ فِيهَا إجْمَالٌ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ أَذَى الِاسْتِحَاضَةِ مُسَاوٍ لِأَذَى الْحَيْضِ كَذَبَتْ الْمُقَدِّمَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْأَذَى لَمْ يَكُنْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، فَبَطَلَ سُؤَالُهُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. وَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ تَفْرِيقُهُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ أَذَى الْحَيْضِ أَعْظَمُ وَأَدْوَمُ وَأَضَرُّ مِنْ أَذَى الِاسْتِحَاضَةِ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ عِرْقٌ، وَهُوَ فِي الْفَرْجِ بِمَنْزِلِهِ الرُّعَافِ فِي الْأَنْفِ، وَخُرُوجُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 مُضِرٌّ، وَانْقِطَاعُهُ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَدَمُ الْحَيْضِ عَكْسُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوِي الدَّمَانِ حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا حُكْمًا وَلَا سَبَبًا؛ فَمِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ تَفْرِيقَهَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فِي الْحُكْمِ كَمَا افْتَرَقَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ بَيْعَ مُدَّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ " فَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إلَيْهَا إلَّا أُولُو الْعُقُولِ الْوَافِرَةِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى حِكْمَةِ ذَلِكَ إشَارَةً بِحَسَبِ عُقُولِنَا الضَّعِيفَةِ وَعِبَارَاتِنَا الْقَاصِرَةِ، وَشَرْعُ الرَّبِّ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ فَوْقَ عُقُولِنَا وَعِبَارَاتِنَا، فَنَقُولُ: [الرِّبَا نَوْعَانِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ النَّسِيئَةُ] . الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَلِيِّ؛ فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةً: فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلُ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً؛ وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مُعْدَمٌ مُحْتَاجٌ؛ فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لِأَخِيهِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُؤَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَآذَنَ مَنْ لَمْ يَدَعْهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ؛ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّبَا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَالْمُرَابِي ضِدُّ الْمُتَصَدِّقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهَؤُلَاءِ ضِدُّ الْمُرَابِينَ، فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ، وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ إلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَمِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِلَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ ". [فَصَلِّ رِبَا الْفَضْلِ] فَصْلٌ: [رِبَا الْفَضْلِ] وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَّا» وَالرِّمَّا هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَا يُفْعَلُ هَذَا إلَّا لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ، وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذِهِ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا؛ فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً؛ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَعْقُولَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْعُقُولِ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ. [الْأَجْنَاسُ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا رِبَا الْفَضْلِ وَآرَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ] فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّارِعُ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ، فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا؛ فَطَائِفَةٌ قَصَرَتْ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا، وَأَقْدَمُ مَنْ يُرْوَى هَذَا عَنْهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ: لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسِيَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا عِلَلٌ ضَعِيفَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِي عِلَّةٍ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ. وَطَائِفَةٌ حَرَّمَتْهُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَمَّارٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَمَا سَتَرَاهُ. وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا الثَّمَنِيَّةُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنْ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا؛ فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالْعِلَّةُ إذَا انْتَقَضَتْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا. وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ لَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ، فَهُوَ طَرْدٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ تَقْوِيمُ الْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لَا يَرْتَفِعُ وَلَا يَنْخَفِضُ؛ إذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَلْ الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَقُومُ هُوَ بِغَيْرِهِ؛ إذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلَاتُ النَّاسِ، وَيَقَعُ الْخُلْفُ، وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ، كَمَا رَأَيْت مِنْ فَسَادِ مُعَامَلَاتِهِمْ وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِمْ حِينَ اُتُّخِذَتْ الْفُلُوسُ سِلْعَةً تُعَدُّ لِلرِّبْحِ فَعَمَّ الضَّرَرُ وَحَصَلَ الظُّلْمُ، وَلَوْ جَعَلْت ثَمَنًا وَاحِدًا لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ بَلْ تَقُومُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا تَقُومُ هِيَ بِغَيْرِهَا لِصُلْحِ أَمْرِ النَّاسِ، فَلَوْ أُبِيحَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ - مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ صِحَاحًا وَيَأْخُذَ مُكَسَّرَةً أَوْ خِفَافًا وَيَأْخُذَ ثِقَالًا أَكْثَرَ مِنْهَا - لَصَارَتْ مَتْجَرًا، أَوْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فِيهَا وَلَا بُدَّ؛ فَالْأَثْمَانُ لَا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا، بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنًى مَعْقُولٌ يَخْتَصُّ بِالنُّقُودِ لَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ. [فَصَلِّ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْمَطْعُومِ] فَصْلٌ: [حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْمَطْعُومِ] وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، وَمَا يُصْلِحُهَا؛ فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلًا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا؛ وَجُوِّزَ لَهُمْ التَّفَاضُلُ فِيهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَوْ جُوِّزَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا إذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ دَرَاهِمُ وَلَا دَنَانِيرُ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعَمُودِ وَالْبَوَادِي، وَإِنَّمَا يَتَنَاقَلُونَ الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ؛ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْأَثْمَانِ؛ إذْ لَوْ جَوَّزَ لَهُمْ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا: " إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أَخَذَ قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنْ النَّسَاءِ، ثُمَّ فَطَمُوا عَنْ بَيْعِهَا مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، إذْ تَجُرُّهُمْ حَلَاوَةُ الرِّبْحِ وَظُفْرُ الْكَسْبِ إلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ؛ فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ؛ فَفِي إلْزَامِهِمْ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إضْرَارٌ بِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى: " إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَكَانَ مِنْ تَمَامِ رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمْ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَلَةِ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ مَفْسَدَةُ: " إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ ". وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مَنَعُوا مِنْهُ لَأَضَرَّ بِهِمْ، وَلَامْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ بِهِمْ حَاجَةً فِي بَيْعِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ صِنْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ لِيَشْتَرِيَ الصِّنْفَ الْآخَرَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» أَوْ تَبِيعَهُ بِذَلِكَ الصِّنْفِ نَفْسِهِ بِمَا يُسَاوِي، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ حَالًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا مُكِّنَ مِنْ النَّسَاءِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَبِيعُهُ بِفَضْلٍ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ الصِّنْفَ الْآخَرَ بِفَضْلٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ ذَلِكَ الصِّنْفِ يُرْبِي عَلَيْهِ كَمَا أَرْبَى هُوَ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَنْشَأُ مِنْ النَّسَاءِ تَضَرُّرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالنَّسَاءُ هَهُنَا فِي صِنْفَيْنِ، وَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا مَنْشَأُ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ. وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا حُرِّمَ فِيهِ النَّسَاءُ رَأَيْته إمَّا صِنْفًا وَاحِدًا أَوْ صِنْفَيْنِ مَقْصُودُهُمَا وَاحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَإِذَا تَبَاعَدَتْ الْمَقَاصِدُ لَمْ يَحْرُمْ النَّسَاءُ كَالْبُرِّ وَالثِّيَابِ وَالْحَدِيدِ وَالزَّيْتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمَدَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ تِجَارَةً حَاضِرَةً، فَتَطْلُبُ النُّفُوسُ التِّجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ لِلَذَّةِ الْكَسْبِ وَحَلَاوَتِهِ؛ فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مُنِعُوا مِنْ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ إتْمَامًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، وَرِعَايَةً لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ يَتَعَاقَدَانِ عَلَى الْحُلُولِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِصَبْرِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَمَا يَفْعَلُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: يُطْلِقُونَ الْعَقْدَ وَقَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، كَمَا يُطْلِقُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّحْلِيلِ، وَيُطْلِقُونَ بَيْعَ السِّلْعَةِ إلَى أَجَلٍ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَوْ جُوِّزَ لَهُمْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ حَالًّا وَأَخَّرُوا الطَّلَبَ لِأَجْلِ الرِّبْحِ، فَيَقَعُوا فِي نَفْسِ الْمَحْذُورِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَثْمَانِ، وَمُنِعُوا مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَقْوَاتِ بِجِنْسِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الْأَقْوَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيْعِ التِّبْرِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ التِّبْرَ لَيْسَ فِيهِ صَنْعَةٌ يُقْصَدُ لِأَجْلِهَا؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ أَلَّا يُفَاضِلَ بَيْنَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: " تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ " فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ، وَرِبَا الْفَضْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ هَذَا تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ وَتَحْرِيمَ الْآخَرِ تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ شَيْءٌ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ. [فَصَلِّ حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا] فَصْلٌ: [حِكْمَةُ إبَاحَةِ الْعَرَايَا وَنَحْوِهَا] وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا؛ فَإِنَّ مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أَخَفُّ مِمَّا حَرَّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصُوغُ وَالْحِيلَةُ إنْ كَانَتْ صِيَاغَتُهُ مُحَرَّمَةً كَالْآنِيَةِ حُرِّمَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ، وَبَيْعُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ عُبَادَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُقَابَلَةَ الصِّيَاغَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَثْمَانِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الصِّيَاغَةُ مُبَاحَةً - كَخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةِ النِّسَاءِ وَمَا أُبِيحَ مِنْ حِلْيَةِ السِّلَاحِ وَغَيْرِهَا - فَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ هَذِهِ بِوَزْنِهَا مِنْ جِنْسِهَا فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَإِضَاعَةٌ لِلصَّنْعَةِ. وَالشَّارِعُ أَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، فَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِهِ، وَلَا تَأْتِي بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ وَشِرَائِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَبِيعُهَا بِجِنْسٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا تَتَّقِيهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ يَشْتَرُونَ بِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْبَائِعُ لَا يَسْمَحُ بِبَيْعِهِ بِبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَثِيَابٍ؛ وَتَكْلِيفُ الِاسْتِصْنَاعِ لِكُلِّ مَنْ احْتَاجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 إلَيْهِ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِشَهْوَةِ الرُّطَبِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى بَيْعِ الْمَصُوغِ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ؟ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جَوَازُ بَيْعِهِ كَمَا تُبَاعُ السِّلَعُ؛ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالدَّرَاهِمِ فَسَدَتْ مَصَالِحُ النَّاسِ ، وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ، وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً، وَلَا يُنْكِرُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: لَمْ تَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْحِيلَةُ، وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ لَفْظَ النُّصُوصِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ ذُكِرَ تَارَةً بِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَقَوْلِهِ: «الدَّرَاهِمُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرُ بِالدَّنَانِيرِ» وَفِي الزَّكَاةِ قَوْلُهُ: «فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ» وَالرِّقَّةُ: هِيَ الْوَرِقُ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ، وَتَارَةً بِلَفْظِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ فَإِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَانَ نَهْيًا عَنْ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ وَإِيجَابًا لِلزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ جُمْلَةِ مَا عَدَاهُمَا، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ وَيَجْرِي الرِّبَا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ لَا فِي كُلِّهَا، وَفِي هَذَا تَوْفِيَةُ الْأَدِلَّةِ حَقَّهَا، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ بِشَيْءٍ لِدَلِيلٍ مِنْهَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحِلْيَةَ الْمُبَاحَةَ صَارَتْ بِالصَّنْعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ جِنْسِ الثِّيَابِ وَالسِّلَعِ، لَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَلَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَثْمَانِ كَمَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَبَيْنَ سَائِرِ السِّلَعِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ بِالصِّنَاعَةِ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مَقْصُودِ الْأَثْمَانِ، وَأُعِدَّتْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا، وَلَا يَدْخُلُهَا: " إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِي سَائِرِ السِّلَعِ إذَا بِيعَتْ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَعُ فِيهَا، لَكِنْ لَوْ سَدَّ عَلَى النَّاسِ ذَلِكَ لَسَدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الدَّيْنِ، وَتَضَرَّرُوا بِذَلِكَ غَايَةَ الضَّرَرِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْحِلْيَةَ، وَكَانَ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَهَا، وَكُنَّ يَتَصَدَّقْنَ بِهَا فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا لِلْمَحَاوِيجِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَهَا؛ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهَا لَا تُبَاعُ بِوَزْنِهَا فَإِنَّهُ سَفَهٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ الْحَلَقَةِ وَالْخَاتَمِ وَالْفَتْخَةِ لَا تُسَاوِي دِينَارًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فُلُوسٌ يَتَعَامَلُونَ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَتْقَى لِلَّهِ وَأَفْقَهَ فِي دِينِهِ وَأَعْلَمَ بِمَقَاصِدِ رَسُولِهِ مِنْ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْحِيَلَ أَوْ يُعَلِّمُوهَا النَّاسَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَاعَ الْحُلِيُّ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ بِوَزْنِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّرْفِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَمَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا أُبِيحَتْ الْعَرَايَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَكَمَا أُبِيحَتْ ذَوَاتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الْأَسْبَابِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ لِلْخَاطِبِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ وَالْمُعَامِلِ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ حُرِّمَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ التَّشْبِيهِ بِالنِّسَاءِ الْمَلْعُونِ فَاعِلُهُ، وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاحَ بَيْعُ الْحِلْيَةِ الْمَصُوغَةِ صِيَاغَةً مُبَاحَةً بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ، وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهِ أَوَبِالْحِيَلِ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ جَعْلُ الزِّيَادَةِ فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ الْمُبَاحَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ بِالْأَثْمَانِ فِي الْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ عَشَرَةٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فِي خِرْقَةٍ تُسَاوِي فَلْسًا، وَيَقُولُونَ: الْخَمْسَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْخِرْقَةِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ بَيْعَ الْحِلْيَةِ بِوَزْنِهَا وَزِيَادَةً تُسَاوِي الصِّنَاعَةَ؟ وَكَيْفَ تَأْتِي الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ الَّتِي بَهَرَتْ الْعُقُولَ حِكْمَةً وَعَدْلًا وَرَحْمَةً وَجَلَالَةً بِإِبَاحَةِ هَذَا وَتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهَلْ هَذَا إلَّا عَكْسٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْفِطَرِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ مُبَالَغَتُهُمْ فِي رِبَا الْفَضْلِ أَعْظَمَ مُبَالَغَةٍ، حَتَّى مَنَعُوا بَيْعَ رِطْلِ زَيْتٍ بِرِطْلِ زَيْتٍ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ الْكُسْبِ بِالسِّمْسِمِ، وَبَيْعَ النَّشَا بِالْحِنْطَةِ، وَبَيْعَ الْخَلِّ بِالزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ وَجَاءُوا إلَى رِبَا الْفَضْلِ النَّسِيئَةَ فَفَتَحُوا لِلتَّحَيُّلِ عَلَيْهِ كُلَّ بَابٍ، فَتَارَةً بِالْعَيِّنَةِ، وَتَارَةً بِالْمُحَلِّلِ، وَتَارَةً بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطْلِقُونَ الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَالْمُتَعَاقِدَانِ وَمَنْ حَضَرَ أَنَّهُ عَقْدُ رِبًا مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ بَيْعُ خَمْسَةَ عَشَرَ مُؤَجَّلَةً بِعَشَرَةٍ نَقْدًا لَيْسَ إلَّا، وَدُخُولُ السِّلْعَةِ كَخُرُوجِهَا حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَهَلَّا فَعَلُوا هَهُنَا كَمَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمَدٍّ وَدِرْهَمٍ، وَقَالُوا: قَدْ يُجْعَلُ وَسِيلَةً إلَى رِبَا الْفَضْلِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدُّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يُسَاوِي بَعْضَ مُدٍّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَقَعُ التَّفَاضُلُ؟ فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ حُرِّمَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَأُبِيحَتْ تِلْكَ الذَّرَائِعُ الْقَرِيبَةُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ بَحْتًا خَالِصًا؟ وَأَيْنَ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْحِلْيَةِ بِجِنْسِهَا وَمُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ بِحَظِّهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَى مَفْسَدَةِ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ كُلِّ مَفْسَدَةٍ وَأَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ؟ وَإِذَا حَصْحَصَ الْحَقُّ فَلْيَقُلْ الْمُتَعَصِّبُ الْجَاهِلُ مَا شَاءَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [السِّرُّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلصِّفَاتِ فِي الْبُيُوعِ مُقَابِلٌ؟] فَإِنْ قِيلَ: الصِّفَاتُ لَا تُقَابَلُ بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِهَا لَجَازَ بَيْعُ الْفِضَّةِ الْجَيِّدَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ الرَّدِيئَةِ، وَبَيْعُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِأَزْيَدَ مِنْهُ مِنْ الرَّدِيءِ، وَلَمَّا أَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ مُقَابَلَةِ الصِّفَاتِ بِالزِّيَادَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّنْعَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ فِعْلِ الْآدَمِيِّ وَتُقَابَلُ بِالْأَثْمَانِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأُجْرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ لَا أَثَرَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَلَا هِيَ مِنْ صَنْعَتِهِ؛ فَالشَّارِعُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَنَعَ مِنْ مُقَابَلَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِزِيَادَةٍ؛ إذْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نَقْضِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ التَّفَاضُلِ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ ظَاهِرٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ إلَّا لِمَا هُوَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَلَوْ جَوَّزَ لَهُمْ مُقَابَلَةَ الصِّفَاتِ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ رِبَا الْفَضْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّيَاغَةِ الَّتِي جَوَّزَ لَهُمْ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا مَعَهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا جَازَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّيَاغَةِ مُفْرَدَةً جَازَتْ عَلَيْهَا مَضْمُومَةً إلَى غَيْرِ أَصْلِهَا وَجَوْهَرِهَا؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقُولُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الصِّيَاغَةِ: بِعْ هَذَا الْمَصُوغَ بِوَزْنِهِ وَاخْسَرْ صِيَاغَتَك، وَلَا يَقُولُ لَهُ: لَا تَعْمَلْ هَذِهِ الصِّيَاغَةَ وَاتْرُكْهَا، وَلَا يَقُولُ لَهُ: تَحَيَّلْ عَلَى بَيْعِ الْمَصُوغِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ: لَا تَبِعْهُ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ بِجِنْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ سَلِمَ لَكُمْ فِي الْمَصُوغِ، فَكَيْفَ يَسْلَمُ لَكُمْ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ إذَا بِيعَتْ بِالسَّبَائِكِ مُفَاضَلًا وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ صِنَاعَةِ الضَّرْبِ؟ قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ وَارِدٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ السِّكَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ فِيهِ الصِّنَاعَةُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَضْرِبُهَا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ يَضْرِبُهَا بِأُجْرَةٍ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهَا أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّاسِ لَا يَتَّجِرُونَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسِّكَّةُ فِيهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِالزِّيَادَةِ فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ، وَانْتَقَضَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِأَجْلِهَا، وَاِتَّخَذَهَا النَّاسُ سِلْعَةً، وَاحْتَاجَتْ إلَى التَّقْوِيمِ بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَامَ الدِّرْهَمُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ رَدَّ نَظِيرَهَا، وَلَيْسَ الْمَصُوغُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ مِائَةً خِفَافًا وَيَرُدُّ خَمْسِينَ ثِقَالًا بِوَزْنِهَا وَلَا يَأْبَى ذَلِكَ الْآخِذُ وَلَا الْقَابِضُ وَلَا يَرَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ شَيْئًا؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَصُوغِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ لَمْ يَضْرِبُوا دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تُجَوِّزُوا بَيْعَ فُرُوعِ الْأَجْنَاسِ بِأُصُولِهَا مُتَفَاضِلًا؛ فَجَوَّزُوا بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ وَارِدٌ أَيْضًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ تَكُونُ الصُّورَةُ الْمُحَرَّمَةُ بِالْقِيَاسِ مُسَاوِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَالثَّلَاثَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي فُرُوعِ الْأَجْنَاسِ مَعَ أُصُولِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَلَا يُسَاوِيهَا فِي إلْحَاقِهَا بِهَا، وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ فَفَرْعُهَا إنْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ قُوتًا لَمْ يَكُنْ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ قُوتًا كَانَ جِنْسًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَحُرِّمَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ مُتَفَاضِلًا كَالدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ بِالْخُبْزِ، وَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهُ بِجِنْسٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ جِنْسُهُمَا وَاحِدًا؛ فَلَا يَحْرُمُ السِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ وَلَا الْهَرِيسَةُ بِالْخُبْزِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ لَهَا قِيمَةٌ؛ فَلَا تَضِيعُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهَا بِأُصُولِهَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا مَا شَرَعَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ. [بَيْع اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ] [الْخِلَافُ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ] فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، فَإِنَّكُمْ إنْ مُنِعْتُمُوهُ نَقَضْتُمْ قَوْلَكُمْ، وَإِنْ جَوَّزْتُمُوهُ خَالَفْتُمْ النَّصَّ، وَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْخُبْزِ بِالْبُرِّ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَكُلِّ رِبَوِيٍّ بِأَصْلِهِ. قِيلَ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي صِحَّتِهِ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَاهُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ مَوْصُولًا، وَإِنَّمَا هُوَ صَحِيحٌ مُرْسَلًا؛ فَمَنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَأَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ مُطْلَقًا أَوْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مُتَّصِلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ، وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ؛ فَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ حَيَوَانُهُ بِلَحْمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ وَالْغَرَرِ وَالْقِمَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ فِي الْحَيَوَانِ مِثْلُ اللَّحْمِ الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، فَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ كَبَيْعِ اللَّحْمِ الْمُغَيَّبِ فِي جِلْدِهِ بِلَحْمٍ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ حِينَئِذٍ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَلَا يَأْخُذُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيُجَوِّزُونَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا أَحْمَدُ فَيَمْنَعُ بَيْعَهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَمْنَعُ بَيْعَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَإِنْ مَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَمْنَعُ بَيْعَهُ بِجِنْسِهِ وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فَقُسِّمَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْت أَعْلَمُ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - إنْ ثَبَتَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مَقْصُودًا لِلَّحْمِ كَشَاةٍ يُقْصَدُ لَحْمُهَا فَتُبَاعُ بِلَحْمٍ؛ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ لَحْمًا بِلَحْمٍ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَاللَّحْمُ قُوتٌ مَوْزُونٌ فَيَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّحْمُ كَمَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ أَوْ مَأْكُولًا لَا يُقْصَدُ لَحْمُهُ كَالْفَرَسِ تُبَاعُ بِلَحْمِ إبِلٍ فَهَذَا لَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ بِهِ، بَقِيَ إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مَأْكُولًا لَا يُقْصَدُ لَحْمُهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ اللَّحْمِ فَهَذَا يُشْبِهُ الْمُزَابَنَةَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَبَيْعِ صُبْرَةِ تَمْرٍ بِصُبْرَةِ زَبِيبٍ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، إذْ غَايَتُهُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، وَالتَّفَاضُلُ الْمُتَحَقِّقُ جَائِزٌ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ بِالْمَظْنُونِ؟ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ، لَا لِأَجْلِ التَّفَاضُلِ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُزَابَنَةِ وَشِبْهِ الْقِمَارِ، وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ إحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحُدُّ عَلَى أَبِيهَا] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ إحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحُدُّ عَلَى أَبِيهَا] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى أُمِّهَا وَأَبِيهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَأَوْجَبَهُ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ " فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَحِكْمَتِهَا وَرِعَايَتِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ الْإِحْدَادَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ تَعْظِيمِ مُصِيبَةِ الْمَوْتِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِيهَا أَعْظَمَ مُبَالَغَةٍ، وَيُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ شَقَّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمَ الْخُدُودِ، وَحَلْقَ الشُّعُورِ، وَالدُّعَاءَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَتَمْكُثُ الْمَرْأَةُ سَنَةً فِي أَضْيَقِ بَيْتٍ وَأَوْحَشْهُ لَا تَمَسُّ طِيبًا وَلَا تَدْهُنُ وَلَا تَغْتَسِلُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَسَخُّطٌ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَأَقْدَارِهِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَبْدَلَنَا بِهَا الصَّبْرَ وَالْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لِلْمُصَابِ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ؛ وَلَمَّا كَانَتْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ لَا بُدَّ أَنْ تُحْدِثُ لِلْمُصَابِ مِنْ الْجَزَعِ وَالْأَلَمِ وَالْحُزْنِ مَا تَتَقَاضَاهُ الطِّبَاعُ سَمَحَ لَهَا الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ فِي الْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَجِدُ بِهَا نَوْعَ رَاحَةٍ وَتَقْضِي بِهَا وَطَرًا مِنْ الْحُزْنِ، كَمَا رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَمَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ، فَمَنَعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا مَرْجُوحَةٌ مَغْمُورَةٌ بِمَصْلَحَتِهَا، فَإِنَّ فِطَامَ النُّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ أَشَقِّ الْأُمُورِ عَلَيْهَا، فَأُعْطِيَتْ بَعْضَ الشَّيْءِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا تَرْكُ الْبَاقِي، فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا أَخَذَتْ بَعْضَ مُرَادِهَا قَنَعَتْ بِهِ، فَإِذَا سُئِلَتْ تَرْكَ الْبَاقِي كَانَتْ إجَابَتُهَا إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ إجَابَتِهَا لَوْ حُرِّمَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَتَدَبَّرَ حُكْمَهَا رَأَى ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى صَفَحَاتِ أَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، بَادِيًا لِمَنْ نَظَرُهُ نَافِذٌ؛ فَإِذَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا عَوَّضَهُمْ عَنْهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ وَأَنْفَعُ، وَأَبَاحَ لَهُمْ مِنْهُ مَا تَدْعُو حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُ، كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَأَبَاحَ لَهُمْ مِنْهُ الْعَرَايَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَبَاحَ لَهُمْ مِنْهُ نَظَرَ الْخَاطِبِ وَالْمُعَامِلِ وَالطَّبِيبِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْمَالِ بِالْمُغَالَبَاتِ الْبَاطِلَةِ كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَهُ بِالْمُغَالَبَاتِ النَّافِعَةِ كَالْمُسَابَقَةِ وَالنِّضَالِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ لِبَاسَ الْحَرِيرِ، وَأَبَاحَ لَهُمْ مِنْهُ الْيَسِيرَ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ كَسْبَ الْمَالِ بِرِبَا النَّسِيئَةِ، وَأَبَاحَ لَهُمْ كَسْبَهُ بِالسَّلَمِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الصِّيَامِ وَطْءَ نِسَائِهِمْ وَعَوَّضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَبَاحَهُ لَهُمْ لَيْلًا؛ فَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُ بِالنَّهَارِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الزِّنَا وَعَوَّضَهُمْ بِأَخْذِ ثَانِيَةٍ وَثَالِثَةٍ وَرَابِعَةٍ وَمِنْ الْإِمَاءِ مَا شَاءُوا؛ فَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُ غَايَةَ التَّسْهِيلِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ وَعَوَّضَهُمْ عَنْهُ بِالِاسْتِخَارَةِ وَدُعَائِهَا وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ نِكَاحَ أَقَارِبِهِمْ وَأَبَاحَ لَهُمْ مِنْهُ بَنَاتَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَطْءَ الْحَائِضِ وَسَمَحَ لَهُمْ فِي مُبَاشَرَتِهَا وَأَنْ يَصْنَعُوا بِهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْوَطْءَ فَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُ غَايَةَ السُّهُولَةِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَأَبَاحَ لَهُمْ الْمَعَارِيضَ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ مِنْ عُرْفِهَا إلَى الْكَذِبِ مَعَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَشَارَ إلَى هَذَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخُيَلَاءَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْحَرْبِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَقْصُودِ الْجِهَادِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَعَوَّضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْوُحُوشِ وَالطَّيْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ خَبِيثًا وَلَا ضَارًّا إلَّا أَبَاحَ لَهُمْ طَيِّبًا بِإِزَائِهِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْهُ، وَلَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ إلَّا وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ فَوَسِعَتْهُمْ رَحْمَتُهُ وَوَسِعَهُمْ تَكْلِيفُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلنِّسَاءِ - لِضَعْفِ عُقُولِهِنَّ وَقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ - الْإِحْدَادَ عَلَى مَوْتَاهُنَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَّا الْإِحْدَادُ عَلَى الزَّوْجِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْعِدَّةِ وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا وَمُكَمِّلَاتِهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تَحْتَاجُ إلَى التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّلِ وَالتَّعَطُّرِ، لِتَتَحَبَّبَ إلَى زَوْجِهَا، وَتَرِدُ لَهَا نَفْسُهُ، وَيَحْسُنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعِشْرَةِ، فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَاعْتَدَّتْ مِنْهُ وَهِيَ لَمْ تَصِلْ إلَى زَوْجٍ آخَرَ، فَاقْتَضَى تَمَامَ حَقِّ الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدَ الْمَنْعِ مِنْ الثَّانِي قَبْلَ بُلُوغِ الْكِتَابِ أَجَلَهُ أَنْ تُمْنَعَ مِمَّا تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ إلَى طَمَعِهَا فِي الرِّجَالِ وَطَمَعِهِمْ فِيهَا بِالزِّينَةِ وَالْخِضَابِ وَالتَّطَيُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ صَارَتْ مُحْتَاجَةً إلَى مَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا، فَأُبِيحَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُبَاحُ لِذَاتِ الزَّوْجِ، فَلَا شَيْءَ أَبْلَغَ فِي الْحُسْنِ مِنْ هَذَا الْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ، وَلَوْ اقْتَرَحَتْ عُقُولُ الْعَالَمِينَ لَمْ تَقْتَرِحْ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي مُسَاوَاةِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي مُسَاوَاةِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ] : وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْحُدُودِ، وَجَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِي الدِّيَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعَقِيقَةِ " فَهَذَا أَيْضًا مِنْ كَمَالِ شَرِيعَتِهِ وَحِكْمَتِهَا وَلُطْفِهَا؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَمَصْلَحَةَ الْعُقُوبَاتِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَحَاجَةُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ إلَيْهَا كَحَاجَةِ الصِّنْفِ الْآخَرِ؛ فَلَا يَلِيقُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، نَعَمْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فِي أَلْيَقِ الْمَوَاضِعِ بِالتَّفْرِيقِ وَهُوَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَخَصَّ وُجُوبَهُمَا بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْبُرُوزِ وَمُخَالَطَةِ الرِّجَالِ؛ وَكَذَلِكَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فِي عِبَادَةِ الْجِهَادِ الَّتِي لَيْسَ الْإِنَاثُ مِنْ أَهْلِهَا، وَسَوَّتْ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ لِاحْتِيَاجِ النَّوْعَيْنِ إلَى مَصْلَحَتِهِ، وَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ؛ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْمَرْأَةُ فِيهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ؛ لِحُكْمِهِ أَشَارَ إلَيْهَا الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ قَلِيلَةُ الضَّبْطِ لِمَا تَحْفَظُهُ. وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْعُقُولِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ وَالتَّمْيِيزِ؛ فَلَا تَقُومُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الرَّجُلِ، وَفِي مَنْعِ قَبُولِ شَهَادَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ إضَاعَةٌ لِكَثِيرٍ مِنْ الْحُقُوقِ وَتَعْطِيلٌ لَهَا، فَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْأُمُورِ وَأَلْصَقْهَا بِالْعُقُولِ، أَنْ ضَمَّ إلَيْهَا فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ نَظِيرَهَا لِتُذَكِّرَهَا إذَا نَسِيَتْ، فَتَقُومُ شَهَادَةُ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، وَيَقَعُ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا يَقَعُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَنْقَصُ مِنْ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ أَنْفَعُ مِنْهَا، وَيَسُدُّ مَا لَا تَسُدُّهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوِلَايَاتِ وَحِفْظِ الثُّغُورِ وَالْجِهَادِ وَعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَعَمَلِ الصَّنَائِعِ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعَالَمِ إلَّا بِهَا وَالذَّبِّ عَنْ الدُّنْيَا وَالدِّينِ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُتَسَاوِيَةً وَهِيَ الدِّيَةُ؛ فَإِنَّ دِيَةَ الْحُرِّ جَارِيَةٌ مَجْرَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ أَنْ جَعَلَ قِيمَتَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ قِيمَتِهِ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: لَكِنَّكُمْ نَقَضْتُمْ هَذَا فَجَعَلْتُمْ دِيَتَهُمَا سَوَاءٌ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ. قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إنَّ ذَلِكَ [مِنْ] السُّنَّةِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: هِيَ [عَلَى] النِّصْفِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ، فَجُبِرَتْ مُصِيبَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 بِمُسَاوَاتِهَا لِلرَّجُلِ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْجَنِينُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي الدِّيَةِ لِقِلَّةِ دِيَتِهِ، وَهِيَ الْغُرَّةُ، فَنَزَلَ مَا دُونَ الثُّلُثِ مَنْزِلَةَ الْجَنِينِ. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَحِكْمَةُ التَّفْضِيلِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ أَحْوَجُ إلَى الْمَالِ مِنْ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، وَالذَّكَرُ أَنْفَعُ لِلْمَيِّتِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الْأُنْثَى. وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَفَاوَتَ بَيْنَ مَقَادِيرِهَا {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] وَإِذَا كَانَ الذَّكَرُ أَنْفَعُ مِنْ الْأُنْثَى وَأَحْوَجُ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّفْضِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنْتَقَضُ بِوَلَدِ الْأُمِّ. قِيلَ: بَلْ طَرْدُ هَذِهِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ، فَالْقَرَابَةُ الَّتِي يَرِثُونَ بِهَا قَرَابَةَ أُنْثَى فَقَطْ، وَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ؛ فَلَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ ذَكَرِهِمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ، بِخِلَافِ قَرَابَةِ الْأَبِ. وَأَمَّا الْعَقِيقَةُ فَأَمْرُ التَّفْضِيلِ فِيهَا تَابِعٌ لِشَرَفِ الذَّكَرِ، وَمَا مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْأُنْثَى، وَلَمَّا كَانَتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْوَالِدِ أَتَمَّ، وَالسُّرُورُ وَالْفَرْحَةُ بِهِ أَكْمَلَ؛ كَانَ الشُّكْرَانُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَتْ النِّعْمَةُ كَانَ شُكْرُهَا أَكْثَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ زَمَانٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَمَكَانٍ فِي الْفَضْل] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ زَمَانٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَمَكَانٍ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَخَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَفَضَّلَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، مَعَ تَسَاوِيهَا - إلَخْ " فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى صَادِقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ كَاذِبَةٌ. وَمَا فَضَّلَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ إلَّا لِخَصَائِصَ قَامَتْ بِهَا اقْتَضَتْ التَّخْصِيصَ، وَمَا خَصَّ سُبْحَانَهُ شَيْئًا إلَّا بِمُخَصَّصٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا، وَاشْتِرَاكُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ فِي مُسَمًّى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلْ وَسَائِرِ الْأَجْنَاسِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّهَا. وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اسْتِوَاءَهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَالْمُخْتَلِفَاتُ تَشْتَرِكُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُتَّفِقَاتُ تَتَبَايَنُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَمُ وَأَعْلَمُ مِنْ أَنْ يُفَضِّلَ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِلَا صِفَةٍ تَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ، هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَحِكْمَتُهُ وَعَدْلُهُ تَأْبَى هَذَا وَهَذَا. وَقَدْ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَمَّنْ يَظُنُّ بِهِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ زَعْمَهُ الْبَاطِلَ، وَجَعَلَهُ حُكْمًا مُنْكَرًا، وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ لَبَطَلَتْ حُجَجُهُ وَأَدِلَّتُهُ؛ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، وَعَلَى أَلَّا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ فَلَا يَجْعَلُ الْأَبْرَارَ كَالْفُجَّارِ، وَلَا الْمُؤْمِنِينَ كَالْكُفَّارِ، وَلَا مَنْ أَطَاعَهُ كَمَنْ عَصَاهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَلَا الْعَالِمُ كَالْجَاهِلِ وَعَلَى هَذَا مَبْنَى الْجَزَاءِ؛ فَهُوَ حُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ وَالدِّينِيُّ، وَجَزَاؤُهُ الَّذِي هُوَ ثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ وَبِذَلِكَ حَصَلَ الِاعْتِبَارُ، وَلِأَجْلِهِ ضُرِبَتْ الْأَمْثَالُ، وَقُصَّتْ عَلَيْنَا أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، وَيَكْفِي فِي بُطْلَانِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَتْرُوكِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِمُسَاوَاةِ ذَاتِ جِبْرِيلَ لِذَاتِ إبْلِيسَ وَذَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لِذَاتِ أَعْدَائِهِمْ، وَمَكَانِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بِمَكَانِ الْحُشُوشِ وَبُيُوتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الذَّوَاتِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ الذَّاتُ عَنْ هَذِهِ الذَّاتِ بِمَا خُصَّتْ بِهِ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُرَجِّحَةِ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ بِلَا مُوجِبٍ، بَلْ قَالُوا ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَجْسَامِ، وَأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ، فَجِسْمُ الْمِسْكِ عِنْدَهُمْ مُسَاوٍ لِجِسْمِ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ، وَإِنَّمَا امْتَازَ عَنْهُ بِصِفَةٍ عَرَضِيَّةٍ، وَجِسْمُ الثَّلْجِ عِنْدَهُمْ مُسَاوٍ لِجِسْمِ النَّارِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا مِمَّا خَرَجُوا بِهِ عَنْ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَكَابَرُوا فِيهِ الْحِسَّ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَمَا سِوَى اللَّهِ بَيْنَ جِسْمِ السَّمَاءِ وَجِسْمِ الْأَرْضِ، وَلَا بَيْنَ جِسْمِ النَّارِ وَجِسْمِ الْمَاءِ، وَلَا بَيْنَ جِسْمِ الْهَوَاءِ وَجِسْمِ الْحَجَرِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِينَ فِي ذَلِكَ إلَّا الِاشْتِرَاكُ فِي أَمْرِ عَامٍّ، وَهُوَ قَبُولُ الِانْقِسَامِ وَقِيَامُ الْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ وَالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ التَّشَابُهَ فَضْلًا عَنْ التَّمَاثُلِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي الْحُكْمِ مَتَى اتَّفَقَتْ فِي مُوجِبِهِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي الْحُكْمِ مَتَى اتَّفَقَتْ فِي مُوجِبِهِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ الشَّرِيعَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، كَمَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ " فَغَيْرُ مُنْكَرٍ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعَادَاتِ اشْتِرَاكُ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهَا فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ اشْتِرَاكِهَا فِي أَمْرٍ يَكُونُ عِلَّةً لِحُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَعَلَى هَذَا فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ اشْتَرَكَا فِي الْإِتْلَافِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ، وَإِنْ افْتَرَقَا فِي عِلَّةِ الْإِثْمِ، وَرَبْطِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِأَسْبَابِهَا، وَهُوَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ الَّذِي لَا تَتِمُّ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِهِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأَ دِيَةِ الْقَتِيلِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُعْتَمَدُ التَّكْلِيفُ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّائِمَ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا مِنْ الشَّرَائِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهَا؛ فَلَوْ لَمْ يَضْمَنُوا جِنَايَاتِ أَيْدِيهِمْ لَأَتْلَفَ بَعْضُهُمْ أَمْوَالَ بَعْضٍ، وَادَّعَى الْخَطَأَ وَعَدَمَ الْقَصْدِ. وَهَذَا بِخِلَافِ أَحْكَامِ الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَاتِ؛ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمُخَالَفَةِ وَكَسْبِ الْعَبْدِ وَمَعْصِيَتِهِ؛ فَفَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَكَذَلِكَ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ فَيَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وَأَمَّا جَمْعُهَا بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ وَلَا بِعَدَمِهَا، وَاَلَّذِينَ سَوُّوا بَيْنَهُمَا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْوَالَ سَبَبًا فِي ثُبُوتِهَا، وَهِيَ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ فِي نَفْسِ هَذَا الْمَالِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهُ مُكَلَّفًا أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، كَمَا جَعَلَ فِي مَالِهِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ عَلَى بَهَائِمِهِ وَرَقِيقِهِ وَأَقَارِبِهِ؛ فَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي مَالِهِ حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْفَأْرَةَ كَالْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْفَأْرَةَ كَالْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ] وَأَمَّا جَمْعُهَا بَيْنَ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ فِي الطَّهَارَةِ فَهَذَا حَقٌّ، وَأَيُّ تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ؟ وَكَأَنَّ السَّائِلَ رَأَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا تُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْحُكْمِ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّاةِ وَالذِّئْبِ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِطَهَارَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا حِلَّ وَلَا حُرْمَةَ، وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِنَجَاسَتِهِمَا لَكَانَ فِيهِ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ طُوفَانِهِمَا عَلَى النَّاسِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَعَلَى فُرُشِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَأَطْعِمَتِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْهِرَّةِ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ؛ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ ذَبِيحَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ مِثْلَ الْمَيْتَةِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ ذَبِيحَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ مِثْلَ الْمَيْتَةِ] وَأَمَّا جَمْعُهَا بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَذَبِيحَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ فِي التَّحْرِيمِ، وَبَيْنَ مَيْتَةِ الصَّيْدِ وَذَبِيحَةِ الْمُحْرِمِ لَهُ، فَأَيُّ تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ؟ وَكَأَنَّ السَّائِلَ رَأَى أَنَّ الدَّمَ لَمَّا احْتَقَنَ فِي الْمَيِّتَةِ كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِهَا، وَمَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ الْكَافِرُ غَيْرُ الْكِتَابِيِّ لَمْ يَحْتَقِنْ دَمُهُ؛ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَجَهْلٌ؛ فَإِنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ لَوْ انْحَصَرَتْ فِي احْتِقَانِ الدَّمِ لَكَانَ لِلسُّؤَالِ وَجْهٌ، فَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَتْ عِلَلُ التَّحْرِيمِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ انْتِفَاءِ بَعْضِهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ إذَا خَلَفَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَهَذَا أَمْرٌ مُطَّرِدٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. فَمَا الَّذِي يُنْكِرُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ سَوَّتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِهِمَا مَيْتَةً، وَقَدْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِ الْمَوْتِ، فَتَضَمَّنَتْ جَمْعَهَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَفْرِيقَهَا بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ؛ فَإِنَّ الذَّبْحَ وَاحِدٌ صُورَةً وَحِسًّا وَحَقِيقَةً؛ فَجُعِلَتْ بَعْضُ صُوَرِهِ مَخْرَجًا لِلْحَيَوَانِ عَنْ كَوْنِهِ مَيْتَةً وَبَعْضُ صُوَرِهِ مُوجِبًا لِكَوْنِهِ مَيْتَةً مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قِيلَ: الشَّرِيعَةُ لَمْ تُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الْمَيْتَةِ لُغَةً، وَإِنَّمَا سَوَّتْ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ؛ فَصَارَ اسْمُ الْمَيْتَةِ فِي الشَّرْعِ أَعَمَّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ، وَالشَّارِعُ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِالنَّقْلِ تَارَةً وَبِالتَّعْمِيمِ تَارَةً وَبِالتَّخْصِيصِ تَارَةً، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعُرْفِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا. وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالْخُبْثُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَظْهَرُ لَنَا وَقَدْ يَخْفَى، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يُنَصِّبْ عَلَيْهِ الشَّارِعُ عَلَامَةً غَيْرَ وَصْفِهِ، وَمَا كَانَ خَفِيًّا نَصَّبَ عَلَيْهِ عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى خُبْثِهِ؛ فَاحْتِقَانُ الدَّمِ فِي الْمَيْتَةِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ وَمَنْ أَهَلَّ بِذَبِيحَتِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَنَفْسُ ذَبِيحَةِ هَؤُلَاءِ أَكْسَبَتْ الْمَذْبُوحَ خُبْثًا أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ، وَلَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ الْأَوْثَانِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ عَلَى الذَّبِيحَةِ يُكْسِبُهَا خُبْثًا، وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ يُكْسِبُهَا طِيبًا، إلَّا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَذَوْقِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الذَّبَائِحِ فِسْقًا وَهُوَ الْخَبِيثُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ يُطَيِّبُهَا وَيَطْرُدُ الشَّيْطَانَ عَنْ الذَّابِحِ وَالْمَذْبُوحِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِذِكْرِ اسْمِهِ لَابَسَ الشَّيْطَانُ الذَّابِحَ وَالْمَذْبُوحَ، فَأَثَّرَ ذَلِكَ خُبْثًا فِي الْحَيَوَانِ، وَالشَّيْطَانُ يَجْرِي فِي مَجَارِي الدَّمِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالدَّمُ مَرْكَبُهُ وَحَامِلُهُ، وَهُوَ أَخْبَثُ الْخَبَائِثِ، فَإِذَا ذَكَرَ الذَّابِحُ اسْمَ اللَّهِ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مَعَ الدَّمِ فَطَابَتْ الذَّبِيحَةُ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ لَمْ يَخْرُجْ الْخُبْثُ. وَأَمَّا إذَا ذَكَرَ اسْمَ عَدُوِّهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَالْأَوْثَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الذَّبِيحَةَ خُبْثًا آخَرَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الذَّبِيحَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا يَقْرِنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا سَخَّرَهَا لِمَنْ يَذْكُرُ اسْمَهُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَنَالُهُ التَّقْوَى - وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِهَا وَذِكْرِ اسْمِهِ عَلَيْهَا - فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ عَلَيْهَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَكْلِهَا، وَكَانَتْ مَكْرُوهَةً لِلَّهِ، فَأَكْسَبَتْهَا كَرَاهِيَتَهُ لَهَا - حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهَا اسْمَهُ أَوْ ذَكَرَ عَلَيْهَا اسْمَ غَيْرِهِ - وَصْفَ الْخُبْثِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ فَمَا ذَبَحَهُ عَدُوُّهُ الْمُشْرِكُ بِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَخْبَثِ الْبَرِيَّةِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنْ فِعْلَ الذَّابِحِ وَقَصْدِهِ وَخُبْثِهِ لَا يُنْكَرُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْمَذْبُوحِ، كَمَا أَنَّ خَبُثَ النَّاكِحِ وَوَصْفِهِ وَقَصْدِهِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ إنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَقَ فِيهِ نُورُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الشَّرِيعَةِ وَضِيَاؤُهَا، وَبَاشَرَ قَلْبُهُ بَشَاشَةَ حِكَمِهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبَدَانِ، وَتَلَقَّاهَا صَافِيَةً مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَأَحْكَمَ الْعَقْدَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَطْمِسْ نُورَ حَقَائِقِهَا ظُلْمَةُ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. [فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي حُكْمِ التَّطْهِيرِ] فَصْلٌ: [الْحِكْمَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي حُكْمِ التَّطْهِيرِ] وَأَمَّا جَمْعُهَا بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي التَّطْهِيرِ فَاَللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ مِنْ جَمْعٍ، وَأَلْطَفَهُ وَأَلْصَقَهُ بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ؛ وَقَدْ عَقَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْإِخَاءَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ قَدَرًا وَشَرْعًا؛ فَجَمَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَخَلَقَ مِنْهُمَا آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، فَكَانَا أَبَوَيْنِ اثْنَيْنِ لِأَبَوَيْنَا وَأَوْلَادِهِمَا؛ وَجَعَلَ مِنْهُمَا حَيَاةَ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَأَخْرَجَ مِنْهُمَا أَقْوَاتَ الدَّوَابِّ وَالنَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، وَكَانَا أَعَمَّ الْأَشْيَاءِ وُجُودًا، وَأَسْهَلَهَا تَنَاوُلًا، وَكَانَ تَعْفِيرُ الْوَجْهِ فِي التُّرَابِ لِلَّهِ مِنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ عَقْدُ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا قَدَرًا أَحْكَمَ عَقْدٍ وَأَقْوَاهُ كَانَ عَقْدُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا شَرْعًا أَحْسَنَ عَقْدٍ وَأَصَحَّهُ، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37] . [ذَمُّ الْغَضَبِ وَتَنْفِيذِ الْحَقِّ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ] فَصْلٌ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَاعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ " وَفِي لَفْظِ: " وَاعْرِفْ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمَدْ فِيمَا تَرَى إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ ". فَلْنَرْجِعْ إلَى شَرْحِ بَاقِي كِتَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: " وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ، وَالتَّنَكُّرِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، أَوْ الْخُصُومِ - شَكَّ أَبُو عُبَيْدٍ - فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ مِمَّا يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذُّخْرَ ". هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ: [ذَمُّ الْغَضَبِ] . أَحَدُهُمَا: التَّحْذِيرُ مِمَّا يَحُولُ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ، وَتَجْرِيدِ قَصْدِهِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ خَيْرَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ، وَالْغَضَبُ وَالْقَلَقُ وَالضَّجَرُ مُضَادٌّ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْغَضَبَ غَوْلُ الْعَقْلِ يَغْتَالُهُ كَمَا تَغْتَالُهُ الْخَمْرُ، وَلِهَذَا «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَالْغَضَبُ نَوْعٌ مِنْ الْغَلْقِ وَالْإِغْلَاقِ الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 يُغْلِقُ عَلَى صَاحِبِهِ بَابَ حُسْنِ التَّصَوُّرِ وَالْقَصْدِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابَيْهِ الشَّافِي وَزَادِ الْمُسَافِرِ، وَعَقَدَ لَهُ بَابًا، فَقَالَ فِي كِتَابِ الزَّادِ: بَابِ النِّيَّةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِغْلَاقِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: عَنْ عَائِشَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتْقَ فِي إغْلَاقٍ» فَهَذَا الْغَضَبُ، وَأَوْصَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِوَلِيِّ أَمْرٍ فَقَالَ: إيَّاكَ وَالْغَلْقَ وَالضَّجَرَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْغَلْقِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَقٍّ، وَصَاحِبُ الضَّجَرِ لَا يَصِيرُ عَلَى حَقٍّ. [الصَّبْرُ عَلَى الْحَقِّ] . وَالْأَمْرُ الثَّانِي: التَّحْرِيضُ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ، وَجَعْلِ الرِّضَا بِتَنْفِيذِهِ فِي مَوْضِعِ الْغَضَبِ وَالصَّبْرُ فِي مَوْضِعِ الْقَلَقِ وَالضَّجَرِ، وَالتَّحَلِّي بِهِ وَاحْتِسَابِ ثَوَابِهِ فِي مَوْضِعِ التَّأَذِّي؛ فَإِنَّ هَذَا دَوَاءُ ذَلِكَ الدَّاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَضَعْفِهَا؛ فَمَا لَمْ يُصَادِفْهُ هَذَا الدَّوَاءُ فَلَا سَبِيلَ إلَى زَوَالِهِ؛ هَذَا مَعَ مَا فِي التَّنَكُّرِ لِلْخُصُومِ مِنْ إضْعَافِ نُفُوسِهِمْ، وَكَسْرِ قُلُوبِهِمْ، وَإِخْرَاسِ أَلْسِنَتِهِمْ عَنْ التَّكَلُّمِ بِحُجَجِهِمْ خَشْيَةَ مَعَرَّةِ التَّنَكُّرِ، وَلَا سِيَّمَا أَنْ يَتَنَكَّرَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الدَّاءُ الْعُضَالُ. [لِلَّهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عُبُودِيَّةٌ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ] وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ مِمَّا يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذُّخْرَ " هَذَا عُبُودِيَّةُ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهُمْ وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عُبُودِيَّةٌ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ، سِوَى الْعُبُودِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي سَوَّى بَيْنَ عِبَادِهِ فِيهَا؛ فَعَلَى الْعَالِمِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ نَشْرُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مَا لَيْسَ عَلَى الْجَاهِلِ، وَعَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى الْحَاكِمِ مِنْ عُبُودِيَّةِ إقَامَةِ الْحَقِّ وَتَنْفِيذِهِ وَإِلْزَامِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْجِهَادِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ عَلَى الْمُفْتِي. وَعَلَى الْغَنِيِّ مِنْ عُبُودِيَّةِ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي فِي مَالِهِ مَا لَيْسَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَعَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ مَا لَيْسَ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُمَا. وَتَكَلَّمَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ يَوْمًا فِي الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: هَذَا وَاجِبٌ قَدْ وُضِعَ عَنَّا، فَقَالَ: هَبِي أَنَّهُ قَدْ وُضِعَ عَنْكُنَّ سِلَاحُ الْيَدِ وَاللِّسَانِ، فَلَمْ يُوضَعْ عَنْكُنَّ سِلَاحُ الْقَلْبِ، فَقَالَتْ: صَدَقْت جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَقَدْ غَرَّ إبْلِيسُ أَكْثَرَ الْخَلْقِ بِأَنْ حَسَّنَ لَهُمْ الْقِيَامَ بِنَوْعٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِانْقِطَاعِ، وَعَطَّلُوا هَذِهِ الْعُبُودِيَّاتِ، فَلَمْ يُحَدِّثُوا قُلُوبَهُمْ بِالْقِيَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 بِهَا، وَهَؤُلَاءِ عِنْدَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ دِينًا؛ فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ، فَتَارِكُ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ أَسْوَأُ حَالًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُرْتَكِبِ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا ذَكَرَهَا شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ؛ وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَأْيٌ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالدِّينِ هُمْ أَقَلُّ النَّاسِ دِينًا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيْرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ وَحُدُودَهُ تُضَاعُ وَدِينَهُ يُتْرَكُ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْغَبُ عَنْهَا وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ؟ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا سَلَّمْت لَهُمْ مَآكِلَهُمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟ ، وَخِيَارُهُمْ الْمُتَحَزِّنُ الْمُتَلَمِّظُ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ بَذَلَ وَتَبَذَّلَ وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ وُسْعِهِ. وَهَؤُلَاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ - قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّهُ الْقَلْبُ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى، وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَثَرًا «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إلَى مَلِكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَنْ اخْسِفْ بِقَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَفِيهِمْ فُلَانُ الْعَابِدُ؟ فَقَالَ: بِهِ فَابْدَأْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِي يَوْمًا قَطُّ» . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْت بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَقَدْ اكْتَسَبْت بِهِ الْعِزَّ، وَلَكِنْ مَاذَا عَمِلَتْ فِيمَا لِي عَلَيْك؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ لَك عَلَيَّ؟ قَالَ: هَلْ وَالَيْت فِي وَلِيًّا أَوْ عَادَيْت فِي عَدُوًّا» ؟ [فَصَلِّ إخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى] فَصْلٌ [إخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى] . قَوْلُهُ: " فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَانَهُ اللَّهُ " هَذَا شَقِيقُ كَلَامِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ مِشْكَاةِ الْمُحَدِّثِ الْمُلْهَمِ، وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ، وَمِنْ أَحْسَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا نَفْعُ غَيْرِهِ، وَانْتَفَعَ غَايَةَ الِانْتِفَاعِ: فَأَمَّا الْكَلِمَةُ الْأُولَى فَهِيَ مَنْبَعُ الْخَيْرِ وَأَصْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ أَصْلُ الشَّرِّ وَفَصْلُهُ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا خَلَصَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ قَصْدُهُ وَهَمُّهُ وَعَمَلُهُ لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ كَانَ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مَعَهُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وَرَأْسُ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ خُلُوصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ فِي إقَامَةِ الْحَقِّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا غَالِبَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَغْلِبُهُ أَوْ يَنَالُهُ بِسُوءٍ؟ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَ الْعَبْدِ فَمَنْ يَخَافُ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَمَنْ يَرْجُو؟ وَبِمَنْ يَثِقُ؟ وَمَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَعْدِهِ؟ فَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِالْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، وَكَانَ قِيَامُهُ بِاَللَّهِ وَلِلَّهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَادَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لَكَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَتَهَا، وَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا؛ وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَبْدُ مِنْ تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا، أَوْ فِي وَاحِدٍ؛ فَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ فِي بَاطِلٍ لَمْ يُنْصَرْ، وَإِنْ نُصِرَ نَصْرًا عَارِضًا فَلَا عَاقِبَةَ لَهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ مَخْذُولٌ، وَإِنْ قَامَ فِي حَقٍّ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ فِيهِ لِلَّهِ وَإِنَّمَا قَامَ لِطَلَبِ الْمَحْمَدَةِ وَالشَّكُورِ وَالْجَزَاءِ مِنْ الْخَلْقِ أَوْ التَّوَصُّلِ إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَالْقِيَامُ فِي الْحَقِّ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، فَهَذَا لَمْ تُضْمَنْ لَهُ النُّصْرَةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا ضَمِنَ النُّصْرَةَ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، لَا لِمَنْ كَانَ قِيَامُهُ لِنَفْسِهِ وَلِهَوَاهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَلَا مِنْ الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ نُصِرَ فَبِحَسَبِ مَا مَعَهُ مِنْ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ إلَّا الْحَقَّ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّوْلَةُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ فَبِحَسَبِ مَا مَعَهُمْ مِنْ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ مَنْصُورٌ أَبَدًا؛ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُحِقًّا كَانَ مَنْصُورًا لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِبَةٌ، وَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ فِي الْحَقِّ لِلَّهِ وَلَكِنْ قَامَ بِنَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِاَللَّهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُفَوِّضًا إلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ فَلَهُ مِنْ الْخِذْلَانِ وَضَعْفِ النُّصْرَةِ بِحَسَبِ مَا قَامَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدَيْنِ فِي أَمْرِ اللَّهِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَصَاحِبُهُ مُؤَيَّدٌ مَنْصُورٌ وَلَوْ تَوَالَتْ عَلَيْهِ زُمَرُ الْأَعْدَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا دَاوُد أَنْبَأْنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ أَسْخَطَ النَّاسَ بِرِضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَفَاهُ اللَّهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسُخْطِ اللَّهِ وَكَّلَهُ إلَى النَّاسِ. [الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَا] وَالْعَبْدُ إذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا هَلْ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةٌ فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ طَاعَةً، فَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ هُوَ مُعَانٌ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَانًا عَلَيْهِ فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ فَيُذِلَّ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعَانًا عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ نَظَرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ بَابِهِ؛ فَإِنْ أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَضَاعَهُ أَوْ فَرَّطَ فِيهِ أَوْ أَفْسَدَ مِنْهُ شَيْئًا؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ أَصْلُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَفَلَاحِهِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الْعَبْدِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] الْفَاتِحَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ عُدِمَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَنَصِيبُهُ مِنْ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَعْدُومٌ أَوْ ضَعِيفٌ؛ فَهَذَا مَخْذُولٌ مُهِينٌ مَحْزُونٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِنْ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَوِيًّا وَنَصِيبُهُ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ضَعِيفًا أَوْ مَفْقُودًا؛ فَهَذَا لَهُ نُفُوذٌ وَتَسَلُّطٌ وَقُوَّةٌ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، بَلْ عَاقِبَتُهُ أَسْوَأُ عَاقِبَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَلَكِنْ نَصِيبُهُ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى الْمَقْصُودِ ضَعِيفٌ جِدًّا، كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ قَلَّ عِلْمُهُمْ بِحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ " إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي قِيَامُهُ فِي الْحَقِّ لِلَّهِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ أَوَّلَ قَائِمٍ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قِيَامُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِمَّنْ أَهْمَلَ الْقِيَامَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ؟ وَخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا تَسْمَعُونَ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: لَا نَسْمَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إنَّك قَسَّمْت عَلَيْنَا ثَوْبًا ثَوْبًا وَعَلَيْك ثَوْبَانِ، فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ. يَا عَبْدَ اللَّهِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَشَدْتُك اللَّهَ الثَّوْبُ الَّذِي ائْتَزَرْتُ بِهِ أَهْوَ ثَوْبُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ سَلْمَانُ: أَمَّا الْآنَ فَقُلْ نَسْمَعْ. [فَصَلِّ الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَعُقُوبَتُهُ] فَصْلٌ [الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَعُقُوبَتُهُ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَانَهُ اللَّهُ " لِمَا كَانَ الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ ضِدَّ الْمُخْلِصِ - فَإِنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَمْرًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ - عَامَلَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ؛ فَإِنَّ الْمُعَاقَبَةَ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْلِصُ يُعَجَّلُ لَهُ مِنْ ثَوَابِ إخْلَاصِهِ الْحَلَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْمَهَابَةُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ عُجِّلَ لِلْمُتَزَيِّنِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ شَانَهُ اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ شَانَ بَاطِنَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مُوجِبٌ أَسْمَاءَ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَحِكْمَتِهِ فِي قَضَائِهِ وَشَرْعِهِ. هَذَا، وَلَمَّا كَانَ مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالدِّينِ وَالنُّسُكِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلَوَازِمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ افْتَضَحَ، فَيَشِينُهُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ يَزِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَخْفَى عَنْ النَّاسِ مَا أَظْهَرَ لِلَّهِ خِلَافَهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ عُيُوبِهِ لِلنَّاسِ مَا أَخْفَاهُ عَنْهُمْ، جَزَاءً لَهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الصَّحَابَةِ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قَالُوا: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا وَالْقَلْبَ غَيْرَ خَاشِعٍ؛ وَأَسَاسُ النِّفَاقِ وَأَصْلُهُ هُوَ التَّزَيُّنُ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْإِيمَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ، وَهُمَا مِنْ أَنْفَعِ الْكَلَامِ، وَأَشْفَاهُ لِلسَّقَامِ. [فَصَلِّ أَعْمَالُ الْعِبَادِ] فَصْلٌ [أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ الْمَقْبُولُ مِنْهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ] وَقَوْلُهُ: " فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا " وَالْأَعْمَالُ أَرْبَعَةٌ: وَاحِدٌ مَقْبُولٌ، وَثَلَاثَةٌ مَرْدُودَةٌ؛ فَالْمَقْبُولُ مَا كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا وَلِلسُّنَّةِ مُوَافِقًا، وَالْمَرْدُودُ مَا فُقِدَ مِنْهُ الْوَصْفَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَقْبُولَ هُوَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا عُمِلَ لِوَجْهِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّهَا، بَلْ يَمْقُتُهَا وَيَمْقُتُ أَهْلَهَا، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَخْلُصُ الْعَمَلِ وَأَصْوَبُهُ، فَسُئِلَ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الْعَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَالْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ مَقْبُولٌ؛ فَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ مَحْضًا وَلَا لِلنَّاسِ مَحْضًا، فَمَا حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ؟ هَلْ يَبْطُلُ الْعَمَلُ كُلُّهُ أَمْ يَبْطُلُ مَا كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَصِحُّ مَا كَانَ لِلَّهِ؟ قِيلَ: هَذَا الْقِسْمُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ الْأَوَّلُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الْإِخْلَاصُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ وَإِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ فِي أَثْنَائِهِ، فَهَذَا الْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْبَاعِثِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَفْسَخْهُ بِإِرَادَةٍ جَازِمَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ قَطْعِ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ وَفَسْخِهَا، أَعْنِي قَطْعَ تَرْكِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهَا؛ الثَّانِي: عَكْسَ هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ الْأَوَّلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ قَلْبَ النِّيَّةِ لِلَّهِ، فَهَذَا لَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا مَضَى مِنْ الْعَمَلِ، وَيُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ حِينِ قَلْبِ نِيَّتِهِ؛ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا يَصِحُّ آخِرُهَا إلَّا بِصِحَّةِ أَوَّلِهَا وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ، كَالصَّلَاةِ، وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ كَمَنْ أَحْرَمَ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَلَبَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ عِنْدَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الثَّالِثُ: أَنْ يَبْتَدِئَهَا مُرِيدًا بِهَا اللَّهَ وَالنَّاسَ، فَيُرِيدُ أَدَاءَ فَرْضِهِ وَالْجَزَاءَ وَالشَّكُورَ مِنْ النَّاسِ، وَهَذَا كَمَنْ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ، فَهُوَ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الْأُجْرَةَ صَلَّى، وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ وَلِلْأُجْرَةِ، وَكَمَنْ يَحُجُّ لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْهُ وَيُقَالُ فُلَانٌ حَجَّ، أَوْ يُعْطِي الزَّكَاةَ كَذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْعَمَلُ. وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهِ لَمْ تُوجَدْ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ تَجْرِيدُ الْقَصْدِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِهَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ؛ وَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . [فَصَلِّ جَزَاءُ الْمُخْلِصِ] فَصْلٌ [جَزَاءُ الْمُخْلِصِ] وَقَوْلُهُ: " فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ " يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ جَزَاءِ الْمُخْلِصِ وَأَنَّهُ رِزْقٌ عَاجِلٌ إمَّا لِلْقَلْبِ أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لَهُمَا. وَرَحْمَتُهُ مُدَّخَرَةٌ فِي خَزَائِنِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا بُدَّ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يُوفِيهِ أَجْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] فَمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَيْسَ جَزَاءُ تَوْفِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ نَوْعًا آخَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] وَهَذَا نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ آتَى خَلِيلَهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ وَحَيَاتِهِ الطَّيِّبَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ أَجْرُ تَوْفِيَةٍ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا أَجْرَيْنِ: عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُكَمَّلُ لَهُ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وَقَالَ فِيهَا عَنْ خَلِيلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ غَيْرِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لِسِرٍّ بَدِيعٍ، فَإِنَّهَا سُورَةُ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا، فَعَرَّفَ عِبَادَهُ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ النِّعَمِ أَضْعَافَ هَذِهِ بِمَا لَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُهُ، وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ بَعْضِ نِعَمِهِ الْعَاجِلَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُ زَادَهُمْ إلَى هَذِهِ النِّعَمِ نِعَمًا أُخْرَى، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ تَمَامَ التَّوْفِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] فَلِهَذَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: " فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ ". فَهَذَا بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] ذِكْرُ تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَذِكْرِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ [إثْمُ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] قَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا يَتَمَارَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ» فَأَمَرَ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكِلَهُ إلَى عَالِمِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْقَوْلَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عُذْرُهَا قَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَهَا، قَالَتْ: فَقُلْت: أَلَا عَذَرْتنِي عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت مَا لَا أَعْلَم،؟ وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ آيَةٍ، فَقَالَ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ وَأَيْنَ أَذْهَبُ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ عَزَّةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ: وَأَبْرَدَهَا عَلَى كَبِدِي، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ. [عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَمْسٌ إذَا سَافَرَ فِيهِنَّ رَجُلٌ إلَى الْيَمَنِ كُنَّ فِيهِ عِوَضًا مِنْ سَفَرِهِ: لَا يَخْشَى عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ، وَلَا يَسْتَحِي مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَلَا يَسْتَحْيِ مَنْ يَعْلَمُ إذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، وَالصَّبْرُ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ نَمْشِي، فَلَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَأَلْت عَنْك فَدُلِلْت عَلَيْك، فَأَخْبِرْنِي أَتَرِثُ الْعَمَّةُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَنْتَ لَا تَدْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ؛ اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَاسْأَلْهُمْ؛ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَبَّلَ يَدَيْهِ قَالَ: نِعَمًا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ بِهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ: " اللَّهُ أَعْلَمُ " فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ شَدِيدَةٍ قَالَ: رُبَّ ذَاتِ وَبَرٍ لَا تَنْقَادُ وَلَا تَنْسَاقُ؛ وَلَوْ سُئِلَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ لَعَضَلَتْ بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حُصَيْنٍ الْأَسَدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لِيُفْتِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَأَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ جَاهِلًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: مِنْ إكْرَامِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَاَللَّهِ لَا نَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَسْأَلُونَنَا عَنْهُ، وَلَأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلًا إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: " لَا أَعْلَمُ " فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ. وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ هُرْمُزَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ " لَا أَدْرِي "، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: " لَا أَدْرِي " نِصْفُ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لَا يَعْلَمُ: إنِّي أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: إذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ " لَا أَدْرِي " أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. [طَرِيقَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ] وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى مَالِكٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَمَكَثَ أَيَّامًا مَا يُجِيبُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَأَطْرَقَ طَوِيلًا وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، يَا هَذَا إنِّي أَتَكَلَّمُ فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَسْت أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخَرْقِ، قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ لِي مَالِكٌ وَهُوَ يُنْكِرُ كَثْرَةَ الْجَوَابِ فِي الْمَسَائِلِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا عَلِمْت فَقُلْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُقَلِّدَ النَّاسَ قِلَادَةَ سُوءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو خَلْدَةَ وَكَانَ نِعْمَ الْقَاضِي: يَا رَبِيعَةُ، أَرَاك تُفْتِي النَّاسَ، فَإِذَا جَاءَك الرَّجُلُ يَسْأَلُك فَلَا يَكُنْ هَمُّك أَنْ تَتَخَلَّصَ مِمَّا سَأَلَك عَنْهُ. وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَكَادُ يُفْتِي إلَّا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَجَبْت فِي الْفَتْوَى حَتَّى سَأَلْت مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي: هَلْ تَرَانِي مَوْضِعًا لِذَلِكَ؟ سَأَلْت رَبِيعَةَ، وَسَأَلْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، فَأَمَرَانِي بِذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَلَوْ نَهَوْك؟ قَالَ: كُنْت أَنْتَهِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَوْلَاهُ عِكْرِمَةَ: اذْهَبْ فَأَفْتِ النَّاسَ وَأَنَا لَك عَوْنٌ، فَمَنْ سَأَلَك عَمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ، وَمَنْ سَأَلَك عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ، فَإِنَّك تَطْرَحُ عَنْ نَفْسِك ثُلُثَ مُؤْنَةِ النَّاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فَوَائِدُ تَكْرِيرِ السُّؤَالِ] وَكَانَ أَيُّوبُ إذَا سَأَلَهُ السَّائِلُ قَالَ لَهُ: أَعِدْ، فَإِنْ أَعَادَ السُّؤَالَ كَمَا سَأَلَهُ عَنْهُ أَوَّلًا أَجَابَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُجِبْهُ، وَهَذَا مِنْ فَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَزْدَادُ وُضُوحًا وَبَيَانًا بِتَفَهُّمِ السُّؤَالِ، وَمِنْهَا أَنَّ السَّائِلَ لَعَلَّهُ أَهْمَلَ فِيهَا أَمْرًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فَإِذَا أَعَادَهَا رُبَّمَا بَيَّنَهُ لَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَسْئُولَ قَدْ يَكُونُ ذَاهِلًا عَنْ السُّؤَالِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَحْضُرُ ذِهْنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رُبَّمَا بَانَ لَهُ تَعَنُّتُ السَّائِلِ وَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِذَا غَيَّرَ السُّؤَالَ وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ فَرُبَّمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَنَّهَا مِنْ الْأُغْلُوطَاتِ أَوْ غَيَّرَ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي لَا يَجِبُ الْجَوَابُ عَنْهَا؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ بِالظَّنِّ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ صَارَتْ حَالَ ضَرُورَةٍ فَيَكُونُ التَّوْفِيقُ إلَى الصَّوَابِ أَقْرَبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَوْلِ فِي التَّقْلِيدِ وَانْقِسَامِهِ] [أَنْوَاعُ مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ] ذِكْرُ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي التَّقْلِيدِ وَانْقِسَامِهِ إلَى مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ فِيهِ وَالْإِفْتَاءُ بِهِ، وَإِلَى مَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِلَى مَا يَسُوغُ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ. [أَنْوَاعُ مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ] فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْإِعْرَاضُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. الثَّانِي: تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمُقَلِّدُ أَنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ. الثَّالِثُ: التَّقْلِيدُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُقَلَّدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَوَّلَ قَلَّدَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، وَهَذَا قَلَّدَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ لَهُ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَذُمُّ فِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ وَقَنَعَ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا ذَمَّ مَنْ قَلَّدَ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَلَمْ يَذُمَّ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قَلَّدَ الْعُلَمَاءَ الْمُهْتَدِينَ، بَلْ قَدْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدُهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَهَذَا أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَعْلَمُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ إلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّقْلِيدِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا تَقْلِيدُ مَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَقَلَّدَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَمَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّقْلِيدِ الْوَاجِبِ وَالسَّائِغِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُنَزَّلِ خَاصَّةً، وَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَزَّلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي خِلَافِهِ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَمَنَعَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِ رَسُولِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ التَّقْلِيدَ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] وَلَا وَلِيجَةَ أَعْظَمُ مِمَّنْ جَعَلَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ مُخْتَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ الْأُمَّةِ، يُقَدِّمُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَعْرِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا قَبِلَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا تَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ وَتَطَلَّبَ لَهُ وُجُوهَ الْحِيَلِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَلِيجَةً فَلَا نَدْرِي مَا الْوَلِيجَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وَهَذَا نَصٌّ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فِيهِ ذَمُّ مَنْ قَلَّدَ مَنْ أَضَلَّهُ السَّبِيلَ، أَمَّا مَنْ هُدَاهُ السَّبِيلَ فَأَيْنَ ذَمَّ اللَّهُ تَقْلِيدَهُ؟ قِيلَ: جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ، فَإِنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَتْبَعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ فَهَذَا الْمُقَلِّدُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 بِمُقَلِّدٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى فِي تَقْلِيدِهِ؟ وَهَذَا جَوَابُ كُلِّ سُؤَالٍ يُورِدُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَنَّهُمْ [إنْ كَانُوا] إنَّمَا يُقَلِّدُونَ أَهْلَ الْهُدَى فَهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ عَلَى هُدًى. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الدِّينِ عَلَى هُدًى، فَمُقَلَّدُوهُمْ عَلَى هُدًى قَطْعًا؛ لِأَنَّهُمْ سَالِكُونَ خَلْفَهُمْ. قِيلَ: سُلُوكُهُمْ خَلْفَهُمْ مُبْطِلٌ لِتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ قَطْعًا؛ فَإِنَّ طَرِيقَتَهُمْ كَانَتْ اتِّبَاعَ الْحُجَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَمَنْ تَرَكَ الْحُجَّةَ وَارْتَكَبَ مَا نَهَوْا عَنْهُ وَنَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ قَبْلَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ. وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مَنْ اتَّبَعَ الْحُجَّةَ، وَانْقَادَ لِلدَّلِيلِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ رَجُلًا بِعَيْنِهِ سِوَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْعَلُهُ مُخْتَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْرِضُهُمَا عَلَى قَوْلِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ فَهْمِ مَنْ جَعَلَ التَّقْلِيدَ اتِّبَاعًا، وَإِيهَامَهُ وَتَلْبِيسَهُ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِتْبَاعِ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ الْحَقَائِقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمُتَّبِعِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ. [الْفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ] . قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي الْجَامِعِ: بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِتْبَاعِ، قَوْلُ أَبُو عُمَرَ: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِك، وَانْتَهَيْت إلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا، قَالَ: بَلَى، أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أُحِلَّ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ فَقُلْت: بَلَى، قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» . قُلْت: الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] أَمَّا إنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّبَوِيَّةُ. وَقَالَ وَكِيعٌ: ثنا سُفْيَانُ وَالْأَعْمَشُ جَمِيعًا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] : أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانُوا يَحِلُّونَ لَهُمْ الْحَرَامَ فَيَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] فَمَنَعَهُمْ الِاقْتِدَاءَ بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَقَالُوا: إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 166 - 167] وَقَالَ تَعَالَى مُعَاتِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] وَقَالَ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أُولَئِكَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرَ فَأَذْنَبَ وَقَلَّدَ آخَرَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْآثَامُ فِيهِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] . قَالَ: فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي إلَّا مِنْ أَعْمَالِ ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَرَكْت فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . [مَضَارُّ زَلَّةِ الْعَالِمِ] قُلْت: وَالْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ جَمَعُوا بَيْنَ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِهِ وَبَيَانِ زَلَّةِ الْعَالِمِ لِيُبَيِّنُوا بِذَلِكَ فَسَادَ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَزِلُّ وَلَا بُدَّ؛ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ كُلِّ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 يَقُولُهُ، وَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ مَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَعْصُومِ؛ فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَحَرَّمُوهُ، وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَهُوَ أَصْلُ بَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ وَفِتْنَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ الْعَالِمَ فِيمَا زَلَّ فِيهِ وَفِيمَا لَمْ يَزِلَّ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُونَ الدِّينَ بِالْخَطَأِ - وَلَا بُدَّ - فَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَيُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يُشَرِّعْ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةً عَمَّنْ قَلَّدُوهُ، وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ مِنْهُ وَلَا بُدَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ» . وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَشَدُّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ» . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَخُوفَ فِي زَلَّةِ الْعَالِمِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا؛ إذْ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَخَفْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا زَلَّةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْخَطَأِ عَلَى عَمْدٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا زَلَّةٌ فَهُوَ أَعْذَرُ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا مُفْرِطٌ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عُمَرُ: يُفْسِدُ الزَّمَانَ ثَلَاثَةٌ: أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ إلَّا قَالَ حِينَ يَجْلِسُ: اللَّهُ حَكَمُ قِسْطٍ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلَالَةُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ ". قُلْت لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ لِي: اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْبِهَاتِ الَّتِي يُقَالُ مَا هَذِهِ، وَلَا يُثْنِيَك ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ، وَتَلْقَ الْحَقَّ إذَا سَمِعْته، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ، ثُمَّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: فَيَلْقَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَرْجِعُ وَيَقْضِي الْأَتْبَاعُ بِمَا حَكَمَ. وَقَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ: اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ؟ قُلْ: يَزِلُّ بِالنَّاسِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ الْعَالِمُ وَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا مَعْشَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الْعَرَبِ كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ: دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ، وَإِنْ اُفْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنْهُ إيَاسَكُمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْتَتِنُ ثُمَّ يَتُوبُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَهُ مَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَمَا شَكَكْتُمْ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ لَا فَلَيْسَ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ: كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ؟ فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ، وَأَمَّا مُجَادَلَةُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوهُ، وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ، وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَتُشَبَّهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَإِذَا صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَزِلُّ وَيُخْطِئُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُمَرَ: كَمَا أَنَّ الْقُضَاةَ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ فَالْمَفْتُونَ ثَلَاثَةٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي كَوْنِ الْقَاضِي يُلْزَمُ بِمَا أَفْتَى بِهِ، وَالْمُفْتِي لَا يُلْزَمُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فَسَأَلْت سُفْيَانَ عَنْ الْإِمَّعَةِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَدْعُو الْإِمَّعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إلَى الطَّعَامِ فَيَأْتِي مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمْ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو النَّصْرِيُّ: ثنا أَبُو مُسْهِرٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ حَدِيثَكُمْ شَرُّ الْحَدِيثِ، إنَّ كَلَامَكُمْ شَرُّ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 حَدَّثْتُمْ النَّاسَ حَتَّى قِيلَ: قَالَ فُلَانٌ وَقَالَ فُلَانٌ، وَيَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَائِمًا فَلْيَقُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلْيَجْلِسْ؛ فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ لِأَفْضَلِ قَرْنٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ مَا أَصْبَحْنَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ ، فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، [كَلَامُ عَلِيٍّ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ] قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ -: يَا كُمَيْلُ، إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. ثُمَّ قَالَ: آهْ إنَّ هَهُنَا عِلْمًا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ - لَوْ أَصَبْت لَهُ حَمَلَةٌ، بَلْ قَدْ أَصَبْت لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، أَوْ حَامِلُ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إحْيَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ. [نَهْيُ الصَّحَابَةِ عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ] وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يُقَلِّدْنَ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، يَسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَنْ فَهِمَهُ وَهُدًى لِرُشْدِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: اضْطَجَعَ رَبِيعَةُ مُقَنِّعًا رَأْسَهُ وَبَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيَك؟ فَقَالَ: رِيَاءٌ ظَاهِرٌ، وَشَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ، وَالنَّاسُ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي إمَامِهِمْ: مَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ انْتَهَوْا، وَمَا أُمِرُوا بِهِ ائْتَمَرُوا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ بَهِيمَةٍ تَنْقَادُ وَإِنْسَانٌ يُقَلِّدُ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَامِعِ بْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي نُعَيْمَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُ إفْتَاءٌ بِغَيْرِ ثَبْتٍ؛ فَإِنَّ الثَّبْتَ الْحُجَّةُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ [الِاحْتِجَاجُ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجٍ نَظَرِيَّةٍ] وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجِ نَظَرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ، فَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَنَا أُورِدُهُ، قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ: هَلْ لَك مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا حَكَمْت بِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: " نَعَمْ " بَطَلَ التَّقْلِيدُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ. وَإِنْ قَالَ: " حَكَمْت بِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ " قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَأَتْلَفْت الْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] أَيْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا. فَإِنْ قَالَ: " أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْت وَإِنْ لَمْ أَعْرِفْ الْحُجَّةَ لِأَنِّي قَلَّدْت كَبِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ " قِيلَ لَهُ: إذَا جَازَ تَقْلِيدُ مُعَلِّمِك لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْك فَتَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى مُعَلِّمِك كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْك، فَإِنْ قَالَ: " نَعَمْ " تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلَّمِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَى حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نَقَضَ قَوْلَهُ، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَلَا تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ عِلْمًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟ فَإِنْ قَالَ: " لِأَنَّ مُعَلِّمِي وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِهِ فَهُوَ أَبْصَرُ بِمَا أُخِذَ وَأَعْلَمُ بِمَا تُرِكَ " قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمِك فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مُعَلِّمِك وَعِلْمَ مَنْ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِهِ، فَيَلْزَمُك تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك، وَكَذَلِكَ أَنْتَ أَوْلَى أَنْ تُقَلِّدَ نَفْسَك مِنْ مُعَلِّمِك؛ لِأَنَّك جَمَعْت عِلْمَ مُعَلِّمِك وَعِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِك، فَإِنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ جَعَلَ الْأَصْغَرَ وَمَنْ يُحَدِّثُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 صِغَارِ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ، وَالتَّابِعُ مِنْ دُونِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ، وَالْأَعْلَى لِلْأَدْنَى أَبَدًا، وَكَفَى بِقَوْلٍ يُؤَوِّلُ إلَى هَذَا تَنَاقُضًا وَفَسَادًا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَمَنْ بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ، قَالُوا: وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ، وَمِنْ هَهُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْبَخْتَرِيُّ: عَرَفَ الْعَالِمُونَ فَضْلَكَ بِالْعِلْمِ ... وَقَالَ الْجُهَّالُ بِالتَّقْلِيدِ وَأَرَى النَّاسَ مُجْمِعِينَ ... عَلَى فَضْلِكَ مِنْ بَيْنِ سَيِّدٍ وَمَسُودِ [التَّقْلِيدُ وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّين] [التَّقْلِيدُ وَالِاتِّبَاعُ] وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ: مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنْ اتَّبَعْت قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْك قَبُولُهُ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّلِيلَ عَلَيْك اتِّبَاعُ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ، وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ. وَقَالَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي أَخْبَارِ سَحْنُونِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى ابْنِ هُرْمُزَ، فَكَانَ إذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا، وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوه لَا يُجِيبُهُمْ، فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يَسْأَلُك مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُك أَنَا وَذَوِيَّ فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ، إذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ، وَإِنْ سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ، وَأَنْتَ وَذَوُوك مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ. قَالَ ابْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاَللَّهِ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ، لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ مِنْ الْعِقَابِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْت بِهِ وَخَالَفْت السَّلَفَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا؟ فَإِنْ قَالَ: " قَلَّدْت لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أُحْصِهَا، وَاَلَّذِي قَلَّدْته قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَقَلَّدْت مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي " قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْعُلَمَاءُ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ أَوْ حِكَايَةٍ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا قَلَّدْت فِيهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا حُجَّتُك فِي تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَكُلُّهُمْ عَالِمٌ؟ وَلَعَلَّ الَّذِي رَغِبْت عَنْ قَوْلِهِ أَعْلَمُ مَنْ الَّذِي ذَهَبْت إلَى مَذْهَبِهِ، فَإِنْ قَالَ: " قَلَّدْته لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ " قِيلَ لَهُ: عَلِمْت ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ؟ فَإِنْ قَالَ: " نَعَمْ " أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ، وَطُولِبَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ، وَإِنْ قَالَ: " قَلَّدْته لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي " قِيلَ لَهُ: فَقَلِّدْ كُلَّ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك، فَإِنَّك تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلَا تَخُصَّ مَنْ قَلَّدْته إذْ عِلَّتُك فِيهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْك، فَإِنْ قَالَ: " قَلَّدْته لِأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ " قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ إذًا أَعْلَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَفَى بِقَوْلٍ مِثْلِ هَذَا قُبْحًا، فَإِنْ قَالَ: " أَنَا أُقَلِّدُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ " قِيلَ لَهُ: فَمَا حُجَّتُك فِي تَرْكِ مَنْ لَمْ تُقَلِّدْ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مَنْ تَرَكْت قَوْلَهُ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَخَذْت بِقَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ لِفَضْلِ قَائِلِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ قَالَ: عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَيْسَ كَمَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يَتْبَعُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . فَإِنْ قَالَ: " قِصَرِي وَقِلَّةُ عِلْمِي يَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ " قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ عَالِمًا يُتَّفَقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيَصْدُرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْبَرُهُ فَمَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمٍ فِيمَا جَهِلَهُ؛ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَيُصَيِّرُهَا إلَى غَيْرِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ صِحَّتَهُ وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ مُخَالَفَةً فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبُ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ؟ فَإِنْ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَنْ جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى لِحِفْظِهِ الْفُرُوعَ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ، وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَرَدًّا لِلْقُرْآنِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنْهَا كَانَ إثْمُهَا عَلَيْهِ» مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا. قَالَ وَهْبٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي فَسَادِ التَّقْلِيدِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ مُسِنَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْعِلْمَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» وَمِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ» وَكَانَ يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ. ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] قَالَ: بِالْعِلْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قَالَ: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] قَالَ: بِالْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ [نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ] . وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَذَمُّوا مَنْ أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ، يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرَتْ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ، لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ، مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فِيهِ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ أَتْبَعُ مِنْ مَالِكٍ؟ قَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ، ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدَ الرَّجُلِ فِيهِ مُخَيَّرٌ. وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعَتْهُ يَقُولُ: الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا. وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا. وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلِهِ؟ ، وَقَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا وَضَعُوا كُتُبًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: ثنا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِكَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِكَذَا، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ مَالِكٌ: وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ عُمَرَ؟ قُلْت: إنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ كَمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ] . فَصْلٌ فِي عَقْدِ [مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ] فِي عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ. قَالَ الْمُقَلِّدُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ، فَقَالَ فِي «حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ: أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» . وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ: " وَإِنَّى سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ " فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقْضِي فِيهَا، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ: كَانَ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتُونَ النَّاسَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ جُنْدُبٌ: مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً، فَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فَافْعَلُوا» فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ. قَالَ الْمُقَلَّدُ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ - وَهُمْ الْعُلَمَاءُ، أَوْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ - وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لَهُمْ، فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ: أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ. وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ، وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا، وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً. وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا؛ إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا» فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ظَاهِرٌ فِي تَقْلِيدِهِ لَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ، وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللَّحْمَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا، وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا، وَالْقَدَرُ قَدْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ. وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُهْدِينَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ فِي كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتَهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَمَا يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ. وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ، وَيُبَاحُ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ. «وَقَدْ قَالَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَرْضَعْتُك وَأَرْضَعْت امْرَأَتَك، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرَاقِهَا وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ» . وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ: فِي الضَّبُعِ بَعِيرٌ، قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ: إنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْت بِقَوْلِ زَيْدٍ، وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْجَدِيدِ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ: لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إلَّا تَقْلِيدُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا. وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيُصَرِّحُ فِي مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. وَيَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَفْعَلُهُ. وَلَوْ جَمَعْنَا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَطَالَ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحَابَةِ: رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا، وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ مَعَهُ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ، إلَّا بِهَذَا، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ، وَقَدْ فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبَدَانِ، فَلَا يُحْسَنُ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ وَالْجَوَابَ عَنْ مُعَارِضِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا؛ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا عَالِمًا، وَهَذَا مُتَعَلِّمًا، وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا لَهُ يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ؟ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ، فَهَلْ فَرَضَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَتِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا؟ وَهَلْ ذَلِكَ فِي إمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا؟ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ، وَلَا يَقُولُونَ لَهُ: عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَلْبَتَّةَ، وَهَلْ التَّقْلِيدُ إلَّا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ. وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ، وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا. وَنَقُولُ لِمَنْ احْتَجَّ عَلَى إبْطَالِهِ: كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا؛ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَلَيْسَ بِيَدِك إلَّا تَقْلِيدَ الرَّاوِي، وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَك تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ وَمَنْعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ، وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ، وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ، فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ، وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ، وَفُرِضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا عَقَلَهُ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا؟ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ: أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلَّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ؟ فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لَمْ تُعْطُوهُ، نَاطِقِينَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ؟ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ، فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ، وَكُنْتُمْ بِهِ عَنْ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ، أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ، وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ، وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قُلْت: لَسْنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ، وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ، وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ، حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ، فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إلَيْهِ، وَبُرْهَانٌ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِيَّ مِنْ الْعَاطِلِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ، وَنَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ، وَأَوْصَوْهُمْ إذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتَّبِعُوهُ، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتُهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَفَسَادِهِ؛ إذْ طَرِيقُ ذَلِكَ مَسْدُودَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَتْبُوعِهِ لَا يُفَارِقُ قَوْلَهُ، وَيَتْرُكُ لَهُ كُلَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَتْبُوعِهِ أَوْ نَظِيرِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ فَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا. وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ، فَلْيَكْذِبْنَا الْمُقَلَّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَالْمُقَلَّدُونَ لِمَتْبُوعِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ يُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَيُحَرِّمُونَهَا، وَلَا يَدْرُونَ أَذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ، عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَلَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ مَوْقِفٌ شَدِيدٌ يَعْلَمُ فِيهِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ. وَأَيْضًا فَنَقُولُ لِكُلِّ مَنْ قَلَّدَ وَاحِدًا مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِ: مَا الَّذِي خَصَّ صَاحِبَك أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: " لِأَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ عَصْرِهِ " وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مَعَ جَزْمِهِ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بَعْدَهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك وَلَسْت مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَهَادَتِك عَلَى نَفْسِك أَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ؟ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْمَذَاهِبَ وَأَدِلَّتَهَا وَرَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فَمَا لِلْأَعْمَى وَنَقْدِ الدَّرَاهِمِ؟ ، وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ آخَرُ مِنْ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَيُقَالُ لَهُ ثَانِيًا فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمُ مِنْ صَاحِبِك بِلَا شَكٍّ، فَهَلَّا قَلَّدْتهمْ وَتَرَكْته؟ بَلْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَمْثَالُهُمْ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ، فَلِمَ تَرَكْتَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ الْأَجْمَعِ لِأَدَوَاتِ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَرَغِبْت عَنْ أَقْوَالِهِ وَمَذَاهِبِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: " لِأَنَّ صَاحِبِي وَمَنْ قَلَّدْته أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَتَقْلِيدِي لَهُ أَوْجَبَ عَلَيَّ مُخَالَفَةَ قَوْلِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته؛ لِأَنَّ وُفُورَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لِدَلِيلٍ صَارَ إلَيْهِ هُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ " قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُك الَّذِي زَعَمْت أَنْتَ أَنَّهُ صَاحِبُك أَوْلَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ نَظِيرُهُ؟ وَقَوْلَانِ مَعًا مُتَنَاقِضَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا، بَلْ أَحَدُهُمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظَفَرَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ بِالصَّوَابِ أَقْرَبُ مِنْ ظَفَرِ مَنْ هُوَ دُونَهُ. فَإِنْ قُلْت: " عَلِمْت ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ " فَهَهُنَا إذًا قَدْ انْتَقَلْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 عَنْ مَنْصِبِ التَّقْلِيدِ إلَى مَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَبْطَلْت التَّقْلِيدَ. ثُمَّ يُقَالُ لَك ثَالِثًا: هَذَا لَا يَنْفَعُك شَيْئًا أَلْبَتَّةَ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّدْته وَمَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك قَدْ اخْتَلَفَا، وَصَارَ مَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك إلَى مُوَافَقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ دُونَ مَنْ قَلَّدْته، فَهَلَّا نَصَحْت نَفْسَك وَهُدِيت لِرُشْدِك وَقُلْت: هَذَانِ عَالِمَانِ كَبِيرَانِ، وَمَعَ أَحَدِهِمَا مَنْ ذُكِرَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِتَقْلِيدِي إيَّاهُ. وَيُقَالُ لَهُ رَابِعًا إمَامٌ بِإِمَامٍ، وَيَسْلَمُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ. وَيُقَالُ خَامِسًا: إذَا جَازَ أَنْ يَظْفَرَ مَنْ قَلَّدْته بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَذَوِيهِمْ فَأَحَقُّ وَأَحَقُّ وَأَجْوَزُ وَأَجْوَزُ أَنْ يَظْفَرَ نَظِيرُهُ وَمَنْ بَعْدَهُ بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَيْهِ هُوَ؛ فَإِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ نَظِيرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ أَقْرَبُ بِكَثِيرٍ مِنْ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْخَفَاءُ عَلَى مَنْ قَلَّدْته أَقْرَبُ مِنْ الْخَفَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ. وَيُقَالُ سَادِسًا: إذَا سَوَّغْت لِنَفْسِك مُخَالِفَةَ الْأَفْضَلِ الْأَعْلَمِ لِقَوْلِ الْمَفْضُولِ فَهَلَّا سَوَّغْت لَهَا مُخَالَفَةَ الْمَفْضُولِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ؟ وَهَلْ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي وَيَجِبُ إلَّا عَكْسُ مَا ارْتَكَبْت؟ وَيُقَالُ سَابِعًا: هَلْ أَنْتَ فِي تَقْلِيدِ إمَامِك وَإِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَنَقْلِهَا عَمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ أُمَّتِهِ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ فَإِنْ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بُطْلَانَهُ، وَإِنْ قَالَ: " لَا " فَقَدْ كَفَانَا مُؤْنَتَهُ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ ثَامِنًا: تَقْلِيدُك لِمَتْبُوعِك يَحْرُمُ عَلَيْك تَقْلِيدُهُ؛ فَإِنَّهُ نَهَاك عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ بِقَوْلِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَنَهَاك عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كُنْت مُقَلِّدًا لَهُ فِي جَمِيعِ مَذْهَبِهِ فَهَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ، فَهَلَّا اتَّبَعْته فِيهِ؟ وَيُقَالُ تَاسِعًا: هَلْ أَنْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ سَائِرِ مَنْ رَغِبْت مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ أَمْ لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: " أَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ " قَالَ: مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ، وَإِنْ قَالَ: " لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ " وَهُوَ الْحَقُّ قِيلَ لَهُ: فَمَا عُذْرُك غَدًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ حِينَ لَا يَنْفَعُك مَنْ قَلَّدْته بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَحْمِلُ عَنْك سَيِّئَةً وَاحِدَةً، إذَا حَكَمْت وَأَفْتَيْت بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، هَلْ هُوَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ؟ وَيُقَالُ عَاشِرًا: هَلْ تَدَّعِي عِصْمَةَ مَتْبُوعِك أَوْ تُجَوِّزُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ؟ وَالْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، بَلْ تُقِرُّ بِبُطْلَانِهِ؛ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِذَا جَوَّزْت عَلَيْهِ الْخَطَأَ فَكَيْفَ تُحَلِّلُ وَتُحَرِّمُ وَتُوجِبُ وَتُرِيقُ الدِّمَاءَ وَتُبِيحُ الْفُرُوجَ وَتَنْقُلُ الْأَمْوَالَ وَتَضُرُّ الْأَبْشَارَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْتَ مُقِرٌّ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُخْطِئًا. وَيُقَالُ حَادِي عَشَرَ: هَلْ تَقُولُ إذَا أَفْتَيْت أَوْ حَكَمْت بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته: إنَّ هَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ وَشَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَلَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ؟ أَوْ تَقُولُ: إنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ خِلَافُهُ؟ أَوْ تَقُولُ: لَا أَدْرِي؟ وَلَا بُدَّ لَك مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَلَا سَبِيلَ لَك إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الْأَوَّلِ قَطْعًا؛ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ مُخَالِفِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْآثِمِينَ، وَالثَّانِي لَا تَدَّعِيهِ، فَلَيْسَ لَك مَلْجَأٌ إلَّا الثَّالِثُ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ تُسْتَبَاحُ الْفُرُوجُ وَالدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ وَتُحَلَّلُ وَتُحَرَّمُ بِأَمْرٍ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلُهَا " لَا أَدْرِي "؟ فَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وَإِنْ كُنْت تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ. وَيُقَالُ ثَانِي عَشَرَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمْ أَقْوَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ؟ وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ جَعَلْتُمُوهَا أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ، أَفَكَانَ النَّاسُ قَبْلَ وُجُودِ هَؤُلَاءِ عَلَى هُدًى أَوْ عَلَى ضَلَالَةٍ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُقِرُّوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَمَا الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ غَيْرُ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَتَقْدِيمِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا، وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهَا دُونَ قَوْلِ فُلَانٍ أَوْ رَأْيِ فُلَانٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْهُدَى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ فَإِنْ قَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: صَاحِبُنَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَاقْتَفَى مَنَاهِجَهُمْ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ هَلْ شَارَكَ صَاحِبَكُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُكُمْ بِالِاتِّبَاعِ وَحُرِمَهُ مَنْ عَدَاهُ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ قَالُوا بِالثَّانِي فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ وَفَّقْتُمْ لِقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِكُمْ كُلِّهِ، وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ كُلِّهِ، فَلَا يُرَدُّ لِهَذَا قَوْلٌ، وَلَا يُقْبَلُ لِهَذَا قَوْلٌ، حَتَّى كَأَنَّ الصَّوَابَ وَقْفٌ عَلَى صَاحِبِكُمْ وَالْخَطَأَ وَقْفٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَلِهَذَا أَنْتُمْ مُوَكَّلُونَ بِنُصْرَتِهِ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ، وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى مَعَكُمْ. وَيُقَالُ ثَالِثَ عَشَرَ: فَمَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَدْ نَهَوْكُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ، يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا، حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا. وَيُقَالُ رَابِعَ عَشَرَ: هَلْ أَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّكُمْ غَدًا مَوْقُوفُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، وَتُسْأَلُونَ عَمَّا قَضَيْتُمْ بِهِ فِي دِمَاءِ عِبَادِهِ وَفُرُوجِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَعَمَّا أَفْتَيْتُمْ بِهِ فِي دِينِهِ مُحَرِّمِينَ وَمُحَلِّلِينَ وَمُوجِبِينَ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: " نَحْنُ مُوقِنُونَ بِذَلِكَ " فَيُقَالُ لَهُمْ: فَإِذَا سَأَلَكُمْ: " مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ " فَمَاذَا جَوَابُكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: " جَوَابُنَا إنَّا حَلَّلْنَا وَحَرَّمْنَا وَقَضَيْنَا بِمَا فِي كِتَابِ الْأَصْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِمَّا رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي الْأُمِّ مِنْ رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبِمَا فِي جَوَابَاتِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ صَعِدْتُمْ إلَيْهِ أَوْ سَمَتْ هِمَمُكُمْ نَحْوَهُ، بَلْ نَزَلْتُمْ عَنْ ذَلِكَ طَبَقَاتٍ، فَإِذَا سُئِلْتُمْ: هَلْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِي أَوْ أَمْرِ رَسُولِي؟ فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُكُمْ إذًا؟ فَإِنْ أَمْكَنَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَقُولُوا " فَعَلْنَا مَا أَمَرْتنَا بِهِ وَأَمَرَنَا بِهِ رَسُولُك " فُزْتُمْ وَتَخَلَّصْتُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولُوا: لَمْ تَأْمُرْنَا بِذَلِكَ وَلَا رَسُولُك وَلَا أَئِمَّتُنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ، وَكَأَنْ قَدْ. وَيُقَالُ خَامِسَ عَشَرَ: إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا، فَبِمَذْهَبِ مَنْ يَحْكُمُ؟ وَبِرَأْيِ مَنْ يَقْضِي؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ وَلَا يَقْضِي إلَّا بِشَرِيعَةِ نَبِيّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي يَقْضِي بِهِ أَحَقُّ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْضُوا بِهِ وَتُفْتُوا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْضِيَ وَلَا يُفْتِيَ بِشَيْءٍ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ سَوَاءٌ، قِيلَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ نَفْتَرِقُ فِي الْجَوَابِ فَنَقُولُ: يَا رَبَّنَا إنَّك تَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عِيَارًا عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك، وَنَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَنَتَحَاكَمُ إلَى قَوْلِهِ وَنُقَدِّمُ أَقْوَالَهُ عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك، وَكَانَ الْخَلْقُ عِنْدَنَا أَهْوَنَ أَنْ نُقَدِّمَ كَلَامَهُمْ وَآرَاءَهُمْ عَلَى وَحْيِكَ، بَلْ أَفْتَيْنَا بِمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِك، وَبِمَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِك وَبِمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّك، وَإِنْ عَدَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَخَطَأٌ مِنَّا لَا عَمْدٌ، وَلَمْ نَتَّخِذْ مِنْ دُونِك وَلَا دُونِ رَسُولِك وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، وَلَمْ نُفَرِّقْ دِينَنَا وَنَكُونُ شِيَعًا، وَلَمْ نُقَطِّعْ أَمْرَنَا بَيْنَنَا زُبُرًا. وَجَعَلْنَا أَئِمَّتَنَا قُدْوَةً لَنَا، وَوَسَائِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِك فِي نَقْلِهِمْ مَا بَلَّغُوهُ إلَيْنَا عَنْ رَسُولِك فَاتَّبَعْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَلَّدْنَاهُمْ فِيهِ، إذْ أَمَرْتَنَا أَنْتَ وَأَمَرَنَا رَسُولُك بِأَنْ نَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَنَقْبَلَ مَا بَلَّغُوهُ عَنْك وَعَنْ رَسُولِك، فَسَمْعًا لَك وَلِرَسُولِك وَطَاعَةً، وَلَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا نَتَحَاكَمُ إلَى أَقْوَالِهِمْ، وَنُخَاصِمُ بِهَا، وَنُوَالِي وَنُعَادِي عَلَيْهَا، بَلْ عَرَضْنَا أَقْوَالَهُمْ عَلَى كِتَابِك وَسُنَّةِ رَسُولِك، فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلْنَاهُ، وَمَا خَالَفَهُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ وَتَرَكْنَاهُ، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنَّا بِك وَبِرَسُولِك، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ رَسُولِك كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذَا جَوَابُنَا، وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ: هَلْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ حَتَّى يُمْكِنُكُمْ هَذَا الْجَوَابُ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ، وَلَا يَرُوجُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ؟ وَيُقَالُ سَادِسَ عَشَرَ: كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ طَوَائِفِ الْمُقَلَّدِينَ، قَدْ أَنْزَلْت جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ التَّابِعِينَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ إلَّا مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي مَكَانِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي فَتَاوَاهُ، وَلَا يُشْتَغَلُ بِهَا، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَلَا وَجْهَ لِلنَّظَرِ فِيهَا إلَّا لِلتَّمَحُّلِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ وَكَدِّهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 إذَا خَالَفَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَوِّغُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ نَصًّا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْوَاجِبُ التَّمَحُّلُ وَالتَّكَلُّفُ فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ النَّصِّ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَالتَّحَيُّلُ لِدَفْعِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ، فَيَا لِلَّهِ لِدِينِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِبِدْعَةٍ كَادَتْ تَثُلُّ عَرْشَ الْإِيمَانِ وَتَهُدُّ رُكْنَهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِهَذَا الدِّينِ أَنْ لَا يُزَالُ فِيهِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِأَعْلَامِهِ وَيَذُبُّ عَنْهُ، فَمَنْ أَسْوَأُ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِحُقُوقِهِمْ، وَأَقَلُّ رِعَايَةً لِوَاجِبِهِمْ، وَأَعْظَمُ اسْتِهَانَةً بِهِمْ، مِمَّنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا إلَى فَتْوَاهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ ، وَيُقَالُ سَابِعَ عَشَرَ: مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكُمْ أَيُّهَا الْمُقَلِّدُونَ أَنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، مَعَ سُهُولَتِهِ وَقُرْبِ مَأْخَذِهِ، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْبَيَانِ، وَاسْتِحَالَةِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْحَقِّ وَبَيَّنَ لِعِبَادِهِ مَا يَتَّقُونَ، فَادَّعَيْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا نَصَبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ وَتَوَلَّى بَيَانَهُ، ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ صَاحِبَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا فِي زَمَانِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَغُلَاةُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تُوجِبُ اتِّبَاعَهُ وَتُحَرِّمُ اتِّبَاعَ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِ أُصُولِهِمْ، فَعَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ فِيمَا نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْحَقِّ، وَلَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا، وَاهْتَدَى إلَى أَنَّ مَتْبُوعَهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ مِمَّنْ عَدَاهُ، وَلَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَاحِدًا. وَيُقَالُ ثَامِنَ عَشَرَ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مِنْ شَأْنِكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّكُمْ إذَا وَجَدْتُمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تُوَافِقُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ أَظْهَرْتُمْ أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِهَا، وَالْعُمْدَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَالَهُ، لَا عَلَى الْآيَةِ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ آيَةً نَظِيرَهَا تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهَا، وَتَطَلَّبْتُمْ لَهَا وُجُوهَ التَّأْوِيلِ وَإِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا حَيْثُ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ، وَهَكَذَا تَفْعَلُونَ فِي نُصُوصِ السُّنَّةِ سَوَاءً، وَإِذَا وَجَدْتُمْ حَدِيثًا صَحِيحًا يُوَافِقُ قَوْلَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ، وَقُلْتُمْ: " لَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْت وَكَيْت "، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ وَأَكْثَرَ تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَى حَدِيثٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَتَقُولُونَ: لَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مُرْسَلًا قَدْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً هُنَاكَ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ مُرْسَلٍ تُخَالِفُ رَأْيَهُ أَطَرَحْتُمُوهَا كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَقُلْتُمْ: لَا نَأْخُذُ بِالْمُرْسَلِ. وَيُقَالُ تَاسِعَ عَشَرَ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّكُمْ إذَا أَخَذْتُمْ بِالْحَدِيثِ مُرْسَلًا كَانَ أَوْ مُسْنَدًا مُوَافَقَتَهُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ ثُمَّ وَجَدْتُمْ فِيهِ حُكْمًا يُخَالِفُ رَأْيَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهِ فِي ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الْحُكْمِ، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِيمَا وَافَقَ رَأْيَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَ رَأْيَهُ. وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا طَرَفًا فَإِنَّهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ. [طَرَفٌ مِنْ تَخَبُّطِ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْأَخْذِ بِبَعْضِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا الْآخَرِ] [طَرَفٌ مِنْ تَخَبُّطِ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْأَخْذِ بِبَعْضِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا الْآخَرِ] : فَاحْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي سَلْبِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الرَّجُلِ» . وَقَالُوا: الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ أَعْضَائِهِمَا هُوَ فَضْلُ وُضُوئِهِمَا. وَخَالَفُوا نَفْسَ الْحَدِيثِ؛ فَجَوَّزُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَضَّأَ بِفَضْلِ طَهُورِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ إذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلْخَلْوَةِ أَثَرٌ، وَلَا لِكَوْنِ الْفَضْلَةِ فَضْلَةَ امْرَأَةٍ أَثَرٌ، فَخَالَفُوا نَفْسَ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ؛ إذْ فَضْلُ الْوُضُوءِ بِيَقِينٍ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي فَضَلَ مِنْهُ، لَيْسَ هُوَ الْمَاءَ الْمُتَوَضَّأَ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لَهُ فَضْلُ الْوُضُوءِ، فَاحْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَمْ يُرِدْ بِهِ، وَأَبْطَلُوا الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ بَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَمْ يُنَجِّسْهُ حَتَّى يَنْقُصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى نَجَاسَتِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» ثُمَّ قَالُوا: لَوْ غَمَسَهَا قَبْلَ غَسْلِهَا لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْمِسَهَا قَبْلَ الْغَسْلِ فَعَلَ. وَاحْتَجُّوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِحَفْرِ الْأَرْضِ الَّتِي بَالَ فِيهَا الْبَائِلُ وَإِخْرَاجِ تُرَابِهَا، ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجِبُ حَفْرُهَا، بَلْ لَوْ تُرِكَتْ حَتَّى يَبِسَتْ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ طَهُرَتْ. وَاحْتَجُّوا عَلَى مَنْعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» يَعْنِي الزَّكَاةَ. ثُمَّ قَالُوا: لَا تَحْرُمُ الزَّكَاةُ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ السَّمَكَ الطَّافِيَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْبَرِّ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ بِعَيْنِهِ وَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ مِنْ السَّمَكِ، وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا فِيهِ أَصْلًا غَيْرُ السَّمَكِ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الرَّأْيِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَوُلُوغِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا، بَلْ يُغْسَلُ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ثَلَاثًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَفْرِيقِهِمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ بَيْنَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَغَيْرِهِ بِحَدِيثٍ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ غُطَيْفٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ» . ثُمَّ قَالُوا: لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ فِي الزَّكَاةِ فِي زِيَادَةِ الْإِبِلِ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَوَّلِ الْفَرِيضَةِ فَيَكُونُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، وَخَالَفُوهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْهُ، ثُمَّ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ» وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فِي نَصِّ مَا فِيهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَهَذَا مِنْ إحْدَى الْعَجَائِبِ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا لَهُ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي تَقْدِيرِ الثَّلَاثِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِخِيَارِ الشَّرْطِ؛ فَاَلَّذِي أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَالَفُوهُ، وَاَلَّذِي احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا «بِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ الَّذِي كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبَيْعِ، فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَخَالَفُوا الْخَبَرَ كُلَّهُ، فَلَمْ يُثْبِتُوا الْخِيَارَ بِالْغَبْنِ وَلَوْ كَانَ يُسَاوِي عُشْرَ مِعْشَارٍ مَا بَذَلَهُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ قَالَ الْمُشْتَرِي: " لَا خِلَابَةَ " أَوْ لَمْ يَقُلْ، وَسَوَاءٌ غُبِنَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، لَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَفِّرَ، ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا: إنْ اسْتَفَّ دَقِيقًا أَوْ بَلَعَ عَجِينًا أَوْ إهْلِيلِجًا أَوْ طِيبًا أَفْطَرَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْقَيْءَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا: إنْ تَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 عَلَى مَا ادَّعَوْهُ فَقَدْ خَالَفُوهُ نَفْسَهُ فَقَالُوا: يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ وَمَحْرَمٍ. وَاحْتَجُّوا عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ جَازَ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَقَدْ بَطَلَ إحْرَامُهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَكْلِهَا وَبِالْجَزَاءِ عَلَى قَاتِلِهَا، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا. وَاحْتَجُّوا فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَأَعْطَى ابْنَةَ لَبُونٍ تُسَاوِي ابْنَةَ مَخَاضٍ أَوْ حِمَارًا يُسَاوِيهَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ وَفِيهِ: «مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ؛ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّاعِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا» . وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّونَ بِهِ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا أُرِيدَ بِهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُ أَسْبَابَهَا بِحَدِيثِ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» وَفِي لَفْظٍ: " فِي السَّفَرِ " وَلَمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَا أَثَرَ لِلسَّفَرِ وَلَا لِلْغَزْوِ فِي ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَرَ بِالْأُضْحِيَّةِ، وَأَنْ يُطْعَمَ مِنْهَا الْجَارُ وَالسَّائِلُ» فَقَالُوا: لَا يَجِبُ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهَا جَارٌ وَلَا سَائِلٌ. وَاحْتَجُّوا فِي إبَاحَةِ مَا ذَبَحَهُ غَاصِبٌ أَوْ سَارِقٌ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دُعِيَ إلَى الطَّعَامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَخَذَ لُقْمَةً قَالَ: إنِّي أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَخَذْتهَا مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ بِغَيْرِ عِلْمِ زَوْجِهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُطْعَمَ الْأَسَارَى.» وَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالُوا: ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ حَلَالٌ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ بِجِنَايَةِ الْمَوَاشِي، ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ، فَقَالُوا: مَنْ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ قَادَهَا أَوْ سَاقَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَنْ عَضَّتْ بِفَمِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَتْلَفَتْ بِرِجْلِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَاحْتَجُّوا عَلَى تَأْخِيرِ الْقَوَدِ إلَى حِينِ الْبُرْءِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ آخَرَ فِي رُكْبَتِهِ بِقَرْنٍ، فَطَلَبَ الْقَوَدَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَبْرَأَ، فَأَبَى، فَأَقَادَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ» الْحَدِيثَ، وَخَالَفُوهُ فِي الْقِصَاصِ مِنْ الطَّعْنَةِ فَقَالُوا: لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا. وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الزَّانِي بِأَمَةِ ابْنِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَخَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْأَبِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَمْ يُبِيحُوا لَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عُودَ أَرَاكٍ فَمَا فَوْقَهُ، وَأَوْجَبُوا حَبْسَهُ فِي دَيْنِهِ وَضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُكَبِّرُ إذَا قَالَ الْمُقِيمُ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " بِحَدِيثِ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْبِقُنِي بِآمِينَ» وَبِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِمَرْوَانَ: " لَا تَسْبِقُنِي بِآمِينَ " ثُمَّ خَالَفُوا الْخَبَرَ جِهَارًا فَقَالُوا: لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ وَلَا الْمَأْمُومُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَلَا أَثَرَ لِلْمَسْحِ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ بِالنَّاصِيَةِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عِنْدَهُمْ. وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ فِي اسْتِحْبَابِ مُسَاوَاةِ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» قَالُوا: وَالِائْتِمَامُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ سَوَاءً. ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِيهِ: «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ: «اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» وَخَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» . وَقَوْلُهُ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» فَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَدْ صَلَّى، وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهَا فَرْضًا لَازِمًا، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَا وَبِالْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فِي الْحَدِيثِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِيهِ، وَخَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَإِذَا قُلْت ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك» ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلدَّاخِلِ: أَصَلَّيْت يَا فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» وَخَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ جَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ. وَاحْتَجُّوا عَلَى كَرَاهِيَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُهُمْ رَافِعِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَقَالُوا: لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ وَيَكْفِيه غَيْرُهُ مِنْ كُلِّ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ. وَاحْتَجُّوا فِي اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ إذَا أَحْدَثَ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِالنَّاسِ» ، ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَأَبْطَلُوا صَلَاةَ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلُوا الْعَمَلَ بِهِ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ إنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى جَالِسًا لِمَرَضٍ صَلَّى الْمَأْمُومُونَ خَلْفَهُ قِيَامًا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ خَرَجَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَائِمًا، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ؛ وَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ» ، ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: إنْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ لِغَيْرِ حَدَثٍ، وَتَقَدَّمَ الْآخَرُ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامَيْنِ وَصَلَاةُ جَمْعِ الْمَأْمُومِينَ. وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِ صَوْمِ مَنْ أَكَلَ يَظُنُّهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بِاللَّيْلِ، لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ خَالَفُوهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: «وَكَانَ ابْنُ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْت أَصْبَحْت» ، وَعِنْدَهُمْ مَنْ أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَطَلَ صَوْمُهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِالْغَائِطِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا» وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ وَجَوَّزُوا اسْتِقْبَالَهَا وَاسْتِدْبَارَهَا بِالْبَوْلِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ شَرْطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ «أَنَّهُ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ» ، وَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَنْعَقِدُ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى الرَّدِّ بِحَدِيثِ: «تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ؛ عَتِيقَهَا، وَلَقِيطَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» وَلَمْ يَقُولُوا - بِالْحَدِيثِ فِي حِيَازَتِهَا - مَالَ لَقِيطِهَا، وَقَدْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاحْتَجُّوا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ: «الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَا رَحِمٍ فَلَمْ يَجِدُوا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ الْكُبْرَ مِنْ خُزَاعَةَ» وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ فِي أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يُعْطَى مَالُهُ لِلْكُبْرِ مِنْ قَبِيلَتِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي مَنْعِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ بِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «لَا يَرِثُ قَاتِلٌ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» فَقَالُوا بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ دُونَ آخِرِهِ وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْجِنَازَةِ إذَا خَافَ فَوْتَهَا بِحَدِيثِ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ فِي تَيَمُّمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَدِّ السَّلَامِ، ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَيَمَّمَ بِوَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ دُونَ ذِرَاعَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكْرَهُوا رَدَّ السَّلَامِ لِلْمُحْدِثِ وَلَمْ يَسْتَحِبُّوا التَّيَمُّمُ لِرَدِّ السَّلَامِ. وَاحْتَجُّوا فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى حَجَرَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لَهُ: ائْتِنِي بِأَحْجَارٍ، فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذِهِ رِكْسٌ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا هُوَ نَصٌّ فِيهِ، فَأَجَازُوا الِاسْتِجْمَارَ بِالرَّوْثِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِحَجَرَيْنِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ «بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ إذَا قَامَ حَمَلَهَا وَإِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ وَضَعَهَا» ، ثُمَّ قَالُوا: مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنْ الْعَجَبِ إبْطَالُهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَصْحِيحُهُمْ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةِ {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بِالْفَارِسِيَّةِ ثُمَّ يَرْكَعُ قَدْرَ نَفَسٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ، أَوْ لَا يَرْفَعُ بَلْ يَخِرُّ كَمَا هُوَ سَاجِدًا، وَلَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ يَدَيْهِ وَلَا رِجْلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَا جَبْهَتَهُ، بَلْ يَكْفِيهِ وَضْعُ رَأْسِ أَنْفِهِ كَقَدْرِ نَفَسٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِعْلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ فُسَاءٍ أَوْ ضُرَاطٍ أَوْ ضَحِكٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» ثُمَّ خَالَفُوا صَرِيحَهُ فَقَالُوا: إنْ أَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا وَقَدْ وَطِئَهَا الْبَارِحَةَ حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا اللَّيْلَةَ. وَاحْتَجُّوا فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَةِ «بِخَبَرِ بِنْتِ حَمْزَةَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا» ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَتْ الْخَالَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِلْبِنْتِ كَابْنِ عَمِّهَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا. وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي نَهْيِهِ عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: لَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ إذَا وَقَعَ كَذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِخَبَرٍ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَادَ يَهُودِيًّا مِنْ مُسْلِمٍ لَطَمَهُ» . ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: لَا قَوَدَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ لَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: «مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ» فَقَالُوا: لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدَ، ثُمَّ قَالُوا: لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «فِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ: مِنْهَا قَوْلُهُ: «وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَوْضِعِهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ» ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «فِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَفِيهِ: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: «إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» وَفِي لَفْظٍ: «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» فَقَالُوا: بَلْ هَذَا يَصْلُحُ وَلَيْسَ بِجَوْرٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِحَدِيثِ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِنَعْلَيْهِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا: لَوْ وَطِئَ الْعَذِرَةَ بِخُفَّيْهِ لَمْ يُطَهِّرْهُمَا التُّرَابُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِحَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ، ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فَقَالُوا: لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، بَلْ إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ الصَّحِيحِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ، وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّيَمُّمِ إنْ كَانَ الْجَرِيحُ أَكْثَرَ، وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ. وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ تَوْلِيَةِ أُمَرَاءَ أَوْ حُكَّامٍ أَوْ مُتَوَلِّينَ مَرَّتَيْنِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ» ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةِ مِنْ أَصَحِّ وِلَايَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهَا أَصَحُّ مِنْ كُلِّ وِلَايَاتِهِمْ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَضْمِينِ الْمُتْلِفِ مَا أَتْلَفَهُ وَيَمْلِكُ هُوَ مَا أَتْلَفَهُ بِحَدِيثِ «الْقَصْعَةِ الَّتِي كَسَرَتْهَا إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صَاحِبَةِ الْقَصْعَةِ نَظِيرَتَهَا» ، ثُمَّ خَالَفُوهُ جِهَارًا فَقَالُوا: إنَّمَا يَضْمَنُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِخَبَرِ الشَّاةِ الَّتِي ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُمَلِّكْهَا الذَّابِحَ، بَلْ أَمَرَ بِإِطْعَامِهَا الْأَسَارَى. وَاحْتَجُّوا فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ الْفَوَاكِهِ وَمَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ بِخَبَرِ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا أَنَّ فِيهِ: «فَإِذَا آوَاهُ إلَى الْجَرِينِ فَفِيهِ الْقَطْعُ» وَعِنْدَهُمْ لَا قَطْعَ فِيهِ آوَاهُ إلَى الْجَرِينِ أَوْ لَمْ يُؤْوِهِ، الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: «إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُقْطَعُ فِي هَذَا الْقَدْرِ، الثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْجَرِينُ حِرْزًا؛ فَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ ثَمَرًا يَابِسًا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ لَمْ يُقْطَعْ. وَاحْتَجُّوا فِي مَسْأَلَةِ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ الرَّجُلُ أَنَّ لَهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِخَبَرٍ فِيهِ «أَنَّ مَنْ جَاءَ بِآبِقٍ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ» ، وَخَالَفُوهُ جَهْرَةً فَأَوْجَبُوا أَرْبَعِينَ. وَاحْتَجُّوا عَلَى خِيَارِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِحَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ: «الشُّفْعَةُ كَحِلِّ الْعِقَالِ، وَلَا شُفْعَةَ لِصَغِيرٍ وَلَا لِغَائِبٍ، وَمَنْ مُثِّلَ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ» فَخَالَفُوا جَمِيعَ ذَلِكَ إلَّا قَوْلَهُ: «الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» . وَاحْتَجُّوا عَلَى امْتِنَاعِ الْقَوَدِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالسَّيِّدِ وَالْعَبْدِ بِحَدِيثِ: «لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ وَلَا سَيِّدٌ بِعَبْدِهِ» وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فَإِنَّ تَمَامَهُ: «وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ فَهُوَ حُرٌّ» . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ دُونَ الزَّانِي بِحَدِيثِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وَفِيهِ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ صَرِيحًا فَقَالُوا: الْأَمَةُ لَا تَكُونُ فِرَاشًا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَضَاءُ فِي أَمَةٍ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَوَطِئَهَا لَمْ يُحَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَصَارَتْ فِرَاشًا بِهَذَا الْعَقْدِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ، وَأُمُّ وَلَدِهِ وَسَرِيَّتُهُ الَّتِي يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَيْسَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ يُنْشِئُهَا مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَتَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي صَائِمٌ» ثُمَّ قَالُوا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ نَفْسِهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ بِأَنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ، وَفِي بَيْعِهِ إبْطَالٌ لِذَلِكَ، وَأَجَابُوا عَنْ بَيْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَبَّرَ بِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ خِدْمَتَهُ. ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ أَيْضًا. وَاحْتَجُّوا عَلَى إيجَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْأَرَاضِي وَالْأَشْجَارِ التَّابِعَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ» ثُمَّ خَالَفُوا نَصَّ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ فِيهِ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» فَقَالُوا: يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ إذْنِهِ، وَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ بَاعَ بَعْدَ إذْنِ شَرِيكِهِ فَهُوَ أَحَقُّ أَيْضًا بِالشُّفْعَةِ، وَلَا أَثَرَ لِلِاسْتِئْذَانِ وَلَا لِعَدَمِهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ أَقَلُّ مِنْ الزَّيْتِ الْمُفْرَدِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، ثُمَّ خَالَفُوهُ نَفْسَهُ، فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ نَوْعِهِ وَغَيْرِ نَوْعِهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ الْمُنْجَزَةَ كَالْوَصِيَّةِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي الثُّلُثِ «بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» . ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ فَقَالُوا: لَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ أَلْبَتَّةَ، وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسَهُ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّقْلِيدَ حَكَمَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، وَقَادَكُمْ إلَيْهِ قَهْرًا، وَلَوْ حَكَّمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى التَّقْلِيدِ لَمْ تَقَعُوا فِي مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إنْ كَانَتْ حَقًّا وَجَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الِانْقِيَادُ لَهَا، وَالْأَخْذُ بِمَا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا، فَإِمَّا أَنْ تُصَحَّحَ وَيُؤْخَذَ بِهَا فِيمَا وَافَقَ قَوْلَ الْمَتْبُوعِ، وَتُضَعَّفُ أَوْ تُرَدُّ إذَا خَالَفَتْ قَوْلَهُ، أَوْ تُؤَوَّلُ؛ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَأِ وَالتَّنَاقُضِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: عَارَضَ مَا خَالَفْنَاهُ مِنْهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعَارِضْ مَا وَافَقْنَاهُ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْهُ وَاطِّرَاحَهُ. قِيلَ: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً أَوْ مُحْكَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً لَمْ يُحْتَجَّ بِمَنْسُوخٍ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْكَمَةً لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَةُ شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ فِيمَا خَالَفْنَاهَا فِيهِ، وَمُحْكَمَةٌ فِيمَا وَافَقْنَاهَا فِيهِ. قِيلَ: هَذَا مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ يَتَضَمَّنُ مَا لَا عِلْمَ لِمُدَّعِيهِ بِهِ، [فَمُدَّعِيهِ] قَائِلٌ مَا لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ، فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّ مُعَارِضًا لَوْ قَلَبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا سَوَاءٌ لَكَانَتْ دَعْوَاهُ مِنْ جِنْسِ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَلَا فَرْقَ، وَكِلَاهُمَا مُدَّعٍ مَا لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ؛ فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إلَيْهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نَسْخِ الْمَنْسُوخِ مِنْهَا، أَوْ نَجْمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا الثَّانِي مُحَالٌ قَطْعًا، فَإِنَّ الْأُمَّةَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ، إلَّا سُنَّةً ظَاهِرَةَ النَّسْخِ مَعْلُومٌ لِلْأُمَّةِ نَاسِخُهَا، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ دُونَ الْمَنْسُوخِ، وَأَمَّا أَنْ تَتْرُكَ السُّنَنُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا، كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ. [خَالَفَ الْمُقَلِّدُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّتِهِمْ] الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ قَدْ ارْتَكَبَتْ مُخَالِفَةَ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَحْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ، وَسَلَكُوا ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَمَّا أَمْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَالْمُقَلِّدُونَ قَالُوا: إنَّمَا نَرُدُّهُ إلَى مَنْ قَلَّدْنَاهُ؛ وَأَمَّا أَمْرُ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْأَخْذِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَأَمَرَ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا، وَيُعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقَالَ الْمُقَلِّدُونَ: بَلْ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْنَاهُ، وَنُقَدِّمُهُ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَأَمَّا هَدْيُ الصَّحَابَةِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ يُقَلِّدُ رَجُلًا وَاحِدًا فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَيُخَالِفُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّ مِنْ أَقْوَالِهِ شَيْئًا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ شَيْئًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ وَأَقْبَحِ الْحَوَادِثِ؛ وَأَمَّا مُخَالِفَتُهُمْ لِأَئِمَّتِهِمْ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَحَذَّرُوا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وَأَمَّا سُلُوكُهُمْ ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ طَرِيقَهُمْ طَلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَضَبْطُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا وَعَرْضُهَا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبِلُوهُ، وَدَانُوا اللَّهَ بِهِ، وَقَضَوْا بِهِ، وَأَفْتَوْا بِهِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَرَدُّوهُ، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ لَا وَاجِبَةَ الِاتِّبَاعِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمُوا بِهَا أَحَدًا، وَلَا يَقُولُوا: إنَّهَا الْحَقُّ دُونَ مَا خَالَفَهَا، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْخَلَفُ فَعَكَسُوا الطَّرِيقَ، وَقَلَبُوا أَوْضَاعَ الدِّينِ، فَزَيَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَعَرَضُوهَا عَلَى أَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ، فَمَا وَافَقَهَا مِنْهَا قَالُوا لَنَا وَانْقَادُوا لَهُ مُذْعِنِينَ، وَمَا خَالَفَ أَقْوَالَ مَتْبُوعِهِمْ مِنْهَا قَالُوا: احْتَجَّ الْخَصْمُ بِكَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يَقْبَلُوهُ، وَلَمْ يَدِينُوا بِهِ. وَاحْتَالَ فُضَلَاؤُهُمْ فِي رَدِّهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَتَطَلَّبُوا لَهَا وُجُوهَ الْحِيَلِ الَّتِي تَرُدُّهَا، حَتَّى إذَا كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَذَاهِبِهِمْ وَكَانَتْ تِلْكَ الْوُجُوهُ بِعَيْنِهَا قَائِمَةً فِيهَا شَنَّعُوا عَلَى مُنَازِعِهِمْ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ رَدَّهَا بِتِلْكَ الْوُجُوهِ بِعَيْنِهَا، وَقَالُوا: لَا تُرَدُّ النُّصُوصُ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَنْ لَهُ هِمَّةٌ تَسْمُو إلَى اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَنَصْرِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَيْنَ كَانَ وَمَعَ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَسْلَكِ الْوَخِيمِ وَالْخُلُقِ الذَّمِيمِ. [ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّقْلِيدِ بِأَعْيَانِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يُفَرِّقُوا دِينَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شِيَعًا، بَلْ شِيعَةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ، وَإِيثَارِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ اتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهُمْ وَطَرِيقُهُمْ؛ فَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ، وَالْمُقَلَّدُونَ بِالْعَكْسِ: مَقَاصِدُهُمْ شَتَّى، وَطُرُقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَيْسُوا مَعَ الْأَئِمَّةِ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ. [ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ تُقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ زُبُرًا] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ الَّتِي رَغِبُوا بِهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] فَأَمَرَ تَعَالَى الرُّسُلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ أُمَمَهُمْ: أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الطَّيِّبَاتِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا صَالِحًا، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا أَمْرَهُ وَحْدَهُ، وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ؛ فَمَضَتْ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، قَابِلِينَ لِرَحْمَتِهِ، حَتَّى نَشَأَتْ خُلُوفٌ قَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ مِمَّا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَزَّلَهَا عَلَى الْوَاقِعِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَعَلِمَ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفَلَاحِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَالدَّاعُونَ إلَى الْخَيْرِ هُمْ الدَّاعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لَا الدَّاعُونَ إلَى رَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. [ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّحَاكُمِ إلَيْهِ] الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْرَضَ وَرَضِيَ بِالتَّحَاكُمِ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] فَكُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الدَّاعِي لَهُ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ؛ فَمُسْتَكْثِرٌ وَمُسْتَقِلٌّ. [الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ: " دِينُ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي الْقَوْلِ وَضِدِّهِ، فَدِينُهُ هُوَ الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُتَضَادَّةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ "؟ فَإِنْ قَالُوا: " بَلَى، هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمُتَضَادَّةُ الْمُتَعَارِضَةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ " خَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ أَئِمَّتِهِمْ؛ فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ، كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ، وَخَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ، وَجَعَلُوا دِينَ اللَّهِ تَابِعًا لِآرَاءِ الرِّجَالِ. وَإِنْ قَالُوا: " الصَّوَابُ الَّذِي لَا صَوَابَ غَيْرُهُ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، كَمَا أَنَّ نَبِيَّهُ وَاحِدٌ وَقِبْلَتَهُ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ وَافَقَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ وَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ ". قِيلَ لَهُمْ: فَالْوَاجِبُ إذَا طَلَبَ الْحَقَّ، وَبَذَلَ الِاجْتِهَادَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ تَقْوَاهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَتَقْوَاهُ: فِعْلُ مَا أَمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ مَا أُمِرَ بِهِ لِيَفْعَلَهُ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ وَمَا أُبِيحَ لَهُ لِيَأْتِيَهُ. وَمَعْرِفَةُ هَذَا لَا تَكُونُ إلَّا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ وَطَلَبٍ وَتَحَرٍّ لِلْحَقِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَيَلْقَى اللَّهَ وَلَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ. [دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ عَامَّةٌ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَّةٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَكَيْفِيَّاتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِضُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَقْوَالِ عُلَمَائِهِمْ، بَلْ لَمْ يَكُنْ لِعُلَمَائِهِمْ قَوْلٌ غَيْرُ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ فِي قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَى مُوَافَقَةِ مُوَافِقٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَصْلًا، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ لَمْ يُنْسَخْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ؛ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. [أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءَهُمْ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ] [الْأَقْوَالُ لَا تَنْحَصِرُ وَقَائِلُوهَا غَيْرُ مَعْصُومِينَ] الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءَهُمْ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ، وَلَمْ تُضْمَنْ لَهَا الْعِصْمَةُ إلَّا إذَا اتَّفَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا؛ فَلَا يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ إلَّا حَقًّا، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، وَلَمْ يَضْمَنْ لَنَا عِصْمَتَهُ مِنْ الْخَطَأِ، وَلَمْ يُقِمْ لَنَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْقَائِلِينَ أَوْلَى بِأَنْ نَأْخُذَ قَوْلَهُ كُلَّهُ مِنْ الْآخَرِ، بَلْ يُتْرَكُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ وَيُؤْخَذُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ. هَذَا مُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ أَوْ يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَائِلِينَ رَسُولًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ فَالْفَرْضُ حِينَئِذٍ مَا يَعْتَمِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِمْ وَمُخَالِفَيْهِمْ. [الْعِلْمُ يُقَالُ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِلْمَ يَقِلُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُتُبَ الْمُقَلَّدِينَ قَدْ طَبَّقَتْ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِي وَقْتٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَنَحْنُ نَرَاهَا فِي كُلِّ عَامٍ فِي ازْدِيَادٍ وَكَثْرَةٍ، وَالْمُقَلِّدُونَ يَحْفَظُونَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، وَشُهْرَتُهَا فِي النَّاسِ خِلَافُ الْغُرْبَةِ، بَلْ هِيَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ؛ فَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَكَانَ الدِّينُ كُلَّ وَقْتٍ فِي ظُهُورٍ وَزِيَادَةٍ وَالْعِلْمُ فِي شُهْرَةٍ وَظُهُورٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْمُقَلِّدِينَ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ هُوَ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَلِّدَ زَيْدًا دُونَ عَمْرٍو، بَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا إلَى تَقْلِيدِ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا هُوَ الْحَقَّ لَا سِوَاهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ لَهُ الِانْتِقَالَ عَنْ الْحَقِّ إلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْحَقَّ وَحْدَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ الْإِقَامَةَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ. وَإِنْ قُلْتُمْ: " الْقَوْلَانِ الْمُتَضَادَّانِ الْمُتَنَاقِضَانِ حَقٌّ " فَهُوَ أَشَدُّ إحَالَةً، وَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدْته دُونَ مَنْ لَا تُقَلِّدُهُ؟ فَإِنْ قَالَ " عَرَفْته بِالدَّلِيلِ " فَلَيْسَ بِمُقَلَّدٍ، وَإِنْ قَالَ: " عَرَفْته تَقْلِيدًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ وَدَانَ بِهِ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ وَحُسْنُ ثَنَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْحَقِّ " قِيلَ لَهُ: أَفَمَعْصُومٌ هُوَ عِنْدَك أَمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ؟ فَإِنْ قَالَ بِعِصْمَتِهِ أَبْطَلَ، وَإِنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ قِيلَ لَهُ: فَمَا يُؤَمِّنُك أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا قَلَّدْته فِيهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مَأْجُورٌ، قِيلَ: أَجَلْ هُوَ مَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مَأْجُورٍ لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ بِمُوجِبِ الْأَجْرِ، بَلْ قَدْ فَرَّطْت فِي الِاتِّبَاعِ الْوَاجِبِ فَأَنْتَ إذًا مَأْزُورٌ. فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ يَأْجُرُهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ وَيَمْدَحُهُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ؟ وَهَلْ يُعْقَلُ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: الْمُسْتَفْتِي إنْ هُوَ قَصَّرَ وَفَرَّطَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْحَقَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَالْوَعِيدُ، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ عِيَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ يَزِنُهَا بِهِ فَمَا وَافَقَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ مِنْهَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُ رَدَّهُ، فَهَذَا إلَى الذَّمِّ وَالْعِقَابِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْأَجْرِ وَالصَّوَابِ؛ وَإِنْ قَالَ وَهُوَ الْوَاقِعُ: اتَّبَعَتْهُ وَقَلَّدَتْهُ وَلَا أَدْرِي أَعْلَى صَوَابٍ هُوَ أَمْ لَا، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْقَائِلِ، وَأَنَا حَاكٍ لِأَقْوَالِهِ، قِيلَ لَهُ: فَهَلْ تَتَخَلَّصُ بِهَذَا مِنْ اللَّهِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَك عَمَّا حَكَمْت بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَأَفْتَيْتهمْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ إنَّ لِلْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ لَمَوْقِفًا لِلسُّؤَالِ لَا يَتَخَلَّصُ فِيهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ وَأَفْتَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا فَسَيَعْلَمُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ. [عِلَّةُ إيثَارِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ] [مَا عِلَّةُ إيثَارِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ؟] : الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ نَقُولَ: أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ فُلَانًا قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لِأَنَّ فُلَانًا قَالَهُ " جَعَلْتُمْ قَوْلَ فُلَانٍ حُجَّةً، وَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: " لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ " كَانَ هَذَا أَعْظَمَ وَأَقْبَحَ؛ فَإِنَّهُ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقْوِيلِكُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهُوَ أَيْضًا كَذِبٌ عَلَى الْمَتْبُوعِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَدْ دَارَ قَوْلُكُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إمَّا جَعْلُ قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ حُجَّةً، وَإِمَّا تَقْوِيلُ الْمَعْصُومِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ قُلْتُمْ: " بَلْ مِنْهُمَا بُدٌّ، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّا قُلْنَا كَذَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَّا، وَنَسْأَلَ أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ، وَنَرُدَّ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ إلَى اسْتِنْبَاطِ أُولِي الْعِلْمِ؛ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعُونَ مَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا " قِيلَ: وَهَلْ نُدَنْدِنُ إلَّا حَوْلَ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَحَيَّهَلَا بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ، فَنُنَاشِدُكُمْ بِاَلَّذِي أَرْسَلَهُ إذَا جَاءَ أَمْرُهُ وَجَاءَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَتْرُكُونَ قَوْلَهُ لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَضْرِبُونَ بِهِ الْحَائِطَ وَتُحَرِّمُونَ الْأَخْذَ بِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ الْمُتَابَعَةُ كَمَا زَعَمْتُمْ، أَمْ تَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَتُفَوِّضُونَ أَمْرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى اللَّهِ، وَتَقُولُونَ: هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَّا، وَلَمْ يُخَالِفْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ؟ فَتَجْعَلُونَ قَوْلَ الْمَتْبُوعِ مُحْكَمًا وَقَوْلَ الرَّسُولِ مُتَشَابِهًا؛ فَلَوْ كُنْتُمْ قَائِلِينَ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِ الرَّسُولِ أَمَرَكُمْ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِهِ لَقَدَّمْتُمْ قَوْلَ الرَّسُولِ أَيْنَ كَانَ. ثُمَّ نَقُولُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ: وَأَيْنَ أَمَرَكُمْ الرَّسُولُ بِأَخْذِ قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِعَيْنِهِ، وَتَرْكِ قَوْلِ نَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا نِسْبَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ قَطُّ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ نَبِيِّهِ أَنْ يَذْكُرْنَهُ بِقَوْلِهِ {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فَهَذَا هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَمَرَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُخْبِرُوهُ بِهِ، فَإِذَا أَخْبَرُوهُ بِهِ لَمْ يَسَعْهُ غَيْرُ اتِّبَاعِهِ، وَهَذَا كَانَ شَأْنُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُقَلَّدٌ مُعَيَّنٌ يَتْبَعُونَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ؛ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فَعَلَهُ أَوْ سَنَّهُ، لَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانُوا يَسْأَلُونَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا عَائِشَةَ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ عَنْ شَأْنِ نَبِيِّهِمْ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي؛ فَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كَانَ أَوْ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَطُّ يَسْأَلُ عَنْ رَأْيِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَذْهَبِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ وَحْدَهُ وَيُخَالِفُ لَهُ مَا سِوَاهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرْشَدَ الْمُسْتَفْتِينَ كَصَاحِبِ الشَّجَّةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ وَسُنَّتِهِ، فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ» فَدَعَا عَلَيْهِمْ لَمَّا أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِلْمًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَإِنَّ مَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَاعِلِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَذَلِكَ أَحَدُ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ؛ فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَكَذَلِكَ سُؤَالُ أَبِي الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجَرِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اخْبَرُوهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِكْرِ الزَّانِي أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ؛ فَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ. [تَقْلِيد الصَّحَابَةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا] [لَمْ يَكُنْ عُمَرُ يُقَلِّدُ أَبَا بَكْرٍ؟] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لَهُ، فَجَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ اخْتَصَرُوا الْحَدِيثَ وَحَذَفُوا مِنْهُ مَا يُبْطِلُ اسْتِدْلَالَهُمْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ بِتَمَامِهِ. قَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ إنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ " أَقْضِي فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ " فَاسْتَحَى عُمَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِرَافِهِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَلَامُهُ كُلُّهُ صَوَابًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ الْخَطَأُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا، الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خِلَافَ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ كَمَا خَالَفَهُ فِي سَبْيِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَسَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَخَالَفَهُ عُمَرُ وَبَلَغَ خِلَافُهُ إلَى أَنْ رَدَّهُنَّ حَرَائِرَ إلَى أَهْلِهِنَّ إلَّا مَنْ وَلَدَتْ لِسَيِّدِهَا مِنْهُنَّ، وَنَقَضَ حُكْمَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِنَّ خَوْلَةُ الْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُقَلِّدِينَ بِمَتْبُوعِهِمْ؟ ، وَخَالَفَهُ فِي أَرْضِ الْعَنْوَة فَقَسَمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَوَقَفَهَا عُمَرُ، وَخَالَفَهُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي الْعَطَاءِ فَرَأَى أَبُو بَكْرٍ التَّسْوِيَةَ وَرَأَى عُمَرُ الْمُفَاضَلَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ لَمْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِفْ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؛ فَهَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ حِينَ تَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُ غَيْرِهِ، لَا يَعْدِلُونَ بِالسُّنَّةِ شَيْئًا سِوَاهَا، لَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ صُرَاحًا، وَخِلَافُهُ لَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ مَعْلُومٌ أَيْضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُسْتَرَاحٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ هُوَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِمَّنْ لَا يُدَانِي الصَّحَابَةَ وَلَا يُقَارِبُهُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمْتُمْ لَكُمْ أُسْوَةٌ بِعُمَرَ فَقَلِّدُوا أَبَا بَكْرٍ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ عِبَادِهِ يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ مَا لَا يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى تَقْلِيدِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ لَمْ يَسْتَحْيُوا مِمَّا اسْتَحْيَا مِنْهُ عُمَرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَهُ - وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ ذَلِكَ - لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، بَلْ قَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ الَّذِي أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْنَا شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ نَلْقَاهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ عَنْ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِهِمَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا قَوْلٌ وَأَطْبَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَنَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ حَرَّمَ تَقْلِيدَهُمَا وَأَوْجَبَ تَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَوْ صَحَّ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَاحَةٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِتَقْلِيدِهِ، وَلَا جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ بَلْ وَلَا إلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ إلَّا إذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ؟ ، فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ كَلِمَةً تَكْفِي الْعَاقِلَ فَاقْتَصَرَ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَاكْتَفَى بِهَا، وَالْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِهِ؛ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَ الصُّلْحَ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: نَنْزِعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ، وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا لَكُمْ، وَتَرُدُّونَ لَنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا، وَتَدُونَ لَنَا قَتْلَانَا، وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ، فَعَرَضَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت رَأْيًا سَنُشِيرُ عَلَيْك: أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَمَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ تَدُونَ قَتْلَانَا وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ فَإِنَّ قَتْلَانَا قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ أُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لَهَا دِيَاتٌ، فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ، فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ «قَدْ رَأَيْت رَأْيًا وَرَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ» فَأَيُّ مُسْتَرَاحٍ فِي هَذَا لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ؟ ، [لَمْ يَكُنْ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقَلِّدُ عُمَرَ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُمْ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، فَخِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِعُمَرَ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفُ إيرَادُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُوَافِقُهُ كَمَا يُوَافِقُ الْعَالِمُ الْعَالِمَ، وَحَتَّى لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ نَعُدُّهَا، وَكَانَ مِنْ عُمَّالِهِ وَكَانَ عُمَرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مُخَالِفَتُهُ لَهُ فَفِي نَحْوِ مِائَةِ مَسْأَلَةٍ: مِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ مَاتَ، وَعُمَرُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهَا: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَام: هِيَ يَمِينٌ، وَعُمَرُ يَقُولُ: طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَرِّمُ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي أَبَدًا، وَعُمَرُ كَانَ يُتَوِّبُهُمَا وَيَنْكِحُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ، وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَرَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا، وَعُمَرُ يَقُولُ: لَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، إلَى قَضَايَا كَثِيرَةٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا لَا يَرَوْنَ تَقْلِيدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا تَقْلِيدَ عُمَرَ، وَتَقْلِيدُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَحَبُّ إلَيْهِمْ وَآثَرُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ كَيْفَ يُنْسَبُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ تَقْلِيدُ الرِّجَالِ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْت إلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْت فِي حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا سَمِعْت أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْت إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: كُنَّا حِينًا وَمَا نَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ بَعْدَهُ أَعْلَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْقَائِمِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ إذَا مَا غِبْنَا، وَيُؤْذَنُ لَهُ إذَا مَا حُجِبْنَا. وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ: إنِّي بَعَثْت إلَيْكُمْ عَمَّارًا أَمِيرًا وَعَبْدَ اللَّهِ مُعَلِّمًا وَوَزِيرًا، وَهُمَا مِنْ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَخُذُوا عَنْهُمَا، وَاقْتَدُوا بِهِمَا؛ فَإِنِّي آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللَّه عَلَى نَفْسِي، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فِي " أَلْبَتَّةَ " وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا لَهُ، بَلْ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ فِيهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الصَّحَابَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: اُغْدُ عَالَمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَكُونَنَّ إمَّعَةً، فَأَخْرَجَ الْإِمَّعَةَ - وَهُوَ الْمُقَلَّدُ - مِنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّهُ لَا مَعَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مَعَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. [لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُمْ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَزَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ السُّنَّةِ تَقْلِيدًا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَفْعَلُهُ فِرْقَةُ التَّقْلِيدِ، بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ الْقَوْمِ رَأَى أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ السُّنَّةُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَعُ قَوْلَ عُمَرَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ السُّنَّةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُعَارِضُ مَا بَلَغَهُ مِنْ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَيَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؛ فَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَوَاَللَّهِ لَوْ شَاهَدَ خَلْفَنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قَالُوا: قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، لِمَنْ لَا يُدَانِي الصَّحَابَةَ وَلَا قَرِيبًا مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَدَعُونَ أَقْوَالَهُمْ لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْقَوْلَ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ؛ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ مَعَهُمْ فَيَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَدَعُونَ أَقْوَالَهُمْ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِمَّا سِوَاهُ، وَهَذَا عَكْسُ طَرِيقَةِ فِرْقَةِ أَهْلِ التَّقْلِيدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَسْرُوقٍ: مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. [مَعْنَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ مُعَاذٍ] الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: قَوْلُهُمْ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَاتَّبِعُوهُ» فَعَجَبًا لِمُحْتَجٍّ بِهَذَا عَلَى تَقْلِيدِ الرِّجَالِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَلْ صَارَ مَا سَنَّهُ مُعَاذٌ سُنَّةً إلَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَاتَّبِعُوهُ " كَمَا صَارَ الْأَذَانُ سُنَّةً بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِقْرَارِهِ وَشَرْعِهِ، لَا بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مُعَاذًا فَعَلَ فِعْلًا جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ سُنَّةً، وَإِنَّمَا صَارَ سُنَّةً لَنَا حِينَ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا لِأَنَّ مُعَاذًا فَعَلَهُ فَقَطْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ: دُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ، وَزَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ؛ فَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ وَإِنْ اُفْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنْهُ إيَاسَكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُفْتَتَنُ ثُمَّ يَتُوبُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّ لَهُ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ أَحَدًا. وَمَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ وَمِنْ لَا فَلَيْسَتْ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ، فَصَدَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْحَقِّ، وَنَهَى عَنْ التَّقْلِيدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ لَا يُبَالِيَ بِمَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ فِيمَا أَشْكَلَ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ طَرِيقَةِ الْمُقَلِّدِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ، وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ؛ فَجَوَابُهُ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ قِيلَ: هُمْ الْأُمَرَاءُ، وَقِيلَ: هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالتَّحْقِيقُ، أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الطَّائِفَتَيْنِ، وَطَاعَتُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ، لَكِنْ خَفِيَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ إذَا أَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَكَانَ الْعُلَمَاءُ مُبَلِّغِينَ لِأَمْرِ الرَّسُولِ، وَالْأُمَرَاءُ مُنَفِّذِينَ لَهُ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَيْنَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيثَارُ التَّقْلِيدِ عَلَيْهَا؟ ، الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْظَمِهَا إبْطَالًا لِلتَّقْلِيدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، الثَّانِي: طَاعَةُ رَسُولِهِ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهَا لِأَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُمْكِنْهُ تَحْقِيقُ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَلْبَتَّةَ؛ الثَّالِثُ: أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرْنَاهُ نَصًّا عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَطَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بَطَلَ التَّقْلِيدُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بَطَلَ الِاسْتِدْلَال، الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَالْمَنْعِ مِنْ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى رَأْيٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ تَقْلِيدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا هِيَ طَاعَتُهُمْ الْمُخْتَصَّةُ بِهِمْ؛ إذْ لَوْ كَانُوا إنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا لَهُمْ؟ قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَطَاعَتُهُمْ إنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لَا اسْتِقْلَالٌ، وَلِهَذَا قَرَنَهَا بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَلَمْ يُعِدْ الْعَامِلَ، وَأَفْرَدَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَأَعَادَ الْعَامِلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يُطَاعُ تَبَعًا كَمَا يُطَاعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 أُولُو الْأَمْرِ تَبَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ اسْتِقْلَالًا، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. [الثَّنَاءُ عَلَى التَّابِعِينَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ تَابِعِينَ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَثْنَى عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَقْلِيدُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَمَا أَصْدَقَ الْمُقَدَّمَةَ الْأُولَى، وَمَا أَكْذَبَ الثَّانِيَةَ، بَلْ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ رَدًّا عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ، وَقَدْ نَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ إمَّعَةً، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ وَعَافَاهُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ يَرُدُّ النُّصُوصَ لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْلِيدُهَا؛ فَهَذَا ضِدُّ مُتَابَعَتِهِمْ، وَهُوَ نَفْسُ مُخَالَفَتِهِمْ؛ فَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ حَقًّا هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَعْقُولًا وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجْعَلُونَ مَذْهَبَ أَحَدٍ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ فَهَؤُلَاءِ أَتْبَاعُهُمْ حَقًّا، جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. [مَنْ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ لَوْ كَانُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ هُمْ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَكَانَ سَادَاتُ الْعُلَمَاءِ الدَّائِرُونَ مَعَ الْحُجَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَالْجُهَّالُ أَسْعَدُ بِأَتْبَاعِهِمْ مِنْهُمْ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ، بَلْ مَنْ خَالَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِلْحُجَّةِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لَهُ، دُونَ مَنْ أَخَذَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ آرَاءَهُمْ مَنْزِلَةَ النُّصُوصِ، بَلْ يَتْرُكُونَ لَهَا النُّصُوصَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا أَتْبَاعُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ. وَلَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَدْرِيسِهِ بِمَدْرَسَةِ ابْنِ الْحَنْبَلِيِّ وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: إنَّمَا أَتَنَاوَلُ مَا أَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا عَلَى مَعْرِفَتِي بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَا عَلَى تَقْلِيدِي لَهُ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ دُونَ أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَهُمْ، فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ ابْنُ وَهْبٍ وَطَبَقَتُهُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ الْحُجَّةَ وَيَنْقَادُ لِلدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَتْبَعُ لَهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ الْمَحْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْعِلْمِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. [الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُهُمْ: يَكْفِي فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الْجَزَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُفْرِحٍ حَدَّثَهُمْ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ قَالَ: قَالَ لَنَا الْبَزَّارُ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ: فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ تَرْكَ تَقْلِيدِ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَقَلَّدْتُمْ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ؛ فَكَانَ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ آثَرُ عِنْدَكُمْ مِنْ تَقْلِيدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ؟ فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ خَالَفْتُمُوهُ صَرِيحًا، وَاسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِوَجْهٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ الْجَدَّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْهُمْ وَمَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِهِ مَعًا، وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ: الْحَرَامُ يَمِينٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ طَلَاقٌ، وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَمَنْ أَبَاحَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكْلَ الْبَرَدِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ: تَعْتَدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَمَنْ قَالَ: بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ، وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ مِنْ الْإِكْسَالِ وَتَقْلِيدَ مَنْ أَسْقَطَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَنْ أَسْقَطَهُمْ، وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى التَّحْرِيمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ مَنَعَ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ وَمَنْ أَوْجَبَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَاحِدًا وَمَنْ رَآهُ ثَلَاثًا، وَتَقْلِيدَ مَنْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهَا، وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى النَّقْضَ بِمَسِّ الذَّكَرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَتَقْلِيدَ مَنْ وَقَفَ الْمُولِي عِنْدَ الْأَجَلِ وَمَنْ لَمْ يَقِفْهُ، وَأَضْعَافَ أَضْعَافَ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنْ سَوَّغْتُمْ هَذَا فَلَا تَحْتَجُّوا لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ وَمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ، بَلْ اجْعَلُوا الرَّجُلَ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِأَيِّ قَوْلٍ شَاءَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَا تُنْكِرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَكُمْ وَاتَّبَعَ قَوْلَ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوهُ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمُخَالِفٍ لَهُ، وَقَائِلٍ بِضِدِّ مُقْتَضَاهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الرَّابِعُ: أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْقَبُولُ مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا إلَيْهِمَا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ التَّقْلِيدَ، وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ وَتَحْكِيمَ الدَّلِيلِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاسْتِنَانِ بِهِمْ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُكُمْ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا مِنْكُمْ فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوهٍ: فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالْأَحْيَاءِ، وَأَنْتُمْ تُقَلِّدُونَ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَيَّنَ الْمُسْتَنَّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَبَرُّ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُهُمْ، وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَنْتُمْ - مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ - لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَهُمْ وَلَا الِاسْتِنَانَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ بِكَثِيرٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِنَانَ بِهِمْ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَهُوَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمُقْتَدِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ، وَيَفْعَلَ كَمَا فَعَلُوا، وَهَذَا يُبْطِلُ قَبُولَ قَوْلِ أَحَدٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ صَحَّ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إمَّعَةً لَا بَصِيرَةَ لَهُ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الِاسْتِنَانَ عِنْدَهُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُكُمْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُهْدِيَيْنِ مِنْ بَعْدِي» وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ فِي بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّهُ خِلَافُ سُنَّتِهِمْ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ السُّنَّةَ إذَا ظَهَرَتْ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهَا قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ، وَطَرِيقَةُ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ خِلَافُ ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ سُنَّتَهُمْ بِسُنَّتِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، وَالْأَخْذُ بِسُنَّتِهِمْ لَيْسَ تَقْلِيدًا لَهُمْ، بَلْ اتِّبَاعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَذَانِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ. وَالْأَخْذُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَ الْمَسْبُوقَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمُعَاذٍ، بَلْ اتِّبَاعًا لَمَّا أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ بِذَلِكَ، فَأَيْنَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْأَخْذَ بِسُنَّتِهِمْ وَلَا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاجِبًا، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ عِنْدَكُمْ حُجَّةً، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِكُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ، وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ، فَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُكُمْ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ النَّاسِ خِلَافًا لَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ: أَنَّ الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 عِنْدَ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ، وَأَمَرْتُمْ أَنْتُمْ بِرَأْيِ فُلَانٍ وَمَذْهَبِ فُلَانٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي تُرِكَ لَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيُعْرَضُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مِعْيَارًا عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي بَرَّأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرُونَ الَّتِي فَضَلَّهَا وَخَيَّرَهَا عَلَى غَيْرِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ أَحَدُهُمْ لِلْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ: لَيْسَتْ سُنَّتُهُمْ حُجَّةً، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهَا؟ . [أَخْبَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ اخْتِلَافُ كَثِيرٌ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» وَهَذَا ذَمٌّ لِلْمُخْتَلِفِينَ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا الدِّينَ وَصَيَّرُوا أَهْلَهُ شِيَعًا، كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْصُرُ مَتْبُوعَهَا، وَتَدْعُو إلَيْهِ، وَتَذُمُّ مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ، يَدْأَبُونَ وَيَكْدَحُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ: كُتُبُهُمْ، وَكُتُبُنَا وَأَئِمَّتُهُمْ وَأَئِمَّتُنَا، وَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُنَا. هَذَا وَالنَّبِيُّ وَاحِدٌ وَالْقُرْآنُ وَاحِدٌ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَنْقَادُوا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ، وَأَنْ لَا يُطِيعُوا إلَّا الرَّسُولَ، وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ أَقْوَالُهُ كَنُصُوصِهِ، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فَلَوْ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَانْقَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمَنْ دَعَاهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحَاكَمُوا كُلُّهُمْ إلَى السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ لَقَلَّ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ لَمْ يَعْدَمْ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَقَلَّ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا وَأَقَلَّ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ لِمَا بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ عَنْ الْحَدِيثِ أَبْعَدَ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَنْ رَدَّ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ وَجْهُ الصَّوَابِ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَذْهَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] . [فَصَلِّ أَمَرَ عُمَرُ شُرَيْحًا بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ] [أَمَرَ عُمَرُ شُرَيْحًا بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ إنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ: " أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الْحُكْمَ بِالْكِتَابِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجَدَهُ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ قَضَى بِمَا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ. وَنَحْنُ نُنَاشِدُ اللَّهَ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ: هَلْ هُمْ كَذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ حَدَّثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يُنَفِّذُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذَهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي السُّنَّةِ أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ؟ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ حُكْمَهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَإِنْ اسْتَبَانَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ؛ فَكِتَابُ عُمَرَ مِنْ أَبْطَلْ الْأَشْيَاءِ وَأَكْسَرِهَا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا كَانَ سَيْرَ السَّلَفِ الْمُسْتَقِيمَ وَهَدْيَهُمْ الْقَوِيمَ. [طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ] فَلَمَّا انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَى الْمُتَأَخِّرِينَ سَارُوا عَكْسَ هَذَا السَّيْرِ، وَقَالُوا: إذَا نَزَلَتْ النَّازِلَةُ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا: هَلْ فِيهَا اخْتِلَافٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اخْتِلَافٌ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابٍ وَلَا فِي سُنَّةٍ، بَلْ يُفْتِي وَيَقْضِي فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ اجْتَهَدَ فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إلَى الدَّلِيلِ فَأَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَكِتَابُ عُمَرَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ مَأْمُورٌ، فَإِنْ عِلْمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا عَلَى الْحُكْمِ. وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فَهُوَ أَصْعُبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا وُصُولَ لَنَا إلَيْهِ وَيُتْرَكُ الْحَوَالَةَ عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ اللَّذَيْنِ هَدَانَا بِهِمَا، وَيَسَّرَهُمَا لَنَا، وَجَعَلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِمَا طَرِيقًا سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ قُرْبٍ؟ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ فَلَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنِّزَاعِ عِلْمًا بِعَدَمِهِ، فَكَيْفَ يُقَدِّمُ عَدَمَ الْعِلْمِ عَلَى أَصْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إلَى أَمْرٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْهُومًا، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ شَكًّا مُتَسَاوِيًا أَوْ رَاجِحًا؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ؟ فَمَا لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُمْ فَلِمَنْ نَشَأَ فِي زَمَنِهِمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، فَصَاحِبُ هَذَا السُّلُوكِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ انْقَرَضَ وَلَمْ يَنْشَأْ فِيهِ مُخَالِفٌ لِأَهْلِهِ؟ وَهَلْ أَحَالَ اللَّهُ الْأُمَّةَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَفْرَادِهِمْ عَلَيْهِ؟ وَتَرْكِ إحَالَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وَحِينَ نَشَأَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَوَلَّدَ عَنْهَا مُعَارَضَةُ النُّصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَجْهُولِ، وَانْفَتَحَ بَابُ دَعْوَاهُ، وَصَارَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ: هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَابُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهُ، وَكَذَّبُوا مَنْ ادَّعَاهُ؛ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: " أَجْمَعُوا؟ " إذَا سَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: " أَجْمَعُوا " فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: " إنِّي لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا " كَانَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا كَذِبٌ، مَا عِلْمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: " مَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا " فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: إجْمَاعُ النَّاسِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا. [أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَدِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ] وَلَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَجَعْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُجَّةُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الْأَئِمَّةُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ: وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ، الْأُولَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: فَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَالْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ؛ فَقَدَّمَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ، فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَّامٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 انْتَهَى. فَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، جَعَلَ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ فَعَدَلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُقَلِّدُونَ إلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَاءُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ التَّيَمُّمِ بِكَثِيرٍ. ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ فِرْقَةٌ هُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ فَقَالُوا: إذَا نَزَلَتْ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ نَازِلَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بَلْ إلَى مَا قَالَهُ مُقَلَّدُهُ وَمَتْبُوعُهُ وَمَنْ جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ أَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ، وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَلَا يَقْضِيَ بِهِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَرَّضَ لِعَزْلِهِ عَنْ مَنْصِبِ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ، وَاسْتَفْتَى لَهُ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ وَالْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُنْتَسَبُ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ يُقَلِّدُهُ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَيُنْغِضُ الْمُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَقْدَحُ فِيهِ. وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الَّذِي عَدَلَ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَمْثَالِهِمْ؛ فَيُجِيبُ هَذَا الَّذِي انْتَصَبَ لِلتَّوْقِيعِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَقْوَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ أَقْوَالِهِمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ جِنَايَاتِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ لَزِمُوا حَدَّهُمْ وَمَرْتَبَتَهُمْ وَأَخْبَرُوا إخْبَارًا مُجَرَّدًا عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ السَّوَادِ فِي الْبَيَاضِ مِنْ أَقْوَالٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصَحِيحِهَا مِنْ بَاطِلِهَا لَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَكِنْ هَذَا مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ مُعَادَاتُهُمْ لِأَهْلِهِ وَلِلْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [هَلْ قَلَّدَ الصَّحَابَةُ عُمَرَ؟] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " مَنَعَ عُمَرُ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ تَقْلِيدًا لَهُ، بَلْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ: إنِّي رَأَيْت ذَلِكَ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ كُلُّهُمْ فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ يُخَالِفُهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ فِي الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ فَالْحَاكِمُ هُوَ الْحُجَّةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي اتِّبَاعِ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ لَوْ فُرِضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَوِّغُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِكَثِيرٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَتَرْكِ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ، فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَلِّدُوا عُمَرَ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَأَمَّا وَأَنْتُمْ تُصَرِّحُونَ بِأَنَّ عُمَرَ لَا يُقَلَّدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ يُقَلَّدُونَ فَلَا يُمْكِنُكُمْ الِاسْتِدْلَال بِمَا أَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا لَا يَقُولُ بِهِ؟ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا احْتَلَمَ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْت صَارَتْ سُنَّةً " فَأَيْنَ فِي هَذَا مِنْ الْإِذْنِ مِنْ عُمَرَ فِي تَقْلِيدِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؟ وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ تَرَكَهُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ يَرَاهُ، وَيَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَقُولَ: لَوْلَا أَنَّ هَذَا سُنَّةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَعَلَهُ عُمَرُ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي خَشِيَهُ عُمَرُ، وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِعُلَمَائِهِمْ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ تَفْصِيلٌ. [مَا اسْتَبَانَ فَاعْمَلْ بِهِ وَمَا اشْتَبَهَ فَكِلْهُ لِعَالِمِهِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " قَدْ قَالَ أُبَيٌّ: مَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ " فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سِوَى الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ، وَكُلُّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكِلَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ صَارَ عَالِمًا مِثْلُهُ، وَإِلَّا وَكَّلَهُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمًا؛ فَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَقِّ فَوَكَلَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَقَدْ أَصَابَ، فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَاِتِّخَاذِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِعْيَارًا عَلَى ذَلِكَ وَتَرْكِ النُّصُوصِ لِقَوْلِهِ وَعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَقَبُولِ كُلِّ مَا أَفْتَى بِهِ وَرَدِّ كُلِّ مَا خَالَفَهُ؟ وَهَذَا الْأَثَرُ نَفْسُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ: " مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ " وَنَحْنُ نُنَاشِدْكُمْ اللَّهَ إذَا اسْتَبَانَتْ لَكُمْ السُّنَّةُ هَلْ تَتْرُكُونَ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ لَهَا وَتَعْمَلُونَ بِهَا وَتُفْتُونَ أَوْ تَقْضُونَ بِمُوجِبِهَا، أَمْ تَتْرُكُونَهَا وَتَعْدِلُونَ عَنْهَا إلَى قَوْلِهِ وَتَقُولُونَ: هُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَّا؟ فَأَبِيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلتَّقْلِيدِ قَطْعًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نَقُولُ: هَلْ وَكَلْتُمْ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَى عَالِمِهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا أَمْ تَرَكْتُمْ أَقْوَالَهُمْ وَعَدَلْتُمْ عَنْهَا؟ فَإِنْ كَانَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِمَّنْ يُوَكَّلُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَالصَّحَابَةُ أَحَقُّ أَنْ يُوَكَّلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ. [فَصَلِّ فَتْوَى الصَّحَابَةِ وَالرَّسُولُ حَيٌّ] [فَتْوَى الصَّحَابَةِ وَالرَّسُولُ حَيٌّ تَبْلِيغٌ عَنْهُ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْ الْمُسْتَفْتِينَ لَهُمْ " وَجَوَابُهُ أَنَّ فَتْوَاهُمْ إنَّمَا كَانَتْ تَبْلِيغًا عَنْ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وَرَسُولِهِ، وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِينَ فَقَطْ، لَمْ تَكُنْ فَتْوَاهُمْ تَقْلِيدًا لِرَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ خَالَفَتْ النُّصُوصَ؛ فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَ فِي فَتْوَاهُمْ، وَلَا يُفْتُونَ بِغَيْرِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفْتُونَ لَهُمْ يَعْتَمِدُونَ إلَّا عَلَى مَا يَبْلُغُونَهُمْ إيَّاهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ فَيَقُولُونَ: أَمَرَ بِكَذَا، وَفَعَلَ كَذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، هَكَذَا كَانَتْ فَتْوَاهُمْ؛ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ كَمَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَفْتِينَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ وَعَدَمِهَا، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ وَأَنَّ مُسْتَفْتِيَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا إلَّا بِمَا عَلِمُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ مِنْهُ، هَؤُلَاءِ بِوَاسِطَةٍ وَهَؤُلَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يُحَلِّلُ مَا حَلَّلَهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ وَيَسْتَبِيحُ مَا أَبَاحَهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ، كَمَا أَنْكَرَ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ وَكَذَّبَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِرَجْمِ الزَّانِي الْبِكْرِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاغْتِسَالِ الْجَرِيحِ حَتَّى مَاتَ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَنْ يُفْتِي بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ إثْمَ الْمُسْتَفْتِي عَلَيْهِ، فَإِفْتَاءُ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ يَبْلُغُهُ وَيُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ بِإِقْرَارِهِ لَا بِمُجَرَّدِ إفْتَائِهِمْ، الثَّانِي: مَا كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ، فَهُمْ فِيهِ رُوَاةٌ لَا مُقَلِّدُونَ وَلَا مُقَلَّدُونَ. [إنْذَارِ مَنْ نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ] [الْمُرَادُ مِنْ إيجَابِ اللَّهِ قَبُولَ إنْذَارِ مَنْ نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ] الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فَأَوْجَبَ قَبُولَ نِذَارَتِهِمْ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى تَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى الْوَحْيِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَوَّعَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَقِيَامَهُمْ بِأَمْرِهِ إلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفِيرُ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَجَعَلَ قِيَامَ الدِّينِ بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ؛ فَالنَّافِرُونَ يُجَاهِدُونَ عَنْ الْقَاعِدِينَ، وَالْقَاعِدُونَ يَحْفَظُونَ الْعِلْمَ لِلنَّافِرِينَ، فَإِذَا رَجَعُوا مِنْ نَفِيرِهِمْ اسْتَدْرَكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِإِخْبَارِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُنَا لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى " فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ الْقَاعِدَةَ " فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى قَوْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تُجَاهِدُ لِتَتَفَقَّهَ الْقَاعِدَةُ وَتُنْذِرَ النَّافِرَةَ لِلْجِهَادِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ الْوَحْيِ " وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 لِأَنَّ النَّفِيرَ إنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا» وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي الْمُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَائِبِينَ عَنْهُ، وَالْمُقِيمُونَ مُرَادُونَ وَلَا بُدَّ فَإِنَّهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ اللَّفْظُ؟ وَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصًّا بِالْغَائِبِينَ عَنْهُ فَقَطْ، وَالْمَعْنَى " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ، فَلَوْلَا نَفَرَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ " وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِخْرَاجٌ لِلَفْظِ النَّفِيرِ عَنْ مَفْهُومِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ، بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَى فَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ إنَّمَا يَقُومُ بِالْحُجَّةِ، فَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ، كَمَا أَنَّ النَّذِيرَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ، فَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّقْلِيدَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَسَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ نَصْبَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ يُجْعَلُ قَوْلُهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ مِنْهَا قُبِلَ وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَيُرَدُّ قَوْلُ نَظِيرِهِ أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ وَالْحُجَّةُ مَعَهُ، فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرْنَاهُ، وَكُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُعْلِنُ إنْكَارَهُ وَذَمَّهُ وَذَمَّ أَهْلِهِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا - يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا " فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّافِيَةِ الَّتِي لَا مَطْمَعَ فِي دَفْعِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَدِّ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ تَقْلِيدًا، بَلْ أَضَافَ الْمَذْهَبَ إلَى الصِّدِّيقِ لِيُنَبِّهَ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقَاسَ غَيْرُهُ بِهِ، لَا لِيُقْبَلَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَتَتْرُكُ الْحُجَّةُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ؛ فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَتْقَى لِلَّهِ، وَحُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَلِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَقَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ: " إنَّ الصِّدِّيقَ أَنْزَلَهُ أَبًا " مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مَعًا. [لَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا] [لَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا لَهُ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي آفَاتِ التَّقْلِيدِ غَيْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لَكَفَى بِهِ بُطْلَانًا، وَهَلْ قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ إلَّا بِنَصِّ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَهُ حُجَّةً يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهَا كَمَا يَحْكُمُ بِالْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُقِرِّ أَيْضًا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَقَبُولُهُ تَقْلِيدٌ لَهُ، كَمَا سَمَّيْتُمْ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا، فَسَمَّوْهُ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْأَحْكَامِ؛ فَالْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 تَرَكْنَا تَقْلِيدَ الشَّاهِدِ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ حُكْمٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَبِالْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا بِالتَّقْلِيدِ؛ فالاستدلالة بِذَلِكَ عَلَى التَّقْلِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَتَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَيْهَا، وَتَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَاطِّرَاحِ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ جُمْلَةً، مِنْ بَابِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَانْتِكَاسِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَنَحْنُ إذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ لَمْ نَقْبَلْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ شَهِدَ بِهِ، بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِقَبُولِ قَوْلِهِ، فَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَبِلْتُمْ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَبِلْتُمُوهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَطَرْحِ قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ. [لَيْسَ مِنْ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِفِ وَنَحْوِهِ] الْوَجْهُ السِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ " أَتَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ تَقْلِيدٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ أَوْ تَقْلِيدٌ لَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ؟ فَإِنْ عَنَيْتُمْ الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ الثَّانِيَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا تَسْتَرْوِحُونَ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَبُولُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَالشَّاهِدِ، لَا مِنْ بَابِ قَبُولِ الْفُتْيَا فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا، بَلْ لِمُجَرَّدِ إحْسَانِ الظَّنِّ بِقَائِلِهَا مَعَ تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، فَأَيْنَ قَبُولُ الْإِخْبَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَقَارِيرِ إلَى التَّقْلِيدِ فِي الْفَتْوَى؟ ، وَالْمُخْبِرُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ إدْرَاكُهُ بِالْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ. وَطَرْدُ هَذَا، وَنَظِيرُهُ قَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ قَالَ أَوْ فَعَلَ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا؛ فَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا تَقْلِيدُ الرَّجُلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ظَنِّهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ ظَنُّهُ وَاجْتِهَادُهُ؛ فَتَقْلِيدُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِنَا لَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَإِدْرَاكِهِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَوْ يُسَوِّغُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ نَحْكُمَ بِهِ وَنُدِينَ اللَّهَ بِهِ، وَنَقُولُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهُ بَاطِلٌ، وَنَتْرُكُ لَهُ نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَ مَنْ عَدَاهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَقْلِيدُ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ وَدُخُولِ الْوَقْتِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُقَالُ: أَصْبَحْت أَصْبَحْت، وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَتَقْلِيدُ مَنْ فِي الْمَطْمُورَةِ لِمَنْ يُعْلِمُهُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وَالصَّوْمِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْلِيدُ فِي قَبُولِ التَّرْجَمَةِ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ. كُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِقَبُولِ الْمُخْبِرِ بِهَا إذَا كَانَ عَدْلًا صَادِقًا، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْهَدِيَّةِ وَإِدْخَالِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَقَبُولِ خَبَرِ الْمَرْأَةِ ذِمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ مُسْلِمَةً فِي انْقِطَاعِ دَمِ حَيْضِهَا لِوَقْتِهِ وَجَوَازِ وَطْئِهَا وَإِنْكَاحِهَا بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ تَقْلِيدًا لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ لَنَا أَنْ نَقْبَلَ قَوْلَهَا وَنُقَلِّدَهَا فِيهِ، وَلَمْ يَشْرَعْ لَنَا أَنْ نَتَلَقَّى أَحْكَامَهُ عَنْ غَيْرِ رَسُولِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَتْرُكَ سُنَّةَ رَسُولِهِ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَنُقَدِّمَ قَوْلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ مِنْ الْأُمَّةِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللُّحْمَانِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ اكْتِفَاءً بِقَبُولِ قَوْلِ الذَّابِحِ وَالْبَائِعِ، وَهُوَ اقْتِدَاءٌ وَاتِّبَاعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الذَّابِحُ وَالْبَائِعُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ فَاجِرًا اكْتَفَيْنَا بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ أَسْبَابِ الْحِلِّ، كَمَا «قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نَاسًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا، فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» فَهَلْ يَسُوغُ لَكُمْ تَقْلِيدُ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ فِي الدِّينِ كَمَا تُقَلِّدُونَهُمْ فِي الذَّبَائِحِ وَالْأَطْعِمَةِ؟ فَدَعُوا هَذِهِ الِاحْتِجَاجَاتِ الْبَارِدَةَ وَادْخُلُوا مَعَنَا فِي الْأَدِلَّةِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ لِنَعْقِدَ مَعَكُمْ عَقْدَ الصُّلْحِ اللَّازِمِ عَلَى تَحْكِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهِمَا وَتَرْكِ أَقْوَالِ الرِّجَالِ لَهُمَا، وَأَنْ نَدُورَ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَلَا نَتَحَيَّزُ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ: نَقْبَلُ قَوْلَهُ كُلَّهُ، وَنَرُدُّ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُ كُلَّهُ، وَإِلَّا فَاشْهَدُوا بِأَنَّا أَوَّلُ مُنْكَرٍ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَرَاغِبٍ عَنْهَا دَاعٍ إلَى خِلَافِهَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [هَلْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " لَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ ضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا وَقَدَرًا " فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنَا وَرَأْفَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا بِالتَّقْلِيدِ، فَلَوْ كَلَّفَنَا بِهِ لَضَاعَتْ أُمُورُنَا، وَفَسَدَتْ مَصَالِحُنَا، لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ نَدْرِي مَنْ نُقَلِّدُ مِنْ الْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهُمْ عَدَدٌ فَوْقَ الْمِئَتَيْنِ، وَلَا يَدْرِي عَدَدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مَلَئُوا الْأَرْضَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَبَلَغَ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ، فَلَوْ كُلِّفْنَا بِالتَّقْلِيدِ لَوَقَعْنَا فِي أَعْظَمِ الْعَنَتِ وَالْفَسَادِ، وَلَكُلِّفْنَا بِتَحْلِيلِ الشَّيْءِ وَتَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِ الشَّيْءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَإِسْقَاطِهِ مَعًا إنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ كُلِّ عَالِمٍ، وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ فَمَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ مِنْ الْأَحْكَامِ أَسْهَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّقْلِيدِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَالِمِ الرَّاسِخِ فَضْلًا عَنْ الْمُقَلِّدِ الَّذِي هُوَ كَالْأَعْمَى. وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْبَعْضِ وَكَانَ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى تَشَهِّينَا وَاخْتِيَارِنَا صَارَ دِينُ اللَّهِ تَبَعًا لِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا وَشَهَوَاتِنَا، وَهُوَ عَيْنُ الْمُحَالِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ وَتَلَقِّي الدِّينِ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ، وَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحَيِّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ هَذَا الْمَنْصِبَ لِسِوَاهُ بَعْدَهُ أَبَدًا. الثَّانِي: أَنَّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ صَلَاحَ الْأُمُورِ لَا ضَيَاعَهَا، وَبِإِهْمَالِهِ وَتَقْلِيدِ مَنْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ إضَاعَتُهَا وَفَسَادُهَا كَمَا الْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا مَأْمُورٌ بِأَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ. وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأُمَّةِ إلَّا مَا فِيهِ حِفْظُ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا وَصَلَاحُهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَبِإِهْمَالِ ذَلِكَ تَضِيعُ مَصَالِحُهَا وَتَفْسُدُ أُمُورُهَا، فَمَا خَرَابُ الْعَالِمِ إلَّا بِالْجَهْلِ، وَلَا عِمَارَتُهُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ فِي بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ قَلَّ الشَّرُّ فِي أَهْلِهَا، وَإِذَا خَفَى الْعِلْمُ هُنَاكَ ظَهَرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ. وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَوْلَا الْعِلْمُ كَانَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، وَقَالَ: النَّاسُ أَحْوَجُ إلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا لَا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَلَا تَعْطِيلٌ لِمَعَاشِهِمْ؛ فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَائِمِينَ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَعِمَارَةِ حُرُوثِهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِمَتَاجِرِهِمْ وَالصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ، وَهُمْ أَهْدَى الْعُلَمَاءِ الَّذِي لَا يَشُقُّ فِي الْعِلْمِ غُبَارُهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَمَسَائِلِ الْخَرْصِ وَالْأَلْغَازِ، وَذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْسَرُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ تَحْصِيلُهُ وَحِفْظُهُ وَفَهْمُهُ، فَإِنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَتَضِيعُ عَلَيْهِ مَصَالِحُهُ وَتَتَعَطَّلُ مَعَايِشُهُ عَلَيْهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ، وَأُصُولُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَفُرُشُهَا وَتَفَاصِيلُهَا نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ وَالْمَشَقَّةِ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَأُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَالْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 سُلْطَانٍ الَّتِي كُلُّ مَا لَهَا فِي نُمُوٍّ وَزِيَادَةٍ وَتَوْلِيدٍ، وَالدِّينُ كُلُّ مَا لَهُ فِي غُرْبَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِمَنْ يُهْدِي إلَيْهِ زَوْجَتَهُ لَيْلَةَ الدُّخُولِ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ، وَتَقْلِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ، وَتَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَتَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ فِي انْقِطَاعِ دَمِهَا وَوَطْئِهَا وَتَزْوِيجِهَا ". [أُمُورٌ قِيلَ هِيَ تَقْلِيدٌ وَلَيْسَتْ بِهِ] فَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِدْلَالَكُمْ بِهَذَا مِنْ بَابِ الْمَغَالِيطِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي شَيْءٍ، وَنَحْنُ لَمْ نَرْجِعْ إلَى أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَخْبَرُوا بِهَا، بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِهِمْ وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ؛ فَإِخْبَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَنَصْبَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِيزَانًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُ بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَتَهُ» فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ فَأَنْتُمْ لَا تُقَلِّدُونَهَا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَأْخُذُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَتَتْرُكُونَهُ تَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ، وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ يُخْبِرُ بِهِ، وَبِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الشَّاهِدِ؟ وَهَلْ كَانَ مُفَارَقَةُ عُقْبَةَ لَهَا تَقْلِيدًا لِتِلْكَ الْأَمَةِ أَوْ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا؟ فَمِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّكُمْ لَا تَأْمُرُونَهُ بِفِرَاقِهَا، وَتَقُولُونَ: هِيَ زَوْجَتُك حَلَالٌ وَطْؤُهَا، وَأَمَّا نَحْنُ فَمِنْ حُقُوقِ الدَّلِيلِ عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ سَوَاءٌ، وَلَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ تَقْلِيدًا لِأَحَدٍ. [الرَّدُّ عَلَى دَعْوَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " قَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ، وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ ". جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ إنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وَالنَّهْيِ عَنْهُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُقَلِّدَ الْإِمَّعَةَ وَمُحْقِبُ دِينَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِمَّعَةُ الَّذِي يُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَعْمَى الَّذِي لَا بَصِيرَةَ لَهُ، وَيُسَمُّونَ الْمُقَلِّدِينَ أَتْبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَرْكَنُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَكَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ حَاطِبُ لَيْلٍ، وَنَهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، لَقَدْ نَصَحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُسْلِمِينَ وَدَعَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِمَا دُونَ قَوْلِهِ، وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَعْرِضَ أَقْوَالَهُ عَلَيْهِمَا فَنَقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَهُمَا وَنَرُدُّ مَا خَالَفَهُمَا؛ فَنَحْنُ نُنَاشِدُ الْمُقَلِّدِينَ: هَلْ حَفِظُوا فِي ذَلِكَ وَصِيَّتَهُ وَأَطَاعُوهُ أَمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوهُ؟ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَكَانَ مَا رَأَى. الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ رَغْبَةً عَنْ التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعًا لِلْحُجَّةِ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَعْلَمُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَمِنْ أَبِي يُوسُفَ وَخِلَافُهُمَا لَهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا. الثَّالِثُ: أَنَّكُمْ مُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَقُمْتُمْ وَقَعَدْتُمْ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ، وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ، وَاضْطَرَبْتُمْ فِي حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ الِاجْتِهَادِ أَشَدَّ الِاضْطِرَابِ، وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ لَمْ يُقَلِّدْ زَيْدًا فِي الْفَرَائِضِ، وَإِنَّمَا اُجْتُهِدَ فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُ. وَوَقَعَ الْخَاطِرُ عَلَى الْخَاطِرِ، حَتَّى وَافَقَ اجْتِهَادُهُ فِي مَسَائِلِ الْمُعَادَّةِ حَتَّى فِي الْأَكْدَرِيَّةِ، وَجَاءَ الِاجْتِهَادُ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، فَكَيْفَ نَصَبْتُمُوهُ مُقَلَّدًا هَهُنَا؟ وَلَكِنَّ هَذَا التَّنَاقُضَ جَاءَ مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ، وَلَوْ اتَّبَعْتُمْ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقْتَدَيْتُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَعَلْتُمْ الْحُجَّةَ إمَامًا لَمَا تَنَاقَضْتُمْ هَذَا التَّنَاقُضَ وَأَعْطَيْتُمْ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَطَاءٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَنْتُمْ - مَعَ إقْرَارِكُمْ بِأُنْسِكُمْ مِنْ الْمُقَلَّدِينَ - لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَلْ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - فَضْلًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ - تَرَكْتُمْ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ وَقَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ، وَهَذَا عَيْنُ التَّنَاقُضِ؛ فَخَالَفْتُمُوهُ مِنْ حَيْثُ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَلَّدْتُمُوهُ، فَإِنْ قَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ فَقَلِّدُوا مَنْ قَلَّدَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ قَلَّدْنَاهُمْ فِيمَا قَلَّدَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، قِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا مِنْكُمْ لَهُمْ، بَلْ تَقْلِيدًا لَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ جَاءَ عَنْهُمْ خِلَافُ قَوْلِهِ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ، وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً، بَلْ غَايَةُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لَمْ يَظْفَرُوا فِيهَا بِنَصٍّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَجِدُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 فِيهَا سِوَى قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَقَلَّدُوهُ، وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ؛ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ. [الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْأَئِمَّةِ وَحَالِ الْمُقَلِّدِينَ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ: رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ، وَلَا تَرَوْنَ رَأْيَهُمْ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ تَقُولُونَ: رَأْيُ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرٌ لَنَا مِنْ رَأْيِ الصَّحَابَةِ لَنَا، فَإِذَا جَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَجَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ تَرَكْتُمْ مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَخَذْتُمْ بِمَا أَفْتَى بِهِ الْأَئِمَّةُ، فَهَلَّا كَانَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لَكُمْ لَوْ نَصَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ تَقْلِيدِ مَنْ سِوَى الصَّحَابَةِ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْفَضْلِ وَالْفِقْهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِمْ وَشَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بِلُغَتِهِمْ وَهِيَ غَضَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ تَشِبَّ، وَمُرَاجَعَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يُجْلِيَهُ لَهُمْ؛ فَمَنْ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ بَعْدَهُمْ؟ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى يُقَلَّدَ كَمَا يُقَلَّدُونَ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ وَسُقُوطِ تَقْلِيدِهِمْ أَوْ تَحْرِيمِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غُلَاتُهُمْ؟ وَتَاللَّهِ إنَّ بَيْنَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ وَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ: وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتَدْرَكَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاخْتَارَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 لِصُحْبَتِهِ، وَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ " وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَبِالِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ مَسْعُودٍ بِالْعِلْمِ، وَدَعَا لِابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ يُفَقِّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ وَيَعْلَمَهُ التَّأْوِيلَ، وَضَمَّهُ إلَيْهِ مَرَّةً وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» وَتَأَوَّلَ عُمَرُ فِي الْمَنَامِ الْقَدَحَ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى رَأَى الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ وَأَوَّلَهُ بِالْعِلْمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْمَ إنْ أَطَاعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ. وَقَالَ: «رَضِيت لَكُمْ مَا رَضِيَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَفَضَائِلُهُمْ وَمَنَاقِبُهُمْ وَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْفَضْلِ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، فَهَلْ يَسْتَوِي تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ وَتَقْلِيدُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَا يُدَانِيهِمْ وَلَا يُقَارِبُهُمْ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ حُجَّةً، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بَلْ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ قَلَّدْتُمُوهُ أَنَّ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ: يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، وَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةُ أَلْفَاظِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَبْلَغُهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، وَنَذْكُرُ نُصُوصَهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّ مَنْ حَكَى عَنْهُ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَكَى ذَلِكَ بِلَازِمِ قَوْلِهِ، لَا بِصَرِيحِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فَقَبُولُ قَوْلِهِ حُجَّةٌ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، وَقَبُولُ قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ سَائِغًا، فَقِيَاسُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَأَبْطَلَهُ. [تَقْلِيدِ الْأُسْتَاذِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ] [مَا رَكَزَهُ اللَّهُ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأُسْتَاذِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ] : الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ " وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْأُسْتَاذَيْنِ فِي جَمِيعِ الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ إلَى الْآخِرَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ صِحَّةَ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَبُولَ قَوْلِ الْمَتْبُوعِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ، وَتَقْدِيمَ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَتَرْكِ الْحُجَّةِ لِقَوْلِهِ، وَتَرْكِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِقَوْلِهِ؟ فَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي فِطْرَةِ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ؟ ثُمَّ يُقَالُ: بَلْ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ طَلَبُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لِقَوْلِ الْمُدَّعِي، فَرَكَزَ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ قَوْلَ مَنْ لَمْ يُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ وَالْحُجَجَ السَّاطِعَةَ وَالْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ، هَذَا وَهُمْ أَصْدَقُ خَلْقِهِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَبَرُّهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ، فَأَتَوْا بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ مَعَ اعْتِرَافِ أُمَمِهِمْ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 مَنْ عَدَاهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الْآيَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُمْ؛ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ، وَقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَبَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ وَتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا، وَإِنْ خَالَفُوهُ عِنَادًا وَبَغْيًا فَلِفَوَاتِ أَغْرَاضِهِمْ بِالِانْقِيَادِ؛ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: أَبِنْ وَجْهَ قَوْلِ الْحَقِّ فِي قَلْبِ سَامِعٍ ... وَدَعْهُ فَنُورُ الْحَقِّ يَسْرِي وَيُشْرِقُ سَيُؤْنِسُهُ رُشْدًا وَيَنْسَى نِفَارَهُ ... كَمَا نَسِيَ التَّوْثِيقَ مَنْ هُوَ مُطْلِقُ فَفِطْرَةُ اللَّهِ وَشَرْعُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ. [تَفَاوُتُ الِاسْتِعْدَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّقْلِيدَ فِي كُلِّ حُكْمٍ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ " إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبْدَانِ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، إلَى آخِرِهِ " فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَا نَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجُلِّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا مَا أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ نَصْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَجَعْلِ فَتَاوِيهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ، بَلْ تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِتَقْلِيدِهِ عَنْ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَهَذَا مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلشَّهَادَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَالْإِخْبَارِ عَمَّنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَتْبُوعِي هُوَ الْمُصِيبُ. أَوْ يَقُولُ: كِلَاهُمَا مُصِيبٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمَا، فَيَجْعَلُ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَعَارِضَةً مُتَنَاقِضَةً، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَحْكُمُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَدِينُهُ تَبَعٌ لِآرَاءِ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، فَهُوَ إمَّا أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَوْ يُخَطِّئَ مَنْ خَالَفَ مَتْبُوعَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا وَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَتَّقُوهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَأَصْلُ التَّقْوَى مَعْرِفَةُ مَا يُتَّقَى ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَّقِيهِ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ، ثُمَّ يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 خَفِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِيهِ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ عَدَا الرَّسُولِ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا لَا يُطِيقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَمْرِهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا اسْتَطَاعَهُ وَبَلَغَتْهُ قُوَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَعَذَرَهُ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ. فَأَخْطَأَ أَوْ قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَنْ يَخْتَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَجُلًا يَنْصِبُهُ مِعْيَارًا عَلَى وَحْيِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ وَاقْتِبَاسِهَا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَيُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ وَهَجْرِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْفَرْق بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمَأْمُومِ] [فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمَأْمُومِ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ ": إنَّكُمْ فِي تَقْلِيدِكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالْمَتْبُوعِ مَعَ التَّابِعِ فَالرَّكْبُ خَلْفَ الدَّلِيلِ " جَوَابُهُ إنَّا وَاَللَّهِ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْإِمَامِ وَالدَّلِيلِ وَالْمَتْبُوعِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَنْ تَأْتَمَّ بِهِ وَتَتْبَعَهُ وَتَسِيرَ خَلْفَهُ، وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِعِزَّتِهِ أَنَّ الْعِبَادَ لَوْ أَتَوْهُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَوْ اسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا خَلْفَهُ؛ فَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ إمَامُ الْخَلْقِ وَدَلِيلُهُمْ وَقَائِدُهُمْ حَقًّا. وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ بَعْدَهُ إلَّا لِمَنْ دَعَا إلَيْهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ، وَيَأْتَمُّوا بِهِ، وَيَسِيرُوا خَلْفَهُ، وَأَنْ لَا يَنْصِبُوا لِنُفُوسِهِمْ مَتْبُوعًا وَلَا إمَامًا وَلَا دَلِيلًا غَيْرَهُ، بَلْ يَكُونُ الْعُلَمَاءُ مَعَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُصَلِّينَ، كُلُّ وَاحِدٍ يُصَلِّي طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ مُتَعَاوِنُونَ مُتَسَاعِدُونَ بِمَنْزِلَةِ الْوَفْدِ مَعَ الدَّلِيلِ، كُلُّهُمْ يَحُجُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، لَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي لِأَجْلِ كَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي، بَلْ هُوَ يُصَلِّي صَلَّى إمَامُهُ أَوْ لَا. بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّهُ قَالَهُ، لَا لِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَارَ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ أَيْنَ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا. فَاحْتِجَاجُهُمْ بِإِمَامِ الصَّلَاةِ وَدَلِيلِ الْحَاجِّ مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّبْعُونَ: أَنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ وَإِمَامَهُ فِي وُجُوبِهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ هُوَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ حَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَنَّهُ هُوَ وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْفَرْضِ سَوَاءٌ، فَهُوَ لَمْ يَحُجَّ تَقْلِيدًا لِلدَّلِيلِ، وَلَمْ يُصَلِّ تَقْلِيدًا لِلْإِمَامِ. وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لَمَّا هَاجَرَ الْهِجْرَةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَأْمُومًا، وَالْعَالِمُ يُصَلِّي خَلْفَ مِثْلِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، بَلْ خَلْفَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَلَيْسَ مِنْ تَقْلِيدِهِ فِي شَيْءٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ الْمَأْمُومَ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ الْإِمَامُ سَوَاءٌ، وَالرَّكْبُ يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ الدَّلِيلُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ هَذَا مُتَّبِعًا، فَالْمُتَّبِعُ لِلْأَئِمَّةِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ سَوَاءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْدِيمِ الْحُجَّةِ وَتَحْكِيمِهَا حَيْثُ كَانَتْ وَمَعَ مَنْ كَانَتْ؛ فَهَذَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ، وَأَمَّا مَعَ إعْرَاضِهِ عَنْ الْأَصْلِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ إمَامَتُهُمْ وَيَسْلُكُ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِهِمْ فَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] . [الصَّحَابَةُ كَانُوا يُبَلِّغُونَ النَّاسَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: قَوْلُكُمْ: " إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَكَانَ النَّاسُ حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُفْتُونَهُمْ، وَلَمْ يَقُولُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ: عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ " جَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِآرَائِهِمْ، وَإِنَّمَا بَلَّغُوهُمْ مَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ وَفَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ؛ فَكَانَ مَا أَفْتَوْهُمْ بِهِ هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ الْحُجَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا، وَهُوَ عَهْدُنَا إلَيْكُمْ، فَكَانَ مَا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ هُوَ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْحُكْمُ؛ فَإِنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ دَلِيلُ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَكَانَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إنَّمَا يَحْرِصُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ وَفَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ، وَإِنَّمَا تُبَلِّغُهُمْ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ؛ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَمَانٍ إنَّمَا يَحْرِصُ أَشْبَاهُ النَّاسِ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْآخَرُ فَالْآخَرُ، وَكُلَّمَا تَأَخَّرَ الرَّجُلُ أَخَذُوا كَلَامَهُ وَهَجَرُوا أَوْ كَادُوا يَهْجُرُونَ كَلَامَ مَنْ فَوْقَهُ، حَتَّى تَجِدَ أَتْبَاعَ الْأَئِمَّةِ أَشَدَّ النَّاسِ هَجْرًا لِكَلَامِهِمْ، وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ إنَّمَا يَقْضُونَ وَيُفْتُونَ بِقَوْلِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى إلَيْهِمْ وَكُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ ازْدَادَ كَلَامُ الْمُتَقَدِّمِ هَجْرًا وَرَغْبَةً عَنْهُ، حَتَّى إنَّ كُتُبَهُ لَا تَكَادُ تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِحَسَبِ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلتَّابِعَيْنِ: لِيَنْصِبَ كُلٌّ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ رَجُلًا يَخْتَارُهُ وَيُقَلِّدُهُ دِينَهُ وَلَا يَلْتَفِتَ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَتَلَقَّ الْأَحْكَامَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ مِنْ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْءٌ وَعَمَّنْ نَصَبْتُمُوهُ إمَامًا تُقَلِّدُونَهُ فَخُذُوا بِقَوْلِهِ، وَدَعَوْا مَا بَلَغَكُمْ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَكُمْ وَحَقَّتْ الْحَقَائِقُ لَرَأَيْتُمْ نُفُوسَكُمْ وَطَرِيقَكُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ هَاشِمٍ ... وَنَزَلْت بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ وَكَمَا قَالَ الثَّانِي: سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَكَمَا قَالَ الثَّالِثُ: أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرُكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا مَا اسْتَقَلَّتْ ... وَسُهَيْلٌ إذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِي. [لَيْسَ التَّقْلِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ] [لَيْسَ التَّقْلِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ] : الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: قَوْلُكُمْ " إنَّ التَّقْلِيدَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ " جَوَابُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمُنْكَرَ الْمَذْمُومَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْقَدَرِ، بَلْ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ، كَمَا عَرَفَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافِهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَيْسَتْ تَقْلِيدًا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَابَعَةٌ وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا تَسْمِيَتَهَا تَقْلِيدًا فَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الَّذِي وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَإِنَّمَا بُطْلَانُهُ مِنْ لَوَازِمِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ فَبُطْلَانُ ضِدِّهِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ؛ فَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَكَانَ بُطْلَانُ الِاسْتِدْلَالِ وَاتِّبَاعُ الْحُجَّةِ فِي مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْآخَرِ، وَصِحَّةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْآخَرِ، وَتَحَرُّرَهُ دَلِيلًا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَكْمَلُ مِنْ الْآخَرِ؛ فَيَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْمَفْضُولِ إلَى الْفَاضِلِ. قِيلَ: إذَا كَانَ قَدْ انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَكُمْ وَقَطَعْتُمْ طَرِيقَهُ وَصَارَ الْغَرَضُ هُوَ التَّقْلِيدُ فَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا قَدْ سُدَّ بَابُهُ وَقُطِعَتْ طَرِيقُهُ يَكُونُ عِنْدَكُمْ مَعْصِيَةً وَفَاعِلُهُ آثِمًا، وَفِي هَذَا مِنْ قَطْعِ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَإِبْطَالِ حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَخُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ مَا يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَدْحَضُهُ، وَقَدْ ضَمِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا تُزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى الَّذِي قَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَالِاقْتِدَاءُ، وَتَقْدِيمُ النُّصُوصِ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النُّصُوصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً فَبُطْلَانُهُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ، وَلَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِإِنْكَارِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاتِّبَاعُ لَوْنٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [الرِّوَايَةُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ] [الرِّوَايَةُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ] : الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: قَوْلُكُمْ " كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ احْتَجَجْتُمْ بِهَا عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فَأَنْتُمْ مُقَلِّدُونَ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا، وَلَيْسَ بِيَدِ الْعَالِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الرَّاوِي، وَلَا بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَلَا بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، إلَى آخِرِهِ ". جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ تَقْلِيدًا هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا تَقْلِيدًا لَكَانَ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مُقَلِّدًا، بَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ نُظَرَائِهِمْ مُقَلِّدِينَ. وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ مُشَاغِبٍ أَوْ مُلَبِّسٍ يَقْصِدُ لَبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَالْمُقَلِّدُ لِجَهْلِهِ أَخَذَ نَوْعًا صَحِيحًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْلِيدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى النَّوْعِ الْبَاطِلِ مِنْهُ لِوُجُودِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَغَفَلَ عَنْ الْقَدْرِ الْفَارِقِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْبَاطِلُ الْمُتَّفَقُ عَلَى ذَمِّهِ، وَهُوَ أَخُو هَذَا التَّقْلِيدِ الْبَاطِلِ، كِلَاهُمَا فِي الْبُطْلَانِ سَوَاءٌ. وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَبَرَ الصَّادِقِ حُجَّةً وَشَهَادَةَ الْعَدْلِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعُ الْحُجَّةَ مُقَلِّدًا، وَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ مُقَلِّدٌ لِلْحُجَّةِ فَجَهْلًا بِهَذَا التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ، وَهَلْ تُدَنْدِنُ إلَّا حَوْلَهُ؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [ادِّعَاءِ أَنَّ التَّقْلِيدَ أَسْلَمُ مِنْ طَلَبِ الْحُجَّةِ] [الْجَوَابُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ التَّقْلِيدَ أَسْلَمُ مِنْ طَلَبِ الْحُجَّةِ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: قَوْلُكُمْ " أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ، كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ "، جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنَعَ مِنْهُ، وَذَمَّ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَرَ بِتَحْكِيمِهِ وَتَحْكِيمِ رَسُولِهِ وَرَدِّ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ، وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَدُونِ رَسُولِهِ وَلِيجَةً، وَأَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِكِتَابِهِ، وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَرْبَابًا يُحِلُّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ مَا أَحَلُّوهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمُوهُ، وَجَعَلَ مَنْ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 عِلْمَ لَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ مُخْبِرِينَ بِهِ، وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ حَتَّى نُحَكِّمَ الرَّسُولَ خَاصَّةً فِيمَا شَجَرَ بَيْنَنَا لَا نُحَكِّمَ غَيْرَهُ ثُمَّ لَا نَجِدَ فِي أَنْفُسِنَا حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ كَمَا يَجِدُهُ الْمُقَلِّدُونَ إذَا جَاءَ حُكْمُهُ خِلَافَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَأَنْ نُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا، كَمَا يُسَلِّمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ، بَلْ تَسْلِيمًا أَعْظَمَ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ وَأَكْمَلَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَذَمَّ مَنْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ الرَّسُولِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَتَحَاكَمْنَا إلَى غَيْرِهِ لَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ؛ فَسُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لَمْ يَمُتْ، وَإِنْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَّةِ شَخْصُهُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يُفْقَدْ مِنْ بَيْنِنَا سُنَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ وَهَدْيُهُ، وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ بِحَمْدِ اللَّهِ مَكَانَهُمَا، مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِفْظَ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ فَلَا يَزَالُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ مُحْمِيًا بِحِمَايَتِهِ لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ؛ إذْ كَانَ نَبِيُّهُمْ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ فَكَانَ حِفْظُهُ لِدِينِهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُغْنِيًا عَنْ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَ خَاتَمِ الرُّسُلِ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَرَضَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ النَّسْخُ حَتَّى يَنْسَخَ اللَّهُ الْعَالِمَ أَوْ يَطْوِيَ الدُّنْيَا، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى مَا أَنْزَلَهُ وَإِلَى رَسُولِهِ صَدَّ وَأَعْرَضَ، وَحَذَّرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ مُصِيبَةٌ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَحَذَّرَ مَنْ خَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي قَلْبِهِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي بَدَنِهِ وَرُوحِهِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ فَمَنْ فُتِنَ فِي قَلْبِهِ بِإِعْرَاضِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُ إلَى غَيْرِهِ أُصِيبَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَلَا بُدَّ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى أَمْرًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَمْرِهِ غَيْرَ مَا قَضَاهُ، فَلَا خِيَرَةَ بَعْدَ قَضَائِهِ لِمُؤْمِنٍ أَلْبَتَّةَ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ الْمُقَلِّدِينَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَمْ لَا؟ ، [مَثَلٌ مِمَّا خَفِيَ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ] : فَإِنْ قَالُوا: " لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ " أَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ؛ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ؛ فَهَذَا الصِّدِّيقُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِهِ خَفِيَ عَلَيْهِ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا دِيَةَ لَهُ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ عُمَرُ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِ. وَخَفِيَ عَلَى عُمَرَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ فَقَالَ: لَوْ بَقِيَ شَهْرًا لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْتَسِلَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فَقَضَى فِي الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّ فِي كِتَابِ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهَا بِعَشْرٍ عَشْرٍ؛ فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ إلَيْهِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ أَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ - وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ سُقُوطُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ فَكَانَ يَرُدُّهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ثُمَّ يَطُفْنَ حَتَّى بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ ذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَهَا حَتَّى بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي التَّسْوِيَةِ فَرَجَعَ إلَيْهَا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَكَانَ يَنْهَى عَنْهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَا فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَأَمَرَ بِهَا. وَخَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَنَهَى عَنْهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ طَلْحَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنَّاهُ أَبَا مُحَمَّدٍ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يَتَمَادَ عَلَى النَّهْيِ، هَذَا وَأَبُو مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ مِنْ أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَمُرَّ بِبَالِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمْرٌ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ، وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَقَوْلُهُ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] حَتَّى قَالَ: وَاَللَّهِ كَأَنِّي مَا سَمِعْتُهَا قَطُّ قَبْلَ وَقْتِي هَذَا، وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنَاتِهِ حَتَّى ذَكَّرَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَقَالَ: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ، وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ وَبَعْضِ أَبْوَابِ الرِّبَا فَتَمَنَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إلَيْهِمْ فِيهَا عَهْدًا. وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ لِذَاكَ الْعَامِ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ اسْتِدَامَةِ الطَّيِّبِ لِلْمُحْرِمِ وَتُطَيِّبُهُ بَعْدَ النَّحْرِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْقُدُومِ عَلَى مَحَلِّ الطَّاعُونِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ حَتَّى أُخْبِرَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، فَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ» هَذَا وَهُوَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " لَوْ وُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجُعِلَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ " قَالَ الْأَعْمَشُ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ. وَخَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مَعَ قَوْلِهِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فَرَجَعَ إلَى ذَلِكَ، وَخَفِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ السُّدُسُ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَهَا ذَلِكَ. وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ الْعَبَّاسِ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حُكْمُ الْمُفَوِّضَةِ وَتَرَدَّدُوا إلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا فَأَفْتَاهُمْ بِرَأْيِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ النَّصُّ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَجَاءَ سِفْرًا كَبِيرًا، فَنَسْأَلُ حِينَئِذٍ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ بَعْضُ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى سَادَاتِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ " وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بَلَغُوا فِي الْغُلُوِّ مَبْلَغَ مُدَّعِي الْعِصْمَةِ فِي الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ قَالُوا: " بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ " وَهُوَ الْوَاقِعُ وَهُمْ مَرَاتِبُ فِي الْخَفَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، قُلْنَا: فَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ، وَإِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا خَفِيَ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَبْقَى لَكُمْ الْخِيَرَةُ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِهِ وَرَدِّهِ أَمْ تَنْقَطِعُ خِيَرَتُكُمْ وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ سِوَاهُ؟ فَأَعِدُّوا لِهَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا، وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ وَاقِعٌ، وَالْجَوَابَ لَازِمٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ التَّقْلِيدِ، فَأَيْنَ مَعَكُمْ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تَقْطَعُ الْعُذْرَ وَتُسَوِّغُ لَكُمْ مَا ارْتَضَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَكُمْ " صَوَابُ الْمُقَلِّدِ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ مَنْ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ لَمْ يَدْرِ عَلَى صَوَابٍ هُوَ مِنْ تَقْلِيدِهِ أَوْ عَلَى خَطَأٍ، بَلْ هُوَ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - حَاطِبُ لَيْلٍ إمَّا أَنْ يَقَعَ بِيَدِهِ عُودٌ أَوْ أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَأَمَّا إذَا بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَهُ فَلَهُ أَجْرٌ، فَهُوَ مُصِيبٌ لِلْأَجْرِ وَلَا بُدَّ، بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ فَإِنَّهُ إنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْإِثْمِ، فَأَيْنَ صَوَابُ الْأَعْمَى مِنْ صَوَابِ الْبَصِيرِ الْبَاذِلِ جَهْدَهُ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ إذَا عَرَفَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا لَهُ، بَلْ مُتَّبِعًا لِلْحُجَّةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ بَاذِلِ جَهْدِهِ وَمُسْتَفْرِغِ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ مَنْ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَرَدَّ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ رَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ؟ ، الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلْتُمْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ أَوْ سُلُوكَ طَرِيقٍ حِينَ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُهُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدُمُ عَلَى تَقْلِيدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ يَبْقَى مُتَرَدِّدًا طَالِبًا لِلصَّوَابِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؛ فَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ مَعَ مُسَاوَاةِ الْآخَرِ لَهُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالدَّيَّانَةِ أَوْ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ عُدَّ مُخَاطِرًا مَذْمُومًا وَلَمْ يُمْدَحْ إنْ أَصَابَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَوَقَّفَ أَحَدُهُمْ وَيَطْلُبَ تَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ الصَّوَابُ، وَلَمْ يُجْعَلْ فِي فِطَرِهِمْ الْهَجْمُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَاطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنْ نَقُولَ لِطَائِفَةِ الْمُقَلِّدِينَ: هَلْ تُسَوِّغُونَ تَقْلِيدَ كُلِّ عَالِمٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَوْ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؟ فَإِنْ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَ الْجَمِيعِ كَانَ تَسْوِيغُكُمْ لِتَقْلِيدِ مَنْ انْتَمَيْتُمْ إلَى مَذْهَبِهِ كَتَسْوِيغِكُمْ لِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ، فَكَيْفَ صَارَتْ أَقْوَالُ هَذَا الْعَالِمِ مَذْهَبًا لَكُمْ تُفْتُونَ وَتَقْضُونَ بِهَا وَقَدْ سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا مَا سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ الْآخَرِ؟ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا صَاحِبَ مَذْهَبِكُمْ دُونَ هَذَا؟ وَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَقْوَالَ هَذَا وَتَقْبَلُوا أَقْوَالَ هَذَا وَكِلَاهُمَا عَالِمٌ يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ؟ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ دَفْعُ الدِّينِ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَهُ؟ وَهَذَا لَا جَوَابَ لَكُمْ عَنْهُ. [مَجِيءُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ كَمَجِيءِ قَوْلَيْنِ لِإِمَامَيْنِ] [مَجِيءُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ كَمَجِيءِ قَوْلَيْنِ لِإِمَامَيْنِ] : يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ إذَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلَانِ وَرِوَايَتَانِ سَوَّغْتُمْ الْعَمَلَ بِهِمَا، وَقُلْتُمْ: مُجْتَهِدٌ لَهُ قَوْلَانِ؛ فَيَسُوغُ لَنَا الْأَخْذُ بِهَذَا وَهَذَا، وَكَانَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ قَوْلَ نَظِيرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَجَعَلْتُمْ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ، وَرُبَّمَا كَانَ قَوْلُ نَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَرْجَحَ مِنْ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَأَقْرَبَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ مِمَّنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَوْلًا خِلَافَ قَوْلِ الْمَتْبُوعِ أَوْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُمُوهُ وَجْهًا وَقَضَيْتُمْ وَأَفْتَيْتُمْ بِهِ وَأَلْزَمْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَوْ فَوْقَهُ قَوْلًا يُخَالِفُهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَلَمْ تَعُدُّوهُ شَيْئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَجَلُّ مِنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، فَقَدِّرُوا أَسْوَأَ الْمَقَادِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ وَجْهٍ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 مَذْهَبِكُمْ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، صَارَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ أَحَقَّ بِالْقَبُولِ مِمَّنْ أَفْتَى بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْكُمْ. وَتَمَامُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ: أَنَّكُمْ إنْ رُمْتُمْ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ، وَقُلْتُمْ: بَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ: يَسُوغُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ، كَانَ أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةَ قَوْلِكُمْ بِقَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى فِي ضَرْبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. ثُمَّ يُقَالُ: مَا الَّذِي جَعَلَ مَتْبُوعَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ مَتْبُوعِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى؟ بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ؟ وَهَلْ تَقَطَّعَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهَا بَيْنَهَا زُبُرًا وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ إلَّا بِهَذَا السَّبَبِ؟ ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدْعُوا إلَى مَتْبُوعِهَا وَتَنْأَى عَنْ غَيْرِهِ وَتَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مُفْضٍ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَجَعْلِ دِينِ اللَّهِ تَابِعًا لِلتَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ وَعُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِلِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ تَنَاقُضُ أَصْحَابِهِ وَمُعَارَضَةُ أَقْوَالِهِمْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ إلَّا إيجَابُهُمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِهِمْ وَتَحْرِيمُهُمْ تَقْلِيدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ حَكَمُوا عَلَى اللَّهِ قَدَرًا وَشَرْعًا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ جِهَارًا الْمُخَالِفِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ فَأَخْلَوْا الْأَرْضَ مِنْ الْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَقَالُوا: لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ عَالِمٌ مُنْذُ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَجَعَلُوهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: طَائِفَةٌ أَصْحَابُ وُجُوهٍ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَأَبِي حَامِدٍ، وَطَائِفَةٌ أَصْحَابُ احْتِمَالَاتٍ لَا أَصْحَابَ وُجُوهٍ كَأَبِي الْمَعَالِي، وَطَائِفَةٌ لَيْسُوا أَصْحَابَ وُجُوهٍ وَلَا احْتِمَالَاتٍ كَأَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَلَفُوا مَتَى انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعِلْمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَلَا يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ بِمَا فِيهِمَا حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ حَكَمَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَأَفْتَى بِهِ، وَإِلَّا رَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ - كَمَا تَرَى - قَدْ بَلَغَتْ مِنْ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالتَّنَاقُضِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ، وَالزُّهْدِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا مَبْلَغَهَا، وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُصَدِّقَ قَوْلَ رَسُولِهِ. إنَّهُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَلَنْ تُزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يُقَالَ لِأَرْبَابِهَا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْتُمْ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ اخْتِيَارُ تَقْلِيدِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَكَيْفَ حَرَّمْتُمْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْتَارَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَبَحْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ اخْتِيَارَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ، وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى الْأُمَّةِ تَقْلِيدَهُ، وَحَرَّمْتُمْ تَقْلِيدَ مَنْ سِوَاهُ، وَرَجَحْتُمُوهُ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ سِوَاهُ؟ فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ هَذَا الِاخْتِيَارَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ، وَحَرَّمَ اخْتِيَارَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؟ وَيُقَالُ لَكُمْ: فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَك وَلَا عِنْدَ غَيْرِك فَمِنْ أَيْنَ سَاغَ لَك وَأَنْتَ لَمْ تُولَدْ إلَّا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةٍ أَنْ تَخْتَارَ قَوْلَ مَالِكٍ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ؟ وَمُوجِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَشْهَبَ وَابْنَ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْبَغَ بْنَ الْفَرَجِ وَسَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا إلَى انْسِلَاخِ ذِي الْحُجَّةِ مِنْ سَنَةِ مِائَتَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَغَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ بِلَا مُهْلَةٍ مَا كَانَ مُطْلَقًا لَهُمْ مِنْ الِاخْتِيَارِ. وَيُقَالُ لِلْآخَرِينَ: أَلَيْسَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَعَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُكُمْ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ وَالْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ، ثُمَّ لَا تُجِيزُونَ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ لِحُفَّاظِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَفَتَاوَاهُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَنُظَرَائِهِمْ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالسَّقِيمِ وَتَحَرِّيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ وَلُطْفِ اسْتِخْرَاجِهِمْ لِلدَّلَائِلِ، وَمِنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ مِنْ أَقْرَبِ الْقِيَاسِ إلَى الصَّوَابِ، وَأَبْعَدِهِ عَنْ الْفَسَادِ، وَأَقْرَبِهِ إلَى النُّصُوصِ، مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَمَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ وَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَائَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لَهُمْ، فَإِنْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِتَرْجِيحِ مَتْبُوعِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرَاجِيحِ مِنْ تَقَدُّمِ زَمَانٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ لِقَاءِ شُيُوخٍ وَأَئِمَّةٍ لَمْ يَلْقَهُمْ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ لَمْ يَكُونُوا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنْ يَبْدُوَا لِمَتْبُوعِهِمْ مِنْ التَّرْجِيحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا أَوْ فَوْقَهُ، وَأَمْكَنَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ جَمِيعًا: نُفُوذُ قَوْلِكُمْ هَذَا إنْ لَمْ تَأْنَفُوا مِنْ التَّنَاقُضِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا قَوْلَ مَتْبُوعِكُمْ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَعْلَمُ وَأَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَكْثَرُ اتِّبَاعًا وَأَجَلُّ، فَأَيْنَ أَتْبَاعُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بَلْ أَتْبَاعُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْجَلَالَةِ؟ وَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَمَلَ الْعِلْمَ عَنْهُ ثَمَانُمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ، وَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِثْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ السَّعِيدَيْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَشُرَيْحٍ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ نَافِعٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَمَا الَّذِي جَعَلَ الْأَئِمَّةَ بِأَتْبَاعِهِمْ أَسْعَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَتْبَاعِهِمْ؟ وَلَكِنَّ أُولَئِكَ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى قَدْرِ عَصْرِهِمْ فَعِظَمُهُمْ وَجَلَالَتُهُمْ وَكُبْرُهُمْ مَنَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالُوا بِلِسَانِ قَالِهِمْ وَحَالِهِمْ: هَؤُلَاءِ كِبَارٌ عَلَيْنَا لَسْنَا مِنْ زَبُونِهِمْ، كَمَا صَرَّحُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ أَقْدَارَهُمْ تَتَقَاصَرُ عَنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالُوا: لَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ، لَا لِقُصُورِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ لِعَجْزِنَا نَحْنُ وَقُصُورِنَا، فَاكْتَفَيْنَا بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا مِنَّا، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ اقْتَدَى بِهِمَا وَحَكَّمَهُمَا وَتَحَاكَمَ إلَيْهِمَا وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمَا فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُمَا رَدَّهُ؟ فَهَبْ أَنَّكُمْ لَمْ تَصِلُوا إلَى هَذَا الْعُنْقُودِ فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ؟ وَكَيْفَ تَحَجَّرْتُمْ الْوَاسِعَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ عُقُولِ الْعَالَمِينَ وَلَا اقْتِرَاحَاتِهِمْ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي عَصْرِكُمْ وَنَشَئُوا مَعَكُمْ وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ نَسَبٌ قَرِيبٌ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ رَدَّ النُّبُوَّةَ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَهَا عَنْ عُظَمَاءِ الْقُرَى وَمِنْ رُؤَسَائِهَا وَأَعْطَاهَا لِمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ أُمَّتِي كَالْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ السَّابِقِينَ بِأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، ثُمَّ قَالَ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي الْقِيَاسِ وَالتَّقْلِيدِ، وَذَكَرْنَا مِنْ مَآخِذِهِمَا وَحُجَجِ أَصْحَابِهِمَا وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ مَا لَا يَجِدُهُ النَّاظِرُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْقَوْمِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَلَا يَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ أَبَدًا، وَذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَمَعُونَتِهِ وَفَتْحِهِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنْ اللَّهِ، هُوَ الْمَانُّ بِهِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَدِينُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ] فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ، وَسُقُوطِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّصِّ، وَذِكْرِ إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. [الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا اجْتِهَادَ مَعَهُ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 44 - 47] فَأَكَّدَ هَذَا التَّأْكِيدَ وَكَرَّرَ هَذَا التَّقْرِيرَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ، وَعُمُومِ مَضَرَّتِهِ، وَبَلِيَّةِ الْأُمَّةِ بِهِ، وَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وَأَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَاجَّ فِي دِينِهِ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] وَنَهَى أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَصًّا، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَقَالَ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبْصِرُوهَا؛ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدْلَجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يُرِيدُ - وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - بِكِتَابِ اللَّهِ قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] وَيُرِيدُ بِالشَّأْنِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ يَحُدُّهَا لِمُشَابِهَةِ وَلَدِهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ فَصَّلَ الْحُكُومَةَ، وَأَسْقَطَ كُلَّ قَوْلٍ وَرَاءَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلِاجْتِهَادِ بَعْدَهُ مَوْقِعٌ. [مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى شَيْخٍ مِنْ زُهْرَةَ كَانَ يَسْكُنُ دَارَنَا، فَذَهَبْت مَعَهُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَسَأَلَهُ عَنْ وِلَادٍ مِنْ وِلَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْفِرَاشُ فَلِفُلَانٍ، وَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلِفُلَانٍ؛ فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْت، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالْفَرْشِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ قَالَ: ابْتَعْت غُلَامًا، فَاسْتَغْلَلْته، ثُمَّ ظَهَرْت مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ، فَخَاصَمْت فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَضَى لِي بِرَدِّهِ، وَقَضَى عَلَيَّ بِرَدِّ غَلَّتِهِ، فَأَتَيْت عُرْوَةَ فَأَخْبَرْته، فَقَالَ: أَرُوحُ إلَيْهِ الْعَشِيَّةَ فَأُخْبِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ «الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» فَعَجَّلْت إلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْته بِمَا أَخْبَرَنِي بِهِ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا أَيْسَرَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ قَضَاءٍ قَضَيْته، اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدْ فِيهِ إلَّا الْحَقَّ؛ فَبَلَغَتْنِي فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرُدُّ قَضَاءَ عُمَرَ وَأُنَفِّذُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَاحَ إلَيْهِ عُرْوَةُ؛ فَقَضَى لِي أَنْ آخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيَّ لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: قَضَى سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَى رَجُلٍ بِقَضِيَّةٍ بِرَأْيِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخْبَرْته عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ لِرَبِيعَةَ: هَذَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ يُخْبِرُنِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ مَا قَضَيْت بِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ: قَدْ اجْتَهَدْت وَمَضَى حُكْمُك، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاعْجَبَا، أُنَفِّذُ قَضَاءَ سَعْدِ بْنِ أُمِّ سَعْدٍ وَأَرُدُّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ أَرُدُّ قَضَاءَ سَعْدِ بْنِ أُمِّ سَعْدٍ وَأُنَفِّذُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَدَعَا سَعْدٌ بِكِتَابِ الْقَضِيَّةِ فَشَقَّهُ وَقَضَى لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَلْيَوْحَشْنَا الْمُقَلِّدُونَ، ثُمَّ أَوْحَشَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الرَّسْمِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ امْرَأَةٍ حَاضَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَارَتْ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا، فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْت بِهِ، فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدُّرَّةِ وَيَقُولُ لَهُ: لِمَ تَسْتَفْتِينِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثنا سُفْيَانُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَتَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا وَلَمْ آخُذْ بِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إسْرَائِيلُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى أُمَّهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ فَكَانَ يَبِيعُ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ يُعْطِي الْكَثِيرَ وَيَأْخُذُ الْقَلِيلَ، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: لَا تَحِلُّ لِهَذَا الرَّجُلِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَصْلُحُ الْفِضَّةُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ انْطَلَقَ إلَى الرَّجُلِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ قَوْمَهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي أَفْتَيْت بِهِ صَاحِبَكُمْ لَا يَحِلُّ، وَأَتَى الصَّيَارِفَةَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ إنَّ الَّذِي كُنْت أُبَايِعُكُمْ لَا يَحِلُّ، لَا تَحِلُّ الْفِضَّةُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَذَاكَرُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ تَضَعُ عِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: تَحِلُّ حِينَ تَضَعُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَأَنَا مَعَ ابْن أَخِي، فَأَرْسَلُوا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: «قَدْ وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِيَسِيرٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَتَزَوَّجَ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ رُجُوعِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ إلَى السُّنَّةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ: إنَّمَا نَأْخُذُ بِالرَّأْيِ مَا لَمْ نَجِدْ الْأَثَرَ، فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ تَرَكْنَا الرَّأْيَ، وَأَخَذْنَا بِالْأَثَرِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ: لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَصْحَابٌ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا، بَلْ إمَامًا مُسْتَقِلًّا كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: طَبَقَاتُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ خَمْسَةٌ: الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنْبَلِيَّةُ، وَالرَّاهَوِيَّةُ، وَالْخُزَيْمِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا حَدَّثَ الثِّقَةُ عَنْ الثِّقَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ ثَابِتٌ، وَلَا يُتْرَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ أَبَدًا، إلَّا حَدِيثٌ وُجِدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ يُخَالِفُهُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ: مَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِإِتْيَانِهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ لِي قَائِلٌ: دُلَّنِي عَلَى أَنَّ عُمَرَ عَمِلَ شَيْئًا ثُمَّ صَارَ إلَى غَيْرِهِ لِخَبَرٍ نَبَوِيٍّ، قُلْت لَهُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ» فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ، وَأَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو وَابْنُ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ شَيْئًا، فَقَامَ «حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمُسَطَّحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةٍ» ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ فِيهِ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا، أَوْ قَالَ: إنْ كِدْنَا لِنَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا، فَتَرَكَ اجْتِهَادَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلنَّصِّ. [يُصَارُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ] [يُصَارُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ] : وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ إذْ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يَرَى لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَجَعَ زَيْدٌ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقْت، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى زَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا، فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ الْجَمْرَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَتَرَكَ سَالِمٌ قَوْلَ جَدِّهِ لِرِوَايَتِهَا، قُلْت: لَا كَمَا تَصْنَعُ فِرْقَةُ التَّقْلِيدِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لِنُعْطِيَنَّك جُمْلَةً تُغْنِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا تَدَعْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا أَبَدًا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَهُ فَتَعْمَلَ بِمَا قُلْت لَك فِي الْأَحَادِيثِ إذَا اخْتَلَفَتْ. قَالَ الْأَصَمُّ: وَسَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعُوا مَا قُلْت، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَارُودِيُّ: سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إذَا وَجَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ قَوْلِي فَخُذُوا بِالسُّنَّةِ وَدَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ الرَّازِيّ: سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فِيهَا صَحَّ الْخَبَرُ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْت فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي. وَقَالَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا قُلْت وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِي مِمَّا يَصِحُّ فَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، لَا تُقَلِّدُونِي؛ وَقَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت الْأَصَمَّ يَقُولُ: سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: وَرَوَى حَدِيثًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَأْخُذُ بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَتَى رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا صَحِيحًا فَلَمْ آخُذْ بِهِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى رُءُوسِهِمْ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: سَأَلَ رَجُلٌ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 فَأَفْتَاهُ وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ قَالَ: أَرَأَيْت فِي وَسَطِي زُنَّارًا؟ أَتَرَانِي خَرَجْت مِنْ الْكَنِيسَةِ؟ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ لِي: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَقُولُ بِهِ؟ وَقَالَ الْحَاكِمُ: أَنْبَأَنِي أَبُو عَمْرُونٍ السَّمَّاكُ مُشَافَهَةً أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْجَصَّاصَ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتَقُولُ بِهَذَا؟ فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَاصْفَرَّ وَحَالَ لَوْنُهُ - وَقَالَ: وَيْحَكَ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ؟ نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ، نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ. قَالَ: وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قَوْلِي، وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا، وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ، وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَرُّقًا مُتَبَايِنًا، وَتَفَرَّقَ عَنْهُمْ مِمَّنْ نَسَبَتْهُ الْعَامَّةُ إلَى الْفِقْهِ تَفَرُّقًا أَتَى بَعْضُهُمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَوْ التَّحْقِيقِ مِنْ النَّظَرِ وَالْغَفْلَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ بِالرِّيَاسَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ لَكُمْ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا لِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ أَحْسَنُ أَمْرِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قَالَ بِهِ وَتَرَكَ قَوْلَهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ لَا يَدْخُلَهُ الْقِيَاسُ وَلَا مَوْضِعَ لِلْقِيَاسِ لِمَوْقِعِ السُّنَّةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي أَنَّهُ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ أُنْكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَمَاتَ زَوْجُهَا، فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا؛ وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ» ، فَإِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِنَا، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي قِيَاسٍ وَلَا فِي شَيْءٍ إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ، هُوَ مَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَنْ بَعْضِ أَشْجَعَ لَا يُسَمَّى. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ إذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 افْتَتَحَ الصَّلَاةَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ، قُلْت لَهُ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ قَوْلِنَا. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْت لَهُ: فَإِنَّا نَقُولُ يَرْفَعُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَا يَعُودُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ - يَعْنِي مَالِكًا - يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ» ، ثُمَّ خَالَفْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُمْ: لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا رَفَعَاهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، أَفَيَجُوزُ لِعَالِمٍ أَنْ يَتْرُكَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلَ ابْنِ عُمَرَ لِرَأْيِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَأْيِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ يَأْتِي مَوْضِعٌ آخَرُ يُصِيبُ فِيهِ فَيُتْرَكُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَكَيْفَ لَمْ يَنْهَهُ بَعْضُ هَذَا عَنْ بَعْضٍ؟ أَرَأَيْت إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ اثْنَتَيْنِ أَنَأْخُذُ بِوَاحِدَةٍ وَنَتْرُكُ وَاحِدَةً؟ أَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ وَأَخَذَ الَّذِي تَرَكَ؟ أَوْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقُلْت لَهُ: فَإِنَّ صَاحِبَنَا قَالَ: فَمَا مَعْنَى الرَّفْعِ؟ قَالَ مَعْنَاهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَاتِّبَاعٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْنَى الرَّفْعِ فِي الْأُولَى مَعْنَى الرَّفْعِ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، ثُمَّ خَالَفْتُمْ فِيهِ رِوَايَتَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنِ عُمَرَ مَعًا، وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ. قُلْت: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ تَارِكَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ تَارِكٌ لِلسُّنَّةِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا يَبْقَى رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلَّاقِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ؛ فَقَالَ: جَائِزٌ، وَأُحِبُّهُ، وَلَا أَكْرَهُهُ؛ لِثُبُوتِ السُّنَّةِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَخْبَارُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقُلْت: وَمَا حُجَّتُك فِيهِ؟ فَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِيهِ وَالْآثَارَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، قَالَ سَالِمٌ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي، سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَا تَذْهَبُونَ إلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا وَتَرْكِ ذَلِكَ لِغَيْرِ شَيْءٍ بَلْ لِرَأْيِ أَنْفُسِكُمْ فَالْعِلْمُ إذًا إلَيْكُمْ تَأْتُونَ مِنْهُ مَا شِئْتُمْ وَتَدْعُونَ مَا شِئْتُمْ. وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ، رِوَايَةُ الزَّعْفَرَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِك قَدْ قَالَ خِلَافَ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْت لَهُ: مَنْ تَبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافَقْته، وَمَنْ خَلَطَ فَتَرَكَهَا خَالَفْته، حَتَّى صَاحِبِي: الَّذِي لَا أُفَارِقُ الْمُلَازِمُ الثَّابِتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ بَعُدَ، وَاَلَّذِي أُفَارِقُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ قَرُبَ. وَقَالَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ بِكِتَابٍ عَزِيزٍ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَهَدَى بِكِتَابِهِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89] وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ، فَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَّا اتِّبَاعَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 53] مَعَ مَا عَلَّمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، ثُمَّ فَرَضَ اتِّبَاعَ كِتَابِهِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43] وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ الْعِلْمِ فَأَمَرَهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَيْرَهُ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ أَنْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَمَا تَأَخَّرَ قَبْلَ أَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُذْنِبُ، فَعَلِمَ مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَجَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 امْرَأَةِ رَجُلٍ رَمَاهَا بِالزِّنَا، فَقَالَ لَهُ يَرْجِعُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ آيَةَ اللِّعَانِ فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] الْآيَةَ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 42] {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] فَحَجَبَ عَنْ نَبِيِّهِ عِلْمَ السَّاعَةِ، وَكَانَ مَنْ عَدَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيَاءَهُ الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَقْصَرُ عِلْمًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ فِيهِ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي مُعَارَضَةِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ: إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْهُدَى وَالنُّورَ لِمَنْ اتَّبَعَهُ، وَجَعَلَ رَسُولَهُ الدَّالَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمَا قَصَدَ لَهُ الْكِتَابُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الدَّالِ عَلَى مَعَانِيهِ، شَاهِدُهُ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَاصْطَفَاهُمْ لَهُ، وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْهُ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ بِمُشَاهَدَتِهِمْ وَمَا قَصَدَ لَهُ الْكِتَابُ، فَكَانُوا هُمْ الْمُعَبِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ جَابِرٌ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا عَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، ثُمَّ سَاقَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] وَقَالَ: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] وَقَالَ فِي النِّسَاءِ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . وَقَالَ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] . وَقَالَ فِي الْمَائِدَةِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] وَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] . وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وَقَالَ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] وَقَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] وَقَالَ: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَقَالَ: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] وَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ ذَبْحِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2 - 3] {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17] وَقَالَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12] وَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا - رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11] وَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفتح: 9] . وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 17] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَحْزَابُ الْمِلَلُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: طُفْت مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغْنَا الرُّكْنَ الْغَرْبِيَّ الَّذِي يَلِي الْأَسْوَدَ جَرَرْت بِيَدِهِ لِيَسْتَلِمَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُك؟ فَقُلْت: أَلَّا تَسْتَلِمُ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَطُفْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقُلْت: بَلَى، قَالَ: أَفَرَأَيْته يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْغَرْبِيَّيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَلَيْسَ لَك فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ قُلْت: بَلَى، قَالَ: فَانْفُذْ عَنْك، قَالَ: وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْت. ثُمَّ ذَكَر أَحْمَدُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَارَضَ السُّنَنَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَرَدَّهَا بِذَلِكَ، وَهَذَا فِعْلُ الَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي رَدِّ الْمُحْكَمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَفْظًا مُتَشَابِهًا غَيْرَ الْمُحْكَمِ يَرُدُّونَهُ بِهِ اسْتَخْرَجُوا مِنْ الْمُحْكَمِ وَصْفًا مُتَشَابِهًا وَرَدُّوهُ بِهِ، فَلَهُمْ طَرِيقَانِ فِي رَدِّ السُّنَنِ؛ أَحَدُهُمَا: رَدُّهَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ، الثَّانِي: جَعْلُهُمْ الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا لِيُعَطِّلُوا دَلَالَتَهُ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقَ فَعَكْسُ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 يَرُدُّونَ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْمُحْكَمِ مَا يُفَسِّرُ لَهُمْ الْمُتَشَابِهَ وَيُبَيِّنُهُ لَهُمْ، فَتَتَّفِقُ دَلَالَتَهُ مَعَ دَلَالَةِ الْمُحْكَمِ، وَتُوَافِقُ النُّصُوصُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّنَاقُضُ فِيمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. [أَمْثِلَةٌ لِمَنْ أَبْطَلَ السُّنَنَ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقُرْآنِ] وَلْنَذْكُرْ لِهَذَا الْأَصْلِ أَمْثِلَةً لِشِدَّةِ حَاجَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ إلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: رَدَّ الْجَهْمِيَّةُ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ غَايَةَ الْإِحْكَامِ الْمُبَيِّنَةَ بِأَقْصَى غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَبِالْأَفْعَالِ كَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ بِذَلِكَ وَإِخْبَارُهُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَتَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ فَلَيْسَ يَقْصُرُ عَنْهُ، فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَفَرَضَ عَلَى الْأُمَّةِ تَصْدِيقَهُ فِيهِ، فَرْضًا لَا يَتِمُّ أَصْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِهِ، فَرَدَّ الْجَهْمِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَمِنْ قَوْلِهِ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وَمِنْ قَوْلِهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ اسْتَخْرَجُوا مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ الْمُبَيِّنَةِ احْتِمَالَاتٍ وَتَحْرِيفَاتٍ جَعَلُوهَا بِهِ مِنْ قِسْمِ الْمُتَشَابِهِ. الْمِثَالُ الثَّانِي: رَدُّهُمْ الْمُحْكَمَ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِهِ مِنْ إثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ بِمُتَشَابِهِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَحَيَّلُوا وَتَمَحَّلُوا حَتَّى رَدُّوا نُصُوصَ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ بِمُتَشَابِهِهِ. [رَدَّ النُّصُوص الْمُحْكَمَةَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ: رَدَّ الْقَدَرِيَّةُ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ الْمُحْكَمَةَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ثُمَّ اسْتَخْرَجُوا لِتِلْكَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، وُجُوهًا أُخَرَ أَخْرَجُوهَا مِنْ قِسْمِ الْمُحْكَمِ وَأَدْخَلُوهَا فِي الْمُتَشَابِهِ. [رَدَّ النُّصُوصَ الْمَحْكَمَةَ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا مُخْتَارًا فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ: رَدَّ الْجَبْرِيَّةُ النُّصُوصَ الْمَحْكَمَةَ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا مُخْتَارًا فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ بِمُتَشَابِهِ قَوْلِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] وَقَوْلِهِ: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَخْرَجُوا لِتِلْكَ النُّصُوصِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي يَقْطَعُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْهَا مَا صَيَّرُوهَا بِهِ مُتَشَابِهَةً. [رَدَّ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ فِي ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْعُصَاةِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ: رَدَّ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ الْمُحْكَمَةَ غَايَةَ الْإِحْكَامِ فِي ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِلْعُصَاةِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفَعَلُوا فِيهَا فِعْلَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ سَوَاءً. [رَدَّ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ: رَدَّ الْجَهْمِيَّةُ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتْ فِي صَرَاحَتِهَا وَصِحَّتِهَا إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] وَقَوْلِهِ لِمُوسَى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وَنَحْوِهَا، ثُمَّ أَحَالُوا الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا وَرَدُّوا الْجَمِيعَ. [رَدَّ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَدَ عَلَى ثُبُوتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَقِيَامِهَا بِهِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ: رَدُّ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَدَ عَلَى ثُبُوتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَقِيَامِهَا بِهِ كَقَوْلِهِ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وَقَوْلِهِ: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105] وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [النمل: 8] وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] وَقَوْلِهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وَقَوْلِهِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] . وَقَوْلِهِ: «إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 يَغْضَبْ اللَّهُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَمْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» وَقَوْلِهِ: «إذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي» الْحَدِيثَ، وَأَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ، فَرَدُّوا هَذَا كُلَّهُ مَعَ إحْكَامِهِ بِمُتَشَابِهِ قَوْلِهِ: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] . [رَدُّ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ لِحِكْمَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ: رَدُّ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ لِحِكْمَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، وُجُودُهَا خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهَا، وَدُخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ فِي شَرْعِهِ وَقَدْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعَدَّ، فَرَدُّوهَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ثُمَّ جَعَلُوهَا كُلَّهَا مُتَشَابِهَةً. [رَدُّ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَسْبَابِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ: رَدُّ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَسْبَابِ شَرْعًا وَقَدْرًا كَقَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39] {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182] {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 107 - 9] {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35] وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] وَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون: 19] وَقَوْلِهِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وَقَوْلِهِ فِي الْعَسَلِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] إلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَرَدُّوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وَقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: «إنِّي لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُهُ» وَقَوْلِهِ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْعَزْلِ عَنْ أَمَتِهِ «اعْزِلْ عَنْهَا فَسَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» وَقَوْلِهِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» وَقَوْلِهِ: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» وَقَوْلِهِ: «أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ» وَلَمْ يَقُلْ: مَنَعَهَا الْبَرْدُ وَالْآفَةُ الَّتِي تُصِيبُ الثِّمَارَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالِكَ السَّبَبِ وَخَالِقِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ: بِأَنْ يَسْلُبَهُ سَبَبِيَّتَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 إنْ شَاءَ، وَيُبْقِيهَا عَلَيْهِ إنْ شَاءَ، كَمَا سَلَبَ النَّارَ قُوَّةَ الْإِحْرَاقِ عَنْ الْخَلِيلِ، وَبِاَللَّهِ الْعَجَبُ، أَتَرَى مَنْ أَثْبَتَ الْأَسْبَابَ وَقَالَ إنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا أَثْبَتَ خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ؟ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فَغَابَ عَنْهُمْ فِقْهُ الْآيَةِ وَفَهْمُهَا، وَالْآيَةُ مِنْ أَكْبَرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخِطَابُ بِهَا خَاصٌّ لِأَهْلِ بَدْرٍ. وَكَذَلِكَ الْقَبْضَةُ الَّتِي رَمَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْصَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الرَّمْيُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُ، وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّمْيَ الَّذِي هُوَ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ وَهُوَ الْخَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ هُوَ قَتْلٌ لَمْ تُبَاشِرْهُ أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا بَاشَرَتْهُ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ الْفَارِسِ وَإِذَا بِرَأْسِهِ قَدْ وَقَعَ أَمَامَهُ مِنْ ضَرْبَةِ الْمَلِكِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا فِقْهَ لَهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كُلِّ قَتْلٍ وَكُلِّ فِعْلٍ مِنْ شُرْبٍ أَوْ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجَمِيعِ، وَكَلَامُ اللَّهِ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» لَمْ يُرِدْ أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُمْ بِالْقَدَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَصَرِّفًا بِأَمْرِ اللَّهِ مُنَفِّذًا لَهُ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِحَمْلِهِمْ فَنَفَّذَ أَوَامِرَهُ، فَكَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَاَللَّهِ إنِّي لَا أُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُهُ» وَلِهَذَا قَالَ: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ» فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ يَقْسِمُ مَا قَسَمَهُ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْعَزْلِ «فَسَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا قَدَّرَ خَلْقَ الْوَلَدِ سَبَقَ مِنْ الْمَاءِ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ شَيْءٍ فَلَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوَلَدِ أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ، وَأَنَّ الزَّوْجَ أَوْ السَّيِّدَ إنْ وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ نَفِيَ السَّبَبِ كَمَا زَعَمْتُمْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ سَبَبٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الشَّرِّ، كَيْفَ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَنْفِي مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُثْبِتُونَهُ مِنْ سَبَبِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا وَلَا صَرْفُهَا عَنْ مَحَلِّهَا وَلَا مُعَارَضَتُهَا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، لَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ قَصُرَ عِلْمُهُ: إنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَاعِلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ. [مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي الْأَسْبَابِ] فَالنَّاسُ فِي الْأَسْبَابِ لَهُمْ ثَلَاثُ طُرُقٍ: إبْطَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِثْبَاتُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَقْبَلُ سَلْبَ سَبَبِيَّتِهَا وَلَا مُعَارَضَتَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا كَمَا يَقُولُهُ الطَّبَائِعِيَّةُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالدَّهْرِيَّةُ، وَالثَّالِثُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ: إثْبَاتُهَا أَسْبَابًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وَجَوَازًا، بَلْ وُقُوعُ سَلْبِ سَبَبِيَّتِهَا عَنْهَا إذَا شَاءَ اللَّهُ وَدَفْعُهَا بِأُمُورٍ أُخْرَى نَظِيرَهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا، مَعَ بَقَاءِ مُقْتَضَى السَّبَبِيَّةِ فِيهَا، كَمَا تُصْرَفُ كَثِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ الشَّرِّ بِالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَالصِّلَةِ، وَتُصْرَفُ كَثِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا بِضِدِّ ذَلِكَ، فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ خَيْرٍ انْعَقَدَ سَبَبُهُ ثُمَّ صُرِفَ عَنْ الْعَبْدِ بِأَسْبَابٍ أَحْدَثُهَا مَنَعَتْ حُصُولَهُ وَهُوَ يُشَاهِدُ السَّبَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ أُخِذَ بِالْيَدِ؟ وَكَمْ مِنْ شَرٍّ انْعَقَدَ سَبَبُهُ ثُمَّ صُرِفَ عَنْ الْعَبْدِ بِأَسْبَابٍ أَحْدَثُهَا مَنَعَتْ حُصُولَهُ؟ ، وَمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا انْتِفَاعَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. [رَدُّ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ] الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: رَدَّ الْجَهْمِيَّةُ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ، وَكَلَّمَ وَيُكَلِّمُ، وَقَالَ وَيَقُولُ: وَأَخْبَرَ وَيُخْبِرُ، وَنَبَّأَ وَأَمَرَ وَيَأْمُرُ، وَنَهَى وَيَنْهَى، وَرَضِيَ وَيَرْضَى، وَيُعْطِي وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ وَيُحَذِّرُ، وَيُوَصِّلُ لِعِبَادِهِ الْقَوْلَ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، وَنَادَى وَيُنَادِي، وَنَاجَى وَيُنَاجِي، وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ، وَيَسْأَلُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُكَلِّمُ كُلًّا مِنْهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٍ وَيُرَاجِعُهُ عَبْدُهُ مُرَاجَعَةً، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَنْوَاعٌ لِلْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ، وَثُبُوتُهَا بِدُونِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّكَلُّمِ لَهُ مُمْتَنِعٌ، فَرَدَّهَا الْجَهْمِيَّةُ مَعَ إحْكَامِهَا وَصَرَاحَتِهَا وَتَعْيِينِهَا لِلْمُرَادِ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . [رَدُّ مُحْكَمَ قَوْلِهِ أَلَّا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ] الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ: رَدُّوا مُحْكَمَ قَوْلِهِ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] وَقَوْلِهِ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وَقَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وَقَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَقَوْلِهِ {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] وَغَيْرِهَا مِنْ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] : وَقَوْلِهِ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] وَالْآيَتَانِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ؛ فَلَيْسَ " اللَّهُ " اسْمًا لِذَاتٍ لَا سَمْعَ لَهَا وَلَا بَصَرَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ لَهَا وَلَا كَلَامَ لَهَا وَلَا عِلْمَ، وَلَيْسَ هَذَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَلَامُهُ تَعَالَى وَعِلْمُهُ وَحَيَاتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَرَحْمَتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ الْخَالِقُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَأَمَّا إضَافَةُ الْقُرْآنِ إلَى الرَّسُولِ فَإِضَافَةُ تَبْلِيغٍ مَحْضٍ، لَا إنْشَاءٍ. وَالرِّسَالَةُ تَسْتَلْزِمُ تَبْلِيغَ كَلَامِ الْمُرْسَلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْسَلِ كَلَامٌ يُبَلِّغُهُ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا؛ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا فَقَدْ أَنْكَرَ رِسَالَةَ رُسُلِهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِمْ تَبْلِيغُ كَلَامِ مَنْ أَرْسَلَهُمْ؛ فَالْجَهْمِيَّةُ وَإِخْوَانُهُمْ رَدُّوا تِلْكَ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ بِالْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ صَيَّرُوا الْكُلَّ مُتَشَابِهًا، ثُمَّ رَدُّوا الْجَمِيعَ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ فِعْلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 يَقُومُ بِهِ يَكُونُ بِهِ فَاعِلًا كَمَا لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلَامًا يَقُومُ بِهِ يَكُونُ بِهِ مُتَكَلِّمًا؛ فَلَا كَلَامَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا أَفْعَالَ، بَلْ كَلَامُهُ وَفِعْلُهُ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ صِفَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُوصَفُ بِمَا قَامَ بِهِ لَا بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ. [رَدُّ النُّصُوصَ الْمُتَنَوِّعَةَ الْمُحْكَمَةَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَكَوْنِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ] الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُجْمَلًا فَنَذْكُرُهُ هَهُنَا مُفَصَّلًا - رَدَّ الْجَهْمِيَّةُ النُّصُوصَ الْمُتَنَوِّعَةَ الْمُحْكَمَةَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَكَوْنِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَوْعًا: أَحَدُهَا: التَّصْرِيحُ بِالْفَوْقِيَّةِ مَقْرُونَةً بِأَدَاةِ " مِنْ " الْمُعَيِّنَةِ لِفَوْقِيَّةِ الذَّاتِ نَحْوَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] الثَّانِي: ذِكْرُهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَدَاةِ كَقَوْلِهِ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] الثَّالِثُ: التَّصْرِيحُ بِالْعُرُوجِ إلَيْهِ نَحْوَ {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ» . الرَّابِعُ: التَّصْرِيحُ بِالصُّعُودِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] الْخَامِسُ: التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وَقَوْلِهِ {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] السَّادِسُ: التَّصْرِيحُ بِالْعُلُوِّ الْمُطْلَقِ الدَّالِ عَلَى جَمِيعِ مَرَاتِبِ الْعُلُوِّ ذَاتًا وَقَدْرًا وَشَرَفًا، كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] السَّابِعُ: التَّصْرِيحُ بِتَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 1 - 102] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ ظَهَرَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَا غَيْرُهُ، الثَّانِي: عَلَى عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ كَلَامَهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ أَعْلَى مَكَان إلَى رَسُولِهِ. الثَّامِنُ: التَّصْرِيحُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ، وَأَنَّ بَعْضَهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] وَقَوْلِهِ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] فَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ لَهُ عُمُومًا وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَعَبِيدِهِ خُصُوصًا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ «إنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ» التَّاسِعُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ " فِي " بِمَعْنَى " عَلَى "، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاءِ الْعُلُوُّ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ النَّصِّ عَلَى غَيْرِهِ؛ الْعَاشِرُ: التَّصْرِيحُ بِالِاسْتِوَاءِ مَقْرُونًا بِأَدَاةِ " عَلَى " مُخْتَصًّا بِالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ مُصَاحِبًا فِي الْأَكْثَرِ لِأَدَاةِ " ثُمَّ " الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، وَهُوَ بِهَذَا السِّيَاقِ صَرِيحٌ فِي مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْمُخَاطَبُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، وَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ أَلْبَتَّةَ؛ الْحَادِيَ عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» . الثَّانِي عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالنُّزُولُ الْمَعْقُولُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ إلَى أَسْفَلَ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إلَيْهِ حِسًّا إلَى الْعُلُوِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْرَاخِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي أَعْظَمِ مَجْمَعٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَرْفَعُ أُصْبُعَهُ إلَى السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، لِيَشْهَدَ الْجَمِيعُ أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَدَعَا إلَيْهِ وَاسْتَشْهَدَهُ هُوَ الَّذِي فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ " الْأَيْنَ " الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ " مَتَى " فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَالْقَائِلُ " أَيْنَ اللَّهُ " وَ " مَتَى كَانَ اللَّهُ " عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، كَقَوْلِ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِهِ، وَأَنْصَحِهِمْ لِأُمَّتِهِ، وَأَعْظَمِهِمْ بَيَانًا عَنْ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ بِلَفْظٍ لَا يُوهِمُ بَاطِلًا بِوَجْهٍ " أَيْنَ اللَّهُ " فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْخَامِسَ عَشَرَ: شَهَادَتُهُ الَّتِي هِيَ أَصْدَقُ شَهَادَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَنْ قَالَ " إنَّ رَبَّهُ فِي السَّمَاءِ " بِالْإِيمَانِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَفْرَاخُ جَهْمٍ بِالْكُفْرِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي وَصَفْته مِنْ أَنَّ رَبَّهَا فِي السَّمَاءِ إيمَانٌ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَذَكَرَ حَدِيثَ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي سَوَّدَتْ وُجُوهَ الْجَهْمِيَّةِ وَبَيَّضَتْ وُجُوهَ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَلَمَّا وَصَفَتْ الْإِيمَانَ قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَهِيَ إنَّمَا وَصَفَتْ كَوْنَ رَبِّهَا فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ فَقَرَنَتْ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ؛ فَجَعَلَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْإِيمَانُ. السَّادِسَ عَشَرَ: إخْبَارُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَامَ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ لِيَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى فَيُكَذِّبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَقَالَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فِي إخْبَارِهِ إيَّاهُ بِأَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ. وَعَلَى زَعْمِهِمْ يَكُونُ فِرْعَوْنُ قَدْ نَزَّهَ الرَّبَّ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَكَذَّبَ مُوسَى فِي إخْبَارِهِ بِذَلِكَ؛ إذْ مَنْ قَالَ عِنْدَهُمْ: إنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَهُوَ كَاذِبٌ، فَهُمْ فِي هَذَا التَّكْذِيبِ مُوَافِقُونَ لِفِرْعَوْنَ مُخَالِفُونَ لِمُوسَى وَلِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ " فِرْعَوْنِيَّةً " قَالُوا: وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَان بِذَاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ عَطَّلُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَوْقَعُوا عَلَيْهِ الْوَصْفَ الْمُطَابِقَ لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَأَيُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ أَثْبَتَتْ الصَّانِعَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ قَوْلُهُمْ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِمْ. السَّابِعَ عَشَرَ: إخْبَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ وَيَقُولُ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَيَرْجِعُ إلَيْهِ ثُمَّ يَنْزِلُ إلَى مُوسَى فَيَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَيَصْعَدُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثُمَّ يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ إلَى مُوسَى» ، عِدَّةَ مِرَارٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: إخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَإِخْبَارُ رَسُولِهِ عَنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عِيَانًا جَهْرَةً كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَاَلَّذِي تَفْهَمُهُ الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِهَا وَأَوْهَامِهَا مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ رُؤْيَةَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فِيهَا مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ غَيْرَ مُفْرِطَةٍ فِي الْبُعْدِ فَتَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ وَلَا فِي الْقُرْبِ فَلَا تُمْكِنُ الرُّؤْيَةُ، لَا تَعْقِلُ الْأُمَمُ غَيْرَ هَذَا، فَإِمَّا أَنْ يَرَوْهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَحْتِهِمْ - تَعَالَى اللَّهُ - أَوْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَوْ مِنْ أَمَامِهِمْ أَوْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ أَوْ عَنْ شَمَائِلِهِمْ أَوْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إنْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حَقًّا، وَكُلُّهَا بَاطِلٌ سِوَى رُؤْيَتِهِمْ لَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» ، وَلَا يَتِمُّ إنْكَارُ الْفَوْقِيَّةِ إلَّا بِإِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلِهَذَا طَرَدَ الْجَهْمِيَّةُ أَصْلَهُمْ وَصَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَرَكَّبُوا النَّفِيَّيْنِ مَعًا، وَصَدَّقَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَأَقَرُّوا بِهِمَا، وَصَارَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَنَفَى عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ مُذَبْذَبًا بَيْنَ ذَلِكَ، لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ. فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُحْكَمَةِ إذَا بُسِطَتْ أَفْرَادُهَا كَانَتْ أَلْفَ دَلِيلٍ عَلَى عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ فَتَرَكَ الْجَهْمِيَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَرَدُّوهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَرَدَّهُ زَعِيمُهُمْ الْمُتَأَخِّرُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَبِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . ثُمَّ رَدُّوا تِلْكَ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا مُتَشَابِهَةً، فَسَلَّطُوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَرَدُّوهُ بِهِ، ثُمَّ رَدُّوا الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا؛ فَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَتَارَةً يَدْفَعُونَ بِهِ الْحَقَّ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي النُّصُوصِ أَظْهَرُ وَلَا أَبْيَنُ دَلَالَةً مِنْ مَضْمُونِ هَذِهِ النُّصُوصِ؛ فَإِذَا كَانَتْ مُتَشَابِهَةً فَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُحْكَمٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَازِمٌ هَذَا الْقَوْلُ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ إنَّ تَرْكَ النَّاسِ بِدُونِهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ إنْزَالِهَا إلَيْهِمْ، فَإِنَّهَا أَوْهَمَتْهُمْ وَأَفْهَمَتْهُمْ غَيْرَ الْمُرَادِ، وَأَوْقَعَتْهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ، بَلْ أُحِيلُوا فِيهِ عَلَى مَا يَسْتَخْرِجُونَهُ بِعُقُولِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمُقَايَسِهِمْ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ - مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ وَمَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا؛ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. [رَدُّ النُّصُوصِ فِي مَدْحِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ] الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: رَدَّ الرَّافِضَةُ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ الْمُحْكَمَةَ الْمَعْلُومَةَ عِنْدَ خَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَامَّتِهَا بِالضَّرُورَةِ فِي مَدْحِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاءِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ وَتَجَاوُزِهِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَوُجُوبِ مَحَبَّةِ الْأُمَّةِ وَاتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لَهُمْ وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَنَحْوِهِ. كَمَا رَدُّوا الْمُحْكَمَ الصَّرِيحَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، كَفِعْلِ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ حِينَ رَدُّوا النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الْمُحْكَمَةَ فِي مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّتِهِمْ وَإِنْ ارْتَكَبُوا بَعْضَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، وَدُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَبِالِامْتِحَانِ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَبِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَبِصِدْقِ التَّوْحِيدِ، وَبِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ؛ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَسْبَابٍ تَمْحَقُ أَثَرَ الذُّنُوبِ، فَإِنْ عَجَزَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا؛ فَتَرَكُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ، وَرَدُّوا الْمُحْكَمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَصَدُوا بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ فَاجْتَهَدُوا فَأَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلَى ذَلِكَ فَحَصَلُوا فِيهِ عَلَى الْأَجْرِ الْمُفْرَدِ، وَكَانَ حَظُّ أَعْدَائِهِمْ مِنْهُ تَكْفِيرَهُمْ وَاسْت " حَلَالَ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَصَدُوا ذَلِكَ كَانَ غَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَذْنَبُوا، وَلَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَرْفَعُ مُوجِبَ الذَّنْبِ، فَاشْتَرَكُوا هُمْ وَالرَّافِضَةُ فِي رَدِّ الْمُحْكَمِ مِنْ النُّصُوصِ وَأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْهَا؛ فَكَفَّرُوهُمْ وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، فَفَسَادُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَتَقْدِيمِ الرَّأْيِ عَلَى الشَّرْعِ وَالْهَوَى عَلَى الْهُدَى، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ الْمُحْكَمِ مِنْ النُّصُوصِ فِي وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَوَقُّفِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا عَلَيْهِ] الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا مِنْ وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَوَقُّفِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» وَقَوْلِهِ لِمَنْ تَرَكَهَا: «صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» وَقَوْلِهِ: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» فَنَفَى إجْزَاءَهَا بِدُونِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَنَفَى مُسَمَّاهَا الشَّرْعِيَّ بِدُونِهَا، وَأَمَرَ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، فَرُدَّ هَذَا الْمُحْكَمُ الصَّرِيحُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . [رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ فِي النُّصُوص مِنْ تَعْيِينِ التَّكْبِيرِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ] الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ مِنْ تَعْيِينِ التَّكْبِيرِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» وَقَوْلِهِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» وَهِيَ نُصُوصٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ فَرُدَّتْ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . [رَدُّ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَعْيِينِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاة] الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ: رَدُّ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَعْيِينِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَرْضًا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَبِقَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِيِّ: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الْقُرْآنِ» وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَعْرَابِيُّ لَا يُحْسِنُهَا، وَأَنْ يَكُونَ لَمْ يُسِئْ فِي قِرَاءَتِهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ عَنْهَا؛ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوُجُوهَ؛ فَلَا يُتْرَكُ لَهُ الْمُحْكَمُ الصَّرِيحُ. [رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ مِنْ تَوَقُّفِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى التَّسْلِيمِ] الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ مِنْ تَوَقُّفِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى التَّسْلِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَوْلُهُ: «إنَّمَا يَكْفِي أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي غَيْرُ ذَلِكَ، فَرَدَّ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَإِذَا قُلْت هَذَا فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك " وَبِالْمُتَشَابِهِ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ لِلْأَعْرَابِيِّ بِالسَّلَامِ. [زِيَادَةُ السُّنَّةِ عَلَى الْقُرْآنِ] [زِيَادَةُ السُّنَّةِ عَلَى الْقُرْآنِ وَحُكْمِهَا] : الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِعِبَادَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] وَقَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَهَذَا لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ فَلَا يَكُونُ لَهُ بِالنَّصِّ؛ فَرَدُّوا هَذَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وَلَمْ يَأْمُرْ بِالنِّيَّةِ، قَالُوا: فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا بِالسُّنَّةِ لَكَانَ زِيَادَةً عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ نَسْخًا، وَالسُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثُهُ مُقَدَّمَاتٍ: إحْدَاهَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُوجِبْ النِّيَّةَ، الثَّانِيَةُ أَنَّ إيجَابَ السُّنَّةِ لَهَا نَسْخُ الْقُرْآنِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ. وَبَنَوْا عَلَى هَذِهِ الْمُقَدَّمَاتِ إسْقَاطَ كَثِيرٍ مِمَّا صَرَّحَتْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِهِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَتَعْيِينِ التَّكْبِيرِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. وَلَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَصْلًا، بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا كَاذِبَةً أَوْ بَعْضُهَا؛ فَأَمَّا آيَةُ الْوُضُوءِ فَالْقُرْآنُ قَدْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ مِنْ طَاعَاتِ عِبَادِهِ إلَّا بِمَا أَخْلَصُوا لَهُ فِيهِ الدِّينَ، فَمَنْ لَمْ يَنْوِ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ مَا أَتَى بِهِ طَاعَةً أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إنَّمَا يَفْهَمُ الْمُخَاطَبُ مِنْهُ غَسْلَ الْوَجْهِ وَمَا بَعْدَهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَمَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «إذَا وَاجَهْت الْأَمِيرَ فَتَرَجَّلْ، وَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ فَاشْتَرِ الْفَرْوَ» وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى النِّيَّةِ وَدَلَّتْ عَلَيْهَا السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهَا نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا أَوْجَبَتْهُ السُّنَّةُ وَلَمْ يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ نَسْخًا لَهُ لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدُفِعَ فِي صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا. وَقَالَ الْقَائِلُ: هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يُعْمَلُ بِهَا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَقَعُ وَحَذَّرَ مِنْهُ كَمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَلَا لُقَطَةُ مَالِ الْمُعَاهَدِ» وَفِي لَفْظٍ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَاهُ فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي قَدْ خَلَّفْت فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَيَرُدُّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، بَلْ سُكُوتُهُ عَمَّا نَطَقَ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَطَّرِدَ ذَلِكَ وَلَا الَّذِينَ أَصَّلُوا هَذَا الْأَصْلَ، بَلْ قَدْ نَقَضُوهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. [السُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ] وَالسُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَيَكُونُ تَوَارُدُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ بَابِ تَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ وَتَظَافُرِهَا. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرًا لَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ إيجَابِهِ أَوْ مُحَرِّمَةً لِمَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ، وَلَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِوَجْهٍ مَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ، وَلَا تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، بَلْ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُطَاعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ إلَّا فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَاعَةٌ خَاصَّةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَقْبَلَ حَدِيثًا زَائِدًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا حَدِيثُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعَةِ لِكُلِّ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، وَلَا حَدِيثُ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَا أَحَادِيثُ الشُّفْعَةِ، وَلَا حَدِيثُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ مَعَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَا حَدِيثُ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَلَا حَدِيثُ تَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، وَلَا حَدِيثُ مَنْعِ الْحَائِضِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا حَدِيثُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَلَا أَحَادِيثُ إحْدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَعَ زِيَادَتِهَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْعِدَّةِ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّهَا نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَكَيْفَ أَوْجَبْتُمْ الْوِتْرَ مَعَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ؟ وَكَيْفَ زِدْتُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَجَوَّزْتُمْ الْوُضُوءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 بِنَبِيذِ التَّمْرِ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ؟ وَكَيْفَ زِدْتُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَشَرَطْتُمْ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَبَرٍ لَا يَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ؟ . وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ بِحَدِيثِ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَخَذُوا كُلُّهُمْ بِحَدِيثِ تَوْرِيثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِحَدِيثِ اسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَخَذُوا بِحَدِيثِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَأَخَذُوا كُلُّهُمْ بِقَضَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّائِدَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأَبَوَيْنِ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ، الرَّجُلُ يَرِثُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا هَذَا لَطَالَ جِدًّا؛ فَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ فِي صُدُورِنَا وَأَعْظَمُ وَأَفْرَضُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَقْبَلَهَا إذَا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، بَلْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْأَخْذُ بِحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ وَوُجُوهِ الْآجُرِّ فِي الْحَائِطِ وَلَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَخَذْتُمْ أَنْتُمْ وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ» مَعَ ضَعْفِهِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذْتُمْ أَنْتُمْ وَالنَّاسُ بِحَدِيثِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذْتُمْ مَعَ سَائِرِ النَّاسِ بِقَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَ زِيَادَتِهِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذْتُمْ أَنْتُمْ وَالنَّاسُ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ الِاقْتِصَاصِ مِنْ الْجُرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَتْ الْأُمَّةُ بِأَحَادِيثِ الْحَضَانَةِ وَلَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذْتُمْ أَنْتُمْ وَالْجُمْهُورُ بِاعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي مَنْزِلِهَا وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذْتُمْ مَعَ النَّاسِ بِأَحَادِيثِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَالْإِنْبَاتِ وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الِاحْتِلَامُ، وَأَخَذْتُمْ مَعَ النَّاسِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» مَعَ ضَعْفِهِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَبِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَا، بَلْ أَحْكَامُ السُّنَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إنْ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ تَنْقُصْ عَنْهَا؛ فَلَوْ سَاغَ لَنَا رَدُّ كُلِّ سُنَّةٍ زَائِدَةٍ كَانَتْ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ لَبَطَلَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا إلَّا سُنَّةً دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ سَيَقَعُ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ خَبَرِهِ. [أَنْوَاعُ دَلَالَةِ السُّنَّةِ الزَّائِدَةِ عَنْ الْقُرْآنِ] فَإِنْ قِيلَ: السُّنَنُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ تَارَةً تَكُونُ بَيَانًا لَهُ، وَتَارَةً تَكُونُ مُنْشِئَةً لِحُكْمٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْقُرْآنُ لَهُ، وَتَارَةً تَكُونُ مُغَيِّرَةً لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ نِزَاعُنَا فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فَإِنَّهُمَا حُجَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمْته بِمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ وَقَدْ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا نَسْخٌ، وَمِنْ هَهُنَا جَعَلُوا إيجَابَ التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ نَسْخًا كَمَا لَوْ زَادَ عِشْرِينَ صَوْتًا عَلَى الثَّمَانِينَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ النَّصِّ مُنْفَرِدَةً عَنْهُ كَانَتْ نَاسِخَةً، وَإِنْ وَرَدَتْ مُتَّصِلَةً بِالنَّصِّ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً، وَإِنْ وَرَدَتْ وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهَا فَإِنْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَةٍ يَثْبُتُ النَّصُّ بِمِثْلِهَا فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ أَوْ النَّظَرِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا مَعًا أَثْبَتْنَاهُمَا، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالنَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا أَثْبَتْنَاهُ دُونَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ دَلَالَةً عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِوُرُودِهِمَا مَعًا، وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ كَالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهَا بِالنَّصِّ وَلَا الْعَمَلُ بِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ فَعَلَ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهِ، بَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، كَانَ نَسْخًا، نَحْوُ ضَمِّ رَكْعَةٍ إلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَهَا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَا يَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا إيجَابَ التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ نَسْخًا، وَإِيجَابُ عِشْرِينَ جَلْدَةً مَعَ الثَّمَانِينَ نَسْخًا، وَكَذَلِكَ إيجَابُ شَرْطٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا كَإِيجَابِ الْوُضُوءِ بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ إيجَابَ زِيَادَةِ عِبَادَةٍ عَلَى عِبَادَةٍ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَيْضًا أَنَّ إيجَابَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يَكُونُ نَسْخًا. فَالْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي الزِّيَادَةِ الْمُغَيِّرَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي الْمَعْنَى، وَالِاسْمِ، وَالْحُكْمِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ الْإِزَالَةُ، وَالزِّيَادَةُ تُزِيلُ حُكْمَ الِاعْتِدَادِ بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَتُوجِبُ اسْتِئْنَافَهُ بِدُونِهَا، وَتُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَمِيعَ الْوَاجِبِ، وَتَجْعَلُهُ بَعْضُهُ، وَتُوجِبُ التَّأْثِيمَ عَلَى الْمُقْتَصِرِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ إثْمًا، وَهَذَا مَعْنَى النَّسْخِ، وَعَلَيْهِ تَرَتُّبُ الِاسْمِ، فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي زِيَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ مُغَيِّرَةٍ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، فَإِنْ اخْتَلَّ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ رَفَعَتْ حُكْمَ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا كَإِيجَابِ عِبَادَةٍ بَعْدَ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُقَارِنَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، وَإِنْ غَيَّرَتْهُ، بَلْ تَكُونُ تَقْيِيدًا أَوْ تَخْصِيصًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنْ كَانَ النَّصُّ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قُبِلَتْ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ وَرَدَ مُقَارِنًا لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَهُ لَنَقَلَهَا إلَيْنَا مَنْ نَقَلَ النَّصَّ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إثْبَاتَ النَّصِّ مَعْقُودًا بِالزِّيَادَةِ فَيَقْتَصِرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إبْلَاغِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا؛ فَوَاجِبٌ إذًا أَنْ يَذْكُرَهَا مَعَهُ، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَنَقَلَهَا إلَيْنَا مَنْ نَقَلَ النَّصَّ. فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةُ وَارِدَةٌ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تِلَاوَةِ الْحُكْمِ الْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُعْقِبَهَا بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَاغِ مِنْ النَّصِّ الَّذِي يُمَكِّنُنَا اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ يَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ مُقْتَضَاهُ مِنْ حُكْمِهِ، كَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتْلُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ عَلَى النَّاسِ عَارِيَّةً مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ عَقِبَهَا؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَهَا يَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ مُوجِبِهَا وَأَنَّ الْجَلْدَ هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ؛ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ تَغْرِيبٌ لَكَانَ بَعْضُ الْحَدِّ لَا كَمَالُهُ، فَإِذَا أَخْلَى التِّلَاوَةَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ عَقِيبَهَا فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا اعْتِقَادَ أَنَّ الْجَلْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ تَمَامُ الْحَدِّ وَكَمَالُهُ؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ مَعَهُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» نَاسِخًا لِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» وَكَذَلِكَ لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] نَاسِخًا لِحُكْمِ التَّغْرِيبِ فِي قَوْلِهِ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً مَعَ النَّصِّ لَذَكَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَ التِّلَاوَةِ، وَلَنَقَلَهَا إلَيْنَا مَنْ نَقَلَ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْحَدَّ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَيَنْقُلُوا بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ سَمِعُوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ الْأَمْرَيْنِ، فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي وَرَدَ مِنْهَا الْأَصْلُ، فَإِذَا وَرَدَتْ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ النَّصِّ فَقَدْ نَسَخَهَا النَّصُّ الْمُطْلَقُ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَهَذَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَازَ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا وَكَانَتْ بَيَانًا. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي أَصَّلْتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ قَبِلْتُمْ خَبَرَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 جَعَلَ حُكْمَ عَادِمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمَ، وَالْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ؛ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ رَافِعَةٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ غَيْرُ مُقَارِنَةٍ لَهُ وَلَا مُقَاوِمَةٍ بِوَجْهٍ، وَقَبِلْتُمْ خَبَرَ الْأَمْرِ بِالْوِتْرِ مَعَ رَفْعِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ اعْتِقَادُ كَوْنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ هِيَ جَمِيعُ الْوَاجِبِ وَرَفْعُ التَّأْثِيمِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا وَإِجْزَاءُ الْإِتْيَانِ فِي التَّعَبُّدِ بِفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هُوَ الَّذِي قَالَ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَاَلَّذِي نَقَلَهَا إلَيْنَا هُوَ الَّذِي نَقَلَ تِلْكَ بِعَيْنِهِ أَوْ أَوْثَقَ مِنْهُ أَوْ نَظِيرَهُ، وَاَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَةَ رَسُولِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ هُوَ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ، وَاَلَّذِي قَالَ لَنَا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] هُوَ الَّذِي شَرَعَ لَنَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى لِسَانِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَّاهُ مَنْصِبَ التَّشْرِيعِ عَنْهُ ابْتِدَاءً، كَمَا وَلَّاهُ مَنْصِبَ الْبَيَانِ لِمَا أَرَادَهُ بِكَلَامِهِ، بَلْ كَلَامُهُ كُلُّهُ بَيَانٌ عَنْ اللَّهِ، وَالزِّيَادَةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ الْبَيَانِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، بَلْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ إذَا سَمِعُوا الْحَدِيثَ عَنْهُ وَجَدُوا تَصْدِيقَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَبَدًا: إنَّ هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ فَلَا نَقْبَلُهُ وَلَا نَسْمَعُهُ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَسُنَّتُهُ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ. وَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ مَجِيءِ السُّنَّةِ بِعَدَدِ الطَّوَافِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَمَجِيئِهَا بِفَرْضِ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَالنِّيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَى عِبَادِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَجَاءَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهَا، حَتَّى فِي التَّشْرِيعِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَيَانِ هَذَا الْمُرَادِ وَبَيْنَ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِهَا، بَلْ هَذَا بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ شَيْءٍ وَذَاكَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ أَعَمَّ مِنْهُ؛ فَالتَّغْرِيبُ بَيَانٌ مَحْضٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ التَّغْرِيبَ بَيَانٌ لِهَذَا السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ: فَكَيْفَ يَجُوزُ رَدُّهُ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ مُعَارِضٌ لَهُ؟ وَيُقَالُ: لَوْ قَبِلْنَاهُ لَأَبْطَلْنَا بِهِ حُكْمَ الْقُرْآنِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ؟ فَإِنَّ حُكْمَ الْقُرْآنِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ يُوجِبُ عَلَيْنَا قَبُولَهُ فَرْضًا لَا يَسَعُنَا مُخَالَفَتُهُ؛ فَلَوْ خَالَفْنَاهُ لَخَالَفْنَا الْقُرْآنَ وَلَخَرَجْنَا عَنْ حُكْمِهِ وَلَا بُدَّ، وَلَكَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَعًا. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْصِبَ الْمُبَلِّغِ الْمُبَيِّنِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ فَهُوَ بَيَانٌ مِنْهُ عَنْ اللَّهِ أَنَّ هَذَا شَرْعُهُ وَدِينُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ مِنْ كَلَامِهِ الْمَتْلُوِّ وَمِنْ وَحْيِهِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ كَلَامِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، وَمُخَالَفَةِ هَذَا كَمُخَالَفَةِ هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَجَاءَ الْبَيَانُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَقَادِيرِ ذَلِكَ وَصِفَاتِهِ وَشُرُوطِهِ؛ فَوَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ قَبُولُهُ، إذْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا قَبُولُ الْأَصْلِ الْمُفَصَّلِ، وَهَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ؛ فَإِذَا أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَمْرٍ كَانَ تَفْصِيلًا وَبَيَانًا لِلطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَكَانَ فَرْضُ قَبُولِهِ كَفَرْضِ قَبُولِ الْأَصْلِ الْمُفَصَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. [بَيَانُ الرَّسُولِ عَلَى أَنْوَاعٍ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْبَيَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْسَامٌ؛ أَحَدُهَا: بَيَانُ نَفْسِ الْوَحْيِ بِظُهُورِهِ عَلَى لِسَانِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا. الثَّانِي: بَيَانُ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ الظُّلْمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] هُوَ الشِّرْكُ، وَأَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، وَأَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ هُمَا بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ، وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أَنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: {مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] بِأَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] أَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَبْرِ حِينَ يُسْأَلُ مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك، وَكَمَا فَسَّرَ الرَّعْدَ بِأَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، وَكَمَا فَسَّرَ اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِحْلَالِ مَا أَحَلُّوهُ لَهُمْ مِنْ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ الْحَلَالِ، وَكَمَا فَسَّرَ الْقُوَّةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ نُعِدَّهَا لِأَعْدَائِهِ بِالرَّمْيِ، وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بِأَنَّهُ مَا يُجْزَى بِهِ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا مِنْ النَّصَبِ وَالْهَمِّ وَالْخَوْفِ وَاللَّأْوَاءِ، وَكَمَا فَسَّرَ الزِّيَادَةَ بِأَنَّهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَكَمَا فَسَّرَ الدُّعَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بِأَنَّهُ الْعِبَادَةُ، وَكَمَا فَسَّرَ أَدْبَارَ النُّجُومِ بِأَنَّهُ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَدْبَارَ السُّجُودِ بِالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ كَمَا بَيَّنَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لِلسَّائِلِ بِفِعْلِهِ. الرَّابِعُ: بَيَانُ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِهَا، كَمَا سُئِلَ عَنْ قَذْفِ الزَّوْجَةِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِاللِّعَانِ وَنَظَائِرِهِ. الْخَامِسُ: بَيَانُ مَا سُئِلَ عَنْهُ بِالْوَحْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، كَمَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالْخَلُوقِ، فَجَاءَ الْوَحْيُ بِأَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْجُبَّةَ وَيَغْسِلَ أَثَرَ الْخَلُوقِ. السَّادِسُ: بَيَانُهُ لِلْأَحْكَامِ بِالسُّنَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ لُحُومَ الْحُمُرِ وَالْمُتْعَةَ وَصَيْدَ الْمَدِينَةِ وَنِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. السَّابِعُ: بَيَانُهُ لِلْأُمَّةِ جَوَازَ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ هُوَ لَهُ وَعَدَمِ نَهْيِهِمْ عَنْ التَّأَسِّي بِهِ. الثَّامِنُ: بَيَانُهُ جَوَازَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الشَّيْءِ بِإِقْرَارِهِ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ يَفْعَلُونَهُ. التَّاسِعُ: بَيَانُهُ إبَاحَةَ الشَّيْءِ عَفْوًا بِالسُّكُوتِ عَنْ تَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ نُطْقًا. الْعَاشِرُ: أَنْ يَحْكُمَ الْقُرْآنُ بِإِيجَابِ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ وَقُيُودٌ وَأَوْقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ وَأَحْوَالٌ وَأَوْصَافٌ، فَيُحِيلُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فِي بَيَانِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَالْحِلُّ مَوْقُوفٌ عَلَى شُرُوطِ النِّكَاحِ وَانْتِقَاءِ مَوَانِعِهِ وَحُضُورِ وَقْتِهِ وَأَهْلِيَّةِ الْمَحَلِّ، فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِبَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى النَّصِّ فَيَكُونُ نَسْخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ. فَهَكَذَا كُلُّ حُكْمٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِدٍ عَلَى الْقُرْآنِ، هَذَا سَبِيلُهُ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالْكَافِرَ وَالرَّقِيقَ لَا يَرِثُ، وَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ قَطْعًا، أَعْنِي فِي مُوجِبَاتِ الْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَوْجَبَهُ بِالْوِلَادَةِ وَحْدَهَا، فَزَادَتْ السُّنَّةُ مَعَ وَصْفِ الْوِلَادَةِ اتِّحَادَ الدِّينِ وَعَدَمَ الرِّقِّ وَالْقَتْلِ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَيَكُونُ نَسْخًا وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ؟ كَمَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَرَكْتُمْ فِيهِ الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ تَسْمِيَتَكُمْ لِلزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ نَسْخًا لَا تُوجِبُ بَلْ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ نَسْخًا اصْطِلَاحٌ مِنْكُمْ، وَالْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَيْهَا التَّابِعَةُ لِلِاصْطِلَاحِ لَا تُوجِبُ رَفْعَ أَحْكَامِ النُّصُوصِ، فَأَيْنَ سَمَّى اللَّهُ وَرَسُولَهُ ذَلِكَ نَسْخًا؟ وَأَيْنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَاءَكُمْ حَدِيثِي زَائِدًا عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَرُدُّوهُ وَلَا تَقْبَلُوهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِكِتَابِ اللَّهِ؟ وَأَيْنَ قَالَ اللَّهُ: إذَا قَالَ رَسُولِي قَوْلًا زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ فَلَا تَقْبَلُوهُ وَلَا تَعْمَلُوا بِهِ وَرُدُّوهُ؟ ، وَكَيْفَ يَسُوغُ رَدُّ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوَاعِدَ قَعَّدْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؟ [الْمُرَادُ بِالنَّسْخِ فِي السُّنَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ] : الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: مَا تَعْنُونَ بِالنَّسْخِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الزِّيَادَةُ بِزَعْمِكُمْ؟ أَتَعْنُونَ أَنَّ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَمْ تَعْنُونَ بِهِ تَغَيُّرَ وَصْفِهِ بِزِيَادَةِ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَالٍ أَوْ مَانِعٍ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَنَيْتُمْ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ نَاسِخَةً، وَإِنْ عَنَيْتُمْ الثَّانِيَ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ حُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَلَا رَفْعُهُ وَلَا مُعَارَضَتُهُ، بَلْ غَايَتُهَا مَعَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالْقُيُودِ وَالْمُخَصَّصَاتِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا يُوجِبُ إبْطَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الْأَوَّلِ وَرَفْعَهُ رَأْسًا، وَإِنْ كَانَ نَسْخًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي يُسَمِّيه السَّلَفُ نَسْخًا وَهُوَ رَفْعُ الظَّاهِرِ بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ مَانِعٍ؛ فَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُسَمِّيه نَسْخًا. حَتَّى سَمَّى الِاسْتِثْنَاءَ نَسْخًا، فَإِنْ أَرَدْتُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاسْمِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَا يُسَوِّغُ رَدَّ السُّنَنِ النَّاسِخَةِ لِلْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ النَّسْخَ الْخَاصَّ الَّذِي هُوَ رَفْعُ أَصْلِ الْحُكْمِ وَجُمْلَتِهِ بِحَيْثُ يَبْقَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُشْرَعْ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالنَّسْخِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ - وَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ بِجُمْلَتِهِ تَارَةً وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ وَتَخْصِيصِ عَامِّهِ وَزِيَادَةِ شَرْطٍ أَوْ مَانِعٍ تَارَةً - كُنْتُمْ قَدْ أَدْرَجْتُمْ فِي كَلَامِكُمْ قِسْمَيْنِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا كَمَا تَبَيَّنَ؛ فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْأَلْفَاظِ فَسَمُّوا الزِّيَادَةَ مَا شِئْتُمْ، فَإِبْطَالُ السُّنَنِ بِهَذَا الِاسْمِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ نَاسِخَةً لَمَا جَازَ اقْتِرَانُهَا بِالْمَزِيدِ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا يُقَارِنُ الْمَنْسُوخَ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ اقْتِرَانَهَا بِهِ، وَقُلْتُمْ: تَكُونُ بَيَانًا أَوْ تَخْصِيصًا، فَهَلَّا كَانَ حُكْمُهَا مَعَ التَّأَخُّرِ كَذَلِكَ، وَالْبَيَانُ لَا يَجِبُ اقْتِرَانُهُ بِالْمُبَيَّنِ، بَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ حُضُورِ الْعَمَلِ؟ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ إيهَامِ اعْتِقَادِ خِلَافِ الْحَقِّ فَهُوَ مُنْتَقِضٌ بِجَوَازِ بَلْ وُجُوبِ تَأْخِيرِ النَّاسِخِ وَعَدَمِ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ، وَلَا مَحْذُورَ فِي اعْتِقَادِ مُوجِبِ النَّصِّ مَا لَمْ يَأْتِ مَا يَرْفَعُهُ أَوْ يَرْفَعُ ظَاهِرَهُ؛ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقَدُ مُوجِبُهُ كَذَلِكَ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْ الِاعْتِقَادَيْنِ فِي وَقْتِهِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إنَّمَا يَعْتَقِدُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ وُرُودِ مَا يَرْفَعُ ظَاهِرَهُ، كَمَا يَعْتَقِدُ الْمَنْسُوخَ مُؤَبَّدًا اعْتِقَادًا مُقَيَّدًا بِعَدَمِ وُرُودِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ سِوَاهُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ إيجَابَ الشَّرْطِ الْمُلْحَقِ بِالْعِبَادَةِ بَعْدَهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا وَإِنْ تَضَمَّنَ رَفْعَ الْإِجْزَاءِ بِدُونِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ وَهُوَ الْحَقُّ؛ فَكَذَلِكَ إيجَابُ كُلِّ زِيَادَةٍ، بَلْ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ نَسْخًا؛ فَإِنَّ إيجَابَ الشَّرْطِ يَرْفَعُ إجْزَاءَ الْمَشْرُوطِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَإِيجَابُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا يَرْفَعُ إجْزَاءَ الْمَزِيدِ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ إيجَابَ عِبَادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَعْدَ الثَّانِيَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَمْ تُشْرَعْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا أَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا زَائِدٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَانَ مَا قَبْلَهُ جَمِيعُ الْوَاجِبِ، وَالْإِثْمُ مَحْطُوطٌ عَمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَبِالزِّيَادَةِ تَغَيَّرَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ؛ فَلَمْ يَبْقَ الْأَوَّلُ جَمِيعَ الْوَاجِبِ، وَلَمْ يُحَطَّ الْإِثْمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 عَمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الزَّائِدُ نَاسِخًا لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ؛ إذْ حُكْمُهُ مِنْ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ بَاقٍ؛ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَزِيدِ لَا تَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، حَيْثُ لَمْ تَرْفَعْ حُكْمَهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ وَقَدْ ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا خِطَابِيًّا كَانَتْ نَسْخًا، وَزِيَادَةُ التَّغْرِيبِ وَشُرُوطُ الْحُكْمِ وَمَوَانِعِهِ وَجَزَاؤُهُ لَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْخِطَابِ، وَإِنْ رُفِعَ حُكْمُ الِاسْتِصْحَابِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الْأَوَّلِ جَمِيعَ الْوَاجِبِ وَكَوْنِهِ مُجْزِئًا وَحْدَهُ وَكَوْنِ الْإِثْمِ مَحْطُوطًا عَمَّنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ فَهُوَ حُكْمٌ اسْتِصْحَابِيٌّ لَمْ نَسْتَفِدْهُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا أُرِيدَ بِهِ؛ فَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعِبَادَةِ مُجْزِئَةً أَنَّ الذِّمَّةَ بَرِيئَةٌ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَحَطُّ الذَّمِّ عَنْ فَاعِلِهَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ فَلَا يَلْحَقُهُ ذَمٌّ، وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ رَفَعَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَمْ تَرْفَعْ حُكْمًا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَزِيدِ. [تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ] [تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ كَمَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَخْصِيصِ قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» وَعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» وَعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كُثْرٍ» وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ فَإِذَا جَازَ التَّخْصِيصُ - وَهُوَ رَفْعُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ نُقْصَانٌ مِنْ مَعْنَاهُ فَلَأَنْ تَجُوزَ الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُ رَفْعَ شَيْءٍ مِنْ مَدْلُولِهِ وَلَا نُقْصَانِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تُوجِبُ رَفْعَ الْمَزِيدِ لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا عَقْلًا، وَلَا تَقُولُ الْعُقَلَاءُ لِمَنْ ازْدَادَ خَيْرُهُ أَوْ مَالُهُ أَوْ جَاهُهُ أَوْ عِلْمُهُ أَوْ وَلَدُهُ إنَّهُ قَدْ ارْتَفَعَ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْكِيسِ، بَلْ تَقُولُ فِي: الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ: إنَّ الزِّيَادَةَ قَرَّرَتْ حُكْمَ الْمَزِيدِ وَزَادَتْهُ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا؛ فَهِيَ كَزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 : {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] وَقَالَ: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وَقَالَ {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْوَاجِبِ عَلَى الْوَاجِبِ إنَّمَا يَزِيدُهُ قُوَّةً وَتَأْكِيدًا وَثُبُوتًا، فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ اتِّصَالَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى لَهُ وَأَثْبَتُ وَآكَدُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ وَالْفِطْرَةِ مِنْ جَعْلِ الزِّيَادَةِ مُبْطِلَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ نَاسِخَةً لَهُ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ النَّهْيَ عَنْ الْمَزِيدِ وَلَا الْمَنْعَ مِنْهُ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَإِذَا انْتَفَتْ حَقِيقَةُ النَّسْخِ اسْتَحَالَ ثُبُوتُهُ. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي النَّسْخِ مِنْ تَنَافِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخَ، وَامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَلَا اجْتِمَاعُهُمَا مُمْتَنِعٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ نَسْخًا لَكَانَتْ إمَّا نَسْخًا بِانْفِرَادِهَا عَنْ الْمَزِيدِ أَوْ بِانْضِمَامِهَا إلَيْهِ، وَالْقِسْمَانِ مُحَالٌ؛ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَا حُكْمَ لَهَا بِمُفْرَدِهَا أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ نَاسِخَةً بِانْضِمَامِهَا إلَى الْمَزِيدِ كَانَ الشَّيْءُ نَاسِخًا لِنَفْسِهِ وَمُبْطِلًا لِحَقِيقَتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ عَلَى حُكْمِ الْفِعْلِ دُونَ نَفْسِهِ وَصُورَتِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ شَيْئًا، وَالْإِلْزَامُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ قَدْ نَسَخَ حُكْمَ نَفْسِهِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ إذَا انْفَرَدَ عَنْ الزِّيَادَةِ غَيْرَ مُجْزِئٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُجْزِئًا. الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا لَهَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ. الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ نَسْخَ الزِّيَادَةِ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِوُجُوبِهِ أَوْ لِإِجْزَائِهِ، أَوْ لِعَدَمِ وُجُوبِ غَيْرِهِ، أَوْ لِأَمْرٍ رَابِعٍ، وَهَذَا كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ مَثَلًا عَلَى الْمِائَةِ جَلْدَةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً لِوُجُوبِهَا فَإِنَّ الْوُجُوبَ بِحَالِهِ، وَلَا لِإِجْزَائِهَا؛ لِأَنَّهَا مُجْزِئَةٌ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَا لِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّائِدِ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِحُكْمٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ؛ فَلَوْ كَانَ رَفْعُهَا نَسْخًا كَانَ كُلَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ شَيْئًا بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْ نُسِخَ بِهِ مَا قَبْلَهُ، وَالْأَمْرُ الرَّابِعُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَلَا مَعْقُولٍ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هَهُنَا أَمْرٌ رَابِعٌ مَعْقُولٌ، وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ نُسِخَ بِالزِّيَادَةِ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاقْتِصَارِ غَيْرَ عَدَمِ وُجُوبِ غَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ جَمِيعَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ بِعَيْنِهِ غَيَّرْتُمْ التَّعْبِيرَ عَنْهُ وَكَسَوْتُمُوهُ عِبَارَةً أُخْرَى. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ يَقْتَضِي الْمَنْسُوخَ ثُبُوتُهُ وَالنَّاسِخَ رَفْعُهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّائِدِ وَالْمَزِيدِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ حُكْمِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ؛ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَالُهُ وَإِلْقَاءُ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَقِيقِهِ وَصَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَإِبْطَالُهُ إلَّا حَيْثُ أَبْطَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِنَصٍّ آخَرَ نَاسِخٍ لَهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْسُوخِ، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَفٍ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلَيْنِ مُمْكِنٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَنَاقُضَ بِوَجْهٍ؛ فَلَا يَسُوغُ لَنَا إلْغَاءُ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَمَا لَا يَسُوغ لَنَا اعْتِبَارُ مَا أَلْغَاهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَإِثْبَاتُ التَّغْرِيبِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ فَالْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ أَيْضًا نَاسِخٌ لِلْقُرْآنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ، وَحِينَئِذٍ فَنَسْخُ كِتَابِ اللَّهِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَوْلَى مِنْ نَسْخِهِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا نَسْخًا وَذَاكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ فَتَحَكُّمٌ بَاطِلٌ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ مَا خَالَفْتُمُوهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي زَعَمْتُمْ أَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ إنْ كَانَتْ تَسْتَلْزِمُ نَسْخَهُ فَقَطْعُ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ نُسِخَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا فَلَيْسَ ذَلِكَ نَسْخًا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ اسْتِحْلَالَ الْبُضْعِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَزِدْتُمْ عَلَى الْقُرْآنِ بِقِيَاسٍ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَبِخَبَرٍ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ؛ فَإِنْ جَازَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ نَسْخًا. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ أَوْجَبْتُمْ الطَّهَارَةَ لِلطَّوَافِ بِقَوْلِهِ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 صَلَاةٌ» وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَ بِالطَّوَافِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالطَّهَارَةِ، فَكَيْفَ لَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ وَجَعَلْتُمْ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالتَّغْرِيبِ فِي حَدِّ الزِّنَا نَسْخًا لِلْقُرْآنِ؟ الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ مَعَ النَّاسِ أَوْجَبْتُمْ الِاسْتِبْرَاءَ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بِحَدِيثٍ - وَرَدَ - زَائِدٍ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ نَسْخًا لَهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ، فَهَلَّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ؟ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ وَافَقْتُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، فَهَلَّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالتَّغْرِيبِ وَلَمْ تَعُدُّوهُ نَسْخًا؟ وَكُلُّ مَا تَقُولُونَهُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ يَقُولُهُ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ حَرْفًا بِحَرْفٍ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: لَا يُفْطِرُ الْمُسَافِرُ وَلَا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ وَمَا دُونَهَا، فَأَخَذْتُمْ بِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ أَوْ أَثَرٍ لَا يَثْبُتُ فِي التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ نَسْخًا، فَكَذَلِكَ الْبَاقِي. الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ مَنَعْتُمْ قَطْعَ مَنْ سَرَقَ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْأَمْوَالِ مَعَ أَنَّهُ سَارِقٌ حَقِيقَةً وَلُغَةً وَشَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كُثْرٍ» وَلَا يَجْعَلُوا ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقُلْتُمْ: إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ فَلَا تُقْبَلُ، ثُمَّ نَاقَضْتُمْ فَأَخَذْتُمْ بِأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَاعْتَذَرْتُمْ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرَةٌ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى الْحَدِيثِ لَا يَشُكُّ فِي شُهْرَةِ كُلٍّ مِنْهَا وَتَعَدُّدِ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا وَثُبُوتِهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ قَبِلْتُمْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْوِلَادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ بِهِ صِحَّتَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَرَدَدْتُمْ هَذَا وَنَحْوَهُ بِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 أَقَلُّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَلَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ، وَقُلْتُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مَا فِي أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا، وَلَمْ تَرَوْهُ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَقُلْتُمْ: هَذَا بَيَانٌ لِلَفْظِ السَّارِقِ؛ فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ وَالرَّسُولُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ كَانَ هَذَا بَيَانًا وَلَمْ يَكُنْ حَدِيثُ التَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَلَا تَأْتُونَ بِعُذْرٍ فِي آيَةِ الْقَطْعِ إلَّا كَانَ مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ فِي آيَةِ الرَّضَاعِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَقُلْتُمْ: هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَجَوَّزْتُمْ الْوُضُوءَ بِالْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ بِخَبَرٍ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْحَجِّ عَنْهُ، وَقُلْتُمْ: هُوَ زَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ثُمَّ جَوَّزْتُمْ أَنْ تُعْمَلَ أَعْمَالُ الْحَجِّ كُلِّهَا عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلَمْ تَرَوْهُ زَائِدًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَأَخَذْتُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَأَصَبْتُمْ فِي حَمْلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ عَنْ الْقَاتِلِ خَطَأً وَلَمْ تَقُولُوا هُوَ زَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وَاعْتِذَارُكُمْ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَلْجَأَكُمْ إلَى ذَلِكَ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ - وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ - يَرَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اشْتِرَاطِ الْمُحْرِمِ أَنْ يَحِلَّ حَيْثُ حُبِسَ، وَقُلْتُمْ: هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْإِحْلَالُ خِلَافُ الْإِتْمَامِ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ وَأَصَبْتُمْ بِحَدِيثِ تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ قَطْعًا. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّكُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَأَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَقُلْتُمْ: ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ الْغَائِطَ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَخَبَرٍ ضَعِيفٍ فِي إيجَابِهِ مِنْ الْقَيْءِ، وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إذْ هُوَ قَوْلُ مَتْبُوعِكُمْ؛ فَمِنْ الْعَجَبِ إذَا قَالَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَوْلًا زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ قَبِلْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ: مَا قَالَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَسَهْلٌ عَلَيْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ، وَإِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ قُلْتُمْ: هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ نَسْخٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، فَلَمْ تَأْخُذُوا بِهِ، وَاسْتَصْعَبْتُمْ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَهَانَ خِلَافُهُ إذَا وَافَقَ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ، وَصَعُبَ خِلَافُهُ إذَا وَافَقَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ لَا يَثْبُتُ فِي إيجَابِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَلَمْ تَرَوْهُ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَرَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ فِي أَمْرِ الْمُتَوَضِّئِ بِالِاسْتِنْشَاقِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، فَهَاتُوا لَنَا الْفَرْقَ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ مِنْ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا رَدَّ مِنْهَا، فَإِمَّا أَنْ تَقْبَلُوهَا كُلَّهَا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدُّوهَا كُلَّهَا إذَا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي قَبُولِ مَا شِئْتُمْ مِنْهَا وَرَدِّ مَا شِئْتُمْ مِنْهَا، فَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ شَهَادَةً يَسْأَلُنَا عَنْهَا يَوْمَ نَلْقَاهُ أَنَّا لَا نَرُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً وَاحِدَةً صَحِيحَةً أَبَدًا إلَّا بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ مِثْلِهَا نَعْلَمُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَسْمِ لِلْبِكْرِ سَبْعًا يُفَضِّلُهَا بِهَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثًا إذَا أَعْرَسَ بِهِمَا وَقُلْتُمْ: هَذَا زَائِدٌ عَلَى الْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَمُخَالِفٌ لَهُ، فَلَوْ قَبِلْنَاهُ كُنَّا قَدْ نَسَخْنَا بِهِ الْقُرْآنَ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ وَاهٍ لَا يَصِحُّ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِوَاجِدِ الطَّوْلِ غَيْرَ خَائِفِ الْعَنَتِ إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَزَائِدٌ عَلَيْهِ قَطْعًا. الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: رَدُّكُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا، وَقُلْتُمْ: هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، فَلَوْ قَبِلْنَاهُ كَانَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِهِ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ لَا يَصِحُّ أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ قُرْءَانِ وَطَلَاقُهَا طَلْقَتَانِ مَعَ كَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ قَطْعًا. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّكُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَخْيِيرِ وَلِيِّ الدَّمِ بَيْنَ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ أَوْ الْعَفْوِ بِقَوْلِكُمْ: إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِقِيَاسِ مَنْ أَفْسَدَ الْقِيَاسَ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِأَعْظَمَ دَبُّوسٍ يُوجَدُ حَتَّى يَنْثُرَ دِمَاغَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَرَوْا ذَلِكَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَيَقُولُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ رَدَدْتُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» وَقَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَقُلْتُمْ: هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَأَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّهُ «لَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ، وَرَدَدْتُمْ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ كُلَّ بَيِّعَيْنِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، وَقُلْتُمْ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعَدَّيْتُمُوهُ إلَى سُقُوطِ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ فَعَلَ أَسْبَابَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَرَكْتُمْ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ - بَلْ بَاطِلٍ - فِي أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ إذْ يَقُولُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ مِنْهُ حَيًّا وَطَعَامُهُ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ مَا مَاتَ فِيهِ، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ تَرَكْتُمْ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ وَأَصَبْتُمْ بِحَدِيثِ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ تَرَوْهُ نَاسِخًا، ثُمَّ تَرَكْتُمْ حَدِيثَ حِلِّ لُحُومِ الْخَيْلِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِحَدِيثِ الْمَنْعِ مِنْ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ مَعَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ عَدَمِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِ وَلَدِهِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَا فِي الصِّحَّةِ بِذَاكَ، وَتَرَكْتُمْ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ إعْتَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَصَارَتْ بِذَلِكَ زَوْجَةً، وَقُلْتُمْ: هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الزَّائِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٍ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ» فَقُلْتُمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَالسَّكْرَانِ، وَتَرَكْتُمْ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا فِيمَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وَالْعَجَبُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مَعَ الْحَدِيثِ مُتَوَافِقَانِ مُتَطَابِقَانِ؛ فَإِنْ مَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ وَإِلَى عَيْنِ مَالِهِ إطْعَامٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ الْغُرَمَاءَ؛ فَخَالَفْتُمْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مَعَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَهُوَ «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ» وَلَمْ تَقُولُوا: هُوَ زَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَتَرَكْتُمْ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي بَقَاءِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، وَقُلْتُمْ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وَخِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» . الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ، حَيْثُ أَمَرَ الَّذِي تَرَكَ لَمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ بِأَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَقَالُوا: هُوَ زَائِدٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الزَّائِدِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فِي أَنَّ «أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ» . الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّهُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَقَالُوا: هُوَ زَائِدٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وَقَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ثُمَّ أَخَذُوا بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُرْآنِ قَطْعًا فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» ثُمَّ قَالُوا: لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ الْوَلِيِّ وَلَا عَدَالَةِ الشَّاهِدَيْنِ. فَهَذَا طَرَفٌ مِنْ بَيَانِ تَنَاقُضِ مَنْ رَدَّ السُّنَنَ بِكَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى الْقُرْآنِ فَتَكُونُ نَاسِخَةً فَلَا تُقْبَلُ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّكُمْ تُجَوِّزُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاطِلٌ مُنَافٍ لِلدِّينِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ صَحِيحٌ مُؤَخَّرٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَا تَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ إثْبَاتِ حُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى الْقُرْآنِ بِهِ، فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 فَإِنْ قِيلَ: قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَاعْتِبَارِهِ وَإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِهِ، فَمَا خَرَجْنَا عَنْ مُوجِبِ الْقُرْآنِ، وَلَا زِدْنَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ مِثْلَ هَذَا سَوَاءٌ فِي السُّنَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَكَانَ قَوْلُكُمْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ أَسْعَدَ وَأَصْلَحَ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي أَقْوَالِهِ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ فِي نَظِيرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ، بَلْ تَفْسِيرٌ لَهُ وَتَبْيِينٌ. قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ الْقُرْآنِ، تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ، وَتَبْيِينًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ، وَتَفْسِيرًا لِمَا أَبْهَمَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَى عَنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِثْمِ، وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ؛ فَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَإِنَّهَا تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَاَلَّذِي أَحَلَّ لَنَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْنَا. وَهَذَا تَبْيِينٌ بِالْمِثَالِ التَّاسِعَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» فَسَمَّاهُ جَوْرًا، وَقَالَ «إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» وَقَالَ «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» تَهْدِيدًا لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ الَّذِي يَطِيبُ قَلْبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ جَوْرٌ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ تَقْوَى اللَّهِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْعَدْلِ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَقَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَأُسِّسَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِيَاسٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحْكَمُ الدَّلَالَةِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، فَرُدَّ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فَكَوْنُهُ أَحَقُّ بِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ وَبِقِيَاسٍ مُتَشَابِهٍ عَلَى إعْطَاءِ الْأَجَانِبِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْعُمُومِ، وَالْقِيَاسُ لَا يُقَاوِمُ هَذَا الْمُحْكَمَ الْمُبَيَّنَ غَايَةَ الْبَيَانِ. [رَدُّ الْمُحْكَمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ] الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ يُخَالِفُ الْأُصُولَ فَلَا يُقْبَلُ؛ فَيُقَالُ: الْأُصُولُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ أُمَّتِهِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْأَصْلُ يُخَالِفُ نَفْسَهُ؟ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَالْأُصُولُ فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ رَسُولِهِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَمَرْدُودٌ إلَيْهِمَا؛ فَالسُّنَّةُ أَصْلٌ قَائِمٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 بِنَفْسِهِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ، فَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَصْلُ بِالْفَرْعِ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّمَا الْقِيَاسُ أَنْ تَقِيسَ عَلَى أَصْلٍ، فَأَمَّا أَنْ تَجِيءَ إلَى الْأَصْلِ فَتَهْدِمَهُ، ثُمَّ تَقِيسَ، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَقِيسُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مُوَافَقَةِ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ لِلْقِيَاسِ، وَإِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْبَاطِلُ فَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لَهُ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ وَافَقَ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ الْمُشْتَدِّ لِلْأُصُولِ حَتَّى قُبِلَ وَخَالَفَ خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ لِلْأُصُولِ حَتَّى رُدَّ، [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْعَرَايَا] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْعَرَايَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ رَدَدْتُمْ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ أَنَّهُ مُحْكَمٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ بِحَدِيثِ الْعَرَايَا وَهُوَ مُتَشَابِهٌ. قِيلَ: فَإِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ مُحْكَمًا صَحِيحًا فَكَيْفَ رَدَدْتُمُوهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالتَّمْرِ؟ فَلَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ أَخَذْتُمْ، وَلَا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا، بَلْ خَالَفْتُمْ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَأَخَذْنَا بِالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَتَرَكْنَا كُلَّ سُنَّةٍ عَلَى وَجْهِهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَلَمْ نَضْرِبْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَمْ نُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا؛ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا، وَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُطْلَقًا، وَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا وَخَصَصْنَا بِهِ عُمُومَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلِّهَا، وَإِعْمَالًا لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ جَمِيعِهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ، وَلَا يَجُوزُ ضَرْبُ الْحَقِّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَإِبْطَالُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [رَدُّ حَدِيثِ الْقَسَامَةِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ حَدِيثِ الْقَسَامَةِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُحْكَمِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَاَلَّذِي شَرَعَ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ هُوَ الَّذِي شَرَعَ أَنْ لَا يُعْطَى أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطَ فِي الْقَسَامَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ بَهَرَتْ حِكْمَةُ شَرْعِهِ الْعُقُولَ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ ثُمَّ يُعْطِيه بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ دَمَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَوْقَ تَغْلِيبِ الشَّاهِدَيْنِ، وَهُوَ اللَّوَثُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْقَرِينَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ وُجُودِ الْعَدُوِّ مَقْتُولًا فِي بَيْتِ عَدُوِّهِ، فَقَوَّى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ هَذَا السَّبَبَ بِاسْتِحْلَافِ خَمْسِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الَّذِينَ يَبْعُدُ أَوْ يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى رَمْيِ الْبَرِيءِ بِذَمٍّ لَيْسَ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 بِسَبِيلٍ وَلَا يَكُونُ فِيهِمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يُرَاقِبُ اللَّهَ؟ وَلَوْ عُرِضَ عَلَى جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ هَذَا الْحُكْمُ وَالْحُكْمُ بِتَحْلِيفِ الْعَدُوِّ الَّذِي وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِهِ بِأَنَّهُ مَا قَتَلَهُ لَرَأَوْا أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْ سُئِلَ كُلُّ سَلِيمِ الْحَاسَّةِ عَنْ قَاتِلِ هَذَا لَقَالَ مَنْ وُجِدَ فِي دَارِهِ، وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنْ يُرَى قَتِيلٌ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَعَدُوُّهُ هَارِبٌ بِسِكِّينٍ مُلَطَّخَةٍ بِالدَّمِ وَيُقَالُ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَيَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا قَتَلَهُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلِهَا وَأَلْصَقِهَا بِالْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، الَّذِي لَوْ اتَّفَقَتْ الْعُقَلَاءُ لَمْ يَهْتَدُوا لِأَحْسَنَ مِنْهُ، بَلْ وَلَا لِمِثْلِهِ. وَأَيْنَ مَا تَضَمَّنَهُ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ مِنْ حِفْظِ الدِّمَاءِ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ تَحْلِيفُ مَنْ لَا يُشَكُّ مَعَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تُفِيدُ الْقَطْعَ أَنَّهُ الْجَانِي؟ . وَنَظِيرُ هَذَا إذَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ حَاسِرَ الرَّأْسِ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ وَآخَرَ أَمَامَهُ يَشْتَدُّ عَدْوًا وَفِي يَدِهِ عِمَامَةٌ وَعَلَى رَأْسِهِ أُخْرَى؛ فَإِنَّا نَدْفَعُ الْعِمَامَةَ الَّتِي بِيَدِهِ إلَى حَاسِرِ الرَّأْسِ وَنَقْبَلُ قَوْلَهُ، وَلَا نَقُولُ لِصَاحِبِ الْيَدِ: الْقَوْلُ قَوْلُك مَعَ يَمِينِك. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ» لَا يُعَارِضُ الْقَسَامَةَ بِوَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْإِعْطَاءَ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ. وَقَوْلُهُ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ حَيْثُ لَا تَكُونُ مَعَ الْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى رَجْمِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ إذَا نَكَلَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إقَامَةً لِلْحَدِّ بِمُجَرَّدِ أَيْمَانِ الزَّوْجِ، بَلْ بِهَا وَبِنُكُولِهَا، وَهَكَذَا فِي الْقَسَامَةِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيهَا بِاللَّوَثِ الظَّاهِرِ وَالْأَيْمَانِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَهَاتَانِ بَيِّنَتَا هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْبَيِّنَاتُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ الْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، وَثَلَاثَةٌ، بِالنَّصِّ وَإِنْ خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ فِي بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ، وَاثْنَانِ، وَوَاحِدٌ وَيَمِينٌ، وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَرَجُلٌ وَاحِدٌ، وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَرْبَعَةُ أَيْمَانٍ، وَخَمْسُونَ يَمِينًا، وَنُكُولٌ وَشَهَادَةُ الْحَالِ، وَوَصْفُ الْمَالِكِ اللُّقَطَةَ، وَقِيَامُ الْقَرَائِنِ، وَالشَّبَهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الْقَائِفُ، وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ، وَوُجُوهُ الْآجُرِّ فِي الْحَائِطِ، وَكَوْنُهُ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ؛ فَالْقَسَامَةُ مَعَ اللَّوَثِ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَبِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قِيَاسٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جِنْسَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُمْنَعُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَأَنْتَ إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا الْقِيَاسِ رَأَيْته مُصَادِمًا لِلسُّنَّةِ أَعْظَمَ مُصَادَمَةٍ، وَمَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ أَحَدُهُمَا أَزْيَدُ مِنْ الْآخَرِ قَطْعًا بِلِينَتِهِ فَهُوَ أَزْيَدُ أَجْزَاءً مِنْ الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَمْيِيزُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مِنْ الرُّطَبِ مَا يَتَسَاوَيَانِ بِهِ عِنْدَ الْكَمَالِ؛ إذْ هُوَ ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، فَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَحْضُ الْقِيَاسِ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ سُنَّةٌ، وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ رِبًا وَلَا الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ لَكَانَ أَصْلًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ يَجِبُ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ كَمَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِسَائِرِ نُصُوصِهِ الْمُحْكَمَةِ، وَمِنْ الْعَجَبِ رَدُّ هَذِهِ السُّنَّةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْكُسْبِ بِالسِّمْسِمِ وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ جَرَيَانَ الرِّبَا بَيْنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ أَقْرَبُ إلَى الرِّبَا نَصًّا وَقِيَاسًا وَمَعْقُولًا مِنْ جَرَيَانِهِ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالسِّمْسِمِ. [رَدُّ الْمُحْكَمِ مِنْ السُّنَّةِ بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِمْ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ مِنْ السُّنَّةِ بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِمْ، وَقَالُوا: هَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ، بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ رَأْيٍ فَاسِدٍ قِيَاسٌ بَاطِلٌ، بِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهَذَا الرَّأْيُ الْبَاطِلُ كَمَا أَنَّهُ فِي مُصَادَمَةِ السُّنَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا اُسْتُحِقَّ فِي ثُلُثِ مَالِهِ لَيْسَ إلَّا، وَالْقِيَاسُ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي جَمْعَ الثُّلُثِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ كُلُّ مَالِهِ، فَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ، فَإِنَّا نَدْفَعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ دِرْهَمًا وَلَا نَجْعَلُهُ شَرِيكًا بِثُلُثِ كُلِّ دِرْهَمٍ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْمُعْتِقُ لِعَبِيدِهِ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ ثُلُثِهِمْ؛ إذْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ، وَفِيهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ فَالْحُكْمُ بِجَمْعِ الثُّلُثِ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً مِنْ جَعْلِ الثُّلُثِ شَائِعًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَيْرٌ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِالرَّأْيِ الْمَحْضِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الْمَحْكَمَةِ فِي تَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ الْمَحْكَمَةِ فِي تَحْرِيمِ الرُّجُوع فِي الْهِبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ إلَّا لِلْوَالِدِ بِرَأْيٍ مُتَشَابِهٍ فَاسِدٍ اقْتَضَى عَكْسَ السُّنَّةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ إلَّا لِوَالِدٍ أَوْ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ لِزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ يَكُونُ الْوَاهِبُ قَدْ أُثِيبَ مِنْهَا، فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالرَّحِمِ بِأَنَّ هِبَةَ الْقَرِيبِ صِلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ قَطْعُهَا، وَهِبَةُ الْأَجْنَبِيِّ تَبَرُّعٌ، وَلَهُ أَنْ يَمْضِيَهُ وَأَنْ لَا يَمْضِيَهُ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُصَادِمًا لِلسُّنَّةِ مُصَادَمَةً مَحْضَةً فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ حِينَ قَبَضَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا؛ فَرُجُوعُ الْوَاهِبِ فِيهَا انْتِزَاعٌ لِمِلْكِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَوَلَدُهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ وَمَالُهُ لِأَبِيهِ، وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْبَعْضِيَّةِ مَا يُوجِبُ شِدَّةَ الِاتِّصَالِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ نُخَالِفْهُ إلَّا بِنَصٍّ مُحْكَمٍ صَرِيحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ حَدِيثُ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 يَعْنِي الْحَاكِمَ - هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ فِيهِ عَلَى شَيْخِنَا، يُرِيدُ أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْهَاشِمِيَّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ» ، وَفِي كِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا» وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَارْتَجَعَ بِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ، وَلَوْ ثَبَتَتْ لَمْ تَحِلَّ مُخَالَفَتُهَا وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَبِحَدِيثِ «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ» وَلَا يَبْطُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَكُونُ الْوَاهِبُ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ مَنْ وَهَبَ تَبَرُّعًا مَحْضًا لَا لِأَجْلِ الْعِوَضِ، وَالْوَاهِبُ الَّذِي لَهُ الرُّجُوعُ مَنْ وَهَبَ لِيَتَعَوَّضَ مِنْ هِبَتِهِ وَيُثَابَ مِنْهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ الْمُتَّهَبُ، وَتُسْتَعْمَلُ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا، وَلَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ثنا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ، انْتَهَى. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: غَلِطَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، انْتَهَى. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَا يُسَاوِي حَدِيثَهُ فَلْسَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: لَا يُحْتَجَّ بِهِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْمَكِّيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ: " «مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَلَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا إلَّا لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا أَصَحُّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ فَلَا أَرَاهُ إلَّا وَهْمًا، وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدِ اللَّهِ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ هُوَ الْعَزْرَمِيُّ، وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، قَالَ الْفَلَّاسُ وَالنَّسَائِيُّ: هُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى. قَالَ مَالِكٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَعِينٍ: هُوَ كَذَّابٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، فَإِنْ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، وَإِنْ صَحَّتْ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مِنْ وَهَبَ لِلْعِوَضِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 [رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْقَضَاءِ بِالْقَافَةِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْقَضَاءِ بِالْقَافَةِ وَقَالُوا: هُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِمَا، وَكَانَ هَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْمِثَالِ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ الثَّابِتَةِ فِي جَعْلِ الْأَمَةِ فِرَاشًا وَإِلْحَاقُ الْوَلَدِ بِالسَّيِّدِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، وَقَالُوا: هُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالْأَمَةُ لَا تَكُونُ فِرَاشًا، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ بِأَقْصَى بُقْعَةٍ مِنْ الْمَشْرِقِ وَهِيَ بِأَقْصَى بُقْعَةٍ مِنْ الْمَغْرِبِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ، وَإِنْ عَلِمْنَا بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاقَيَا قَطُّ، وَهِيَ فِرَاشٌ بِالْعَقْدِ، فَأَمَتُهُ الَّتِي يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ، وَهَذِهِ فِرَاشٌ، وَهَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ الْأُصُولِ عَلَى لَازِمِ قَوْلِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذَا قِيَاسُ الْحَدَثِ عَلَى السَّلَامِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ الْأُصُولِ، مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْحَدَثِ وَالسَّلَامِ، وَتَرْكُ قِيَاسِ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ شِدَّةِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمَا، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ مَنَعَ دِينَارًا وَاحِدًا مِنْ الْجِزْيَةِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ، وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَلَوْ حَرَقَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاهَرَ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْبَحَ سَبٍّ عَلَى رُءُوسِ الْمُسْلِمِينَ فَعَهْدُهُ بَاقٍ وَدَمُهُ مَعْصُومٌ، وَعَدَمُ النَّقْضِ بِذَلِكَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ، وَالنَّقْضُ بِمَنْعِ الدِّينَارِ مُقْتَضَى الْأُصُولِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا إبَاحَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الْأُصُولِ، وَمَنْعُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ. وَنَظِيرُهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ تَغْسِلَ ثِيَابَهُ فَزَنَى بِهَا، وَأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ، وَإِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَظَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَبَانَتْ أَجْنَبِيَّةً. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَنْعُ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءٍ يَبْلُغُ قَنَاطِيرَ مُقَنْطَرَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ بَوْلٍ، وَإِبَاحَتُهُمْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ رُبُعُهُ مُتَلَطِّخٌ بِالْبَوْلِ، وَإِنْ كَانَ عُذْرَةً فَقَدْرُ رَاحَةِ الْكَفِّ. وَنَظِيرُهُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاحِدٌ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، وَلَيْسَتْ الْأَعْمَالُ دَاخِلَةً فِي مَاهِيَّتِهِ، وَأَنَّ مِنْ مَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةً قَطُّ فِي عُمْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَصِحَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 جِسْمِهِ وَفَرَاغِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَتَكْفِيرُهُمْ مَنْ يَقُولُ مُسَيْجِدٌ أَوْ فُقَيِّهٌ بِالتَّصْغِيرِ أَوْ يَقُولُ لِلْخَمْرِ أَوْ لِلسَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ: مَا أَطْيَبَهُ وَأَلَذَّهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَقَالَ: " صَدَقُوا " سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِتَصْدِيقِهِمْ، وَلَوْ قَالَ: " كَذَبُوا عَلَيَّ " حُدَّ. وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ دَارٍ تُجْعَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَصِحُّ إجَارَتُهَا كَنِيسَةً يُعْبَدُ فِيهَا الصَّلِيبُ وَالنَّارُ. وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِي صَلَاتِهِ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَلَوْ غَنَّى فِي صَلَاتِهِ أَوْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ أَوْ شَهِدَ بِالزُّورِ فَوُضُوءُهُ بِحَالِهِ. وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَأْرَةٌ تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ؛ فَإِذَا نُزِعَ مِنْهَا دَلْوٌ فَالدَّلْوُ وَالْمَاءُ نَجِسَانِ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى تَمَامِ كَذَا وَكَذَا دَلْوًا، فَإِذَا نُزِعَ الدَّلْوُ الَّذِي قَبْلَ الْأَخِيرِ فَرَشْرَشَ عَلَى حِيطَانِ الْبِئْرِ نَجَّسَهَا كُلَّهَا، فَإِذَا جَاءَتْ النَّوْبَةُ إلَى الدَّلْوِ الْأَخِيرِ قَشْقَشَ النَّجَاسَةَ كُلَّهَا مِنْ الْبِئْرِ وَحِيطَانِهَا وَطِينِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً. وَنَظِيرُهُ إنْكَارُ كَوْنِ الْقُرْعَةِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا سِتَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَرِيقًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ حِلِّ الْوَطْءِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي يَعْلَمُ الْمَقْدُوحُ أَنَّهَا شَهَادَةُ زُورٍ، وَبِهَا فَرَّقَ الشَّاهِدَانِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا إيجَابُ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى السَّيِّدِ إذَا مَلَكَ امْرَأَةً بِكْرًا لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، مَعَ الْقَطْعِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَإِسْقَاطُهُ عَمَّنْ أَرَادَ وَطْءَ الْأَمَةِ الَّتِي وَطِئَهَا سَيِّدُهَا الْبَارِحَةَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ فَمَلَكَهَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي تَزْوِيجِهَا مِنْهُ، فَقَالُوا: يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَيْسَ بَيْنَ وَطْءِ بَائِعِهَا وَوَطِئَهُ هُوَ إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَنَظِيرُ هَذَا فِي التَّنَاقُضِ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزَّانِي مَعَ كَوْنِهَا بَعْضَهُ، مَعَ تَحْرِيمِ الْمِرْضَعَةِ مِنْ لَبَنِ امْرَأَتِهِ لِكَوْنِ اللَّبَنِ ثَابَ بِوَطْئِهِ فَقَدْ صَارَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهُ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ انْتَهَضَ هَذَا الْجُزْءُ الْيَسِيرُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا وَهِيَ جُزْؤُهُ الْحَقِيقِيُّ وَسُلَالَتُهُ؟ وَأَيْنَ تَشْنِيعُكُمْ وَإِنْكَارُكُمْ لِاسْتِمْنَاءِ الرَّجُلِ بِيَدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ خَوْفًا مِنْ الْعَنَتِ ثُمَّ تُجَوِّزُونَ لَهُ وَطْءَ بِنْتِهِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ حَقِيقَةً. وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَى ذِمِّيٍّ حَقًّا وَأَقَامَ بِهِ شَاهِدَيْنِ عَبْدَيْنِ عَالِمَيْنِ صَالِحَيْنِ مَقْبُولَةً شَهَادَتُهُمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ بِهِ شَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ حُرَّيْنِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ أَكْذِبْ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَدِينِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ تَدَاعَيَا حَائِطًا لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبَتَانِ، وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ ثَلَاثُ خَشَبَاتٍ وَلَا بَيِّنَةَ فَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ الثَّلَاثِ؛ فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثُ خَشَبَاتٍ وَلِلْآخَرِ مَائِهُ خَشَبَةٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ اغْتَصَبَ نَصْرَانِيٌّ رَجُلًا عَلَى ابْنَتِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ وَزَنَى بِهَا ثُمَّ شَدَخَ رَأْسَهَا بِحَجَرٍ أَوْ رَمَى بِهَا مِنْ أَعْلَى شَاهِقٍ حَتَّى مَاتَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ؛ فَلَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ صَاحِبُ الْحُرْمَةِ بِقَصَبَةٍ مُحَدِّدَةٍ قُتِلَ بِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ أَلْفِ مُسْلِمٍ أَوْ أَكْثَرَ بِسِجْنِ شَهْرٍ وَأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَقَتَلَهُمْ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، حَتَّى إذَا أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى عِتْقِ أَمَتِهِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَزِمَهُ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمْ يَكُنْ الْإِكْرَاهُ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ حُكْمِنَا عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يُبَحْ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالْإِكْرَاهِ أَبَدًا. وَنَظِيرُ هَذَا إبْطَالُ الصَّلَاةِ بِتَسْبِيحِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَصْحِيحُ صَلَاةِ مَنْ رَكَعَ ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا إبْطَالُ الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ لِرَدِّ السَّلَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاتِهِ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَأَشَارَ الصَّحَابَةُ بِرُءُوسِهِمْ تَارَةً وَبِأَكُفِّهِمْ تَارَةً، وَتَصْحِيحُهَا مَعَ تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ وَقَدْ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَى الصَّلَاةَ بِدُونِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَلَاةَ النَّقْرِ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، وَأَخْبَرَ حُذَيْفَةُ أَنَّ مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُرَّاقِ الْأَمْوَالِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا طَاهِرَ الْبَدَنِ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ غَمَسَ يَدَهُ فِي بِئْرٍ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَتْ الْبِئْرُ كُلُّهَا نَجِسَةً، يَحْرُمُ شُرْبُ مَائِهَا وَالْوُضُوءُ مِنْهُ وَالطَّبْخُ بِهِ؛ فَلَوْ اغْتَسَلَ فِيهَا مِائَةُ نَصْرَانِيٍّ قُلْفٍ عَابِدُو الصَّلِيبِ أَوْ مَائِهُ يَهُودِيٍّ فَمَاؤُهَا بَاقٍ عَلَى حَالِهِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ يَجُوزُ الْوُضُوءُ مِنْهُ وَشُرْبُهُ وَالطَّبْخُ بِهِ. وَنَظِيرُهُ لَوْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي مَاءٍ فَصُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي بِئْرِ لَمْ يُنْزَحْ مِنْهَا إلَّا عِشْرُونَ دَلْوًا فَقَطْ، وَتَطْهُرُ بِذَلِكَ، وَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ طَاهِرُ الْأَعْضَاءِ بِمَاءٍ فَسَقَطَ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ تُنْزَحَ كُلُّهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَوْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَوَطِئَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْعَقْدِ شُبْهَةٌ، وَلَوْ رَأَى امْرَأَةً فِي الظُّلْمَةِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: لَوْ أَنَّهُ رَشَا شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا بِالزُّورِ الْمَحْضِ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا حَلَالًا، بَلْ وَيَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ ذَلِكَ؛ فَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَنُقِضَ حُكْمُهُ وَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَخَرَجَتْ مَجْنُونَةً بَرْصَاءَ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا مَجْذُومَةً عَمْيَاءَ مَقْطُوعَةَ الْأَطْرَافِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَتْ هِيَ الزَّوْجَ كَذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَأَغْنَاهُمْ وَأَجْمَلِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ وَلِلزَّوْجَةِ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَهَا الْفَسْخُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: يَصِحُّ نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَيَجِبُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ صَحَّ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَتَحْرِيمُهُ إيَّاهُ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ مَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: يَصِحُّ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ صَحَّ لَعْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ فَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِمُضْطَرٍّ خَائِفِ الْعَنَتِ عَادِمِ الطَّوْلِ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَلَوْ كَانَتْ عَجُوزًا شَوْهَاءَ لَا تُعِفُّهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، وَقَدْ مَنَعَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَقَدْ بَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: لِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَرْزِهَا فِي حَائِطِهِ وَقَدْ نَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَنْعِهِ، وَتَسْلِيطُهُمْ إيَّاهُ عَلَى انْتِزَاعِ دَارِهِ كُلِّهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ وَقَدْ أَبْطَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: لَا يُحْكَمُ بِالْقَسَامَةِ لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالُوا: يَحْلِفُ الَّذِينَ وَجَدُوا الْقَتِيلَ فِي مَحَلَّتِهِمْ وَدَارِهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ كَانَ هَذَا وَفْقَ الْأُصُولِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ الْأُصُولِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى: أَنَا أَرْضَعْتُك وَزَوْجَتَك، أَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَذِهِ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ، جَازَ لَهُ تَكْذِيبُهَا وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْوَاقِعَةُ الَّتِي «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ لِأَجْلِ قَوْلِ الْأَمَةِ السَّوْدَاءِ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا» . وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ مَاءً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَذَا ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ نَجِسٍ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ وَالْمَاءِ الْحِلُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْ قَالَ الْمُخْبِرُ: " هَذَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِفُلَانٍ سَرَقَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فُلَانٌ " وَسِعَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ وَخَيَّرَتَاهُ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا كَانَتْ هِيَ الْمُخْتَارَةُ، وَاَلَّتِي أَمْسَكَهَا هِيَ الْمُفَارَقَةُ، قَالُوا: لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَوْجَةٍ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَخَلَّصُوا مِنْ هَذَا بِأَنَّهُ إنْ عَقَدَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا وَاسْتَأْنَفَ نِكَاحَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِنْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُ الْأُولَى هُوَ الصَّحِيحُ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ. وَلَكِنْ لَزِمَهُمْ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ إذَا تَزَوَّجَ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: " طَلِّقْهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا " كَانَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ لِلنِّكَاحِ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: " طَلِّقْهَا " وَلَمْ يَقُلْ: " رَجْعِيًّا " لَمْ يَكُنْ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذَا النِّكَاحِ لَا يَكُونُ رَجْعِيًّا إلَّا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَالدُّخُولِ فَلَا يَنْقَسِمُ إلَى بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ] [مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، بِكَوْنِهَا خِلَافَ الْأُصُولِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالُوا: وَالْعَامُّ عِنْدَنَا يُعَارِضُ الْخَاصَّ؛ فَقَدْ تَعَارَضَ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، فَقَدَّمْنَا الْحَاظِرَ احْتِيَاطًا؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ الْإِتْمَامِ يَجُوزُ لَهُ الْمُضِيُّ فِيهَا، وَإِذَا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى النَّصِّ الَّذِي يُوجِبُ الْإِعَادَةَ لِتُتَيَقَّنَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» حَدِيثٌ وَاحِدٌ، قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي شَطْرِهِ؛ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الشَّطْرِ الْآخَرِ، وَهُوَ مُحْكَمٌ خَاصٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ أَلْبَتَّةَ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَامٌّ مُجْمَلٌ قَدْ خَصَّ مِنْهُ عَصْرُ يَوْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَخَصَّ مِنْهُ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ وَالْمَنْسِيَّةِ بِالنَّصِّ، وَخَصَّ مِنْهُ ذَوَاتَ الْأَسْبَابِ بِالسُّنَّةِ كَمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَأَقَرَّ مَنْ قَضَى سُنَّةَ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَأَمَرَ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 صَلَّى فِي رَحْلِهِ ثُمَّ جَاءَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ وَتَكُونُ لَهُ نَافِلَةً، وَقَالَهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْحَدِيثِ، وَأَمَرَ الدَّاخِلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. [فَرْقٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ] وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَقَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فِيهَا أَمْرٌ بِإِتْمَامٍ لَا بِابْتِدَاءٍ، وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَهْيٌ عَنْ ابْتِدَائِهَا لَا عَنْ اسْتِدَامَتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: " لَا تُتِمُّوا الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا تُصَلُّوا ". وَأَيْنَ أَحْكَامُ الِابْتِدَاءِ مِنْ الدَّوَامِ وَقَدْ فَرَّقَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ بَيْنَهُمَا؟ فَلَا تُؤْخَذُ أَحْكَامُ الدَّوَامِ مِنْ أَحْكَامِ الِابْتِدَاءِ وَلَا أَحْكَامُ الِابْتِدَاءِ مِنْ أَحْكَامِ الدَّوَامِ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ؛ فَالْإِحْرَامُ يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَالطِّيبِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِمَا، وَالنِّكَاحُ يُنَافِي قِيَامَ الْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ دُونَ اسْتِدَامَتِهَا، وَالْحَدَثُ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ، وَزَوَالُ خَوْفِ الْعَنَتِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الْأَمَةِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالزِّنَا مِنْ الْمَرْأَةِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ عَقْدِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَالذُّهُولُ عَنْ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ يُنَافِي ابْتِدَاءَهَا دُونَ اسْتِدَامَتِهَا، وَفَقْدُ الْكَفَاءَةِ يُنَافِي لُزُومَ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الدَّوَامِ، وَحُصُولُ الْغِنَى يُنَافِي جَوَازَ الْأَخْذِ مِنْ الزَّكَاةِ ابْتِدَاءً وَلَا يُنَافِيهِ دَوَامًا. وَحُصُولُ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ وَالْجُنُونِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَلَا يُنَافِي دَوَامَهُ، وَطَرَيَانُ مَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ مِنْ الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَيَمْنَعُهُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ ابْتِدَاءً لَا دَوَامًا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى هَدْيِ التَّمَتُّعِ تَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّوْمِ ابْتِدَاءً لَا دَوَامًا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ ابْتِدَاءُ التَّيَمُّمِ اتِّفَاقًا، وَفِي مَنْعِهِ لِاسْتِدَامَةِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهَا، وَلَوْ غَصَبَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ مَنْ لَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى تَخْلِيصِهَا مِنْهُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ وَخُيِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَإِمْضَائِهِ، وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ ابْتِدَاءِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَتَطَيَّبُ أَوْ لَا يَتَطَهَّرُ فَاسْتَدَامَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ ابْتَدَأَهُ حَنِثَ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ؛ فَيُحْتَاجُ فِي ابْتِدَائِهَا إلَى مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي دَوَامِهَا، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الدَّوَامِ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ مُسْتَصْحَبٌ بِالْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَالدَّافِعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّافِعِ، وَأَيْضًا فَأَحْكَامُ التَّبَعِ يَثْبُتُ فِيهَا مَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ، وَالْمُسْتَدَامُ تَابِعٌ لِأَصْلِهِ الثَّابِتِ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي صِحَّةَ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، فَكَيْفَ وَقَدْ تَوَارَدَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَارَضْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَامٌّ وَخَاصٌّ وَلَا نَصٌّ وَقِيَاسٌ، بَلْ النَّصُّ فِيهَا وَالْقِيَاسُ مُتَّفِقَانِ، وَالنَّصُّ الْعَامُّ لَا يَتَنَاوَلُ مَوْرِدَ الْخَاصِّ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ لَفْظِهِ، وَلَوْ قَدَّرَ صَلَاحِيَّةَ لَفْظِهِ لَهُ فَالْخَاصُّ بَيَانٌ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ حُكْمِهِ وَإِبْطَالُهُ، بَلْ يَتَعَيَّنُ إعْمَالُهُ وَاعْتِبَارُهُ، وَلَا تُضْرَبُ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَوْلَى مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ إحْدَى السُّنَّتَيْنِ وَإِلْغَاءَ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ نَقُولُ: الصُّورَةُ الَّتِي أَبْطَلْتُمْ فِيهَا الصَّلَاةَ - وَهِيَ حَالَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ - وَخَالَفْتُمْ السُّنَّةَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ الصُّورَةِ الَّتِي وَافَقْتُمْ فِيهَا السُّنَّةَ؛ فَإِنَّهُ إذَا ابْتَدَأَ الْعَصْرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَقَدْ ابْتَدَأَهَا فِي وَقْتِ نَهْيٍ، وَهُوَ وَقْتٌ نَاقِصٌ، بَلْ هُوَ أَوْلَى الْأَوْقَاتِ بِالنُّقْصَانِ، كَمَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ صَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ تَصِيرُ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ حَرِيمًا لَهُ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ حِينَئِذٍ لَا يَسْجُدُونَ لَهَا، بَلْ يَنْتَظِرُونَ بِسُجُودِهِمْ طُلُوعَهَا فَكَيْفَ يُقَالُ: تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ ابْتَدَأَهَا فِي وَقْتٍ تَامٍّ لَا يَسْجُدُ فِيهِ الْكُفَّارُ لِلشَّمْسِ وَتَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ ابْتَدَأَهَا وَقْتَ سُجُودِ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُقَارِنُهَا لِيَقَعَ السُّجُودُ لَهُ كَمَا يُقَارِنُهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ لِيَقَعَ السُّجُودُ لَهُ؟ فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهَا وَقْتَ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ لَهَا غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ صِحَّتِهَا فَلَأَنْ تَكُونَ اسْتِدَامَتُهَا وَقْتَ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الصِّحَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ فَهَذَا مِنْ أَصَحِّهِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي خَالَفْتُمْ فِيهَا النَّصَّ أَوْلَى بِالْجَوَازِ قِيَاسًا مِنْ الصُّورَةِ الَّتِي وَافَقْتُمُوهُ فِيهَا. وَهَذَا مِمَّا حَصَّلْته عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - وَقْتَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ النَّصَّ لِلْقِيَاسِ فَقَدْ وَقَعَ فِي مُخَالِفِ الْقِيَاسِ وَالنَّصِّ مَعًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ غَرُبَتْ الشَّمْسُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» وَهَذَا شَطْرُ الْحَدِيثِ، وَشَطْرُهُ الثَّانِي: «وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ» . [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا] [دَفْعُ اللُّقَطَةِ إلَى الَّذِي يَصِفُهَا] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا، وَقَالُوا: هُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، فَكَيْفَ يُعْطِي الْمُدَّعِيَ بِدَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ ، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبُوا أَنْ قَالُوا: مَنْ ادَّعَى لَقِيطًا عِنْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ وَصَفَ عَلَامَاتٍ فِي بَدَنِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ خِلَافَ الْأُصُولِ، وَقَالُوا: مَنْ ادَّعَى خَصِيًّا وَمَعَاقِدَ قُمُطِهِ مِنْ جِهَتِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِلَافَ الْأُصُولِ، وَمَنْ ادَّعَى حَائِطًا وَوُجُوهُ الْآجُرِّ مِنْ جِهَتِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِلَافَ الْأُصُولِ، وَمَنْ ادَّعَى مَالًا عَلَى غَيْرِهِ فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَى لَهُ بِدَعْوَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِلَافَ الْأُصُولِ، وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجَانِ مَا فِي الْبَيْتِ قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِلَافَ الْأُصُولِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: لَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَا يُبْطِلُ الْحُكْمَ بِدَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى وَاصِفِهَا أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ بِوَصْفِهِ أَعْظَمُ مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ، بَلْ وَبِالشَّاهِدَيْنِ، فَوَصْفُهُ بَيِّنَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ؛ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ دَلِيلِ صِدْقِهِ مَعَ عَدَمِ مُعَارِضٍ أَقْوَى مِنْهُ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ حَقًّا لَا مُوجِبَ السُّنَّةِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي صَلَاةِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا] [صَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا] الْمَثَلُ الثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالُوا: مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا صَحَّ صَوْمُهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ، لَكِنْ تَبِعْنَا فِيهِ السُّنَّةَ، فَمَا الَّذِي مَنَعَكُمْ مِنْ تَقْدِيمِ السُّنَّةِ الْأُخْرَى عَلَى الْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ كَمَا قَدَّمْتُمْ خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَآثَارِ الْآبَارِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ؟ . [رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً] [اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مُدَّةً] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَوْ قُطِعَتْ لَمْ تَكُنْ مَالًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسَاوِي شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ لَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَقَائِهَا إلَى حِينِ الْكَمَالِ، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَخْيِيرِ الْوَلَدَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ] [تَخْيِيرُ الْوَلَدِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَدَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، ثُمَّ قَالُوا: إذَا زَوَّجَ الْوَلِيُّ - غَيْرُ الْأَبِ - الصَّغِيرَةَ صَحَّ وَكَانَ النِّكَاحُ لَازِمًا، فَإِذَا بَلَغَتْ انْقَلَبَ جَائِزًا وَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وَهَذَا وَفْقَ الْأُصُولِ، فَيَا لَلْعَجَبِ، أَيْنَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ الْمُسْتَنِدِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُوَافَقَةُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأُصُولِ وَمُخَالَفَةُ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ لِلْأُصُولِ؟ . [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ الْكِتَابِيَّيْنِ] [رَجْمُ الْكِتَابِيَّيْنِ] . الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ الْكِتَابِيَّيْنِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ عَمَّنْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ وَوَطِئَهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ، فَيَا عَجَبًا لِهَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي مَنَعَتْ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ أَقَامَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْقَطَتْهُ عَمَّنْ لَمْ يُسْقِطْهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ «أَنَّهُ أَرْسَلَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ» فَوَاَللَّهِ مَا رَضِيَ لَهُ بِحَدِّ الزَّانِي حَتَّى حَكَمَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ الْعُنُقِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ؛ فَإِنَّ جَرِيمَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ جَرِيمَةِ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، فَإِنَّ هَذَا ارْتَكَبَ مَحْظُورًا وَاحِدًا، وَالْعَاقِدُ عَلَيْهَا ضَمَّ إلَى جَرِيمَةِ الْوَطْءِ جَرِيمَةَ الْعَقْدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ، فَانْتَهَكَ حُرْمَةَ شَرْعِهِ بِالْعَقْدِ، وَحُرْمَةَ أُمِّهِ بِالْوَطْءِ، ثُمَّ يُقَالُ: الْأُصُولُ تَقْتَضِي سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ، فَكَيْفَ رُدَّ هَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ وَيُقَالُ: إنَّهُ مُقْتَضَى الْأُصُولِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّجْمِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ إلْزَامًا لَهُمَا بِمَا اعْتَقَدَا صِحَّتَهُ. قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَفَحَكَمَ بِحَقٍّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمُوَافَقَتُهُ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَاخْتَارُوا أَحَدَ الْجَوَابَيْنِ ثُمَّ اذْهَبُوا إلَى مَا شِئْتُمْ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ] [الْوَفَاءُ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ وَفِي الْبَيْعِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ، وَأَنَّهَا أَحَقُّ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ الَّذِي لَا يُعْلَمُ لَهُ إسْنَادٌ يَصِحُّ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ وَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَدَعْوَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ؛ أَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ جَابِرًا بَاعَ بَعِيرَهُ وَشَرَطَ رُكُوبَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» فَجَعَلَهُ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ، وَقَالَ: «مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ أَبَّرَتْ فَهِيَ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» فَهَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْإِجْمَاعِ فَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ وَالضَّمِينِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنَقْدٍ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَهَذَا بَيْعٌ وَشَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ وَشُرُوطُ النِّكَاحِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ؟ . [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي دَفْعِ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مُزَارَعَةً] [الْمُزَارَعَةُ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي دَفْعِ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مُزَارَعَةً، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَهُوَ: أَنْ يَدْفَعَ حِنْطَةً إلَى مَنْ يَطْحَنُهَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا، أَوْ غَزْلُهُ إلَى مَنْ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا بِجُزْءٍ مِنْهُ أَوْ زَيْتُونَهُ إلَى مَنْ يَعْصِرُهُ بِجُزْءٍ مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَرَرَ فِيهِ وَلَا خَطَرَ وَلَا قِمَارَ وَلَا جَهَالَةَ وَلَا أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، بَلْ هُوَ نَظِيرُ دَفْعِ مَالِهِ إلَى مَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ بِجُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ، بَلْ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَرْبَحُ الْمَالُ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ مَجَّانًا، وَهَذَا لَا يَذْهَبُ عَمَلُهُ مَجَّانًا؛ فَإِنَّهُ يَطْحَنُ الْحَبَّ وَيَعْصِرُ الزَّيْتُونَ وَيَحْصُلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ يَكُونُ بِهِ شَرِيكًا لِمَالِكِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ وَالْمُزَارَعَةُ الَّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ خِلَافَ الْأُصُولِ؟ . [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي صَيْدُ الْمَدِينَةِ] [صَيْدُ الْمَدِينَةِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي رَوَاهَا بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ صَحَابِيًّا فِي أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهَا، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَمُعَارَضَتُهَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ الْأُصُولِ الَّتِي خَالَفَتْهَا هَذِهِ السُّنَنُ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ؟ فَهَلَّا رُدَّ حَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ لِمُخَالَفَتِهِ هَذِهِ الْأُصُولَ؟ وَنَحْنُ نَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَرُدَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً صَحِيحَةً غَيْرَ مَعْلُومَةِ النَّسْخِ أَبَدًا، وَحَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ يَحْتَمِلُ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ قَدْ ذَهَبَ إلَى كُلٍّ مِنْهَا طَائِفَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا مُعَارِضًا لَهَا فَيَكُونُ نَاسِخًا، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النُّغَيْرُ مِمَّا صِيدَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ الْمَدِينَةَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ الصَّيُودِ، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رُخْصَةً لِذَلِكَ الصَّغِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا رُخِّصَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ كَمَا تَرَى، فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا يُقَدَّمُ عَلَى تِلْكَ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَقْدِيرِ نِصَابِ الْمُعَشَّرَاتِ] نِصَابُ الْمُعَشَّرَاتِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَقْدِيرِ نِصَابِ الْمُعَشَّرَاتِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ» . قَالُوا: وَهَذَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَقَدْ عَارَضَهُ الْخَاصُّ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ قَطْعِيَّةٌ كَالْخَاصِّ، وَإِذَا تَعَارَضَتَا قُدِّمَ الْأَحْوَطُ وَهُوَ الْوُجُوبُ؛ فَيُقَالُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِكِلَا الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِلْغَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ فَرْضٌ فِي هَذَا وَفِي هَذَا. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ نِصْفُهُ، فَذَكَرَ النَّوْعَيْنِ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ فَسَكَتَ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيَّنَهُ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ النَّصِّ الصَّحِيحِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ إلَى الْمُجْمَلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِيهِ بِعُمُومٍ لَمْ يُقْصَدْ. وَبَيَانُهُ بِالْخَاصِّ الْمُحْكَمِ الْمُبَيَّنِ كَبَيَانِ سَائِرِ الْعُمُومَاتِ بِمَا يَخُصُّهَا مِنْ النُّصُوصِ؟ وَيَاللَّهِ الْعَجَبُ، كَيْف يَخُصُّونَ عُمُومَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ اشْتِبَاهٍ وَاضْطِرَابٍ؟ إذْ مَا مِنْ قِيَاسٍ إلَّا وَتُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فَإِنَّهَا لَا يُعَارِضُهَا إلَّا سُنَّةٌ نَاسِخَةٌ مَعْلُومَةُ التَّأَخُّرِ وَالْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ يُقَال: إذَا خَصَّصْتُمْ عُمُومَ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» بِالْقَصَبِ وَالْحَشِيشِ وَلَا ذِكْرَ لَهُمَا فِي النَّصِّ فَهَلَّا خَصَّصْتُمُوهُ بِقَوْلِهِ: «لَا زَكَاةَ فِي حَبٍّ وَلَا ثَمَرٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» . وَإِذَا كُنْتُمْ تَخُصُّونَ الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ فَهَلَّا خَصَّصْتُمْ هَذَا الْعَامَّ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجْلَى الْقِيَاسِ وَأَصَحِّهِ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَالِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ فَإِنَّ الزَّكَاةَ الْخَاصَّةَ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي مَالٍ إلَّا وَجَعَلَ لَهُ نِصَابًا كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ وَيُقَالُ أَيْضًا: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ الزَّكَاةَ فِي قَلِيلِ كُلِّ مَالٍ وَكَثِيرِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ وَلَا بَقَرٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ» وَبِقَوْلِهِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا صُفِّحَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ» وَهَلَّا كَانَ هَذَا الْعُمُومُ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمًا عَلَى أَحَادِيثِ النُّصُبِ الْخَاصَّةِ؟ وَهَلَّا قُلْتُمْ: هُنَاكَ تَعَارُضٌ مُسْقِطٌ وَمُوجِبٌ فَقَدَّمْنَا الْمُوجِبَ احْتِيَاطًا؟ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِمَا قَلَّ مِنْ الْمَهْرِ] [أَقَلُّ الْمَهْرِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 قَلَّ مِنْ الْمَهْرِ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ مَعَ مُوَافَقَتِهَا لِعُمُومِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَلِلْقِيَاسِ فِي جَوَازِ التَّرَاضِي بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، بِأَثَرٍ لَا يَثْبُتُ وَقِيَاسٍ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، وَأَيْنَ النِّكَاحُ مِنْ اللُّصُوصِيَّةِ؟ وَأَيْنَ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْجِ بِهِ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ أَصَحَّ النَّاسِ قِيَاسًا أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى الْحَدِيثِ أَقْرَبَ كَانَ قِيَاسُهُ أَصَحَّ، وَكُلَّمَا كَانَ عَنْ الْحَدِيثِ أَبْعَدَ كَانَ قِيَاسُهُ أَفْسَدَ. [رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ فِيمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ] [مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِيمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يُخَيَّرَ فِي إمْسَاكِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَتَرْكِ الْأُخْرَى، بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَقَالُوا: قِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنْ نَكَحَ وَاحِدَةً، بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَرْدُودُ، وَنِكَاحُ الْأُولَى هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَإِنْ نَكَحَهُمَا مَعًا فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ، وَلَا تَخْيِيرَ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ، وَرُبَّمَا أَوَّلُوا التَّخْيِيرَ بِتَخْيِيرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْمَنْكُوحَاتِ. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ فَذَكَرَهُ. قَالَ مُسْلِمٌ: هَكَذَا رَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْبَصْرَةِ، فَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ ثِقَةٌ خَارِجَ الْبَصْرِيِّينَ حَكَمْنَا لَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ قَالَ: صَارَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا وَإِلَّا فَالْإِرْسَالُ أَوْلَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَوَجَدْنَا سُفْيَانَ بْنَ سَعِيدٍ الثَّوْرِيَّ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيَّ وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ - وَثَلَاثَتُهُمْ كُوفِيُّونَ - حَدَّثُوا بِهِ عَنْ مَعْمَرٍ مُتَّصِلًا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ وَهُوَ يَمَانِيٌّ وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى وَهُوَ خُرَاسَانِيٌّ عَنْ مَعْمَرٍ مُتَّصِلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَصَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: تَفَرَّدَ بِهِ سَوَّارُ بْنُ مُحَيْشِرٍ عَنْ أَيُّوبَ، وَسَوَّارٌ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، قَالَ الْحَاكِمُ: رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِرِوَايَتِهِمْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَسْلَمْت وَتَحْتِي أُخْتَانِ، قَالَ: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْت» . فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ هُمَا الْأُصُولُ الَّتِي نَرُدُّ مَا خَالَفَهَا مِنْ الْقِيَاسِ، أَمَّا أَنْ نُقَعِّدَ قَاعِدًا وَنَقُولُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ نَرُدُّ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ تِلْكَ الْقَاعِدِ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَهَدْمُ أَلْفِ قَاعِدَةٍ لَمْ يُؤَصِّلْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْرَضُ عَلَيْنَا مِنْ رَدِّ حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْلُومَةُ الْبُطْلَانِ مِنْ الدِّينِ؛ فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَقَعَتْ وَهَلْ صَادَفَتْ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْإِسْلَامِ فَتَصِحَّ أَمْ لَمْ تُصَادِفْهَا فَتَبْطُلَ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُهَا وَقْتَ إسْلَامِ الزَّوْجِ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْمَقَامُ مَعَ امْرَأَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 أَقَرَّهُمَا. وَلَوْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيِّ قَدْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ مِنْ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْآنَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِمْرَارُ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ؛ فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي أَصَّلَتْهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا خَالَفَهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ فِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الَّذِي يُسْلِمُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ] [التَّفْرِيقُ بَيْنَ الَّذِي يُسْلِمُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ] الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَكُنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ إذَا لَمْ تُسْلِمْ مَعَهُ، بَلَى مَتَى أَسْلَمَ الْآخَرُ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ» هَذِهِ سُنَّتُهُ الْمَعْلُومَةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَهِيَ دَارُ خُزَاعَةَ، وَخُزَاعَةُ مُسْلِمُونَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ مُقِيمَةٌ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَتْ: اُقْتُلُوا الشَّيْخَ الضَّالَّ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ هِنْدُ بَعْدَ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ كَافِرَةً مُقِيمَةً بِدَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بِهَا مُسْلِمٌ وَهِنْدُ كَافِرَةٌ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَاسْتَقَرَّا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَنْقَضِ حَتَّى أَسْلَمَتْ، وَكَانَ كَذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَإِسْلَامُهُ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، وَصَارَتْ دَارُهُمَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَظَهَرَ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَهَرَبَ عِكْرِمَةُ إلَى الْيَمَنِ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، وَصَفْوَانُ يُرِيدُ الْيَمَنَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، ثُمَّ رَجَعَ صَفْوَانُ إلَى مَكَّةَ وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ فَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ تَتَقَضَّ عِدَّتُهَا، وَقَدْ حَفِظَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ عِنْدَ رَجُلٍ بِمَكَّةَ فَأَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَقَدِمَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَاسْتَقَرَّا عَلَى النِّكَاحِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ إلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا قَدِمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهْلُ حَرْبٍ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَأَهْلُ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ؛ فَكَانَ إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إلَيْهِ» ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ» وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: «وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا» ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَدَّهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ لَهُ: سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَكَيْفَ تَجْعَلُ هَذَا الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ أَصْلًا تُرَدُّ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَعْلُومَةُ وَيُجْعَلُ خِلَافُ الْأُصُولِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَعَلْنَاهَا خِلَافَ الْأُصُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وَقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ؛ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ دَوَامِهِ كَالرَّضَاعِ. قِيلَ: لَا تُخَالِفُ السُّنَّةُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، إلَّا هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكَافِرِ ابْتِدَاءً وَالْكَافِرَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّيْنِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْفُرْقَةِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْ لَا تَتَوَقَّفَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا فِي الدِّينِ سَبَبٌ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَكِنَّ تَوَقُّفَ السَّبَبِ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَانْتَفَى الْمَانِعُ عَمِلَ عَمَلَهُ وَاقْتَضَى أَثَرَهُ، وَالْقُرْآنُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ، وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى شَرْطِ السَّبَبِ وَمَانِعُهُ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي فَصَّلَتْ السُّنَّةَ شُرُوطَهَا وَمَوَانِعَهَا، كَقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلِهِ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ مُعَارِضَةً لِبَيَانِ الْأَسْبَابِ وَالْمُوجِبَاتِ فَتَعُودُ السُّنَّةُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا مُعَارِضَةً لِلْقُرْآنِ، وَهَذَا مُحَالٌ. [رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ بِأَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ] [ذَكَاةُ الْجَنِينِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ بِأَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، فَيُقَالُ: الَّذِي جَاءَ عَلَى لِسَانِهِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ الْأَجِنَّةَ الْمَذْكُورَةَ؛ فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ لَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ السَّمَكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وَالْجَرَادُ مِنْ الْمَيْتَةِ، فَكَيْفَ وَلَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ؟ فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ وَالذَّكَاةُ قَدْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا بِذَكَاةٍ، وَالْجَنِينُ تَابِعٌ لِلْأُمِّ جُزْءٌ مِنْهَا؛ فَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ لَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِالْإِبَاحَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتْ بِالْإِبَاحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَالْمُرَادُ التَّشْبِيهُ، أَيْ ذَكَاتُهُ كَذَكَاةِ أُمِّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا بِذَكَاةٍ تُشْبِهُ ذَكَاةَ الْأُمِّ. قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ شَقِيقُ قَوْلِ الْقَائِلِ: " " كَلِمَةٌ تَكْفِي الْعَاقِلَ " فَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ الْحَدِيثَ لَمْ تَسْتَحْسِنُوا إيرَادَ هَذَا السُّؤَالِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ هَكَذَا: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ وَفِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ قَالَ: كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» فَأَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَهُ مُعَلِّلًا بِأَنَّ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ؛ فَقَدْ اتَّفَقَ النَّصُّ وَالْأَصْلُ وَالْقِيَاسُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ فِي إشْعَارِ الْهَدْيِ] [إشْعَارُ الْهَدْيِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السَّنَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي إشْعَارِ الْهَدْيِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ؛ إذْ الْإِشْعَارُ مُثْلَةٌ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ خِلَافُ الْأُصُولِ الْبَاطِلَةِ، وَمَا ضَرَّهَا ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْمُثْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْعُدْوَانُ الَّذِي لَا يَكُونُ عُقُوبَةً وَلَا تَعْظِيمًا لِشَعَائِرِ اللَّهِ؛ فَأَمَّا شَقُّ صَفْحَةِ سَنَامِ الْبَعِيرِ الْمُسْتَحَبُّ أَوْ الْوَاجِبُ ذَبْحُهُ لِيَسِيلَ دَمُهُ قَلِيلًا فَيَظْهَرَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَإِقَامَةُ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ فَعَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ، وَأَيُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ حَرَّمَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ خِلَافًا لِلْأُصُولِ؟ وَقِيَاسُ الْإِشْعَارِ عَلَى الْمُثْلَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّهُ قِيَاسُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ عَلَى مَا يَبْغُضُهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي حِكْمَةِ الْإِشْعَارِ إلَّا تَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللَّهِ وَإِظْهَارُهَا وَعِلْمُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ قَرَابِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تُسَاقُ إلَى بَيْتِهِ تُذْبَحُ لَهُ وَيُتَقَرَّبُ بِهَا إلَيْهِ عِنْدَ بَيْتِهِ كَمَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِهِ عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَذْبَحُونَ لِأَرْبَابِهِمْ وَيُصَلُّونَ لَهَا؛ فَشَرَعَ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ تَوْحِيدِهِ أَنْ يَكُونَ نُسُكُهُمْ وَصَلَاتُهُمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُظْهِرُوا شَعَائِرَ تَوْحِيدِهِ غَايَةَ الْإِظْهَارِ لِيُعْلُوا دِينَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْإِشْعَارِ عَلَى وَفْقِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ فَأَتْلَفُوا عَيْنَهُ] [لَا دِيَةَ لِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ فَأَتْلَفُوا عَيْنَهُ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْته بِحَصَاةٍ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ: «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك، إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ رَجُلًا «اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ إلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ. قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ» ، وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَرَمَوْهُ فَأَصَابُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَبَاحَ قَلْعَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، لَا بِجِنَايَةِ النَّظَرِ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ اسْتَمَعَ عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ أُذُنَهُ، فَيُقَالُ: بَلْ هَذِهِ السُّنَنُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ؛ فَمَا خَالَفَهُمَا فَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَقَوْلُكُمْ: " إنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْذَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ " فَهَذَا حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ، وَأَمَّا الْعُضْوُ الْجَانِي الْمُتَعَدِّي الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ضَرَرِهِ وَعُدْوَانِهِ إلَّا بِرَمْيِهِ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَتَنَاوَلُهُ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِبَيَانِ حُكْمِهِ بَيَانًا ابْتِدَائِيًّا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ، لَا مُخَالِفًا لِمَا حَكَمَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا اسْمٌ آخَرُ غَيْرُ فَقْءِ الْعَيْنِ قِصَاصًا، وَغَيْرُ دَفْعِ الصَّائِلِ الَّذِي يُدْفَعُ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ دَفْعُ ضَرَرِ صِيَالِهِ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِالْعَصَا لَمْ يُدْفَعْ بِالسَّيْفِ. وَأَمَّا هَذَا الْمُتَعَدِّي بِالنَّظَرِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ وَالْخَتْلِ؛ فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ غَيْرُ الْجَانِي وَغَيْرُ الصَّائِلِ الَّذِي لَمْ يَتَحَقَّقْ عُدْوَانُهُ، وَلَا يَقَعُ هَذَا غَالِبًا إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ وَعَدَمِ مُشَاهَدَةِ غَيْرِ النَّاظِرِ إلَيْهِ؛ فَلَوْ كُلِّفَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى جِنَايَتِهِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمَرَ بِدَفْعِهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ذَهَبَتْ جِنَايَةُ عُدْوَانِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَإِلَى حَرِيمِهِ هَدَرًا، وَالشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ تَأْبَى هَذَا وَهَذَا؛ فَكَانَ أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ وَأَصْلَحَهُ وَأَكَفَّهُ لَنَا وَلِلْجَانِي مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا وَلَا دَافِعَ لِصِحَّتِهَا مِنْ حَذْفِ مَا هُنَالِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَصَرٌ عَادَ لَمْ يَضُرَّ خَذْفُ الْحَصَاةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ بَصَرٌ عَادَ لَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ؛ فَهُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ صَاحِبُهُ لِلتَّلَفِ، فَأَدْنَاهُ إلَى الْهَلَاكِ، وَالْخَاذِفُ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُ، وَالنَّاظِرُ خَائِنٌ ظَالِمٌ، وَالشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ حَقَّ هَذَا الَّذِي قَدْ هُتِكَتْ حُرْمَتُهُ وَتُحِيلَهُ فِي الِانْتِصَارِ عَلَى التَّعْزِيرِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ فَحُكْمُ اللَّهِ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ] الْكَلَامُ عَنْ وَضْعِ الْجَوَائِحِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: «لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» فَقَالُوا: هَذِهِ خِلَافُ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ الثَّمَرَةَ وَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهَا، وَثَمَّ نُقِلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَبِحَ فِيهَا كَانَ الرِّبْحُ لَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ» وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ «أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَ حَائِطٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَالَجَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ، فَحَلَفَ لَا يَفْعَلُ، فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَأَلَّى أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ» . وَالْجَوَابُ أَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ نُبَيِّنُ هَذَا بِمَقَامَيْنِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَحَدِيثُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَا يُخَالِفُ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا، وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ؛ فَيَجِبُ قَبُولُهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْقِيَاسِ فَيَكْفِي فِي فَسَادِهِ شَهَادَةُ النَّصِّ لَهُ بِالْإِهْدَارِ، كَيْفَ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ؟ وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْمَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ كَمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتَسَلَّمْ الثَّمَرَةَ وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْقَبْضَ التَّامَّ الَّذِي يُوجِبُ نَقْلَ الضَّمَانِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَبْضَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَقَبْضُ الثِّمَارِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ كَمَالِ إدْرَاكِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَهُوَ كَقَبْضِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ، وَتَسْلِيمُ الشَّجَرَةِ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ، وَعُلَقُ الْبَائِعِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ لَهُ سَقْيَ الْأَصْلِ وَتَعَاهُدَهُ، كَمَا لَمْ تَنْقَطِعْ عُلَقُ الْمُؤَجِّرِ عَنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَتَسَلَّمْ التَّسْلِيمَ التَّامَّ كَمَا لَمْ يَتَسَلَّمْ الْمُسْتَأْجِرُ التَّسْلِيمَ التَّامَّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ اجْتَاحَ الثَّمَرَةَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَحِلَّ لِلْبَائِعِ إلْزَامُهُ بِثَمَنِ مَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهَا قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهَا الْقَبْضَ الْمُعْتَادَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ؟ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَذَكَرَ الْحُكْمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا» وَعِلَّةُ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَرَأَيْت إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ» إلَى آخِرَةٍ. وَهَذَا الْحُكْمُ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَالتَّعْلِيلُ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لَا يَقْبَلُ الْإِلْغَاءَ وَلَا الْمُعَارَضَةَ. وَقِيَاسُ الْأُصُولِ لَا يَقْتَضِي غَيْرَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْقَبْضِ الْمُعْتَادِ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ أَخَّرَهُ لِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ لِانْتِظَارِ غَلَاءِ السِّعْرِ كَانَ التَّلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَمْ تُوضَعْ عَنْهُ الْجَائِحَةُ. وَأَمَّا مُعَارَضَةُ هَذِهِ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَمِنْ بَابِ رَدِّ الْمُحْكَمِ بِالْمُتَشَابِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أُصِيبَ فِيهَا بِجَائِحَةٍ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ جَائِحَةً عَامَّةً، بَلْ لَعَلَّهُ أُصِيبَ فِيهَا بِانْحِطَاطِ سِعْرِهَا. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَانَتْ جَائِحَةً فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ جَائِحَةً عَامَّةً، بَلْ لَعَلَّهَا جَائِحَةٌ خَاصَّةٌ كَسَرِقَةِ اللُّصُوصِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ جَائِحَةً تُسْقِطُ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ نَهْبِ الْجُيُوشِ وَالتَّلَفِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْجَائِحَةَ عَامَّةٌ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَكُنْ بِتَفْرِيطِهِ فِي التَّأْخِيرِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَكُنْ بِتَفْرِيطِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَبَ الْفَسْخَ وَأَنْ تُوضَعَ عِنْدَ الْجَائِحَةِ، بَلْ لَعَلَّهُ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ وَلَمْ يَطْلُبْ الْوَضْعَ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لَهُ: إنْ شَاءَ طَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، فَأَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ مِنْهُ؟ وَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ إلَّا بِثُبُوتِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَكَيْفَ يُعَارِضُ نَصٌّ قَوْلَهُ الصَّحِيحَ الصَّرِيحَ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ نَصٌّ فِيهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَشَابِهِ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهِ: «لَيْسَ لَكُمْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِبَائِعِي الثِّمَارِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَا أَخَذَهُ، وَعِنْدَكُمْ الْمَالُ كُلُّهُ فِي ذِمَّتِهِ؛ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِخَبَرِ مَالِكٍ فَمَنْ أَبْطَلَ الْمُعَارَضَاتِ وَأَفْسَدَهَا، فَأَيْنَ فِيهِ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ بِوَجْهٍ مَا؟ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عَالَجَهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوَضْعِ الثَّمَنِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ] [صَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ] . الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحِيحَيْ ابْنِ حِبَّانَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَك فَلَا صَلَاةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» . وَفِي السُّنَنِ وَصَحِيحَيْ ابْنِ حِبَّانَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ صَلَّى وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ قَالَ: يُعِيدُ صَلَاتَهُ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ الْمُحْكَمَةُ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهَا هِيَ مَحْضُ الْأُصُولِ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَرُدَّتْ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثِ «أَحْرَمَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَدَارَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 إلَى يَمِينِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِقْبَالِ الصَّلَاةِ» . وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الرَّدِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَوْ كَبَّرَ أَحَدُهُمْ وَحْدَهُ ثُمَّ كَبَّرَ الْآخَرُ بَعْدَهُ صَحَّتْ الْقُدْوَةُ وَلَمْ يَكُنْ السَّابِقُ فَذًّا، وَإِنْ أَحْرَمَ وَحْدَهُ فَالِاعْتِبَارُ بِالْمُصَافَّةِ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ وَهُوَ الرُّكُوعُ، وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ رَدُّ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فَذًّا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ وَأَعْظَمُ فِي صُدُورِ أَهْلِهَا إنْ تَعَارَضَ بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ، وَأَقْبَحُ مِنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مُعَارَضَتُهَا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقِفُ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَوْقِفُهَا الْمَشْرُوعُ بَلْ الْوَاجِبُ، كَمَا أَنَّ مَوْقِفَ الْإِمَامِ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ أَمَامَ الصَّفِّ. أَمَّا مَوْقِفُ الْفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ فَلَمْ يُشَرِّعْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْبَتَّةَ، بَلْ شَرَّعَ الْأَمْرَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ وَقَفَ فِيهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ حِينَ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى رَاكِعًا حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ فَذًّا؟ قِيلَ: نَقْبَلُهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ، وَنُمْسِكُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَعُدْ " فَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالنَّهْيِ لَقُلْنَا لَهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ فَإِمَّا أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ وَهُوَ فِي الصَّفِّ أَوَّلًا، فَإِنْ جَامَعَهُ فِي الرُّكُوعِ وَهُوَ فِي الصَّفِّ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ وَهُوَ غَيْرُ فَذٍّ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهَا قَائِمًا، وَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ. فَقَدْ قِيلَ: تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ وَيَكُونُ فَذًّا فِيهَا وَالطَّائِفَتَانِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَضِيَّةُ عَيْنٍ: يَحْتَمِلُ دُخُولُهُ فِي الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ. وَحِكَايَةُ الْفِعْلِ لَا عُمُومَ لَهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا عَلَى الصُّورَتَيْنِ، فَهِيَ إذًا مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا النَّصُّ الْمُحْكَمُ الصَّرِيحُ، فَهَذَا مُقْتَضَى الْأُصُولِ نَصًّا وَقِيَاسًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَذَانِ لِلْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا] [الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي جَوَازِ الْأَذَانِ لِلْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ، وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِهِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ قَالَ يُنَادِي - بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيَنْتَبِهَ نَائِمُكُمْ» قَالَ مَالِكٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 لَمْ تَزَلْ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ وَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَبِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِي: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ، أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ» وَلَا تُرَدُّ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، وَقِيَاسُ وَقْتِ الْفَجْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مُصَادَمَتُهُ لِلسُّنَّةِ لَكَفَى فِي رَدِّهِ، فَكَيْف وَالْفَرْقُ قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَا فِي النِّدَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ؟ وَإِذَا اخْتَصَّ وَقْتُهَا بِأَمْرٍ لَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ امْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَيُّوبَ إلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبٍ: سَأَلْت عَلِيًّا وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيُّ - عَنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ بِلَيْلٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْجِعْ فَنَادِ إنَّ الْعَبْدَ نَامَ» فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي خَطَأٌ، لَمْ يُتَابَعْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَلَى هَذَا، إنَّمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُنَادِي بِلَيْلٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ رَزِينٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَإِنَّهُ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَغْمِزُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَاتَّهِمْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إلَّا أَنَّهُ لَمَّا طَعَنَ فِي السِّنِّ سَاءَ حِفْظُهُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِهِ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَاجْتَهَدَ فِي أَمْرِهِ وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ ثَابِتٍ مَا سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ، وَمَا سِوَى حَدِيثِهِ عَنْ ثَابِتٍ لَا يَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا أَخْرَجَهَا فِي الشَّوَاهِدِ دُونَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ لِمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَحْتَجَّ بِمَا يَجِدُ مِنْ حَدِيثِهِ مُخَالِفًا لِأَحَادِيثِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: أَذَّنَ بِلَالٌ مَرَّةً بِلَيْلٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ بِلَالًا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: اسْتَيْقَظْت وَأَنَا وَسْنَانٌ، فَظَنَنْت أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمَدِينَةِ: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، وَأَقْعَدَهُ إلَى جَانِبِهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ» . ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَالَفَهُ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ مُؤَذِّنٍ لِعُمَرَ يُقَالُ لَهُ مَسْرُوحٌ أَنَّهُ أَذَّنَ قَبْلَ الصُّبْحِ، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُنَادِيَ: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ مُؤَذِّنًا لِعُمَرَ يُقَالُ لَهُ مَسْرُوحٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ لِعُمَرَ مُؤَذِّنٌ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا أَصَحُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 مِنْ ذَلِكَ، يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ أَصَحُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَوْصُولًا، وَلَا يَصِحُّ، رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: إنَّ الْعَبْدَ نَامَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَجْدًا شَدِيدًا» ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهِمَ فِيهِ عَامِرُ بْنُ مُدْرِكٍ. وَالصَّوَابُ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ مُؤَذِّنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا يَصِحُّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي عَنْ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصْعَدَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ، فَفَعَلَ، وَقَالَ: لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ، وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ جَبِينِهِ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سَعِيدٍ، يَعْنِي مَوْصُولًا، وَغَيْرُهُ يُرْسِلُهُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيِّ: ثنا الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَذَّبَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ لَيْلَةً بِسَوَادٍ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَقَامِهِ فَيُنَادِيَ: إنَّ الْعَبْدَ نَامَ» ، وَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَحُمَيْدٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا قَتَادَةَ؛ فَهُوَ مُرْسَلٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَرُوِيَ عَنْ شَدَّادٍ مَوْلَى عِيَاضٍ قَالَ: «جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فَقَالَ: لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: شَدَّادٌ مَوْلَى عِيَاضٍ لَمْ يَدْرِك بِلَالًا. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ عَنْ بِلَالٍ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَّا أُؤَذِّنَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» ، وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ هَكَذَا غَيْرُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَرَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ طَلْحَةَ وَزُبَيْدٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفْلَةَ «أَنَّ بِلَالًا لَمْ يُؤَذِّنْ حَتَّى يَنْشَقَّ الْفَجْرُ» ، هَكَذَا رَوَاهُ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفَانِ. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ: لَا تُؤَذِّنْ - وَجَمَعَ سُفْيَانُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ - لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَقُولَ الْفَجْرُ هَكَذَا» - وَصَفَّ سُفْيَانُ بَيْنَ السَّبَّابَتَيْنِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا - قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا دَلَّ عَلَى أَذَانِ بِلَالٍ بِلَيْلٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ مَعَانِيَ تَأْذِينِهِ بِاللَّيْلِ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَرُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: «قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَوْتَرَ مِنْ اللَّيْلِ رَجَعَ إلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٍ قَامَ؛ فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا اغْتَسَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: مَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الْأَسْوَدِ: «سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ، قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَإِذَا كَانَ السَّحَرُ أَوَى، ثُمَّ يَأْتِي فِرَاشَهُ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَلَمَّ بِهِمْ، ثُمَّ يَنَامُ، فَإِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ - وَرُبَّمَا قَالَتْ الْأَذَانَ - وَثَبَ، وَرُبَّمَا قَالَتْ قَامَ، فَإِذَا كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: اغْتَسَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ ثُمَّ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ» ، وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ وَثَبَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي رِوَايَتِهِ وَرِوَايَةِ شُعْبَةَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ خَالَفَهَا، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ الطَّعَامَ، وَكَانَ لَا يُؤَذِّنُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ إنْ صَحَّ عَلَى الْأَذَانِ الثَّانِي، وَالصَّحِيحُ عَنْ نَافِعٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ» وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: عُمْدَتُكُمْ فِي هَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى حَدِيثِ بِلَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ اضْطَرَبَ الرُّوَاةُ فِيهِ هَلْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ بِلَالًا أَوْ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَلَيْسَتْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَتَتَسَاقَطَانِ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعَتْ عَمَّتِي أُنَيْسَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ بِلَالٌ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ» وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُنَيْسَةَ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: كَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَابْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ، الثَّانِي: كَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ» هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ؛ الثَّالِثُ: رُوِيَ عَلَى الشَّكِّ: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» أَوْ قَالَ: «ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَالٌ» كَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَجَمَاعَةٌ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ لِمُوَافَقَتِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ وَابْنِ عُمَرَ فَمِمَّا انْقَلَبَ فِيهَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ عَارَضَهَا رِوَايَةُ الشَّكِّ وَرِوَايَةُ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 بِلَيْلٍ هُوَ بِلَالٌ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْفَجْرِ؛ فَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ: " طَلَعَ الْفَجْرُ " أَذَّنَ، وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْأَذَانَ نُوَبًا بَيْنَ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ الْآخَرُ؛ فَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَجِئْ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ قَطُّ، لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا مُرْسَلٍ وَلَا مُتَّصِلٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَجْعَلُ غَلَطَ الرُّوَاةِ شَرِيعَةً وَيَحْمِلُهَا عَلَى السُّنَّةِ، وَخَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَسَمُرَةَ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ] [الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ وَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ بَعْدَمَا دُفِنَتْ» وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ» وَفِيهِمَا عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ» وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بَعْدَ شَهْرٍ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ الْمُحْكَمَةُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ؛ فَهَذَا قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ، وَلَا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا إلَى الْقَبْرِ غَيْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي عَلَى الْقَبْرِ؛ فَهَذِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَيِّتِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، بَلْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِيهِ؛ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى نَعْشِهِ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى النَّعْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي بَطْنِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ فِي الْقُبُورِ وَلَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَأَيْنَ مَا لَعَنَ فَاعِلَهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهُ شِرَارُ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ: «إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» إلَى مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا مُتَكَرِّرًا؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجُلُوسِ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ] [الْجُلُوسُ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ] . الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الْجُلُوسِ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ» وَلَوْ لَمْ يَأْتِ هَذَا النَّصُّ لَكَانَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِهِ مُتَنَاوِلًا لِافْتِرَاشِهِ كَمَا هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلِالْتِحَافِ بِهِ، وَذَلِكَ لُبْسٌ لُغَةً وَشَرْعًا كَمَا قَالَ أَنَسٌ: قُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ اللَّفْظُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِافْتِرَاشِهِ بِالنَّهْيِ لَكَانَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ، إمَّا قِيَاسُ الْمِثْلِ أَوْ قِيَاسُ الْأَوْلَى؛ فَقَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الِافْتِرَاضِ النَّصُّ الْخَاصُّ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَمِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْحَرِيرُ بِطَانَةَ الْفِرَاشِ دُونَ ظِهَارَتِهِ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُبَاشَرَةُ الْحَرِيرِ وَعَدَمُهَا كَحَشْوِ الْفِرَاشِ بِهِ؛ فَإِنْ صَحَّ الْفَرْقُ بَطَلَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ بَطَلَ الْفَرْقُ مُنِعَ الْحُكْمُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَحَرَّمُوهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَابَلَهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ لِلنَّوْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ وَأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ لُبْسُهُ أُبِيحَ لَهُ افْتِرَاشُهُ وَمَنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي خَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَاةِ وَالْعَرَايَا وَغَيْرِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا] [خَرْصُ الثِّمَارِ فِي الزَّكَاةِ وَالْعَرَايَا] : الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي خَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَاةِ وَالْعَرَايَا وَغَيْرِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَبْعَثُ مَنْ يَخْرُصُ عَلَى النَّاسِ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ» وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ: ثنا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ يَقُولُ: أَتَانَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ إلَى مَجْلِسِنَا فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ؛ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ، وَرَوَى فِيهَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى يَهُودَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ يُخْبِرُ يَهُودَ فَيَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَمْ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْخَرْصِ، لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ» وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ، عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ: إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي، وَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَصَ حَدِيقَةَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إلَى تَبُوكَ» وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرِصُوهَا، فَخَرَصُوهَا بِعَشَرَةِ أَوْسُقٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوا الْمَرْأَةَ عَنْ الْحَدِيقَةِ، فَقَالَتْ: بَلَغَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا» وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ بَعَثَ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ عَلَى خَرْصِ التَّمْرِ، وَقَالَ: " إذَا أَتَيْت أَرْضًا فَاخْرُصْهَا وَدَعْ لَهُمْ قَدْرَ مَا يَأْكُلُونَ " فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ كُلُّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] قَالُوا: الْخَرْصُ مِنْ بَابِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ؛ فَيَكُونُ تَحْرِيمُهُ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْآثَارِ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلَ الْبَاطِلَ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ وَالْخَرْصِ الْمَشْرُوعِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَالْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ تَعَاطِي الْقِمَارِ وَعَنْ شَرْعِهِ وَعَنْ إدْخَالِهِ فِي الدِّينِ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُقَامِرُونَ إلَى زَمَنِ خَيْبَرَ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ إلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ انْقَضَى عَصْرُ الصَّحَابَةِ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْقِمَارِ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْخَرْصَ قِمَارٌ حَتَّى بَيَّنَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ؟ وَهَذَا وَاَللَّهِ الْبَاطِلُ حَقًّا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ] [صِفَةُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ] : الْمِثَالُ الْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَتَكْرَارِ الرُّكُوعِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، كُلُّهُمْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْرَارَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ الْمُحْكَمَةُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كُنْت يَوْمًا أَرْمِي بِأَسْهُمٍ وَأَنَا بِالْمَدِينَةِ، فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ، فَجَمَعْت أَسْهُمِي وَقُلْت: لَأَنْظُرَنَّ مَاذَا أَحْدَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ فَكُنْت خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ بِسُورَتَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ فَهِيَ رَكْعَتَانِ وَتَعَدَّدَ رُكُوعُهُمَا كَمَا يُسَمَّيَانِ سَجْدَتَيْنِ مَعَ تَعَدُّدِ سُجُودِهِمَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي السُّنَنِ إطْلَاقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 السَّجْدَتَيْنِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ؛ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ رَوَوْا تَكْرَارَ الرُّكُوعِ أَكْثَرُ عَدَدًا وَأَجَلُّ وَأَخَصُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ نَحْوًا مِمَّا تُصَلُّونَ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إفْرَادِ الرُّكُوعِ. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ دُونَ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَزَادَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ؛ فَإِنْ رَجَّحْنَا بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ فَشُعْبَةُ شُعْبَةُ. وَإِنْ قَبِلْنَا الزِّيَادَةَ فَرِوَايَةُ مَنْ زَادَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعًا آخَرَ زَائِدَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى رُكُوعًا وَاحِدًا فَتَكُونُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالسُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ مِنْ رِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ، وَبِحَدِيثِ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوهَا كَإِحْدَى صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ» ؟ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِمَا. قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَادِيثَ تَكْرَارِ الرُّكُوعِ أَصَحُّ إسْنَادًا وَأَسْلَمُ مِنْ الْعِلَّةِ وَالِاضْطِرَابِ، لَا سِيَّمَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ فَإِنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنُودِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَرَكَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى جُلِّيَ عَنْ الشَّمْسِ» . فَهَذَا أَصَحُّ وَأَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ كُلِّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالنُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، وَلَيْسَ مِنْهُمَا شَيْءٌ فِي الصَّحِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ رُوَاتَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ وَأَحْفَظُ وَأَجَلُّ مِنْ سَمُرَةَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ؛ فَلَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ بِهَا، الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِزِيَادَةٍ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجَهْرِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ] [الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْجَهْرِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً يَجْهَرُ بِهَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ - قُلْت: أَمَّا حَدِيثُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ فَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» . وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرَ وَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً يَجْهَرُ بِهَا» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْجَهْرِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ - قُلْت: يُرِيدُ قَوْلَ سَمُرَةَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُسُوفٍ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا» وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ تَضَمَّنَ زِيَادَةَ الْجَهْرِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثُ تَرْجِيحَاتٍ، وَاَلَّذِي رُدَّتْ بِهِ هَذِهِ السُّنَّةُ الْمُحْكَمَةُ هُوَ الْمُتَشَابِهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ صَلَّى الْكُسُوفَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» قَالُوا: فَلَوْ سَمِعَ مَا قَرَأَ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْهَرْ، الثَّانِي: أَنَّهُ جَهَرَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَمِعَ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَرَأَ بِهِ فَقَدَّرَهُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا جَمَعَهُ بَعْدَهُ، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مَا قَرَأَ بِهِ وَحَفِظَ قَدْرَ قِرَاءَتِهِ، فَقَدَّرَهَا بِالْبَقَرَةِ، وَنَحْنُ نَرَى الرَّجُلَ يَنْسَى مَا قَرَأَ بِهِ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ يَوْمِهِ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ هَذَا اللَّفْظُ الْمُجْمَلُ عَلَى الصَّرِيحِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا؟ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَنَسًا رَوَى تَرْكَ جَهْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ، فَقُلْتُمْ: كَانَ صَغِيرًا يُصَلِّي خَلْفَ الصُّفُوفِ فَلَمْ يَسْمَعْ الْبَسْمَلَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ بِلَا شَكٍّ وَقَدَّمْتُمْ عَدَمَ سَمَاعِهِ لِلْجَهْرِ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ صَرِيحًا، فَهَلَّا قُلْتُمْ، كَانَ صَغِيرًا فَلَعَلَّهُ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ فَلَمْ يَسْمَعْهُ جَهَرَ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُكُمْ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَسْمَعْ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً» وَقَدَّمْتُمْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَأَنَسٌ إذْ ذَاكَ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا وَهُوَ بِسِنِّ أَنَسٍ، وَقَوْلُهُ: " أَفْرَدَ الْحَجَّ " مُجْمَلٌ، وَقَوْلُ أَنَسٍ: " سَمِعْته يَقُولُ «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» مُحْكَمٌ مُبِينٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَبَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِيهِ حَدِيثًا لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الصَّرَاحَةِ وَالْبَيَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالنَّضْحِ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ] [الِاكْتِفَاءُ بِالنَّضْحِ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ] : الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يُطْعَمْ بِالنَّضْحِ دُونَ الْغَسْلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ: «أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أُمَامَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: «كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ الْبِسْ ثَوْبًا وَأَعْطِنِي إزَارَك حَتَّى أَغْسِلَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ» وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَوْلُ الْغُلَامِ الرَّضِيعِ يُنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَا جَمِيعًا. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، فَإِنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ صَحَّ سَمَاعُهُ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي السَّمْحِ خَادِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كَرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُلَامٍ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُضِحَ، وَأُتِيَ بِجَارِيَةٍ فَبَالَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِلَ» ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ كَرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَوْلُ الْغُلَامِ يَنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» وَصَحَّ الْإِفْتَاءُ بِذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُمَا، فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِقِيَاسٍ مُتَشَابِهٍ عَلَى بَوْلِ الشَّيْخِ، وَبِعُمُومٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ هَذَا الْخَاصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ: " «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالدَّمِ وَالْقَيْءِ» وَالْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ حَمَّادٍ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ غَيْرُ ثَابِتِ بْنِ حَمَّادٍ، وَأَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرُ وَمَعْلُولَاتٌ، وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ، وَلَا يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَكُونُ الْبَوْلُ فِيهِ مَخْصُوصًا بِبَوْلِ الصَّبِيِّ، كَمَا خَصَّ مِنْهُ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِأَحَادِيثَ دُونَ هَذِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْوِتْرِ بِوَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ] [جَوَازُ إفْرَادِ رَكْعَةِ الْوِتْرِ] : الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْوِتْرِ بِوَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: «سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْوِتْرِ، فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: رَكْعَةً مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ» فَإِذَا صَلَّى الْقَاعِدُ رَكْعَتَيْنِ وَجَبَ بِهَذَا النَّصِّ أَنْ تَعْدِلَ صَلَاةَ الْقَائِمِ رَكْعَةً، فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ لَكَانَتْ صَلَاةُ الْقَاعِدِ أَتَمَّ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَصَحَّ الْوِتْرُ بِوَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ تَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبِ، أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَاكِمُ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا طَاهِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ ثنا ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ ثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَزَادَ: «أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» . فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِحَدِيثَيْنِ بَاطِلَيْنِ وَقِيَاسٍ فَاسِدٍ؛ أَحَدُهُمَا: «نَهَى عَنْ الْبَتْرَاءِ» وَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، وَلَوْ صَحَّ فَالْبَتْرَاءُ صِفَةٌ لِلصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ بُتِرَ رُكُوعُهَا وَسُجُودُهَا فَلَمْ يُطْمَأَنَّ فِيهَا، الثَّانِي حَدِيثٌ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «وِتْرُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ كَوِتْرِ النَّهَارِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي الْحَوَاجِبِ، ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ الْأَعْمَشِ مَرْفُوعًا غَيْرُهُ، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْأَعْمَشِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ فَهُوَ أَنْ قَالُوا: رَأَيْنَا الْمَغْرِبَ وِتْرَ النَّهَارِ، وَصَلَاةُ الْوِتْرِ وِتْرُ اللَّيْلِ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرَ النَّهَارِ مَوْصُولًا فَهَكَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ، وَقَدْ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْوِتْرَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ أَحَدُهَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ فِي وِتْرِ النَّهَارِ دُونَ وِتْرِ اللَّيْلِ، الثَّانِي: وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتُهَا فِيهِ دُونَ وِتْرِ اللَّيْلِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ وِتْرَ اللَّيْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي وِتْرِ اللَّيْلِ أَنَّهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ وَسَبْعٍ وَخَمْسٍ مَوْصُولَةٍ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، السَّادِسُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشْبِيهِ وِتْرِ اللَّيْلِ بِوِتْرِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، السَّابِعُ: أَنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ اسْمٌ لِلرَّكْعَةِ وَحْدَهَا، وَوِتْرَ النَّهَارِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» الثَّامِنُ: أَنَّ وِتْرَ النَّهَارِ فَرْضٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وَوِتْرَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، التَّاسِعُ: أَنَّ وِتْرَ النَّهَارِ يُقْضَى بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا وِتْرُ اللَّيْلِ فَلَمْ يَقُمْ عَلَى قَضَائِهِ دَلِيلٌ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ قَدْ فَاتَ فَهُوَ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ وَالْقُنُوتِ إذَا فَاتَ، وَقَدْ تَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: لَا يُقْضَى؛ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْوِتْرَ، الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وِتْرِ اللَّيْلِ جَعْلُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَشْفَاعِ كُلِّهَا وِتْرًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إيتَارَ الشَّفْعِ الَّذِي يَلِيه خَاصَّةً، وَكَانَ الْأَقْيَسُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ رَكْعَةً مُفْرَدَةً تُوتِرُ جَمِيعَ مَا قَبْلَهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي التَّنَفُّلُ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْفَرْضِ] [التَّنَفُّلُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّنَفُّلُ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْفَرْضِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ: «إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاثَ بِهِ النَّاسُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟ الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ بِأَيِّ صَلَاتَيْك اعْتَدَدْت؟ بِاَلَّتِي صَلَّيْت وَحْدَك أَوْ بِاَلَّتِي صَلَّيْت مَعَنَا؟» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ، فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَحَطْنَا بِهِ نَقُولُ: مَاذَا قَالَ لَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: قَالَ لِي: يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَرْبَعًا» وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: «أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُصَلِّي وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟» وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: ثنا أَبُو عَامِرٍ الْخَرَّازُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنْت أُصَلِّي وَأَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، فَجَذَبَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا» وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذَا رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَهُوَ يَسْمَعُ الْإِقَامَةَ ضَرَبَهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ، فَحَصَبَهُ وَقَالَ: أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟ فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ كُلُّهَا بِمَا رَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ الْمَتْرُوكُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الْهَالِكِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَزَادَ: «إلَّا رَكْعَتَيْ الصُّبْحِ» فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ كَاسْمِهَا زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ لَا أَصْلَ لَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَأْتِي الصَّلَاةَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ. قِيلَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي مُقَابَلَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالسُّنَّةُ سَالِمَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا، وَمَعَهَا أَصَحُّ قِيَاسٍ يَكُونُ؛ فَإِنَّ وَقْتَهَا يَضِيقُ بِالْإِقَامَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ غَيْرُهَا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ حَضَرَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَيُصَلِّيَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ جَمَاعَةً] [صَلَاةُ النِّسَاءِ جَمَاعَةً] : الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ النِّسَاءِ جَمَاعَةً لَا مُنْفَرِدَاتٍ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا كَانَ يُؤَذِّنُ لَهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا» قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَأَنَا رَأَيْت مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا؛ وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ: حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا، أَوْ أَذِنَ لَهَا، أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا، وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثنا وَكِيعٌ ثنا سُفْيَانُ عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي حَازِمٍ عَنْ رَائِطَةَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أَمَّتْ نِسْوَةً فِي الْمَكْتُوبَةِ، فَأَمَّتْهُنَّ بَيْنَهُنَّ وَسَطًا، تَابَعَهُ لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَمَّتْ نِسَاءً فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» لَكَفَى. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى أَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا خَيْرَ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ إلَّا فِي صَلَاةٍ أَوْ جِنَازَةٍ» وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» وَهَذَا إنَّمَا [وَرَدَ] فِي الْوِلَايَةِ وَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَالْقَضَاءِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَالْفُتْيَا وَالْإِمَامَةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ هَذِهِ السُّنَّةَ جَوَّزَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً تَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْف أَفْلَحُوا وَهِيَ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُفْلِحْ أَخَوَاتُهَا مِنْ النِّسَاءِ إذَا أَمَّتْهُنَّ؟ . [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي التَّسْلِيمُ مِنْ الصَّلَاةِ مَرَّةً أَوَمَرَّتَيْنِ] [التَّسْلِيمُ مِنْ الصَّلَاةِ مَرَّةً أَوَمَرَّتَيْنِ] : الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ: «أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٌ وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ الضَّمْرِيُّ وَطَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَوْسُ بْنُ أَوْسٍ وَأَبُو رِمْثَةَ، وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مَا بَيْنَ صَحِيحٍ وَحَسَنٍ، فَرُدَّ ذَلِكَ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا؛ أَحَدُهَا: حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يُسَلِّمُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الصَّلَاةِ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَإِذَا سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، الْخَامِسُ: حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ مَرَّةً وَاحِدَةً» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ وَلَا تُقَارِبُهَا حَتَّى تُعَارَضَ بِهَا. أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَرْوِي مَنَاكِيرَ، وَقَالَ يَحْيَى: ضَعِيفٌ، وَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَإِنَّ رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ تَضْعُفُ جِدًّا. وَهَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِيمَا حَكَى لِي عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ فِيهَا تَخْلِيطًا كَثِيرًا قَالَ: وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَائِشَةَ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ فَبِمَنْ نُعَارِضُهَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قِيلَ لَهُ: بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَذَكَرَ الْأَسَانِيدَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُمْ يُسَلِّمُونَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، عَلَى قُرْبِ عَهْدِهِمْ بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحِفْظِهِمْ لِأَفْعَالِهِ، فَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ خِلَافُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَوَى فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَيْفَ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مَا يُوَافِقُ فِعْلَهُمْ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ هَكَذَا الدَّرَاوَرْدِيُّ خَاصَّةً، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمِيعَ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ. «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؛ فَقَدْ صَحَّ رِوَايَةُ سَعْدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ» وَمَعَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبَانَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ فَمِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ ابْنِهِ عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَتَرَكَهُ يَحْيَى. وَأَمَّا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: يَحْيَى بْنُ رَاشِدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيفٌ ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، إلَّا أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لَا يُصَحِّحُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ سَعْدٍ أَخْطَأَ فِيهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، فَرَوَاهُ عَلَى غَيْرِ مَا رَوَاهُ النَّاسُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَغَيْرُهُ يَرْوِي فِيهِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَهُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدَهُمْ وَغَلَطٌ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ «كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبٍ، ثُمَّ سَاقَ طُرُقَهُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ عَنْ سَعْدٍ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى صَفْحَةِ خَدِّهِ» فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا سَمِعْنَا هَذَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَكُلَّ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْت؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَنِصْفَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاجْعَلْ هَذَا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» فَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ إلَّا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، رَوَاهُ عَنْهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَثِيرُ الْخَطَأِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَزُهَيْرٌ ضَعِيفَانِ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَمْ يَأْتِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَيُّوبُ مِنْ أَنَسٍ عِنْدَهُمْ شَيْئًا. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً» ذَكَرَهُ وَكِيعٌ عَنْ الرُّبَيِّعِ عَنْهُ، قَالَ: وَالْعَمَلُ الْمَشْهُورُ بِالْمَدِينَةِ التَّسْلِيمَةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ عَمَلٌ قَدْ تَوَارَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَمِثْلُهُ يَصِحُّ فِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَمَلِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى؛ لِوُقُوعِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا. [عَمَل أَهْل الْمَدِينَة] [أَنْوَاعُ السُّنَنِ] [الْكَلَامُ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] : قُلْت: وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَعَمَلِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِهِمْ وَعَمَلِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ؛ فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُمْ فَهُمْ أَهْلُ الْعَمَلِ الْمُتَّبَعِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِكَوْنِ عَمَلِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهَا أَوْ عَمِلَ بِهَا غَيْرُهُمْ، وَلَوْ سَاغَ تَرْكُ السُّنَّةِ لِعَمَلِ بَعْضِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهَا لَتُرِكَتْ السُّنَنُ وَصَارَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا؛ فَإِنْ عَمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْغَيْرُ عَمِلَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا، وَالسُّنَّةُ هِيَ الْعِيَارُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِيَارًا عَلَى السُّنَّةِ، وَلَمْ تُضْمَنْ لَنَا الْعِصْمَةُ قَطُّ فِي عَمَلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ دُونَ سَائِرِهَا، وَالْجُدْرَانُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْبِقَاعُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي تَرْجِيحِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ، وَظَفِرُوا مِنْ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَهُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، كَمَا هُمْ الْمُقَدَّمُونَ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَعَمَلُهُمْ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا يُخَالَفُ، وَقَدْ انْتَقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ الْمَدِينَةِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، بَلْ أَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ صَارُوا إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَبِي مُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَانْتَقَلَ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةٍ صَحَابِيٍّ وَنَيِّفٍ، وَإِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ نَحْوُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَمَلُ هَؤُلَاءِ مُعْتَبَرًا مَا دَامُوا فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا خَالَفُوا غَيْرَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفُوهُ مُعْتَبَرًا، فَإِذَا فَارَقُوا جُدْرَانَ الْمَدِينَةِ كَانَ عَمَلُ مَنْ بَقِيَ فِيهَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُ مَا انْتَقَلَ عَنْهَا مُعْتَبَرًا؟ ، هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ. وَلَيْسَ جَعْلُ عَمَلِ الْبَاقِينَ مُعْتَبَرًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ عَمَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الْمُفَارِقِينَ مُعْتَبَرًا؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، فَمَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مَعَهُ فَعَمَلُهُ هُوَ الْعَمَلُ الْمُعْتَبَرُ حَقًّا، فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الْمَعْصُومَةُ لِعَمَلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ؟ ثُمَّ يُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ اسْتَمَرَّ عَمَلُ أَهْلِ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ صَارَ إلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِمْ مَنْ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْعَمَلُ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ دُونَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الَّذِي أَدَّاهُ غَيْرُهُمْ؟ هَذَا إذَا كَانَ النَّصُّ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِمْ النَّصُّ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقَابِلُ النَّصَّ، بَلْ يُقَابَلُ الْعَمَلُ بِالْعَمَلِ، وَيَسْلَمُ النَّصُّ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَأَيْضًا فَنَقُولُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لَهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ مَنْ فَارَقَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لَا يَجُوزُ " أَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ السُّنَنِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ بَيْتِ عَلِيٍّ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاوِيَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَضْعَافِ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ " يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْضُ السُّنَنِ وَيَكُونُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ " فَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَنُ لِعَمَلِ مَنْ قَدْ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهَا بِالْمَدِينَةِ، كَمَا كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» فَقَضَى بِهِ عُمَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَوْ جَاءَ مَنْ رَوَاهَا إلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ عَمَلُ مَنْ خَالَفَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ تَبَعًا لِلْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ إذَا قُدِّمَ عَلَى السُّنَّةِ فَلَأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ إنَّ عَمَلَهُمْ نَفْسَهُ سُنَّةٌ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَهْلَ الْأَمْصَارِ أَنْ لَا يَعْمَلُوا بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ السُّنَّةِ وَعِلْمُهُمْ إيَّاهُ الصَّحَابَةُ إذَا خَالَفَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، بَلْ مَالِكٌ نَفْسُهُ مَنَعَ الرَّشِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ حُجَّةً لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِمَا رَأَى عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ فِي مُوَطَّئِهِ وَلَا غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ، بَلْ يُخْبِرُ إخْبَارًا مُجَرَّدًا أَنَّ هَذَا عَمَلُ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَزَاهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا ادَّعَى إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةٍ. ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: لَا يُعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَالثَّانِي: مَا خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ غَيْرَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: مَا فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ وَرَعِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ الَّذِي لَا يَحِلُّ خِلَافُهُ. وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، أَوْ هُوَ وَالثَّانِي، أَوْ هُمَا وَالثَّالِثُ؛ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟ وَأَيْضًا فَأَحَقُّ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً الْعَمَلُ الْقَدِيمُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَزَمَنِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَهَذَا كَعَمَلِهِمْ الَّذِي كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ وَرَأْيِ عَيْنٍ مِنْ إعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ الَّتِي قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ شَهِدَ مَعَهُ خَيْبَرَ فَأَعْطَوْهَا الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يُقِرُّونَهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ وَيُخْرِجُونَهُمْ مَتَى شَاءُوا، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْعَمَلُ كَذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ إلَى أَنْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[مُدَّةَ] أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ مُدَّةَ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَكُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِعَامٍ؛ فَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ حَقًّا. فَكَيْفَ سَاغَ خِلَافُهُ وَتَرْكُهُ لِعَمَلٍ حَادِثٍ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ، الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، فَيَا لَهُ مِنْ عَمَلٍ مَا أَحَقَّهُ وَأَوْلَاهُ بِالِاتِّبَاعِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُ إلَى عَمَلٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ مُخَالِفٌ لَهُ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فِي سُجُودِهِمْ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] مَعَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَإِنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ وَبَعْضَ الرَّابِعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الْعَمَلُ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عَمَلُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ السِّنِينَ وَيُقَالُ: الْعَمَلُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ صَعِدَ، فَهَذَا الْعَمَلُ حَقٌّ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَيُقَدَّمُ الْعَمَلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ خَلْفَهُ قُعُودًا أَوْ قِيَامًا، فَهَذَا عَمَلٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالصِّحَّةِ، فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ - وَهُمَا كُوفِيَّانِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» ؟ وَهَذِهِ مِنْ أَسْقَطِ رِوَايَاتِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَام حَجَّ جَمَعَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ بِالطِّيبِ، وَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبَرَتْنِي «عَائِشَةُ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَجُلًا جَادًّا مُجِدًّا، كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ثُمَّ يَذْبَحُ ثُمَّ يَحْلِقُ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيُفِيضُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ، قَالَ سَالِمٌ: صَدَقَ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ ، فَهَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُتْيَاهُمْ، فَأَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَالِفُهُ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ عَلَيْهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَاسِمِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَامَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذَا. فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ خَالَفَهُ، وَاَلَّذِي مَنْ جَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ عَمَلٍ بَعْدَ هَذَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَكُونُ عَمَلٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَأَصَحُّ مِنْهُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 أَنْوَاعُ السُّنَنِ وَأَمْثِلَةٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا] وَأَيْضًا فَالْعَمَلُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ وَلَا عَمَلٌ قَبْلَهُ وَلَا عَمَلُ مِصْرٍ آخَرَ غَيْرُهُ، وَعَمَلٌ عَارَضَهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ أَقْسَامِ هَذَا الْعَمَلِ كُلِّهَا فَهِيَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي فَرَّقَ النَّصُّ وَالْعَقْلُ بَيْنَهَا، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ فَارِقٍ بَيْنَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مِنْهَا وَمَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا تَذْكُرُونَ دَلِيلًا قَطُّ إلَّا كَانَ دَلِيلَ مَنْ قَدَّمَ النَّصَّ أَقْوَى، وَكَانَ بِهِ أَسْعَدَ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُقَسِّمُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْمَقْبُولُ مِنْ الْمَرْدُودِ فَنَقُولُ: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعُهُمْ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَالْحِكَايَةِ، وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا: نَقْلُ الشَّرْعِ مُبْتَدَأٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا: نَقْلُ قَوْلِهِ، وَالثَّانِي: نَقْلُ فِعْلِهِ، وَالثَّالِثُ: نَقْلُ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى أَمْرٍ شَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ أَوْ أَخْبَرَهُمْ بِهِ، الرَّابِعُ: نَقْلُهُمْ لِتَرْكِ شَيْءٍ قَامَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. الثَّانِي: نَقْلُ الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ مِنْ عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّالِثُ: نَقْلٌ لِأَمَاكِنَ وَأَعْيَانَ وَمَقَادِيرَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهَا. [نَقْلُ الْقَوْلِ وَطَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ فِي تَرْتِيبِ صَحِيحِهِ] : وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَمْثِلَةَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ؛ فَأَمَّا نَقْلُ قَوْلِهِ فَظَاهِرٌ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْمَدَنِيَّةُ الَّتِي هِيَ أُمُّ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَبْوَابَ الْبُخَارِيِّ وَجَدَهُ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ فِي الْبَابِ بِهَا مَا وَجَدَهَا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِأَحَادِيثِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَهَذِهِ كَمَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. [نَقْلُ الْفِعْلِ] أَمَّا نَقْلُ فِعْلِهِ فَكَنَقْلِهِمْ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ كُلَّ عِيدٍ إلَى الْمُصَلَّى فَيُصَلِّي بِهِ الْعِيدَ هُوَ وَالنَّاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُهُمْ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ وَظَهْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَوَجْهُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 إلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُ قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَزُورُهُمْ فِي دُورِهِمْ وَيَعُودُ مَرَضَاهُمْ وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. [نَقْلُ التَّقْرِيرِ] وَأَمَّا نَقْلُ التَّقْرِيرِ فَكَنَقْلِهِمْ إقْرَارَهُ لَهُمْ عَلَى تَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعَلَى تِجَارَاتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَتَّجِرُونَهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: تِجَارَةُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَتِجَارَةُ الْإِدَارَةِ، وَتِجَارَةُ السَّلَمِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا تِجَارَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الرِّبَا الصَّرِيحَ وَوَسَائِلَهُ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ أَوْ التَّوَسُّلَ بِتِلْكَ الْمَتَاجِرِ إلَى الْحَرَامِ كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ الْمُسْلِمَ وَبَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَلْبَسُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَاوَنَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى صَنَائِعِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِجَارَةٍ وَخِيَاطَةٍ وَصِيَاغَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْغِشَّ وَالتَّوَسُّلَ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ الْمُبَاحَةِ وَذِكْرِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْمُهَادَنَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِيهِ وَإِعْلَامِ الشُّجَاعِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ بِعَلَامَةٍ مِنْ رِيشَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَكَإِقْرَارِهِمْ عَلَى لُبْسِ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الثِّيَابِ، وَعَلَى إنْفَاقِ مَا ضَرَبُوهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَيْهَا صُوَرُ مُلُوكِهِمْ، وَلَمْ يَضْرِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ. وَكَإِقْرَارِهِ لَهُمْ بِحَضْرَتِهِ عَلَى الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى الشِّبَعِ فِي الْأَكْلِ، وَعَلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَنِ احْتَجَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ جَابِرٌ فِي تَقْرِيرِ الرَّبِّ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ كَقَوْلِهِ: " كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ " وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِهِمْ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَ الْأَفْعَالِ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، الثَّانِي: أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا يَفْعَلُونَ فِي زَمَنِ شَرْعِ الشَّرَائِعِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ وَإِقْرَارُهُ لَهُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى عَفْوِهِ عَنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ اسْتِصْحَابًا، وَفِي الثَّانِي يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْلِ الزُّرُوعِ الَّتِي تُدَاسُ بِالْبَقَرِ، مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ لَهُمْ بِغَسْلِهَا، وَقَدْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ وَقْتَ الدِّيَاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْوُقُودِ فِي بُيُوتِهِمْ وَعَلَى أَطْعِمَتِهِمْ بِأَرْوَاثِ الْإِبِلِ وَأَخْثَاءَ الْبَقَرِ وَأَبْعَارِ الْغَنَمِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ دُخَانَهَا وَرَمَادَهَا يُصِيبُ ثِيَابَهُمْ وَأَوَانِيَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ وَلَا بُدَّ: طَهَارَةُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ وَرَمَادَهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 عَلَى سُجُودِ أَحَدِهِمْ عَلَى ثَوْبِهِ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ رَسُولَهُ بِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي حَالِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مِنْهَا مَا لَا مَسَاغَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِرِبًا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، بَلْ جَعَلَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ تَقْرِيرُ الْحَبَشَةِ بِاللَّعِبِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْحِرَابِ، وَتَقْرِيرُهُ عَائِشَةُ عَلَى النَّظَرِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ كَتَقْرِيرِهِ النِّسَاءَ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْمَشْيِ فِي الطُّرُقَاتِ وَحُضُورِ الْمَسَاجِدِ وَسَمَاعِ الْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنَادِي بِالِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَتَقْرِيرُهُ الرِّجَالَ عَلَى اسْتِخْدَامِهِنَّ فِي الطَّحْنِ وَالْغَسْلِ وَالطَّبْخِ وَالْعَجْنِ وَعَلَفِ الْفَرَسِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَقُلْ لِلرِّجَالِ قَطُّ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ إلَّا بِمُعَاوَنَتِهِنَّ أَوْ اسْتِرْضَائِهِنَّ حَتَّى يَتْرُكْنَ الْأُجْرَةَ، وَتَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْضٍ وَلَا حَبٍّ وَلَا خُبْزٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَأُ ذِمَمُكُمْ مِنْ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ إلَّا بِمُعَاوَضَةِ الزَّوْجَاتِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْحَبِّ الْوَاجِبِ لَهُنَّ مَعَ فَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجَاتِ حَقَّهُنَّ مِنْ الْحَبِّ، بَلْ أَقَرَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَادُونَ نَفَقَتَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَرَّرَ وُجُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَجَعَلَهُ نَظِيرَ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى بَقَاءِ الْوُضُوءِ وَقَدْ خَفَقَتْ رُءُوسُهُمْ مِنْ النَّوْمِ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَتِهِ، وَتَطَرُّقُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِ، وَبِأَنَّ الْقَوْمَ أَجَلُّ وَأَعْرَفُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ خَفَاءَ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَرَاهُمْ وَيُشَاهِدُهُمْ خَارِجًا إلَى الصَّلَاةِ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مُبَايَعَةِ عُمْيَانِهِمْ عَلَى مُبَايَعَتِهِمْ وَشِرَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ يَوْمًا مَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَاجَةَ الْأَعْمَى إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْبَصِيرِ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا النِّسَاءُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بَلْ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الْإِهْدَاءِ مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَوْلِ الشِّعْرِ وَإِنْ تَغَزَّلَ أَحَدُهُمْ فِيهِ بِمَحْبُوبَتِهِ وَإِنْ قَالَ فِيهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي غَيْرِهِ لَأُخِذَ بِهِ كَتَغَزُّلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِسُعَادَ، وَتَغَزُّلِ حَسَّانَ فِي شِعْرِهِ وَقَوْلِهِ فِيهِ: كَأَنَّ خَبِيثَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ ثُمَّ ذَكَرَ وَصْفَ الشَّرَابِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا لَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فَأَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ وَسَمَاعِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِبِرِّ قُلُوبِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْ كُلِّ دَنَسٍ وَعَيْبٍ، وَأَنَّ هَذَا إذَا وَقَعَ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَدْحِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَذَمِّ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ فَمَفْسَدَتُهُ مَغْمُورَةٌ جِدًّا فِي جَنْبِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ هَزِّ النُّفُوسِ وَاسْتِمَالَةِ إصْغَائِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى الْمَقْصُودِ بَعْده، وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ الشُّعَرَاءِ بِالتَّغَزُّلِ بَيْنَ يَدِي الْأَغْرَاضِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا بِالْقَصِيدِ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ السَّلَامِ، بِحَيْثُ كَانَ مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ يَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ. فَصْلٌ [نَقْلُ التَّرْكِ] وَأَمَّا نَقْلُهُمْ لِتَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ نَوْعَانِ، وَكِلَاهُمَا سُنَّةٌ؛ أَحَدُهُمَا: تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ تَرَكَ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ، كَقَوْلِهِ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: «وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ» وَقَوْلِهِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ «لَمْ يَكُنْ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا نِدَاءٌ» وَقَوْلِهِ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ «وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى أَثَرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا» وَنَظَائِرُهُ. وَالثَّانِي: عَدَمُ نَقْلِهِمْ لِمَا لَوْ فَعَلَهُ لَتَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ؛ فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَلْبَتَّةَ وَلَا حَدَّثَ بِهِ فِي مَجْمَعٍ أَبَدًا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا كَتَرْكِهِ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَرْكِهِ الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ دَائِمًا بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ أَوْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَتَرْكِهِ رَفْعَ يَدَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت» يَجْهَرُ بِهَا وَيَقُولُ الْمَأْمُومُونَ كُلُّهُمْ " آمِينَ ". وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُلُهُ عَنْهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُوَاظَبَةَ لَا يُخِلُّ بِهِ يَوْمًا وَاحِدًا، وَتَرْكِهِ الِاغْتِسَالَ لِلْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَلِرَمْيِ الْجِمَارِ وَلِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْ هَا هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ تَرْكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ سُنَّةٌ، فَإِذَا اسْتَحْبَبْنَا فِعْلَ مَا تَرَكَهُ كَانَ نَظِيرَ اسْتِحْبَابِنَا تَرْكَ مَا فَعَلَهُ، وَلَا فَرْقَ. فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْلَ الْعَدَمِ؟ فَهَذَا سُؤَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مَعْرِفَةِ هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا السُّؤَالُ وَقُبِلَ لَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٌّ الْأَذَانَ لِلتَّرَاوِيحِ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٍّ آخَرُ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا مُسْتَحِبٌّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 آخَرُ النِّدَاءَ بَعْدَ الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا آخَرُ لُبْسَ السَّوَادِ وَالطَّرْحَةِ لِلْخَطِيبِ، وَخُرُوجَهُ بِالشَّاوِيشِ يَصِيحُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَفْعَ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ؟ وَاسْتَحَبَّ لَنَا آخَرُ صَلَاةَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ إحْيَاءَهُمَا لَمْ يُنْقَلْ؟ وَانْفَتَحَ بَابُ الْبِدْعَةِ، وَقَالَ كُلُّ مَنْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ؟ وَمِنْ هَذَا تَرَى أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ وَالْمَبَاطِخِ وَهُمْ يَزْرَعُونَهَا بِجِوَارِهِ بِالْمَدِينَةِ كُلَّ سَنَةٍ؛ فَلَا يُطَالِبُهُمْ بِزَكَاةٍ، وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَهَا إلَيْهِ. فَصْلٌ [نَقْلُ الْأَعْيَانِ] وَأَمَّا نَقْلُ الْأَعْيَانِ وَتَعْيِينُ الْأَمَاكِنِ فَكَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَتَعْيِينُ مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِفِهِ لِلصَّلَاةِ وَالْقَبْرِ وَالْحُجْرَةِ وَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَتَعْيِينُ الرَّوْضَةِ وَالْبَقِيعِ وَالْمُصَلَّى وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَنَقْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى نَقْلِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمِنًى وَمَوَاضِعِ الْجَمَرَاتِ وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَمَوَاضِعِ الْإِحْرَامِ كَذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةِ وَغَيْرِهِمَا. فَصْلٌ [نَقْلُ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ] وَأَمَّا نَقْلُ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ فَكَنَقْلِ الْوُقُوفِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْأَذَانِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ، وَالْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَتَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ، وَالْخُطْبَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِالسُّنَنِ دُونَ الْخُطْبَةِ الصِّنَاعِيَّةِ بِالتَّسْجِيعِ وَالتَّرْجِيعِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ؛ فَهَذَا النَّقْلُ وَهَذَا الْعَمَلُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، وَسُنَّةٌ مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ، وَإِذَا ظَفِرَ الْعَالِمُ بِذَلِكَ قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ، وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ. [فَصَلِّ الْعَمَلُ الَّذِي طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَالِاسْتِدْلَالُ] فَصْلٌ [الْعَمَلُ الَّذِي طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ] وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَالِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ مُعْتَرَكُ النِّزَالِ وَمَحَلُّ الْجِدَالِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، وَأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وَلَا يُرَجَّحُ بِهِ أَيْضًا أَحَدُ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ مُنْتَابٍ وَالطَّيَالِسِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْأَبْهَرِيِّ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبًا لِمَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مُعْتَمَدِي أَصْحَابِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ بِهِ اجْتِهَادُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إجْمَاعَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ خِلَافُهُ، كَإِجْمَاعِهِمْ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَدِّلِ وَأَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ فِي رِسَالَةِ مَالِكٍ إلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ فِي مُخْتَصَرِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مَسْأَلَتِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ نَقْضًا لِكَلَامِهِ عَلَى أَصْحَابِنَا فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى هَذَا يَذْهَبُ جُلُّ أَصْحَابِنَا الْمَغَارِبَةُ أَوْ جَمِيعُهُمْ. فَأَمَّا حَالُ الْأَخْبَارِ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِبَهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُطَابِقًا لَهَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِهَا، أَوْ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُمْ عَمَلٌ أَصْلًا لَا بِخِلَافٍ وَلَا بِوِفَاقٍ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لَهَا كَانَ ذَلِكَ آكَدَ فِي صِحَّتِهَا وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، إذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ كَانَ مُرَجِّحًا لِلْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِهِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّ الْخَبَرَ يُتْرَكُ لِلْعَمَلِ عِنْدَنَا، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْغَرَضِ بِالْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُهُ فِي الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَزَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْهُمْ اجْتِهَادًا فَالْخَبَرُ أَوْلَى مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، إلَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَمَلٌ يُوَافِقُ مُوجِبَ الْخَبَرِ أَوْ يُخَالِفُهُ فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ؛ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ مُنْفَرِدٌ عَنْ مُسْقِطٍ أَوْ مُعَارِضٍ. هَذَا جُمْلَةُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ مَا حَكَاهُ أَنَّ عَمَلَهُمْ الْجَارِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ بَنَى الْمَسْأَلَةَ وَقَرَّرَهَا، وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ نَقْلًا أَوْ عَمَلًا مُتَّصِلًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ، وَيَنْقَطِعُ الْعُذْرُ فِيهِ، وَيَجِبُ تَرْكُ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ بَلْدَةٌ جَمَعَتْ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَى نَقْلِهِ، فَمَا هَذَا سَبِيلُهُ إذَا وَرَدَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 ذَلِكَ الْخَبَرِ وَتُرِكَ لَهُ، كَمَا لَوْ رُوِيَ لَنَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَوَاتَرَ بِهِ نَقْلُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لَوَجَبَ تَرْكُ الْخَبَرِ لِلنَّقْلِ الْمُتَوَاتِر مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَيُقَالُ: مِنْ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ نَقْلًا أَوْ عَمَلًا مُتَّصِلًا مِنْ عِنْدِهِمْ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَتَكُونُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ قَدْ خَالَفَتْهُ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ؛ وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تُضْمَنْ لِاجْتِهَادِهِمْ، فَلَمْ يُجْمِعُوا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَلَا الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَلَى بُطْلَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَا عَلَى التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَلَا عَلَى تَرْكِ الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَلَا عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقُدَمَاؤُهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا الْعِلْمَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ تَرْكَهُ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْآنَ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ، بَلْ نَقْلُهُمْ لِلصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْوُقُوفِ وَالْأَخَايِرِ وَتَرْكُ زَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ حَقٌّ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ تُخَالِفُهُ أَلْبَتَّةَ، وَلِهَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ لَمَّا نَاظَرَهُ مَالِكٌ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَلَا يَلْحَقُ بِهَذَا عَمَلُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ نَقْلًا مُتَّصِلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَلِكَ لَوْنٌ، وَبِهَذَا التَّمْيِيزِ وَالتَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ وَيَظْهَرُ الصَّوَابُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ كَانَ بِحَسَبِ مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُفْتِينَ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُحْتَسِبِينَ عَلَى الْأَسْوَاقِ، وَلَمْ تَكُنْ الرَّعِيَّةُ تُخَالِفُ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا أَفْتَى الْمُفْتُونَ نَفَّذَهُ الْوَالِي، وَعَمِلَ بِهِ الْمُحْتَسِبِ، وَصَارَ عَمَلًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَنِ، لَا عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ وَالصَّحَابَةِ فَذَاكَ هُوَ السُّنَّةُ، فَلَا يُخْلَطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَنَحْنُ لِهَذَا الْعَمَلِ أَشَدُّ تَحْكِيمًا، وَلِلْعَمَلِ الْآخَرِ إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ أَشَدُّ تَرْكًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُفْتِي وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمُحْتَسِبُ يُنَفِّذُ فَتْوَاهُ فَتَعْمَلُ الرَّعِيَّةُ بِفَتْوَى هَذَا وَتَنْفِيذِ هَذَا، كَمَا يَطَّرِدُ الْعَمَلُ فِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلُ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِهِ وَفَتْوَاهُ، وَلَا يُجَوِّزُونَ الْعَمَلَ هُنَاكَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ لَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ إلَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الْعَمَلَ الْمُسْتَمِرَّ عِنْدَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ اطَّرَدَ عِنْدَهُمْ عَمَلُ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ وَلَمْ يَأْلَفُوا غَيْرَهُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْعَمَلِ بَيْنَ بَلَدٍ وَبَلَدٍ، وَالْعَمَلُ الصَّحِيحُ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ. وَإِذَا أَرَدْت وُضُوحَ ذَلِكَ فَانْظُرْ الْعَمَلَ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فِي جَهْرِهِ بِالِاسْتِفْتَاحِ فِي الْفَرْضِ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهِ، ثُمَّ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ مَالِكٍ بِوَصْلِ التَّكْبِيرِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ وَلَا تَعَوُّذٍ. وَانْظُرْ الْعَمَلَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي اعْتِبَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَمُفَارَقَتِهِ لِمَكَانِ التَّبَايُعِ لِيَلْزَمَ الْعَقْدَ وَلَا يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ صَحَابِيٌّ، ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَإِمَامُهُمْ وَعَالِمُهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَعْمَلُ بِهِ وَيُفْتِي بِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، ثُمَّ صَارَ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ رَبِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَانْظُرْ إلَى الْعَمَلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ خَلْفَهُ وَهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ، ثُمَّ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى مَنْ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَصَبَهُ، وَهُوَ عَمَلٌ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ يَعْمَلُ بِهِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُمْ، ثُمَّ صَارَ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ. وَانْظُرْ إلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ، وَصَلَّتْ عَائِشَةُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا نَرَى أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ حَضَرَ مَوْتَهُ فَتَخَلَّفَ عَنْ جِنَازَتِهِ، فَهَذَا عَمَلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ، قَالَهُ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا الْعَمَلُ حَقٌّ، وَلَوْ تُرِكَتْ السُّنَنُ لِلْعَمَلِ لَتَعَطَّلَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَرَسَتْ رُسُومُهَا وَعَفَتْ آثَارُهَا، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَدْ اطَّرَدَ بِخِلَافِ السُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ عَلَى تَقَادُمِ الزَّمَانِ وَإِلَى الْآنَ، وَكُلُّ وَقْتٍ تُتْرَكُ سُنَّةٌ وَيُعْمَلُ بِخِلَافِهَا وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَمَلُ فَتَجِدُ يَسِيرًا مِنْ السُّنَّةِ مَعْمُولًا بِهِ عَلَى نَوْعِ تَقْصِيرٍ. وَخُذْ بِلَا حِسَابٍ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُنَنٍ قَدْ أُهْمِلَتْ وَعُطِّلَ الْعَمَلُ بِهَا جُمْلَةً؛ فَلَوْ عَمِلَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهَا لَقَالَ النَّاسُ: تُرِكَتْ السُّنَّةُ؛ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ خَالَفَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ لَمْ يَقَعْ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا، وَكُلُّ عَمَلٍ طَرِيقُهُ النَّقْلُ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ سُنَّةً صَحِيحَةً أَلْبَتَّةَ. [تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ] فَلْنَرْجِعْ إلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُرِكَ فِيهَا الْمُحْكَمُ لِلْمُتَشَابِهِ، فَنَقُولُ: [الْجَهْرُ بِآمِينَ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَلَوْلَا جَهْرُهُ بِالتَّأْمِينِ لَمَا أَمْكَنَ الْمَأْمُومُ أَنْ يُؤَمِّنَ مَعَهُ وَيُوَافِقَهُ فِي التَّأْمِينِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ حُجْرٌ بْنِ عَنْبَسٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ آمِينَ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «وَطَوَّلَ بِهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ خَالَفَ شُعْبَةُ سُفْيَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: «وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ» وَحُكْمُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ فِي هَذَا لِسُفْيَانَ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، أَخْطَأَ شُعْبَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَوَاضِعَ، فَقَالَ: " عَنْ حُجْرٌ أَبِي الْعَنْبَسِ " وَإِنَّمَا كُنْيَتُهُ أَبُو السَّكَنِ، وَزَادَ فِيهِ عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حُجْرٌ بْنُ عَنْبَسٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، لَيْسَ فِيهِ عَلْقَمَةُ، وَقَالَ: «وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَسَأَلْت أَبَا زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ هَذَا، فَقَالَ: حَدِيثُ سُفْيَانَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَدْ رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ نَحْوَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا قَالَ شُعْبَةُ: «وَأَخْفَى بِهَا صَوْتَهُ» وَيُقَالُ: إنَّهُ وَهَمَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْهُ عَنْ سَلَمَةَ فَقَالُوا: «وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ» وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ إذَا اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ شُعْبَةَ، وَلَا يَعْدِلُهُ عِنْدِي أَحَدٌ، وَإِذَا خَالَفَهُ سُفْيَانُ أَخَذْت بِقَوْلِ سُفْيَانَ، وَقَالَ شُعْبَةُ: سُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنِّي؛ فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَتَرْجِيحٌ ثَانٍ: وَهُوَ مُتَابَعَةُ الْعَلَاءِ بْنِ صَالِحٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ لَهُ، وَتَرْجِيحٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيَّ - وَحَسْبُك بِهِ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ بِوِفَاقِ الثَّوْرِيِّ فِي مَتْنِهِ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى شُعْبَةَ كَمَا تَرَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ فَعَادَ إلَى الصَّوَابِ فِي مَتْنِهِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ عَلْقَمَةُ فِي إسْنَادِهِ، وَتَرْجِيحٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ لَوْ تَقَاوَمَتَا لَكَانَتْ رِوَايَةُ الرَّفْعِ مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةٍ وَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَتَرْجِيحٌ خَامِسٌ: وَهُوَ مُوَافَقَتُهَا وَتَفْسِيرُهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَإِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ» . وَتَرْجِيحٌ سَادِسٌ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ» وَلِأَبِي دَاوُد بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ بَيَانًا فَقَالَ: «قَالَ آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيه مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: آمِينَ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ.» وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهِهِ قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: آمِينَ إذَا قَرَأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] » وَعَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا قَرَأَ وَلَا الضَّالِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 رَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد عَنْ «بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» . قَالَ الرَّبِيعُ: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ: هَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِآمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَرْفَعُ بِهَا مَنْ خَلْفَهُ أَصْوَاتَهُمْ، فَقُلْت: وَمَا الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا» دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْإِمَامَ أَنْ يَجْهَرَ بِآمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ خَلْفَهُ لَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ تَأْمِينِهِ إلَّا بِأَنْ يَسْمَعَ تَأْمِينَهُ، ثُمَّ بَيَّنَهُ ابْنُ شِهَابٍ فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: آمِينَ» ، فَقُلْت لِلشَّافِعِيِّ: فَإِنَّا نَكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ، فَقَالَ: هَذَا خِلَافُ مَا رَوَى صَاحِبُنَا وَصَاحِبُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ إلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِآمِينَ، وَأَنَّهُ أَمَرَ الْإِمَامَ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، فَكَيْفَ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ؟ وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقُولُ آمِينَ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ» وَيَحْكِي مَدَّهُ إيَّاهَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِلْإِمَامِ: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ، أَنْبَأَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: كُنْت أَسْمَعُ الْأَئِمَّةَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ بَعْدَهُ يَقُولُونَ: آمِينَ وَمَنْ خَلَفَهُمْ آمِينَ، حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلُجَّةً. وَقَوْلُهُ: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِلْإِمَامِ لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُؤَذِّنُ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ بِالضَّالِّينَ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى الصَّفِّ، فَكَانَ مَرْوَانُ إذَا قَالَ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (آمِينَ) يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، وَقَالَ: إذَا وَافَقَ تَأْمِينُ أَهْلِ الْأَرْضِ تَأْمِينَ أَهْلِ السَّمَاءِ غُفِرَ لَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْت مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَسْجِدِ إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] سَمِعْت لَهُمْ رَجَّةً بِآمِينَ. فَرُدَّ هَذَا كُلُّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَاَلَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّأْمِينِ، وَاَلَّذِينَ أُمِرُوا بِهَا رَفَعُوا بِهِ أَصْوَاتَهُمْ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مَا. [تُرِكَ الْقَوْلُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى] [بَيَانُ صَلَاةِ الْوُسْطَى] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: تُرِكَ الْقَوْلُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ الْعَجَبِ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ تَرْكُهَا بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ: وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَأَعْجَبُ مِنْهُمَا تَرْكُهَا بِأَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ تُقَامُ فِي شِدَّةِ الْحُرِّ وَهِيَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ، فَأَكَّدَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُهَا بِأَنَّ الْمَغْرِبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وُسْطَى بَيْنَ الثُّنَائِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ؛ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَعْجَبُ مِنْهُ تَرْكُهَا بِأَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ قَبْلَهَا صَلَاةُ آخِرِ النَّهَارِ، وَبَعْدَهَا صَلَاةُ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَهِيَ وُسْطَى بَيْنَهُمَا، فَهِيَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصُّهُ الصَّرِيحُ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ] [مَا يَقُولُ الْإِمَامُ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي قَوْلِ الْإِمَامِ: " رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ - لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ الْمُحْكَمَةُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ» . [رد السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي إشَارَةِ الْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ بِأُصْبُعِهِ] [إشَارَةُ الْمُتَشَهِّدِ بِأُصْبُعِهِ] الْمِثَالُ السِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي إشَارَةِ الْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ بِأُصْبُعِهِ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا» وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ» وَرَوَاهُ خَفَّافُ بْنُ إيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٌ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَمَالِكُ بْنُ بَهْزٍ الْخُزَاعِيُّ عَنْ أَبِيهِ كُلُّهُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِخْلَاصُ، فَرَدُّوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِحَدِيثٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي غَطَفَانَ الْمُرِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، وَمَنْ أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ إشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُعِدْهَا» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَالَ لَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد: أَبُو غَطَفَانَ هَذَا مَجْهُولٌ، وَآخِرُ الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَة فِي شَعْرِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ] [مَا يُصْنَعُ بِشَعْرِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ضَفْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، كَقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: «اجْعَلْنَ رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ» قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: ضَفَّرْنَا رَأْسَهَا وَنَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهُ مِنْ خَلْفِهَا، فَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُرْسَلُ شَعْرُهَا شِقَّيْنِ عَلَى ثَدْيَيْهَا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالْإِتْبَاعِ. [تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَة فِي وَضْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ] [وَضْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ قَالَ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ» . وَلَمْ يَقُلْ: «عَلَى صَدْرِهِ» غَيْرُ مُؤَمَّلِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ: " رَأَى «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَكَبَّرَ فَرَفَعَ، فَلَمَّا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ» . وَزَادَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد: «ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» . قَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا يُنْهِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي السُّنَنِ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى» ، وَقَالَ عَلِيٌّ: «مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: وَضْعُ الْيَدَيْنِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: «إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْت» وَوَضْعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ يَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَالِاسْتِينَاءُ بِالسَّحُورِ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِهِ «مِنْ حَدِيث الْحَارِثِ بْنِ غُطَيْفٍ أَوْ غُطَيْفُ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَهْمَا رَأَيْت شَيْئًا فَنَسِيته فَإِنِّي لَمْ أَنْسَ أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِعًا يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» . وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِعًا يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ «كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى رُسْغِهِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْكَعَ، إلَّا أَنْ يُصْلِحَ ثَوْبَهُ أَوْ يَحُكَّ جَسَدَهُ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] : إنَّهُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ تَحْتَ صَدْرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ هَكَذَا، وَوَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّينَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: صَفُّ الْقَدَمَيْنِ وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ مِنْ السُّنَّةِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْآثَارَ أَبُو عُمَرَ بِأَسَانِيدِهَا، وَقَالَ: هِيَ آثَارٌ ثَابِتَةٌ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ أَبَانَ بْنِ بَشِيرٍ الْمُعَلِّمِ ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ثنا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ النُّبُوَّةِ: تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثنا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «ثَلَاثٌ مِنْ النُّبُوَّةِ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» ، فَرُدَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ بِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا قَطُّ رُدَّتْ بِهِ سِوَاهُ [رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ فِي تَعْجِيلِ الْفَجْرِ] [التَّعْجِيلُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي تَعْجِيلِ الْفَجْرِ «وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ مِنْهَا وَالنِّسَاءُ لَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ، وَإِنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ التَّغْلِيسَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَإِنَّهُ إنَّمَا أَسْفَرَ بِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَانَ بَيْنَ سُحُورِهِ وَصَلَاتِهِ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» فَرُدَّ ذَلِكَ بِمُجْمَلِ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَهَذَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْفَارُ بِهَا دَوَامًا، لَا ابْتِدَاءً، فَيَدْخُلُ فِيهَا مُغَلِّسًا وَيَخْرُجُ مِنْهَا مُسْفِرًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِفِعْلِهِ، لَا مُنَاقِضٌ لَهُ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى فِعْلِ مَا الْأَجْرُ الْأَعْظَمُ فِي خِلَافِهِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ] [وَقْتُ الْمَغْرِبِ] . الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إلَى سُقُوطِ الشَّفَقِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ» وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَوَاقِيتِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَالَ: ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، وَفِي لَفْظٍ: فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» ، وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلٌ، وَذَلِكَ فِعْلٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ فِي السُّنَنِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَقْتُ كُلِّ صَلَاةٍ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا» وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْهُ الْفَجْرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَمَا عَدَاهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ، وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَلَا يُعَارِضُ الْعَامَّ وَلَا الْخَاصَّ. [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ] [وَقْتُ الْعَصْرِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ الثَّابِتَةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَأَنَّهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَذْهَبُ أَحَدُهُمْ إلَى الْعَوَالِي قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَقَالَ أَنَسٌ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَصْرَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدَ الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ، فَنُحِرَتْ ثُمَّ قُطِعَتْ ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلْنَا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ» ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ؛ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرْ الْعَصْرُ» وَلَا مُعَارِضَ لِهَذِهِ السُّنَنِ، لَا فِي الصِّحَّةِ وَلَا فِي الصَّرَاحَةِ وَالْبَيَانِ، فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِالْمُجْمَلِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ، فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا، فَقَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِكُمْ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ دَلَالَةٍ فِي هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ مِثْلَيْنِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَالَةِ؟ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَقْصَرُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ] تَخْلِيلُ الْخَمْرِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، قَالَ: لَا» وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ خَمْرٌ حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصْنَعُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا، فَصَبَّهَا حَتَّى سَالَ الْوَادِي» وَقَالَ أَحْمَدُ: ثنا وَكِيعٌ ثنا سُفْيَانُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: أَهْرِقْهَا، فَقَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا» وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا قَالَ: «كَانَ فِي حِجْرِ أَبِي طَلْحَةَ يَتَامَى، فَاشْتَرَى لَهُمْ خَمْرًا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَأَجْعَلُهُ خَلًّا؟ قَالَ: فَأَهْرِقْهُ» وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَرُدَّتْ بِحَدِيثٍ مُجْمَلٍ لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا شَاةٌ تَحْلِبُهَا، فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مَا فَعَلْت بِشَاتِك؟ فَقُلْت: مَاتَتْ، قَالَ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا، قُلْت: إنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا يَحِلُّ كَمَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْخَمْرَ» . قَالَ الْحَاكِمُ: تَفَرَّدَ بِهِ الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يَحْيَى، وَالْفَرَجِ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَحْلِيلُ خَلِّ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ فَسَّرَ رِوَايَةَ الْفَرَجِ فَقَالَ: يَعْنِي أَنَّ الْخَمْرَ إذَا تَغَيَّرَتْ فَصَارَتْ خَلًّا حَلَّتْ؛ فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، وَيَقُولُ: حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَحَادِيثَ مَقْلُوبَةً مُنْكَرَةً، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَرُدَّتْ بِحَدِيثٍ وَاهٍ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَمُغِيرَةُ هَذَا يُقَالُ لَهُ أَبُو هِشَامٍ الْمَكْفُوفُ صَاحِبُ مَنَاكِيرَ عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ: إنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ بِجُمْلَةٍ مِنْ الْمَنَاكِيرِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ بِحَدِيثٍ غَرِيبٍ مَوْضُوعٍ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَحْفُوظَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ؟ وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْحِيرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ: سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ أَيَّامَ مَالِكٍ، فَتَقَدَّمْت إلَى قَاضٍ فَقُلْت: عِنْدَك خَلُّ خَمْرٍ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: ثُمَّ قَدِمْت بَعْدَ مَوْتِ مَالِكٍ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ اصْطِبَاغِهِ بِخَلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الْخَمْرِ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ فَهُوَ خَلُّ الْخَمْرِ الَّذِي تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا لَا بِاِتِّخَاذِهَا [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي تَسْبِيحِ الْمُصَلِّي إذَا نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ] [تَسْبِيحُ مِنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ] . الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي تَسْبِيحِ الْمُصَلِّي إذَا نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَالِي أَرَاكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ؟ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إذَا سَبَّحَ الْتَفَتُّ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اُسْتُؤْذِنَ عَلَى الرَّجُلِ وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذْنُهُ التَّسْبِيحُ، وَإِذَا اُسْتُؤْذِنَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَهِيَ تُصَلِّي فَإِذْنُهَا التَّصْفِيقُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ؛ فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِأَنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِأَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَعَارَضَ مُبِيحٌ وَحَاظِرٌ، فَيُقَدَّمُ الْحَاظِرُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ، وَاَلَّذِي حَرَّمَ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ وَمَنَعَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَ التَّسْبِيحَ الْمَذْكُورَ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَحَادِيثُ التَّسْبِيحِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَدَعْوَى نَسْخِهَا بِأَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ مُحَالٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مَا؛ فَإِنَّ: " سُبْحَانَ اللَّهِ " لَيْسَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي مُنِعَ مِنْهُ الْمُصَلِّي، بَلْ هُوَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، فَكَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ وَاعْتِبَارٍ؟ [رَدُّ السُّنَّةِ فِي سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ وَسَجْدَةِ الْحَجِّ] [سَجَدَاتُ الْمُفَصَّلِ وَالْحَجِّ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي إثْبَاتِ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَالسَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ الْعُتَقِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ «عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ» . تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فِيهِمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» . وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ يُحْتَجُّ مِنْهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْعَبَادِلَةُ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: ابْنُ لَهِيعَةَ كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ وَهْبٍ يَتَّبِعَانِ أُصُولَهُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: مَنْ كَتَبَ عَنْهُ قَبْلَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ مِثْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَابْنِ الْمُقْرِي أَصَحُّ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُ بَعْدَ احْتِرَاقِهَا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: كَانَ ابْنُ لَهِيعَةَ صَادِقًا، وَقَدْ انْتَقَى النَّسَائِيّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثِهِ، وَأَخْرَجَهُ، وَاعْتَمَدَهُ، وَقَالَ: مَا أَخْرَجْت مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَطُّ إلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا أَخْبَرْنَاهُ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ ثنا مُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَذَكَرَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْبَارُّ وَاَللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ كَانَ مِثْلَ ابْنِ لَهِيعَةَ بِمِصْرَ فِي كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ؟ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ لَهِيعَةَ الْأُصُولُ وَعِنْدَنَا الْفُرُوعُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: مَا كَانَ مُحَدِّثُ مِصْرَ إلَّا ابْنَ لَهِيعَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْحَافِظُ: كَانَ ابْنُ لَهِيعَةَ صَحِيحَ الْكِتَابِ طَالِبًا لِلْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَالِحًا لَكِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنْ الضُّعَفَاءِ، ثُمَّ احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: سَمَاعُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ مِثْلُ الْعَبَادِلَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالْمُقْرِي وَالْقَعْنَبِيِّ فَسَمَاعُهُمْ صَحِيحٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَجَدَ فِي النَّجْمِ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ وَحَدِيثٍ ضَعِيفٍ: أَمَّا الرَّأْيُ فَهُوَ أَنَّ آخِرَ الْحَجِّ السُّجُودُ فِيهَا سُجُودُ الصَّلَاةِ لِاقْتِرَانِهِ بِالرُّكُوعِ، بِخِلَافِ الْأُولَى؛ فَإِنَّ السُّجُودَ فِيهَا مُجَرَّدٌ عَنْ ذِكْرِ الرُّكُوعِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] مِنْ مَوَاضِعِ السَّجَدَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ فَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ثنا أَزْهَرُ بْنُ الْقَاسِمِ ثنا أَبُو قُدَامَةَ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ» . فَأَمَّا الرَّأْيُ فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِالنَّصِّ، وَمِنْهَا أَنَّ اقْتِرَانَ الرُّكُوعِ بِالسُّجُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، كَمَا أَنَّ أَقْتِرَانَهُ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ سَجْدَةً، وَقَدْ صَحَّ سُجُودُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّجْمِ، وَقَدْ قَرَنَ السُّجُودَ فِيهَا بِالْعِبَادَةِ كَمَا قَرَنَهُ بِالْعِبَادَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَالرُّكُوعُ لَمْ يَزِدْهُ إلَّا تَأْكِيدًا، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَ السَّجَدَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ مُتَنَاوِلَةٌ لِسُجُودِ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] يَدْخُلُ فِيهِ سُجُودُ الْمُصَلِّينَ قَطْعًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وَكَيْفَ لَا وَهُوَ أَجَلُّ السُّجُودِ وَأَفْرَضُهُ؟ وَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] وَفِي قَوْلِهِ: {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَقَدْ قَالَ قَبْلُ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] ثُمَّ قَالَ: {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ هَذَا الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ عَدُوُّ اللَّهِ، فَإِرَادَةُ سُجُودِ الصَّلَاةِ بِآيَةِ السَّجْدَةِ لَا تَمْنَعُ كَوْنَهَا سَجْدَةً، بَلْ تُؤَكِّدُهَا وَتُقَوِّيهَا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَوَاضِعَ السَّجَدَاتِ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: إخْبَارٌ، وَأَمْرٌ؛ فَالْإِخْبَارُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا، فَسُنَّ لِلتَّالِي وَالسَّامِعِ وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أَوْ سَمَاعِهَا، وَآيَاتُ الْأَوَامِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] : مُقْتَضِيًا لِلسُّجُودِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَالسَّاجِدُ إمَّا مُتَشَبِّهٌ بِمَنْ أُخْبِرَ عَنْهُ، أَوْ مُمْتَثِلٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ فِي آخِر الْحَجِّ كَمَا يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ فِي أَوَّلِهَا؛ فَلَمَّا سَوَّتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا سَوَّى الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالِاعْتِبَارُ الْحَقُّ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا السُّجُودُ شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عُبُودِيَّةً عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَاسْتِمَاعِهَا، وَقُرْبَةً إلَيْهِ، وَخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَتَذَلُّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاقْتِرَانُ الرُّكُوعِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَيُقَوِّيه، لَا يُضْعِفُهُ وَيُوهِيه، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ لِأَنَّهُ خَبَرٌ خَاصٌّ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا أَنْ تُدِيمَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّهَا بِالْقُنُوتِ وَتُصَلِّيَ لَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا ذَلِكَ، وَإِعْلَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ ذَلِكَ لِمَرْيَمَ. فَسِيَاقُ ذَلِكَ غَيْرُ سِيَاقِ آيَاتِ السَّجَدَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قُدَامَةَ - وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا انْفَرَدَ، قُلْت: وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهِدَ سُجُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُفَصَّلِ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَسَجَدَ مَعَهُ، حَتَّى لَوْ صَحَّ خَبَرُ أَبِي قُدَامَةَ هَذَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ] سُجُودُ الشُّكْرِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ، كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَرَجَ نَحْوَ أُحُدٍ فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي وَبَشَّرَنِي فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَك: مَنْ صَلَّى عَلَيْك صَلَّيْت عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْك سَلَّمْت عَلَيْهِ، فَسَجَدْت لِلَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا» . وَكَحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي «سُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاكِرًا لِرَبِّهِ لَمَّا أَعْطَاهُ ثُلُثَ أُمَّتِهِ، ثُمَّ سَجَدَ ثَانِيَةً فَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ الْآخَرَ ثُمَّ سَجَدَ ثَالِثَةً فَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ» ، وَكَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ إذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يُسَرُّ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَتَاهُ بَشِيرٌ يُبَشِّرُهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَقَامَ وَخَرَّ سَاجِدًا» . وَسَجَدَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَمَّا بُشِّرَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ حِين جَاءَهُ قَتْلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَسَجَدَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةِ فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ، وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُ هَذِهِ السُّنَنَ وَالْآثَارَ مَعَ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا غَيْرَ رَأْيٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَزَالُ وَاصِلَةً إلَى عَبْدِهِ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا بِالسُّجُودِ. وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ رَأْيٍ وَأَبْطَلَهُ؛ فَإِنَّ النِّعَمَ نَوْعَانِ: مُسْتَمِرَّةٌ، وَمُتَجَدِّدَةٌ، فَالْمُسْتَمِرَّةُ شُكْرُهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَالْمُتَجَدِّدَةُ شُرِعَ لَهَا سُجُودُ الشُّكْرِ؛ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَيْهَا، وَخُضُوعًا لَهُ وَذُلًّا، فِي مُقَابَلَةِ فَرْحَةِ النِّعَمِ وَانْبِسَاطِ النَّفْسِ لَهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ أَدْوَائِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَلَا الْأَشِرِينَ؛ فَكَانَ دَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ الْخُضُوعَ وَالذُّلَّ وَالِانْكِسَارَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ مِنْ تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا السُّجُودِ عِنْدَ الْآيَاتِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا» . وَقَدْ فَزِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رُؤْيَةِ انْكِسَافِ الشَّمْسِ إلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ بِالْفَزَعِ إلَى ذِكْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَاتِهِ تَعَالَى لَمْ تَزَلْ مُشَاهَدَةً مَعْلُومَةً بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَلَكِنَّ تَجَدُّدَهَا يُحْدِثُ لِلنَّفْسِ مِنْ الرَّهْبَةِ وَالْفَزَعِ إلَى اللَّهِ مَا لَا تُحْدِثُهُ الْآيَاتُ الْمُسْتَمِرَّةُ، فَتَجَدُّدُ هَذِهِ النِّعَمِ فِي اقْتِضَائِهَا لِسُجُودِ الشُّكْرِ كَتَجَدُّدِ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي اقْتِضَائِهَا لِلْفَزَعِ إلَى السُّجُودِ وَالصَّلَوَاتِ. وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ فَقِيهَ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَوْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَّ سَاجِدًا، فَقِيلَ لَهُ: أَتَسْجُدُ لِذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا» . وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا؟ فَلَوْ لَمْ تَأْتِ النُّصُوصُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ لَكَانَ هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَمُقْتَضَى عُبُودِيَّةِ الرَّغْبَةِ، كَمَا أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ الْآيَاتِ مُقْتَضَى عُبُودِيَّةِ الرَّهْبَةِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا وَرَهَبًا. وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةُ رَهْبَةٍ وَهَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 صَلَاةُ رَغْبَةٍ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ جَاءَتْ سُنَّتُهُ وَشَرِيعَتُهُ بِأَكْمَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ الرُّسُلِ وَسُنَنُهُمْ وَعَلَى آلِهِ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بجواز انْتِفَاع الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ] [انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ] الْمِثَالُ السَّبْعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ بِجَوَازِ رُكُوبِ الْمُرْتَهِنِ لِلدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ وَشُرْبِهِ لَبَنَهَا بِنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَا زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلِهَا، وَلَا أَصْلَحُ لِلرَّاهِنِ مِنْهُ، وَمَا عَدَاهُ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يَغِيبُ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي تَحْفَظُ الرَّهْنَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ رَفْعُهُ إلَى الْحَاكِمِ وَإِثْبَاتُ الرَّهْنِ وَإِثْبَاتُ غَيْبَةِ الرَّاهِنِ وَإِثْبَاتُ أَنَّ قَدْرَ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ هِيَ قَدْرُ حَلْبِهِ وَرُكُوبِهِ وَطَلَبِهِ مِنْهُ الْحُكْمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ مَا يُنَافِي الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ؛ فَشَرَعَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَشْرَبَ لَبَنَ الرَّهْنِ وَيَرْكَبَ ظَهْرَهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى أَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ صَارَتْ النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَدَّاهُ عَنْهُ، وَيَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ وَقْتٍ وَاسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ، فَجَوَّزَ لَهُ الشَّارِعُ اسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ظَهْرِ الرَّهْنُ وَدَرِّهِ، وَهَذَا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَهُمَا، وَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ ظَهْرِهِ وَإِرَاقَةِ لَبَنِهِ أَوْ تَرْكُهُ يَفْسُدُ فِي الْحَيَوَانِ أَوْ يُفْسِدُهُ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ الرَّفْعُ إلَى الْحَاكِمِ، لَا سِيَّمَا وَرَهْنُ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي حَيْثُ لَا حَاكِمَ، وَلَوْ كَانَ فَلَمْ يُوَلِّ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ الْحَاكِمَ هَذَا الْأَمْرَ. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي غَيْبَةِ أَحَدِ الْمُعَاوِضَيْنِ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يُرِيدُ حِفْظَ الْوَثِيقَةِ لِئَلَّا يَذْهَبَ مَالُهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَقَاءِ الْحَيَوَانِ، وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ إمَّا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا كَمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا. [الْعُرْفُ يَجْرِي مَجْرَى النُّطْقِ] [الْعُرْفُ يَجْرِي مَجْرَى النُّطْقِ] . وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ مَجْرَى النُّطْقِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ مِنْهَا نَقْدُ الْبَلَدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الضَّيْفِ، وَجَوَازُ تَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِمَّا يَسْقُطُ مِنْ النَّاسِ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، وَالشُّرْبُ مِنْ خَوَابِي السَّيْلِ وَمَصَانِعِهِ فِي الطُّرُقِ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 عَقْدَ الْإِجَارَةِ مَعَ الْحَمَّامِيِّ لَفْظًا، وَضَرْبُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إذَا حَرَنَتْ فِي السَّيْرِ وَإِيدَاعُهَا فِي الْخَانِ إذَا قَدِمَ بَلْدَةً أَوْ ذَهَبَ فِي حَاجَةٍ، وَدَفْعُ الْوَدِيعَةِ إلَى مَنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ خَادِمٍ أَوْ وَلَدٍ، وَتَوْكِيلُ الْوَكِيلِ لِمَا لَا يُبَاشِرُهُ مِثْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَجَوَازُ التَّخَلِّي فِي دَارِ مَنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ إلَى دَارِهِ وَالشُّرْبُ مِنْ مَائِهِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَى الْوِسَادَةِ الْمَنْصُوبَةِ، وَأَكْلُ الثَّمَرَةِ السَّاقِطَةِ مِنْ الْغُصْنِ الَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِذْنُ الْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّارِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَضْيَافِهِ فِي الدُّخُولِ وَالْمَبِيتِ وَالثَّوَى عِنْدَهُ وَالِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْهُمْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ، وَغَسْلُ الْقَمِيصِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلُّبْسِ مُدَّةً يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْغَسْلِ، وَلَوْ وَكَّلَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ وَالْعُرْفُ قَبْضُ ثَمَنِهِ مَلَكَ ذَلِكَ، وَلَوْ اجْتَازَ بِحَرْثِ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ وَدَعَتْهُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخَلِّي فِيهِ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا سِوَاهُ إمَّا لِضِيقِ الطَّرِيقِ أَوْ لِتَتَابُعِ الْمَارِّينَ فِيهَا، فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ وَالتَّيَمُّمِ بِتُرَابِهِ؟ وَمِنْهَا لَوْ رَأَى شَاةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ فَذَبَحَهَا حِفْظًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا تَذْهَبُ ضِيَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَامِدِي الْفُقَهَاءِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: هَذَا تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْيَابِسُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إنَّمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَتَرْكُ التَّصَرُّفِ هَا هُنَا هُوَ الْإِضْرَارُ. وَمِنْهَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا فَوَقَعَتْ الْأَكَلَةُ فِي طَرَفِهِ فَتَيَقَّنَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْطَعْهُ سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ جَازَ لَهُ قَطْعُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا لَوْ رَأَى السَّيْلَ يَمُرُّ بِدَارِ جَارِهِ فَبَادَرَ وَنَقَبَ حَائِطَهُ وَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَحَفِظَهُ عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَضْمَنْ نَقْبَ الْحَائِطِ وَمِنْهَا لَوْ قَصَدَ الْعَدُوُّ مَالَ جَارِهِ فَصَالَحَهُ بِبَعْضِهِ دَفْعًا عَنْ بَقِيَّتِهِ جَازَ لَهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا لَوْ وَقَعَتْ النَّارُ فِي دَارِ جَارِهِ فَهَدَمَ جَانِبًا مِنْهَا عَلَى النَّارِ لِئَلَّا تَسْرِيَ إلَى بَقِيَّتِهَا لَمْ يَضْمَنْ. وَمِنْهَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَةً عَظِيمَةً أَوْ حَطَبًا أَوْ حِجَارَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ مِلْكَهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالرِّجَالِ مَا يَنْقُلُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا. وَمِنْهَا لَوْ جَذَّ ثِمَارَهُ أَوْ حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرْغَبُ عَنْهُ عَادَةً جَازَ لِغَيْرِهِ الْتِقَاطُهُ وَأَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ لَفْظًا. وَمِنْهَا لَوْ وَجَدَ هَدْيًا مُشْعَرًا مَنْحُورًا لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْتَطِعَ مِنْهُ وَيَأْكُلَ مِنْهُ. وَمِنْهَا لَوْ أَتَى إلَى دَارِ رَجُلٍ جَازَ لَهُ طَرْقُ حَلْقَةِ الْبَابِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرَّفَ فِي بَابٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ لَفْظًا. وَمِنْهَا الِاسْتِنَادُ إلَى جِدَارِهِ وَالِاسْتِظْلَالُ بِهِ. وَمِنْهَا الِاسْتِمْدَادُ مِنْ مِحْبَرَتِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ حَيْثُ «أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ الْأُخْرَى» فَبَاعَ وَأَقْبَضَ وَقَبَضَ بِغَيْرِ إذْنٍ لَفْظِيٍّ اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ اللَّفْظِيِّ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي اسْتِشْكَالِهِ؛ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى مَحْضِ الْقَوَاعِدِ كَمَا عَرَفْته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 [فَصَلِّ الشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ] ِّ] وَمِنْ هَذَا الشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيِّ، وَذَلِكَ كَوُجُوبِ نَقْدِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَوُجُوبِ الْحُلُولِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشْتَرَطٌ لَفْظًا فَانْصَرَفَ الْعَقْدُ بِإِطْلَاقِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِهِ لَفْظُهُ، وَمِنْهَا السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ حَتَّى يَسُوغَ لَهُ الرَّدُّ بِوُجُودِ الْعَيْبِ تَنْزِيلًا لِاشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عُرْفًا مَنْزِلَةَ اشْتِرَاطِهَا لَفْظًا. وَمِنْهَا وُجُوبُ وَفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَفْظًا بِنَاءً عَلَى الشَّرْطِ الْعُرْفِيِّ. وَمِنْهَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَغْسِلُ أَوْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ عَجِينَهُ لِمَنْ يَخْبِزُهُ أَوْ لَحْمًا لِمَنْ يَطْبُخُهُ أَوْ حَبًّا لِمَنْ يَطْحَنُهُ أَوْ مَتَاعًا لِمَنْ يَحْمِلُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَعَهُ ذَلِكَ لَفْظًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. حَتَّى عِنْدَ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْعَمَلُ إلَّا بِهِ، بَلْ لَيْسَ يَقِفُ الْإِذْنُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْحِفْظِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَلِهَذَا جَازَ لِأَحَدِهِمْ ضَمُّ اللُّقَطَةِ وَرَدُّ الْآبِقِ وَحِفْظُ الضَّالَّةِ، حَتَّى إنَّهُ يَحْسِبُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ وَيُنَزِّلُ إنْفَاقَهُ عَلَيْهَا مَنْزِلَةَ إنْفَاقِهِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لِمَا كَانَ حِفْظًا لِمَالِ أَخِيهِ وَإِحْسَانًا إلَيْهِ؛ فَلَوْ عَلِمَ الْمُتَصَرِّفُ لِحِفْظِ مَالِ أَخِيهِ أَنَّ نَفَقَتَهُ تَضِيعُ وَأَنَّ إحْسَانَهُ يَذْهَبُ بَاطِلًا فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَضَاعَتْ مَصَالِحُ النَّاسِ، وَرَغِبُوا عَنْ حِفْظِ أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَعَطَّلَتْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، وَفَسَدَتْ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ بَهَرَتْ شَرِيعَتُهُ الْعُقُولَ وَفَاقَتْ كُلَّ شَرِيعَةٍ وَاشْتَمَلَتْ عَلَى كُلِّ مَصْلَحَةٍ وَعَطَّلَتْ كُلَّ مَفْسَدَةٍ تَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ إجَازَةِ أَبِي حَنِيفَةَ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ وَوَقْفَ الْعُقُودِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ وَمَنْعِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ بِنَفَقَتِهِ؟ فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، يَكُونُ هَذَا الْإِحْسَانُ لِلرَّاهِنِ وَلِلْحَيَوَانِ وَلِنَفْسِهِ بِحِفْظِ الرَّهْنِ حَرَامًا لَا اعْتِبَارًا بِهِ شَرْعًا مَعَ إذْنِ الشَّارِعِ فِيهِ لَفْظًا وَإِذْنِ الْمَالِكِ عُرْفًا وَتَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ مُعْتَبَرًا، مُرَتَّبًا عَلَيْهِ حُكْمُهُ؟ هَذَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّا فِي إبْرَاءِ الذِّمَمِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى الْعُقُودِ عَلَى أَوْلَادِ النَّاسِ وَبَنَاتِهِمْ وَإِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَدُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؛ فَالْمُرْتَهِنُ مُحْسِنٌ بِإِبْرَاءِ ذِمَّةِ الْمَالِكِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانِ مُؤَدٍّ لِحَقِّ اللَّهِ فِيهِ وَلِحَقِّ مَالِكِهِ وَلِحَقِّ الْحَيَوَانِ وَلِحَقِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 نَفْسِهِ مُتَنَاوِلٌ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الشَّارِعُ مِنْ الْعِوَضِ بِالدَّرِّ وَالظَّهْرِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْآبَاءِ إيتَاءَ الْمَرَاضِعِ أَجْرَهُنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِدُوا مَعَهُنَّ عَقْدَ إجَارَةٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ دَارًا فَخَرِبَ بَعْضُهَا فَعَمَرَهَا لِيَحْفَظَ الرَّهْنَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السُّكْنَى عِنْدَكُمْ بِهَذِهِ الْعِمَارَةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا. قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ بِمَا أَنْفَقَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إصْلَاحُ الرَّهْنِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُهُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَرْبٍ الْجُرْجَانِيِّ فِي رَجُلٍ عَمِلَ فِي قَنَاةِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْمَاءَ، لِهَذَا الَّذِي عَمِلَ أَجْرٌ فِي نَفَقَتِهِ إذَا عَمِلَ مَا يَكُونُ مَنْفَعَةً لِصَاحِبِ الْقَنَاةِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالدَّارِ ظَاهِرٌ؛ لِحَاجَةِ الْحَيَوَانِ إلَى الْإِنْفَاقِ وَوُجُوبِهِ عَلَى مَالِكِهِ، بِخِلَافِ عِمَارَةِ الدَّارِ، فَإِنْ صَحَّ الْفَرْقُ بَطَلَ السُّؤَالُ، وَإِنْ بَطَلَ الْفَرْقُ ثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا مُخَالَفَةٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِيَامُ لَهُ بِمَا أَدَّاهُ عَنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ عِوَضُهُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَظِيرُ مَا أَدَّاهُ، فَأَمَّا أَنْ يُعَارِضَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ جِنْسِ مَا أَدَّاهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأُصُولُ الشَّرْعِ تَأْبَى ذَلِكَ. قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي رُدَّتْ بِهِ هَذِهِ السُّنَّةُ، وَلِأَجْلِهِ تَأَوَّلَهَا مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَالِكِ فَإِنَّهُ الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ، وَجَعَلَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الرَّهْنِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. فَأَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فَقَدْ دَلَّ فِي فَسَادِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُجُورُهُنَّ الْمُسَمَّاةُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَهُمْ بِوَفَائِهَا، لَا أَمْرٌ لَهُمْ بِإِيتَاءِ مَا لَمْ يُسَمُّوهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَهَذَا التَّعَاسُرُ إنَّمَا يَكُونُ حَالَ الْعَقْدِ بِسَبَبِ طَلَبِهَا الشَّطَطَ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ حَطِّهَا عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِدَلَالَةٍ مِنْ الدَّلَالَات الثَّلَاثِ، أَمَّا اللَّفْظِيَّتَانِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اللُّزُومِيَّةُ فَلِانْفِكَاكِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ وَبَيْنَ تَقَدُّمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 تَسْمِيَتِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يُؤْتِيه الْعَامِلُ عَلَى عَمَلِهِ أَجْرًا وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ تَسْمِيَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَجْرَ مَا يَعُودُ إلَى الْعَامِلِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ؛ فَهُوَ كَالثَّوَابِ الَّذِي يَثُوبُ إلَيْهِ: أَيْ يَرْجِعُ مِنْ عَمَلِهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوْ لَمْ يُسَمَّ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ إذَا اُفْتُدِيَ الْأَسِيرُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِالضَّمَانِ، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالضَّمَانِ، وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَقُلْ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي كَانَ مُتَبَرِّعًا، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِنَفَقَةِ عَبْدِهِ الْآبِقِ إذَا رَدَّهُ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عَامِلِهِ فِي سَبْيِ الْعَرَبِ وَرَقِيقِهِمْ، وَقَدْ كَانَ التُّجَّارُ اشْتَرَوْهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ: أَيُّمَا حُرٌّ اشْتَرَاهُ التُّجَّارُ فَارْدُدْ عَلَيْهِمْ رُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ تَقُولُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ تَنَاقَضُوا وَلَمْ يَطَّرِدُوهَا؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إذَا قَضَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَيْنَ الْمَيِّتِ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ التَّرِكَةِ بِالْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى التَّرِكَةِ بِمَا قَضَاهُ، وَهَذَا وَاجِبٌ قَدْ أَدَّاهُ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَقَدْ رَجَعَ بِهِ، وَيَقُولُ: إذَا بَنَى صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَزِمَ الْآخَرَ غَرَامَةُ مَا يَخُصُّهُ، وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ فِي غَيْبَةِ الرَّاهِنِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِذَا اشْتَرَى اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَأَدَّى الْحَاضِرُ جَمِيعَ الثَّمَنِ لِيَسْتَلِمَ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إذَا أَعَارَ عَبْدَ الرَّجُلِ لِيَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الرَّهْنِ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُسْتَعِيرِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ رَجَعَ بِالْحَقِّ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ جِمَالًا لِيَرْكَبَهَا فَهَرَبَ الْجَمَّالُ فَأَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْجِمَالِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ. وَإِذَا سَاقَى رَجُلًا عَلَى نَخْلِهِ فَهَرَبَ الْعَامِلُ فَاسْتَأْجَرَ صَاحِبُ النَّخْلِ مَنْ يَقُومُ مُقَامَةَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ، وَاللَّقِيطُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَهْل الْمُحَلَّةِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا رَجَعُوا عَلَيْهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الضَّمَانِ فَضَمِنَ ثُمَّ أَدَّى الْحَقَّ بِغَيْرِ إذْنِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَوْلًا بِهَذَا الْأَصْلِ، وَالْمَالِكِيَّةُ أَشَدُّ قَوْلًا بِهِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: إنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ كُلُّهَا أَحْوَجَتْهُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ حِفْظِ مَالِهِ؛ فَلَوْلَا عِمَارَةُ السُّفْلِ لَمْ يَثْبُتْ الْعُلْوُ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِ الْوَارِثُ الْغُرَمَاءَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ التَّرِكَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَحْفَظْ الرَّهْنَ بِالْعَلَفِ لَتَلِفَ مَحَلُّ الْوَثِيقَةِ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ عَلَى الشَّجَرِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْعَامِلِ لَتَعَطَّلَتْ الثَّمَرَةُ، وَحَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِذَا أَنْفَقَ كَانَتْ نَفَقَتُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ هُنَاكَ يَتَوَصَّلُ إلَى اسْتِيفَائِهِ بِالْأَدَاءِ؛ فَافْتَرَقَا؛ وَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تَلْزَمُنَا، وَأَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ فَهُوَ إمَّا فُضُولِيٌّ وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَحَوَالَتُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ، وَزَادَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَقَالَتْ: لَمَّا ضَمِنَ لَهُ الْمُؤَجِّرُ تَحْصِيلَ مَنَافِعِ الْجِمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ إلَّا بِالْعَلَفِ؛ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ لِتِلْكَ الْمَنَافِعِ إذْنُهُ لَهُ فِي تَحْصِيلِهَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا ضِمْنًا وَتَبَعًا، فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَا بِحُكْمِ ضَمَانِ الْغَيْرِ عَنْهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ وَالْمُسَاقِيَ قَدْ عَلِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْ قِوَامٍ، وَلَا بُدَّ لِلنَّخِيلِ مِنْ سَقْيٍ وَعَمَلٍ عَلَيْهَا؛ فَكَأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْإِذْنُ فِيهَا فِي الْإِنْفَاقِ عُرْفًا، وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَشَاهِدُهُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَسَائِلِ؛ فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ فِي مَسْأَلَةِ عَلَفِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلرُّجُوعِ بِمَا غَرِمَهُ، وَهَذَا نِصْفُ الْمَسَافَةِ، وَبَقِيَ نِصْفُهَا الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا بِرُكُوبِهِ وَشُرْبِهِ، وَهِيَ أَسْهَلُ الْمَسَافَتَيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا؛ إذْ غَايَتُهَا تَسْلِيطُ الشَّارِعِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَصْلَحَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْحَيَوَانِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ تَسْلِيطِ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ لِتَكْمِيلِ مِلْكِهِ وَانْفِرَادِهِ بِهِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ الْمُعَاوَضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْحَقِّ فِيهَا لَيْسَ ثَابِتًا، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا مَنَعَهُ النَّبِيُّ مِنْ الْأَخْذِ وَسَمَّاهُ خَائِنًا بِقَوْلِهِ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَأَمَّا هَهُنَا فَسَبَبُ الْحَقِّ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أَذِنَ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِيهَا، فَكَيْفَ تُمْنَعُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةُ الَّتِي سَبَبُ الْحَقِّ فِيهَا ظَاهِرٌ وَقَدْ أَذِنَ فِيهَا الشَّارِعُ وَتَجُوزُ تِلْكَ الْمُعَاوَضَةُ الَّتِي سَبَبُ الْحَقِّ فِيهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَقَدْ مَنَعَ مِنْهَا الشَّارِعُ؟ فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا أَنَّهُ يَرْجِع عَلَيْهِ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَلَيْسَ مِنْ جَزَاءِ هَذَا الْمُحْسِنِ بِتَخْلِيصِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ وَفَكِّ أَسْرِهِ مِنْهُ وَحَلِّ وَثَاقِهِ أَنْ يُضَيِّعَ عَلَيْهِ مَعْرُوفَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَأَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مِنْهُ بِإِضَاعَةِ مَالِهِ وَمُكَافَأَتُهُ عَلَيْهِ بِالْإِسَاءَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» وَأَيُّ مَعْرُوفٍ فَوْقَ مَعْرُوفِ هَذَا الَّذِي افْتَكَّ أَخَاهُ مِنْ أَسْرِ الدَّيْنِ؟ وَأَيُّ مُكَافَأَةٍ أَقْبَحُ مِنْ إضَاعَةِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَذَهَابِهِ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْهَدِيَّةُ الَّتِي هِيَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ قَدْ شُرِعَتْ الْمُكَافَأَةُ عَلَيْهَا وَهِيَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ يُشْرَعُ جَوَازُ تَرْكِ الْمُكَافَآتِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعْرُوفِ؟ وَقَدْ عَقَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، فَمَنْ أَدَّى عَنْ وَلِيِّهِ وَاجِبًا كَانَ نَائِبُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلِهِ وَوَلَّى مَنْ أَقَامَهُ الشَّرْعُ لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِ لِضَعْفِهِ أَوْ عَجْزِهِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَوْ أَقْرَضَ رَبَّ الدَّيْنِ قَدْرَ دَيْنِهِ وَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ مَالِك ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ بَيْنَ أَنْ يُوفِيَهُ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ أَوْ يُقْرِضَهُ وَيَحْتَالَ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ؟ وَهَلْ تُفَرِّقُ الشَّرِيعَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ وَلَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَبْحُ هَدْيٍ أَوْ أُضْحِيَّةٍ فَذَبَحَهَا عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَجْزَأَتْ وَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ ذَبِيحَةَ غَاصِبٍ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِ الذِّبْحِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَأَدَّى هَذَا الْوَاجِبَ غَيْرُهُ وَقَامَ مَقَامَ تَأْدِيَتِهِ هُوَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُ شَرْعًا، وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِوُضُوحِهَا وَاقْتِضَاءِ أُصُولِ الشَّرْعِ وَفُرُوعِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ عَمَلًا بِغَيْرِ إذْنِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ إلَى حَقِّهِ أَوْ فَعَلَهُ حِفْظًا لِمَالِ الْمَالِكِ وَاحْتِرَازًا لَهُ مِنْ الضَّيَاعِ؛ فَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ: مِنْهَا أَنَّهُ إذَا حَصَدَ زَرْعَهُ فِي غَيْبَتِهِ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأُجْرَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ إذَا مَرِضَ أَوْ حُبِسَ أَوْ غَابَ فَلَوْ تَرَكَ زَرْعَهُ بِلَا حَصَادٍ لَهَلَكَ وَضَاعَ، فَإِذَا عَلِمَ مَنْ يَحْصُدُهُ لَهُ أَنَّهُ يُذْهِبُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ نَفَقَتَهُ ضَيَاعًا لَمْ يُقْدِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ مَا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ؛ فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِهَا أَنْ أَذِنَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي حَصَادِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى مَالِكِهِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَالِهِ وَمَالِ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ، وَفِي خِلَافِ ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِمَالَيْهِمَا أَوْ مَالِ أَحَدِهِمَا، وَمِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِيمَنْ عَمِلَ فِي قَنَاةِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْمَاءَ، قَالَ: لِهَذَا الَّذِي عَمِلَ نَفَقَتُهُ، وَمِنْهَا لَوْ انْكَسَرَتْ سَفِينَتُهُ فَوَقَعَ مَتَاعُهُ فِي الْبَحْرِ فَخَلَّصَهُ رَجُلٌ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهِ، وَلَهُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَا أُجْرَةَ لَهُ؛ فَلَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِالتَّعَرُّضِ لِلتَّلَفِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ وَيَذْهَبُ عَمَلُهُ بَاطِلًا أَوْ يَذْهَبُ مَالُ الْآخَرِ ضَائِعًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فَسَادٌ مَحْضٌ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي خِلَافِهِ ظَاهِرَةٌ. وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ قَبِيحًا أَنْ يَذْهَبَ عَمَلُ مِثْلِ هَذَا ضَائِعًا وَمَالُ هَذَا ضَائِعًا، وَيَرَوْنَ مِنْ أَحْسَنِ الْحُسْنِ أَنْ يُسَلَّمَ مَالُ هَذَا وَيَنْجَحَ سَعْيُ هَذَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً] [ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي صِحَّةِ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. دِينَارَانِ، فَقَالَ: أَتَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 قَالُوا: لَا، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ» فَرُدَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بِرَأْيٍ لَا يُقَاوِمُهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ؛ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ شَيْءٍ خَرَابٍ فِي مَحَلِّ خَرَابٍ، بِخِلَافِ الْحَيِّ الْقَادِرِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ بِصَدَدِ الْعِمَارَةِ فِي ضَمَانِ دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا إذَا خَلَّفَ وَفَاءً فَإِنَّهُ يَصِحُّ الضَّمَانُ فِي الْحَالِ تَنْزِيلًا لِذِمَّتِهِ بِمَا خَلَّفَهُ مِنْ الْوَفَاءِ مَنْزِلَةَ الْحَيِّ الْقَادِرِ. قَالُوا: وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ ضَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْمَوْتِ؛ فَهُوَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، لَا إنْشَاءٌ لِلِالْتِزَامِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا تُرَدُّ بِهِ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْأَخْبَارِ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: أَنَا الْكَفِيلُ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. الثَّانِي: أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ «فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ» فَقَوْلُهُ: «وَعَلَيَّ دَيْنُهُ» كَالصَّرِيحِ فِي الِالْتِزَامِ أَوْ صَرِيحٌ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ عَلَيْهِ وَأَنَا أَلْتَزِمُ مَا عَلَيْهِ أَوْ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مَا عَلَيْهِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ لَوْ اخْتَلَفَ لَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ ضَمِنْت ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ، وَأَدْنَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَحْتَمِلَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاطِلًا فِي الشَّرْعِ وَالْآخَرُ صَحِيحًا فَكَيْفَ يُقِرُّهُ عَلَى قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ لِحَقٍّ وَبَاطِل وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ عَنْ مُرَادِهِ بِهِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَإِنَّ مَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ إذَا خَلَّفَ وَفَاءً صَحَّ ضَمَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَالْحَيِّ، وَأَيْضًا فَمَنْ صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ حَيًّا صَحَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ مَيِّتًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الضَّمَانَ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ رَبِّ الدَّيْنِ لِلضَّامِنِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُخَلِّفَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَخْلُفْهُ، وَأَيْضًا فَالْمَيِّتُ أَحْوَجُ إلَى ضَمَانِ دَيْنِهِ الْحَيُّ لِحَاجَتِهِ إلَى تَبْرِيدِ جِلْدِهِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ ارْتِهَانِهِ بِالدَّيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ وَإِنْ خَرِبَتْ مِنْ وَجْهٍ - وَهُوَ تَعَذُّرُ مُطَالَبَتِهِ - لَمْ تَخْرَبْ مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إلَّا وَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ» وَلَا يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ لَبَطَلَ الضَّمَانُ بِمَوْتِهِ؛ فَإِنَّ الضَّامِنَ فَرْعُهُ، وَقَدْ خَرِبَتْ ذِمَّةُ الْأَصْلِ، فَلَمَّا اُسْتُدِيمَ الضَّمَانُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ عَلِمَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْمَوْتَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَافَاهُ ابْتِدَاءً لَنَافَاهُ اسْتِدَامَةً؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ فِيهَا؛ فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ مَعَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَة فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ] [الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي جَمْعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَقَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ مَعَ الْعَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ» وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَعِلَّتُهُ وَاهِيَةٌ، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ، وَإِذَا لَمْ تَزِغْ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَحْنِ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» وَهَذَا مُتَابِعٌ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: «وَإِذَا سَافَرَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ» وَكَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ» كَانَتْ هَذِهِ سُنَنٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالصَّرَاحَةِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا؛ فَرُدَّتْ بِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، كَحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَاتِهِ بِهِ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ثُمَّ قَالَ: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» فَهَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ، وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّائِلِ فِي الْمَدِينَةِ سَوَاءٌ صَلَّى بِهِ كُلَّ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَآخِرِهِ وَقَالَ: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرْ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» وَقَالَ: «وَقْتُ كُلِّ صَلَاةٍ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الَّتِي تَلِيهَا» وَيَكْفِي لِلسَّائِلِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْمَوَاقِيتِ ثُمَّ بَيَّنَهَا لَهُ بِفِعْلِهِ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» فَهَذَا بَيَانٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُحْكَمَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَجَمِيعُهُمْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهَا أَحَادِيثَ مُجْمَلَةً مُحْتَمَلَةً فِي الْجَمْعِ غَيْرَ صَرِيحَةٍ فِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَمْعَ فِي الْفِعْلِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَمْعُ فِي الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ الصَّرِيحُ الْمُبَيِّنُ لِلْمُجْمَلِ الْمُحْتَمَلِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَرْكٌ لِلْمُحْكَمِ وَأَخْذٌ بِالْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْجَمِيعُ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، فَاَلَّذِي وَقَّتَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ هُوَ الَّذِي شَرَعَ الْجَمْعَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِ السُّنَّةِ وَيُتْرَكُ بَعْضُهَا. وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ نَوْعَانِ بِحَسَبِ حَالِ أَرْبَابِهَا: أَوْقَاتُ السَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَأَوْقَاتُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ. وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا، وَكَمَا أَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ فَهَكَذَا أَوْقَاتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ النَّائِمِ وَالذَّاكِرِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ أَوْقَاتَ الْمَعْذُورِينَ ثَلَاثَةً: وَقْتَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ، وَوَقْتًا مُخْتَصًّا؛ فَالْوَقْتَانِ الْمُشْتَرَكَانِ لِأَرْبَابِ الْأَعْذَارِ هُمَا أَرْبَعَةٌ لِأَرْبَابِ الرَّفَاهِيَةِ، وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَوْقَاتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَيْنِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثَةٍ فِي نَحْوِ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالْخَمْسَةُ لِأَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ وَالسَّعَةِ، وَالثَّلَاثَةُ لِأَرْبَابِ الْأَعْذَارِ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ وَبَيَانِ أَسْبَابِهِ، فَتَوَافَقَتْ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ. فَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ مَعَ أَحَادِيثِ الْإِفْرَادِ بِمَنْزِلَةِ أَحَادِيثِ الْأَعْذَارِ وَالضَّرُورَاتِ مَعَ أَحَادِيثِ الشُّرُوطِ وَالْوَاجِبَاتِ؛ فَالسُّنَّةُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لَا يُرَدُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ وَجَدَهَا كُلَّهَا صَرِيحَةً فِي جَمْعِ الْوَقْتِ لَا فِي جَمْعِ الْفِعْلِ، وَعَلِمَ أَنَّ جَمْعَ الْفِعْلِ أَشَقُّ وَأَصْعَبُ مِنْ الْإِفْرَادِ بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ بِالرُّخْصَةِ أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى قَدْرَ فِعْلِهَا فَقَطْ، بِحَيْثُ إذَا سَلَّمَ مِنْهَا دَخَلَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ فَأَوْقَعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْجَمْعِ، وَأَلْفَاظُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ تَرُدُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْوِتْرِ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ وَسَبْعٍ مُتَّصِلَةٍ] [الْوِتْرُ مَعَ الِاتِّصَالِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْوِتْرِ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ وَسَبْعٍ مُتَّصِلَةٍ كَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ وَلَا كَلَامٍ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعنَاهُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صُنْعِهِ فِي الْأُولَى» وَفِي لَفْظٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 عَنْهَا: «فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ» وَفِي لَفْظٍ: «صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ صَرِيحَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا؛ فَرُدَّتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي أَوْتَرَ بِالتِّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ، وَسُنَنُهُ كُلُّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ السَّائِلَ لَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِأَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الْوِتْرِ، وَأَمَّا السَّبْعُ وَالْخَمْسُ وَالتِّسْعُ وَالْوَاحِدَةُ فَهِيَ صَلَاةُ الْوِتْرِ، وَالْوِتْرُ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ الْمُنْفَصِلَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَلِلْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ الْمُتَّصِلَةِ، كَالْمَغْرِبِ اسْمٌ لِلثَّلَاثِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنْ انْفَصَلَتْ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ بِسَلَامَيْنِ كَالْإِحْدَى عَشْرَةَ كَانَ الْوِتْرُ اسْمًا لِلرَّكْعَةِ الْمَفْصُولَةِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَهُ مَا صَلَّى.» فَاتَّفَقَ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ، وَصَدَّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ لَيْسَ إلَّا، وَإِنْ حَصَلَ تَنَاقُضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ، أَوْ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا فَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَضَادَّ هُنَاكَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُؤْتِي مَنْ يُؤْتِي هُنَاكَ مِنْ قَبْلِ فَهْمِهِ وَتَحْكِيمِهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوَاعِدَ الْمَذْهَبِ عَلَى السُّنَّةِ؛ فَيَقَعُ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ [تَغْيِيرِ الْفَتْوَى وَاخْتِلَافِهَا] [الشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ] فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَتْوَى، وَاخْتِلَافِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالنِّيَّاتِ وَالْعَوَائِدِ الشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ هَذَا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْجَبَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي فِي أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لَا تَأْتِي بِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بِهَا الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، وَلَوْلَا رُسُومٌ قَدْ بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا وَطُوِيَ الْعَالَمُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ رُسُومِهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ بِأَمْثِلَةٍ صَحِيحَةٍ. [إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَشُرُوطُهُ] الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إيجَابَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، «وَقَدْ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِتَالِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَقَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ» وَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ» وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؛ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَمَا وُجِدَ سَوَاءٌ. [إنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ] فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ. [فَصْلٌ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ] فَصْلٌ [النَّهْيُ عَنْ قَطْعِ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ] الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَهَذَا حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ نَهَى عَنْ إقَامَتِهِ فِي الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَقَدْ «أَتَى بِشْرُ بْنُ أَرْطَاةَ بِرَجُلٍ مِنْ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ مِجَنَّهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْت يَدَك» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ وَلَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ: كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَشَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَحِدَّهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَتَحُدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ؟ . وَأَتَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إلَى الْقَيْدِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 كَفَى حُزْنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا فَقَالَ لِابْنَةِ حَفْصَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: أَطْلِقِينِي وَلَكِ وَاَللَّهِ عَلَيَّ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، فَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي، قَالَ: فَحَلَّتْهُ حَتَّى الْتَقَى النَّاسُ وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إلَى النَّاسِ، قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ، فَوَثَبَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا ثُمَّ خَرَجَ فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْعَدُوِّ إلَّا هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ، لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الصَّبْرُ صَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالظَّفَرُ ظَفَرُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ، فَأَخْبَرَتْ ابْنَةُ حَفْصَةَ سَعْدًا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: لَا وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَاهُمْ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْت أَشْرَبُهَا إذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إذْ بَهْرَجَتْنِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا؛ وَقَوْلُهُ: " إذْ بَهْرَجْتَنِي " أَيْ أَهْدَرْتَنِي بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنِّي، وَمِنْهُ " بَهْرَجَ دَمَ ابْنِ الْحَارِثِ " أَيْ أَبْطَلَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَلَا إجْمَاعًا، بَلْ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَانَ أَصْوَبَ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ. قُلْت: وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ الْحَدِّ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ إمَّا مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ أَوْ مِنْ خَوْفِ ارْتِدَادِهِ وَلُحُوقِهِ بِالْكُفَّارِ، وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعَارِضٍ أَمْرٌ وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَعَنْ وَقْتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ؛ فَهَذَا تَأْخِيرٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْدُودِ؛ فَتَأْخِيرُهُ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِ سَعْدٍ: " وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَبْلَاهُمْ " فَأَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدَّ؟ قِيلَ: قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: لَا حَدَّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ " كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَعْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى تَأْثِيرَ أَبِي مِحْجَنٍ فِي الدِّينِ وَجِهَادِهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ لِلَّهِ مَا رَأَى دَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ غَمَرَتْ هَذِهِ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ وَجَعَلَتْهَا كَقَطْرَةٍ بِحَاسَّةٍ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ شَامَ مِنْهُ مَخَايِلَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَقْتَ الْقِتَالِ؛ إذْ لَا يَظُنُّ مُسْلِمٌ إصْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ يَرَى الْمَوْتَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَوَضْعِ رِجْلِهِ فِي الْقَيْدِ اخْتِيَارًا قَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوهَبَ لَهُ حَدُّهُ كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَلْ صَلَّيْت مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك حَدَّك» وَظَهَرَتْ بَرَكَةُ هَذَا الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ فِي صِدْقِ تَوْبَتِهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا، وَفِي رِوَايَةٍ «أَبَدَ الْأَبَدِ» وَفِي رِوَايَةٍ «قَدْ كُنْت آنَفُ أَنْ أَتْرُكَهَا مِنْ أَجْلِ جَلَدَاتِكُمْ، فَأَمَّا إذْ تَرَكْتُمُونِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا» وَقَدْ بَرِئَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِهِ لِحُسْنِ بَلَائِهِ وَنَصْرِهِ لِلْإِسْلَامِ. [سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ التَّائِبِ] وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمُطَابَقَةَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِقَابِ وَارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ عَلِمَ فِقْهَ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُعَذِّبُ تَائِبًا فَهَكَذَا الْحُدُودُ لَا تُقَامُ عَلَى تَائِبٍ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ عَظِيمِ جُرْمِهِمْ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى سُقُوطِ مَا دُونَ الْحِرَابِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا فِي سَوَادِ الصُّبْحِ وَهِيَ تَعْمَدُ إلَى الْمَسْجِدِ بِمَكْرُوهٍ عَلَى نَفْسِهَا، فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا، وَفَرَّ صَاحِبُهَا، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا ذَوُو عَدَدٍ، فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ، فَأَدْرَكُوا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَتْ اسْتَغَاثَتْ بِهِ فَأَخَذُوهُ، وَسَبَقَهُمْ الْآخَرُ، فَجَاءُوا يَقُودُونَهُ إلَيْهَا، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَغَثْتُك، وَقَدْ ذَهَبَ الْآخَرُ قَالَ: فَأَتَوْا بِهِ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَ الْقَوْمُ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: إنَّمَا كُنْت أَغَثْتهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكَنِي هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِي، فَقَالَتْ: كَذَبَ، هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلَقُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ النَّاس فَقَالَ: لَا تَرْجُمُوهُ وَارْجُمُونِي، فَأَنَا الَّذِي فَعَلْت بِهَا الْفِعْلَ، فَاعْتَرَفَ، فَاجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي أَغَاثَهَا، وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ غُفِرَ لَك وَقَالَ لِلَّذِي أَغَاثَهَا قَوْلًا حَسَنًا، فَقَالَ عُمَرُ: اُرْجُمْ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَى، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ إلَى اللَّهِ» رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ، وَلَيْسَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ إشْكَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ الْمُغِيثِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 اعْتِبَارُ الْقَرَائِنِ وَشَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ] قِيلَ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرَائِنِ وَالْأَخْذِ بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ فِي التُّهَمِ، وَهَذَا يُشْبِهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَإِقَامَةَ حَدِّ الزِّنَا بِالْحَبَلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ وَذَهَبَ إلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ إذَا وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَمَّا أُدْرِكَ وَهُوَ يَشْتَدُّ هَرَبًا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِي، وَقَدْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ دَنَا مِنْهَا وَأَتَى إلَيْهَا وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُغِيثًا لَا مُرِيبًا، وَلَمْ يَرَ أُولَئِكَ الْجَمَاعَةُ غَيْرَهُ، كَانَ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُهَا، وَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُقْصَرُ عَنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَعَدَاوَةِ الشُّهُودِ كَاحْتِمَالِ الْغَلَطِ أَوْ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ هَهُنَا، بَلْ ظَنُّ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ؛ فَنِهَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ لَا يَسْتَبْعِدُ ثُبُوتَ الْحَدِّ بِمِثْلِهِ شَرْعًا كَمَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ بِاللَّوْثِ الَّذِي لَعَلَّهُ دُونَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَجْرَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَالْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ تَابِعَةٌ لِلْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقَارِيرِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَكَوْنُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ تَقَعُ غَيْرَ مُطَابَقَةٍ وَلَا تَنْضَبِطُ أَمْرٌ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا وَأَسْبَابًا لِلْأَحْكَامِ، وَالْبَيِّنَةُ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً بِذَاتِهَا لِلْحَدِّ، وَإِنَّمَا ارْتِبَاطُ الْحَدِّ بِهَا ارْتِبَاطُ الْمَدْلُولِ بِدَلِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يُقَاوِمُهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا لَمْ يُلْغِهِ الشَّارِعُ، وَظُهُورُ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ. وَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ الْمُعْتَرِفِ فَإِذَا لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ نِطَاقُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَحْرَى أَنْ لَا يَتَّسِعَ لَهُ نِطَاقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ اتَّسَعَ لَهُ نِطَاقُ الرَّءُوفِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ تَابَ إلَى اللَّهِ، وَأَبَى أَنْ يَحُدَّهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ اعْتِرَافِهِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِنْقَاذًا لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ مِنْ الْهَلَاكِ، وَتَقْدِيمَ حَيَاةِ أَخِيهِ عَلَى حَيَاتِهِ وَاسْتِسْلَامِهِ لِلْقَتْلِ أَكْبَرُ مِنْ السَّيِّئَةِ الَّتِي فَعَلَهَا، فَقَاوَمَ هَذَا الدَّوَاءَ لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَكَانَتْ الْقُوَّةُ صَالِحَةً، فَزَالَ الْمَرَضُ، وَعَادَ الْقَلْبُ إلَى حَالِ الصِّحَّةِ، فَقِيلَ: لَا حَاجَةَ لَنَا بِحَدِّك، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ طُهْرَةً وَدَوَاءً؛ فَإِذَا تَطَهَّرْت بِغَيْرِهِ فَعَفْوُنَا يَسَعُك، فَأَيُّ حُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَأَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ: ثنا أَبُو عَمَّارٍ شَدَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: هَلْ تَوَضَّأْت حِينَ أَقْبَلْت؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ صَلَّيْت مَعَنَا حِينَ صَلَّيْنَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْك» ، وَفِي لَفْظٍ «إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك ذَنْبَك، أَوْ حَدَّك» ، وَمِنْ تَرَاجِمِ النَّسَائِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ " مَنْ اعْتَرَفَ بِحَدٍّ وَلَمْ يُسَمِّهِ " وَلِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثُ مَسَالِكُ، هَذَا أَحَدُهَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ خَاصٌّ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَالثَّالِثُ سُقُوطُ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَسَالِكِ. [فَصْلٌ سُقُوطُ الْحَدِّ عَامَ الْمَجَاعَةِ] فَصْلٌ [مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَامُ الْمَجَاعَةِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْقَطَ الْقَطْعَ عَنْ السَّارِقِ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ، قَالَ السَّعْدِيُّ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ ثنا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ زَاهِرٍ أَنَّ ابْنَ حُدَيْرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي عِذْقٍ وَلَا عَامِ سَنَةٍ. قَالَ السَّعْدِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْعِذْقُ النَّخْلَةُ، وَعَامُ سَنَةٍ: الْمَجَاعَةُ، فَقُلْت لِأَحْمَدَ: تَقُول بِهِ؟ فَقَالَ: إي لَعَمْرِي، قُلْت: إنْ سَرَقَ فِي مَجَاعَةٍ لَا تَقْطَعُهُ؟ فَقَالَ: لَا، إذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّاسُ فِي مَجَاعَةٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ السَّعْدِيُّ: وَهَذَا عَلَى نَحْوِ قَضِيَّةِ عُمَرَ فِي غِلْمَانِ حَاطِبٍ، ثنا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ حَاطِبٍ أَنَّ غِلْمَةً لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَأَتَى بِهِمْ عُمَرُ، فَأَقَرُّوا، فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: إنَّ غِلْمَانَ حَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا كَثِيرُ بْنَ الصَّلْتِ اذْهَبْ فَاقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ، فَلَمَّا وَلَّى بِهِمْ رَدَّهُمْ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهُ لَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَسْتَعْمِلُونَهُمْ وَتُجِيعُونَهُمْ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ أَكَلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَلَّ لَهُ لَقَطَعْت أَيْدِيَهُمْ، وَاَيْمُ اللَّهِ إذَا لَمْ أَفْعَلْ لَأُغَرِّمَنَّكَ غَرَامَةً تُوجِعُكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُزَنِيُّ بِكَمْ أُرِيدَتْ مِنْك نَاقَتُك؟ قَالَ: بِأَرْبَعِ مِائَةٍ، قَالَ عُمَرُ: اذْهَبْ فَأَعْطِهِ ثَمَانِي مِائَةٍ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى مُوَافَقَةِ عُمَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا؛ فِي مَسَائِلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ الَّتِي شَرَحَهَا السَّعْدِيُّ بِكِتَابٍ سَمَّاهُ الْمُتَرْجِمُ، قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْمِلُ الثَّمَرَ مِنْ أَكْمَامِهِ، فَقَالَ: فِيهِ الثَّمَنُ مَرَّتَيْنِ وَشَرَبُ نَكَالٍ، وَقَالَ: وَكُلُّ مَنْ دَرَأْنَا عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقَوَدُ أَضْعَفْنَا عَلَيْهِ الْغُرْمَ، وَقَدْ وَافَقَ أَحْمَدَ عَلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ فِي الْمَجَاعَةِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ السَّنَةَ إذَا كَانَتْ سَنَةَ مَجَاعَةٍ وَشِدَّةٍ غَلَبَ عَلَى النَّاسِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ، فَلَا يَكَادُ يَسْلَمُ السَّارِقُ مِنْ ضَرُورَةٍ تَدْعُوهُ إلَى مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَيَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ بَذْلُ ذَلِكَ لَهُ، إمَّا بِالثَّمَنِ أَوْ مَجَّانًا، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِهِ مَجَّانًا؛ لِوُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ وَإِحْيَاءِ النُّفُوسِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِيثَارِ بِالْفَضْلِ مَعَ ضَرُورَةِ الْمُحْتَاجِ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ الْقَطْعَ عَنْ الْمُحْتَاجِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، بَلْ إذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُونَهُ ظَهَرَ لَك التَّفَاوُتُ، فَأَيْنَ شُبْهَةُ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مِمَّا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَكَوْنُ أَصْلِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَالْمَاءِ، وَشُبْهَةُ الْقَطْعِ بِهِ مَرَّةً، وَشُبْهَةُ دَعْوَى مِلْكِهِ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَشُبْهَةُ إتْلَافِهِ فِي الْحِرْزِ بِأَكْلٍ أَوْ احْتِلَابٍ مِنْ الضَّرْعِ، وَشُبْهَةُ نُقْصَانِ مَالِيَّتِهِ فِي الْحِرْزِ بِذَبْحٍ أَوْ تَحْرِيقٍ ثُمَّ إخْرَاجُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّبَهِ الضَّعِيفَةِ جِدًّا إلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ؟ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي مُغَالَبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَخْذِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ. وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَدُرِئَ. نَعَمْ إذَا بَانَ أَنَّ السَّارِقَ لَا حَاجَةَ بِهِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ السَّرِقَةِ قُطِعَ. [فَصْلٌ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَا تَتَعَيَّنُ فِي أَنْوَاعٍ] فَصْلٌ [صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَا تَتَعَيَّنُ فِي أَنْوَاعٍ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ» وَهَذِهِ كَانَتْ غَالِبَ أَقْوَاتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَّا أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ قُوتُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ صَاعٌ مِنْ قُوتِهِمْ، كَمَنْ قُوتُهُمْ الذُّرَةُ وَالْأُرْزُ أَوْ التِّينُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ، فَإِنْ كَانَ قُوتُهُمْ مِنْ غَيْرِ الْحُبُوبِ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالسَّمَكِ أَخْرَجُوا فِطْرَتَهُمْ مِنْ قُوتِهِمْ كَائِنًا مَا كَانَ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يُقَالُ بِغَيْرِهِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ سَدُّ خُلَّةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْعِيدِ وَمُوَاسَاتُهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ بَلَدِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَيُجْزِئُ إخْرَاجُ الدَّقِيقِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا إخْرَاجُ الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَنْفَعَ لِلْمَسَاكِينِ لِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَالْكُلْفَةِ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ الْحَبُّ أَنْفَعُ لَهُمْ لِطُولِ بَقَائِهِ وَأَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ مَا لَا يَتَأَتَّى مِنْ الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَ الْخُبْزُ وَالطَّعَامُ عِنْدَ الْمِسْكَيْنِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلسُّؤَالِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: «أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ» وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ الْمُخْرَجَةِ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ اتِّخَاذَ الْأَطْعِمَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، بَلْ كَانَ قُوتُهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ كَقُوتِهِمْ سَائِرَ السَّنَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قُوتُهُمْ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ مِنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 أُمِرُوا أَنْ يُطْعِمُوا مِنْهَا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ؛ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَادَتُهُمْ اتِّخَاذُ الْأَطْعِمَةِ يَوْمَ الْعِيدِ جَازَ لَهُمْ، بَلْ يُشْرَعُ لَهُمْ أَنْ يُوَاسُوا الْمَسَاكِينَ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بَدَلَ الْمُصَرَّاةِ] فَصْلٌ [هَلْ يَجِبُ فِي الْمُصَرَّاةِ رَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ؟] الْمِثَالُ الْخَامِسُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ فِي الْمُصَرَّاةِ عَلَى رَدِّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بَدَلَ اللَّبَنِ» ، فَقِيلَ: هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، حَتَّى فِي الْمِصْرِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُهُ بِالتَّمْرِ قَطُّ وَلَا رَأَوْهُ؛ فَيَجِبُ إخْرَاجُ قِيمَةِ الصَّاعِ فِي مَوْضِعِ التَّمْرِ، وَلَا يُجْزِئُهُمْ إخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ قُوتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ التَّمْرَ فِي الْمُصَرَّاةِ كَالتَّمْرِ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ لَا يُجْزِئُ سِوَاهُ، فَجَعَلُوهُ تَعَبُّدًا، فَعَيَّنُوهُ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ النَّصِّ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَقَالُوا: بَلْ يُخْرِجُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَاعًا مِنْ قُوتِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْغَالِبِ؛ فَيُخْرِجُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي قُوتُهُمْ الْبُرُّ صَاعًا مِنْ بُرٍّ، وَإِنْ كَانَ قُوتُهُمْ الْأُرْزَ فَصَاعًا مِنْ أُرْزٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّبِيبُ وَالتِّينُ عِنْدَهُمْ كَالتَّمْرِ فِي مَوْضِعِهِ أَجْزَأَ صَاعٌ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الصَّاعَ يَكُونُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ، بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ؛ فَيُحْمَلُ تَعْيِينُ صَاعِ التَّمْرِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ قُوتِ ذَلِكَ الْبَلَدِ. انْتَهَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَمَصْلَحَةِ الْمُتَعَاقِدِينَ مِنْ إيجَابِ قِيمَةِ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي مَوْضِعِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْهَا كَنَصِّهِ عَلَى الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخِرَقَ وَالْقُطْنَ وَالصُّوفَ أَوْلَى مِنْهَا بِالْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ نَصُّهُ عَلَى التُّرَابِ فِي الْغُسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَالْأُشْنَانُ أَوْلَى مِنْهُ، هَذَا فِيمَا عُلِمَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْهُ، وَحُصُولُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ بِنَظِيرِهِ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. [فَصْلٌ طَوَافُ الْحَائِضِ بِالْبَيْتِ] فَصْلٌ [طَوَافُ الْحَائِضِ بِالْبَيْتِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ الْحَائِضَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ، وَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، وَلَا بَيْنَ زَمَنِ إمْكَانِ الِاحْتِبَاسِ لَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَبَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَرَأَى مُنَافَاةَ الْحَيْضِ لِلطَّوَافِ كَمُنَافَاتِهِ لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؛ إذْ نَهْيُ الْحَائِضِ عَنْ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ، وَمُنَافَاةُ الْحَيْضِ لِعِبَادَةِ الطَّوَافِ كَمُنَافَاتِهِ لِعِبَادَةِ الصَّلَاةِ، وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا: صَحَّحَ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْحَيْضَ مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ، بَلْ جَعَلُوا الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً تُجْبَرُ بِالدَّمِ وَيَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ أَنَصُّهُمَا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا ارْتِبَاطَ الطَّهَارَةِ بِالطَّوَافِ كَارْتِبَاطِهَا بِالصَّلَاةِ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ، بَلْ جَعَلُوهَا وَاجِبَةً مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَارْتِبَاطَهَا بِهِ كَارْتِبَاطِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ بِهِ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِهَا وَيَجْبُرُهَا الدَّمُ، وَالْفَرِيقُ الثَّانِي جَعَلُوا وُجُوبَ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ وَاشْتِرَاطَهَا بِمَنْزِلَةِ وُجُوبِ السُّتْرَةِ وَاشْتِرَاطِهَا، بَلْ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتِهَا الَّتِي تَجِبُ وَتُشْتَرَطُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَتَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ، قَالُوا: وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ أَوْ وُجُوبُهَا لَهُ أَعْظَمَ مِنْ اشْتِرَاطِهَا لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا سَقَطَتْ بِالْعَجْزِ عَنْهَا فَسُقُوطُهَا فِي الطَّوَافِ بِالْعَجْزِ عَنْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَحْتَبِسُ أُمَرَاءُ الْحَجِّ لِلْحُيَّضِ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطُفْنَ، وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ صَفِيَّةَ وَقَدْ حَاضَتْ أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ فَلْتَنْفِرْ إذًا» وَحِينَئِذٍ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَقْدُورَةً لَهَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ بِهَا، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الرَّكْبِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ فَلَا تَخْلُو مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ لَهَا: أَقِيمِي بِمَكَّةَ وَإِنْ رَحَلَ الرَّكْبُ حَتَّى تَطْهُرِي وَتَطُوفِي، وَفِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ وَتَعْرِيضِهَا لِلْمُقَامِ وَحْدَهَا فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ مَعَ لُحُوقِ غَايَةِ الضَّرَرِ لَهَا مَا فِيهِ؛ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: يَسْقُطُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ شَرْطِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: إذَا عَلِمَتْ أَوْ خَشِيَتْ مَجِيءَ الْحَيْضِ فِي وَقْتِهِ جَازَ لَهَا تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ؛ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ حَيْضَهَا يَأْتِي فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَأَنَّهَا إذَا حَجَّتْ أَصَابَهَا الْحَيْضُ هُنَاكَ سَقَطَ عَنْهَا فَرْضُهُ حَتَّى تَصِيرَ آيِسَةً وَيَنْقَطِعَ حَيْضُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَحُجُّ فَإِذَا حَاضَتْ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ وَلَا الْمُقَامُ رَجَعَتْ وَهِيَ عَلَى إحْرَامِهَا تَمْتَنِعُ مِنْ النِّكَاحِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ حَتَّى تَعُودَ إلَى الْبَيْتِ فَتَطُوفَ وَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةُ سِنِينَ، ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا الْحَيْضُ فِي سَنَةِ الْعَوْدِ رَجَعَتْ كَمَا هِيَ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّ عَامٍ حَتَّى يُصَادِفَهَا عَامٌ تَطْهُرُ فِيهِ؛ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَتَحَلَّلُ إذَا عَجَزَتْ عَنْ الْمُقَامِ حَتَّى تَطْهُرَ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ، مَعَ بَقَاءِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهَا، فَمَتَى قَدَرَتْ عَلَى الْحَجِّ لَزِمَهَا؛ ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ذَلِكَ أَيْضًا تَحَلَّلَتْ، وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يُمْكِنَهَا الطَّوَافُ طَاهِرًا؛ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا كَالْمَعْضُوبِ، وَقَدْ أَجْزَأَ عَنْهَا الْحَجُّ، وَإِنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ الثَّامِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ تَفْعَلُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الشُّرُوطِ وَالْوَاجِبَاتِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ بِالنَّصِّ، وَكَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ السُّتْرَةِ إذَا شَلَّحَتْهَا الْعَبِيدُ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَكَمَا يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ طَهَارَةِ الْجُنُبِ إذَا عَجَزَتْ عَنْهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ مَرَضٍ بِهَا، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ مَكَانِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إذَا عَرَضَ فِيهِ نَجَاسَةٌ تَتَعَذَّرُ إزَالَتُهَا، وَكَمَا يَسْقُطُ شَرْطُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي، وَكَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الصَّوْمِ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْهُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْهَا إمَّا إلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا؛ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِسِوَى هَذَا الْقِسْمِ الثَّامِنِ؛ فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَإِنْ قَالَهُ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يَتَوَجَّهُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُتَوَجِّهٌ فِيمَنْ أَمْكَنَهَا الطَّوَافُ وَلَمْ تَطُفْ، وَالْكَلَامُ فِي امْرَأَةٍ لَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافُ وَلَا الْمُقَامُ لِأَجْلِهِ، وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقٌ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي نَظَائِرِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُكْرِيَ يَلْزَمُهُ الْمُقَامُ وَالِاحْتِبَاسُ عَلَيْهَا لِتَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفُ، فَإِنَّهُ كَانَ مُمْكِنًا بَلْ وَاقِعًا فِي زَمَنِهِمْ، فَأَفْتَوْا، بِأَنَّهَا لَا تَطُوفُ حَتَّى تَطْهُرَ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا إشْكَالَ، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ. وَإِيجَابُ سَفَرَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْحَاجِّ وَلَا سَبَبٍ صَدَرَ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ إيجَابَ حَجَّتَيْنِ إلَى الْبَيْتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ حَجَّةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ مَنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ قَدْ فَرَّطَ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَبِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُتِمُّ حَجَّتَهُ، وَأَمَّا هَذِهِ فَلَمْ تُفَرِّطْ وَلَمْ تَتْرُكْ مَا أُمِرَتْ بِهِ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمَرْ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَتْ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ إذَا عَجَزَ عَنْ الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْبَدَلِيَّةِ وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ قَدْ لَا يُمْكِنُهَا السَّفَرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فَإِذَا قِيلَ إنَّهَا تَبْقَى مُحْرِمَةً إلَى أَنْ تَمُوتَ، فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَأْتِي بِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي - وَهُوَ سُقُوطُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ - فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ مُقَدِّمَاتٌ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّالِثُ - وَهُوَ أَنْ تُقَدِّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى وَقْتِهِ إذَا خَشِيَتْ الْحَيْضَ فِي وَقْتِهِ - فَهَذَا لَا يُعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ كَالْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ الْحَجِّ إذَا خَشِيَتْ ذَلِكَ - فَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ لِمَا هُوَ دُونَ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ - كَمَا لَوْ كَانَ بِالطَّرِيقِ أَوْ بِمَكَّةَ خَوْفٌ، أَوْ أَخْذُ خِفَارَةٍ مُجْحِفَةٍ أَوْ غَيْرِ مُجْحِفَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ - وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَازِمَهُ سُقُوطُ الْحَجِّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِنَّ؛ فَإِنَّهُنَّ يَخَفْنَ مِنْ الْحَيْضِ وَخُرُوجِ الرَّكْبِ قَبْلَ الطُّهْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ شَرَائِطِهَا وَلَا عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا، وَغَايَةُ هَذِهِ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلِهَذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ فُرُوضِهَا أَوْ شُرُوطِهَا سَقَطَ عَنْهُ؛ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ إذَا عَجَزَ عَنْهُ مَاشِيًا فَعَلَهُ رَاكِبًا اتِّفَاقًا، وَالصَّبِيُّ يَفْعَلُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ فِيمَنْ تَكَلَّفَتْ وَحَجَّتْ وَأَصَابَهَا هَذَا الْعُذْرُ: فَمَا يَقُولُ صَاحِبُ هَذَا التَّقْدِيرِ حِينَئِذٍ؟ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: تَبْقَى مُحْرِمَةً حَتَّى تَعُودَ إلَى الْبَيْتِ، أَوْ يَقُولَ: تَتَحَلَّلُ كَالْمُحْصَرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ تَخَافُ الْحَيْضَ لَا يَعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ، وَلَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَةُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُسْقِطُ مَصْلَحَةُ الْحَجِّ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْ أَمْرٍ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ أَوْ شَرْطًا فِيهِ؛ فَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ. فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الْخَامِسُ - وَهِيَ أَنْ تَرْجِعَ وَهِيَ عَلَى إحْرَامِهَا مُمْتَنِعَةً مِنْ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ إلَى أَنْ تَعُودَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ إذَا أَصَابَهَا الْحَيْضُ رَجَعَتْ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّ عَامٍ - فَمِمَّا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلُ عَلَى الْأُمَّةِ عَلَى مِثْلَ هَذَا الْحَرَجِ، وَلَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ. فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ السَّادِسُ - وَهُوَ أَنَّهَا تَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصِرُ - فَهَذَا أَفْقَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَنَعَهَا خَوْفُ الْمُقَامِ إتْمَامَ النُّسُكِ، فَهِيَ كَمَنْ مَنَعَهَا عَدُوٌّ عَنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْإِحْصَارَ أَمْرٌ عَارِضٌ لِلْحَاجِّ بِمَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ الْبَيْتِ وَمِنْ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ عَدُوٍّ وَلَا مَرَضٍ وَلَا ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَإِذَا جُعِلَتْ هَذِهِ كَالْمُحْصَرِ أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا الْحَجَّ مَرَّةً ثَانِيَةً مَعَ خَوْفِ وُقُوعِ الْحَيْضِ مِنْهَا، وَالْعُذْرُ الْمُوجِبُ بِالْإِحْصَارِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِهِ مَنَعَ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ بِنِدَاءٍ كَإِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالْبَيْتِ وَتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ، وَهَذِهِ عُذْرُهَا لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَيَّ ابْتِدَاءٍ؛ فَلَا يَكُونُ عُرُوضُهُ مُوجِبًا لِلتَّحَلُّلِ كَالْإِحْصَارِ؛ فَلَازِمٌ هَذَا التَّقْدِيرُ أَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ يُصِيبُهَا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنْ يُسْقِطَ عَنْهَا فَرْضَ الْحَجِّ فَهُوَ رُجُوعٌ إلَى التَّقْدِيرِ الرَّابِعِ فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ السَّابِعُ - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا إذَا خَافَتْ الْحَيْضَ، وَتَكُونُ كَالْمَعْضُوبِ الْعَاجِزِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ تَقْدِيرٍ لَوْ عُرِفَ بِهِ قَائِلٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ عَاجِزَةٌ عَنْ إتْمَامِ نُسُكِهَا، وَلَكِنْ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمَعْضُوبَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ آيِسًا مِنْ زَوَالِ عُذْرِهِ، فَلَوْ كَانَ يَرْجُو زَوَالَ عُذْرِهِ كَالْمَرَضِ الْعَارِضِ وَالْحَبْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَذِهِ لَا تَيْأَسُ مِنْ زَوَالِ عُذْرِهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَبْقَى إلَى زَمَنِ الْيَأْسِ وَانْقِطَاعِ الدَّمِ أَوْ أَنَّ دَمَهَا يَنْقَطِعُ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ لِعَارِضٍ يَفْعَلُهَا أَوْ يُغَيِّرُ فِعْلَهَا؛ فَلَيْسَتْ كَالْمَعْضُوبِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. فَصْلٌ فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ تَعَيَّنَ التَّقْدِيرُ الثَّامِنُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ ضَرُورَةً مُقْتَضِيَةً لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالطَّوَافِ مَعَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ يُوَافِقُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ إذْ غَايَتُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ أَوْ الشَّرْطِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، وَلَا وَاجِبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ عَجْزٍ، وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فِي ذَلِكَ مَحْذُورَانِ؛ أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» فَكَيْفَ بِأَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ؟ الثَّانِي: طَوَافُهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ وَقَدْ مَنَعَهَا الشَّارِعُ مِنْهُ كَمَا مَنَعَهَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» فَاَلَّذِي مَنَعَهَا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهَا مِنْ الطَّوَافِ مَعَهُ. فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ دُخُولَ الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ خَافَتْ الْعَدُوَّ أَوْ مَنْ يَسْتَكْرِهُهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ أَوْ أَخْذِ مَالِهَا وَلَمْ تَجِدْ مَلْجَأً إلَّا دُخُولَ الْمَسْجِدِ جَازَ لَهَا دُخُولُهُ مَعَ الْحَيْضِ، وَهَذِهِ تَخَافُ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا تَخَافُ إنْ أَقَامَتْ بِمَكَّةَ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ، وَإِلَّا أَقَامَتْ بِغُرْبَةٍ ضَرُورَةً، وَقَدْ تَخَافُ فِي إقَامَتِهَا مِمَّنْ يَتَعَرَّضُ لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَنْ يَدْفَعُ عَنْهَا. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ طَوَافَهَا بِمَنْزِلَةِ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ الْمُرُورُ فِيهِ إذَا أَمِنَتْ التَّلْوِيثَ، وَهِيَ فِي دَوَرَانِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ مُرُورِهَا وَدُخُولِهَا مِنْ بَابٍ وَخُرُوجِهَا مِنْ آخَرَ؛ فَإِذَا جَازَ مُرُورُهَا لِلْحَاجَةِ فَطَوَافُهَا لِلْحَاجَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَةِ الْمُرُورِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ فِي تَلْوِيثِهِ الْمَسْجِدَ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلطَّوَافِ إذَا تَلَجَّمَتْ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ هَذِهِ أَوْلَى. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْعَهَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلطَّوَافِ كَمَنْعِ الْجُنُبِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمَا، وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» هَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنَّ عِبَادَةَ الطَّوَافِ لَا تَصِحُّ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ؟ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ تَقَادِيرَ، فَإِنْ قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُمْنَعْ صِحَّةُ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَكَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ الْإِذْنُ لَهَا فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَلْتَحِقُ بِالضَّرُورَةِ، وَيُقَيَّدُ بِهَا مُطْلَقُ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ بِأَوَّلِ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، وَإِنْ قِيلَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَغَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ، فَإِذَا عَجَزَتْ عَنْهَا سَقَطَ اشْتِرَاطُهَا كَمَا لَوْ انْقَطَعَ دَمُهَا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ وَالتَّيَمُّمُ فَإِنَّهَا تَطُوفُ عَلَى حَسَبِ حَالِهَا كَمَا تُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَحْذُورُ الثَّانِي - وَهُوَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ وَالطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ - فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الطَّوَافَ تَجِبُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُوبَ الطَّهَارَةِ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ مِنْ وُجُوبِهَا فِي الطَّوَافِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِلَا طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ بَاطِلَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعُرْيَانِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَالْعُرْيَانِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَإِنْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَالِ، بَلْ وَكَذَلِكَ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتُهَا آكَدُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ، فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ طَافَ سِتَّةَ أَشْوَاطٍ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ نَكَّسَ الصَّلَاةَ لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ نَكَّسَ الطَّوَافَ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَلَوْ صَلَّى مُحْدِثًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا صَحَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَغَايَةُ الطَّوَافِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَغَايَةُ هَذِهِ إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ لِلضَّرُورَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَتْ عُرْيَانَةً لِلضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ نَهْيَ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ عَنْ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ، بَلْ السِّتَارَةُ فِي الطَّوَافِ آكَدُ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَطَوَافَ الْحَائِضِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَحْدَهَا؛ الثَّانِي أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فِي الطَّوَافِ وَخَارِجِهِ؛ الثَّالِثُ: أَنَّ طَوَافَ الْعُرْيَانِ أَقْبَحُ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً مِنْ طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ فَإِذَا صَحَّ طَوَافُهَا مَعَ الْعُرْيِ لِلْحَاجَةِ فَصِحَّةُ طَوَافِهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَا يُقَالُ " فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا وَصَوْمُهَا مَعَ الْحَيْضِ لِلْحَاجَةِ " لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُوهَا إلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَلَاتَهَا زَمَنَ الطُّهْرِ مُغْنِيَةً لَهَا عَنْ صَلَاتِهَا فِي الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ صِيَامَهَا، وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُهَا [أَنْ] تَتَعَوَّضَ فِي حَالِ طُهْرِهَا بِغَيْرِ الْبَيْتِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهَهَا، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ قَسَّمَ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَائِضِ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يُمْكِنُهَا التَّعَوُّض عَنْهُ فِي زَمَنِ الطُّهْرِ فَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهَا فِي الْحَيْضِ، بَلْ أَسْقَطَهُ إمَّا مُطْلَقًا كَالصَّلَاةِ وَإِمَّا إلَى بَدَلِهِ زَمَنَ الطُّهْرِ كَالصَّوْمِ. وَقِسْمٍ لَا يُمْكِنُ التَّعَوُّضُ عَنْهُ وَلَا تَأْخِيرُهُ إلَى زَمَنِ الطُّهْرِ فَشَرَعُهُ لَهَا مَعَ الْحَيْضِ أَيْضًا كَالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ، وَمِنْ هَذَا جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهَا وَهِيَ حَائِضٌ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهَا التَّعَوُّضُ عَنْهَا زَمَنَ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَمْتَدُّ بِهَا غَالِبُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَلَوْ مُنِعَتْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصْلَحَتُهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَتْ مَا حَفِظَتْهُ زَمَنَ طُهْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْ الْحَائِضَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» لَمْ يَصِحَّ؛ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيث إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: إنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، كَأَنَّهُ يُضَعِّفُ رِوَايَتَهُ عَنْهُمْ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: إذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ لَوْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلَكِنَّهُ خَلَطَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى حَدِيثِهِ؛ فَإِسْمَاعِيلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: عَرَضْت عَلَى أَبِي حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا تَقْرَأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» فَقَالَ أَبِي: هَذَا بَاطِلٌ، يَعْنِي أَنَّ إسْمَاعِيلَ وَهِمَ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَبْقَ مَعَ الْمَانِعِينَ حُجَّةٌ إلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْجُنُبِ، وَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ مَانِعٌ مِنْ الْإِلْحَاقِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ التَّطَهُّرُ مَتَى شَاءَ بِالْمَاءِ أَوْ بِالتُّرَابِ فَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَنَابَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَائِضَ يُشْرَعُ لَهَا الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ مَعَ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَائِضَ يُشْرِعُ لَهَا أَنْ تَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْتَزِلَ الْمُصَلَّى بِخِلَافِ الْجُنُبِ. وَقَدْ تَنَازَعَ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْهَا الْقِرَاءَةَ: هَلْ يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَقْرَأَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَقَبْلَ الِاغْتِسَالِ؟ عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ تَصِيرُ كَالْجُنُبِ؛ الثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ وَالثَّالِثُ: إبَاحَتُهُ لِلنُّفَسَاءِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ؛ فَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِذَا لَمْ تُمْنَعْ الْحَائِضُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ فَعَدَمُ مَنْعِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي هِيَ أَشَدُّ حَاجَةً إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فَصْلٌ هَذَا إذَا كَانَ الْمَنْعُ مِنْ طَوَافِهَا لِأَجْلِ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَمُنَافَاتِهِ لِلطَّوَافِ، فَإِنْ قِيلَ بِالتَّقْدِيرِ الثَّالِثِ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ إذَا انْفَرَدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِالتَّقْدِيرِ الرَّابِعِ وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ كَالْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِقِيَامِ مَانِعٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ وَعَدَمَ الْمَانِعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَوْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهَا؛ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَهُمَا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْهَا الْمُقْتَضِيَةَ كَانَا خَارِجَيْنِ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» وَالصَّلَاةُ لَا تُشْرَعُ وَلَا تَصِحُّ مَعَ الْحَيْضِ، فَهَكَذَا شَقِيقُهَا وَمُشَبَّهُهَا، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ، وَعَكْسُهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَوْلَ بِاشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ لِلطَّوَافِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، بَلْ فِيهِ النِّزَاعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي: بَابٌ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ غَيْرَ طَاهِرٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: لَا يَطُوفُ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ إلَّا طَاهِرًا، وَالتَّطَوُّعُ أَيْسَرُ، وَلَا يَقِفُ مَشَاهِدَ الْحَجِّ إلَّا طَاهِرًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَافَ جُنُبًا نَاسِيًا صَحَّ طَوَافُهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَلَيْهِ دَمٌ وَثَالِثَةٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ الطَّوَافُ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، فَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَصِحُّ طَوَافُهَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ قَالَ شَيْخُنَا: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْخِلَافَ عَنْهُ فِي الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ. قَالَ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَفِي طَوَافِ الْجُنُبِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَيْمُونِيُّ فِي مَسَائِلِهِ: قُلْت لِأَحْمَدَ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ نَاسٍ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ، قَالَ: أُخْبِرُك مَسْأَلَةً فِيهَا وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ، وَذَكَر قَوْلَ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، قُلْت: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: دَعْهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ فِي مَسَائِلِهِ أَيْضًا: قُلْت لَهُ: مَنْ سَعَى وَطَافَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ، فَقَالَ لِي: مَسْأَلَةٌ النَّاس فِيهَا مُخْتَلِفُونَ، وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا يَقُولُ عَطَاءٌ مِمَّا يَسْهُلُ فِيهَا، وَمَا يَقُولُ الْحَسَنُ، وَأَنَّ عَائِشَةَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَاضَتْ «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ثُمَّ قَالَ لِي: إلَّا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بُلِيَتْ بِهِ نَزَلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قَبْلِهَا، قُلْت: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَقَالَ لِي: نَعَمْ كَذَا أَكْبَرُ عِلْمِي، قُلْت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ عَلَيْهَا دَمًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فَذَكَرَ تَسْهِيلَ عَطَاءٍ فِيهَا خَاصَّةً، وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا: هِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْتَبِهَةٌ فِيهَا مَوْضِعُ نَظَرٍ، فَدَعْنِي حَتَّى أَنْظُرَ فِيهَا، قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ يَرْجِعُ حَتَّى يَطُوفَ، قُلْت: وَالنِّسْيَانُ، قَالَ: النِّسْيَانُ أَهْوَنُ حُكْمًا بِكَثِيرٍ، يُرِيدُ أَهْوَنَ مِمَّنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا، هَذَا لَفْظُ الْمَيْمُونِيِّ قُلْت: وَأَشَارَ أَحْمَدُ إلَى تَسْهِيلِ عَطَاءٍ إلَى فَتْوَاهُ أَنَّ امْرَأَةً إذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ طَوَافَهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ، وَقَدْ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَاضَتْ فِي الطَّوَافِ، فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا هَذَا، وَالنَّاسُ إنَّمَا تَلَقَّوْا مَنْعَ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ دَلَّتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ أَوْلَى بِالْعُذْرِ، وَتَحْصِيلُ مَصْلَحَةِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَفُوتُهَا إذَا تَرَكَتْهَا مَعَ الْحَيْضِ مِنْ الْجُنُبِ، وَهَكَذَا إذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِ شَهْرَيْ التَّتَابُعِ لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مَعَ الْحَيْضِ بِلَا كَرَاهَةٍ بِالِاتِّفَاقِ سِوَى الطَّوَافِ؛ وَكَذَلِكَ تَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَرَاهَةٍ، بِالنَّصِّ. وَكَذَلِكَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عِنْدَ خَوْفِ النِّسْيَانِ؛ وَإِذَا حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهَا بَلْ تُتِمُّهُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ: «إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا أَمْرٌ بُلِيَتْ بِهِ نَزَلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا، وَالشَّرِيعَةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَهِيَ أَحَقُّ بِأَنْ تُعْذَرَ مِنْ الْجُنُبِ الَّذِي طَافَ مَعَ الْجَنَابَةِ نَاسِيًا أَوْ ذَاكِرًا؛ فَإِذَا كَانَ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ فَهِيَ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْجُنُبَ يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ وَهِيَ لَا يُمْكِنُهَا، فَعُذْرُهَا بِالْعَجْزِ وَالضَّرُورَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ إذَا ذَكَرَهُ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الشَّرْطِ وَالرُّكْنِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَعَهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ؛ فَهَذِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا إلَّا الطَّوَافُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَجَبَ عَلَيْهَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَسَقَطَ عَنْهَا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَهَذِهِ لَا تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا، وَقَدْ اتَّقَتْ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَتْ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُطْلَقُ يُقَيَّدُ بِدُونِ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ وَطِئَ فَحَجُّهُ مَاضٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الطَّوَافِ بِلَا طَهَارَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَوَارِقَ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ أَكْثَرُ مِنْ الْجَوَامِعِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ وَلَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ وَلَا قِرَاءَةٌ وَلَا تَشَهُّدٌ، وَلَا تَجِبُ لَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هُوَ وَالصَّلَاةُ فِي عُمُومِ كَوْنِهِ طَاعَةً وَقُرْبَةً، وَخُصُوصِ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْبَيْتِ، وَهَذَا لَا يُعْطِيه شُرُوطَ الصَّلَاةِ كَمَا لَا يُعْطِيه وَاجِبَاتِهَا وَأَرْكَانَهَا. وَأَيْضًا فَيُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنُهَا عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً وَاحِدَةً، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ؛ فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الدَّلَالَةِ. وَأَيْضًا فَالطَّهَارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَوَجَبَتْ حِينَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَجَبَتْ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِقْبَالُ. وَأَيْضًا فَهَذَا الْقِيَاسُ يُنْتَقَضُ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَيْتِ؛ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، وَأَيْضًا فَهَذَا قِيَاسٌ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ، فَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وَلَيْسَ إلْحَاقُ الطَّائِفِينَ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِمْ بِالْعَاكِفِينَ، بَلْ إلْحَاقُهُمْ بِالْعَاكِفِينَ أَشْبَهُ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي كُلِّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. فَإِنْ قِيلَ: الطَّائِفُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِطَهَارَةٍ. قِيلَ: وُجُوبُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهِ نِزَاعٌ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِمَا لَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الطَّوَافِ، وَلَيْسَ اتِّصَالُهُمَا بِأَعْظَمَ مِنْ اتِّصَالِ الصَّلَاةِ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ جَازَ؛ فَجَوَازُ طَوَافِهِ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَطَبَ جُنُبًا جَازَ. فَصْلٌ [حُكْمُ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ] وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الطَّوَافِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَكِنْ مَنْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: عَلَيْهَا دَمٌ، وَأَحْمَدُ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهَا دَمٌ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَنْ طَافَ جُنُبًا وَهُوَ نَاسٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قَالَ شَيْخُنَا: فَإِذَا طَافَتْ حَائِضًا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَهُنَا غَايَةُ مَا يُقَالُ عَلَيْهَا دَمٌ؛ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبٌ يُؤْمَرُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ، فَإِنَّ لُزُومَ الدَّمِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ مَعَ فِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَهَذِهِ لَمْ تَتْرُكْ مَأْمُورًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا فَعَلَتْ مَحْظُورًا، فَإِنَّهَا إذَا رَمَتْ الْجَمْرَةَ وَقَصَّرَتْ حَلَّ لَهَا مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهَا بِالْإِحْرَامِ غَيْرَ النِّكَاحِ؛ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ مَحْظُورٌ يَجِبُ بِفِعْلِهِ دَمٌ، وَلَيْسَتْ الطَّهَارَةُ مَأْمُورًا بِهَا مَعَ الْعَجْزِ فَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ مُمْكِنًا أُمِرَتْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ وَالْوَدَاعِ عَلَى أَنَّ طَوَافَهَا مَعَ الْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. قِيلَ: لَا رَيْبَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ طَوَافَ الْقُدُومِ عَنْ الْحَائِضِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا قَدِمَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ فَحَاضَتْ أَنْ تَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ» فَعُلِمَ أَنَّ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ مَحْظُورٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِلطَّوَافِ أَوْ لَهُمَا، وَالْمَحْظُورَاتُ لَا تُبَاحُ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهَا إلَى طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَلَا إلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا لَا يُوَدِّعُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا يُوَدِّعُ الْمُسَافِرُ عَنْهَا فَيَكُونُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، فَهَذَانِ الطَّوَافَانِ أُمِرَ بِهِمَا الْقَادِرُ عَلَيْهِمَا إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ اسْتِحْبَابٍ كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا رُكْنًا يَقِفُ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَيْهِ. وَهَذَا كَمَا يُبَاحُ لَهَا الدُّخُولُ إلَى الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يُبَاحُ لَهَا الصَّلَاةُ، وَلَا الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا، وَلَوْ حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى فِنَائِهِ فَأَتَمَّتْ اعْتِكَافَهَا وَلَمْ يَبْطُلْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ كَمَنْعِهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ لَا لِمُنَافَاةِ الْحَيْضِ لِعِبَادَةِ الطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ، وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِكَافُ يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَفِنَائِهِ جُوِّزَ لَهَا إتْمَامُهُ فِيهَا لِحَاجَتِهَا، وَالطَّوَافُ لَا يُمْكِنُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَحَاجَتُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى الِاعْتِكَافِ، بَلْ لَعَلَّ حَاجَتَهَا إلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثِ فِيهِ لِبَرْدٍ وَمَطَرٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي فَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي اقْتِضَاءِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ لَهَا لَا لِمُنَافَاتِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالثَّانِي: فِي أَنَّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ وَفَتَاوِيهِمْ فِي الِاشْتِرَاطِ وَالْوُجُوبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ وَالسَّعَةِ لَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ؛ فَالْإِفْتَاءُ بِهَا لَا يُنَافِي نَصَّ الشَّارِعِ، وَلَا قَوْلَ الْأَئِمَّةِ، وَغَايَةُ الْمُفْتِي بِهَا أَنَّهُ يُقَيِّدُ مُطْلَقَ كَلَامِ الشَّارِعِ بِقَوَاعِد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 شَرِيعَتِهِ وَأُصُولِهَا، وَمُطْلَقِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ بِقَوَاعِدِهِمْ وَأُصُولِهِمْ، فَالْمُفْتِي بِهَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ، وَلِقَوَاعِدِ الْأَئِمَّةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ. [فَصْلٌ جَمْعُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ] فَصْلٌ [حُكْمُ جَمْعِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ] الْمِثَالُ السَّابِعُ: أَنَّ الْمُطَلِّقَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ خَلِيفَتِهِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ كَانَ إذَا جَمَعَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ جُعِلَتْ وَاحِدَةً، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» ، وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ «أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ» ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ " وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِك، «أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو الصَّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت «أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» . وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَتَعْلَمُ «أَنَّ الثَّلَاثَ كُنَّ يُرْدَدْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَاحِدَةٍ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذِهِ غَيْرُ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثنا سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، ثنا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ طَلَّقْتهَا؟ قَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا، قَالَ: فَقَالَ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِد؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّمَا تِلْكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وَاحِدَةٌ، فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْتَ، قَالَ: فَرَاجَعَهَا» . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ، وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْإِسْنَادَ وَحَسَّنَهُ فَقَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي الْعَاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ» : هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، أَوْ قَالَ: وَاهٍ لَمْ يَسْمَعْهُ الْحَجَّاجُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ، وَالْعَزْرَمِيُّ لَا يُسَاوِي حَدِيثُهُ شَيْئًا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ» وَإِسْنَادُهُ عِنْدَهُ هُوَ إسْنَادُ حَدِيثِ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ. هَذَا وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ؛ فَهُوَ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَكَيْفَ إذَا عَضَّدَهُ مَا هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ؟ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ أُمَّ رُكَانَةَ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا، فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَخَذَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ وَفُلَانًا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ يَزِيدَ: طَلِّقْهَا فَفَعَلَ، فَقَالَ: رَاجِعْ امْرَأَتَك أُمَّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ، فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: قَدْ عَلِمْت، رَاجِعْهَا، وَتَلَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] » . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَرَدَّهَا إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ وَأَهْلُهُ وَأَعْلَمُ بِهِ، «وَأَنَّ رُكَانَةَ إنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً» . قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ - يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا - فَقَالَ: حَدِيثُ أَلْبَتَّةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ الْأَئِمَّةُ الْأَكَابِرُ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْبُخَارِيِّ ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ، وَبَيَّنُوا أَنَّهُ رِوَايَةُ قَوْمٍ مَجَاهِيلَ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ، وَأَحْمَدُ أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَقَالَ: حَدِيثُ رُكَانَةَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: حَدِيثُ رُكَانَةَ فِي الْبَتَّةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَرْوِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ الثَّلَاثَ أَلْبَتَّةَ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ رُكَانَةَ فِي الْبَتَّةِ، فَضَعَّفَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 تَوْسِعَةٌ مِنْ اللَّهِ لِعِبَادِهِ؛ إذْ جَعَلَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمَا كَانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكْ الْمُكَلَّفُ إيقَاعَ مَرَّاتِهِ كُلِّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ " كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَقَالَ: " أُقْسِمُ بِاَللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ هَذَا قَاتِلُهُ " كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا: " أَنَا أُقِرُّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنِّي زَنَيْت " كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ فَمَنْ يَعْتَبِرُ الْأَرْبَعَ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ إلَّا إقْرَارًا وَاحِدًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» فَلَوْ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ حَتَّى يَقُولَهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» الْحَدِيثَ؛ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِهِ حَتَّى يَقُولَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَا يَجْمَعُ الْكُلَّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ» لَا يَحْصُلُ هَذَا إلَّا بِقَوْلِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] وَهَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أَذِنَ لَك وَإِلَّا فَارْجِعْ» لَوْ قَالَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ هَكَذَا كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى يَسْتَأْذِنَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَلْفَاظِ فَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْأَفْعَالِ سَوَاءٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " إنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» فَهَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كُلُّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَمِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كَمَا أَنَّ حَدِيثَ اللِّعَانِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] . فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَهَذَا عُرْفُ التَّخَاطُبِ، وَهَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَعَهُ فِي عَصْرِهِ وَثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ عَصْرِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ؛ فَلَوْ عَدَّهُمْ الْعَادُّ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا لَوَجَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً إمَّا بِفَتْوَى وَإِمَّا بِإِقْرَارٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ فُرِضَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا لِلْفَتْوَى بِهِ، بَلْ كَانُوا مَا بَيْنَ مُفْتٍ وَمُقِرٍّ بِفُتْيَا وَسَاكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ. وَهَذَا حَالُ كُلِّ صَحَابِيٍّ مِنْ عَهْدِ الصِّدِّيقِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْأَلْفِ قَطْعًا كَمَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 بُكَيْر عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ أَلْفٌ وَمِائَتَا رَجُلٍ مِنْهُمْ سَبْعُونَ مِنْ الْقُرَّاءِ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْيَمَامَةِ وَأُصِيبَ فِيهِمْ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَّائِهِمْ فَزِعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْقُرْآنِ، وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَكُلُّ صَحَابِيٍّ مِنْ لَدُنْ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ كَانَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ فَتْوَى أَوْ إقْرَارًا أَوْ سُكُوتًا، وَلِهَذَا ادَّعَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ، وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى خِلَافِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مَنْ يُفْتِي بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَأَفْتَى بِهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ " وَأَفْتَى أَيْضًا بِالثَّلَاثِ، أَفْتَى بِهَذَا وَهَذَا. وَأَفْتَى بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، حَكَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ وَضَّاحٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ كَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَأَفْتَى بِهِ عِكْرِمَةُ، رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُ، وَأَفْتَى بِهِ طَاوُسٌ، وَأَمَّا تَابِعُو التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَأَفْتَى بِهِ خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَأَمَّا أَتْبَاعُ تَابِعِي التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو الْمُفْلِسِ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ قَوْلًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ، قَالَ: وَكَانَ الْجَدُّ يُفْتِي بِهِ أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ نَفْسُهُ فَقَدْ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاحِدَةً» بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ قَالَ: بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عِدَّةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ؛ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْقَوْلَ بِهِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَةٍ لَهُ، وَأَصْلُ مَذْهَبِهِ وَقَاعِدَتِهِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا صَحَّ لَمْ يَرُدَّهُ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَةٍ لَهُ، بَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ، كَمَا فَعَلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَتْوَاهُ فِي بَيْعِ الْأَمَةِ فَأَخَذَ بِرِوَايَتِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَتَرَكَ رَأْيَهُ، وَعَلَى أَصْلِهِ يَخْرُجُ لَهُ قَوْلُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْحَدِيثَ لِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي وَصَرَّحَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لَا تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ خَرَجَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَأَصْحَابُهُ يُخَرِّجُونَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَقْوَالًا دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ، وَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 يَأْتِ بَعْدَهُ إجْمَاعٌ يُبْطِلُهُ، وَلَكِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَهَانُوا بِأَمْرِ الطَّلَاقِ، وَكَثُرَ مِنْهُمْ إيقَاعُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ فَرَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ عُقُوبَتَهُمْ بِإِمْضَائِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَوْقَعَهُ جُمْلَةً بَانَتْ مِنْهُ الْمَرْأَةُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحَ رَغْبَةٍ يُرَادُ لِلدَّوَامِ لَا نِكَاحَ تَحْلِيلٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فِيهِ، فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ كَفُّوا عَنْ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُمْ فِي زَمَانِهِ. وَرَأَى أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ الصِّدِّيقِ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ كَانَ الْأَلْيَقَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَتَابَعُوا فِيهِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ مَنْ اتَّقَاهُ مَخْرَجًا، فَلَمَّا تَرَكُوا تَقْوَى اللَّهِ وَتَلَاعَبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَطَلَّقُوا عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَلْزَمَهُمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ كُلَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَلَعِبَ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يُعَاقَبَ، وَيُلْزَمَ بِمَا الْتَزَمَهُ، وَلَا يُقِرُّ عَلَى رُخْصَةِ اللَّهِ وَسَعَتِهِ، وَقَدْ صَعَّبَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يُطَلِّقْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ لَهُ، بَلْ اسْتَعْجَلَ فِيمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْأَنَاةَ فِيهِ رَحْمَةً مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَلَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ وَاخْتَارَ الْأَغْلَظَ وَالْأَشَدَّ؛ فَهَذَا مِمَّا تَغَيَّرَتْ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَعَلِمَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حُسْنَ سِيَاسَةِ عُمَرَ وَتَأْدِيبِهِ لِرَعِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ فَوَافَقُوهُ عَلَى مَا أَلْزَمَ بِهِ، وَصَرَّحُوا لِمَنْ اسْتَفْتَاهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ بُيِّنَ لَهُ، وَمَنْ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ جَعَلْنَا عَلَيْهِ لَبْسَهُ، وَاَللَّهِ لَا تَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَنَتَحَمَّلُهُ مِنْكُمْ، هُوَ كَمَا تَقُولُونَ. فَلَوْ كَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ ثَلَاثًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ قَدْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمَا كَانَ قَدْ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ «تَلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ؟ وَلَمَا تَوَقَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْإِيقَاعِ وَقَالَ لِلسَّائِلِ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ، فَاذْهَبْ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَمَّا جَاءَ إلَيْهِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ فَقَدْ جَاءَتْك مُعْضِلَةٌ، ثُمَّ أَفْتَيَاهُ بِالْوُقُوعِ. فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمُقَدَّمُهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا رَأَوْا النَّاسَ قَدْ اسْتَهَانُوا بِأَمْرِ الطَّلَاقِ وَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهُ وَلَبَسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ فِي التَّطْلِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ وَأَخَذُوا بِالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مَا حُدَّ لَهُمْ أَلْزَمُوهُمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ، وَأَمْضَوْا عَلَيْهِمْ مَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ التَّشْدِيدِ الَّذِي وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا حَقِيقٌ بِالْعُقُوبَةِ بِأَنْ يُنْفِذَ عَلَيْهِ مَا أَنْفَذَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ إذْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ وَتَيْسِيرَهُ وَمُهْلَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ طَلَّقَ مِائَةً: عَصَيْت رَبَّك وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتُك؛ إنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَك مَخْرَجًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ ثَلَاثًا، فَقَالَ: إنَّ عَمَّك عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، فَقَالَ: أَفَلَا تُحَلِّلُهَا لَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَالِمُ الَّذِي قَصْدُهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ فِي قَبُولِ الصَّحَابَةِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقْوَاهُمْ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي التَّطْلِيقِ، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ رُخْصَةُ اللَّهِ وَتَيْسِيرُهُ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الْأُحْمُوقَةَ، وَتَرَكُوا تَقْوَى اللَّهَ، وَلَبَسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَطَلَّقُوا عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ وَالصَّحَابَةِ مَعَهُ شَرْعًا وَقَدَرَ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْفَاذَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِبْقَاءَ الْإِصْرِ الَّذِي جَعَلُوهُ هُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ كَمَا جَعَلُوهُ، وَهَذِهِ أَسْرَارٌ مِنْ أَسْرَارِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ لَا تُنَاسِبُ عُقُولَ أَبْنَاءِ الزَّمَنِ، فَجَاءَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَضَوْا عَلَى آثَارِ الصَّحَابَةِ سَالِكِينَ مَسْلَكَهُمْ، قَاصِدِينَ رِضَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْفَاذَ دِينِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِظَنِّهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاَلَّذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا فَنُسِخَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ. قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَبَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُهُ؟ فَصْلٌ [فَتْوَى الصَّحَابِيِّ عَلَى خِلَافِ مَا رَوَاهُ] قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ لُزُومِ الثَّلَاثِ: النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا تَرْكُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَعْصُومِ لِمُخَالَفَةِ رَاوِيهِ لَهُ؛ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُ لَيْسَتْ مَعْصُومَةً، وَقَدْ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ بَرِيرَةَ عَلَى فَتْوَاهُ الَّتِي تُخَالِفُهَا فِي كَوْنِ بَيْعِ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا، وَأَخَذَ هُوَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ» وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الرَّمَلُ بِسُنَّةٍ، وَأَخَذُوا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ فِي مَنْعِ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً حَاضَتْ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَهَا فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عَطَاءٍ، فَذَكَرَهُ، وَأَخَذُوا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَقْدِيمِ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالنَّحْرِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ذَلِكَ، وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ فِيهِ دَمًا، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى قَوْلِهِ وَأَخَذُوا بِرِوَايَتِهِ، وَأَخَذَتْ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ» قَالُوا: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لِمُكْرَهٍ وَلَا لِمُضْطَهَدٍ طَلَاقٌ، وَأَخَذُوا هُمْ وَالنَّاسُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمَلًا شَارِدًا بِأَصَحِّ سَنَدٍ يَكُونُ، وَأَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَأَخَذَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ بِخَبَرِ عَائِشَةَ فِي التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهَا خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَنَاتُ إخْوَتِهَا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا، وَأَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا أَتَمَّتْ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يَدْعُوا رِوَايَتِهَا لِرَأْيِهَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي مُوسَى فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: لَا وُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَرْكِ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ إيجَابُ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ مِنْ أَكْلِ كُلِّ مَا مَسَّتْ النَّارُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِأَحَادِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ثَلَاثَتِهِمْ الْمَنْعُ مِنْ الْمَسْحِ جُمْلَةً؛ فَأَخَذُوا بِرِوَايَتِهِمْ وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ. وَاحْتَجُّوا فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ بِحَدِيثِ عُمَرَ «لَا يُقْتَصُّ لِوَلَدٍ مِنْ وَالِدِهِ» وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: لَأَقُصَّنَّ لِلْوَلَدِ مِنْ الْوَالِدِ؛ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِرَأْيِهِ بَلْ بِرِوَايَتِهِ، وَاحْتَجَّتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بِحَدِيثَيْنِ لَا يَصِحَّانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ يَكُونُ «أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ» وَأَخَذَتْ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثٍ لَا يَصِحُّ بَلْ هُوَ مِنْ وَضْعِ حِزَامِ بْنِ عُثْمَانَ وَمُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَلَبِيِّ، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ «لَا يَكُونُ صَدَاقٌ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ جَوَازُ النِّكَاحِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَاحْتَجُّوا هُمْ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِنَّ؛ فَقَدَّمُوا رِوَايَتَهُ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ عَلَى فَتْوَاهُ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ، وَأَخَذَتْ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ بِخَبَرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأَبَوَيْنِ، وَقَدْ خَالَفَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ» ، وَصَحَّ عَنْهُمْ النَّهْيُ عَنْ التَّمَتُّعِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِرِوَايَتِهِمْ وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَاءَانِ لَا يُجْزِئَانِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْحَمَّامِ، وَأَخَذَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 سُنَنُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْ الْحَوْضِ يَلَغُ فِيهِ الْكَلْبُ وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْحِمَارُ، فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْمَاءَ شَيْءٌ، وَأَخَذَتْ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «لَا زَكَاةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» مَعَ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِهِ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْهُ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ، وَتَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا جَاءَ الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَلَّدَهُ وَقَدْ خَالَفَهُ رِوَايَةً يَقُولُ: الْحُجَّةُ فِيمَا رَوَى، لَا فِي قَوْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَوْلُ الرَّاوِي مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ وَالْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ نَسْخُهُ، وَإِلَّا كَانَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِ، فَيَجْمَعُونَ فِي كَلَامِهِمْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، بَلْ قَدْ رَأَيْنَا فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ التَّنَاقُضِ، وَاَلَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ وَلَا يَسَعُنَا غَيْرُهُ وَهُوَ الْقَصْدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرَ يَنْسَخُهُ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْأُمَّةِ الْأَخْذُ بِحَدِيثِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا نَتْرُكُهُ لِخِلَافِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ لَا رِوَايَةً وَلَا غَيْرَهُ؛ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنْسَى الرَّاوِي الْحَدِيثَ، أَوْ لَا يَحْضُرُهُ وَقْتَ الْفُتْيَا، أَوْ لَا يَتَفَطَّنُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ يَتَأَوَّلُ فِيهِ تَأْوِيلًا مَرْجُوحًا، أَوْ يَقُومُ فِي ظَنِّهِ مَا يُعَارِضُهُ وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِي فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَهُ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَوْ قُدِّرَ انْتِفَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِانْتِفَائِهِ وَلَا ظَنِّهِ، لَمْ يَكُنْ الرَّاوِي مَعْصُومًا، وَلَمْ تُوجَبْ مُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ سُقُوطَ عَدَالَتِهِ حَتَّى تَغْلِبَ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتِهِ، وَبِخِلَافِ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ. فَصْلٌ [وَجْهُ تَغَيُّرِ الْفَتْوَى بِتَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ] إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَغَيَّرَتْ الْفَتْوَى بِهَا بِحَسَبِ الْأَزْمِنَةِ كَمَا عَرَفْتَ؛ لِمَا رَأَتْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَفْسَدَةَ تَتَابُعِ النَّاسِ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِإِمْضَائِهَا عَلَيْهِمْ، فَرَأَوْا مَصْلَحَةَ الْإِمْضَاءِ أَقْوَى مِنْ مَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ بَابُ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلَهُ مَفْتُوحًا بِوَجْهٍ مَا، بَلْ كَانُوا أَشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ، وَتَوَعَّدَ عُمَرُ فَاعِلَهُ بِالرَّجْمِ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِالطَّلَاقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي قَدْ شَكَتْ الْفُرُوجُ فِيهَا إلَى رَبِّهَا مِنْ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ، وَقُبْحِ مَا يَرْتَكِبُهُ الْمُحَلِّلُونَ مِمَّا هُوَ رَمَدٌ بَلْ عَمًى فِي عَيْنِ الدِّينِ وَشَجًى فِي حُلُوقِ الْمُؤْمِنِينَ: مِنْ قَبَائِحَ تُشْمِتُ أَعْدَاءَ الدِّينِ بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وَتَمْنَعُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِيهِ بِسَبَبِهِ، بِحَيْثُ لَا يُحِيطُ بِتَفَاصِيلِهَا خِطَابٌ، وَلَا يَحْصُرُهَا كِتَابٌ، يَرَاهَا الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَيَعُدُّونَهَا مِنْ أَعْظَمِ الْفَضَائِحِ، قَدْ قَلَبَتْ مِنْ الدِّينِ رَسْمَهُ، وَغَيَّرَتْ مِنْهُ اسْمَهُ، وَضَمَّخَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ فِيهَا الْمُطَلَّقَةَ بِنَجَاسَةِ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ طَيَّبَهَا لِلْحَلِيلِ، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ طِيبٍ أَعَارَهَا هَذَا التَّيْسُ الْمَلْعُونُ؟ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ حَصَلَتْ لَهَا وَلِمُطَلِّقِهَا بِهَذَا الْفِعْلِ الدُّونِ؟ أَتَرَوْنَ وُقُوفَ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَوْ الْوَلِيِّ عَلَى الْبَابِ وَالتَّيْسُ الْمَلْعُونُ قَدْ حَلَّ إزَارَهَا وَكَشَفَ النِّقَابَ وَأَخَذَ فِي ذَلِكَ الْمَرْتَعِ وَالزَّوْجُ أَوْ الْوَلِيُّ يُنَادِيه: لَمْ يُقَدَّمْ إلَيْك هَذَا الطَّعَامُ لِتَشْبَعَ، فَقَدْ عَلِمْت أَنْتَ وَالزَّوْجَةُ وَنَحْنُ وَالشُّهُودُ وَالْحَاضِرُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْكَاتِبُونَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّك لَسْت مَعْدُودًا مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَوْ أَوْلِيَائِهَا بِك رِضًا وَلَا فَرَحٌ وَلَا ابْتِهَاجٌ، وَإِنَّمَا أَنْتَ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ لِلضِّرَابِ، الَّذِي لَوْلَا هَذِهِ الْبَلْوَى لَمَا رَضِينَا وُقُوفَك عَلَى الْبَابِ؛ فَالنَّاسُ يُظْهِرُونَ النِّكَاحَ وَيُعْلِنُونَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَنَحْنُ نَتَوَاصَى بِكِتْمَانِ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ وَنَجْعَلُهُ أَمْرًا مَسْتُورًا؛ بِلَا نِثَارٍ وَلَا دُفٍّ وَلَا خِوَانٍ وَلَا إعْلَانٍ، بَلْ التَّوَاصِي بِهَسٍّ وَمَسٍّ وَالْإِخْفَاءِ وَالْكِتْمَانِ؛ فَالْمَرْأَةُ تُنْكَحُ لِدِينِهَا وَحَسَبِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، وَالتَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ لَا يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْسِكُ بِعِصْمَتِهَا، بَلْ قَدْ دَخَلَ عَلَى زَوَالِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ سَكَنًا لِصَاحِبِهِ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةً وَرَحْمَةً لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ مَقْصُودُ هَذَا الْعَقْدِ الْعَظِيمِ، وَتَتِمُّ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي شَرَعَهُ لِأَجْلِهَا الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ: هَلْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ، أَوْ هُوَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا الْعَقْدِ وَمَقْصُودِهِ وَمَصْلَحَتِهِ أَجْنَبِيٌّ غَرِيبٌ؟ وَسَلْهُ: هَلْ اتَّخَذَ هَذِهِ الْمُصَابَةَ حَلِيلَةً وَفِرَاشًا يَأْوِي إلَيْهِ؟ ثُمَّ سَلْهَا: هَلْ رَضِيَتْ بِهِ قَطُّ زَوْجًا وَبَعْلًا تَعُولُ فِي نَوَائِبِهَا عَلَيْهِ؟ وَسَلْ أُوَلِي التَّمْيِيزِ وَالْعُقُولِ: هَلْ تَزَوَّجَتْ فُلَانَةُ بِفُلَانٍ؟ وَهَلْ يُعَدُّ هَذَا نِكَاحًا فِي شَرْعٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ فِطْرَةِ إنْسَانٍ؟ وَكَيْفَ يَلْعَنُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ نَكَحَ نِكَاحًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا، وَلَمْ يَرْتَكِبْ فِي عَقْدِهِ مُحَرَّمًا وَلَا قَبِيحًا؟ وَكَيْفَ يُشْبِهُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَة الْمُحْسِنِينَ الْأَبْرَارِ؟ وَكَيْفَ تُعَيَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ طُولَ دَهْرِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَالْجِيرَانِ؛ وَتَظَلُّ نَاكِسَةً رَأْسَهَا إذَا ذُكِرَ ذَلِكَ التَّيْسُ بَيْنَ النِّسْوَانِ؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ: هَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ وَقْتَ هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ النِّفَاقِ، بِنَفَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ وَزْنِ صَدَاقٍ؟ وَهَلْ طَمِعَتْ الْمُصَابَةُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ حَدَّثَتْ نَفْسَهَا بِهِ هُنَالِكَ؟ وَهَلْ طَلَبَ مِنْهَا وَلَدًا نَجِيبًا وَاِتَّخَذَتْهُ عَشِيرًا وَحَبِيبًا؟ وَسَلْ عُقُولَ الْعَالَمِينَ وَفِطَرَهُمْ: هَلْ كَانَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَهُمْ تَحْلِيلًا، أَوْ كَانَ الْمُحَلَّلُ الَّذِي لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَهْدَاهُمْ سَبِيلًا؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ وَمَنْ اُبْتُلِيَتْ بِهِ: هَلْ تَجَمَّلَ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ كَمَا يَتَجَمَّلُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، أَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 رَغْبَةٌ فِي صَاحِبِهِ بِحَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَمَالٍ؟ وَسَلْ الْمَرْأَةَ: هَلْ تَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا هَذَا التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ أَوْ يَتَسَرَّى، أَوْ تَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا أُخْرَى، أَوْ تَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ وَصَنْعَتِهِ أَوْ حُسْنِ عِشْرَتِهِ وَسَعَةِ نَفَقَتِهِ؟ وَسَلْ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ: هَلْ سَأَلَ قَطُّ عَمَّا يَسْأَلُهُ عَنْهُ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ، أَوْ يَتَوَسَّلُ إلَى بَيْتِ أَحْمَائِهِ بِالْهَدِيَّةِ وَالْحُمُولَةِ وَالنَّقْدِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ خَاطِبُ الْمِلَاحِ؟ وَسَلْهُ: هَلْ هُوَ أَبُو يَأْخُذُ أَوْ أَبُو يُعْطِي؟ وَهَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ جَادَ هَذَا الْعَقْدَ: خُذِي نَفَقَةَ هَذَا الْعُرْسِ أَوْ حُطِّي؟ وَسَلْهُ: هَلْ تَحَمَّلَ مِنْ كُلْفَةِ هَذَا الْعَقْدِ خُذِي نَفَقَةَ هَذَا الْعُرْسِ أَوْ حُطِّي؟] وَسَلْهُ عَنْ وَلِيمَةِ عُرْسِهِ: هَلْ أَوْلَمَ وَلَوْ بِشَاةٍ؟ وَهَلْ دَعَا إلَيْهَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَضَى حَقَّهُ وَأَتَاهُ؟ وَسَلْهُ: هَلْ تَحَمَّلَ مِنْ كُلْفَةِ هَذَا الْعَقْدِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمُتَزَوِّجُونَ، أَمْ جَاءَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ الْأَصْحَابُ وَالْمُهَنَّئُونَ؟ وَهَلْ قِيلَ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا وَعَلَيْكُمَا وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ، أَمْ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ لَعْنَةً تَامَّةً وَافِيَةً؟ . فَصْلٌ ثُمَّ سَلْ مَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ: كَمْ مِنْ حُرَّةٍ مَصُونَةٍ أَنْشَبَ فِيهَا الْمُحَلِّلُ مَخَالِبَ إرَادَتِهِ فَصَارَتْ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَخْدَانِ وَكَانَ بَعْلُهَا مُنْفَرِدًا بِوَطْئِهَا فَإِذَا هُوَ وَالْمُحَلِّلُ فِيهَا بِبَرَكَةِ التَّحْلِيلِ شَرِيكَانِ؟ فَلَعَمْرُ اللَّهِ كَمْ أَخَرَجَ التَّحْلِيلُ مُخَدَّرَةً مِنْ سِتْرِهَا إلَى الْبِغَاءِ، وَأَلْقَاهَا بَيْنَ بَرَاثِنِ الْعُشَرَاءِ وَالْحُرَفَاءِ؟ وَلَوْلَا التَّحْلِيلُ لَكَانَ مَنَالُ الثُّرَيَّا دُونَ مَنَالِهَا، وَالتَّدَرُّعُ بِالْأَكْفَانِ دُونَ التَّدَرُّعِ بِجَمَالِهَا، وَعِنَاقُ الْقَنَا دُون عِنَاقِهَا، وَالْأَخْذُ بِذِرَاعِ الْأَسَدِ دُونَ الْأَخْذِ بِسَاقِهَا، وَسَلْ أَهْلَ الْخِبْرَةِ: كَمْ عَقَدَ الْمُحَلِّلُ عَلَى أُمٍّ وَابْنَتِهَا؟ وَكَمْ جَمَعَ مَاءَهُ فِي أَرْحَامِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ وَفِي رَحِمِ الْأُخْتَيْنِ؟ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بَاطِلُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ، وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِي كُتُبِ مَفَاسِدِ التَّحْلِيلِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالذِّكْرِ وَهِيَ كَمَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَمْوَاجِ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ عَدَّ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ؟ ، وَكَمْ مِنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ قَاصِرَةَ الطَّرْفِ عَلَى بَعْلِهَا، فَلَمَّا ذَاقَتْ عُسَيْلَةَ الْمُحَلِّلِ خَرَجَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَلَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلَ الْإِحْصَانِ وَالْعِفَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَمْلِهَا، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ وَأَحْكَمُهَا تَحْلِيلَهُ؟ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِلَعْنَتِهِ، وَسَمَّاهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ مِنْ بَيْنِ فُسَّاقِ أُمَّتِهِ، كَمَا شَهِدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِفَاحًا. أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ النَّسَائِيّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الثَّوْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة، وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ، وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ» وَصَحَّحَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ، وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُعْتَدِي فِيهَا، وَالْمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَخْنَسِيِّ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ» قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: عُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِيُّ ثِقَةٌ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ؛ فَالْإِسْنَادُ جَيِّدٌ، وَفِي كِتَابِ الْعِلَلِ لِلتِّرْمِذِيِّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثنا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ صَدُوقٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَخْنَسِيُّ ثِقَةٌ، وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَمُجَالِدٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ فَحَدِيثُهُ شَاهِدٌ وَمُقَوٍّ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 سَعْدٍ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ أُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِثَلَاثِ عِلَلٍ؛ إحْدَاهَا: أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ الْبُسْتِيَّ ضَعَّفَ مِشْرَحَ بْنَ هَاعَانَ. ، وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ عَنْ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، هُوَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ فِي أَيَّامِنَا، مَا أَرَى اللَّيْثَ سَمِعَهُ مِنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ؛ لِأَنَّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ. وَالْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرَهَا الْجُوزَجَانِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ فَقَالَ: كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا؛ فَأَمَّا الْعِلَّةُ الْأُولَى فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ: مِشْرَحٌ قَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَابْنِ مَعِينٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ حِبَّانَ، قُلْت: وَهُوَ صَدُوقٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ، لَمْ يَتَّهِمْهُ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَطُّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلَا ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: يَرْوِي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَنَاكِيرَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا؛ فَالصَّوَابُ تَرْكُ مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَانْفَرَدَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْقَوْلِ فِيهِ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّيْثِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُخْرِجْهُ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْبُخَارِيِّ بِهِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا؛ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ مِشْرَحٍ " فَإِنَّهُ يُرِيدُ [بِهِ] أَنَّ حَيْوَةَ مِنْ أَقْرَانِ اللَّيْثِ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ " قَالَ مِشْرَحٌ " وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ فَإِنَّ اللَّيْثَ كَانَ مُعَاصِرًا لِمِشْرَحٍ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ، وَطَلَبُ اللَّيْثُ الْعِلْمَ وَجَمْعُهُ لَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ مِشْرَحٍ حَدِيثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ. وَأَمَّا التَّعْلِيلُ الثَّالِثُ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً، وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَهُنَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ، رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي فَرِيقٍ ثنا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ، فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ، فَذَكَرَهُ. الثَّانِي: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيُّ نَفْسُهُ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ، وَقَالَ: هُوَ شَيْخٌ صَالِحٌ سَلِيمُ التَّأْدِيَةِ، قِيلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 لَهُ: كَانَ يُلَقِّنُ؟ قَالَ: لَا، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ، لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاس حَدِيثًا عَنْهُ؟ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ، وَمِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ، وَقَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ مَعْرُوفٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، انْتَهَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الشَّاذُّ أَنْ يَنْفَرِدَ الثِّقَةُ عَنْ النَّاسِ بِحَدِيثٍ، إنَّمَا الشَّاذُّ أَنْ يُخَالِفَ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَفِي إسْنَادِهِ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ قَوْمٌ، وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَقْرُونًا بِآخَرَ، وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ بَيْنَهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ: هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا، إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: هَذَا التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ. فَصْلٌ فَسَلْ هَذَا التَّيْسَ: هَلْ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمِ الْقِيَامَة» وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: النِّكَاحُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالْخِتَانُ، وَذَكَرَ الرَّابِعَةَ» وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النِّكَاحُ سُنَّتِي؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَهَلْ دَخَلَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَيْرُ هَذِهِ الْأَمَةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً؟ وَهَلْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ» وَذَكَرَ الثَّالِثَ، أَمْ حَقَّ عَلَى اللَّهِ لَعْنَتُهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ؟ وَسَلْهُ: هَلْ يَلْعَنُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يَفْعَلُ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ صَغِيرَةً، أَمْ لَعْنَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ مَا هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أَعْظَمُ مِنْهَا؟ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَسَلْهُ: هَلْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مُحَلِّلٌ وَاحِدٌ أَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى التَّحْلِيلِ؟ وَسَلْهُ لِأَيِّ شَيْءٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أُوتَى بِمُحَلَّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَسَلْهُ: كَيْفَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ حَرَامًا نَصًّا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي نِكَاحِ الزَّوْجَةِ إلَى وَقْتٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَيْرَ دَاخِلٍ عَلَى النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْمُحَرَّمِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي إنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُمْسِكَهَا سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ أَوْ دُونَهَا، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَلْبَتَّةَ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ انْقِطَاعَهُ وَزَوَالَهُ إذَا أَخْبَثَهَا بِالتَّحْلِيلِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي عَقْلٍ أَوْ شَرْعٍ تَحْلِيلُ هَذَا وَتَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ؟ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُتْعَةَ أُبِيحَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَفَعَلَهَا الصَّحَابَةُ، وَأَفْتَى بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ قَطُّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَفْتَى بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؟ وَلَيْسَ الْغَرَضُ بَيَانَ تَحْرِيمِ هَذَا الْعَقْدِ وَبُطْلَانِهِ وَذِكْرِ مَفَاسِدِهِ وَشَرِّهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا نَخْتَصِرُ فِيهِ الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا شَأْنُ التَّحْلِيلِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِ رَسُولِهِ، فَأَلْزَمَهُمْ عُمَرُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إذَا جَمَعُوهَا لِيَكُفُّوا عَنْهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحَرَّمُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى عَوْدِهَا بِالتَّحْلِيلِ، فَلَمَّا تَغَيَّرَ الزَّمَانُ، وَبَعُدَ الْعَهْدِ بِالسَّنَةِ وَآثَارِ الْقَوْمِ، وَقَامَتْ سُوقُ التَّحْلِيلِ وَنَفَّقَتْ فِي النَّاسِ؛ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلِيفَتِهِ مِنْ الْإِفْتَاءِ بِمَا يُعَطِّلُ سُوقَ التَّحْلِيلِ أَوْ يُقَلِّلُهَا وَيُخَفِّفُ شَرَّهَا، وَإِذَا عَرَضَ عَلَى مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَبَصَّرَهُ بِالْهُدَى وَفَقَّهَهُ فِي دِينِهِ مَسْأَلَةُ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَمَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ وَوَازَنَ بَيْنَهُمَا تَبَيَّنَ لَهُ التَّفَاوُتُ، وَعُلِمَ أَيُّ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَوْلَى بِالدِّينِ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ. فَهَذِهِ حُجَجُ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْك، وَقَدْ أُهْدِيَتْ إنْ قَبِلْتَهَا إلَيْك، وَمَا أَظُنُّ عَمَى التَّقْلِيدِ إلَّا يَزِيدُ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يَدَعُ التَّوْفِيقَ يَقُودَك اخْتِيَارًا إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إشَارَةً تُطْلِعُ الْعَالِمَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَمْرُ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَمْنَعُ التَّحْلِيلَ، أَفْتَى بِهَا الْمُفْتِي، وَقَدْ قَالَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ التَّحْلِيلِ، حَتَّى لَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِحِلِّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، لَكَانَ أَعْذَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمَانِعَةَ مِنْ التَّحْلِيلِ الْمُصَرِّحَةَ بِلَعْنِ فَاعِلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَيْهَا، وَالنُّصُوصُ الْمُشْتَرِطَةُ لِلدُّخُولِ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا التَّابِعُونَ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فَمُخَالَفَتُهَا أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحَادِيثِ التَّحْلِيلِ، وَالْحَقُّ مُوَافَقَةُ جَمِيعِ النُّصُوصِ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنْ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، ثُمَّ صَارَ فِي بَقِيَّةِ خِلَافَةِ عُمَرَ الثَّلَاثُ ثَلَاثٌ وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَعُمَرُ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَكُلُّهُمْ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ فِيهِ، ثُمَّ صَارَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ التَّحْلِيلُ كَثِيرًا مَشْهُورًا وَالثَّلَاثُ ثَلَاثًا. وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَة مُعَاقَبَةُ النَّاسِ بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ عُمَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ مِنْ لَمْ يَرْتَكِبْ مُحَرَّمًا عِنْدَ نَفْسِهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ عُقُوبَتَهُمْ بِذَلِكَ تَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّحْلِيلِ الَّذِي كَانَ مَسْدُودًا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَالْعُقُوبَةُ إذَا تَضَمَّنَتْ مُفْسِدَةً أَكْثَرَ مِنْ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ كَانَ تَرْكُهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ التَّحْلِيلَ مِمَّا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمَعَاذَ اللَّهِ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَتَعَيَّنَ عَلَى الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ الْمَنْعُ مِنْهُ جُمْلَةً، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ جَائِزٌ؛ إذْ لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى التَّحْلِيلِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا] فَصْلٌ [مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْأَقَارِيرِ وَالنُّذُورِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ: مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَلَفَ " لَا رَكِبْت دَابَّةً " وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسَ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَالُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ؛ فَيُفْتَى فِي كُلِّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ. وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ " لَا أَكَلْت رَأْسًا " فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ رُءُوسِ السَّمَكِ حَنِثَ بِأَكْلِ رُءُوسِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا اشْتَرَيْت كَذَا وَلَا بِعْته وَلَا حَرَثْت هَذِهِ الْأَرْضَ وَلَا زَرَعْتهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَادَتُهُ أَنْ لَا يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَالْمُلُوكِ حَنِثَ قَطْعًا بِالْإِذْنِ وَالتَّوْكِيلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 نَفْسُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَآحَادِ النَّاسِ فَإِنْ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ قَصَدَ عَدَمَ الْفِعْلِ وَالْمَنْعَ مِنْهُ جُمْلَةً حَنِثَ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ أَطْلَقَ اعْتَبَرَ سَبَبَ الْيَمِينِ وَبِسَاطَهَا وَمَا هَيَّجَهَا، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْلُ الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِلَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ لَهُ: جَارِيَتُك أَوْ عَبْدُك يَرْتَكِبَانِ الْفَاحِشَةَ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُمَا حُرَّانِ لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِمَا فَاحِشَةً؛ فَالْحَقُّ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُمَا لَا يُعْتَقَانِ بِذَلِكَ، لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ قَطْعًا. وَاللَّفْظُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ وَلَا ظَاهِرًا فِيهِ، بَلْ وَلَا مُحْتَمِلًا لَهُ، فَإِخْرَاجُ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنِي بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَذِنْت لَك فِي الْخُرُوجِ إلَى الْحَمَّامِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ إلَى الْحَمَّامِ، فَقَالَ لَهَا: اُخْرُجِي وَابْصُرِي، فَاسْتَفْتَى بَعْضَ النَّاسِ، فَأَفْتَوْهُ بِأَنَّهَا قَدْ طَلُقَتْ مِنْهُ، فَقَالَ لِلْمُفْتِي: بِأَيِّ شَيْءٍ أَوْقَعْت عَلَيَّ الطَّلَاقَ؟ قَالَ: بِقَوْلِك لَهَا اُخْرُجِي، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَقُلْ لَهَا ذَلِكَ إذْنًا، وَإِنَّمَا قُلْته تَهْدِيدًا، أَيْ: إنَّك لَا يُمْكِنُك الْخُرُوجُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] فَهَلْ هَذَا إذْنٌ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا مَا شَاءُوا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، أَنْتَ لَفَظْت بِالْإِذْنِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْت الْإِذْنَ، فَلَمْ يَفْقَهْ الْمُفْتِي هَذَا، وَغَلُظَ حِجَابُهُ عَنْ إدْرَاكِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَقُولُ هَذَا الْمُفْتِي: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] إذْنٌ لَهُ فِي الْكُفْرِ؟ وَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ الْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ الْمُطْلِقِينَ مَقَاصِدَهُمْ. وَمِنْ هَذَا إذَا قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي عَمَلٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ: أَعْتِقْنِي مِنْ هَذَا الْعَمَلِ، فَقَالَ: أَعْتَقْتُك، وَلَمْ يَنْوِ إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْهُ، لَمْ يُعْتَقْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ عَنْ امْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِي، وَنَوَى أُخْتِي فِي الدِّينِ، لَمْ تُحَرَّمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا. وَالصَّرِيحُ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ لِذَاتِهِ. وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ لِأَنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ لِمَعْنَاهُ؛ لِجَرَيَانِ اللَّفْظِ عَلَى لِسَانِهِ اخْتِيَارًا؛ فَإِذَا ظَهَرَ قَصْدُهُ بِخِلَافِ مَعْنَاهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمَ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ، وَلَا الْتَزَمَهُ، وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِ، بَلْ إلْزَامُهُ بِذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى الشَّرْعِ وَعَلَى الْمُكَلَّفِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا لِمَا لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهَا وَلَا نَوَاهَا، فَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَقْفِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ مُكْرَهًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِعَدَمِ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ؛ وَقَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُوجِبُ مَعْنَاهُ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَمَّنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَمْرٍ بِغَيْرِ تَلَفُّظٍ أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 عَمَلٍ، كَمَا رَفَعَهَا عَمَّنْ تَلَفَّظَ بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمَعْنَاهُ وَلَا إرَادَةٍ، وَلِهَذَا لَا يُكَفَّرُ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَفْظُ الْكُفْرِ سَبْقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِفَرَحٍ أَوْ دَهْشٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيث الْفَرَحِ الْإِلَهِيِّ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، وَضَرَبَ مَثَلَ ذَلِكَ بِمَنْ فَقَدَ رَاحِلَتَهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، فَأَيِسَ مِنْهَا ثُمَّ وَجَدَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك: " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ " وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قَالَ السَّلَفُ: هُوَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَلَوْ اسْتَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَأَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ مَنْ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ لَمْ يَقْصِدْهُ. [فَصْلٌ الطَّلَاقُ حَالَ الْغَضَبِ] [حُكْمُ الطَّلَاقِ حَالَ الْغَضَبِ] وَمِنْ هَذَا رَفْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الطَّلَاقِ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي إغْلَاقٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة حَنْبَلٍ: هُوَ الْغَضَبُ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَدَّمُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ، وَهِيَ عِنْدَهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ أَيْضًا، فَأَدْخَلَ يَمِينَ الْغَضْبَانِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ وَفِي يَمِينِ الْإِغْلَاقِ، وَحَكَاهُ شَارِحُ أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَهُوَ ابْنُ بَزِيزَةَ الْأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّ الْأَيْمَانَ الْمُنْعَقِدَةَ كُلَّهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ لَا تَلْزَمُ، وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ لِينٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: «لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ وَلَا عَتَاقٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ فَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» بِالْغَضَبِ، وَفَسَّرَهُ بِهِ مَسْرُوقٌ؛ فَهَذَا مَسْرُوقٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلُ، كُلُّهُمْ فَسَّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْغَضَبِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ، وَهُوَ كَالْمُكْرَهِ، بَلْ الْغَضْبَانُ أَوْلَى بِالْإِغْلَاقِ مِنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ قَصَدَ رَفْعَ الشَّرِّ الْكَثِيرِ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ، فَهُوَ قَاصِدٌ حَقِيقَةً، وَمِنْ هُنَا أَوْقَع عَلَيْهِ الطَّلَاقَ مَنْ أَوْقَعَهُ، وَأَمَّا الْغَضْبَانُ فَإِنَّ انْغِلَاقَ بَابِ الْقَصْدِ وَالْعِلْمِ عَنْهُ كَانْغِلَاقِهِ عَنْ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ غُولُ الْعَقْلِ يَغْتَالُهُ كَمَا يَغْتَالُهُ الْخَمْرُ، بَلْ أَشَدُّ، وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَلَا يَشُكُّ فَقِيهُ النَّفْسِ فِي أَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ: إنَّمَا الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، أَيْ عَنْ غَرَضٍ مِنْ الْمُطَلِّقِ فِي وُقُوعِهِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِجَابَةِ اللَّهِ دُعَاءَ رَسُولِهِ لَهُ، إذًا الْأَلْفَاظُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُوجِبَاتُهَا لِقَصْدِ اللَّافِظِ بِهَا، وَلِهَذَا لَمْ يُؤَاخِذْنَا اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِنَا، وَمِنْ اللَّغْوِ مَا قَالَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّهُ قَوْلُ الْحَالِفِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، فِي عَرَضِ كَلَامِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 مِنْ غَيْرِ عَقْدِ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِ الْحَالِفِ فِي عَرَضِ كَلَامِهِ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ، وَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِعَقْدِ الْيَمِينِ، بَلْ إذَا كَانَ اسْمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ يَمِينُ اللَّغْوِ فَيَمِينُ الطَّلَاقِ أَوْلَى أَلَّا يَنْعَقِدُ وَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي يَمِينِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ يَمِينٌ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ أَنْ يَقُولَ: لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِعَقْدِ الْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْقِدْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ قَطُّ، وَقَدْ «قَالَ حَمْزَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، وَكَانَ نَشْوَانًا مِنْ الْخَمْرِ، فَلَمْ يُكَفِّرْهُ بِذَلِكَ» ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قَرَأَ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يُعَدُّ بِذَلِكَ كَافِرًا؛ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَجَرَيَانِ اللَّفْظِ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ لِمَعْنَاهُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُهْمِلَ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَنِيَّتَهُ وَعُرْفَهُ، فَتَجْنِيَ عَلَيْهِ وَعَلَى الشَّرِيعَةِ، وَتَنْسُبَ إلَيْهَا مَا هِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهُ، وَتُلْزِمَ الْحَالِفَ وَالْمُقِرَّ وَالنَّاذِرَ وَالْعَاقِدَ مَا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ؛ فَفَقِيهُ النَّفْسِ يَقُولُ: مَا أَرَدْت، وَنِصْفُ الْفَقِيهِ يَقُولُ: مَا قُلْت؛ فَاللَّغْوُ فِي الْأَقْوَالِ نَظِيرُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْأَفْعَالِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: " رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " فَقَالَ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ. [فَصْلٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ] فَصْلٌ [الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى الشَّرْطِ] وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ فَإِنَّ إلْزَامَ الْحَالِفِ بِهِمَا إذَا حَنِثَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَعِتْقِ عَبْدِهِ مِمَّا حَدَثَ الْإِفْتَاءُ بِهِ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ؛ فَلَا يُحْفَظُ عَنْ صَحَابِيٍّ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ أَبَدًا، وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ إنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ فَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ إلَّا مَنْ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَسَمِ الْمَحْضِ وَالتَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْوُقُوعُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ الصَّحَابَةِ كُلِّهَا فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّهُمْ صَحَّ عَنْهُمْ الْإِفْتَاءُ بِالْوُقُوعِ فِي صُوَرٍ، وَصَحَّ عَنْهُمْ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي صُوَرٍ، وَالصَّوَابُ مَا أَفْتَوْا بِهِ فِي النَّوْعَيْنِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِ فَتَاوِيهِمْ وَيُتْرَكُ بَعْضُهَا، فَأَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الْوُقُوعُ فَالْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلَتْ كَذَا وَكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَفَعَلَتْهُ، قَالَ: هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هِيَ طَالِقٌ إلَى سَنَةٍ، قَالَ: يَسْتَمْتِعُ بِهَا إلَى سَنَةٍ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: إنْ عُدْتِ سَأَلْتِنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَهَهُنَا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ يَحْسُنُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ مَسْأَلَتِهِ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا ثُمَّ حَدَّثَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ، قَالَ: فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْت: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّي عَلَيْك لَتُحَدِّثَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ، قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا مَا غَضِبَ عَلَيَّ مِنْ قَبْلُ وَلَا مِنْ بَعْدُ، ثُمَّ قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، وَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدُ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فَأَصَابَ أَبَا ذَرٍّ مِنْ امْرَأَتِهِ وَإِلْحَاحِهَا عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ غَضَبَهُ وَقَالَ: إنْ عُدْتِ سَأَلْتِنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَهَذِهِ جَمِيعُ الْآثَارِ الْمَحْفُوظَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ. وَأَمَّا الْآثَارُ عَنْهُمْ فِي خِلَافِهِ فَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فِيمَنْ حَلَفَتْ بِأَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ عَبْدِهَا وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، أَنَّهَا تُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهَا وَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ: ثنا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثنا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ أَبِي: ثنا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك، قَالَ: فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ، قَالَ: فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ فَقَالَتْ: يَا زَيْنَبُ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكِ إنَّهَا قَالَتْ: إنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ. فَقَالَتْ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْت إلَيْهَا فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّه فِدَاكِ إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ، فَقَالَتْ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ، خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، قَالَتْ: فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا، فَقَامَ مَعِي عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: بيبى أَنْتِ وبيبى أَبُوك، فَقَالَ: أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ أَمْ أَيُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 شَيْءٍ أَنْتِ؟ أَفْتَتْكِ زَيْنَبُ وَأَفْتَتْكِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك، إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، فَقَالَ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك، وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْمُتَرْجَمِ لَهُ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ ثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي رُفَيْعٌ قَالَ: كُنْت أَنَا وَامْرَأَتِي مَمْلُوكَيْنِ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَحَلَفَتْ بِالْهَدْيِ وَالْعَتَاقَةِ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَنَا، فَأَتَيْت امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرْت لَهَا ذَلِكَ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا أَنْ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك، فَأَبَتْ، ثُمَّ أَتَيْت زَيْنَبَ وَأُمَّ سَلَمَةَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُمَا، فَأَرْسَلَتَا إلَيْهَا أَنْ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك، فَأَبَتْ، فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ: أَنْ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك، فَأَبَتْ، فَقَامَ ابْنُ عُمَرَ فَأَتَاهَا فَقَالَ: أَرْسَلَتْ إلَيْك فُلَانَةُ زَوْجَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَيْنَبُ أَنْ تُكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك فَأَبَيْتِ، قَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي حَلَفْت بِالْهَدْيِ وَالْعَتَاقَةِ، قَالَ: وَإِنْ كُنْت قَدْ حَلَفْت بِهِمَا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثنا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ثنا أَشْعَثُ ثنا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ مَوْلَاةً لَهُ أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَحَفْصَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَكُلُّهُمْ قَالُوا لَهَا: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكْفُرِي مِثْلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ؟ فَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا وَتُخَلِّي بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَنْصَارِيِّ: ثنا أَشْعَثُ ثنا بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ مَوْلَاتَهُ أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّق بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَيْهَا الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَحَفْصَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا لَهَا: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكْفُرِي مِثْلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا وَتُخَلِّي بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ رَوْحٌ وَالْأَنْصَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَحَدِيثُ رَوْحٍ مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: ثنا أَشْعَثُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالُوا: تُكَفِّرُ يَمِينَهَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ثنا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ لَيْلَى بِنْتَ الْعَجْمَاءِ مَوْلَاتَهُ قَالَتْ: هِيَ يَهُودِيَّةٌ، وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ إنْ لَمْ يُطَلِّقْ امْرَأَتَهُ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ: فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِي فَقَامَ بِالْبَابِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأَبُوك، فَقَالَ: أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ أَتَتْك زَيْنَبُ وَأَرْسَلَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 إلَيْك حَفْصَةُ، قَالَتْ: قَدْ حَلَفْت بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِسِيَاقِ هَذِهِ الطُّرُقِ انْتِفَاءُ الْعِلَّةِ الَّتِي أُعِلَّ بِهَا حَدِيثُ لَيْلَى هَذَا، وَهِيَ تُفْرِدُ التَّيْمِيَّ فِيهِ بِذِكْرِ الْعِتْقِ، كَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: " لَمْ يَقُلْ: وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إلَّا التَّيْمِيَّ " وَبَرِئَ التَّيْمِيُّ مِنْ عُهْدَةِ التَّفَرُّدِ، وَقَاعِدَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ؛ فَعَلَى أَصْلِهِ الَّذِي بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْأَثَرِ لِصِحَّتِهِ وَانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِلْحَدِيثِ عِلَّةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي مَنَعَتْ الْإِمَامَ أَحْمَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ حِينَ حَلَفَتْ بِكَذَا وَكَذَا وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، فَأَفْتَيْت بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ حِين أَفْتَيَا فِيمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ جَارِيَتِهِ وَأَيْمَانٍ فَقَالَ: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ. قُلْت: يُرِيدُ بِهِمَا مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَاضِرٍ، قَالَ: حَلَفَتْ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ ذِي أَصْبَحَ فَقَالَتْ مَالُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَارِيَتُهَا حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، لِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ زَوْجُهَا، فَحَلَفَ زَوْجُهَا أَنْ لَا تَفْعَلَهُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ، فَقَالَا: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: " مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ " فَتَتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهَا؛ فَقِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَثَرٌ مَعْلُولٌ تَفَرَّدَ بِهِ عُثْمَانُ، هَذَا وَحَدِيثُ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ أَشْهَرُ إسْنَادًا وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ، فَإِنَّ رُوَاتَهُ حُفَّاظٌ أَئِمَّةٌ، وَقَدْ خَالَفُوا عُثْمَانَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ مَا رَوَاهُ عُثْمَانُ فِيمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ، قَالَ: يُكَفِّرُ يَمِينَهُ، وَغَايَةُ هَذَا الْأَثَرِ إنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رِوَايَتَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى عَائِشَةَ وَزَيْنَبَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي قَوْلِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ: " كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك " كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ سِوَى هَذَا الْأَثَرِ الْمَعْلُولِ أَثَرِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَاضِرٍ] فِي قَوْلِ الْحَالِفِ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ فَعَلَ أَنَّهُ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يُلْزِمُوهُ بِالْعِتْقِ الْمَحْبُوبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَنْ لَا يُلْزِمُوهُ بِالطَّلَاقِ الْبَغِيضِ إلَى اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى، كَيْفَ وَقَدْ أَفْتَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؟ قَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ التَّيْمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِهِ لِأَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 [حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ] الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الشَّكِّ فِيهِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْمَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا يَقْضِي بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ بِحِنْثٍ، وَلَا يُعْرَفُ لِعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، هَذَا لَفْظُهُ بِعَيْنِهِ؛ فَهَذِهِ فَتْوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَتَاوِيهِمْ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْحَلِفِ مِمَّا لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَصَّ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ، وَكَمَا لَوْ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ الْكُفْرِ، فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِخْرَاجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ بِمَا لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ طَرْدُهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إذْ لَا فَرْقَ أَلْبَتَّةَ، وَالْعِلَّةُ مَتَى تَخَصَّصَتْ بِدُونِ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِهَا، كَيْفَ وَالْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ لُزُومَ الْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ بَلْ لُزُومَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ بَلْ لُزُومَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة هُوَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى؟ أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ فَإِذَا مَنَعَ لُزُومُهَا قَصْدَ الْيَمِينِ وَعَدَمَ قَصْدِ وُقُوعِهَا فَالطَّلَاقُ أَوْلَى، وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِي الطَّلَاقِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ فِي صُوَرِ الْإِلْزَامِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْتِزَامِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ قَدْ مَنَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهِيَ وُجُوبُ التَّطْلِيقِ وَفِعْلُهُ وَحُصُولُ أَثَرِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى مَنْعِ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْتِزَامِ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ تَارَةً وَبِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالشَّكِّ تَارَةً وَمَعَ هَذَا فَقَصْدُ الْيَمِينِ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ وَيَسْرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَسُرْعَةِ النُّفُوذِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَيَحْصُلُ بِالْمِلْكِ وَالْفِعْلِ قَدْ مَنَعَ قَصْدُ الْيَمِينِ مِنْ وُقُوعِهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى وَأَحْرَى بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ قَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْمُكَلَّفِ: " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي " عِنْدَ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالطَّلَاقِ فَدُخُولُهَا فِي قَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ: " إنْ حَلَفْت يَمِينًا فَعَبْدِي حُرٌّ ". فَدُخُولُهَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أَوْلَى وَأَحْرَى، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» فَدُخُولُهَا فِي قَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَدُخُولُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] أَوْلَى وَأَحْرَى بِالدُّخُولِ أَوْ مِثْلِهِ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فَلَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ مُولِيًا فَدُخُولُهَا فِي نُصُوصِ الْأَيْمَانِ أَوْلَى وَأَحْرَى لِأَنَّ الْإِيلَاءَ نَوْعٌ مِنْ الْيَمِينِ؛ فَإِذَا دَخَلَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ فِي النَّوْعِ فَدُخُولُهُ فِي الْجِنْسِ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّوْعَ مُسْتَلْزِمٌ الْحَبْسَ، وَلَا يَنْعَكِسُ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: «يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك» فَكَيْفَ لَا تَدْخُلُ فِي بَقِيَّةِ نُصُوصِ الْأَيْمَانِ؟ وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ هَذَا التَّخْصِيصَ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ؟ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ» فَهَلَّا دَخَلَتْ فِي غَيْرِهِ مِنْ نُصُوصِ الْيَمِينِ وَمَا الْفَرْقُ الْمُؤَثِّرُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ لُغَةً؟ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فَهَلَّا دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوْلِ الْحَالِفِ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " وَهِيَ الْأَيْمَانُ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ فَلِمَ لَا تَكُونُ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي لَفْظِ الْأَيْمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؟ فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُ الطَّلَاقِ يَمِينًا شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهَا وَجَبَ أَنْ تُعْطَى حُكْمَ الْأَيْمَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا شَرْعِيَّةً كَانَتْ بَاطِلَةً فِي الشَّرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا شَيْءٌ كَمَا صَحَّ عَنْ طَاوُسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْهُ: " لَيْسَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا " وَصَحَّ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ رِوَايَةِ سُنَيْدِ بْنِ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُ أَنَّهَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ، وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ قَاضِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا تَفْعَلُهُ هِيَ كَقَوْلِهِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَ: لَا تَطْلُقُ إنْ كَلَّمَتْهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ لَازِمٌ لِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ لَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ، وَجَعَلَهُ هَؤُلَاءِ كِنَايَةً، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَرِيحٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الرُّويَانِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ غَلَبَ فِي إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَاهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ فِي فَتَاوِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ طَلَّقْتُك، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ يَقُولُ: امْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ فُلَانَةُ طَالِقٌ، وَنَحْوَ هَذَا، وَلَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ، وَقَالَ: خَطَّأَ اللَّهُ نَوْأَهَا، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ، فَإِذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ إلَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَحَلِّهِ، وَلَمْ يُضِفْهُ فَلَا يَقَعُ، وَالْمُوَقِّعُونَ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ، وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِهِ إضَافَتُهُ إلَى الْمَحَلِّ، فَجَاءَتْ الْإِضَافَةُ مِنْ ضَرُورَةِ اللُّزُومِ، وَلِمَنْ نَصَرَ قَوْلُ الْقَفَّالِ أَنْ يَقُولَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا اللَّفْظِ قَدْ الْتَزَمَ التَّطْلِيقَ أَوْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ، وَلَا تَطْلُقُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ الْتَزَمَ الْوُقُوعَ فَالْتِزَامُهُ بِدُونِ سَبَبِ الْوُقُوعِ مُمْتَنِعٌ، وَقَوْلُهُ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " الْتِزَامٌ لِحُكْمِهِ عِنْدَ وُقُوعِ سَبَبِهِ، وَهَذَا حَقٌّ، فَأَيْنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وُجُودُ سَبَبِ الطَّلَاقِ؟ وَقَوْلُهُ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا؛ إذْ لَمْ يُضِفْ فِيهِ الطَّلَاقَ إلَى مَحَلِّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: " الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي "، وَلَمْ يُضِفْ فِيهِ الْعِتْقَ إلَى مَحَلِّهِ بِوَجْهٍ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقُولَ لَهُ: بِعْنِي أَوْ آجِرْنِي، فَيَقُولُ: الْبَيْعُ يَلْزَمُنِي، أَوْ الْإِجَارَة تَلْزَمُنِي، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُوجِبًا لِعَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ، حَتَّى يُضِيفَهُمَا إلَى مَحَلِّهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: " الظِّهَارُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُظَاهِرًا حَتَّى يُضِيفَهُ إلَى مَحَلِّهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: " الصَّوْمُ يَلْزَمُنِي، أَوْ الْحَجُّ، أَوْ الصَّدَقَةُ " فَإِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: وَهَهُنَا مَحَلُّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الذِّمَّةُ. [مَحَلُّ الطَّلَاقِ الزَّوْجَةُ] : قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، بَلْ مَحَلُّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ نَفْسُ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الذِّمَّةُ مَحَلُّ وُجُوبِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّطْلِيقُ وَالْإِعْتَاقُ، وَحِينَئِذٍ فَيَعُودُ الِالْتِزَامُ إلَى التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْوُقُوعَ، وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ " لَمْ تَطْلُقْ بِذَلِكَ لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَقِيلَ: تَطْلُقُ إذَا نَوَى طَلَاقَهَا هِيَ بِذَلِكَ، تَنْزِيلًا لِهَذَا اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الْكِنَايَاتِ، فَهَذَا كَشَفَ سِرَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ، وَأَكْثَرُ أَيْمَانِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 يَدَيْ اللَّهِ وَمَسْئُولٌ أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ يَجْهَلَ مَنْ يُفْتِي بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَسْعَى فِي قَتْلِهِ وَحَبْسِهِ وَيَلْبِسُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةُ إجْمَاعٍ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ أَقْوَالُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؟ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَعِبَادُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تُرَدَّ بِغَيْرِ الشَّكَاوَى إلَى الْمُلُوكِ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْكَاذِبِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ عِنْدَ كُلِّ لِسَانٍ قَائِلٍ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] . [فَصْلٌ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ فِي الطَّلَاقِ] فَصْلٌ [لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَلْفَاظِ] وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَلْفَاظِ، وَأَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِهَا أَحْكَامُهَا حَتَّى يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا قَاصِدًا لَهَا مُرِيدًا لِمُوجِبَاتِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ مُرِيدًا لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَتَيْنِ: إرَادَةِ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ اخْتِيَارًا، وَإِرَادَةِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، بَلْ إرَادَةُ الْمَعْنَى آكَدُ مِنْ إرَادَةِ اللَّفْظِ؛ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ وَاللَّفْظُ وَسِيلَةٌ، هُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِيمَنْ قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ " وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَتَرَكَ الْيَمِينَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ " أَنْتِ حُرَّةٌ " لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ حُرَّةً. ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ لَوْ قَالَ الْأَعْجَمِيُّ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَارًا لِلطَّلَاقِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ كَالْمُكْرَهِ، قَالُوا: فَلَوْ نَوَى مُوجِبَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَقَعْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اخْتِيَارُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا لَمْ يَكْفُرْ، وَفِي مُصَنَّفِ وَكِيعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا سَمِّنِي فَسَمَّاهَا الطَّيِّبَةَ، فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ لَهَا: مَا تُرِيدِينَ أَنْ أُسَمِّيَك؟ قَالَتْ: سَمِّنِي خَلِيَّةَ طَالِقٍ فَقَالَ لَهَا: فَأَنْتِ خَلِيَّةُ طَالِقٍ فَأَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا، وَقَالَ لِزَوْجِهَا خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجِعْ رَأْسَهَا، وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ الْحَيُّ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الْقُلُوبِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ تَلَفَّظَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي قَالَ لَمَّا وَجَدَ رَاحِلَتَهُ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ؛ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ وَإِنْ أَتَى بِصَرِيحِ الْكُفْرِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُرِدْهُ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَتَى بِصَرِيحِ كَلِمَتِهِ وَلَمْ يَكْفُرْ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَهْزِئِ وَالْهَازِلِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الطَّلَاقُ وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ هَازِلًا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلتَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ وَهَزْلُهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْمُورٌ بِمَا يَقُولُهُ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، وَالْهَازِلُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي الْهَزْلِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْعُقُودِ؛ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِاللَّفْظِ مَرِيدٌ لَهُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مَعْنَاهُ إكْرَاهٌ وَلَا خَطَأٌ وَلَا نِسْيَانٌ وَلَا جَهْلٌ، وَالْهَزْلُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عُذْرًا صَارِفًا، بَلْ صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَرَ الْمُكْرَهَ فِي تَكَلُّمِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْذِرْ الْهَازِلَ بَلْ قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] وَكَذَلِكَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مُضْمَرٍ] فَصْلٌ [تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مُضْمَرٍ] وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَقَالَ: أَرَدْت إنْ كَلَّمْت رَجُلًا أَوْ خَرَجْت مِنْ دَارِي، لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَرَدْت إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ لَهُمْ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا لَوْ قَالَ: " إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِهِ إلَى شَهْرٍ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ، لَمْ تَطْلُقْ بَاطِنًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ الْمَنْوِيَّةِ كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَشِيئَةِ الْمَنْوِيَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ، كَمَا إذَا قَالَ: " نِسَائِي طَوَالِقُ " وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالنِّيَّةِ فِي إخْرَاجِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالنِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ بِوَضْعِهِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهَا بِعُمُومِهِ فَإِخْرَاجُ بَعْضِهَا تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، وَغَايَتُهُ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ فِي الْخَاصِّ أَوْ الْمُطْلَقِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ بِدْعٍ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» فَالصَّوَابُ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ أَيْضًا. [فَصْلٌ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَرَامِ لَهُ صِيغَتَانِ] فَصْلٌ [لِلْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَرَامِ صِيغَتَانِ] قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَهُ صِيغَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالثَّانِيَةُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِي الصِّيغَتَيْنِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَهَكَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الْحَلِفُ بِالْحَرَامِ لَهُ صِيغَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالثَّانِيَةُ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، فَمَنْ قَالَ فِي " الطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي " إنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةَ وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ فَفِي قَوْلِهِ " الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي " أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ كِنَايَةٌ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِلَّا فَلَا فَهَكَذَا يَقُولُ فِي " الْحَرَامِ يَلْزَمُنِي " إنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ كَانَ كَمَا لَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ، فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُحَرِّمَ كَمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ؛ فَهَذَا الْتِزَامٌ لِلتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لِلتَّطْلِيقِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ يَلْزَمُنِي تَحْرِيمُهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا تَحْرِيمًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا ظِهَارًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ لَفْظٍ لَمْ يُوضَعْ لِلطَّلَاقِ وَلَا نَوَاهُ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ الْيَمِينِ؛ إذْ لَيْسَتْ كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ وَلَا هِيَ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَهِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَبِهَذَا أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَصَحَّ عَنْهُ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ «الْحَرَامُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا» ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَهَكَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَهَذَا أَوْلَى بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ". وَفِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " أَوْ: " مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ " أَوْ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ " مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَدَاوُد وَجَمِيعُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ اخْتَارَهُ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ «سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْت امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَصَحَّ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ: لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ نَعْلِي. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مَا أُبَالِي أَحَرَّمْت امْرَأَتِي أَوْ حَرَّمْت مَاءَ النَّهْرِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: إنَّ رَجُلًا جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ حَرَامًا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدٍ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ فَاذْهَبْ فَالْعَبْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فَصْلٌ الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَضَى فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ بِالثَّلَاثِ فِي عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ وَقَالَ لَهُ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ مَسِسْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَك لَأَرْجُمَنَّك، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّلَاثِ، فَكَانَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا حَرَامًا عَلَيْهِ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا بِهَذَا الْقَوْلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، صَحَّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ طَلَاقًا، بَلْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ. وَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، أَوْ يَكُونَ أَرَادَ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَهُ إنَّمَا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ؛ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى تَحْرِيمِهِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: الْوَقْفُ فِيهَا، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: يَقُولُ رِجَالٌ فِي " الْحَلَالُ حَرَامٌ " إنَّهَا حَرَامٌ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَيَنْسُبُونَهُ إلَى عَلِيٍّ، وَاَللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ عَلِيٌّ، إنَّمَا قَالَ: مَا أَنَا بِمُحِلِّهَا وَلَا بِمُحَرِّمِهَا عَلَيْك، إنْ شِئْت فَتَقَدَّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخَّرْ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ السَّبَبِ الَّذِي يُحَرِّمُ بِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا هُوَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشَّرْعِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمِينٌ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْحَسَنِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِهِ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . الْمَذْهَبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ نَوَى بِهَا الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ كَذِبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ وَحَكَاهُ النَّخَعِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ لِمَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَتْبَعُ نِيَّتَهُ. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ: مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، فَإِذَا طَلَّقَ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ يَمِينًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ: مِثْلُ هَذَا أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إعْمَالًا لِلَفْظِ التَّحْرِيمِ. الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي قِلَابَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَشْبِيهَ الْمَرْأَةِ بِأُمِّهِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ ظِهَارًا، وَجَعَلَهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا، فَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَةِ يَجْعَلُهُ مُظَاهِرًا فَإِذَا صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا كَانَ أَوْلَى بِالظِّهَارِ. وَهَذَا أَقْيَسُ الْأَقْوَالِ وَأَفْقَهُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُكَلَّفِ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مُبَاشَرَةَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، فَالسَّبَبُ إلَى الْعَبْدِ، وَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " أَوْ قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورَ، وَكَذَبَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ، وَلَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ أَغْلَظَ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. الْمَذْهَبُ الْعَاشِرُ: أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَطْلِيقَ التَّحْرِيمِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِالثَّلَاثِ، بَلْ يَصْدُقُ بِأَقَلِّهِ، وَالْوَاحِدَةُ مُتَيَقَّنَةٌ؛ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الْيَقِينُ؛ فَهُوَ نَظِيرُ التَّحْرِيمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. الْمَذْهَبُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي مَا أَرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي إرَادَةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَيَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى تَحْرِيمًا مُجَرَّدًا كَانَ امْتِنَاعًا مِنْهَا بِالتَّحْرِيمِ كَامْتِنَاعِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ يَنْوِي أَيْضًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ بَائِنَةً؛ لِاقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ لِلْبَيْنُونَةِ وَهِيَ صُغْرَى وَكُبْرَى، وَالصُّغْرَى هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ فَاعْتُبِرَتْ دُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 الْكُبْرَى، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى إنْ نَوَى الْكَذِبَ دُيِّنَ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، بَلْ يَكُونُ مُولِيًا، وَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَهُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ " أَعْنِي بِهِ الظِّهَارَ " لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا. الْمَذْهَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَخَلْقٍ سِوَاهُمْ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فَرْضَ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ عَقِبَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ يَقِينًا؛ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا وَيَخْرُجُ الْمَذْكُورُ عَنْ حُكْمِ التَّحِلَّةِ الَّتِي قُصِدَ ذِكْرُهَا لِأَجْلِهِ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ، صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمِينًا مُغَلَّظَةً غَلُظَتْ كَفَّارَتُهَا بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ، وَوَجْهُ تَغْلِيظِهَا تَضَمُّنُهَا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ، وَقَوْلُ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ إنْ أَرَادَ الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي إخْبَارِهِ مُعْتَدٍ فِي إقْسَامِهِ؛ فَغَلُظَتْ كَفَّارَتُهُ بِتَحَتُّمِ الْعِتْقِ كَمَا غَلُظَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِهِ أَوْ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا. الْمَذْهَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ، ثُمَّ إنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَهُوَ مَا نَوَاهُ مِنْ الْوَاحِدَةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْهَا، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اقْتَضَى التَّحْرِيمَ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرَّمُ بِوَاحِدَةٍ، وَالْمَدْخُولُ بِهَا لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِالثَّلَاثِ. [أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ] وَبَعْدُ فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، هَذَا أَحَدُهَا، وَهُوَ مَشْهُورُهَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ ثَلَاثٌ بِكُلِّ حَالٍ نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا، اخْتَارَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ فِي مَبْسُوطِهِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مُطْلَقًا، حَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، الرَّابِعُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، الْخَامِسُ أَنَّهُ مَا نَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ عَرَفْت تَوْجِيهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فَصْلٌ [تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ] : وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّحْرِيمَ كَانَ تَحْرِيمًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا تَقَدُّمُ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَكَانَ مَا نَوَاهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَلِأَصْحَابِهِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ كِنَايَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْأَمَةِ، قَالُوا: فَلَوْ قَالَ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَقَالَ " أَرَدْت بِهَا الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ " فَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ: يُقَالُ لَهُ عَيِّنْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَصْلُحُ لِلظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ مَعًا، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْهُمَا، قَالُوا: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَأَنْكَرَهُ فَقَالَ " الْحِلُّ عَلَيْك حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي لَا نِيَّتُك، مَا لِي عَلَيْك شَيْءٌ " فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ نِيَّتُك مَا لَك عِنْدِي شَيْءٌ، كَانَتْ النِّيَّةُ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا الْمُحَلِّفِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ إلَيْهِ الْإِيقَاعُ. فَصْلٌ [تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ] وَأَمَّا تَحْرِيمُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِمُطْلَقِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهُ يَمِينٌ بِمُطْلَقِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الظِّهَارَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ ظِهَارٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَلَا طَلَاقًا، كَمَا لَوْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الْيَمِينَ بِقَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ صَرِيحَانِ فِي الظِّهَارِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ " أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ " فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: يَكُونُ ظِهَارًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ التَّحْرِيمَ؛ إذْ التَّحْرِيمُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِإِرَادَتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إنْ قَالَ " أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا " طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَ " أَعْنِي بِهِ الطَّلَاقَ " فَهَلْ تَطْلُقُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَأْخَذُهُمَا حَمْلُ اللَّازِمِ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ الْعُمُومِ، هَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِ وَتَقْرِيرُهُ. [مَذْهَبُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ] وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 النَّصُّ وَالْقِيَاسُ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَوْقَعَهُ كَانَ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَكَانَ أَوْلَى بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِمَّنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْتِزَامِ الْعِتْقِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ، أَوْ أَحُجَّ، أَوْ أَصُومَ " لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ: " إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ ذَلِكَ " عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: " هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ " كَفَرَ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ " كَانَ يَمِينًا، وَطَرْدُ هَذَا - بَلْ نَظِيرُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ - أَنَّهُ إذَا قَالَ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " كَانَ ظِهَارًا؛ فَلَوْ قَالَ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " كَانَ يَمِينًا، وَطَرْدُ هَذَا أَيْضًا إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ قَالَ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ " كَانَ يَمِينَهُ، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَّرِدَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمِيزَانِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [مَنْشَأُ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ] وَمِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي لَمْ يُلْزِمْ بِهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ لِمَنْ حَلَفَ بِهَا الْأَيْمَانَ الَّتِي رَتَّبَهَا الْفَاجِرُ الظَّالِمُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَهِيَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ «وَكَانَتْ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُصَافَحَةِ، وَبَيْعَةُ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ، وَمَا مَسَّتْ يَدُهُ الْكَرِيمَةُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا، فَيَقُولُ لِمَنْ يُبَايِعُهُ: بَايَعْتُك، أَوْ أُبَايِعُك، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ» ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَيَقُولُ: فِيمَا اسْتَطَعْت» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ» . [كَيْفَ كَانَتْ بَيْعَةُ النَّبِيِّ لِلنَّاسِ؟] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا تَأْخُذُنَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ «جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا أَصْلَحَك اللَّهُ بِحَدِيثٍ نَنْتَفِعُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْنَاهُ، وَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ إلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إذَا هَاجَرْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّتْ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْمِحْنَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ وَلَا وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ» . «قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاَللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا» . فَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] وَقَالَ فِيهَا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] . [أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ الثَّقَفِيُّ] فَأَحْدَثَ الْحَجَّاجُ فِي الْإِسْلَامِ بَيْعَةً غَيْرَ هَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَصَدَقَةَ الْمَالِ وَالْحَجَّ؛ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَحْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَشْفَهَا؛ فَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِقَوْلِهِ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " الْبَيْعَةَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَايِعُ عَلَيْهَا أَصْحَابَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا رَتَّبَهُ الْحَجَّاجُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تِلْكَ الْبَيْعَةَ وَنَوَى الْبَيْعَةَ الْحَجَّاجِيَّةَ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَذْكُرَ فِي لَفْظِهِ طَلَاقًا أَوْ عَتَاقًا أَوْ حَجًّا أَوْ صَدَقَةً أَوْ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَوْ لَا يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَضْمُونِهَا أَوْ لَا؛ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَنْوِيَ مَضْمُونَهَا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَ مَا فِيهَا أَوْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تَقَاسِيمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ] فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: إنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا أَوْ حَجَّهَا أَوْ صَدَقَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ؛ فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَمْ يُوجَدْ، وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْإِيقَاعَ، فَأَمَّا الِالْتِزَامُ فَلَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْإِقْرَارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ إقْرَارًا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ، وَمِنْ هَهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ: إذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ " لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الِالْتِزَامَاتِ، وَلِهَذَا لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ. [مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ] وَأَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ: لَسْت أُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَلَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ شُيُوخِنَا يُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ، قَالَ: وَكَانَ أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَبَا عَلِيٍّ - يَهَابُ الْكَلَامَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَالِفُ بِهَا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَيْمَانِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: عَرَفَهَا أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ لِمُوجِبِهَا صَارَ نَاوِيًا لَهُ مَعَ التَّلَفُّظِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اللُّزُومِ، وَمَتَى وَجَدَ سَبَبَ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ ثَبَتَ مُوجِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، أَوْ مَالِكٌ عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنُهُ، صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ " ضَمَانُ عُهْدَةِ هَذَا الْمَبِيعِ عَلَيَّ " صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ: إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي الْقَسَمِ، وَالْكِنَايَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، قَالُوا: وَإِنْ عَرَفَهَا وَلَمْ يَنْوِ عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فِيهَا لَمْ تَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ عَرَفَهَا وَنَوَى الْيَمِينَ بِمَا فِيهَا صَحَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ، دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: تَنْعَقِدُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ دُونَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِيهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ الَّذِي تَعْظِيمُهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ. فَصْلٌ [مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ] وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ فِيهَا قَوْلٌ؛ وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ نِسَائِهِ وَالْعِتْقِ فِي جَمِيعِ عَبِيدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وَالْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ وَالْحَجُّ وَلَوْ مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ جُلُّ الْأَنْدَلُسِيِّينَ: إنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لَهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: إنَّمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَأَلْزَمَهُ بَعْضُهُمْ صَوْمَ سَنَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَادًا لِلْحَلِفِ بِذَلِكَ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّفَاوُتَ الْعَظِيمَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. [فَصْلٌ الْحَلِفُ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ] فَصْلٌ [الْحَلِفُ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ] وَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا لَوْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ، أَوْ قَالَ: جَمِيعُ الْأَيْمَانِ تَلْزَمُنِي، أَوْ حَلَفَ بِأَشَدِّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ إنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ كِسْوَةِ الْعُرْيَانِ وَإِطْعَامِ الْجِيَاعِ وَالِاعْتِكَافِ وَبِنَاءِ الثُّغُورِ وَنَحْوِهَا مُلَاحَظَةً لِمَا غَلَبَ الْحَلِفُ بِهِ عُرْفًا، فَأَلْزَمْنَاهُ بِهِ، لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى الْعُرْفِيُّ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ، وَاخْتَصَّ حَلِفُهُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْمُشْتَهِرَةُ، وَلَفْظُ الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَيْسَ الْمُدْرَكُ أَنَّ عَادَتَهُمْ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مُسَمَّيَاتِهَا، وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يَحُجُّونَ، بَلْ غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي دُونَ غَيْرِهَا، قَالُوا: وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ مَنْ كَثُرَتْ عَادَتُهُ بِالْحَلِفِ بِصَوْمِ سَنَةٍ لَزِمَهُ صَوْمُ سَنَةٍ، فَجَعَلُوا الْمُدْرَكَ الْحَلِفَ اللَّفْظِيَّ دُونَ الْعُرْفِيِّ النَّقْلِيِّ، قَالُوا: وَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَنَّهُ اُشْتُهِرَ حَلِفُهُمْ وَنَذْرُهُمْ بِالِاعْتِكَافِ وَالرِّبَاطِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ وَكِسْوَةِ الْعُرْيَانِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ دُونَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ اللَّازِمُ لِهَذَا الْحَالِفِ إذَا حَنِثَ الِاعْتِكَافَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، دُونَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْقَرَائِنِ تَدُورُ مَعَهَا كَيْفَمَا دَارَتْ، وَتَبْطُلُ مَعَهَا إذَا بَطَلَتْ، كَالْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُيُوبِ فِي الْأَعْوَاضِ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوْ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ فِي النَّقْدِ وَالسِّكَّةِ إلَى سِكَّةٍ أُخْرَى لَحُمِلَ الثَّمَنُ مِنْ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى السِّكَّةِ وَالنَّقْدِ الْمُتَجَدِّدِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الشَّيْءُ عَيْبًا فِي الْعَادَةِ رُدَّ بِهِ الْمَبِيعُ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ عَيْبًا لَمْ يُرَدَّ بِهِ الْمَبِيعُ، قَالُوا: وَبِهَذَا تُعْتَبَرُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَوَائِدِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَحْقِيقِهِ: هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ قَالُوا: وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي عُرْفِنَا الْيَوْمَ الْحَلِفُ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا يَحْلِفُ، فَلَا تُسَوَّغُ الْفُتْيَا بِإِلْزَامِهِ. [قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعُرْفِ وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ] : قَالُوا: وَعَلَى هَذَا أَبَدًا تَجِيءُ الْفَتَاوَى فِي طُولِ الْأَيَّامِ، فَمَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 فَاعْتَبِرْهُ، وَمَهْمَا سَقَطَ فَأَلْغِهِ، وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك، بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك فَلَا تُجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك، وَسَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ فَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ، دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمَذْكُورِ فِي كُتُبِك، قَالُوا: فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ، قَالُوا: وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَخْرُجُ أَيْمَانُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصِيَغُ الصَّرَائِحِ وَالْكِنَايَاتِ؛ فَقَدْ يَصِيرُ الصَّرِيحُ كِنَايَةً يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَقَدْ تَصِيرُ الْكِنَايَةُ صَرِيحًا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ، قَالُوا: وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَإِذَا قَالَ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " خَرَجَ مَا يَلْزَمُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْحَلِفِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُعَاصِرَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مُلُوكِ الْوَقْتِ فِي التَّحْلِيفِ بِهِ فِي بَيْعَتِهِمْ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ صَارَ عُرْفًا مُتَبَادِرًا إلَى الذِّهْنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ أَوْ بِسَاطُ يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ مُعْتَادًا عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ، بَلْ هِيَ مِنْ الْأَيْمَانِ الْحَادِثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْجَهَلَةُ الْأُوَلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّهَا مِنْ الْأَيْمَانِ اللَّاغِيَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، أَفْتَى بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْ مُتَأَخِّرِي مَنْ أَفْتَى بِهَا تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْمَوِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ الْحَاصِلِ قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: سَأَلَهُ عَنْهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، فَكَتَبَ لَهُ بِخَطِّهِ تَحْتَ الِاسْتِفْتَاءِ: هَذِهِ يَمِينٌ لَاغِيَةٌ، لَا يَلْزَمُ فِيهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَكَتَبَ مُحَمَّدٌ الْأُرْمَوِيُّ، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَقَفْت عَلَى ذَلِكَ بِخَطِّهِ، وَثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهُ خَطُّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ فِيهَا شَيْءٌ سِوَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَا عَدَاهُ الْتِزَامَاتٌ لَا أَيْمَانٌ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ اخْتَلَفُوا: هَلْ تَتَعَدَّدُ فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِنَاءً عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا إنَّمَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ؟ وَقَدْ كَانَ أَبُو عُمَرَ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ، وَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. قَالَ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْبِلَادِ، فَمَنْ حَلَفَ بِهَا قَاصِدًا لِلطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ لَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ الْعُرْفُ الْغَالِبُ الْجَارِي لَزِمَهُ فِيهَا كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ بِاَللَّهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ شُيُوخِنَا الَّذِينَ حَمَلْنَا عَنْهُمْ، وَمِنْ شُيُوخِ عَصْرِنَا مَنْ كَانَ يُفْتِي بِهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعُرْفُ الْمُسْتَمِرُّ الْجَارِي الَّذِي يَحْصُلُ عِلْمُهُ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ حَالِفٍ بِهَا، ثُمَّ ذُكِرَ اخْتِلَافُ الْمَغَارِبَةِ: هَلْ يَلْزَمُ فِيهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ الْوَاحِدَةُ؟ ثُمَّ قَالَ: وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا الرُّجُوعُ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَقَصَدُوهُ وَعَرَفُوهُ وَاشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَيْهِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ: بِاَللَّهِ؛ إذْ لَا يُسَمَّى غَيْرُ ذَلِكَ يَمِينًا، فَيَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا كَانَ يَقُولُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ شُيُوخِنَا. قُلْت: وَلِإِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهَا مَدْرَكٌ آخَرُ أَفْقَهُ مِنْ هَذَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَرِيحًا فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ الْخَارِجَةُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنَّمَا فِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمُوجِبُهَا كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ بِهِ، وَصَارَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ حَلَفَ بِكُلِّ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِاتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَإِنْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ حَلَفَ بِأَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا أَوْ الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ أَوْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ أَوْ بِمَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِمَّا لَوْ حَلَفَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ أَوْ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا أَجْزَأَ فِي هَذِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مَعَ حُرْمَةِ هَذِهِ الْيَمِينِ وَتَأَكُّدِهَا فَلَأَنْ تُجْزِئَ الْكَفَّارَةُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَلَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ شَرِيعَةٌ أَكْمَلُ مِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِهِ أَفْقَهُ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُهُمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ وَدِينِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُ الْحَالِفَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ جَمِيعِ الِالْتِزَامَاتِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَيُخَيِّرُهُ فِي الْبَاقِي بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالِالْتِزَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ وَحْدَهُ دُونَ مَا عَدَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الصِّيغَةِ شَرْطًا فَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْتِزَامٍ فَيَمِينٌ كَقَوْلِهِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ وَلَا يُفْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ؛ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَالرَّابِعُ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَيَذْكُرُ قَوْلًا لَهُ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَالْخَامِسُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ إبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ. وَالسَّادِسُ قَوْلُ الْقَفَّالِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحْكَى عَنْهُ نَفْسِهِ. وَالسَّابِعُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَحُّ وَأَفْقَهُ وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصَلِّ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْجِيلِ بَعْضِ الْمَهْرِ وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ] فَصْلٌ [أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْجِيلِ بَعْضِ الْمَهْرِ وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ: الْإِلْزَامُ بِالصَّدَاقِ الَّذِي اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا أَجَلًا، بَلْ قَالَ الزَّوْجُ: مِائَةٌ مُقَدَّمَةٌ وَمِائَةٌ مُؤَخَّرَةٌ، فَإِنَّ الْمُؤَخَّرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ لَا يَحِلُّ الْآجِلُ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، وَاخْتَارَهُ قُدَمَاءُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَلَهُ فِيهِ رِسَالَةٌ كَتَبَهَا إلَى مَالِكٍ يُنْكِرُ عَلَيْهِ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ سَنَذْكُرُهَا بِإِسْنَادِهَا وَلَفْظِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَبْطُلُ الْآجِلُ لِجَهَالَةِ مَحِلِّهِ، وَيَكُونُ حَالًّا، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: يَصِحُّ الْآجِلُ، وَلَا يَحِلُّ الصَّدَاقُ إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا؛ فَلَهَا حِينَئِذٍ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ: تَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ بِجَهَالَةِ أَجَلِهِ فَتَرْجِعُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ مُؤَخَّرًا وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: إنَّمَا الصَّدَاقُ فِيمَا مَضَى نَاجِزٌ كُلُّهُ، فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مُؤَخَّرًا فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَطُولَ الْأَجَلُ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تَأْخِيرَهُ إلَى السَّنَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ، وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ إلَى السَّنَةِ، وَعَنْهُ إنْ زَادَ الْأَجَلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فُسِخَ، وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ فُسِخَ، وَعَنْهُ إلَى الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ، حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ، ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ الْأَجَلَ الطَّوِيلَ مِثْلُ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا إلَى مَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَصْبَغُ أَنَّهُ شَهِدَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنَ الْقَاسِمِ تَذَاكَرَا الْأَجَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَرَى فِيهِ الْعِشْرِينَ فَدُونَ فَمَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَمَفْسُوخٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَنَا مَعَك عَلَى هَذَا، فَأَقَامَ ابْنُ وَهْبٍ عَلَى رَأْيِهِ، وَرَجَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا أَفْسَخُهُ إلَى أَرْبَعِينَ وَأَفْسَخُهُ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْبَغُ: وَبِهِ أَخَذَ وَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ نَدْبًا إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الْعَشْرِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ شَهِدْت أَشْهَبَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَجَعَلَ مُؤَخَّرَ مَهْرِهَا إلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا قَصُرَ مِنْ الْأَجَلِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ بَعُدَ لَمْ أَفْسَخْهُ إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ مَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْبَعُونَ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً جِدًّا. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الصَّدَاقِ مُؤَخَّرًا إلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَإِنَّ مَالِكًا كَانَ يَفْسَخُهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيُمْضِيهِ بَعْدَهُ، وَيَرُدُّ الْمَرْأَةَ إلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا مُعَجَّلًا كُلَّهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ الْمُعَجَّلِ فَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعَجَّلِ وَالْمُؤَجَّلِ فَيُوَفِّي تَمَامَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَرْضَى النَّاكِحُ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَخَّرَ مُعَجَّلًا كُلَّهُ مَعَ النَّقْدِ فَيَمْضِي النِّكَاحُ وَلَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَا تُرَدُّ الْمَرْأَةُ إلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا، ثُمَّ أَطَالُوا بِذِكْرِ فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. [فَتَاوَى الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] : وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمِ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، حَكَاهُ اللَّيْثُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْعُقُودِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَمَا فِي النَّقْدِ وَالسِّكَّةِ وَالصِّفَةِ وَالْوَزْنِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالصَّدَاقِ إلَّا بِالْمَوْتِ أَوْ الْفِرَاقِ، فَجَرَتْ الْعَادَةُ مَجْرَى الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْثِلَةِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُخَالِفُ سَائِرَ الْعُقُودِ، وَلِهَذَا نَافَاهُ التَّوْقِيتُ الْمُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ عَلَى الْمَنَافِعِ، بَلْ كَانَتْ جَهَالَةُ مُدَّةِ بَقَائِهِ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي صِحَّتِهِ، وَالصَّدَاقُ عِوَضُهُ وَمُقَابِلُهُ؛ فَكَانَتْ جَهَالَةُ مُدَّتِهِ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي صِحَّتِهِ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ أَجَرَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الْأُجْرَةِ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ تَبَعًا لِمُدَّةِ الْإِجَارَةِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُ أَجَرَ نَفْسَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، «وَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ» ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» وَهَذَا لَا يَتَضَمَّنُ وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَا أَحَلَّ الْحَرَامَ وَحَرَّمَ الْحَلَالَ لَوْ فَعَلَاهُ بِدُونِ الشَّرْطِ لَمَا جَازَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» وَأَمَّا تِلْكَ التَّقْدِيرَاتُ الْمَذْكُورَةُ فَيَكْفِي فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهَا عَدَمُ دَلِيلٍ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَيْسَ تَقْدِيرٌ مِنْهَا بِأَوْلَى مِنْ تَقْدِيرٍ أَزْيَدَ عَلَيْهِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ غَزِيرُ الْعِلْمِ جَمُّ الْفَوَائِدِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: هَذِهِ رِسَالَةُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. [رِسَالَةٌ مِنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ] : سَلَامٌ عَلَيْك، فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ - عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَأَحْسَنَ لَنَا الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَذْكُرُ فِيهِ مِنْ صَلَاحِ حَالِكُمْ الَّذِي يَسُرُّنِي، فَأَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَتَمَّهُ بِالْعَوْنِ عَلَى شُكْرِهِ وَالزِّيَادَةِ مِنْ إحْسَانِهِ، وَذَكَرْت نَظَرَك فِي الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثْت بِهَا إلَيْك وَإِقَامَتَك إيَّاهَا وَخَتْمَك عَلَيْهَا بِخَاتَمِك، وَقَدْ أَتَتْنَا فَجَزَاك اللَّهُ عَمَّا قَدَّمْت مِنْهَا خَيْرًا، فَإِنَّهَا كُتُبٌ انْتَهَتْ إلَيْنَا عَنْك فَأَحْبَبْت أَنْ أَبْلُغَ حَقِيقَتَهَا بِنَظَرِك فِيهَا، وَذَكَرْت أَنَّهُ قَدْ أَنْشَطَك مَا كَتَبْت إلَيْك فِيهِ مِنْ تَقْوِيمِ مَا أَتَانِي عَنْك إلَى ابْتِدَائِي بِالنَّصِيحَةِ، وَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدِي مَوْضِعٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك مِنْ ذَلِكَ فِيمَا خَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْيُك فِينَا جَمِيلًا إلَّا لِأَنِّي لَمْ أُذَاكِرْك مِثْلَ هَذَا، وَأَنَّهُ بَلَغَك أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَكُمْ، وَأَنِّي يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِي لِاعْتِمَادِ مَنْ قَبْلِي عَلَى مَا أَفْتَيْتهمْ بِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي إلَيْهَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ أَصَبْت بِاَلَّذِي كُتِبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي تُحِبُّ، وَمَا أَجِدُ أَحَدًا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْعِلْمُ أَكْرَهَ لِشَوَاذِّ الْفُتْيَا وَلَا أَشَدَّ تَفْضِيلًا لِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَا آخُذُ لِفُتْيَاهُمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ وَمَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ وَأَنَّ النَّاسَ صَارُوا بِهِ تَبَعًا لَهُمْ فِيهِ فَكَمَا ذَكَرْت، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَرَجُوا إلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَجَنَّدُوا الْأَجْنَادَ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمْ النَّاسُ فَأَظْهَرُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَمْ يَكْتُمُوهُمْ شَيْئًا عَلِمُوهُ. وَكَانَ فِي كُلِّ جُنْدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يُعَلِّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَيَجْتَهِدُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يُفَسِّرْهُ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَتَقَدَّمَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ مُضَيِّعِينَ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَافِلِينَ عَنْهُمْ، بَلْ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالْحَذَرِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَلَمْ يَتْرُكُوا أَمْرًا فَسَّرَهُ الْقُرْآنُ أَوْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ائْتَمَرُوا فِيهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَّمُوهُمُوهُ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ عَمِلَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَمْ يَزَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضُوا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَا نَرَاهُ يَجُوزُ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْدِثُوا الْيَوْمَ أَمْرًا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ سَلَفُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ، مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدُ فِي الْفُتْيَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَلَوْلَا أَنِّي قَدْ عَرَفْت أَنْ قَدْ عَلِمْتهَا كَتَبْت بِهَا إلَيْك، ثُمَّ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي أَشْيَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَنُظَرَاؤُهُ أَشَدَّ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمْ فَحَضَرْتهمْ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا وَرَأْسُهُمْ يَوْمَئِذٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مِنْ خِلَافِ رَبِيعَةَ لِبَعْضِ مَا قَدْ مَضَى مَا قَدْ عَرَفْت وَحَضَرْت، وَسَمِعْت قَوْلَك فِيهِ وَقَوْلَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ وَغَيْرِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ حَتَّى اضْطَرَّك مَا كَرِهْت مِنْ ذَلِكَ إلَى فِرَاقِ مَجْلِسِهِ. وَذَاكَرْتُك أَنْتَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بَعْضَ مَا نَعِيبُ عَلَى رَبِيعَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَكُنْتُمَا مِنْ الْمُوَافِقِينَ فِيمَا أَنْكَرْت، تَكْرَهَانِ مِنْهُ مَا أَكْرَهُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ رَبِيعَةَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَعَقْلٌ أَصِيلٌ وَلِسَانٌ بَلِيغٌ، وَفَضْلٌ مُسْتَبِينٌ، وَطَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَوَدَّةٌ لِإِخْوَانِهِ عَامَّةً وَلَنَا خَاصَّةً - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَفَرَ لَهُ وَجَزَاهُ بِأَحْسَنَ مِنْ عَمَلِهِ. وَكَانَ يَكُونُ مِنْ ابْنِ شِهَابٍ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ إذَا لَقِينَاهُ، وَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْضُنَا فَرُبَّمَا كَتَبَ إلَيْهِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ عَلَى فَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَشْعُرُ بِاَلَّذِي مَضَى مِنْ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي يَدْعُونِي إلَى تَرْكِ مَا أَنْكَرْت تَرْكِي إيَّاهُ. وَقَدْ عَرَفْت أَيْضًا عَيْبَ إنْكَارِي إيَّاهُ أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ، وَمَطَرُ الشَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ الْمَدِينَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مِنْهُمْ إمَامٌ قَطُّ فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَفِيهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» وَقَالَ: «يَأْتِي مُعَاذٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ» وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ بِمِصْرَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَبِحِمْصَ سَبْعُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَبِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا وَبِالْعِرَاقِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَنَزَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ سِنِينَ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[كَثِيرٌ] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَطُّ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِهِ، وَلَمْ يَقْضِ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّامِ وَبِحِمْصَ وَلَا بِمِصْرَ وَلَا بِالْعِرَاقِ، وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إلَيْهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ كَمَا قَدْ عَلِمْت فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ وَالْجِدِّ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَالْإِصَابَةِ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ رُزَيْقُ بْنُ الْحَكَمِ: إنَّك كُنْت تَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّا كُنَّا نَقْضِي بِذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَدْنَا أَهْلَ الشَّامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَلَا نَقْضِي إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ قَطُّ لَيْلَةَ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بخناصرة سَاكِنًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقْضُونَ فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مُؤَخَّرِ صَدَاقِهَا تَكَلَّمَتْ فَدَفَعَ إلَيْهَا، وَقَدْ وَافَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَلَمْ يَقْضِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا الْمُؤَخَّرِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ فَتَقُومُ عَلَى حَقِّهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْإِيلَاءِ إنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ حَتَّى يُوقَفَ وَإِنْ مَرَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ التَّوْقِيفُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: لَا يَحِلُّ لِلْمُولِي إذَا بَلَغَ الْأَجَلُ إلَّا أَنْ يَفِيءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنْ لَبِثَ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُوقَفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالُوا فِي الْإِيلَاءِ: إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَابْنُ شِهَابٍ: إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ: إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَقَضَى بِذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُهُ، وَقَدْ كَادَ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُهَا، إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فَيَقُولُ: إنَّمَا مَلَكْتُك وَاحِدَةً، فَيَسْتَحْلِفُ وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا زَوْجُهَا فَاشْتِرَاؤُهُ إيَّاهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَكَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ عَبْدًا فَاشْتَرَتْهُ فَمِثْلُ ذَلِكَ. وَقَدْ بُلِّغْنَا عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الْفُتْيَا مُسْتَكْرَهًا، وَقَدْ كُنْت كَتَبْت إلَيْك فِي بَعْضِهَا فَلَمْ تُجِبْنِي فِي كِتَابِي، فَتَخَوَّفْت أَنْ تَكُونَ اسْتَثْقَلْت ذَلِكَ، فَتَرَكْت الْكِتَابَ إلَيْك فِي شَيْءٍ مِمَّا أُنْكِرُهُ وَفِيمَا أَوْرَدْت فِيهِ عَلَى رَأْيِك، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك أَمَرْت زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ - حِينَ أَرَادَ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 يَسْتَسْقِيَ - أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَأَعْظَمْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ وَالِاسْتِسْقَاءَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا دَنَا مِنْ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ فَدَعَا حَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، وَقَدْ اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا، فَكُلُّهُمْ يُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ وَالدُّعَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَاسْتَهْتَرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِعْلَ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ فِي الْخَلِيطَيْنِ فِي الْمَالِ: إنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ وَيَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَكُمْ وَغَيْرِهِ، وَاَلَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ بِدُونِ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَصِيرَهُ ابْنُ سَعِيدٍ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ: إذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَقَدْ بَاعَهُ رَجُلٌ سِلْعَةً فَتَقَاضَى طَائِفَةً مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي طَائِفَةً مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا تَقَاضَى مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بِعَيْنِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّك تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْنِ وَمَنَعَهُ الْفَرَسَ الثَّالِثَ، وَالْأُمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ إفْرِيقِيَّةَ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَك - وَإِنْ كُنْت سَمِعْته مِنْ رَجُلٍ مَرْضِيٍّ - أَنْ تُخَالِفَ الْأُمَّةَ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ تَرَكْت أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا، وَأَنَا أُحِبُّ تَوْفِيقَ اللَّهِ إيَّاكَ وَطُولَ بَقَائِك؛ لِمَا أَرْجُو لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا أَخَافُ مِنْ الضَّيْعَةِ إذَا ذَهَبَ مِثْلُك مَعَ اسْتِئْنَاسِي بِمَكَانِك، وَإِنْ نَأَتْ الدَّارُ؛ فَهَذِهِ مَنْزِلَتُك عِنْدِي وَرَأْيِي فِيك فَاسْتَيْقِنْهُ، وَلَا تَتْرُكْ الْكِتَابَ إلَيَّ بِخَبَرِك وَحَالِك وَحَالِ وَلَدِك وَأَهْلِك وَحَاجَةٍ إنْ كَانَتْ لَك أَوْ لِأَحَدٍ يُوصَلُ بِك، فَإِنِّي أُسَرُّ بِذَلِكَ، كَتَبْت إلَيْك وَنَحْنُ صَالِحُونَ مُعَافُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكُمْ شُكْرَ مَا أَوْلَانَا وَتَمَامَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ. [عَوْدٌ إلَى الْقَوْلِ فِي تَأْجِيلِ بَعْضِ الْمَهْرِ] فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا لَوْ تَجَمَّلُوا وَجَعَلُوهُ حَالًّا، وَقَدْ اتَّفَقُوا فِي الْبَاطِنِ عَلَى تَأْخِيرِهِ كَصَدَقَاتِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْغَالِبِ: هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِهِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْ الْمَوْتِ؟ . [مَهْرُ السِّرِّ وَمَهْرُ الْعَلَنِ] قِيلَ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ عَلَى مَهْرٍ وَسَمَّوْا فِي الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 مِنْهُ: هَلْ يُؤْخَذُ بِالسِّرِّ أَوْ بِالْعَلَانِيَةِ؟ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اضْطَرَبَتْ فِيهَا أَقْوَالُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِمْ بِمَقَاصِدِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ غِطَائِهَا، وَلَهَا فِي الْأَصْلِ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَثَلًا، وَقَدْ اتَّفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سُمْعَةٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِالْأَقَلِّ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ تَصَادَقُوا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ مِنْ جِنْسِ مَهْرِ السِّرِّ أَوْ مِنْ جِنْسِ غَيْرِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، قَالُوا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ. قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بدينا فِي الرَّجُلِ يُصَدِّقُ صَدَاقًا فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَانِيَةِ شَيْئًا آخَرَ؛ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَارِثِ: إذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى شَيْءٍ وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ صَدَاقًا سِرًّا وَصَدَاقًا عَلَانِيَةً: يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ، قِيلَ لَهُ: فَقَدْ أَشْهَدَ شُهُودًا فِي السِّرِّ بِغَيْرِهِ؟ قَالَ: وَإِنْ، أَلَيْسَ قَدْ أَقَرَّ بِهَذَا أَيْضًا عِنْدَ شُهُودٍ؟ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ " أَقَرَّ بِهِ " أَيْ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] وَهَذَا يَعُمُّ التَّسْمِيَةَ فِي الْعَقْدِ وَالِاعْتِرَافِ بَعْدَهُ، وَيُقَالُ: أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ، وَأَقَرَّ لِلسُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يُعْلِنُ مَهْرًا وَيُخْفِي آخَرَ؛ آخُذُ بِمَا يُعْلِنُ؛ لِأَنَّ الْعَلَانِيَةَ قَدْ أَشْهَدَ [بِهَا] عَلَى نَفْسِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ بِمَهْرٍ وَأَعْلَنُوا مَهْرًا آخَرَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا، وَأَمَّا هُوَ فَيُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: فَقَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا أَسَرُّوا، عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ؛ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِمَهْرِ السِّرِّ، فَقِيلَ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ: إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يُظْهِرُهُ سُمْعَةٌ وَأَنَّ أَصْلَ الْمَهْرِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَزَوَّجَ وَأَعْلَنَ الَّذِي قَالَ فَالْمَهْرُ هُوَ السِّرُّ، وَالسُّمْعَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ، وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْمَهْرُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسِّرِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ تَلْجِئَةٌ، فَقَالَ: إذَا كَانَ رَجُلٌ قَدْ أَظْهَرَ صَدَاقًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالشُّهُودِ، وَكَأَنَّ الظَّاهِرَ أَوْكَدُ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ تَدْفَعُ الْعَلَانِيَةَ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَأَوَّلَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ هَذَا عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ السِّرِّ عُدُولٌ وَبَيِّنَةُ الْعَلَانِيَةِ غَيْرُ عُدُولٍ، فَحُكِمَ بِالْعُدُولِ، قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَهْرِ السِّرِّ إذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: إذَا تَكَافَأَتْ الْبَيِّنَاتُ وَقَدْ شَرَطُوا فِي السِّرِّ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَلَانِيَةِ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَا يُطَالِبُوهُ بِالظَّاهِرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلسِّرِّ حُكْمًا، قَالَ: وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ شَيْخُنَا: كَلَامُ أَبِي حَفْصٍ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ فِي السِّرِّ بِالْمَهْرِ الْقَلِيلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَكَلَامُهُ الثَّانِي فِيمَا إذَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَلَكِنْ تَشَارَطُوا أَنَّ مَا يُظْهِرُونَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ بَيِّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ أَنَّ مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ سُمْعَةٌ، بَلْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِالْأَكْثَرِ وَادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إنْشَاءً أَوْ إخْبَارًا؛ فَإِذَا أَقَامَ شُهُودًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِدُونِ ذَلِكَ الْبَيِّنَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْأَقَلِّ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ التَّرَاضِيَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: آخُذُ بِالْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ؛ فَقَوْلُهُ " لِأَنَّهُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَمَا يَجِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا يُعَلَّلُ بِالْإِشْهَادِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ، وَأَمَّا هُوَ فَيُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ، وَقَوْلُهُ " يَنْبَغِي " يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَحَبِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ سَوَاءً أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَهُوَ فَرْجٌ يُؤْخَذُ بِالْأَكْثَرِ، وَقُيِّدَتْ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَأَنَّ كِلَيْهِمَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَهُنَا قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالْجَامِعِ: إنْ تَصَادَقَا عَلَى نِكَاحِ السِّرِّ لَزِمَ نِكَاحُ السِّرِّ بِمَهْرِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ قَدْ صَحَّ وَلَزِمَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وَالنِّكَاحُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ أُخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَعُمُومُ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ طَرِيقَتُهُ وَطَرِيقَةُ جَمَاعَةٍ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا أَظْهَرَاهُ زِيَادَةٌ فِي الْمَهْرِ، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ لُزُومِهِ لَازِمَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ السِّرُّ هُوَ الْأَكْثَرُ أُخِذَ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " آخُذُ بِالْعَلَانِيَةِ " أَيْ يُؤْخَذُ بِالْأَكْثَرِ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَنْصَتُهُمَا؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْعِبْرَةُ إنَّمَا هِيَ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي. فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْأَصْحَابَ مُخْتَلِفُونَ: هَلْ يُؤْخَذُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ؟ فِيمَا إذَا كَانَ السِّرُّ تَوَاطُؤًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ السِّرُّ عَقْدًا فَهَلْ هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَوْ يُؤْخَذُ هُنَا بِالسِّرِّ فِي الْبَاطِنِ بِلَا تَرَدُّدٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ ظَاهِرًا فَقَطْ وَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا إلَّا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَمْ يَرِدْ نَقْضًا، وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ وَصِفَاتِهِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ سُمْعَةً كَذِكْرِهِ هَزْلًا وَالنِّكَاحُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ مَا هُوَ فِيهِ، يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبُضْعِ مَشْرُوطٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ، وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ؛ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ. هَذَا كَلَامُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي مَسْأَلَةِ مَهْرِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي كِتَابِ إبْطَالِ التَّحْلِيلِ نَقَلْته بِلَفْظِهِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِدَّةُ صُوَرٍ هَذِهِ إحْدَاهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ ثَمَنَ الْمَبِيعِ أَلْفٌ وَيُظْهِرَا فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّ ثَمَنَهُ أَلْفَانِ، فَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْقَدِيمِ وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا: الثَّمَنُ مَا أَظْهَرَاهُ، عَلَى قِيَاسِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْجَدِيدِ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْقَاضِي: الثَّمَنُ مَا أَسَرَّاهُ، وَالزِّيَادَةُ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ، وَإِلْحَاقًا لِلْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِلْحَاقًا لِلْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ، وَجَعَلَا الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ غَيْرُ لَاحِقَةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَكْسَ هَذَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْعِبْرَةُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَسَرَّاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا شَيْئًا بِثَمَنٍ ذَكَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةً لَهُ تَخَلُّصًا مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ أَخْذَهُ؛ فَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ " قَدْ تَبَايَعْنَاهُ تَلْجِئَةً " قَالَ الْقَاضِي: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ: لَمْ يَصِحَّ هَذَا النِّكَاحُ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عِنَبًا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إنَّهُ إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ وَارِثَةٌ فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّ لَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، يَجُوزُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَلْجِئَةً فَيُرَدُّ، وَنَحْوَ هَذَا نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْمَرْوَزِيُّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ تَلْجِئَةً حَتَّى يَقُولَا فِي الْعَقْدِ " قَدْ تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَقْدَ تَلْجِئَةً " وَمَأْخَذُ مَنْ أَبْطَلَهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ حَقِيقَةً، وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمَأْخَذُ مَنْ يُصَحِّحُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ. وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُقَارِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الرَّافِعِ لَهُ فَإِنَّ الشَّارِطَ هُنَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَهُنَاكَ هُوَ مَقْصُودٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَنْ شَرْطٍ مُقَارِنٍ. الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُظْهِرَا نِكَاحًا تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةً لَهُ؛ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّهُ صَحِيحٌ كَنِكَاحِ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْعَقْدِ، بَلْ هَازِلٌ بِهِ، وَنِكَاحُ الْهَازِلِ صَحِيحٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَفْعَ مُوجَبِهِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا أَوْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَوْ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ - صَحَّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ؛ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى التَّلْجِئَةِ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْقِدَا عَقْدًا لَا يَقْتَضِي مُوجَبَهُ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَيَتَخَرَّجُ فِي نِكَاحِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ فِي أَظْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَلْجِئَةٍ لَا حَقِيقَةٍ لَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، وَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ. الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ تَحْلِيلٍ، لَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، وَأَنَّهُ مَتَى دَخَلَ بِهَا طَلَّقَهَا أَوْ فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ أَنَّهَا مَتَى اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ لَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ، فَهَذَا مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ، لَا تَحِلُّ بِهِ الزَّوْجَةُ لِلْمُطَلِّقِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّعْنَةِ، مَعَ تَضَمُّنِ زِيَادَةِ الْخِدَاعِ كَمَا سَمَّاهُ السَّلَفُ بِذَلِكَ، وَجَعَلُوا فَاعِلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 مُخَادِعًا لِلَّهِ، وَقَالُوا: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَعَلَى بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ نَحْوَ سِتِّينَ دَلِيلًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلَافَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ أَشْهَدَا اللَّهَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمَا فَلَا يَنْفَعُهُمَا تَرْكُ التَّكَلُّمِ بِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَطْلُوبُهُمَا وَمَقْصُودُهُمَا. الصُّورَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ فِي الظَّاهِرِ، وَقَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ خِلَافُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَظْلُومٍ؛ فَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ، وَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ اعْتِبَارًا بِمَقْصِدِهِ وَنِيَّتِهِ. الصُّورَةُ السَّابِعَةُ: إذَا اشْتَرَى أَوْ اسْتَأْجَرَ مُكْرَهًا لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ قَدْ حَصَلَ صُورَةُ الْعَقْدِ؛ لِعَدَمِ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ؛ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لِأَجْلِهَا، فَإِذَا أُلْغِيَتْ وَاعْتُبِرَتْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُرَادُ لِنَفْسِهَا كَانَ هَذَا إلْغَاءً لِمَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَاعْتِبَارًا لِمَا قَدْ يَسُوغُ إلْغَاؤُهُ، وَكَيْفَ يُقَدَّمُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ كُلَّ الظُّهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ خِلَافُهُ؟ بَلْ قَدْ يَقْطَعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي قَدْ ظَهَرَ بَلْ قَدْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ الْمُرَادُ، وَكَيْفَ يُنْكَرُ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ مَنْ يَسْلُكُ هَذَا؟ وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ إيرَادِ الظَّاهِرِيَّةِ؟ فَإِنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ تَمَسَّكُوا بِأَلْفَاظِ النُّصُوصِ وَأَجْرَوْهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا حَيْثُ لَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ خِلَافُهَا، وَأَنْتُمْ تَمَسَّكْتُمْ بِظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ حَيْثُ يَقَعُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ خِلَافُهَا، فَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَعْذَرُ مِنْكُمْ بِكَثِيرٍ، وَكُلُّ شُبْهَةٍ تَمَسَّكْتُمْ بِهَا فِي تَسْوِيغِ ذَلِكَ فَأَدِلَّةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ أَقْوَى وَأَصَحُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْإِنْصَافَ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ حِلْيَةٍ تَحَلَّى بِهَا الرَّجُلُ، خُصُوصًا مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ حَكَمًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فَوَرَثَةُ الرَّسُولِ مَنْصِبُهُمْ الْعَدْلُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَأَلَّا يَمِيلَ أَحَدُهُمْ مَعَ قَرِيبِهِ وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ وَمَتْبُوعِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحَقُّ مَطْلُوبَهُ، يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ، يَدِينُ دِينَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَيُحَكِّمُ الْحُجَّةَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي قَدْ شَمَّرَ إلَيْهِ، وَمَطْلُوبُهُ الَّذِي يَحُومُ بِطَلَبِهِ عَلَيْهِ، لَا يَثْنِي عَنَانَهُ عَنْهُ عَذْلُ عَاذِلٍ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ قَوْلُ قَائِلٍ. [الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا] [الْعِبْرَةُ بِالْقَصْدِ لَا بِالْأَلْفَاظِ] وَمَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الْأَلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا، بَلْ جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوْ الْغَضَبِ أَوْ الْمَرَضِ وَنَحْوَهُمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: اللَّهُمَّ أَنْتِ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك " فَكَيْفَ يَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يَقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلَافُهَا؟ وَلِهَذَا الْمَعْنَى رَدَّ شَهَادَةَ الْمُنَافِقِينَ وَوَصَفَهُمْ بِالْخِدَاعِ وَالْكَذِبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُخَالِفُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَقْتِ عِنْدَهُ، وَلَعَنَ الْيَهُودَ إذْ تَوَسَّلُوا بِصُورَةِ عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إلَى أَكْلِ ثَمَنِهِ، وَجَعَلَ أَكْلَ ثَمَنِهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ أَكْلِهِ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا» ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَاصِرَ إنَّمَا عَصَرَ عِنَبًا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ نِيَّتُهُ إنَّمَا هِيَ تَحْصِيلُ الْخَمْرِ لَمْ يَنْفَعْهُ ظَاهِرُ عَصْرِهِ، وَلَمْ يَعْصِمْهُ مِنْ اللَّعْنَةِ لِبَاطِنِ قَصْدِهِ وَمُرَادِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا. وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ وَجَرَى مَعَ ظَوَاهِرِهَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ، وَأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ عَصْرَ الْعِنَبِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُ الْخَمْرُ، وَأَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقَصْدِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُ، وَلَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَجَوَّزُوا لَهُ الْعَصْرَ، وَقَضَوْا لَهُ بِالْأُجْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ. وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْقَصْدَ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ هَدْمُهَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَارَاتِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّقَرُّبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَالْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ وَالِاعْتِقَادُ يَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، وَصَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَطَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَفُوتُ الْحَصْرَ، فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَزْوَاجِ إذَا طَلَّقُوا أَزْوَاجَهُمْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَقَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَذَلِكَ نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا مَلَّكَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاحَ دُونَ مَنْ قَصَدَ الضِّرَارَ. وَقَوْلُهُ فِي الْخُلْعِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْخُلْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَالنِّكَاحَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] فَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُوصِي الضِّرَارَ؛ فَإِنْ قَصَدَهُ فَلِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] فَرَفَعَ الْإِثْمَ عَمَّنْ أَبْطَلَ الْجَنَفَ وَالْإِثْمَ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُوصِي، وَلَمْ يَجْعَلْهَا بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الشَّارِعِ الَّذِي تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ. [شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ] وَكَذَلِكَ الْإِثْمُ مَرْفُوعٌ عَمَّنْ أَبْطَلَ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ مَا لَمْ يَكُنْ إصْلَاحًا، وَمَا كَانَ فِيهِ جَنَفٌ أَوْ إثْمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الشَّرْطَ الْبَاطِلَ الْمُخَالِفَ لِكِتَابِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ قَدْ قَالَ إمَامُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» فَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَلِلْمُكَلَّفِ مَصْلَحَةً، وَأَمَّا مَا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ كَشَرْطِ التَّعَزُّبِ وَالتَّرَهُّبِ الْمُضَادِّ لِشَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى فَتَحَ لِلْأُمَّةِ بَابَ النِّكَاحِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَسَدَّ عَنْهُمْ بَابَ السِّفَاحِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَسُدُّ عَلَى مَنْ الْتَزَمَهُ بَابَ النِّكَاحِ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْفُجُورِ، فَإِنَّ لَوَازِمَ الْبَشَرِيَّةِ تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ أَتَمَّ تَقَاضٍ، فَإِذَا سَدَّ عَنْهَا مَشْرُوعَهَا فَتَحَتْ لَهُ مَمْنُوعَهَا وَلَا بُدَّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْإِثْمَ عَمَّنْ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ الْجَانِفَةَ الْآثِمَةَ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْفُوعٌ عَمَّنْ أَبْطَلَ شُرُوطَ الْوَاقِفِينَ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، فَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْقَبْرِ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى وَأَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفَعَ لِلْمَيِّتِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْأَحَبِّ إلَى اللَّهِ، الْأَنْفَعِ لِعَبْدِهِ وَاعْتِبَارُ ضِدِّهِ، وَقَدْ رَامَ بَعْضُهُمْ الِانْفِصَالَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الْوَاقِفِ حُصُولَ الْأَجْرِ لَهُ بِاسْتِمَاعِهِ لِلْقُرْآنِ فِي قَبْرِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ ثَوَابَ الِاسْتِمَاعِ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ فَإِنَّهُ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى قَبْرِهِ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ لَا يَجِبُ بَلْ لَا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَمْ يُوضَعْ عَلَى قَبْرِهِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَيْفَ يُفْتِي أَوْ يَقْضِي بِتَعْطِيلِ الْأَحَبِّ إلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِالْأَكْرَهِ إلَيْهِ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْجَانِفِ الْآثِمِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ إيقَادَ قِنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِهِ أَوْ بِنَاءَ مَسْجِدٍ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُ هَذَا الشَّرْطِ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، فَكَيْفَ يَنْقُلُهُ شَرْطٌ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلَهُ؟ . [أَنْوَاعُ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ وَحُكْمُهَا] وَبِالْجُمْلَةِ فَشُرُوطُ الْوَاقِفِينَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: شُرُوطٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَشُرُوطٌ مَكْرُوهَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 فِعْلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؛ فَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا اعْتِبَارَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ هُوَ الشَّرْطُ الْمُتَّبَعُ الْوَاجِبُ الِاعْتِبَارَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ أَبْطَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا بِقَوْلِهِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَمَا رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ اعْتِبَارُهُ وَلَا الْإِلْزَامُ بِهِ وَتَنْفِيذُهُ، وَمَنْ تَفَطَّنَ لِتَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ تَخَلَّصَ بِهَا مِنْ آصَارٍ وَأَغْلَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَإِثْمٍ وَعُقُوبَةٍ وَنَقْصِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ دُونَ الصُّورَةِ] فَصْلٌ [مِنْ فُرُوعِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ دُونَ الصُّورَةِ] وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» كَيْفَ حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِمَّا صَادَهُ الْحَلَالُ إذَا كَانَ قَدْ صَادَهُ لِأَجْلِهِ؟ فَانْظُرْ كَيْفَ أَثَّرَ الْقَصْدُ فِي التَّحْرِيمِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ ظَاهِرُ الْفِعْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَثَرُ الْمَرْفُوعُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ، وَمَنْ ادَّانَ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ» ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ فَجَعَلَ الْمُشْتَرِيَ وَالنَّاكِحَ إذَا قَصَدَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَا الْعِوَضَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْفَرْجَ وَالْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَيَكُونُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَهُمَا فِي الصُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهَا اللَّهُ» . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَضْعَافُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى أَوْ اسْتَأْجَرَ أَوْ اقْتَرَضَ أَوْ نَكَحَ وَنَوَى أَنَّ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِمُوَلِّيهِ كَانَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَهُ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَلَّكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِهَا وَنَوَاهُ لِمُوكِلِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، نَعَمْ لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ، فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إلَى تَعْيِينِهِ لِذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَعْقُودٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِمَالِكَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ ثَبَتَ أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ بِالْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَ بِإِذْنِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِيهِ النِّزَاعُ الْمَعْرُوفُ؛ فَصُورَةُ الْعَقْدِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِهِ مَالًا رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 يَتَقَابَضَا، وَجَوَّزَ دَفْعَهُ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدْفَعُ رِبَوِيًّا وَيَأْخُذُ نَظِيرَهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْقَصْدُ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْمُقْرِضِ إرْفَاقُ الْمُقْتَرِضِ وَنَفْعُهُ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ الْمُعَاوَضَةَ وَالرِّبْحَ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَرْضُ شَقِيقَ الْعَارِيَّةِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنِيحَةَ الْوَرِقِ " فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ، لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ فَاسْتَرْجَعَ الْمِثْلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ رِبًا صَرِيحًا، وَلَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ وَهَبَهُ دِرْهَمًا آخَرَ جَازَ، وَالصُّورَةُ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْقَصْدُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُلْغِيَ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ وَلَا يَجْعَلُ لَهَا اعْتِبَارًا؟ . [فَصْلٌ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّوَاهِرِ] فَصْلٌ [اعْتِرَاضٌ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّوَاهِرِ] فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَطَلْتُمْ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَنَحْنُ نُحَاكِمُكُمْ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] فَرَتَّبَ الْحَكِيمُ عَلَى ظَاهِرِ إيمَانِهِمْ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ إلَى الْعَالِمِ بِالسَّرَائِرِ تَعَالَى الْمُنْفَرِدِ بِعِلْمِ ذَاتِ الصُّدُورِ وَعِلْمِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» وَقَدْ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَاكْتَفَى مِنْهُمْ بِالظَّاهِرِ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، قَبِلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: قَبُولُ ظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا عِلْمًا بِالنِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِهَا، فَقَوْلُنَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا، فَأَوْلَى أَلَّا يَتَعَاطَوْا حُكْمًا عَلَى غَيْبِ أَحَدٍ بِدَلَالَةٍ وَلَا ظَنٍّ؛ لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ مِنْ عُلُومِ أَنْبِيَائِهِ الَّذِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفَ عَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُهُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى ظَاهَرَ عَلَيْهِمْ الْحُجَجَ، فَمَا جَعَلَ إلَيْهِمْ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَفَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمُوا فَتُحْقَنَ دِمَاؤُهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ بِالْإِسْلَامِ إلَّا اللَّهُ؛ ثُمَّ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى قَوْمٍ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 غَيْرَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا أَظْهَرُوا؛ فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يَعْنِي أَسْلَمْنَا بِالْقَوْلِ مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَجْزِيهِمْ إنْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَعْنِي إنْ أَحْدَثُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ صِنْفٌ ثَانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] إلَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] يَعْنِي جُنَّةً مِنْ الْقَتْلِ، وَقَالَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 95] فَأَمَرَ بِقَبُولِ مَا أَظْهَرُوا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ حُكْمِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ؛ فَجَعَلَ حُكْمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَحُكْمَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى عَلَانِيَتِهِمْ بِإِظْهَارِ التَّوْبَةِ وَمَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا أَقَرُّوا بِقَوْلِهِ وَمَا جَحَدُوا مِنْ قَوْلِ الْكُفْرِ مَا لَمْ يُقِرُّوا بِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ «رَجُلًا سَارَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَدْرِ مَا سَارَّهُ حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا هُوَ يُشَاوِرُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» ثُمَّ قَالَ: فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَسَرَائِرُهُمْ إلَى اللَّهِ الْعَالِمِ بِسَرَائِرِهِمْ الْمُتَوَلِّي الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ دُونَ أَنْبِيَائِهِ وَحُكَّامِ خَلْقِهِ. وَبِذَلِكَ مَضَتْ أَحْكَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ الْحُدُودِ وَجَمِيعِ الْحُقُوقِ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ، وَاَللَّهُ يُدِينُ بِالسَّرَائِرِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ فِي لِعَانِهِ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا: لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ لَكَانَ لِي فِيهَا قَضَاءٌ غَيْرُهُ» يَعْنِي لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلَّا يَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِشَرِيكٍ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ. ثُمَّ ذَكَرَ «حَدِيثَ رُكَانَةَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً، فَحَلَفَ لَهُ فَرَدَّهَا إلَيْهِ» ، قَالَ: وَفِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ أَبَدًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ إلَّا بِأَحْسَنِ مَا يُظْهِرُ، وَإِنْ احْتَمَلَ مَا يُظْهِرُ غَيْرَ أَحْسَنِهِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا يُخَالِفُ أَحْسَنَهُ. وَمِنْ قَوْلِهِ: بَلَى لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 قَالُوا آمَنَّا وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ لِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا حَكَمَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، «وَقَالَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَلَا أُرَاهُ إلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ إلَيْهَا سَبِيلًا؛ إذْ لَمْ تُقِرَّ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ» . وَأَبْطَلَ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا عَنْهُمَا اسْتِعْمَالَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الدُّنْيَا دَلَالَةٌ بَعْدَ دَلَالَةِ اللَّهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْأَعْرَابِ أَقْوَى مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْعَجْلَانِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ كَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَغْلَبُ عَلَى مَنْ «سَمِعَ الْفَزَارِيَّ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَعَرَّضَ بِالْقَذْفِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقَذْفَ ثُمَّ لَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» إذْ لَمْ يَكُنْ التَّعْرِيضُ ظَاهِرَ قَذْفٍ، فَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُكْمِ الْقَذْفِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ قَوْلَ رُكَانَةَ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ " أَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنَّ أَلْبَتَّةَ إرَادَةُ شَيْءٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِبْتَاتَ بِثَلَاثٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا فِي قَوْلِهِ وَاحْتَمَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِظَاهِرِ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً. فَمَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّ مَا أَظْهَرُوا خِلَافُ مَا أَبْطَنُوا بِدَلَالَةٍ مِنْهُمْ أَوْ غَيْرِ دَلَالَةٍ لَمْ يَسْلَمْ عِنْدِي مِنْ خِلَافِ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَنْ رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ وَلَدَ عَلَيْهِ قَتَلْته وَلَمْ أَسْتَتِبْهُ، وَمَنْ رَجَعَ عَنْهُ مِمَّنْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ أَسْتَتِبْهُ، وَلَمْ يَحْكُمْ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ إلَّا حُكْمًا وَاحِدًا، وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ أَظْهَرَ نَصْرَانِيَّةً أَوْ يَهُودِيَّةً أَوْ دِينًا يُظْهِرُهُ كَالْمَجُوسِيَّةِ أَسْتَتِبْهُ فَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ قُبِلَتْ مِنْهُ، وَمَنْ رَجَعَ إلَى دِينٍ خُفْيَةً لَمْ أَسْتَتِبْهُ، وَكُلٌّ قَدْ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ وَرَجَعَ إلَى الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُسْتَتَابُ بَعْضُهُمْ وَلَا يُسْتَتَابُ بَعْضٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ تَوْبَةَ الَّذِي يُسِرُّ دِينَهُ؟ قِيلَ: وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا اللَّهُ، وَهَذَا - مَعَ خِلَافِهِ حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ رَسُولِهِ - كَلَامٌ مُحَالٌ، يُسْأَلُ مَنْ قَالَ هَذَا: هَلْ تَدْرِي لَعَلَّ الَّذِي كَانَ أَخْفَى الشِّرْكَ يُصَدَّقُ بِالتَّوْبَةِ وَاَلَّذِي كَانَ أَظْهَرَ الشِّرْكَ يُكَذَّبُ بِالتَّوْبَةِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَتَدْرِي لَعَلَّك قَتَلْت الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ الْإِيمَانَ وَاسْتَحْيَيْت الْكَاذِبَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَيَّ إلَّا الظَّاهِرُ، قِيلَ: فَالظَّاهِرُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَقَدْ جَعَلْته اثْنَيْنِ بَعْلَةٍ مُحَالَةٍ، وَالْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُظْهِرُوا يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً وَلَا مَجُوسِيَّةً بَلْ كَانُوا يَسْتَسِرُّونَ بِدِينِهِمْ فَيُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا يُظْهِرُونَ مِنْ الْإِيمَانِ، فَلَوْ كَانَ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ حِينَ خَالَفَ السُّنَّةَ أَحْسَنَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِنَّهُ يُخَالِفُهَا وَيَعْتَلُّ بِمَا لَا وَجْهَ لَهُ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة لَا تَكُونُ إلَّا بِإِتْيَانِ الْكَنَائِسِ، أَرَأَيْت إنْ كَانُوا بِبِلَادٍ لَا كَنَائِسَ فِيهَا إمَّا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ فَتَخْفَى صَلَاتُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ قَالَ: وَمَا وَصَفْت مِنْ حُكْمِ اللَّهِ ثُمَّ حُكْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 رَسُولِهِ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ يُبْطِلُ حُكْمَ الدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْ الذَّرَائِعِ، فَإِذَا بَطَلَ الْأَقْوَى مِنْ الدَّلَائِلِ بَطَلَ الْأَضْعَفُ مِنْ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا، وَبَطَلَ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إذَا تَشَاتَمَ الرَّجُلَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: " مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ " حُدَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَهُ عَلَى الْمُشَاتَمَةِ فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ قَذْفَ الَّذِي يُشَاتِمُ وَأُمَّهُ، وَإِنْ قَالَهُ عَلَى غَيْرِ الْمُشَاتَمَةِ لَمْ أَحُدَّهُ إذَا قَالَ: " لَمْ أُرِدْ الْقَذْفَ " مَعَ إبْطَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ التَّعْرِيضِ فِي حَدِيثِ الْفَزَارِيِّ الَّذِي وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ عُمَرَ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ فِي مِثْلِ هَذَا، قِيلَ: اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَعَ مَنْ خَالَفَهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ. وَيُبْطِلُ مِثْلَهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ " لِأَنَّ الطَّلَاقَ إيقَاعُ طَلَاقٍ ظَاهِرٍ، وَأَلْبَتَّةَ تَحْتَمِلُ زِيَادَةً فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَغَيْرَ زِيَادَةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، حَتَّى لَا يَحْكُمَ عَلَيْهِ أَبَدًا إلَّا بِظَاهِرٍ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ غَيْرَ الظَّاهِرِ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ عَقْدٌ إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ، وَلَا بِتَوَهُّمٍ، وَلَا بِالْأَغْلَبِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ لَا يَفْسُدُ إلَّا بِعَقْدِهِ. وَلَا يُفْسِدُ الْبُيُوعَ بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ ذَرِيعَةٌ، وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ، وَلَوْ كَانَ أَنْ يُبْطِلَ الْبُيُوعَ بِأَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا كَانَ الْيَقِينُ فِي الْبُيُوعِ بِعَقْدِ مَا لَا يَحِلُّ أَوْلَى أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ الظَّنِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا وَنَوَى بِشِرَائِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا كَانَ الشِّرَاءُ حَلَالًا، وَكَانَتْ النِّيَّةُ بِالْقَتْلِ غَيْرَ جَائِزَةٍ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِهَا الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ سَيْفًا مِنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ رَجُلًا كَانَ هَذَا هَكَذَا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا شَرِيفًا نَكَحَ دَنِيَّةً أَعْجَمِيَّةً أَوْ شَرِيفَةً نَكَحَتْ دَنِيًّا أَعْجَمِيًّا فَتَصَادَقَا فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى إنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى النِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ لَيْلَةٍ لَمْ يُحَرَّمْ النِّكَاحُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ عَقْدِهِ كَانَ صَحِيحًا إنْ شَاءَ الزَّوْجُ حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا. فَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ عَامَّةُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِظَاهِرِ عَقْدِهَا لَا تُفْسِدُهَا نِيَّةُ الْعَاقِدِينَ كَانَتْ الْعُقُودُ إذَا عُقِدَتْ فِي الظَّاهِرِ صَحِيحَةً، وَلَا تَفْسُدُ بِتَوَهُّمِ غَيْرِ عَاقِدِهَا عَلَى عَاقِدِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ تَوَهُّمًا ضَعِيفًا، انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَازِلَ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ كَالْجَادِّ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ حَقَائِقَ هَذِهِ الْعُقُودِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلَالَةٌ عَلَى إلْغَاءِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ، وَإِبْطَالُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَاتِّبَاعُ ظَوَاهِرِ عُقُودِ النَّاسِ وَأَلْفَاظِهِمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 [الْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] فَانْظُرْ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ، وَمُعْتَرَكَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَدْ أَبْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، وَخَاضَ بَحْرَ الْعِلْمِ فَبَلَغَ مِنْهُ لُجَّتَهُ، وَأَدْلَى مِنْ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بِمَا لَا يُدْفَعُ، وَقَالَ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ قُلْ يُسْمَعْ، وَحُجَجُ اللَّهِ لَا تَتَعَارَضُ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ، وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يَقْبَلُ مُعَارَضَةً وَلَا نَقْصًا، وَحَرَامٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، أَوْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَبَحْثِهِ إذَا حَقَّتْ الْحَقَائِقُ الْمُعَوَّلُ، فَلْيُجَرِّبْ الْمُدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَالْمُدَّعِي فِي قَوْمٍ لَيْسَ مِنْهُمْ نَفْسُهُ وَعِلْمُهُ وَمَا حَصَّلَهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْقَضَاءُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمُتَغَالِبَيْنِ، وَلْيُبْطِلْ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، لِيَسْلَمَ لَهُ قَوْلُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ حَدَّهُ، وَلَا يَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَلَا يَمُدُّ إلَى الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعًا يَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَلَا يَتَّجِرُ بِنَقْدٍ زَائِفٍ لَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَالَيْنِ إلَّا مَنْ تَجَرَّدَ لِلَّهِ مُسَافِرًا بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إلَى مَطْلَعِ الْوَحْيِ، مُنَزِّلًا نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَلَقَّاهُ غَضًّا طَرِيًّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَلَا يَعْرِضُهُ عَلَيْهَا، وَيُحَاكِمُهَا إلَيْهِ وَلَا يُحَاكِمُهُ إلَيْهَا، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: [وُضِعَتْ الْأَلْفَاظُ لِتَعْرِيفِ مَا فِي النَّفْسِ] إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَلَا عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، بَلْ تَجَاوَزَ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ، وَتَجَاوَزَ لَهَا عَمَّا تَكَلَّمَتْ بِهِ مُخْطِئَةً أَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُرِيدَةً لِمَعْنَى مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ أَوْ قَاصِدَةً إلَيْهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ. هَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَدْلِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ خَوَاطِرَ الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، فَلَوْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَالْغَلَطُ وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ وَسَبْقُ اللِّسَانِ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ يُرِيدُ خِلَافَهُ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ مُكْرَهًا وَغَيْرَ عَارِفٍ لِمُقْتَضَاهُ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ؛ فَلَوْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَحَرَجَتْ الْأُمَّةُ وَأَصَابَهَا غَايَةُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ؛ فَرَفَعَ عَنْهَا الْمُؤَاخَذَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى الْخَطَأِ فِي اللَّفْظِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ وَالسُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 [الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْمُكَلَّفَ بِهَا] وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ وَالْجَهْلُ بِالْمَعْنَى وَسَبْقُ اللِّسَانِ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ وَالتَّكَلُّمُ فِي الْإِغْلَاقِ وَلَغْوُ الْيَمِينِ؛ فَهَذِهِ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ لَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ بِالتَّكَلُّمِ فِي حَالٍ مِنْهَا؛ لِعَدَمِ قَصْدِهِ وَعَقْدِ قَلْبِهِ الَّذِي يُؤَاخِذُهُ بِهِ. أَمَّا الْخَطَأُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ فَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ «فَرَحِ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» . وَأَمَّا الْخَطَأُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ فَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قَالَ السَّلَفُ: هُوَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ حَالَ الْغَضَبِ، لَوْ أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَأَهْلَكَ الدَّاعِيَ وَمَنْ دَعَى عَلَيْهِ، فَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: الْإِغْلَاقُ الَّذِي مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِيهِ هُوَ الْغَضَبُ. وَهَذَا كَمَا قَالُوهُ؛ فَإِنَّ لِلْغَضَبِ سُكْرًا كَسُكْرِ الْخَمْرِ أَوْ أَشَدَّ. وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى كَلَامِ السَّكْرَانِ حُكْمًا حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَقُولُ؛ وَلِذَلِكَ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُشَكِّكُ الْمُقِرَّ بِالزِّنَا لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ عَالِمٌ بِمَا يَقُولُ أَوْ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يَقُولُ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ حَمْزَةَ بِقَوْلِهِ فِي حَالِ السُّكْرِ: هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي وَلَمْ يَكْفُرْ مَنْ قَرَأَ فِي حَالِ سُكْرِهِ فِي الصَّلَاةِ: أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» . وَأَمَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَدْ فَعَلْت " وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَالْإِكْرَاهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْإِغْلَاقِ. وَأَمَّا اللَّغْوُ فَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ عَقْدُ الْقَلْبِ. وَأَمَّا سَبْقُ اللِّسَانِ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْخَطَأِ فِي اللَّفْظِ وَالْخَطَأِ فِي الْقَصْدِ؛ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وَأَمَّا الْإِغْلَاقُ فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِهِ فِيهِ عَلَى عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ؛ فَكُلُّ مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ قَصْدِهِ وَعِلْمِهِ كَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ وَالْغَضْبَانِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْإِغْلَاقِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْجُنُونِ أَوْ بِالسُّكْرِ أَوْ بِالْغَضَبِ أَوْ بِالْإِكْرَاهِ فَإِنَّمَا قَصَدَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّفْظَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَوَجَبَ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ تَعَدَّى بِتَعَدِّيهَا وَانْتَفَى بِانْتِفَائِهَا. [فَصْلٌ الْأَلْفَاظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ] فَصْلٌ [الْأَلْفَاظُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ] فَإِنْ تَمَهَّدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ: الْأَلْفَاظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُظْهِرَ مُطَابَقَةَ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسْبِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَالُ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا إذَا سَمِعَ الْعَاقِلُ وَالْعَارِفُ بِاللُّغَةِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهَا» فَإِنَّهَا لَا يَسْتَرِيبُ وَلَا يَشُكُّ فِي مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَنَّهُ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ عِبَارَةٌ أَوْضَحُ وَلَا أَنَصُّ مِنْ هَذِهِ. وَلَوْ اُقْتُرِحَ عَلَى أَبْلَغِ النَّاسِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عِبَارَةٍ أَوْضَحَ وَلَا أَنَصَّ مِنْ هَذِهِ، وَعَامَّةُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى مِنْ الْبَيَانِ. فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنَى يُخَالِفُهُ؛ فَالْأَوَّلُ كَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَمَنْ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ وَالسَّكْرَانِ، وَالثَّانِي: كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّلِ. فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِلُ إرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ وَيَحْتَمِلُ إرَادَتَهُ غَيْرَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا. [مَتَى يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ؟] فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْأَلْفَاظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى إرَادَةِ مَعَانِيهَا وَمَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، وَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ: إذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلَامَهُ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَضْعَافُهَا كُلُّهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِهِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلَا يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إلَّا بِذَلِكَ. وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ظَاهِرِهِ بَتٌّ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْيَقِينِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمُرَادِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ عَشَرَةِ أَشْيَاءَ فَهُوَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ مُلَبِّسٌ عَلَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ الْعِلْمُ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ قَطُّ، وَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ، وَانْتَفَتْ خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ، وَصَارَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، بَلْ أَسْوَأُ حَالًا، وَلَمَا عُلِمَ عَرْضُ هَذَا الْمُصَنَّفِ مِنْ تَصْنِيفِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَبُطْلَانُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنْ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَنْبَغِي صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ لِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ كَالتَّعْرِيضِ وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَالتَّوْرِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ. [مَتَى يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ] ؟ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِلِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَلْ الِاعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْعُقُودِ وَإِنْ ظَهَرَتْ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلَافِهَا أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الِالْتِفَاتَ إلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ وَفِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ وَفِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلَالًا تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَالذَّبْحِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَحِلُّ إذَا ذُبِحَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ وَيُحَرَّمُ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ يَصِيدُ الصَّيْدَ لِلْمُحْرِمِ فَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَيَصِيدُهُ لِلْحَلَالِ فَلَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتُحَرَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَنْوِي أَنَّهَا لَهُ فَتَحِلُّ لَهُ، وَصُورَةُ الْعَقْدِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ، وَكَذَلِكَ صُورَةُ الْقَرْضِ وَبَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ إلَى أَجَلٍ صُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَهَذَا قُرْبَةٌ صَحِيحَةٌ وَهَذَا مَعْصِيَةٌ بَاطِلَةٌ بِالْقَصْدِ، وَكَذَلِكَ عَصْرُ الْعِنَبِ بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا مَعْصِيَةٌ مَلْعُونٌ فَاعِلُهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَصْرُهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ خَلًّا أَوْ دِبْسًا جَائِزٌ وَصُورَةُ الْفِعْلِ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ السِّلَاحُ يَبِيعُهُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ مُسْلِمًا حَرَامٌ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِذَا بَاعَهُ لِمَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ يَنْوِي بِهِ التَّقَرُّبَ وَالطَّاعَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَهُ وَيَنْوِي بِهِ الْحَلِفَ وَالِامْتِنَاعَ فَيَكُونُ يَمِينًا مُكَفَّرَةً، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ بِالشَّرْطِ يَنْوِي بِهِ الْيَمِينَ وَالِامْتِنَاعَ فَلَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ وَيَنْوِي بِهِ وُقُوعَ الشَّرْطِ فَيَكْفُرُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ [وَلَا يَكْفُرُ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ] وَصُورَةُ اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ صَرِيحُهَا وَكِنَايَتُهَا يَنْوِي بِهَا الطَّلَاقَ فَيَكُونُ مَا نَوَاهُ وَيَنْوِي بِهِ غَيْرَهُ فَلَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَنْتِ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي " يَنْوِي بِهَا الظِّهَارَ فَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَيَنْوِي بِهِ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكَرَامَةِ فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا يَنْوِي بِهِ الرُّجُوعَ مَلَكَهُ وَإِنْ نَوَى بِهِ التَّبَرُّعَ لَمْ يَرْجِعْ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهَا أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى فِي الْعُقُودِ فَهِيَ أَحْكَامُهُ تَعَالَى فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَثُوبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ؛ فَقَدْ اطَّرَدَتْ سُنَّتُهُ بِذَلِكَ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَتَأْثِيرُ النِّيَّاتِ فِي صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ الْقُرُبَاتِ كُلَّهَا مَبْنَاهَا عَلَى النِّيَّاتِ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَنْوِ الْغُسْلَ أَوْ دَخَلَ الْحَمَّامَ لِلتَّنْظِيفِ أَوْ سَبَحَ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَكُنْ غُسْلُهُ قُرْبَةً وَلَا عِبَادَةً بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْعِبَادَةَ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَوْ أَمْسَكَ عَنْ الْمُفَطِّرَاتِ عَادَةً وَاشْتِغَالًا وَلَمْ يَنْوِ الْقُرْبَةَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَلَوْ دَارَ حَوْلَ الْبَيْتِ يَلْتَمِسُ شَيْئًا سَقَطَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ طَائِفًا، وَلَوْ أَعْطَى الْفَقِيرَ هِبَةً أَوْ هَدِيَّةً وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ لَمْ يُحْسَبْ زَكَاةً، وَلَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَنْوِ الِاعْتِكَافَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْإِجْزَاءِ وَالِامْتِثَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ وَلِهَذَا لَوْ جَامَعَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَقَدْ يُثَابُ بِنِيَّتِهِ، وَلَوْ جَامَعَ فِي ظُلْمَةٍ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَبَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ أَثِمَ عَلَى ذَلِكَ بِقَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ لِلْحَرَامِ، وَلَوْ أَكَلَ طَعَامًا حَرَامًا يَظُنُّهُ حَلَالًا لَمْ يَأْثَمْ بِهِ، وَلَوْ أَكَلَهُ وَهُوَ حَلَالٌ يَظُنُّهُ حَرَامًا وَقَدْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ أَثِمَ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 يَظُنُّهُ مُسْلِمًا مَعْصُومًا فَبَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا أَثِمَ بِنِيَّتِهِ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ مَعْصُومًا لَمْ يَأْثَمْ، وَلَوْ رَمَى مَعْصُومًا فَأَخْطَأَهُ وَأَصَابَ صَيْدًا أَثِمَ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّارِ لِنِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتْلَ صَاحِبِهِ. [النِّيَّةُ رُوحُ الْعَمَلِ وَلُبُّهُ] فَالنِّيَّةُ رُوحُ الْعَمَلِ وَلُبُّهُ وَقِوَامُهُ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهَا يَصِحُّ بِصِحَّتِهَا وَيَفْسُدُ بِفَسَادِهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ كَلِمَتَيْنِ كَفَتَا وَشَفَتَا وَتَحْتَهُمَا كُنُوزُ الْعِلْمِ وَهُمَا قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَبَيَّنَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْعَامِلَ لَيْسَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَهَذَا يَعُمُّ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَيْمَانَ وَالنُّذُورَ وَسَائِرَ الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِالْبَيْعِ عَقْدَ الرِّبَا حَصَلَ لَهُ الرِّبَا، وَلَا يَعْصِمُهُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةُ الْبَيْعِ، وَأَنَّ مَنْ نَوَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلَّلًا، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مَعْلُومَةٌ بِالْوِجْدَانِ، وَالثَّانِيَةُ مَعْلُومَةٌ بِالنَّصِّ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا نَوَى بِالْعَصْرِ حُصُولَ الْخَمْرِ كَانَ لَهُ مَا نَوَاهُ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ، وَإِذَا نَوَى بِالْفِعْلِ التَّحَيُّلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ لَهُ مَا نَوَاهُ؛ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْمُحَرَّمَ وَفَعَلَ مَقْدُورَهُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي التَّحَيُّلِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ إذَا جُعِلَ ذَرِيعَةً لَهُ، لَا فِي عَقْلٍ وَلَا فِي شَرْعٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَهَى الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ عَمَّا يُؤْذِيهِ وَحَمَاهُ مِنْهُ فَتَحَيَّلَ عَلَى تَنَاوُلِهِ عُدَّ مُتَنَاوِلًا لِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا مَسَخَ اللَّهُ الْيَهُودَ قِرَدَةً لَمَّا تَحَيَّلُوا عَلَى فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ إظْهَارُ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ لَمَّا تَوَسَّلُوا بِهِ إلَى ارْتِكَابِ مَحَارِمِهِ، وَلِهَذَا عَاقَبَ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَنْ حَرَمَهُمْ ثِمَارَهَا لَمَّا تَوَسَّلُوا بِجُذَاذِهَا مُصْبِحِينَ إلَى إسْقَاطِ نَصِيبِ الْمَسَاكِينِ، وَلِهَذَا لَعَنَ الْيَهُودَ لَمَّا أَكَلُوا ثَمَنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَكْلَهُ، وَلَمْ يَعْصِمْهُمْ التَّوَسُّلُ إلَى ذَلِكَ بِصُورَةِ الْبَيْعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إزَالَةُ اسْمِ الشُّحُومِ عَنْهَا بِإِذَابَتِهَا فَإِنَّهَا بَعْدَ الْإِذَابَةِ يُفَارِقُهَا الِاسْمُ وَتَنْتَقِلُ إلَى اسْمِ الْوَدَكِ، فَلَمَّا تُحِيلُوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا بِإِزَالَةِ الِاسْمِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ. [تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] [الدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا فِي الْحَدِيثِ بُطْلَانُ كُلِّ حِيلَةٍ يَحْتَالُ بِهَا الْمُتَوَسِّلُ إلَى الْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ. قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ أَرَادُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ إنَّهُمْ انْتَفَعُوا بِالشَّحْمِ فَجَمَّلُوهُ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الشَّحْمِ، ثُمَّ انْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ الِانْتِفَاعُ فِي الظَّاهِرِ بِعَيْنِ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَعَ كَوْنِهِمْ احْتَالُوا بِحِيلَةٍ خَرَجُوا بِهَا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ، نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ حِكْمَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، فَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ حُرِّمَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا مَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْخَمْرِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْفَعَةِ الظَّهْرِ الْمُبَاحَةِ لَا لِمَنْفَعَةِ اللَّحْمِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» يَعْنِي ثَمَنَهُ الْمُقَابِلَ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَكَانَ الثَّمَنُ فِي مُقَابَلَتِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ مُرَاعَاةِ الْمَقْصُودِ لِلشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ وَمَعْنَاهُ وَكَيْفِيَّتِهِ لَمْ يَسْتَحِقُّوا اللَّعْنَةَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّحْمَ خَرَجَ بِجَمْلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَحْمًا، وَصَارَ وَدَكًا، كَمَا يَخْرُجُ الرِّبَا بِالِاحْتِيَالِ فِيهِ عَنْ لَفْظِ الرِّبَا إلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعًا عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِائَةً بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ فَأَعْطَى سِلْعَةً بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِالثَّمَنِ الْحَالِّ، وَلَا غَرَضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي السِّلْعَةِ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ فَقِيهُ الْأُمَّةِ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا بِلَا حِيلَةٍ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي عَقْلٍ وَلَا عُرْفٍ، بَلْ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ الرِّبَا بِعَيْنِهَا قَائِمَةٌ مَعَ الِاحْتِيَالِ أَوْ أَزْيَدُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَضَاعَفَتْ بِالِاحْتِيَالِ لَمْ تَذْهَبْ وَلَمْ تَنْقُصْ؛ فَمِنْ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى شَرِيعَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أَنْ يُحَرِّمَ مَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَيَلْعَنَ فَاعِلَهُ وَيُؤْذِنَهُ بِحَرْبٍ مِنْهُ وَرَسُولِهِ وَيُوعِدَهُ أَشَدَّ الْوَعِيدِ ثُمَّ يُبِيحَ التَّحَيُّلَ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ سَوَاءٌ مَعَ قِيَامِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ وَزِيَادَتِهَا بِتَعَبِ الِاحْتِيَالِ فِي مَعْصِيَةِ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. هَذَا لَا يَأْتِي بِهِ شَرْعٌ؛ فَإِنَّ الرِّبَا عَلَى الْأَرْضِ أَسْهَلُ وَأَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ الرِّبَا بِسُلَّمٍ طَوِيلٍ صَعْبِ التَّرَاقِي يَتَرَابَى الْمُتَرَابِيَانِ عَلَى رَأْسِهِ فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ مَفْسَدَةٍ مِنْ مَفَاسِدِ الرِّبَا زَالَتْ بِهَذَا الِاحْتِيَالِ وَالْخِدَاعِ؟ فَهَلْ صَارَ هَذَا الذَّنْبُ الْعَظِيمُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ حَسَنَةً وَطَاعَةً بِالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ؟ وَيَا لِلَّهِ، كَيْفَ قَلَبَ الْخِدَاعُ وَالِاحْتِيَالُ حَقِيقَتَهُ مِنْ الْخَبِيثِ إلَى الطَّيِّبِ وَمِنْ الْمَفْسَدَةِ إلَى الْمَصْلَحَةِ وَجَعَلَهُ مَحْبُوبًا لِلرَّبِّ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْخُوطًا لَهُ؟ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا الِاحْتِيَالُ يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 فَإِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَكَانٍ وَمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ وَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى دَعَائِمِ الدِّينِ وَأَوْثَقِ عُرَاهُ وَأَجَلِّ أُصُولِهِ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ تَزُولُ مَفْسَدَةُ التَّحْلِيلِ الَّذِي أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَعْنِ فَاعِلِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِتَسْبِيقِ شَرْطِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى صُلْبِ الْعَقْدِ وَخَلَاءِ صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ لَفْظِهِ وَقَدْ وَقَعَ التَّوَاطُؤُ وَالتَّوَافُقُ عَلَيْهِ؟ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلشَّارِعِ؟ وَأَيُّ حِكْمَةٍ فِي تَقْدِيمِ الشَّرْطِ وَتَسْبِيقِهِ حَتَّى تَزُولَ بِهِ اللَّعْنَةُ وَتَنْقَلِبَ بِهِ خَمْرَةُ هَذَا الْعَقْدِ خَلًّا؟ وَهَلْ كَانَ عَقْدُ التَّحْلِيلِ مَسْخُوطًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لِحَقِيقَتِهِ وَمَعْنَاهُ، أَمْ لِعَدَمِ مُقَارَنَةِ الشَّرْطِ لَهُ وَحُصُولِ صُورَةِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ حَقِيقَتِهِ وَحُصُولِ حَقِيقَةِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ؟ وَهَكَذَا الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ؛ فَإِنَّ الرِّبَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا لِصُورَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَرَامًا لِحَقِيقَتِهِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ؛ فَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ حَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ التَّحْرِيمُ فِي أَيِّ صُورَةٍ رُكِّبَتْ وَبِأَيِّ لَفْظٍ عَبَّرَ عَنْهَا؛ فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْأَسْمَاءِ وَصُوَرِ الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمَا عُقِدَتْ لَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْمِ، وَإِنَّمَا انْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ، وَيَلْزَمُ مَنْ رَاعَى الصُّوَرَ وَالظَّوَاهِرَ وَالْأَلْفَاظَ دُونَ الْحَقَائِقِ وَالْمَقَاصِدِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لُعِنُوا عَلَى اسْتِحْلَالِ الثَّمَنِ - وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ - عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّظَرُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَقْصُودِ لَا إلَى مُجَرَّدِ الصُّورَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ: لَا تَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ، فَيَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ عِوَضَهُ وَيَقُولُ: لَمْ أَقْرَبِ مَالَهُ، وَكَمَنْ يَقُولُ لِرَجُلٍ: لَا تَشْرَبْ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَيَشْرَبُ بِكَفَّيْهِ وَيَقُولُ: لَمْ أَشْرَبْ مِنْهُ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا، فَيَضْرِبُهُ فَوْقَ ثِيَابِهِ وَيَقُولُ: إنَّمَا ضَرَبْت ثِيَابَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: لَا تَأْكُلْ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ، فَيَشْتَرِي بِهِ سِلْعَةً وَلَا يُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَنْقُدُهُ لِلْبَائِعِ وَيَقُولُ: لَمْ آكُلْ مَالَهُ إنَّمَا أَكَلْت مَا اشْتَرَيْته وَقَدْ مَلَكْت ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَوْ اسْتَعْمَلَهَا الطَّبِيبُ فِي مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى لَزَادَ مَرَضُهُمْ، وَلَوْ اسْتَعْمَلَهَا الْمَرِيضُ كَانَ مُرْتَكِبًا لِنَفْسِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ الطَّبِيبُ، كَمَنْ يَقُولُ لَهُ الطَّبِيبُ: لَا تَأْكُلْ اللَّحْمَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي مَوَادِّ الْمَرَضِ، فَيَدُقُّهُ وَيَعْمَلُ مِنْهُ هَرِيسَةً وَيَقُولُ: لَمْ آكُلْ اللَّحْمَ، وَهَذَا الْمِثَالُ مُطَابِقٌ لِعَامَّةِ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ فِي الدِّينِ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا صَرِيحًا وَبَيْنَ إدْخَالِ سِلْعَةٍ لَمْ تُقْصَدْ أَصْلًا بَلْ دُخُولُهَا كَخُرُوجِهَا؟ وَلِهَذَا لَا يَسْأَلُ الْعَاقِدُ عَنْ جِنْسِهَا وَلَا صِفَتِهَا وَلَا قِيمَتِهَا وَلَا عَيْبٍ فِيهَا وَلَا يُبَالِي بِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ خِرْقَةً مُقَطَّعَةً أَوْ أُذُنَ شَاةٍ أَوْ عُودًا مِنْ حَطَبٍ أَدْخَلُوهُ مُحَلِّلًا لِلرِّبَا، وَلَمَّا تَفَطَّنَ الْمُحْتَالُونَ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ لَا اعْتِبَارَ بِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِوَجْهٍ، وَأَنَّ دُخُولَهَا كَخُرُوجِهَا - تَهَاوَنُوا بِهَا، وَلَمْ يُبَالُوا بِكَوْنِهَا مِمَّا يُتَمَوَّلُ عَادَةً أَوْ لَا يُتَمَوَّلُ، وَلَمْ يُبَالِ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِلْبَائِعِ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ، بَلْ لَمْ يُبَالِ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا مِمَّا يُبَاعُ أَوْ مِمَّا لَا يُبَاعُ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَنَارَةِ وَالْقَلْعَةِ، وَكُلُّ هَذَا وَقَعَ مِنْ أَرْبَابِ الْحِيَلِ، وَهَذَا لِمَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا غَرَضَ لَهُ فِي السِّلْعَةِ فَقَالُوا: أَيُّ سِلْعَةٍ اتَّفَقَ حُضُورُهَا حَصَلَ بِهَذَا التَّحْلِيلِ، كَأَيِّ تَيْسٍ اتَّفَقَ فِي بَابِ مُحَلِّلِ النِّكَاحِ. [مَثَلُ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّوَاهِرِ] وَمَا مَثَلُ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّوَاهِرِ وَالْأَلْفَاظِ وَلَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ إلَّا كَمَثَلِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لَا تُسَلِّمْ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ، فَقَبَّلَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَامْلَأْ هَذِهِ الْجَرَّةَ، فَذَهَبَ فَمَلَأَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا عَلَى الْحَوْضِ وَقَالَ: لَمْ تَقُلْ ايتِنِي بِهَا، وَكَمَنْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذِهِ السِّلْعَةَ، فَبَاعَهَا بِدِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً، وَيَلْزَمُ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّوَاهِرِ أَنْ يُصَحِّحَ هَذَا الْبَيْعَ وَيَلْزَمَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمَقَاصِدِ تَنَاقَضَ حَيْثُ أَلْقَاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَكَمَنْ أَعْطَاهُ رَجُلٌ ثَوْبًا فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ لِمَا [لَهُ] فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ، فَبَاعَهُ وَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ فَقَبِلَهُ، وَكَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ هَذَا الشَّرَابَ، فَجَعَلَهُ عَقِيدًا أَوْ ثَرَدَ فِيهِ خُبْزًا وَأَكَلَهُ، وَيَلْزَمُ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّوَاهِرِ وَالْأَلْفَاظِ أَنْ لَا يَحُدَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنَّ مِنْ الْأُمَّةِ مَنْ يَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» وَفِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إيَّاهُ» وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ «لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ آخَرُ يُوَافِقُ هَذَا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إيَّاهُ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ» وَهَذَا حَقٌّ؛ فَإِنَّ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا بِاسْمِ الْبَيْعِ ظَاهِرٌ كَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الْبَيْعِ وَحَقِيقَتُهَا حَقِيقَةُ الرِّبَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا حُرِّمَ لِحَقِيقَتِهِ وَمَفْسَدَتِهِ لَا لِصُورَتِهِ وَاسْمِهِ، فَهَبْ أَنَّ الْمُرَابِيَ لَمْ يُسَمِّهِ رِبًا وَسَمَّاهُ بَيْعًا فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَه عَنْ نَفْسِهَا، وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الْخَمْرِ بِاسْمٍ آخَرَ فَكَمَا اسْتَحَلَّ مِنْ اسْتَحَلَّ الْمُسْكِرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَقَالَ: لَا أُسَمِّيهِ خَمْرًا وَإِنَّمَا هُوَ نَبِيذٌ، وَكَمَا يَسْتَحِلُّهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُجَّانِ إذَا مُزِجَتْ وَيَقُولُونَ: خَرَجَتْ عَنْ اسْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الْخَمْرِ، كَمَا يَخْرُجُ الْمَاءُ بِمُخَالَطَةِ غَيْرِهِ لَهُ عَنْ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَكَمَا يَسْتَحِلُّهَا مَنْ يَسْتَحِلُّهَا إذَا اتَّخَذَتْ عَقِيدًا وَيَقُولُ: هَذِهِ عَقِيدٌ لَا خَمْرٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْرِيمَ تَابِعٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَفْسَدَةِ لَا لِلِاسْمِ وَالصُّورَةِ؛ فَإِنَّ إيقَاعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ لَا تَزُولُ بِتَبْدِيلِ الْأَسْمَاءِ وَالصُّوَرِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَعَدَمِ الْفِقْهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ السُّحْتِ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ - كَرِشْوَةِ الْحَاكِمِ وَالْوَالِي وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الْمُرْتَشِيَ مَلْعُونٌ هُوَ وَالرَّاشِي؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُمَا لَا يَخْرُجَانِ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ الرِّشْوَةِ بِمُجَرَّدِ اسْمِ الْهَدِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمْنَا وَعَلِمَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَمَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ إلَى الْحِيَلِ أَنَّهَا رِشْوَةٌ. وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الْقَتْلِ بِاسْمِ الْإِرْهَابِ الَّذِي تُسَمِّيهِ وُلَاةُ الْجَوْرِ سِيَاسَةً وَهَيْبَةً وَنَامُوسًا وَحُرْمَةً لِلْمُلْكِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الزِّنَا بِاسْمِ النِّكَاحِ فَهُوَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي لَا غَرَضَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا وَلَا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَنْ يَقْضِيَ مِنْهَا وَطَرَهُ أَوْ يَأْخُذَ جُعْلًا عَلَى الْفَسَادِ بِهَا وَيَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ بِاسْمِ النِّكَاحِ وَإِظْهَارِ صُورَتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ لَا نَاكِحٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ مُسْتَعَارٌ لِلضِّرَابِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِ الْعُشْرِيِّينَ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ فَرْقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الزِّنَا وَبَيْنَ هَذَا؟ نَعَمْ هَذَا زِنًا بِشُهُودٍ مِنْ الْبَشَرِ وَذَلِكَ زِنًا بِشُهُودٍ مِنْ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْمُحَلِّلَ إذَا قِيلَ لَهُ: هَذَا زِنًا، قَالَ: لَيْسَ بِزِنًا بَلْ نِكَاحٌ، كَمَا أَنَّ الْمُرَابِيَ إذَا قِيلَ لَهُ: هَذَا رِبًا، قَالَ: بَلْ هُوَ بَيْعٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ وَصُورَتِهِ كَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَشِيشَةَ بِاسْمِ لُقَيْمَةِ الرَّاحَةِ، وَيَسْتَحِلُّ الْمَعَازِفَ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالْبَرْبَطِ بِاسْمٍ يُسَمِّيهَا بِهِ، وَكَمَا يُسَمِّي بَعْضُهُمْ الْمُغَنِّيَ بِالْحَادِي وَالْمُطْرِبِ وَالْقَوَّالِ، وَكَمَا يُسَمِّي الدَّيُّوثَ بِالْمُصْلِحِ وَالْمُوَفِّقِ وَالْمُحْسِنِ، وَرَأَيْت مَنْ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَيُسَمِّي ذَلِكَ وَضْعَ الرَّأْسِ لِلشَّيْخِ؛ قَالَ: وَلَا أَقُولُ هَذَا سُجُودٌ، وَهَكَذَا الْحِيَلُ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا يَعْمِدُونَ إلَى الْأَحْكَامِ فَيُعَلِّقُونَهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ: اجْعَلْهَا أَلْفًا وَمِائَةً إلَى سَنَةٍ بِإِدْخَالِ هَذِهِ الْخِرْقَةِ وَإِخْرَاجِهَا صُورَةً لَا مَعْنًى، لَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ تَوَسُّطِهَا وَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مَكِّنِينِي مِنْ نَفْسِك أَقْضِ مِنْك وَطَرًا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً بِكَذَا وَكَذَا، لَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ إدْخَالِ شَاهِدَيْنِ فِي هَذَا أَوْ عَدَمِ إدْخَالِهِمَا وَقَدْ تَوَاطَئَا عَلَى قَضَاءِ وَطَرٍ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 [ذِكْرُ أَسْمَاءٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ] : وَلَوْ أَوْجَبَ تَبْدِيلُ الْأَسْمَاءِ وَالصُّوَرِ تَبَدُّلَ الْأَحْكَامِ وَالْحَقَائِقِ لَفَسَدَتْ الدِّيَانَاتُ، وَبُدِّلَتْ الشَّرَائِعُ، وَاضْمَحَلَّ الْإِسْلَامُ، وَأَيُّ شَيْءٌ نَفَعَ الْمُشْرِكِينَ تَسْمِيَتُهُمْ أَصْنَامَهُمْ آلِهَةً وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَتِهَا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَهُمْ تَسْمِيَةُ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ الْمُعَطِّلِينَ لِحَقَائِقِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ الْغُلَاةَ مِنْ الْبَشَرِ وَاِتِّخَاذَهُمْ طَوَاغِيتَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ نُفَاةَ الْقَدَرِ الْمُخْرِجِينَ لِأَشْرَفِ مَا فِي مَمْلَكَةِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ طَاعَاتِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ عَدْلًا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَهُمْ نَفْيَهُمْ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَوْحِيدًا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَا يُحْيِي الْمَوْتَى وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا أَرْسَلَ إلَى النَّاسِ رُسُلًا يَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَتِهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ حِكْمَةً؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ أَهْلَ النِّفَاقِ تَسْمِيَةُ نِفَاقِهِمْ عَقْلًا مَعِيشِيًّا وَقَدْحِهِمْ فِي عَقْلِ مَنْ لَمْ يُنَافِقْ نِفَاقَهُمْ وَيُدَاهِنْ فِي دِينِ اللَّهِ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ المكسة تَسْمِيَةُ مَا يَأْخُذُونَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا حُقُوقًا سُلْطَانِيَّةً وَتَسْمِيَةُ أَوْضَاعِهِمْ الْجَائِرَةِ الظَّالِمَةِ الْمُنَاقِضَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ شَرْعَ الدِّيوَانِ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ نَفَعَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ تَسْمِيَةُ شُبَهِهِمْ الدَّاحِضَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ عَقْلِيَّاتٍ وَبَرَاهِينَ؟ وَتَسْمِيَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّطَحَاتِ حَقَائِقَ؟ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ حَقِيقٌ أَنْ يُتْلَى عَلَيْهِمْ: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] . [فَصْلٌ صِيَغُ الْعُقُودِ] فَصْلٌ [صِيَغُ الْعُقُودِ إخْبَارٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الشَّارِعُ] وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ - مِنْ أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ دُونَ الْأَلْفَاظِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ بِهَا مَعَانِيهَا وَحَقَائِقُهَا أَوْ قُصِدَ غَيْرُهَا - أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَتَزَوَّجْت وَأَجَرْت إمَّا إخْبَارَاتٌ وَإِمَّا إنْشَاءَاتٌ، وَإِمَّا أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَهِيَ إخْبَارَاتٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْعُقُودِ وَإِنْشَاءَاتٌ لِحُصُولِ الْعُقُودِ فِي الْخَارِجِ؛ فَلَفْظُهَا مُوجِبٌ لِمَعْنَاهَا فِي الْخَارِجِ؛ وَهِيَ إخْبَارٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا بُدَّ فِي صِحَّتِهَا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 مُطَابَقَةِ خَبَرِهَا لِمُخْبِرِهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَعَانِي فِي النَّفْسِ كَانَتْ خَبَرًا كَاذِبًا، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمُنَافِقِ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ إذَا قَالَ " تَزَوَّجْت " وَهُوَ لَا يَقْصِدُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الشَّرْعِ كَانَ إخْبَارًا كَاذِبًا وَإِنْشَاءً بَاطِلًا؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ تُوضَعْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي اللُّغَةِ لِمَنْ قَصَدَ رَدَّ الْمُطَلَّقَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي النِّكَاحِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي تَوَابِعِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي الصُّحْبَةِ وَلَا فِي الْعِشْرَةِ وَلَا فِي الْمُصَاهَرَةِ وَلَا فِي الْوَلَدِ وَلَا فِي الْمُوَاصَلَةِ وَلَا الْمُعَاشَرَةِ وَلَا الْإِيوَاءِ، بَلْ قَصْدُهُ أَنْ يُفَارِقَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ؛ فَاَللَّهُ جَعَلَ النِّكَاحَ سَبَبًا لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَالْمُحَلِّلُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمُفَارَقَةِ، فَإِنَّهُ تَزَوَّجَ لِيُطَلِّقَ؛ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِشَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ " تَزَوَّجْت " بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ وَكَّلْتُك أَوْ شَارَكْتُك أَوْ ضَارَبْتُك أَوْ سَاقَيْتُك وَهُوَ يَقْصِدُ رَفْعَ هَذِهِ الْعُقُودِ وَفَسْخَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ إخْبَارَاتٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْعُقُودِ وَمَبْدَأُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ اللَّفْظُ كَلَامًا مُعْتَبَرًا؛ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ كَلَامًا مُعْتَبَرًا إلَّا إذَا قُرِنَتْ بِمَعَانِيهَا، فَتَصِيرُ إنْشَاءً لِلْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ وَبِهَا وُجِدَ، وَإِخْبَارَاتٌ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ؛ فَهِيَ تُشْبِهُ فِي اللَّفْظِ أَحْبَبْت أَوْ أَبْغَضْت وَكَرِهْت، وَتُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى قُمْ وَاقْعُدْ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، إلَّا لِمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلَا تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَالَ بِعْت أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ وَإِنْ كَانَ هَازِلًا، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ؛ فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ؛ وَلِهَذَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَا سِيَّمَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا أَحْكَامَهَا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيَهَا، وَالْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مَعَانِيَهَا بَلْ تَكَلَّمَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ قَاصِدًا لِغَيْرِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 أَبْطَلَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ قَصْدَهُ، فَإِنْ كَانَ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْنَى أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ الْمَعْنَى كَمَنْ هَزَلَ بِالْكُفْرِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، بَلْ لَوْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ هَازِلًا أُلْزِمَ بِهِ وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامًا ظَاهِرًا، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَا مُخَادِعًا مَاكِرًا مُحْتَالًا مُظْهِرًا خِلَافَ مَا أَبْطَنَ لَمْ يُعْطِهِ الشَّارِعُ مَقْصُودَهُ كَالْمُحَلَّلِ وَالْمُرَابِي بِعَقْدِ الْعَيِّنَةِ وَكُلِّ مَنْ احْتَالَ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَظْهَرَهُ وَأَبْطَنَ الْأَمْرَ الْبَاطِلَ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ الْإِلْزَامِ بِنِكَاحِ الْهَازِلِ وَطَلَاقِهِ وَرَجْعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ حَقَائِقَ هَذِهِ الصِّيَغِ وَمَعَانِيَهَا. [تَقْسِيمٌ جَامِعٌ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ صِيَغِ الْعُقُودِ] وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَقْسِيمًا جَامِعًا نَافِعًا فِي هَذَا الْبَابِ نُبَيِّنُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقُولُ: الْمُتَكَلِّمُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّكَلُّمِ بِهَا أَوْ لَا يَكُونَ قَاصِدًا؛ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِهَا كَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ فَالصَّوَابُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كُلَّهَا هَدَرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمِيزَانُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا التَّكَلُّمَ بِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِغَايَاتِهَا مُتَصَوِّرًا لَهَا أَوْ لَا يَدْرِي مَعَانِيَهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ عِنْدَهُ كَأَصْوَاتٍ يَنْعَقُ بِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَلَا مُتَصَوِّرًا لَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا أَيْضًا، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَصَوِّرًا لِمَعَانِيهَا عَالِمًا بِمَدْلُولِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لَهَا أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا تَرَتَّبَتْ أَحْكَامُهَا فِي حَقِّهِ وَلَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ خِلَافَهَا أَوْ لَا يَقْصِدَ لَا مَعْنَاهَا وَلَا غَيْرَ مَعْنَاهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ التَّكَلُّمِ بِهَا فَهُوَ الْهَازِلُ وَنَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ مَعْنَاهَا فَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ مَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُهُ أَوْ لَا؛ فَإِنْ قَصَدَ مَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُهُ نَحْوَ أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي، أَوْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " أَمَتِي - أَوْ عَبْدِي حُرٌّ " أَنَّهُ عَفِيفٌ عَنْ الْفَاحِشَةِ، أَوْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " امْرَأَتِي عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي " فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَلْزَمْهُ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّيَغِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِكَلَامِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ وَالْقَرِينَةَ بَيِّنَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِكَلَامِهِ قَرِينَةٌ أَصْلًا وَادَّعَى ذَلِكَ دَعْوَى مُجَرَّدَةً لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا مَا لَا يَجُوزُ قَصْدُهُ، كَالتَّكَلُّمِ بِنَكَحْتُ وَتَزَوَّجْت بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ، وَبِعْت وَاشْتَرَيْت بِقَصْدِ الرِّبَا، وَبِخَالَعْتهَا بِقَصْدِ الْحِيلَةِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَبِمَلَكْتُ بِقَصْدِ الْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ الشُّفْعَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ الَّذِي قَصَدَهُ وَجَعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَالْفِعْلِ وَسِيلَةً إلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ تَنْفِيذًا لِلْمُحَرَّمِ، وَإِسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِعَانَةً عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمُنَاقَضَةً لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، فَإِعَانَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وُضِعَتْ مُفْضِيَةً إلَيْهِ وَبَيْنَ إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي وُضِعَتْ مُفْضِيَةً إلَى غَيْرِهِ؛ فَالْمَقْصُودُ إذَا كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ بِمُوجِبٍ لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ فَيَحْرُمُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَحِلُّ بِعَيْنِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَالطُّرُقُ وَسَائِلُ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّوَسُّلِ إلَى الْحَرَامِ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَالِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّوَسُّلِ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُجَاهَرَةِ الَّتِي يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَالظَّاهِرُ الْبَاطِنَ وَالْقَصْدُ اللَّفْظَ، بَلْ سَالِكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَدْ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ وَخَطَرُهُ أَقَلَّ مِنْ سَالِكِ تِلْكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا أَنَّ سَالِكَ طَرِيقِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ عِنْدَ النَّاسِ أَمْقَتُ وَفِي قُلُوبِهِمْ أَوْضَعُ وَهُمْ عَنْهُ أَشَدُّ نَفْرَةً مِمَّنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ وَدَخَلَهُ مِنْ بَابِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وِسَادَاتِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ - فِي هَؤُلَاءِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ عَلَى الْمُكْرَهِ] فَصْلٌ [الْكَلَامُ عَلَى الْمُكْرَهِ] إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُكْرَهُ قَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حُكْمُهُ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ، فَانْتَفَى الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ لِمُوجِبِ اللَّفْظِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ اقْتِضَاءَ الْفِعْلِ لِأَثَرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ أَوْ غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ أَوْ نَجَّسَ الْمَائِعَ مُكْرَهًا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ أَوْ الْإِتْلَافَ أَوْ التَّنْجِيسَ فَاسِدٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ سَكِرَ لَمْ يُقَلْ: إنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ طَلَّقَ أَوْ عَقَدَ عَقْدًا حُكْمِيًّا، وَهَكَذَا الْمُحْتَالُ الْمَاكِرُ الْمُخَادِعُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي احْتَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ فَقَصَدَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ وَالتَّحْلِيلَ بِالنِّكَاحِ وَالْحِنْثَ بِالْخُلْعِ، بَلْ الْمُكْرَهُ قَدْ قَصَدَ دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قَصْدُهُ التَّوَسُّلُ إلَى غَرَضٍ رَدِيءٍ؛ فَالْمُحْتَالُ وَالْمُكْرَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بِالسَّبَبِ حُكْمَهُ وَلَا بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَا التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَبِظَاهِرِ ذَلِكَ السَّبَبِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ حُكْمِ السَّبَبِ، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا رَاهِبٌ قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا يُحْمَدُ أَوْ يُعْذَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآخَرُ رَاغِبٌ قَصْدُهُ إبْطَالُ حَقٍّ وَإِيثَارُ بَاطِلٍ، وَلِهَذَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَالْمُكْرَهُ يُبْطِلُ حُكْمَ السَّبَبِ فِيمَا عَلَيْهِ وَفِيمَا لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَالْمُحْتَالُ يُبْطِلُ حُكْمَ السَّبَبِ فِيمَا احْتَالَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِيمَا سِوَاهُ فَيَجِبُ فِيهِ التَّفْصِيلُ. وَهَهُنَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ مُحْتَالٌ فَكَمَنْ ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَمَنْ ادَّعَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الِاحْتِيَالَ فَكَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ أَمْرِ الْمُكْرَهِ أَبَيْنَ مِنْ ظُهُورِ أَمْرِ الْمُحْتَالِ. [فَصْلٌ حَقِيقَةُ الْهَازِلِ وَحُكْمُ عُقُودِهِ] فَصْلٌ [حَقِيقَةُ الْهَازِلِ وَحُكْمُ عُقُودِهِ] وَأَمَّا الْهَازِلُ فَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمُوجِبِهِ وَحَقِيقَتِهِ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ لِلَّعِبِ وَنَقِيضُهُ الْجَادُّ فَاعِلٌ مِنْ الْجِدِّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ نَقِيضُ الْهَزْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ " جَدَّ فُلَانٌ " إذَا عَظُمَ وَاسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا حَظٍّ، وَالْهَزْلُ: مِنْ هَزُلَ إذَا ضَعُفَ وَضَؤُلَ، نَزَلَ الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْحَظِّ وَالْبَخْتِ وَالْغِنَى، وَاَلَّذِي لَمْ يُرَدْ مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَالِي مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ قِوَامُ الْكَلَامِ بِمَعْنَاهُ، وَقِوَامُ الرَّجُلِ بِحَظِّهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا فَقَدْ جَازَ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تَكَلَّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ. وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِمْ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ثَلَاثٌ اللَّعِبُ فِيهِنَّ كَالْجَدِّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: النِّكَاحُ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ. فَصْلٌ [أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي نَفَاذِ حُكْمِ الْعُقُودِ عَلَى الْهَازِلِ] فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ صَحِيحٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّصُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَفْصٍ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَازِمٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَجُوزُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْهَزْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْهَازِلِ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 انْتِصَارِهِ: يَصِحُّ بَيْعُهُ كَطَلَاقِهِ، وَخَرَّجَهَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَاسَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْزَمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مَرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجِبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ لِلْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا، إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَصْدٌ آخَرُ كَالْمُكْرَهِ وَالْمُخَادِعِ الْمُحْتَالِ؛ فَإِنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ مَعْنَى الْقَوْلِ وَمُوجِبِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ السَّبَبَ ابْتِدَاءً، وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ إعَادَتَهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِقَصْدِهِ مُوجِبٌ السَّبَبَ، وَأَمَّا الْهَازِلُ فَقَصَدَ السَّبَبَ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهُ وَلَا مَا يُنَافِي حُكْمَهُ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِلَغْوِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ. قِيلَ: اللَّاغِي لَمْ يَقْصِدْ السَّبَّ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ النَّائِمِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَأَيْضًا فَالْهَزْلُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْهَازِلِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَابِهِ وَالنِّكَاحِ وَبَابِهِ قَالَ: الْحَدِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُقُودِ مَا يَكُونُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ الْعُقُودُ كُلُّهَا أَوْ الْكَلَامُ كُلُّهُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ وَالْعِتْقَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الْعِتْقُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ، وَلِهَذَا تَجِبُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا الزَّوْجَةُ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ حِلَّ مَا كَانَ حَرَامًا وَحُرْمَةَ مَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالْمُصَاهَرَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِالْمَهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ - مَعَ تَعَاطِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ - أَنْ لَا يُرَتِّبَ عَلَيْهَا مُوجِبَاتِهَا، كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي كَلِمَاتِ الْكُفْرِ إذَا هَزَلَ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ لِحَقِّ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ قَوْلُهُ مَعَ رَفْعِ ذَلِكَ الْحَقِّ؛ إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَهْزِلَ مَعَ رَبِّهِ وَلَا يَسْتَهْزِئَ بِآيَاتِهِ وَلَا يَتَلَاعَبَ بِحُدُودِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ» وَذَلِكَ فِي الْهَازِلِينَ، يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - يَقُولُونَهَا لَعِبًا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِهَا وَحُكْمُهَا لَازِمٌ لَهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَبَابِهِ؛ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ بَذْلَهُ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَلْعَبُ مَعَ الْإِنْسَانِ وَيَنْبَسِطُ مَعَهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْجَادِّ؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَ مَعَهُ جَائِزٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ وَالْمُزَاحَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيُبَاسِطُهُمْ» . وَأَمَّا مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى فَيَجِدُّ كُلَّ الْجِدِّ، وَلِهَذَا «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ يُمَازِحُهُ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ» وَقَصَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " مَنْ يَتَزَوَّجُ أُمِّي أَوْ أُخْتِي " لَكَانَ مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْرِبُ مَنْ يَدْعُو امْرَأَتَهُ أُخْتَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُخْتُك هِيَ؟ إنَّمَا جَعَلَ إبْرَاهِيمُ ذَلِكَ حَاجَةً لَا مُزَاحًا» . وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى نَقْلِهَا، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَنْهَى عَنْ الْبَيْعِ فِيهَا، وَمَنْ يَشْتَرِطُ لَهُ لَفْظًا بِالْعَرَبِيَّةِ رَاعَى فِيهِ ذَلِكَ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ الْهَزْلُ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بِحُكْمِ وِلَايَةِ الشَّارِعِ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُكَلَّفُ قَصَدَ السَّبَبَ، وَالشَّارِعُ قَصَدَ الْحُكْمَ، فَصَارَا مَقْصُودَيْنِ كِلَاهُمَا. [فَصْلٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ] فَصْلٌ [مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ] وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَيَلْتَزِمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَلَا أَنْ يَشُقَّ بُطُونَهُمْ، بَلْ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا فِي دِينِهِ، وَيُجْرِي أَحْكَامَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، فَأَحْكَامُ الدُّنْيَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحْكَامُ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَبِلَ إسْلَامَ الْأَعْرَابِ، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا، وَقَبِلَ إسْلَامَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. فَأَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ لِلْعِبَادِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ خِلَافُ مَا أَبْطَنُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمُلَاعِنِ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا قَالَ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ عَلَى شَبَهِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ لَكَانَ أَشْبَهُ الْوَلَدِ بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ يَقْتَضِي حُكْمًا آخَرَ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِاللَّعَّانِ أَلْغَى حُكْمَ هَذَا الشَّبَهِ، فَإِنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 الْآخَرِ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا، وَهَذَا كَمَا لَوْ تَعَارَضَ دَلِيلُ الْفِرَاشِ وَدَلِيلُ الشَّبَهِ، فَإِنَّا نُعْمِلُ دَلِيلَ الْفِرَاشِ وَلَا نَلْتَفِتُ إلَى الشَّبَهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ وَالْقَرَائِنَ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا؟ وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْحُكْمِ بِقَرِينَةٍ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْقَرَائِنِ؟ وَسَيَأْتِي دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمَّا إنْفَاذُهُ لِلْحُكْمِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ شَرْعًا غَيْرُ هَذَا، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الْمُتَدَاعِينَ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِقًّا وَالْآخَرُ مُبْطِلًا، وَيَنْفُذُ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا تَارَةً بِإِثْبَاتِ حَقِّ الْمُحِقِّ وَإِبْطَالِ بَاطِلِ الْمُبْطِلِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحِقِّ دَلِيلٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَأَحْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ وَاحِدَةً فَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِنِيَّاتِ أَصْحَابِهَا وَمَقَاصِدِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ ظَوَاهِرَ أَلْفَاظِهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَ أَلْبَتَّةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَطَعَ التَّوَاصُلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، بَلْ بَانَتْ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَلْبَتَّةَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَمَعَ هَذَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ مُخَالَفَةِ الظَّوَاهِرِ اعْتِمَادًا عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ لَمَا نَفَعَهُ قَصْدُهُ الَّذِي يُخَالِفُ ظَاهِرَ لَفْظِهِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بَيِّنَةً؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ قُبِلَ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ لَفْظِهِ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ نِيَّتَهُ وَقَصْدَهُ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا اسْتِعْمَالَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا يُوجَدُ أَقْوَى مِنْهَا " يَعْنِي دَلَالَةَ الشَّبَهِ فَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِدَلَالَةٍ أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ اللِّعَانُ، كَمَا أَبْطَلَهَا مَعَ قِيَامِ دَلَالَةِ الْفِرَاشِ، وَاعْتَبَرَهَا حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا مِثْلُهَا وَلَا أَقْوَى مِنْهَا فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّبَهِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا إلْغَاءُ الدَّلَالَاتِ وَالْقَرَائِنِ مُطْلَقًا؟ [فَصْلٌ أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ] [أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفْرِ مَعَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ فَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى عِلْمِهِ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا أَجْرَاهَا عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا أَدِلَّةً عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيهَا مُظْهِرُونَ لِخِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ، وَإِذَا أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ وَرَتَّبَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ حُكْمَهُ وَأَطْلَعَ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُطَابِقْ قَوْلُهُمْ اعْتِقَادَهُمْ. وَهَذَا كَمَا أَجْرَى حُكْمَهُ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ ظَاهِرًا ثُمَّ أَطْلَعَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَالِ الْمَرْأَةِ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَكَمَا قَالَ: «إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . وَقَدْ يُطْلِعُهُ اللَّهُ عَلَى حَالِ آخِذِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ إنْفَاذِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ " فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَذْفِ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعِ مُسْتَفْتِيًا عَنْ حُكْمِ هَذَا الْوَلَدِ: أَيَسْتَلْحِقُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِلَوْنِهِ أَمْ يَنْفِيه فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَّبَ لَهُ الْحُكْمَ بِالشَّبَهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ لِيَكُونَ أَذْعَنَ لِقَبُولِهِ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُهُ عَلَى إغْمَاضٍ. فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَوْلِ مَنْ يُشَاتِمُ غَيْرَهُ: أَمَّا أَنَا فَلَسْت بِزَانٍ، وَلَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. وَنَحْوِ هَذَا مِنْ التَّعْرِيضِ الَّذِي هُوَ أَوْجَعُ وَأَنْكَى مِنْ التَّصْرِيحِ، وَأَبْلَغُ فِي الْأَذَى، وَظُهُورُهُ عِنْدَ كُلِّ سَامِعٍ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ الصَّرِيحِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَلِكَ لَوْنٌ، وَقَدْ حَدَّ عُمَرُ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْقَذْفِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " إنَّهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ " فَإِنَّهُ يُرِيدُ مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ خَالَفَ عُمَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا فُهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ فَسَكَتَ، وَهَذَا إلَى الْمُوَافَقَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمُخَالَفَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْفَاحِشَةِ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ صَفْوَانَ وَأَيُّوبَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرَى الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، كَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَالظِّهَارُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا وُضِعَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى غَايَةَ الظُّهُورِ لَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ خِلَافِ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ " فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَحَقْنِ دَمِهِ بِإِسْلَامِهِ وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ فِيهِمَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْحُجَّةَ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِمَا، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُمَا يَقُولُ: إنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهَا؛ فَإِنَّ الزِّنْدِيقَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ بِإِسْلَامِهِ الثَّانِي حَالٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَقَدْ تَجَدَّدَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ حَالٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا، وَالزِّنْدِيقُ إنَّمَا رَجَعَ إلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَيْضًا فَالْكَافِرُ كَانَ مُعْلِنًا لِكُفْرِهِ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِهِ وَلَا مُخْفٍ لَهُ، فَإِذَا أَسْلَمَ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَتَى بِالْإِسْلَامِ رَغْبَةً فِيهِ لَا خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ، وَالزِّنْدِيقُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخْفِيًا لِكُفْرِهِ مُسْتَتِرًا بِهِ، فَلَمْ نُؤَاخِذْهُ بِمَا فِي قَلْبِهِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ وَآخَذْنَاهُ بِهِ فَإِذَا رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ أَمْرٍ كَانَ مُظْهِرًا لَهُ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ إظْهَارِهِ وَإِنَّمَا رَجَعَ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَنَّ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا بَأْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُمْ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا إنَّمَا أَسْلَمَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْبَأْسِ، وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ تَائِبٌ مِنْهُ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ وَلَمْ نَقْتُلْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَنَّ فِي الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُمْ إنْ تَابُوا مِنْ قَبْلِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَمُحَارَبَةُ الزِّنْدِيقِ لِلْإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُحَارَبَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِيَدِهِ وَسِنَانِهِ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ هَذَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ وَفِتْنَةَ الزِّنْدِيقِ فِي الْقُلُوبِ وَالْإِيمَانِ، فَهُوَ أَوْلَى أَلَّا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ؛ فَإِنَّ أَمْرَهُ كَانَ مَعْلُومًا، وَكَانَ مُظْهِرًا لِكُفْرِهِ غَيْرَ كَاتِمٍ لَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ، وَجَاهَرُوهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الزِّنْدِيقَ هَذَا دَأْبُهُ دَائِمًا، فَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ لَكَانَ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَى بَقَاءِ نَفْسِهِ بِالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَكُلَّمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَعَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَمِنَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْقَتْلِ، فَلَا يَزَعُهُ خَوْفُهُ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالزَّنْدَقَةِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَمَسَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْكَفُّ عُدْوَانُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ، إلَّا بِقَتْلِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ حَدًّا، وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ اتِّفَاقًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُحَارَبَةَ هَذَا الزِّنْدِيقِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِفْسَادَهُ فِي الْأَرْضِ أَعْظَمُ مُحَارَبَةً وَإِفْسَادًا، فَكَيْفَ تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِقَتْلِ مَنْ صَالَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِذِمِّيٍّ أَوْ عَلَى بَدَنِهِ وَلَا تَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَلَا تَأْتِي بِقَتْلِ مَنْ دَأْبُهُ الصَّوْلُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَالطَّعْنُ فِي دِينِهِ وَتَقْبَلُ تَوْبَتَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؟ وَأَيْضًا فَالْحُدُودُ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ وَالْمَفَاسِدِ، وَجَرِيمَةُ هَذَا أَغْلَظُ الْجَرَائِمِ، وَمَفْسَدَةُ بَقَائِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ. [مَتَى يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ] [قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ مَتَى يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ] وَهَا هُنَا قَاعِدَةٌ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا قَبِلَ تَوْبَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ كُفْرِهِ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضٍ لِحَقْنِ الدَّمِ وَالْمُعَارِضُ مُنْتَفٍ، فَأَمَّا الزِّنْدِيقُ فَإِنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ مَا يُبِيحُ دَمَهُ، فَإِظْهَارُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِدَمِهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَلَا ظَنِّيَّةً، أَمَّا انْتِفَاءُ الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الظَّنِّ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا صَحِيحًا إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَاطِنِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ظَاهِرٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْعُدُولُ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ إقْرَارًا عَلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ " هَذَا ابْنِي " لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ إنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذَا الزِّنْدِيقُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ، وَتَكْذِيبِهِ وَاسْتِهَانَتِهِ بِالدِّينِ، وَقَدْحِهِ فِيهِ؛ فَإِظْهَارُهُ الْإِقْرَارَ وَالتَّوْبَةَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ يُظْهِرُهُ قَبْلَ هَذَا، وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ بِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ الزَّنْدَقَةِ؛ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ إلْغَاءَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ وَإِعْمَالَ الدَّلِيلِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُ دَلَالَتِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ قُوَّةُ هَذَا النَّظَرِ وَصِحَّةُ هَذَا الْمَأْخَذِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ نَصَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَلْ هِيَ أَنَصُّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ آخِرًا: أَقْتُلُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ، لَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَهَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفُ يُقَاوِمُ دَلِيلُ إظْهَارِهِ لِلْإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَدِلَّةَ زَنْدَقَتِهِ وَتَكَرُّرَهَا مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَإِظْهَارَهُ كُلَّ وَقْتٍ لِلِاسْتِهَانَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْقَدْحِ فِي الدِّينِ وَالطَّعْنِ فِيهِ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ؟ مَعَ اسْتِهَانَتِهِ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ؟ وَلَا يَنْبَغِي لِعَالِمٍ قَطُّ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي قَتْلِ مِثْلِ هَذَا، وَلَا تُتْرَكُ الْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لِظَاهِرٍ قَدْ تَبَيَّنَ عَدَمُ دَلَالَتِهِ وَبُطْلَانُهَا، وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ عَنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. نَعَمْ لَوْ أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى السُّلْطَانِ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحَةِ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ يُقْتَلْ كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لَا تَعْصِمُ دَمَهُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] قَالَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] بِالْقَتْلِ إنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَا يُبْطِنُونَهُ مِنْ الْكُفْرِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَتْلِ؛ فَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُمْ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَرَبَّصُوا بِالزَّنَادِقَةِ أَنْ يُصِيبَهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُصَابُوا بِأَيْدِيهِمْ قَطُّ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَعِنْدَ هَذَا فَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَسْعَدُ بِالتَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُشَنِّعِينَ عَلَيْنَا بِخِلَافِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُقَارِنُ فِي الْعُقُودِ] [الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُقَارِنُ] : وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَلَا يَفْسُدُ عَقْدٌ إلَّا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَلَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلَا تَأَخَّرَهُ، وَلَا بِتَوَهُّمٍ، وَلَا أَمَارَةَ عَلَيْهِ " يُرِيدُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ إذَا عَرَّى صُلْبُ الْعَقْدِ عَنْ مُقَارَنَتِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُقَارِنِ؛ إذْ مَفْسَدَةُ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ تَزُلْ بِتَقَدُّمِهِ وَإِسْلَافِهِ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ مُقَارِنًا كَمَفْسَدَتِهِ مُتَقَدِّمًا، وَأَيُّ مَفْسَدَةٍ زَالَتْ بِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ إذَا كَانَا قَدْ عَلِمَا وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَاضِرُونَ أَنَّهُمَا إنَّمَا عَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ وَأَظْهَرَا صُورَةَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا؟ وَهُوَ مُقَيَّدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْمُحَرَّمِ؟ فَإِذَا اشْتَرَطَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ النِّكَاحَ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ شِغَارٍ، وَتَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ، وَتَوَاطَآ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَقَدَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَسَكَتَا عَنْ إعَادَةِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ اعْتِمَادًا عَلَى تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَالْتِزَامِهِ، لَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَمُتْعَةٍ وَشِغَارٍ حَقِيقَةً. وَكَيْفَ يَعْجَزُ الْمُتَعَاقِدَانِ اللَّذَانِ يُرِيدَانِ عَقْدًا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِوَصْفِ أَنْ يَشْتَرِطَا قَبْلَ الْعَقْدِ إرَادَةَ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ يَسْكُتَا عَنْ ذِكْرِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِيَتِمَّ غَرَضُهُمَا؟ وَهَلْ إتْمَامُ غَرَضِهِمَا إلَّا عَيْنُ تَفْوِيتِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَهِيَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا - إلَّا فَتْحٌ لِبَابِ الْحِيَلِ؟ بَلْ هِيَ أَصْلُ الْحِيَلِ وَأَسَاسُهَا، وَكَيْف تُفَرِّقُ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي تَقَدُّمِ لَفْظٍ وَتَأَخُّرِهِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَعْنَى وَالْقَصْدِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَقْرَبِ الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ إلَى حُصُولِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ عَدَمَهُ وَإِبْطَالَهُ؟ وَأَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ؟ وَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُهَا بِبُطْلَانِ سَدِّ الذَّرَائِعِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِتِلْكَ؛ فَالشَّارِعُ سَدَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُوَسِّعُ الطُّرُقَ إلَيْهَا وَتَنْهَجُهَا. وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَجَدَهَا تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ أَوْ الْوُجُوبَ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 لَهُمَا حَقِيقَةً، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ، وَمِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهَا عَلَى التَّدْلِيسِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّوَسُّلِ بِشَرْعِ اللَّهِ الَّذِي أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لِعِبَادِهِ إلَى نَفْسِ مَا حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ بَيِّنٌ فِي الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ يَظْهَرُ لِلْعُقُولِ مُضَادَّةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخِرِ، وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَا مُؤَثِّرٍ؛ إذْ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهَا أَوْ مَوَاضِعُهَا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، وَلَوْ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمَ صِحَّةَ هَذَا بِالِاضْطِرَارِ؛ فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ دُونَ مُقَارَنَةِ صُورَتِهِ صُورَةَ الْحَلَالِ الْمَشْرُوعِ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْحَرَامِ الْبَاطِلِ، فَلَا تُرَاعَى الصُّورَةُ وَتُلْغَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَقْصُودُ، بَلْ مُشَارَكَةُ هَذَا لِلْحَرَامِ صُورَةً وَمَعْنَى وَإِلْحَاقُهُ بِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ. [فَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ] فَصْلٌ وَقَوْلُهُ: " وَلَا تَفْسُدُ الْعُقُودُ بِأَنْ يُقَالَ: هَذِهِ ذَرِيعَةٌ وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ - إلَى آخِرِهِ " فَإِشَارَةٌ مِنْهُ إلَى قَاعِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالذَّرَائِعِ وَلَا يُرَاعَى سَدُّهَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقُصُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلشَّرْطِ الْوَاقِعِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُتَلَازِمَةٌ؛ فَمَنْ سَدَّ الذَّرَائِعَ اعْتَبَرَ الْمَقَاصِدَ وَقَالَ: يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ مُتَقَدِّمًا وَمُقَارِنًا، وَمَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ وَلَا الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إلَّا بِإِبْطَالِ جَمِيعِهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَدَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ عَلَيْهَا فَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ [لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ] لَمَّا كَانَتْ الْمَقَاصِدُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْهَا كَانَتْ طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لَهَا مُعْتَبَرَةً بِهَا، فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي فِي كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِهَا بِهَا، وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْإِذْنِ فِيهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا؛ فَوَسِيلَةُ الْمَقْصُودِ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ، وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ، لَكِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 مَقْصُودٌ قَصْدَ الْغَايَاتِ، وَهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ؛ فَإِذَا حَرَّمَ الرَّبُّ تَعَالَى شَيْئًا وَلَهُ طُرُقٌ وَوَسَائِلُ تُفْضِي إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا وَيَمْنَعُ مِنْهَا، تَحْقِيقًا لِتَحْرِيمِهِ، وَتَثْبِيتًا لَهُ، وَمَنْعًا أَنْ يُقْرَبَ حِمَاهُ، وَلَوْ أَبَاحَ الْوَسَائِلَ وَالذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِغْرَاءً لِلنُّفُوسِ بِهِ، وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ، بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ الطُّرُقَ وَالْأَسْبَابَ وَالذَّرَائِعَ الْمُوَصِّلَةَ إلَيْهِ لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا، وَلَحَصَلَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنْ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إصْلَاحَهُ. فَمَا الظَّنُّ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْكَمَالِ؟ وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصَادِرَهَا وَمَوَارِدَهَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا، وَالذَّرِيعَةُ: مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَقْرِيرِهِ لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ، فَنَقُولُ [أَنْوَاعُ الْوَسَائِلِ وَحُكْمُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا] الْفِعْلُ أَوْ الْقَوْلُ الْمُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهَا كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ السُّكْرِ، وَكَالْقُذُفِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْفِرْيَةِ، وَالزِّنَا الْمُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ وُضِعَتْ مُفْضِيَةً لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَلَيْسَ لَهَا ظَاهِرٌ غَيْرُهَا، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْإِفْضَاءِ إلَى أَمْرٍ جَائِزٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ، فَيُتَّخَذَ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ إمَّا بِقَصْدِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ؛ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ قَاصِدًا بِهِ التَّحْلِيلَ، أَوْ يَعْقِدُ الْبَيْعَ قَاصِدًا بِهِ الرِّبَا، أَوْ يُخَالِعُ قَاصِدًا بِهِ الْحِنْثَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالثَّانِي كَمَنْ يُصَلِّي تَطَوُّعًا بِغَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، أَوْ يَسُبُّ أَرْبَابَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، أَوْ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ الْقَبْرِ لِلَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ الذَّرَائِعِ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ أَرْجَحَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ؛ فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، الثَّانِي: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ قُصِدَ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ، الثَّالِثُ: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ لَكِنَّهَا مُفْضِيَةٌ إلَيْهَا غَالِبًا وَمَفْسَدَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، الرَّابِعُ: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ وَقَدْ تُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَمَصْلَحَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهَا، فَمِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ، وَمِثَالُ الثَّالِثِ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَمَسَبَّةُ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَتَزَيُّنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي زَمَنِ عِدَّتِهَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَمِثَالُ الرَّابِعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ وَالْمُسْتَامَةِ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهَا وَمَنْ يَطَؤُهَا وَيُعَامِلُهَا، وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ هَذَا الْقِسْمِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ أَوْ إيجَابِهِ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَجَاءَتْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَفْسَدَةِ، بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْوَسَطِ: هَلْ هُمَا مِمَّا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِبَاحَتِهِمَا أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُمَا؟ فَنَقُولُ: [فَصْلٌ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَامِ] [الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَامِ وَلَوْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ] الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ - مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لِآلِهَتِهِمْ - لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى، وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَلْ كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْجَائِزِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فَمَنَعَهُنَّ مِنْ الضَّرْبِ بِالْأَرْجُلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا إلَى سَمْعِ الرِّجَالِ صَوْتَ الْخَلْخَالِ فَيُثِيرُ ذَلِكَ دَوَاعِيَ الشَّهْوَةِ مِنْهُمْ إلَيْهِنَّ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] الْآيَةَ - أَمَرَ تَعَالَى مَمَالِيكَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ الْحُلُمَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِئَلَّا يَكُونَ دُخُولُهُمْ هَجْمًا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِيهَا ذَرِيعَةٌ إلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَقْتَ إلْقَاءِ ثِيَابِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالنَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ أَمْكَنَ فِي تَرْكِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ لِنُدُورِهَا وَقِلَّةِ الْإِفْضَاءِ إلَيْهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَدَّمَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ - مَعَ قَصْدِهِمْ بِهَا الْخَيْرَ - لِئَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَخِطَابِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقْصِدُونَ بِهَا السَّبَّ، وَيَقْصِدُونَ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ، فَنَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا؛ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَقُولَهَا الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشَبُّهًا بِالْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ بِهَا غَيْرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْله تَعَالَى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُلِينَا الْقَوْلَ لِأَعْظَمِ أَعْدَائِهِ وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا وَأَعْتَاهُمْ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إغْلَاظُ الْقَوْلِ لَهُ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِهِ وَعَدَمِ صَبْرِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، فَنَهَاهُمَا عَنْ الْجَائِزِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ تَعَالَى. الْوَجْه السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ عَنْ الِانْتِصَارِ بِالْيَدِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ انْتِصَارُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِغْضَاءِ وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ، وَمَصْلَحَةُ حِفْظِ نُفُوسِهِمْ وَدِينِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الِانْتِصَارِ وَالْمُقَابَلَةِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَاغُلِ بِالتِّجَارَةِ عَنْ حُضُورِهَا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: مَا رَوَاهُ حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ بِتَسَبُّبِهِ إلَى ذَلِكَ وَتَوَسُّلِهِ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ - مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً - لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَمَفْسَدَةُ التَّنْفِيرِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ قَتْلِهِمْ، وَمَصْلَحَةُ التَّأْلِيفِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْقَتْلِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ، وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ حَرَّمَ الْقَطْرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا، وَحَرَّمَ إمْسَاكَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَنَجَسِهَا، لِئَلَّا تُتَّخَذَ الْقَطْرَةُ ذَرِيعَةً إلَى الْحُسْوَةِ وَيُتَّخَذَ إمْسَاكُهَا لِلتَّخْلِيلِ ذَرِيعَةً إلَى إمْسَاكِهَا لِلشُّرْبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي سَدِّ الذَّرِيعَةِ فَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ، وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَعَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي قَدْ يَتَخَمَّرُ النَّبِيذُ فِيهَا وَلَا يَعْلَمُ بِهِ، حَسْمًا لِمَادَّةِ قُرْبَانِ الْمُسْكِرِ، وَقَدْ صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعِلَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ فَقَالَ: «لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ فِي إقْرَاءِ الْقُرْآنِ، وَالسَّفَرَ بِهَا وَلَوْ فِي الْحَجِّ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ مَا يُحَاذِرُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ - وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَحَاسِنِ الْخِلْقَةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي صُنْعِ اللَّهِ - سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمَحْظُورِ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ تَجْصِيص الْقُبُورِ، وَتَشْرِيفِهَا، وَاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا، وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا، وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا عِيدًا، وَعَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا وَالْإِشْرَاكِ بِهَا، وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ، وَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الظَّاهِرَةِ، الَّتِي هِيَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُشَابَهَةِ فِي الْقَصْدِ مَعَ بُعْدِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ بِالذَّرَائِعِ الْقَرِيبَةِ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» وَقَوْلِهِ: «إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ» وَقَوْلِهِ فِي عَاشُورَاءَ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ» وَقَوْلِهِ: «لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَقَالَ: «إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْقَطِيعَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَوْرِ، وَقِيلَ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَأَبَاحَ الْأَرْبَعَ - وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ الْجَوْرُ فِي اجْتِمَاعِهِنَّ - لِأَنَّ حَاجَتَهُ قَدْ لَا تَنْدَفِعُ بِمَا دُونَهُنَّ؛ فَكَانَتْ مَصْلَحَةُ الْإِبَاحَةِ أَرْجَحَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْجَوْرِ الْمُتَوَقَّعَةِ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ خُطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا، حَتَّى حَرَّمَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي انْقِضَائِهَا لَيْسَ إلَى الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّ إبَاحَةَ الْخُطْبَةِ قَدْ تَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِعْجَالِ الْمَرْأَةِ بِالْإِجَابَةِ وَالْكَذِبِ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ وَفِي الْإِحْرَامِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْوَطْءُ إلَى وَقْتِ الْحِلِّ لِئَلَّا يُتَّخَذَ الْعَقْدُ ذَرِيعَةً إلَى الْوَطْءِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّ زَمَنَهُ قَرِيبٌ جِدًّا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ كُلْفَةٌ فِي صَبْرِهِ بَعْضَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ. الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الطِّيبَ عَلَى الْمُحْرِمِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْوَطْءِ، فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الشَّارِعَ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبَهَ السِّفَاحِ، كَالْإِعْلَامِ، وَالْوَلِيِّ، وَمَنْعِ امْرَأَةٍ أَنْ تَلِيَهُ بِنَفْسِهَا، وَنَدَبَ إلَى إظْهَارِهِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ، وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ جَحْدِ الْفِرَاشِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ تَزِيدُ عَلَى مِقْدَار الِاسْتِبْرَاءِ، وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَوَصْلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ شَبَهَهُ بِالسِّفَاحِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَحَّ، وَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّ اقْتِرَانَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ بِأَلْفٍ أُخْرَى؛ فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَاهُ أَلْفًا وَسِلْعَةً بِثَمَانِمِائَةٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا، فَانْظُرْ إلَى حِمَايَتِهِ الذَّرِيعَةَ إلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْمَانِعِينَ لِمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِأَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ جَوَّزَهَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ دِينَارًا فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مُفْرَدَةً، قَالَ: وَهَذَا ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا، ثُمَّ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ الْمِنْدِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الذَّرَائِعِ إلَى الرِّبَا، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ يُخَالِفَ النُّصُوصَ وَيُجِيزَ ذَلِكَ، فَكَيْف يَتْرُكُ أَمْرًا وَيَرْتَكِبَ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْآثَارَ الْمُتَظَاهِرَةَ فِي تَحْرِيمِ الْعِينَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عَوْدِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ إنْ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى الرِّبَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ الْمُقْرِضَ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى يَحْسِبَهَا مِنْ دَيْنِهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى تَأْخِيرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ رِبًا؛ فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَيْهِ مَالُهُ وَأَخَذَ الْفَضْلَ الَّذِي اسْتَفَادَهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْوَالِيَ وَالْقَاضِيَ وَالشَّافِعَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَهُوَ أَصْلُ فَسَادِ الْعَالَمِ، وَإِسْنَادُ الْأَمْرِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَتَوْلِيَةُ الْخَوَنَةِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ، وَقَدْ دَخَلَ بِذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ، فَيَقُومُ عِنْدَهُ شَهْوَةٌ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُكَافَأَةً لَهُ مَقْرُونَةٌ بِشَرِّهِ وَإِغْمَاضٍ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَصْلُحُ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ: إمَّا عَمْدًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَإِمَّا مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِمَّا قَتْلًا مَضْمُونًا بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، وَإِمَّا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِمَّا قَتْلًا مُطْلَقًا كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْقَاتِلُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمِيرَاثَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ فَإِنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَصْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمَنْعِ وِفَاقًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ؛ فَسَدَّ الشَّارِعُ الذَّرِيعَةَ بِالْمَنْعِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمِيعِ بِالْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى إلْحَاقِ الْمَحْدُودِ بِالْكُفَّارِ، وَلِهَذَا لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْغَزْوِ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ عَادَةٌ تُوَافِقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ تَمْيِيزًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْوَاجِبِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْغَرَضَ بِاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ نُدِبَ إلَى تَمْيِيزِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْ نَفْلِهَا؛ فَكُرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ، وَأَنْ يَسْتَدِيمَ جُلُوسَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، كُلُّ هَذَا سَدًّا لِلْبَابِ الْمُفْضِي إلَى أَنْ يُزَادَ فِي الْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ الصَّلَاةَ إلَى مَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى إلَى عُودٍ أَوْ عَمُودٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، وَلَا يَصْمُدُ إلَيْهِ صَمْدًا، قَطْعًا لِذَرِيعَةِ التَّشَبُّهِ بِالسُّجُودِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ شَرَعَ الشُّفْعَةَ وَسَلَّطَ الشَّرِيكَ عَلَى انْتِزَاعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الْحَاكِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ رَفْعِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعَنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ دُونَهُ، وَعَنْ مُشَاوَرَتِهِ وَالْقِيَامِ لَهُ دُونَ خَصْمِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى انْكِسَارِ قَلْبِ الْآخَرِ وَضَعْفِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ وَثِقَلِ لِسَانِهِ بِهَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى حُكْمِهِ بِالْبَاطِلِ وَيَقُولُ: حَكَمْت بِعِلْمِي. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنَعَتْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ مِنْ عَدُوِّهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ رَسُولَهُ حَيْثُ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَهُ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحُدُودَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْجَرَائِمِ الَّتِي تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا وَازِعٌ طَبْعِيٌّ، وَالْحُدُودُ عُقُوبَاتٌ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ فِي الدُّنْيَا كَمَا جُعِلَتْ عُقُوبَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا، ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؛ فَمَنْ لَقِيَهُ تَائِبًا تَوْبَةً نَصُوحًا لَمْ يُعَذِّبْهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ، وَهَكَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إذَا تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُسْقِطْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ الْحَدَّ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى تَعْطِيلِ حُدُودِ اللَّهِ؛ إذْ لَا يَعْجِزُ كُلُّ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا سَدًّا لِذَرِيعَةِ السُّكُوتِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، مَعَ كَوْنِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِإِمَامَيْنِ أَقْرَبَ إلَى حُصُولِ صَلَاةِ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ، وَطَلَبًا لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ وَتَأَلُّفِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَقَدْ سَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَى مَا يُنَاقِضُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ، حَتَّى فِي تَسْوِيَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ؛ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الْقُلُوبُ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ، وَكَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ وَلَيْلَتِهَا بِالْقِيَامِ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ اتِّخَاذِ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ تَخْصِيصِ زَمَانٍ أَوْ مَكَان بِمَا لَمْ يَخُصَّهُ بِهِ؛ فَفِي ذَلِكَ وُقُوعٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَضَمَّنَتْ تَمْيِيزَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا لِئَلَّا تُفْضِيَ مُشَابَهَتُهُمْ إلَى أَنْ يُعَامَلَ الْكَافِرُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ، فَسَدَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ بِإِلْزَامِهِمْ التَّمَيُّزَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيَّ وَقَدْ أُرْسِلَ مَعَهُ هَدْيٌ إذَا عَطِبَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ الْمَحَلِّ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَصْبُغَ نَعْلَهُ الَّتِي قَلَّدَهُ بِهَا فِي دَمِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ» ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُطْعِمَ أَهْلَ رُفْقَتِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ فَرُبَّمَا دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُقَصِّرَ فِي عَلَفِهَا وَحِفْظِهَا لِحُصُولِ غَرَضِهِ مِنْ عَطَبِهَا دُونَ الْمَحَلِّ كَحُصُولِهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ مِنْ أَكْلِهِ هُوَ وَرُفْقَتُهُ وَإِهْدَائِهِمْ إلَى أَصْحَابِهِمْ، فَإِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِ غَرَضِهِ فِي عَطَبِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى حِفْظِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مَحَلَّهَا وَأَحْسَمَ لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى اللَّقْطَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَمِينٌ، وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الطَّمَعِ وَالْكِتْمَانِ، فَإِذَا بَادَرَ وَأَشْهَدَ كَانَ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الطَّمَعِ وَالْكِتْمَانِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَلْطَفِ أَنْوَاعِهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ» وَذَمَّ الْخَطِيبَ الَّذِي قَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى، سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْمَعْنَى بِالتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشِّرْكِ حَتَّى فِي اللَّفْظِ، وَلِهَذَا قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لِلَّذِي قَالَ لَهُ: «مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت: أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا» ؟ فَحَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ كَمَا سَدَّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَكْمَلَ صَلَاةٍ وَأَتَمَّهَا وَأَزْكَاهَا [وَأَعَمَّهَا] الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا إذَا صَلَّى إمَامُهُمْ قَاعِدًا وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا يَنْسَخُهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِذَرِيعَةِ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ حَيْثُ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ كَمَا عَلَّلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْهُ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ إذَا نَعَسَ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَرْقُدْ، وَقَالَ: لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ، فَأَمَرَهُ بِالنَّوْمِ لِئَلَّا تَكُونَ صَلَاتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي؛ فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ وَلَا يَخْطُبَ وِلَايَةً وَلَا مَنْصِبًا عَلَى خِطْبَتِهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى خُرُوجِ حَيَوَانٍ يُؤْذِيه، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مَسَاكِنِ الْجِنِّ فَيُؤْذِيهِمْ بِالْبَوْلِ، فَرُبَّمَا آذَوْهُ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبِرَازِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ وَالْمَوَارِدِ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِاسْتِجْلَابِ اللَّعْنِ كَمَا عُلِّلَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «اتَّقُوا الْمُلَاعَنَ الثَّلَاثَ» وَفِي لَفْظٍ: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، وَفِي ظِلِّهِمْ» . الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ نَهَاهُمْ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَنْ يَقُومُوا حَتَّى يَرَوْهُ قَدْ خَرَجَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى قِيَامِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانُوا إنَّمَا يَقْصِدُونَ الْقِيَامَ لِلصَّلَاةِ، لَكِنَّ قِيَامَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ذَرِيعَةٌ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهَا فَنَهَوْا عَنْهُ. الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ أَوْ يَخْرُجَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى تَغْيِيرِ الْفَرْضِ، وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْت فِي مَقَامِي فَصَلَّيْت، فَلَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ أَرْسَلَ إلَيَّ، فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْت، إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَلِكَ أَلَّا تُوصَلَ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ أَوْ يَخْرُجَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ صَلَّى فِي رَحْلِهِ ثُمَّ جَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَتَكُونَ لَهُ نَافِلَةً؛ لِئَلَّا يَتَّخِذَ قُعُودَهُ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ ذَرِيعَةً إلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُصَلِّينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسْمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إلَّا لِمُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ النَّوْمَ قَبْلَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَفْوِيتِهَا، وَالسَّمَرُ بَعْدَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى تَفْوِيتِ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنْ عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَالسَّمَرِ فِي الْعِلْمِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُكْرَهْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ إذَا صَلَّيْنَ مَعَ الرِّجَالِ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ قَبْلَ الرِّجَالَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةٌ مِنْهُنَّ إلَى رُؤْيَةِ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مِنْ وَرَاءِ الْأُزُرِ كَمَا جَاءَ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَتَخَطَّى الْمَسْجِدَ الَّذِي يَلِيه إلَى غَيْرِهِ، كَمَا رَوَاهُ بَقِيَّةُ عَنْ الْمُجَاشِعِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِيه، وَلَا يَتَخَطَّاهُ إلَى غَيْرِهِ» وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى هَجْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِيه وَإِيحَاشِ صَدْرِ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَوْ يُرْمَى بِبِدْعَةٍ أَوْ يَلْعَنُ بِفُجُورٍ فَلَا بَأْسَ بِتَخَطِّيهِ إلَى غَيْرِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ بَعْدَ الْأَذَانِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ خُرُوجُهُ ذَرِيعَةً إلَى اشْتِغَالِهِ عَنْ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً كَمَا قَالَ عَمَّارٌ لِرَجُلٍ رَآهُ قَدْ خَرَجَ بَعْدَ الْأَذَانِ: " أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ". الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاحْتِبَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّوْمِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى الْمَرْأَةَ إذَا خَرَجَتْ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ تَتَطَيَّبَ أَوْ تُصِيبَ بَخُورًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى مَيْلِ الرِّجَالِ وَتَشَوُّفِهِمْ إلَيْهَا، فَإِنَّ رَائِحَتَهَا وَزِينَتَهَا وَصُورَتَهَا وَإِبْدَاءَ مَحَاسِنِهَا تَدْعُو إلَيْهَا؛ فَأَمَرَهَا أَنْ تَخْرُجَ تَفِلَةً، وَأَنْ لَا تَتَطَيَّبَ، وَأَنْ تَقِفَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَأَنْ لَا تُسَبِّحَ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ، بَلْ تُصَفِّقَ بِبَطْنِ كَفِّهَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةً عَنْ الْمَفْسَدَةِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تَنْعَتَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 إلَيْهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةٌ عَنْ مُفْسِدَةِ وُقُوعِهَا فِي قَلْبِهِ وَمَيْلِهِ إلَيْهَا بِحُضُورِ صُورَتِهَا فِي نَفْسِهِ، وَكَمْ مِمَّنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ بِالْوَصْفِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ بِالطَّرَقَاتِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمِ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ» الْوَجْهُ السِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عِنْدَ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْأَجْنَبِيَّةِ ذَرِيعَةٌ إلَى الْمُحَرَّمِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبَاعُ حَتَّى تُنْقَلَ عَنْ مَكَانِهَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى جَحْدِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ وَعَدَمِ إتْمَامِهِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فِيهَا، فَيَغُرُّهُ الطَّمَعُ، وَتَشِحُّ نَفْسُهُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِالنَّهْيِ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَأَلْطَفُ بَابٍ لِسَدِّ الذَّرَائِعِ. الْوَجْه الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَهُوَ الشَّرْطَانِ فِي الْبَيْعِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهُوَ الَّذِي لِعَاقِدَةِ أَوْكَسُ الْبَيْعَتَيْنِ أَوْ الرِّبَا فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَذَلِكَ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الرِّبَا؛ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْنِ حَالَّةٍ فَقَدْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَإِنْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ أَخَذَ بِالرِّبَا، وَإِنْ أَخَذَ بِالنَّاقِصِ أَخَذَ بِأَوْكَسِهِمَا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذَّرَائِعِ إلَى الرِّبَا، وَأَبْعَدُ كُلِّ الْبَعْدِ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْبَيْعِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ خَمْسِينَ حَالَّةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا رِبًا وَلَا جَهَالَةٌ وَلَا غَرَرٌ وَلَا قِمَارٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ؛ فَإِنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَيِّ الثَّمَنَيْنِ شَاءَ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْعَدَ مِنْ تَخْيِيرِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْإِمْضَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَرِيعَةٌ ظَاهِرَةٌ جِدًّا إلَى الرِّبَا - وَهُمَا السَّلَفُ وَالْبَيْعُ، وَالشَّرْطَانِ فِي الْبَيْعِ - وَهَذَانِ الْعَقْدَانِ بَيْنَهُمَا مِنْ النَّسَبِ وَالْإِخَاءِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِمَا إلَى أَكْلِ الرِّبَا مَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ كَلَامُهُ الشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْمَضَاجِعِ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ الذَّكَرُ يَنَامُ مَعَ الْأُنْثَى فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْجِ الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمَا الْمُوَاصَلَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْفِرَاشِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الطُّولِ، وَالرَّجُلُ قَدْ يَعْبَثُ فِي نَوْمِهِ بِالْمَرْأَةِ فِي نَوْمِهَا إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ، لَقِسَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 نَفْسِي، سَدًّا لِذَرِيعَةِ اعْتِيَادِ اللِّسَانِ لِلْكَلَامِ الْفَاحِشِ، وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ اتِّصَافِ النَّفْسِ بِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تَتَقَاضَى مَعَانِيهَا وَتَطْلُبُهَا بِالْمُشَاكَلَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلِهَذَا قَلَّ مَنْ تَجِدُهُ يَعْتَادُ لَفْظًا إلَّا وَمَعْنَاهُ غَالِبٌ عَلَيْهِ، فَسَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَرِيعَةَ الْخُبْثِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذَا أَيْضًا أَلْطَفُ الْبَابِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ وَجَارِيَتِهِ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلَكِنْ يَقُولُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَنَهَى أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ: وَضِّئْ رَبَّك، أَطْعِمْ رَبَّك، سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الرَّبُّ هَاهُنَا هُوَ الْمَالِكُ كَرَبِّ الدَّارِ وَرَبِّ الْإِبِلِ؛ فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْعَبْدِ وَالْأُمَّةِ إلَى لَفْظِ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ، وَمَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الرَّبِّ عَلَى السَّيِّدِ، حِمَايَةً لِجَانِبِ التَّوْحِيدِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ سَفَرَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى الطَّمَعِ فِيهَا وَالْفُجُورِ بِهَا. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكْذِيبِهِمْ فِيمَا يُحَدِّثُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُمْ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى التَّصْدِيقِ بِالْبَاطِلِ وَتَكْذِيبَهُمْ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَمِّيَ عَبْدَهُ بِأَفْلَحَ وَنَافِعٍ وَرَبَاحٍ وَيَسَارٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ الطِّيَرَةِ بِأَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هَاهُنَا يَسَارٌ، وَلَا رَبَاحٌ، وَلَا أَفْلَحُ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ اسْمَ الْغُلَامِ، وَلَكِنْ سَدًّا لِذَرِيعَةِ اللَّفْظِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ السَّامِعُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: أَنَّهُ نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ ظَاهِرَةٌ. الْوَجْهُ السَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ بَرَّةَ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ الْعَلَمِيَّةَ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةُ التَّدَاوِي رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَةِ مُلَابَسَتِهَا، سَدًّا لِذَرِيعَةِ قُرْبَانِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَمَحَبَّةِ النُّفُوسِ لَهَا، فَحَسَمَ عَلَيْهَا الْمَادَّةَ حَتَّى فِي تَنَاوُلِهَا عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى حُزْنِهِ وَكَسْرِ قَلْبِهِ وَظَنِّهِ السُّوءَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ إذَا لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 يَخْشَ الْعَنَتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى إرْقَاقِ وَلَدِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ الْآيِسَاتِ مِنْ الْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا مَنَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْأَسِيرَ وَالتَّاجِرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي دَارِ الْحَرْبِ خَشْيَةَ تَعْرِيضِ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، وَعَلَّلَهُ بِعِلَّةِ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ الْعَدُوِّ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي زَوْجَتِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُورَدَ مُمْرَضٌ عَلَى مُصِحٍّ: لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إمَّا إلَى إعْدَائِهِ وَإِمَّا إلَى تَأَذِّيه بِالتَّوَهُّمِ وَالْخَوْفِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ إلَى إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ لَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ دُخُولِ دِيَارِ ثَمُودَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ، فَجَعَلَ الدُّخُولَ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ ذَرِيعَةً إلَى إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَاللِّبَاسِ؛ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى ازْدِرَائِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاحْتِقَارِهِ بِهَا، وَذَلِكَ سَبَبُ الْهَلَاكِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ إنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى قَطْعِ نَسْلِ الْخَيْلِ أَوْ تَقْلِيلِهَا، وَمِنْ هَذَا نَهْيُهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَقْلِيلِهَا، كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ عَنْ نَحْرِ ظُهُورِهِمْ لَمَّا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِمْ بِفَقْدِ الظَّهْرِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى مَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُهَا أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهَا؛ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى انْتِقَالِهَا مِنْ مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ اللَّفْظِيِّ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إلَى اللَّفْظِيِّ، وَهَكَذَا عَامَّةُ الْأُمُورِ تَكُونُ فِي الذِّهْنِ أَوَّلًا ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الذِّكْرِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْحِسِّ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَأَنْفَعِهَا، وَمَنْ تَأَمَّلَ عَامَّةَ الشَّرِّ رَآهُ مُتَنَقِّلًا فِي دَرَجَاتِ الظُّهُورِ طَبَقًا بَعْد طَبَقٍ مِنْ الذِّهْنِ إلَى اللَّفْظِ إلَى الْخَارِجِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، فَقَالَ: لَا، مَعَ إذْنِهِ فِي خَلِّ الْخَمْرِ الَّذِي حَصَلَ بِغَيْرِ التَّخْلِيلِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِذَرِيعَةِ إمْسَاكِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ، إذْ لَوْ أَذِنَ فِي تَخْلِيلِهَا لَحَبَسَهَا أَصْحَابُهَا لِذَلِكَ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى الْمَحْذُورِ. الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ، وَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ يُعِينُهُ وَيَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ الْمَحْذُورُ وَيَقْرُبُ مِنْهُ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَارَّ فِي الْمَسْجِدِ بِنِبَالٍ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى نَصْلِهَا بِيَدِهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى تَأَذِّي رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِالنِّصَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ حَرَّمَ الشِّيَاعَ، وَهُوَ الْمُفَاخَرَةُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَحْرِيكِ النُّفُوسِ وَالتَّشَبُّهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مَنْ يُغْنِيه مِنْ الْحَلَالِ فَيَتَخَطَّى إلَى الْحَرَامِ، وَمِنْ هَذَا كَانَ الْمُجَاهِرُونَ خَارِجِينَ مِنْ عَافِيَةِ اللَّهِ، وَهُمْ الْمُتَحَدِّثُونَ بِمَا فَعَلُوهُ مِنْ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّ السَّامِعَ تَتَحَرَّكُ نَفْسُهُ إلَى التَّشَبُّهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ الْمُنْتَشِرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ تَوَاتُرَ الْبَوْلِ فِيهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبَوْلِ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ بِمَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ لَا يَأْذَنُ لِلنَّاسِ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ إذَا جَاوَزَتْ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ [مِنْ] إفْسَادِ مِيَاهِ النَّاسِ وَمَوَارِدِهِمْ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ، فَحِكْمَةُ شَرِيعَتِهِ اقْتَضَتْ الْمَنْعَ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ إفْسَادِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاحْتِكَارِ، وَقَالَ: " لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ " فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ أَقْوَاتَهُمْ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ احْتِكَارِ مَا لَا يَضُرُّ النَّاسَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ فَضْلِ الْكَلَأِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، فَجَعَلَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ الْمَاءِ مَانِعًا مِنْ الْكَلَأِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَوَاشِي إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الشُّرْبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْمَرْعَى الَّذِي حَوْلَهُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى قَتْلِ مَا فِي بَطْنِهَا، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَمَرْت فِتْيَانِي أَنْ يَحْمِلُوا مَعَهُمْ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ فَأُخَالِفَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» فَمَنْعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ بُيُوتِهِمْ الَّتِي عَصَوْا اللَّهَ فِيهَا بِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ الْجَمَاعَةِ كَوْنُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى عُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ إدَامَةِ النَّظَرِ إلَى الْمَجْذُومِينَ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُصَابُوا بِإِيذَائِهِمْ، وَهِيَ مِنْ أَلْطَفِ الذَّرَائِعِ، وَأَهْلُ الطَّبِيعَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ، وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُ جَلَسَ قَرَابَةٌ لَهُ يُكَحِّلُ النَّاسَ فَرَمِدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 ثُمَّ بَرِئَ، فَجَلَسَ يُكَحِّلُهُمْ فَرَمِدَ مِرَارًا، قَالَ: فَعَلِمْت أَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْتَقِلُ، وَأَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ فِي أَعْيُنِ الرُّمْدِ نَقَلَتْ الطَّبِيعَةُ الرَّمَدَ إلَى عَيْنَيْهِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ نَوْعِ اسْتِعْدَادٍ، وَقَدْ جُبِلَتْ الطَّبِيعَةُ وَالنَّفْسُ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالْمُحَاكَاةِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَنْحَنِيَ لِلرَّجُلِ إذَا لَقِيَهُ» كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالسُّنَّةِ، بَلْ يُبَالِغُونَ إلَى أَقْصَى حَدِّ الِانْحِنَاءِ مُبَالَغَةً فِي خِلَافِ السُّنَّةِ جَهْلًا حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمْ بِصُورَةِ الرَّاكِعِ لِأَخِيهِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَل إخْوَانُهُمْ مِنْ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ شُيُوخِهِمْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ؛ فَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا مِنْ الصَّلَاةِ سُجُودَهَا، وَأُولَئِكَ رُكُوعَهَا، وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قِيَامَهَا يَقُومُ عَلَيْهِمْ النَّاسُ وَهُمْ قُعُودٌ كَمَا يَقُومُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَتَقَاسَمَتْ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ انْحِنَاءِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، كَمَا نَهَى عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَكَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى رَأْسِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنَّ قِيَامَهُمْ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَا الظَّنُّ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا لِلْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّةً لَهُ؟ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ التِّسْعُونَ: أَنَّهُ حَرَّمَ التَّفْرِيقَ فِي الصَّرْفِ وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّأْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ بَابِ الرِّبَا، فَحَمَاهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ بِاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ التَّمَاثُلَ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يُبَاعَ مُدٌّ جَيِّدٌ بِمُدَّيْنِ رَدِيئَيْنِ وَإِنْ كَانَا يُسَاوِيَانِهِ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الرِّبَا، وَأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ مِنْ الزِّيَادَةِ مَعَ الْحُلُولِ حَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ جَوْدَةٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ سِكَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَمَنْعُهُمْ مِنْهَا حَيْثُ لَا مُقَابِلَ لَهَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَجَلِ أَوْلَى؛ فَهَذِهِ هِيَ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ بِعَيْنِهَا؛ فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النَّسَاءِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ: «فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَا» وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَنَوْعٌ حُرِّمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ؛ فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَكَمَالُ شَرِيعَتِهِ الْبَاهِرَةِ فِي تَحْرِيمِ النَّوْعَيْنِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِسَدِّهَا أَنْ يُجْعَلَ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ تَعَبُّدًا مَحْضًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ أَبْطَلَ أَنْوَاعًا مِنْ النِّكَاحِ الَّذِي يَتَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا؛ فَمِنْهَا النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ أَبْطَلَهُ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا؛ فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَعْجَزُ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ: " أَنْكِحِينِي نَفْسَك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ " وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، فَمَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الزِّنَا، وَمِنْ هَذَا تَحْرِيمُ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَا رَغْبَةَ لِلنَّفْسِ فِيهِ فِي إمْسَاكِ الْمَرْأَةِ وَاِتِّخَاذِهَا زَوْجَةً بَلْ لَهُ وَطَرٌ فِيمَا يَقْضِيه بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الصُّورَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَعْقِدُ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ عَلَى الْمَرْأَةِ مُدَّةً يَقْضِي وَطَرَهُ مِنْهَا فِيهَا؛ فَحَرَّمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ السِّفَاحِ، وَلَمْ يُبِحْ إلَّا عَقْدًا مُؤَبَّدًا يَقْصِدُ فِيهِ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْمَقَامَ مَعَ صَاحِبِهِ وَيَكُونُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَحُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ الْإِعْلَانِ؛ فَإِذَا تَدَبَّرْت حِكْمَةَ الشَّرِيعَةِ وَتَأَمَّلْتهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ رَأَيْت تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، هِيَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكَمَالِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ مَنَعَ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ وَلَوْ وَجَدَهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْعَوْدِ فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ لِلَّهِ وَلَوْ بِعِوَضِهِ؛ فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ إذَا مُنِعَ مِنْ تَمَلُّكِ صَدَقَتِهِ بِعِوَضِهَا فَتَمَلُّكُهُ إيَّاهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَشَدُّ مَنْعًا وَأَفْطَمُ لِلنُّفُوسِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا خَرَجَتْ عَنْهُ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهَا مُطْلَقًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى التَّحَيُّلِ عَلَى الْفَقِيرِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةَ مَالِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا، وَيَرَى الْمِسْكِينُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ - مَعَ حَاجَتِهِ - فَتَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْبَيْعِ، وَاَللَّهُ عَالِمٌ بِالْأَسْرَارِ، فَمِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ وَمَنْعُ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى أَكْلِ مَالِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ حَقٍّ إذَا كَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ، وَقَدْ يَمْنَعُهَا اللَّهَ، وَأَكَّدَ هَذَا الْغَرَضَ بِأَنْ حَكَمَ لِلْمُشْتَرِي بِالْجَائِحَةِ إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْجَائِزِ، كُلُّ هَذَا لِئَلَّا يُظْلَمَ الْمُشْتَرِي وَيُؤْكَلَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ نَهَى الرَّجُلَ بَعْدَ إصَابَةِ مَا قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إلَّا الْحُزْنُ وَالنَّدَمُ وَضِيقَةُ الصَّدْرِ وَالسُّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَقْدُورِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ رِضَاهُ وَتَسْلِيمَهُ وَتَفْوِيضَهُ وَتَصْدِيقَهُ بِالْمَقْدُورِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ هَذَا انْفَتَحَ لَهُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، وَمَا ذَاكَ لِمُجَرَّدِ لَفْظِ " لَوْ " بَلْ لِمَا قَارَنَهَا مِنْ الْأُمُورِ الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ الْمُنَافِيَةِ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْفَاتِحَةِ لِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، بَلْ أَرْشَدَ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَدْرِ وَالتَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَلَا بُدَّ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ، فَصَلَوَاتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ كَلَامُهُ شِفَاءٌ لِلصُّدُورِ وَنُورٌ لِلْبَصَائِرِ وَحَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ وَغِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَعَلَى آلِهِ؛ فَلَقَدْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَتَمَّ نِعْمَةٍ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ أَعْظَمَ مِنَّةٍ؛ فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْمِنَّةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ» ، وَهُمَا الرَّجُلَانِ يَقْصِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَارَاةَ الْآخَرِ وَمُبَاهَاتَهُ، إمَّا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالرَّجُلَيْنِ يَصْنَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَعْوَةً يَفْتَخِرُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ وَيُبَارِيهِ بِهَا، وَأَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَائِعَيْنِ يُرَخِّصُ كُلٌّ مِنْهُمَا سِلْعَتَهُ لِمَنْعِ النَّاسِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى كَرَاهِيَةِ الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَسْلِيطَ النُّفُوسِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُمَا وَأَكْلِ طَعَامِهِمَا تَفْرِيجٌ لَهُمَا وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمَا وَإِغْرَاءٌ لَهُمَا عَلَى فِعْلِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِمَا ذَرِيعَةٌ إلَى امْتِنَاعِهِمَا وَكَفِّهِمَا عَنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ: أَنَّهُ تَعَالَى عَاقَبَ الَّذِينَ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَوَقَعَ فِيهَا السَّمَكُ يَوْمَ السَّبْتِ فَأَخَذُوهُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَمَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقِيلَ: إنَّهُمْ نَصَبُوا الشِّبَاكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخَذُوا الصَّيْدَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَصُورَةُ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلُوهُ مُخَالِفٌ لَمَا نُهُوا عَنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشِّبَاكَ وَالْحَفَائِرَ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ اصْطَادَ فِيهِ؛ إذْ صُورَةُ الْفِعْلِ لَا اعْتِبَارَ بِهَا، بَلْ بِحَقِيقَتِهِ وَقَصْدِ فَاعِلِهِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ لَا يُحَرِّمَ مِثْلَ هَذَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي نَظِيرِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ وَلَوْ نَصَبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ الْحِلِّ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ وَلَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا الْبَيْعَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَتَضَمَّنُ الْإِعَانَةَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا كُلُّ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِلْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَبَيْعِ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَفْسُقُ بِهِ أَوْ يُؤَاجِرُهُ لِذَلِكَ، أَوْ إجَارَةُ دَارِهِ أَوْ حَانُوتِهِ أَوْ خَانِهِ لِمَنْ يُقِيمُ فِيهَا سُوقَ الْمَعْصِيَةِ، وَبَيْعِ الشَّمْعِ أَوْ إجَارَتِهِ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ إعَانَةٌ عَلَى مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُسْخِطُهُ، وَمِنْ هَذَا عَصْرُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَقَدْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَالْمُعْتَصِرَ مَعًا، وَيَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ، وَأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ أَنْ يَعْصِرَ الْعِنَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَيَقُولَ: الْقَصْدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعَقْدِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَالذَّرَائِعُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَنَحْنُ مُطَالَبُونَ فِي الظَّوَاهِرِ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِهَذَا، وَلَا رَيْبَ فِي التَّنَافِي بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ: نَهْيُهُ عَنْ قِتَالِ الْأُمَرَاءِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ - وَإِنْ ظَلَمُوا أَوْ جَارُوا مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ الْعَظِيمِ وَالشَّرِّ الْكَثِيرِ بِقِتَالِهِمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْأُمَّةُ فِي بَقَايَا تِلْكَ الشُّرُورِ إلَى الْآنِ، وَقَالَ: «إذَا بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفِتْنَةِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ: جَمْعُ عُثْمَانُ الْمُصْحَفَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْأَمْثِلَةِ الْمُوَافِقِ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، تَفَاؤُلًا بِأَنَّهُ مَنْ أَحْصَى هَذِهِ الْوُجُوهَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَعَمِلَ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَلِلَّهِ وَرَاءَ ذَلِكَ أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ. وَبَابُ سَدِّ الذَّرَائِعِ أَحَدُ أَرْبَاعِ التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَالْأَمْرُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي: وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالنَّهْيُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَا يَكُون الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةً فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَفْسَدَةِ؛ فَصَارَ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحَرَامِ أَحَدَ أَرْبَاعِ الدِّينِ. [فَصْلٌ تَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ] فَصْلٌ [تَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرِيعَةِ] وَتَجْوِيزُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إلَى الْمَفَاسِدِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَالْمُحْتَالُ يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إلَيْهَا بِحِيلَةٍ، فَأَيْنَ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ الْجَائِزِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ إلَى مَنْ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ؟ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافُهَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَالْإِفْتَاءِ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ اللَّعْنِ وَجَدَ عَامَّتَهَا لِمَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ، وَأَسْقَطَ فَرَائِضَهُ بِالْحِيَلِ، كَقَوْلِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا» . «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَاتِبَ وَالشَّاهِدَ إنَّمَا يَكْتُبُ وَيَشْهَدُ عَلَى الرِّبَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ بِخِلَافِ رِبَا الْمُجَاهَرَةِ الظَّاهِرِ، وَلَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا عَصَرَ عِنَبًا، «وَلَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة» . وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَالْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ التَّدْلِيسُ وَالتَّلْبِيسُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُظْهِرُ مِنْ الْخِلْقَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا، وَالْمُحَلِّلُ يُظْهِرُ مِنْ الرَّغْبَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَآكِلُ الرِّبَا يَسْتَحِلُّهُ بِالتَّدْلِيسِ وَالْمُخَادَعَةِ فَيَظْهَرُ مِنْ عَقْدِ التَّبَايُعِ مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةً، فَهَذَا يَسْتَحِلُّ الرِّبَا بِالْبَيْعِ، وَذَاكَ يَسْتَحِلُّ الزِّنَا بِاسْمِ النِّكَاحِ، فَهَذَا يُفْسِدُ الْأَمْوَالَ، وَذَاكَ يُفْسِدُ الْأَنْسَابَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: «مَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ الْعِقَابَ» . " وَاَللَّهُ تَعَالَى مَسَخَ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ جَزَاءً مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا مَسَخُوا شَرْعَهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ مَسَخَ وُجُوهَهُمْ وَغَيْرَهَا عَنْ خِلْقَتِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ أَهْلَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ، وَمَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمُخَالَفَةِ ظَوَاهِرِهِمْ لِبَوَاطِنِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ لِعَلَانِيَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ لِأَفْعَالِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ أَمْرٍ جَائِزٍ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى أَمْرٍ مُحَرَّمٍ يُبْطِنُهُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: " طَرِيقٌ خَيْدَعٌ " إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَيُقَالُ لِلسَّرَابِ: " الْخَيْدَعُ " لِأَنَّهُ يَخْدَعُ مَنْ يَرَاهُ وَيَغُرُّهُ وَظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ، وَيُقَالُ لِلضَّبِّ: " خَادِعٌ " وَفِي الْمَثَلِ: " أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ " لِمُرَاوَغَتِهِ. وَقَالَ: " سُوقٌ خَادِعَةٌ " أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِفَاءُ وَالسَّتْرُ، وَمِنْهُ " الْمَخْدَعُ " فِي الْبَيْتِ؛ فَوَازَنَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: آمَنَا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ وَإِخْبَارًا بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا قَاصِدٍ لَهُ وَلَا مُطْمَئِنٍّ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ، مُتَوَسِّلًا بِهِ إلَى أَمْنِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ أَوْ نَيْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُرَابِي: بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ. وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ مُبْطِنًا لِحَقِيقَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَا قَاصِدًا لَهُ وَلَا مُطْمَئِنًّا بِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَا مُتَوَسِّلًا إلَى الرِّبَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُحَلِّلِ: تَزَوَّجْت هَذِهِ الْمَرْأَةَ، أَوْ قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ النِّكَاحِ، وَلَا قَاصِدٍ لَهُ وَلَا مُرِيدٍ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بِوَجْهٍ، وَلَا هِيَ مُرِيدَةٌ لِذَلِكَ وَلَا الْوَلِيُّ، هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ الْعُرْفِ؟ فَكَيْف يُسَمَّى أَحَدُهُمَا مُخَادِعًا دُونَ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَاقْتَرَضْت وَأَنْكَحْت وَتَزَوَّجْت غَيْرُ قَاصِدٍ بِهِ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَلَا يَنْوِي النِّكَاحَ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بَلْ قَصْدُهُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ أَوْ أَمْرٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ. وَعَوْدُ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ بِمُبَاشَرَتِهِ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ مُظْهِرًا لِإِرَادَةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمُبْطِنًا لِخِلَافِهِ؛ فَالْأَوَّلُ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَهَذَا نِفَاقٌ فِي فُرُوعِهِ، يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ الْعِينَةِ، فَقَالَا: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَسَمَّيَا ذَلِكَ خِدَاعًا، كَمَا سَمَّى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي أَهْلِ الْحِيَلِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ: هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ. [دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا] [دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ حَرَامٌ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ - وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعَانِيهِ - سَمَّوْا ذَلِكَ خِدَاعًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ أَهْلَ الْخِدَاعِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خِدَاعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَادِعُهُمْ، فَكُلُّ هَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَمَدَارُ الْخِدَاعِ عَلَى أَصْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ، الثَّانِي: إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَحَيِّلِينَ عَلَى إسْقَاطِ نَصِيبِ الْمَسَاكِينِ وَقْتَ الْجِدَادِ بِجَدِّ جَنَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِهْلَاكِ ثِمَارِهِمْ، فَكَيْفَ بِالْمُتَحَيِّلِ عَلَى إسْقَاطِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ؟ وَلَعَنَ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ عَلَى احْتِيَالِهِمْ عَلَى فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] قَالَ: رَمَوْا الْحِيتَانَ فِي السَّبْتِ، ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ، فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا، وَاَللَّهِ أَوْخَمُ أَكْلَةٍ أَكْلَةٌ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ الْحِيتَانِ تِلْكَ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ. وَقَوْلُهُ: " رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ " يَعْنِي احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا رَمْيَهَا يَوْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 السَّبْتِ؛ إذْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْفُرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَأْوِيلًا وَاحْتِيَالًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُسِخُوا قِرَدَةً لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أُولَئِكَ بِالْمَسْخِ كَمَا عُوقِبَ بِهِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَعْظَمَ، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَخَشْيَتُهُ لِلَّهِ وَاسْتِغْفَارُهُ وَتَوْبَتُهُ يَوْمًا مَا، وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ عَاصٍ، وَانْكِسَارُ قَلْبِهِ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ، وَازْدِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَرَجَاؤُهُ لِمَغْفِرَةِ رَبِّهِ لَهُ، وَعَدُّ نَفْسِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ الْخَاطِئِينَ، وَهَذَا كُلُّهُ إيمَانٌ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى خَيْرٍ، بِخِلَافِ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ الْمُحْتَالِ عَلَى قَلْبِ دِينِ اللَّهِ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحِيَلِ فَقَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَوْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَهْلِهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. فَحَقِيقٌ بِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُهُ مِنْ اللَّهِ مَا أَظْهَرَهُ مَكْرًا وَخَدِيعَةً مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا تَكِعُّ فِيهِ الرِّجَالُ، وَتُنْسَفُ فِيهِ الْجِبَالُ، وَتَتَرَادَفُ فِيهِ الْأَهْوَالُ، وَتَشْهَدُ فِيهِ الْجَوَارِحُ وَالْأَوْصَالُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَتَظْهَرُ فِيهِ الضَّمَائِرُ، وَيَصِيرُ الْبَاطِلُ فِيهِ ظَاهِرًا، وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً، وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا، وَالْمَجْهُولُ مَعْرُوفًا، وَيُحَصَّلُ وَيَبْدُو مَا فِي الصُّدُورِ، كَمَا يُبَعْثَرُ وَيَخْرُجُ مَا فِي الْقُبُورِ، وَتَجْرِي أَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى هُنَالِكَ عَلَى الْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ، كَمَا جَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَقْوَالِ وَالْحَرَكَاتِ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ بِمَا فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، هُنَالِكَ يَعْلَمُ الْمُخَادِعُونَ أَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَخْدَعُونَ، وَبِدِينِهِمْ كَانُوا يَلْعَبُونَ، وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 [الْأَعْمَالُ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِ عَامِلِهَا] وَقَدْ فَصَّلَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَنْوَاعِهَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لَا مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا، وَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ التَّبَايُعِ كَانَ رَابِيًا، وَمَنْ نَوَى الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ كَانَ مَاكِرًا مُخَادِعًا. وَيَكْفِي هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ حَافِظُ الْأُمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ إبْطَالَ الْحِيَلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ ظَاهِرَ هِجْرَةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ بِمَا أَبْطَنَهُ وَنَوَاهُ مِنْ إرَادَةِ أُمِّ قَيْسٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» . " فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ، وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ مَشَى خُطُوَاتٍ، وَلَا إشْكَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ حِكْمَةً وَمَصْلَحَةً لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلِيَحْصُلَ تَمَامُ الرِّضَى الَّذِي شَرَطَهُ تَعَالَى فِيهِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَلَا نَظَرٍ فِي الْقِيمَةِ، فَاقْتَضَتْ مَحَاسِنُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَقْدِ حَرِيمًا يَتَرَوَّى فِيهِ الْمُتَبَايِعَانِ، وَيُعِيدَانِ النَّظَرَ، وَيَسْتَدْرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبًا كَانَ خَفِيًّا. فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَلَا أَرْفَقَ لِمَصْلَحَةِ الْخَلْقِ؛ فَلَوْ مَكَّنَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْغَابِنَ لِلْآخَرِ مِنْ النُّهُوضِ فِي الْحَالِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّفَرُّقِ لَفَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، وَمَقْصُودُ الْخِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّك أَنْتَ اخْتَرْت إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَصَاحِبُكَ لَمْ يَتَّسِعْ لَهُ وَقْتٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَتَرَوَّى، فَنُهُوضُك حِيلَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الْخِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يُخَيِّرَهُ؛ فَلَوْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْحَاجَةِ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ بَابَ سَدِّ الذَّرَائِعِ مَتَى فَاتَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ أَوْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً رَاجِحَةً لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. فَلَوْ مَنَعَ الْعَاقِدَ مِنْ التَّفَرُّقِ حَتَّى يَقُومَ الْآخَرُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ وَمَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ؛ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَوْفَقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . أَيْ أَسْهَلِهَا وَأَقْرَبِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَدْنَى الْحِيَلِ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا مِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ نَزْوَةً وَقَدْ طَيَّبَهَا لَهُ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا يَصْعُبُ مَعَهَا عَوْدُهَا إلَى الْأَوَّلِ جِدًّا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حِيلَةُ الْيَهُودِ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخْذِ مَا وَقَعَ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ أَسْهَل الْحِيَلِ. وَكَذَلِكَ إذَابَتُهُمْ الشَّحْمَ وَبَيْعُهُ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلَاءً فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيه، فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ، وَلَكِنْ يُخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءٍ أَوْ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ. وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: فَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ مِنْ حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيٍّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ إلَيْهِ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُشَيْدٍ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ؛ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيَّنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ لَهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَرَوَى أَيْضًا فِي كِتَابِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ، لَا تَبِعْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةً دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 حَرِيرَةٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ الْعِينَةِ - يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» . يَعْنِي الْعِينَةَ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ صَالِحٌ لِلِاعْتِضَادِ بِهِ وَالِاسْتِشْهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ الِاعْتِمَادُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ: " أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِ مِائَةٍ نَسِيئَةً، وَاشْتَرَيْته بِسِتِّ مِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ: أَبْلَغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، بِئْسَمَا شَرَيْت، وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت ". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَمِلَ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ شُعْبَةُ، وَإِذَا كَانَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْك بِهِ، فَمَنْ جَعَلَ شُعْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْكِبَارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ وَبِعَدَالَتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْوِيَ عَنْهَا سُنَّةً يُحَرِّمُ بِهَا عَلَى الْأُمَّةِ وَهِيَ عِنْدَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِكَلِمَةٍ، بَلْ يُحَابِيهَا فِي دِينِ اللَّهِ، هَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَسَمِعَتْ مِنْهَا وَرَوَتْ عَنْهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ قَدَحَ فِيهَا بِكَلِمَةٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالْفِسْقَ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي التَّابِعِينَ بِحَيْثُ تُرَدُّ بِهِ رِوَايَتُهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ، وَهِيَ جَدَّةُ إسْرَائِيلَ، كَمَا رَوَاهُ حَرْبٌ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ؛ فَإِنَّهُ إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْعَالِيَةُ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ وَجَدَّةُ يُونُسَ، وَقَدْ حَمَلَا عَنْهَا هَذِهِ السُّنَّةَ - وَإِسْرَائِيلُ أَعْلَمُ بِجَدَّتِهِ وَأَبُو إِسْحَاقَ أَعْلَمُ بِامْرَأَتِهِ. وَأَيْضًا فَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ عَلَى الْعَالِيَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَا قَدَحَ فِيهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَرْوِيَ حَدِيثًا بَاطِلًا وَيَشْتَهِرَ فِي الْأُمَّةِ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَأْتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَرٌ لَكَانَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ وَحِكْمَةُ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمَهَا أَعْظَمَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا؛ فَإِنَّهَا رِبَا مُسْتَحَلٌّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً، وَعِنْدَ الْحُفَّاظِ إذَا كَانَ فِيهِ قِصَّةٌ دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَحْفُوظٌ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدَّثَتْنِي امْرَأَتِي الْعَالِيَةُ، قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَتْ: مَا حَاجَتُكُنَّ؟ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَهَا أُمُّ مَحَبَّةٍ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً لِي بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى، فَقَالَتْ: بِئْسَمَا شَرَيْت، وَبِئْسَمَا اشْتَرَيْت، أَبْلَغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَأَفْحَمَتْ صَاحِبَتَنَا فَلَمْ تَكَلَّمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إنَّهَا سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وَأَيْضًا فَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا انْضَمَّ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَفَادَتْ بِمَجْمُوعِهَا الظَّنَّ الْغَالِبَ إنْ لَمْ تُفِدْ الْيَقِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ آثَارَ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مُوَافِقَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، مُفَسِّرَةٌ لَهُ. وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَعَنَتْ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَبَالَغَتْ فِي تَحْرِيمِهِ، وَآذَنَتْ صَاحِبَهُ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنْ تُبِيحَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَفْسَدَةِ؟ وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ وَلَا تَشُكُّ بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ لَمَا أَقْدَمَتْ عَلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ جِهَادِ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِاجْتِهَادِهَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا رِدَّةٌ، وَلَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، كَمَا عُذِرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِإِبَاحَتِهِ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا هَذَا، بَلْ قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا مِنْهَا لَمْ تَمْنَعْ زَيْدًا مِنْهُ، وَلَمْ تَحْكُمْ بِبُطْلَانِ جِهَادِهِ، وَلَمْ تَدْعُهُ إلَى التَّوْبَةِ؛ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ، وَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ عَمَلِ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَهِدِ بِمُخَالَفَتِهِ لِاجْتِهَادِ نَظِيرِهِ، وَالصَّحَابَةُ - وَلَا سِيَّمَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَفْقَهُ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَغَلَّظُوا فِيهَا هَذَا التَّغْلِيظَ فِي أَوْقَاتٍ وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَلَمْ يَجِئْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فَإِنْ قِيلَ: فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ خَالَفَ عَائِشَةَ وَمَنْ ذَكَرْتُمْ، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ ذَاتُ قَوْلَيْنِ لِلصَّحَابَةِ، وَهِيَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ. قِيلَ: لَمْ يَقُلْ زَيْدٌ قَطُّ إنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَلَا أَفْتَى بِهَا يَوْمًا مَا، وَمَذْهَبُ الرَّجُلِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِهِ؛ إذْ لَعَلَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ ذَاهِلًا أَوْ غَيْرَ مُتَأَمِّلٍ وَلَا نَاظِرٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا أَوْ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ وَيَتُوبُ أَوْ يُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَهُ حَسَنَاتٌ تُقَاوِمُهُ، فَلَا يُؤَثِّرُ شَيْئًا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعِلْمُ عِلْمُ الرِّوَايَةِ، يَعْنِي أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا؛ إذْ لَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا، وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ الْكَبِيرَ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَوَازُ الْعِينَةِ، لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ قَدْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا فَأَفْتَتْهَا بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَجَوَازِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَأَيْضًا فَبَيْعُ الْعِينَة إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا مِنْ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْمُسْتَغْنِي عَنْهَا لَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي مُقَابِلَةِ أَلْفٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْهُ قَالَ: " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَيَنْهَرُ الْأَشْرَارُ، وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ، وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ» . وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ: بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا، يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ، يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ، إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ» وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةُ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضِنُّ بِهَا عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ حَتَّى يَرْبَحَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبَّ، وَهَذَا الْمُضْطَرُّ إنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 إلَى بَائِعِهَا فَهِيَ الْعِينَةُ، وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَهُوَ التَّوَرُّقُ، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى ثَالِثٍ يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُحَلِّلُ الرِّبَا، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ يَعْتَمِدُهَا الْمُرَابُونَ، وَأَخَفُّهَا التَّوَرُّقُ، وَقَدْ كَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ: هُوَ أُخَيَّةُ الرِّبَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مُضْطَرٌّ، وَكَانَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ، وَرُوجِعَ فِيهَا مِرَارًا وَأَنَا حَاضِرٌ، فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهَا، وَقَالَ: الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حُرِّمَ الرِّبَا مَوْجُودٌ فِيهَا بِعَيْنِهِ مَعَ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ بِشِرَاءِ السِّلْعَةِ وَبَيْعِهَا وَالْخَسَارَةِ فِيهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ لَا تُحَرِّمُ الضَّرَرَ الْأَدْنَى وَتُبِيحُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ إلَّا عَلَى الْعِينَةِ. [مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ «يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيَّ عَنْ يَحْيَى. قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْهُنَائِيِّ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَعَ تَشَدُّدِهِ: هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ ، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، لَكِنْ قَالَ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ هَدِيَّةً» قَالَ شَيْخُنَا: وَأَظُنُّهُ هُوَ ذَاكَ انْقَلَبَ اسْمُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَةَ، فَلَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَقَالَ لِي: إنَّك بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ، فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا، وَفِي سُنَنِ سَعِيدٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَأَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً، فَقَالَ: رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ اُحْسُبْهَا لَهُ، وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ، ذَكَرَهُمَا سَعِيدٌ، وَذَكَرَ حَرْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ هَدِيَّةً وَلَا عَارِيَّةً رُكُوبَ دَابَّةٍ؛ فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدِيَّةِ أَنْ يُؤْجِرَ الِاقْتِضَاءَ - وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ - سَدًّا لِذَرِيعَةِ الرِّبَا، فَكَيْفَ تَجُوزُ الْحِيلَةُ عَلَى الرِّبَا؟ وَمَنْ لَمْ يَسُدَّ الذَّرَائِعَ وَلَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَلَمْ يُحَرِّمْ الْحِيَلَ يُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى الرِّبَا. [دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْن مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَنْقِيصِهَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، فَإِذَا بَاعَ بَعْضَ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَحَيُّلًا عَلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِالْفِرَارِ مِنْهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: لَا تُعْطِ عَطَاءً تَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إلَيْك أَكْثَرُ مِنْ هَدِيَّتِك. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُوَرَ الْعُقُودِ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حِلِّهَا وَحُصُولِ أَحْكَامِهَا إلَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدًا فَاسِدًا، وَكُلُّ مَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ حَرَامًا فَاسِدًا فَقَصْدُهُ حَرَامٌ فَاسِدٌ، وَاشْتِرَاطُهُ إعْلَانُ إظْهَارٍ لِلْفَسَادِ، وَقَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ غِشٌّ وَخِدَاعٌ وَمَكْرٌ؛ فَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ الِاشْتِرَاطِ ظَاهِرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَالِاشْتِرَاطُ الظَّاهِرُ أَشَدُّ فَسَادًا مِنْهُ مِنْ جِهَةِ إعْلَانِ الْمُحَرَّمِ وَإِظْهَارِهِ. [مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَيْضًا] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وَإِبْطَالِهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، بَلْ هِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ وَآكَدِهَا، وَمَنْ جَعَلَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَقَدْ اسْتَوْثَقَ لِدِينِهِ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا، وَأَقَرَّهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَفْتَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ كَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ تَحْرِيمُ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا، وَأَفْتَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمَبْثُوثَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ، وَوَافَقَهُمْ سَائِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَمَنْ عَدَاهُمْ. وَهَذِهِ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْعَادَةُ تُوجِبُ اشْتِهَارَهَا وَظُهُورَهَا بَيْنَهُمْ، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانَتْ تَضْبِطُ أَقْوَالَهُمْ، وَتَنْتَهِي إلَيْهِمْ فَتَاوِيهمْ، وَالنَّاسُ عُنُقٌ وَاحِدٌ إلَيْهِمْ مُتَلَقُّونَ لِفَتَاوِيهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْإِنْكَارُ وَلَا إبَاحَةُ الْحِيَلِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ السُّكُوتِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَهَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى الْمُقْرِضِ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لِإِسْقَاطِ حُقُوقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ؟ وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرَوْا فِي وَقْتِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ يُفْتِي بِهِ، كَمَا صَانَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّة وَأَضْرَابِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا وَمُنَافَاتِهَا لِلدِّينِ أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ إجْمَاعُهُمْ، كَدَعْوَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَعَلَى الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَإِذَا وَازَنْت بَيْنَ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَتِلْكَ الْإِجْمَاعَاتِ ظَهَرَ لَك التَّفَاوُتُ، وَانْضَمَّ إلَى هَذَا أَنَّ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبَ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ انْضَمَّ إلَى كَثْرَةِ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْصَرَمَ، وَبُقَعُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَكَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ، وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُجُودِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا فَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِحِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا، بَلْ الْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ عَنْهَا؛ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَكَانَتْ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ كَغَيْرِهَا، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا، وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِمْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْإِنْكَارِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّيْدَانِيِّ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ فِي الْحِيَلِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا، فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهَا فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ: مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَنْوِي غَيْرَ ذَلِكَ: فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَا يَحْلِفُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَظْلُومًا، فَإِذَا كَانَ مَظْلُومًا حَلَفَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الَّذِي حَلَفَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ فِي بَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [مَنْ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ كُلَّهَا جَائِزٌ] قُلْت: وَاَلَّذِينَ ذَكَرُوا الْحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا، ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا، فَإِذَا قَالُوا: الْحِيلَةُ فِي فَسْخِ الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَنْ يَقْتُلَ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ، وَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الْوَطْءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 فِي رَمَضَانَ أَنْ يَتَغَدَّى ثُمَّ يَطَأَ بَعْدَ الْغَدَاءِ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَ زَوْجِهَا أَنْ تُمَكِّنَ ابْنَهُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ وَيُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ أَنْ يَطَأَ حَمَاتَهُ أَوْ يُقَبِّلَهَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ أَنْ يَسْكَرَ ثُمَّ يَزْنِيَ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَجِّ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ لِابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الرَّكْبِ فَإِذَا بَعُدَ اسْتَرَدَّ مَالَهُ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ حِرْمَانَ وَارِثِهِ مِيرَاثَهُ أَنْ يُقِرَّ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِغَيْرِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ إبْطَالَ الزَّكَاةِ وَإِسْقَاطَ فَرْضِهَا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ عِنْدَ الْحَوْلِ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَيَفْعَلُ هَكَذَا كُلَّ عَامٍ، فَيَبْطُلُ فَرْضُ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَبَدًا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْلِكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَنْ يُفْسِدَهُ عَلَيْهِ أَوْ يُغَيِّرَ صُورَتَهُ فَيَمْلِكَهُ، فَيَذْبَحَ شَاتَه، وَيَشُقَّ قَمِيصَهُ، وَيَطْحَنَ حَبَّهُ وَيَخْبِزَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ وَلَا يُقْتَلُ بِهِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِدَبُّوسٍ أَوْ مِرْزَبَّةِ حَدِيدٍ يَنْثُرُ دِمَاغُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِكَنْسِ بَيْتِهِ أَوْ لِطَيِّ ثِيَابِهِ أَوْ لِغَسْلِهَا أَوْ لِنَقْلِ مَتَاعٍ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ثُمَّ يَزْنِيَ بِهَا مَا شَاءَ مَجَّانًا بِلَا حَدٍّ وَلَا غَرَامَةٍ، أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِنَفْسِ الزِّنَا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْمَالَ لَهُ وَأَنَّ لَهُ فِيهِ شَرِكَةً فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، أَوْ يَنْقُبُ الدَّارَ ثُمَّ يَدَعُ غُلَامَهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ شَرِيكَهُ يَدْخُلُ وَيُخْرِجُ مَتَاعَهُ أَوْ يَدَعُهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ تَخْرُجُ بِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ سُقُوطَ حَدِّ الزِّنَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ غَيْرِ مُتَّهَمِينَ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ فَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِمْ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ قَطْعَ يَدِ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْطَعُ بِهَا أَنْ يُمْسِكَ هُوَ وَآخَرُ السِّكِّينَ أَوْ السَّيْفَ وَيَقْطَعَانِهَا مَعًا، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ التَّخَلُّفَ عَنْ زَوْجِهَا فِي السَّفَرِ أَنْ تُقِرَّ لِغَيْرِهِ بِدَيْنٍ، وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَنْصِب الشِّبَاكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يَأْخُذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ إحْرَامِهِ بَعْدَ أَنْ يُحِلَّ. فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ اسْتَحَلَّ الْفَتْوَى بِهَذِهِ فَهُوَ الَّذِي كَفَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ فَقَدْ قَلَبَ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَنَقَضَ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِيَلِ: مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا، وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: إنَّا نَحْتَالُ لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا بِمَرْوَ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ لَهَا: لَوْ ارْتَدَدْتِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْهُ، فَفَعَلْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ وَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ: أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ أَوْ هَوِيَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا رَأَى الشَّيْطَانُ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ: قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا الْكِتَابَ وَضَعَهُ إبْلِيسُ، قَالَ: إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ وَذُكِرَ لَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ، فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ: يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِي الْكُوفَةِ: كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ: وَيْلَهُمْ، مَنْ يُخْدَعُونَ؟ يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: لَقَدْ أَفْتَى أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِشَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ كَانَ قَبِيحًا، فَقَالَ: إنِّي حَلَفْتُ أَنِّي لَا أُطَلِّقُ امْرَأَتِي بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا لِي مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ: قَبِّلْ أُمَّهَا، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَيْلَهُ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً؟ وَقَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا، أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ؟ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ، وَغَضِبَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ، وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْت رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفَتْ بِهَا فَقَالَ لِي: إنْ فَعَلْتَ كَذَا حَنِثْتَ، وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ وَلَا تَحْنَثَ، فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْرِفُ الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا شُبِّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ. وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهَا الِاحْتِيَالَ عَلَى تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِسْقَاطَ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَإِسْقَاطَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَأَخْذَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَسَفْكَ دِمَائِهِمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وَفَسْخَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَالْكَذِبَ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَإِبَاحَةَ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْحِيَلُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ جَاهِلٌ بِأُصُولِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أُصُولِ إمَامٍ بِحَيْثُ إذَا فَعَلَهَا الْمُتَحَيِّلُ نَفَذَ حُكْمُهَا عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ الْإِذْنِ فِيهَا وَإِبَاحَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا فَإِنَّ إبَاحَتَهَا شَيْءٌ وَنُفُوذَهَا إذَا فُعِلَتْ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ وَالْمُفْتِي لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا وَيَأْذَنَ فِيهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ ثُمَّ يُنْفِذُهَا وَلَا يُبْطِلُهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ تَحْرِيمُهَا وَإِبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا، وَمُقَابَلَةُ أَرْبَابِهَا بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ مُوَافَقَةً لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. [لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْحِيَلِ إلَى إمَامٍ] : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ لَا تَجُوزُ أَنْ تُنْسَبَ إلَى إمَامٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَدْحَ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمَّتْ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ فَرَضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَعْضُ هَذِهِ الْحِيَلِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً، أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ لَفْظَهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَتْوَاهُ بِنُفُوذِهَا بِفَتْوَاهُ بِإِبَاحَتِهَا مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فُرِضَ وُقُوعُهَا مِنْهُ فِي وَقْتٍ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْإِمَامِ وَفِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، إلَّا الْمُكْرَهَ إذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ. ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْذَنُونَ فِي كَلِمَاتٍ وَأَفْعَالٍ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَيَقُولُونَ: إنَّهَا كُفْرٌ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَالَ الْكَافِرُ لِرَجُلٍ: " إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ " فَقَالَ لَهُ: " اصْبِرْ سَاعَةً " فَقَدْ كَفَرَ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْكُفْرِ؟ وَقَالُوا: لَوْ قَالَ: " مُسَيْجِدٌ " أَوْ صَغَّرَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ كَفَرَ. فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يُفْتُونَ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ لَيْسُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُفْتُوا بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَصْحَابَ الْحِيَلِ: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ الصَّانِعِ: هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ وَاحْتَالُوا لِنَقْضِهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ، قَالُوا: الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ، ثُمَّ قَالُوا: يَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ بِحِيلَةٍ مَا حَرَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ، وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: عَجِبْت مِمَّا يَقُولُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ، يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وَقَالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ عَلَى دَرَجَةٍ إنْ صَعِدْت أَوْ نَزَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، " قَالُوا: تُحْمَلُ حَمْلًا، فَقَالَ: هَذَا هُوَ الْحِنْثُ بِعَيْنِهِ، لَيْسَتْ هَذِهِ حِيلَةٌ، هَذَا هُوَ الْحِنْثُ، وَقَالُوا: إذَا حَلَفَ لَا يَطَأُ بِسَاطًا يَطَأُ بِسَاطَيْنِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا يُحْمَلُ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ الْأَمَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْنِعَ بِهَا يُعْتِقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَعْجَبَ هَذَا، أَبْطَلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَّةَ، جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيه ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى الْمَكَانِ فَيَتَزَوَّجُهَا فَيَطَؤُهَا. فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ؟ يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَؤُهَا الْآخَرُ غَدًا؟ هَذَا نَقْضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ الْحَامِلِ حَتَّى تَحِيضَ» وَلَا يَدْرِي [هَلْ] هِيَ حَامِلٌ أَمْ لَا] سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَسْمَجَ هَذَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يَحْكِي عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدْت هِشَامًا وَهُوَ يُقْرِئُ كِتَابًا، فَانْتَهَى بِيَدِهِ إلَى مَسْأَلَةٍ فَجَازَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: دَعُوهُ، وَكَرِهَ مَكَانِي، فَتَطَلَّعْت فِي الْكِتَابِ، فَإِذَا فِيهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ حَرِيرَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ جَامَعَ امْرَأَتَهُ نَهَارًا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. فَصْلٌ [مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَتَحْرِيمِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ؛ فَالشَّرِيعَةُ لِقُلُوبِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَالدَّوَاءِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ الدَّاءُ إلَّا بِهِ، فَإِذَا احْتَالَ الْعَبْدُ عَلَى تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتَعْطِيلِ مَا شَرَعَ اللَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 أَحَدُهَا: إبْطَالُهَا مَا فِي الْأَمْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَنَقْضِ حِكْمَتِهِ فِيهِ وَمُنَاقَضَتِهِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ مَقْصُودُهُ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْمَشْرُوعِ؛ فَالْمَشْرُوعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالْمَقْصُودُ لَهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كُلَّ الظُّهُورِ فِيمَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ؛ فَإِنَّ الْمُرَابِيَ مَثَلًا مَقْصُودُهُ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ، وَصُورَةُ الْبَيْعِ الْجَائِزِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّلُ عَلَى إسْقَاطِ الْفَرَائِضِ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ لِمَنْ لَا يَهَبُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا حَقِيقَةُ مَقْصُودِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ، وَظَاهِرُ الْهِبَةِ الْمَشْرُوعَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَهُ. الثَّالِثُ: نِسْبَتُهُ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَإِلَى شَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَدَوَاؤُهَا وَشِفَاؤُهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحَيَّلَ حَتَّى قَلَبَ الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ إلَى ضِدِّهِ، فَجَعَلَ الْغِذَاءَ دَوَاءً وَالدَّوَاءَ غِذَاءً، إمَّا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ أَوْ صُورَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ؛ لَأَهْلَكَ النَّاسَ، فَمَنْ عَمَدَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ فَغَيَّرَ صُورَتَهَا أَوْ أَسْمَاءَهَا وَجَعَلَهَا غِذَاءً لِلنَّاسِ، أَوْ عَمَدَ إلَى السَّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُورَتَهَا وَجَعَلَهَا أَدْوِيَةً، أَوْ إلَى الْأَغْذِيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَيَّرَ أَسْمَاءَهَا وَصُوَرَهَا؛ كَانَ سَاعِيًا بِالْفَسَادِ فِي الطَّبِيعَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا سَاعٍ بِالْفَسَادِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْأَبْدَانِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَقَائِقِهَا لَا بِأَسْمَائِهَا وَصُوَرِهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا وَوَسَائِلَهُمَا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَتَوَابِعَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا وَالنِّكَاحُ مِثْلَ الزِّنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرْقَ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ مُلْغَى عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا، فَإِذَا اتَّفَقَتْ الْأَلْفَاظُ وَاخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ إذَا اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُبْنَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا؛ فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ، وَحَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ حَقِيقَةُ الْحَرَامِ؛ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِمُشَارَكَتِهِ لِلْحَرَامِ فِي الْحَقِيقَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيْنَ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَغَيْرِ الْمُؤَثِّرَةِ فَرْقًا وَجَمْعًا؟ وَالْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ وَتَخْرِيجِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ، فَكَيْفَ يُعَلِّقُهُ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِضِدِّ الْحُكْمِ؟ وَكَيْفَ يُعَلِّقُ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَالصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا وَيَدَعُ الْمَعَانِيَ الْمُنَاسِبَةَ الْمُفْضِيَةَ لَهَا الَّتِي ارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْلُولَاتِهَا؟ وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُنْكِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَقْوَالِهِمْ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَاطِنَ وَالْقَصْدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ وَيَعْلَمُ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَقْطَعُ بِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ إيجَابِ الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمَسَاكِينِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَحُصُولُ الْمَصَالِحِ الَّتِي أَرَادَهَا بِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ حِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أَسْقَطَهَا بِالتَّحَيُّلِ فَقَدْ خَالَفَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْمُتَحَيِّلِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَبْطُلَ مَقَاصِدَ الْمُتَحَيِّلِينَ الْمُخَادِعِينَ، وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ [إنَّمَا] حَرَّمَ الرِّبَا لِمَنْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمَحَاوِيجِ، وَأَنَّ مَقْصُودَهُ إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ؛ فَإِذَا أُبِيحَ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ سَعْيًا فِي إبْطَالِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُرَابِي، وَهَذِهِ سَبِيلُ جَمِيعِ الْحِيَلِ الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ تَبْطُلُ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَيِّلَ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ مُبْطِلٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ فَالْمُعِينُ [لَهُ] عَلَى ذَلِكَ مُفَوِّتٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمُتَحَيِّلِ، وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي مَلَّكَهُمْ إيَّاهَا الشَّارِعُ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ إزَالَةً لِضَرَرِهِمْ وَتَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِمْ؛ فَلَوْ أَبَاحَ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهَا لَكَانَ عَدَمُ إثْبَاتِهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ أَوْلَى وَأَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَهَا وَيُوصِيَ بِهَا وَيُبَالِغَ فِي تَحْصِيلِهَا ثُمَّ يُشَرِّعَ التَّحَيُّلَ لِإِبْطَالِهَا وَإِسْقَاطِهَا، وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَنَى بِنَاءً مَشِيدًا وَبَالَغَ فِي إحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ، ثُمَّ عَادَ فَنَقَضَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَمَرَ بِإِكْرَامِ رَجُلٍ وَالْمُبَالَغَةِ فِي بِرِّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَأَدَاءِ حُقُوقِهِ، ثُمَّ أَبَاحَ لِمَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ حُقُوقِهِ، وَلِهَذَا يُسِيءُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ الْمَرَضُ الظَّنَّ بِالْإِسْلَامِ وَالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَعَلِمُوا مُنَاقَضَتَهَا لِلْمَصَالِحِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً وَمُنَافَاتَهَا لِحِكْمَةِ الرَّبِّ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَصِيَانَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ فَإِنَّهُ نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ حَمِيَّةً وَصِيَانَةً، فَكَيْف يُبِيحُ لَهُمْ الْحِيَلَ عَلَى مَا حَمَاهُمْ عَنْهُ؟ وَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُمْ التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إضَاعَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَحَقَّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 عَلَيْهِمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا لِقِيَامِ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ؟ فَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ شَرَعَهَا الَّذِي عَلِمَ مَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَمَا فِي خِلَافِهَا مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهَا لِذَاتِهَا وَبَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا وَنَهْيِهِ عَنْهَا، فَالْمَأْمُورُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَحَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاكْتَسَى بِأَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَصْلَحَةً وَحُسْنًا آخَرَ، فَازْدَادَ حُسْنًا بِالْأَمْرِ وَمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَطَلَبِهِ لَهُ إلَى حُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ وَقَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَازْدَادَ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهُ وَبُغْضِهِ لَهُ وَكَرَاهِيَتِهِ لَهُ قُبْحًا إلَى قُبْحِهِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَسَنُهُ قُبْحًا بِتَغَيُّرِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَرَّمَ بَيْعَ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّشَاحُنِ وَالتَّشَاجُرِ، وَلِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ - إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ أَكْلِ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّ الْحِيلَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَا فِي تَخْفِيفِهَا، وَلَا فِي زَوَالِ ذَرَّةٍ مِنْهَا؛ فَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعَقْدِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ لِنَفْسِهِ، فَالْحِيلَةُ إنْ لَمْ تَزِدْهُ فَسَادًا لَمْ تُزِلْ فَسَادًا، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِبْرَاءَ لِإِزَالَةِ مَفْسَدَةِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْأَنْسَابِ وَسَقْيِ الْإِنْسَانِ بِمَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تُوجِبُ الْعُقُولُ تَحْرِيمَهُ لَوْ لَمْ تَأْتِ بِهِ شَرِيعَةٌ، وَلِهَذَا فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى اسْتِهْجَانِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ، وَيَرَوْنَ مِنْ أَعْظَمِ الْهُجَنِ أَنْ يَقُومَ هَذَا عَنْ الْمَرْأَةِ وَيُخْلِفَهُ الْآخَرُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا حُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ وَأَوْجَبَ الْعِدَدَ وَالِاسْتِبْرَاءَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا تَخِفُّ، وَكَذَلِكَ شُرِعَ الْحَجُّ إلَى بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قِوَامٌ لِلنَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَلَوْ عُطِّلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَامًا وَاحِدًا عَنْ الْحَجِّ لَمَا أُمْهِلَ النَّاسُ، وَلَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَمْ يَحُجَّ بِالْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِهِ لَا يُزِيلُ مَفْسَدَةَ التَّرْكِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَحَيَّلُوا لِتَرْكِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ حُكْمُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ: إنْ شِئْتُمْ كُلُّكُمْ أَنْ تَتَحَيَّلُوا لِإِسْقَاطِهِمَا فَافْعَلُوا، فَلْيَتَصَوَّرْ الْعَبْدُ مَا فِي إسْقَاطِهِمَا مِنْ الْفَسَادِ الْمُضَادِّ لِشَرْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجِرَ لِلنُّفُوسِ وَعُقُوبَةً وَنَكَالًا وَتَطْهِيرًا، فَشَرْعُهَا مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، بَلْ لَا تَتِمُّ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ إلَّا بِزَوَاجِرَ وَعُقُوبَاتٍ لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَمَعْلُومٌ مَا فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا مِنْ مُنَافَاةِ هَذَا الْغَرَضِ وَإِبْطَالِهِ وَتَسْلِيطِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى تِلْكَ الْجِنَايَاتِ إذَا عَلِمْت أَنَّ لَهَا طَرِيقًا إلَى إبْطَالِ عُقُوبَاتِهَا فِيهَا، وَأَنَّهَا تُسْقِطُ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهَا أَلْبَتَّةَ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهَا فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 لَهَا عُقُوبَةً وَأَنَّ لَهَا إسْقَاطَهَا بِأَدْنَى الْحِيَلِ، وَلِهَذَا احْتَاجَ الْبَلَدُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ هَذِهِ الْحِيَلُ إلَى سِيَاسَةِ وَالٍ أَوْ أَمِيرٍ يَأْخُذُ عَلَى يَدِ الْجُنَاةِ وَيَكُفُّ شَرَّهُمْ عَنْ النَّاسِ إذَا لَمْ يُمَكَّنْ أَرْبَابُ الْحِيَلِ أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي قَامَ النَّاسُ فِيهَا بِحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَدُّونَ بِالرَّائِحَةِ وَبِالْقَيْءِ وَبِالْحَبَلِ وَبِظُهُورِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ السَّارِقِ، وَيَقْتُلُونَ فِي الْقَسَامَةِ، وَيُعَاقِبُونَ أَهْلَ التُّهَمِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الدَّعْوَى الَّتِي تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ وَالْعُرْفُ، وَلَا يَرَوْنَ الْحِيَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَيُعَاقِبُونَ أَرْبَابَهَا، وَيَحْبِسُونَ فِي التُّهَمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُ الْمُتَّهَمِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ قَرَّرُوهُ بِالْعُقُوبَةِ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِينَ وَحَبْسِهِمْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَكِفَايَةٌ وَبَيَانٌ لِإِغْنَاءِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ كُلِّ وَالٍ وَسَائِسٍ، وَأَنَّ شَرِيعَتَهُ الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِهَا مَنْ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا أَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ عَمَلًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْمَأْمُورَاتِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْنَعُ أَنْ يُشْرَعَ إلَيْهَا التَّحَيُّلُ بِمَا يُبِيحُهَا وَيُسْقِطُهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَالَغَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ لِلْمَفَاسِدِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي التَّحْلِيلِ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِتَفَاصِيلِهَا؛ فَالتَّحَيُّلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ بِتَقْدِيمِ اشْتِرَاطِ التَّحْلِيلِ عَلَيْهِ وَإِخْلَاءِ صُلْبِهِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَزِدْ مَفْسَدَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهَا وَلَا يُخَفِّفُهَا، وَلَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي لَعْنِ فَاعِلِهِ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ لَا يُمْكِنُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ تَأْتِيَ بِحِيلَةٍ؛ فَالتَّحَيُّلُ عَلَى وُقُوعِهِ وَصِحَّتِهِ إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُتَحَيِّلِ الْمُخَادِعِ. وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَعَّدَ بِالِانْتِقَامِ عَلَى مَنْ عَادَ إلَيْهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَحْرِيمِهِ وَانْتِقَامِ الرَّبِّ مِنْ فَاعِلِهِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِنَصْبِ الشِّبَاكِ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِلَحْظَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ أَخَذَهُ بَعْدَ الْحِلِّ بِلَحْظَةٍ، فَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا إبْطَالٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ وَتَصْحِيحٌ لِغَرَضِ الْمُخَادِعِ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ الشَّارِعِ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَبْرُ وَهْنِ الصَّوْمِ، وَزَجْرُ الْوَاطِئِ، وَتَكْفِيرُ جُرْمِهِ، وَاسْتِدْرَاكُ فَرْطِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 الَّتِي عَلِمَهَا مَنْ شَرَعَ الْكَفَّارَةَ وَأَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا، فَإِبَاحَةُ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَتَعَدَّى قَبْلَ الْجِمَاعِ ثُمَّ يُجَامِعَ نَقْضٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ، وَإِعْمَالٌ لِغَرَضِ الْجَانِي الْمُتَحَيِّلِ وَتَصْحِيحٌ لَهُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبِيدِ؛ فَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْحَقَّيْنِ وَتَفْوِيتٌ لَهُمَا. وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ شَرَعَ حُدُودَ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ تَقَاضٍ لِمَا فِي إهْمَالِ عُقُوبَاتِهَا مِنْ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سِيَاسَةُ مَلِكٍ مَا مِنْ الْمُلُوكِ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ عُقُوبَاتِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقُومُ مُلْكُهُ بِذَلِكَ، فَالْإِذْنُ فِي التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهَا بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَغَيْرِهِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِعَيْنِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَتَصْحِيحٌ لِمَقْصُودِ الْجَانِي، وَإِغْرَاءٌ بِالْمَفَاسِدِ، وَتَسْلِيطٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الشَّرِّ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَقَتْلُ فَاعِلِهِ شَرَّ الْقِتْلَاتِ وَأَقْبَحَهَا وَأَشْنَعَهَا وَأَشْهَرَهَا ثُمَّ يَسْقُطُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِذَلِكَ أَوْ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَقْضِيَ غَرَضَهُ مِنْهَا؟ وَهَلْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ زَانٍ أَبَدًا؟ وَهَلْ فِي طِبَاعِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ الزَّانِي: أَنَا اسْتَأْجَرْتهَا لِلزِّنَا، أَوْ اسْتَأْجَرْتهَا لِتَطْوِيَ ثِيَابِي ثُمَّ قَضَيْت غَرَضِي مِنْهَا، فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُقِيمَ عَلَيَّ الْحَدَّ؟ وَهَلْ رَكَّبَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ إفْسَادًا لِلْفِرَاشِ وَالْأَنْسَابِ بِمِثْلِ هَذَا؟ وَهَلْ يُسْقِطُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الْحَدَّ عَمَّنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَه أَوْ أُخْتَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا الْعَقْدَ ثُمَّ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ زَادَهُ صُورَةُ الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ إلَّا فُجُورًا وَإِثْمًا وَاسْتِهْزَاءً بِدِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَلَعِبًا بِآيَاتِهِ؟ فَهَلْ يَلِيقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ رَفْعُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ وَإِسْقَاطُهَا بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا مَضْمُومَةً إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بِأُمِّهِ وَابْنَتِهِ؟ فَأَيْنَ الْقِيَاسُ وَذِكْرُ الْمُنَاسِبَاتِ وَالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى الظَّاهِرِيَّةِ؟ فَهَلْ بَلَغُوا بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّاهِرِ عُشْرَ مِعْشَارِ هَذَا؟ وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيَعْتَدُّ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَمَّنْ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَكُلَّمَا أُمْسِكَ مَعَهُ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ قَالَ: هَذَا مِلْكِي، وَالدَّارُ الَّتِي دَخَلْتهَا دَارِي، وَالرَّجُلُ الَّذِي دَخَلْت دَارِهِ عَبْدِي؟ قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِدَعْوَى ذَلِكَ، فَهَلْ تَأْتِي بِهَذَا سِيَاسَةٌ قَطُّ جَائِرَةٌ أَوْ عَادِلَةٌ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ شَرِيعَةٍ طَرَقَتْ الْعَالَمَ؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وَكَذَلِكَ الشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْأَقَارِبِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِهِمْ وَمَصَالِحِ الْمُنْفِقِ، وَلِمَا فِي تَرْكِهِمْ مِنْ إضَاعَتِهِمْ؛ فَالتَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الصُّورَةِ مُنَاقَضَةٌ لِغَرَضِ الشَّارِعِ وَتَتْمِيمٌ لِغَرَضِ الْمَاكِرِ الْمُحْتَالِ، وَعَوْدٌ إلَى نَفْسِ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ إعْدَامَهُ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ، وَلَوْ تَحَيَّلَ هَذَا الْمُخَادِعُ عَلَى إسْقَاطِ نَفَقَةِ دَوَابِّهِ لَهَلَكُوا، وَكَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَارِثِ مِنْ الْمِيرَاثِ هُوَ حَقٌّ لَهُ جَعَلَهُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ النَّاسِ بِهِ، فَإِبَاحَةُ التَّحَيُّلِ لِإِسْقَاطِهِ بِالْإِقْرَارِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَإِخْرَاجُ الْوَارِثِ مُضَادَّةً لِشَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَنَقْضٌ لِغَرَضِهِ وَإِتْمَامٌ لِغَرَضِ الْمُحْتَالِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْمَرْأَةِ أَنْ تُقِرَّ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ إذَا أَرَادَ زَوْجُهَا السَّفَرَ بِهَا. [فَصْلٌ أَكْثَرُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ أُصُولَ الْأَئِمَّةِ] فَصْلٌ [أَكْثَرُ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ أُصُولَ الْأَئِمَّةِ] وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْحِيَلِ لَا تَمْشِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ تُنَاقِضُهَا أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَرِّمُ مَسْأَلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ وَدِرْهَمَيْنِ، وَيُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ خَوْفًا أَنْ يُتَّخَذَ حِيلَةً عَلَى نَوْعٍ مَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، فَتَحْرِيمُهُ لِلْحِيَلِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهِمَا إلَى رِبَا النَّسَاءِ أَوْلَى مِنْ تَحْرِيمِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّ التَّحَيُّلَ بِمُدٍّ وَدِرْهَمٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ عَلَى رِبَا الْفَضْلِ أَخَفُّ مِنْ التَّحَيُّلِ بِالْعِينَةِ عَلَى رِبَا النَّسَاءِ، وَأَيْنَ مَفْسَدَةُ هَذِهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تِلْكَ؟ وَأَيْنَ حَقِيقَةُ الرِّبَا فِي هَذِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ فِي تِلْكَ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ، وَتَحْرِيمُهُ لَهَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ لِلْحِيلَةِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ بِأَنْ يَبِيعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ فِي خِرْقَةٍ؛ فَالشَّافِعِيُّ يُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَيُبِيحُ الْعِينَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُبَالِغُ فِي تَحْرِيمِ الْعِينَةِ وَيُبِيحُ مَسَائِلَ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَيَتَوَسَّعُ فِيهَا، وَأَصْلُ كُلٍّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أَحَدِ الْبَابَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ الْحِيلَةِ فِي الْبَابِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى التَّخْرِيجِ عَلَى أُصُولِهِمْ وَنُصُوصِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَرَّجَةِ دُونَ هَذَا؛ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ فِي الدِّينِ تَقْتَضِي رَفْعَ التَّحْرِيمِ مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ وَإِسْقَاطِ الْوُجُوبِ مَعَ قِيَامِ سَبَبِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: اسْتِلْزَامُهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ، وَالثَّالِثُ: الْإِغْرَاءُ بِهَا وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا وَتَعْلِيمُهَا مَنْ لَا يُحْسِنُهَا. وَالرَّابِعُ: إضَافَتُهَا إلَى الشَّارِعِ وَأَنَّ أُصُولَ شَرْعِهِ وَدِينِهِ تَقْتَضِيهَا. وَالْخَامِسُ: أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَتُوبُ مِنْهَا وَلَا يَعُدُّهَا ذَنْبًا، وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُ الْمَخْلُوقَ، وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 يُسَلِّطَ أَعْدَاءَ الدِّينِ عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَبِمَنْ شَرَعَهُ، وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ يُعْمِلُ فِكْرَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي نَقْضِ مَا أَبْرَمَهُ الرَّسُولُ وَإِبْطَالِ مَا أَوْجَبَهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ إعَانَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الطَّرِيقُ؛ فَهَذَا يُعِينُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ ظَاهِرُهَا صَحِيحٌ مَشْرُوعٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ، وَذَاكَ يُعِينُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِهِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ بِنَفْسِهَا، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمُتَحَيِّلُ الْمُخَادِعُ يُعِينُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؟ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ دِينِهِ وَحَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَحُقُوقِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ يُغْرِي بِهِ وَيَعْلَمُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمُتَوَصِّلُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَعْصِيَةِ لَا يَظْلِمُ إلَّا نَفْسَهُ. وَمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ ظُلْمُهُ مِنْ الْمُعِينِينَ فَإِنَّهُ لَا يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ دِينٌ وَشَرْعٌ وَلَا يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ، فَأَيْنَ فَسَادُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ وَضَرَرُهُ مِنْ ضَرَرِهِ؟ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ] فَصْلٌ [حُجَجُ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ] : قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: قَدْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذَمِّ الْحِيَلِ، وَأَجْلَبْتُمْ بِخَيْلِ الْأَدِلَّةِ وَرَجْلِهَا وَسَمِينِهَا وَمَهْزُولِهَا، فَاسْتَمِعُوا الْآنَ تَقْرِيرَهَا وَاشْتِقَاقَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا إنْكَارُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فَأَذِنَ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ، وَقَدْ كَانَ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرَبَاتٍ مَعْدُودَةً، وَهِيَ فِي الْمُتَعَارَفِ الظَّاهِرِ إنَّمَا تَكُونُ مُتَفَرِّقَةً؛ فَأَرْشَدَهُ تَعَالَى إلَى الْحِيلَةِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمِينِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ سَائِرَ الْبَابِ، وَنُسَمِّيه وُجُوهُ الْمَخَارِجِ مِنْ الْمَضَائِقِ، وَلَا تُسَمِّيه بِالْحِيَلِ الَّتِي يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ اسْمِهَا. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ مِنْ إخْوَتِهِ، وَمَدَحَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا كَيْدُهُ لِنَبِيِّهِ وَأَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَةَ عَبْدِهِ بِلَطِيفِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِهِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ سِوَاهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَكَرَ بِمَنْ مَكَرَ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ هَذَا شَأْنُهَا، يَمْكُرُ بِهَا عَلَى الظَّالِمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَالْفَاجِرُ وَمَنْ يَعْسُرُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْهُ؛ فَتَكُونُ وَسِيلَةً إلَى نَصْرِ مَظْلُومٍ وَقَهْرِ ظَالِمٍ وَنَصْرِ حَقٍّ وَإِبْطَالِ بَاطِلٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ وَجْهِ الْمَكْرِ الْحَسَنِ. وَلَكِنْ جَازَاهُمْ بِجِنْسِ عَمَلِهِمْ، وَلِيُعَلِّمَ عِبَادَهُ أَنَّ الْمَكْرَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إظْهَارِ الْحَقِّ وَيَكُونُ عُقُوبَةً لِلْمَاكِرِ لَيْسَ قَبِيحًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَخِدَاعُهُ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَمْرًا وَيُبْطِنَ لَهُمْ خِلَافَهُ. فَمَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَرْبَابِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ أَمْرًا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى بَاطِنٍ غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَرْشَدَهُ إلَى الْحِيلَةِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الرِّبَا بِتَوَسُّطِ الْعَقْدِ الْآخَرِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْعِينَةِ. وَهَلْ الْحِيَلُ إلَّا مَعَارِيضُ فِي الْفِعْلِ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ فِي الْقَوْلِ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ فَفِي مَعَارِيضِ الْفِعْلِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَخَلُّصٌ مِنْ الْمَضَايِقِ. «وَقَدْ لَقِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَائِفَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: أَحْيَاءُ الْيَمَنِ كَثِيرٌ، فَلَعَلَّهُمْ مِنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا» . «وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: احْمِلْنِي، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلَّا وَلَدُ نَاقَةٍ فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهَلْ يَلِدُ الْإِبِلَ إلَّا النُّوقُ؟» . وَقَدْ «رَأَتْ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ، فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْ بِسِكِّينٍ، فَصَادَفَتْهُ وَقَدْ قَضَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ: لَوْ وَجَدْتُك عَلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا لَوَجَأْتُك، فَأَنْكَرَ، فَقَالَتْ: فَاقْرَأْ إنْ كُنْت صَادِقًا، فَقَالَ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا فَقَالَتْ: آمَنْتُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَكَذَّبْت بَصَرِي، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَحِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا تَحَيُّلٌ مِنْهُ بِإِظْهَارِ الْقِرَاءَةِ لَمَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ قُرْآنٌ لِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ مَكْرُوهِ الْغِيرَةِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يُطْعِمَ طَعَامًا لِرَجُلٍ قَالَ: أَصْبَحْت صَائِمًا، يُرِيدُ أَنَّهُ أَصْبَحَ فِيمَا سَلَف صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا اقْتَضَاهُ بَعْضُ غُرَمَائِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيه قَالَ: أُعْطِيك فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ يَوْمَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ فِي دَارِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَكَرِهَ الْخُرُوجَ إلَيْهِ، فَوَضَعَ أَحْمَدُ إصْبَعَهُ فِي كَفِّهِ، فَقَالَ: لَيْسَ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا، وَمَا يَصْنَعُ الْمَرْوَزِيِّ هَاهُنَا؟ وَحَضَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَجْلِسًا، فَلَمَّا أَرَادَ النُّهُوضَ مَنَعُوهُ، فَحَلَفَ أَنَّهُ يَعُودُ، ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَ نَعْلَهُ كَالنَّاسِي لَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ عَادَ وَأَخَذَهَا وَانْصَرَفَ. وَقَدْ كَانَ لِشُرَيْحٍ فِي هَذَا الْبَابِ فِقْهٌ دَقِيقٌ كَمَا أَعْجَبَ رَجُلًا فَرَسُهُ وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إنَّهَا إذَا أُرْبِضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أُفٍّ أُفٍّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا. وَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ نَاقَةً، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: كَمْ تَحْمِلُ؟ فَقَالَ: احْمِلْ عَلَى الْحَائِطِ مَا شِئْت، فَقَالَ: كَمْ تَحْلِبُ؟ قَالَ: احْلِبْ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْت، فَقَالَ: كَيْفَ سَيْرُهَا؟ قَالَ: الرِّيحُ لَا تُلْحَقُ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ: مَا وَجَدْت شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا كَذَبْتُك. قَالُوا: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْعُقُودَ وَسَائِلَ وَطُرُقًا إلَى إسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالْمَأْثَمِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ الْإِنْسَانُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةٍ لَزِمَهُ الْحَدُّ، فَإِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، وَكَانَ الْعَقْدُ حِيلَةً عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ، بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ حِيلَةً عَلَى دَفْعِ أَذَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ، وَالِاكْتِفَاءَ حِيلَةً إلَى دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَعَقْدَ التَّبَايُعِ حِيلَةً عَلَى حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَسَائِرَ الْعُقُودِ حِيلَةً عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا، وَشُرِعَ الرَّهْنُ حِيلَةً عَلَى رُجُوعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي مَالِهِ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ إذَا أَفْلَسَ الرَّاهِنُ أَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَجْلِسِهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 رِجْلَهُ الْأُخْرَى» ، وَقَدْ بَنَى الْخَصَّافُ كِتَابَهُ فِي الْحِيَلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ الْحِنْثِ بِفِعْلِ بَعْضِهِ لَمْ يَكُنْ حَانِثًا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ وَلَا يَأْخُذُ هَذَا الْمَتَاعَ فَلْيَدَعْ بَعْضَهُ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَلَا يَحْنَثُ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي بَابِهِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْأَيْمَانِ. وَهَذَا السَّلَفُ الطَّيِّبُ قَدْ فَتَحُوا لَنَا هَذَا الْبَابَ، وَنَهَجُوا لَنَا هَذَا الطَّرِيقَ، فَرَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ لِي مَعَك حَقًّا، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَحْلِفُ لَهُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَيَعْنِي بِهِ مَسْجِدَ حَيِّهِ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ: يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا أُبْصِرُ إلَّا مَا سَدَّدَنِي غَيْرِي. وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا، وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا، فَقَالَ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَذَكَرَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي، فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: قُلْ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ: إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا، وَلَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَنَا، وَاعْنُوا لَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا مِنْ الْبَيْتِ، وَفِي أَيِّ مَوْضِعٌ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمُرُ النَّعَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ: فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ، وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» . وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته؟ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ؟ قُلْت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 لَا، قَالَ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: فَإِنِّي رَجُلُ مَكَائِدٌ. وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهَا مِرْوَحَةٌ، فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ بِأَنَّهَا لَهَا، فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ: عَلَامَ شَهِدْتُمْ؟ قُلْنَا: أَشْهَدْتَنَا أَنَّكَ جَعَلْت الْجَارِيَةَ لَهَا، قَالَ: أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ؟ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ لَا بَأْسَ بِالْحِيَلِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ، وَإِنَّمَا الْحِيَلُ شَيْءٌ يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ، وَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ، فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يُبْطِلَهُ، أَوْ يَحْتَالَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُوهِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، أَوْ يَحْتَالَ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً، وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مَخَارِجُ مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَالِفَ يَضِيقُ عَلَيْهِ إلْزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ بِالْحِيلَةِ مَخْرَجٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ تَشْتَدُّ بِهِ الضَّرُورَةُ إلَى نَفَقَةٍ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ مَخْرَجٌ بِالْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَهَلَكَ وَلَهَلَكَتْ عِيَالُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّعُ ذَلِكَ، وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ الَّذِي وَسِعَ جَمِيعَ خَلْقِهِ؛ فَقَدْ دَارَ أَمْرُهُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا: إمَّا إضَاعَةُ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَإِمَّا الرِّبَا صَرِيحًا، وَإِمَّا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، فَأَوْجَدُونَا أَمْرًا رَابِعًا نَصِيرُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَنْزِعُهُ الشَّيْطَانُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقِ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ جِدًّا مُفَارَقَةُ امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَرَابُ بَيْتِهِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ نَتَحَيَّلَ لَهُ بِحِيلَةٍ تُخْرِجُهُ مِنْ هَذَا الْإِصْرِ وَالْغُلِّ؟ وَهَلْ السَّاعِي فِي ذَلِكَ إلَّا مَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا إذَا شَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَرْسَلَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَجُلٍ، فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا، وَأَوْعَدَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ إنْ طَلَّقَهَا، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّحَ نِكَاحَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالتَّحْلِيلِ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً مُحَلِّلًا ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا فَأَمْسَكَهَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالتَّحْلِيلِ إذَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الزَّوْجُ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَارَقَهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُطَلِّقُ وَلَا هِيَ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إحْسَانًا مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ بَيَّنَ الثَّانِي ذَلِكَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا لَمْ يَضُرَّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الْمُحَلِّلُ الَّذِي يَفْسُدُ نِكَاحُهُ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَعَقْدُهُ صَحِيحٌ لَا دَاخِلَةَ فِيهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، نَوَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ مَأْجُورٌ. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ [مِثْلُ هَذَا سَوَاءٌ. وَرَوَى أَيْضًا مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ] : إذَا نَوَى الثَّانِي وَهِيَ تَحْلِيلُهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ زُفَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إنْ اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا؛ فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَهَذَا زَوْجٌ، وَقَدْ عَقَدَ بِمَهْرٍ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا وَخُلُوِّهَا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ رَاغِبٌ فِي رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ» وَهَذَا نِكَاحُ رَغْبَةٍ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا شَرَطَ فِي عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ مُجَرَّدَ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيَّا الْحِلَّ بِذَلِكَ فَقَالَ: «لَا، حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا» فَإِذَا تَذَاوَقَا الْعُسَيْلَةَ حَلَّتْ لَهُ بِالنَّصِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 قَالُوا: وَأَمَّا نِكَاحُ الدُّلْسَةِ فَنَعَمْ هُوَ بَاطِلٌ، وَلَكِنْ مَا هُوَ نِكَاحُ الدُّلْسَةِ؟ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ تُدَلِّسَ لَهُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِهَا، أَوْ تُدَلِّسَ لَهُ أَنَّهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ تَنْقَضِ لِتَسْتَعْجِلَ عَوْدَهَا إلَى الْأَوَّلِ. وَأَمَّا لَعْنُهُ لِلْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ كُلَّ مُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ؛ فَإِنَّ الْوَلِيَّ مُحَلِّلٌ لِمَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَالْحَاكِمُ الْمُزَوِّجُ مُحَلِّلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَالْبَائِعُ لِأُمَّتِهِ مُحَلِّلٌ لِلْمُشْتَرِي وَطْأَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: " الْعَامُّ إذَا خَصَّ صَارَ مُجْمَلًا " بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَدِيثِ، وَإِنْ قُلْنَا: " هُوَ حُجَّةٌ فِيمَا عَدَا مَحَلَّ التَّخْصِيصِ " فَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَلَسْنَا نَدْرِي الْمُحَلِّلَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِّ، أَهُوَ الَّذِي نَوَى التَّحْلِيلَ أَوْ شَرَطَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؟ أَوْ الَّذِي أَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَنْوِهِ؛ فَإِنَّ الْحِلَّ حَصَلَ بِوَطْئِهِ وَعَقْدِهِ؟ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّصِّ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ أَحَلَّ الْحَرَامَ بِفِعْلِهِ أَوْ عَقْدِهِ، وَنَحْنُ وَكُلُّ مُسْلِمٍ لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ أَهْلٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ، أَمَّا مَنْ قَصَدَ الْإِحْسَانَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَرَغِبَ فِي جَمْعِ شَمْلِهِ بِزَوْجَتِهِ، وَلَمِّ شَعْثِهِ وَشَعْثِ أَوْلَادِهِ وَعِيَالِهِ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَلْحَقَهُمْ لَعْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأَدِلَّتُهُ لَا تُحَرِّمُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِطْ الْمَحْرَمُ فِي صُلْبِهَا عُقُودٌ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحِلِّهَا مَقْرُونَةً بِشُرُوطِهَا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُمَا تَامَّانِ، وَأَهْلِيَّةُ الْعَاقِدِ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَمَحَلِّيَّةُ الْعَقْدِ قَابِلَةٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بُطْلَانِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحْتَالَ مَثَلًا إنَّمَا قَصَدَ الرِّبْحَ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ التِّجَارَةُ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّبْحُ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَالْمُحَلِّلُ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَصَدَ الطَّلَاقَ وَنَوَاهُ إذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ، وَهُوَ مِمَّا مَلَّكَهُ الشَّارِعُ إيَّاهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ إذَا اشْتَرَاهُ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأَبُّدِ الْمِلْكِ، وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجِبَ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَأْقِيتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجِبِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ. وَلَوْ نَوَى بِعَقْدِ الشِّرَاءِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ؛ فَلَا يَخْرُجُ السَّبَبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ؛ فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا، وَظَهَرَ أَيْضًا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ؛ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعَاقِدَ قَصَدَ مُحَرَّمًا، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَنْوِيِّ وَغَيْرِهِ، مِثْلَ الْكِنَايَاتِ، وَمِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت كَذَا؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكَّلِهِ، فَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ ظَاهِرًا مُتَعَيِّنًا لِمُسَبِّبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّيَّةِ الْبَاطِنَةِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا وَلَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي تَغْيِيرِهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا يَهَبُهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا، بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ حِينَئِذٍ. وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَنَا ظَوَاهِرُ الْأُمُورِ، وَإِلَى اللَّهِ سَرَائِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الرُّسُلُ لِرَبِّهِمْ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا سَأَلَهُمْ: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] فَيَقُولُونَ: {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] كَانَ لَنَا ظَوَاهِرُهُمْ، وَأَمَّا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فَأَنْتَ الْعَالِمُ بِهِ. قَالُوا: فَقَدْ ظَهَرَ عُذْرُنَا، وَقَامَتْ حُجَّتُنَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ فِيمَا أَصَّلْنَاهُ - مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَإِلْغَاءِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْخَالِي عَنْهَا الْعَقْدُ، وَالتَّحَيُّلُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ مَضَايِقِ الْأَيْمَانِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ - عَنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَقْوَالِ السَّلَفِ الطَّيِّبِ. وَلَنَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْكِرَةِ عَلَيْنَا. [ادِّعَاءٌ أَنَّ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فُرُوعًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَجْوِيزُ الْحِيَلِ] : قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُهُونٌ كَثِيرَةٌ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَقَدْ سَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ مُلْغًى، وَسَلَّمُوا لَنَا أَنَّ الْقُصُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْعُقُودِ، وَسَلَّمُوا لَنَا جَوَازَ التَّحَيُّلِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ التَّحَيُّلُ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ مِنْ الثِّمَارِ فَضْلًا عَمَّا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ، وَهَذَا نَفْسُ الْحِيلَةِ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا التَّحَيُّلَ عَلَى بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؟ وَهَلْ مَسْأَلَةُ الْعَيِّنَةِ إلَّا مِلْكَ بَابِ الْحِيَلِ؟ وَهُمْ يُبْطِلُونَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ ثُمَّ يَقُولُونَ: الْحِيلَةُ فِي جَوَازِهَا أَنْ يَبِيعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرْضِهِ لِصَاحِبِهِ، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ حِينَئِذٍ بِالْفِعْلِ وَيَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ، وَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهَا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْآنَ وَيُعَلِّقَ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْحِيَلِ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ بِالْمَسْأَلَةِ السريجية مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ حِيلَةٍ سِوَاهُ مُحَلَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حِيلَةٌ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ دَائِمًا بِالطَّلَاقِ وَيَحْنَثَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَبَدًا. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا عَلَيْنَا لِلْحِيَلِ، وَأُصُولُهُمْ تُخَالِفُ أُصُولَنَا فِي ذَلِكَ؛ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالْمُقَارَنِ، وَالشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، وَالْقُصُودُ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَالذَّرَائِعُ يَجِبُ سَدُّهَا، وَالتَّغْرِيرُ الْفِعْلِيُّ كَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ، وَهَذِهِ الْأُصُولُ تَسُدُّ بَابَ الْحِيَلِ سَدًّا مُحْكَمًا. وَلَكِنْ قَدْ عَلَّقْنَا لَهُمْ بِرُهُونٍ نُطَالِبُهُمْ بِفَكَاكِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهِمْ لَنَا عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْنَا، فَجَوَّزُوا التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا سَنَةً صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ تَعْمَلْ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي فَسَادِهِ. وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعْتَرَكُ النِّزَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ شَنُّوا عَلَيْنَا الْغَارَاتِ، وَرَمَوْنَا بِكُلِّ سِلَاحٍ مِنْ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، وَلَمْ يُرَاعُوا لَنَا حُرْمَةً، وَلَمْ يَرْقُبُوا فِينَا إلًّا وَلَا ذِمَّةً. وَقَالُوا: لَوْ نَصَبَ شِبَاكًا لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَخَذَ مَا وَقَعَ فِيهَا حَالَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْحِلِّ جَازَ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَحِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ عَلَى الْحِيتَانِ؟ وَقَالُوا: لَوْ نَوَى الزَّوْجُ الثَّانِي أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جَازَ وَحَلَّتْ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرْ فِي الْعَقْدِ. وَقَالُوا: لَوْ تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُقِيم مَعَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا صَحَّ الْعَقْدُ، وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةُ التَّوْقِيتِ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْمَخَارِجِ مِنْ الْأَيْمَانِ بِأَنْوَاعٍ الْحِيَلِ مَعْرُوفٌ، وَعَنَّا تَلَقَّوْهُ، وَمِنَّا أَخَذُوهُ. وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثَوْبًا فَاتَّهَبَهُ مِنْهُ وَشَرَطَ لَهُ الْعِوَضَ لَا يَحْنَثُ. وَقَالُوا بِجَوَازِ مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ. وَهِيَ شَقِيقَةُ مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَصِيرِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَصِيرِهَا إلَى غَيْرِهِ؟ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْبَائِعِ أَرْفَقُ بِالْمُشْتَرِي وَأَقَلُّ كَلِفَةً عَلَيْهِ وَأَرْفَعُ لِخَسَارَتِهِ وَتَعَنِّيهِ. فَكَيْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 تُحَرِّمُونَ الضَّرَرَ الْيَسِيرَ وَتُبِيحُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَالْحَقِيقَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ عَشَرَةٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ رَجَعَتْ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ إلَى مَالِكِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِهِ؟ وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِأَمَتِهِ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَ تَزْوِيجَهُ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجُهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُمَا مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ قَدْ وُجِدَ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُمَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْد أَنْ مَلَكَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ انْقَضَى وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَةِ حُكْمِهِ. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَدَعَهُ لَهُ مِنْ زَكَاتِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِيهِ فَخَافَ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَ الْمَطْلُوبُ لِلطَّالِبِ مَالًا بِقَدْرِ حِصَّةِ الطَّالِبِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ لِلطَّالِبِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا وَهَبَهُ لَهُ وَيَحْتَسِبُ بِذَلِكَ مِنْ زَكَاتِهِ ثُمَّ يَهَبُ الْمَطْلُوبُ مَالَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنُ الطَّالِبُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ لِمَنْ فِي ذِمَّتِهِ بَرَاءَةٌ. وَإِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ مِنْ نَصِيبِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا حَصَلَ الدَّيْنُ فِي ضَمَانِهِ. وَقَالُوا: لَوْ أَجَّرَهُ الْأَرْضَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا بِمَبْلَغٍ يَكُونُ زِيَادَتُهُ بِقَدْرِ الْخَرَاجِ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا. قَالُوا: لِأَنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأُجْرَةِ حَصَلَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَابَّةً وَيَشْتَرِطَ عَلَفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَجُزْ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ هَكَذَا سَوَاءٌ، يَزِيدُ فِي الْأُجْرَةِ وَيُوَكِّلَهُ أَنْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ. وَقَالُوا: لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرَةِ لِلثَّمَرَةِ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ كُلِّ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءٌ مَثَلًا. وَقَالُوا: لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهَا أَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا بِمَالِ الْمُوَكِّلِ لَهُ، وَهُوَ وَكِيلُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَنْقُدُ مَا مَعَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 قَالُوا: وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا تَأْتِي هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أُصُولِنَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَتْ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ أَرَادَ إجَارَةً أَرْضٍ لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الزَّرْعَ جَازَ. وَقَالُوا: لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَالْحِيلَةُ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَقْبِضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ دَفَعَهُ إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ بِضَاعَةً فَإِنْ تَوَى. فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ فَتَسْلِيمُهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً كَتَسْلِيمِ مَالٍ لَهُ آخَرَ. وَحِيلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا يُرِيدُ دَفْعُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ عِنْدِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَيُشَارِكُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَإِنْ خَسِرَ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ، وَالْمُلْزَمَ نَفْسَهُ الضَّمَانَ بِدُخُولِهِ فِي الْقَرْضِ. وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْعَرْضِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَرْضٌ فَأَرَادَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَرْضَ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِالْمَالِ. وَقَالُوا: لَوْ حَلَّفَتْهُ امْرَأَتُهُ أَنَّ كُلَّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ وَلَا تَعْتِقُ أَنْ يَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ وَلَا تَعْتِقُ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ هَذِهِ النِّيَّةُ وَقْتَ الْيَمِينِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا صَاحِبَهُ وَيَهَبُهُ إيَّاهَا ثُمَّ يَهَبُهُ نَظِيرَ الثَّمَنِ. وَقَالُوا: لَوْ حَلَّفَتْهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَخَافَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى طَلَاقِكِ: أَيْ يَكُونُ طَلَاقُكِ صَدَاقُهَا، أَوْ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِكِ: أَيْ تَكُونُ رَقَبَتُكِ صَدَاقُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ، فَلَا يَحْنَثُ بِالتَّزْوِيجِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّيْرَفِيِّ مَبْلَغُ الدَّرَاهِمِ وَأَرَادَ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 يَصْبِرَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ صَرْفِهِ ثُمَّ يُقْرِضَهُ إيَّاهَا فَيَصْرِفُ بِهَا الْبَاقِي، فَإِنْ لَمْ يُوفِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَرْفَهُ، وَيَصِيرَ مَا أَقْرَضَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، لَا أَنَّهُ عِوَضُ الصَّرْفِ. وَقَالُوا: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مَتَاعًا وَيَنْقُدَهُ ثَمَنَهُ وَيَقْبِضَ الْمَتَاعَ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ، وَالتَّأْجِيلُ جَائِزٌ فِي ثَمَنِ الْمَتَاعِ. وَقَالُوا: لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَاعًا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ. وَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ رَبُّ الْمَالِ أَنَّ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً لِوَلَدِهِ، وَأَنَّهُ مُقَارِضٌ إلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِوَلَدِهِ مَا أَحَبَّ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ. فَيَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ كَوْنُهُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْلَادًا صِغَارًا. وَقَالُوا: لَوْ صَالَحَ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا لَمْ يَصِحَّ، وَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ يَفْسَخَا الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الْمُؤَجَّلِ وَيَجْعَلَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ. وَقَالُوا: لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا. قَالُوا: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ جَازَ، فَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ شِرَاءَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ الْأَمَةِ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يَجُزْ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُصَالِحُوهُ عَنْ الْمُوصَى بِهِ عَلَى مَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ فَيَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ. قَالُوا: وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَرْضٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلِلْآخَرِ عَرْضٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَحَبَّا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْعَرْضَيْنِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَاحِبُ الْعَرْضِ الَّذِي قِيمَتُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ عَرْضِهِ بِسُدُسِ عَرْضِهِ هُوَ؛ فَيَصِيرُ لِلَّذِي يُسَاوِي عَرْضُهُ أَلْفًا سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلِلْآخَرِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالَيْهِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 سِتَّةُ آلَافٍ، وَقَدْ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَرْضَيْنِ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا أَسْدَاسًا، خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ لِأَحَدِهِمَا وَسُدُسَهُ لِلْآخَرِ، فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ. قَالُوا: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُوَكَّلِ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرُهُ وَخَافَ ضَيَاعَ حَقِّهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثُمَّ يُوَكِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ. قَالُوا: وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ، وَثُلُثَهُ يَحْتَمِلُهُ، وَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يَجْحَدُوا الْمَالَ وَيَرِثُوا ثُلُثَيْهِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ أَقَبَضَهُ الْمَالَ، وَصَارَ الْعَبْدُ حُرًّا. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ، وَلَيْسَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ، فَأَرَادَ بَيْعَهُ الْعَبْدَ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: " أَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَإِلَى فُلَانٍ " وَخَافَ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى جَوَازَ تَعْلِيقِ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: " فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَصِيَّانِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَاَلَّذِي قَبِلَ هُوَ الْوَصِيُّ " فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْوِلَايَةَ بِالشَّرْطِ. قَالُوا: وَلَوْ أَرَادَ ذِمِّيٌّ أَنْ يُسْلِمَ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ كَثِيرٌ، فَخَافَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُبَادِرَ بِبَيْعِهَا مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ ثُمَّ يُسْلِمُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَقَاضِيهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ بَادَرَ الْآخَرُ وَأَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَجُوسِيٍّ بَاعَ مَجُوسِيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَا يَأْخُذُ الثَّمَنَ، قَدْ وَجَبَ لَهُ يَوْمَ بَاعَهُ. قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: فَهَذَا رَهْنٌ، الْفَرْقُ عِنْدَنَا بِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالْحِيَلِ وَأَفْتَوْا بِهَا، فَمَاذَا تُنْكِرُونَ عَلَيْنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتُشَنِّعُونَ؟ وَمِثَالُنَا وَمِثَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْمٍ وَجَدُوا كَنْزًا فَأَصَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنْهُ فِي يَدَيْهِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بَعْضُ الْآخِذِينَ يَنْقِمُ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، وَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْكَنْزِ فِي يَدَيْهِ، فَلْيَرْمِ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ ثُمَّ لِيُنْكِرْ عَلَى الْبَاقِينَ. [جَوَابُ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْحِيَلَ] قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِلْحِيَلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ الْفَرَائِضَ وَحَرَّمَ الْمَحَارِمَ وَأَوْجَبَ الْحُقُوقَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ الْكَامِلَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَغِذَاءً لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ، وَدَوَاءً لِدَفْعِ أَدْوَائِهِمْ، وَظِلَّهُ الظَّلِيلَ الَّذِي مَنْ اسْتَظَلَّ بِهِ أَمِنَ مِنْ الْحَرُورِ، وَحِصْنَهُ الْحَصِينَ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ نَجَا مِنْ الشُّرُورِ، فَتَعَالَى شَارِعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الْفَائِقَةِ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا الْحِيَلَ الَّتِي تُسْقِطُ فَرَائِضَهُ، وَتُحِلُّ مَحَارِمَهُ، وَتُبْطِلُ حُقُوقَ عِبَادِهِ، وَيَفْتَحُ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الِاحْتِيَالِ، وَأَنْوَاعَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَأَنْ يُبِيحَ التَّوَصُّلَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، إلَى الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُضْغَةً لِأَفْوَاهِ الْمُحْتَالِينَ، عُرْضَةً لِأَغْرَاضِ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْعَبَثَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى ضِحْكَةِ الضَّاحِكِينَ وَسُخْرِيَةِ السَّاخِرِينَ. فَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، وَيَتَلَاعَبُونَ بِحُدُودِهِ كَتَلَاعُبِ الْمُجَّانِ، فَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ، وَيَسْلُكُونَ إلَيْهِ نَفْسَهُ طَرِيقًا تُوهِمُ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لَا غَيْرُهُ، وَيُسْقِطُونَ الْحُقُوقَ الَّتِي وَصَّى اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصُّورَةِ أَوْ الِاسْمِ أَوْ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِمَا، وَيَسْتَحِلُّونَ بِالْحِيَلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ وَيُسْقِطُونَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوبًا مِمَّا يُوجِبُونَهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّهَ شَرِيعَتَهُ عَنْ هَذَا التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ، وَجَعَلَهَا كَفِيلَةٍ وَافِيَةً بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَجَعَلَهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَنَصَبَهَا طَرِيقًا مُرْشِدًا لِمَنْ سَلَكَهُ إلَيْهِ؛ فَهُوَ نُورُهُ الْمُبِينُ، وَحِصْنُهُ الْحَصِينُ، وَظِلُّهُ الظَّلِيلُ، وَمِيزَانُهُ الَّذِي لَا يَعُولُ، لَقَدْ تَعَرَّفَ بِهَا إلَى أَلِبَّاءِ عِبَادِهِ غَايَةَ التَّعَرُّفِ، وَتَحَبَّبَ بِهَا إلَيْهِمْ غَايَةَ التَّحَبُّبِ، فَأَنِسُوا بِهَا مِنْ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَتَمَّتْ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْهُ نِعَمُهُ السَّابِغَةُ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي فِي شَرْعِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُسْتَحِقُّ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ، الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَلَا يَدْخُلُ السُّوءُ فِي أَسْمَائِهِ وَلَا النَّقْصُ وَالْعَيْبُ فِي صِفَاتِهِ، وَلَا الْعَبَثُ وَلَا الْجَوْرُ فِي أَفْعَالِهِ، بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ عَمَّا يُضَادُّ كَمَالِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، وَبَهَرَتْ حِكْمَتُهُ، وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ، وَقَامَتْ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّتُهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَلْ هِيَ شَرِيعَةٌ مُؤْتَلِفَةُ النِّظَامِ، مُتَعَادِلَةُ الْأَقْسَامِ، مُبَرَّأَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا، مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ، قَوَاعِدُهَا وَمَبَانِيهَا، إذَا حَرَّمَتْ فَسَادًا حَرَّمَتْ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ أَوْ نَظِيرَهُ، وَإِذَا رَعَتْ صَلَاحًا رَعَتْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ شِبْهَهُ؛ فَهِيَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ، وَمِلَّتُهُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا ضِيقَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ، بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةُ التَّوْحِيدِ سَمْحَةُ الْعَمَلِ، لَمْ تَأْمُرْ بِشَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ لَوْ نَهَتْ عَنْهُ لَكَانَ أَوْفَقَ، وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ الْحِجَا لَوْ أَبَاحَتْهُ لَكَانَ أَرْفَقِ، بَلْ أَمَرَتْ بِكُلِّ صَلَاحٍ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ، وَأَبَاحَتْ كُلِّ طَيِّبٍ، وَحَرَّمَتْ كُلِّ خَبِيثٍ، فَأَوَامِرُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ، وَنَوَاهِيهَا حِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ، وَظَاهِرُهَا زِينَةٌ لِبَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهَا، شِعَارُهَا الصِّدْقُ، وَقَوَامُهَا الْحَقُّ، وَمِيزَانُهَا الْعَدْلُ، وَحُكْمُهَا الْفَصْلُ، لَا حَاجَةَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَى أَنْ تُكَمَّلَ بِسِيَاسَةِ مَلِكٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَوْ قِيَاسِ فَقِيهٍ أَوْ ذَوْقِ ذِي رِيَاضَةٍ أَوْ مَنَامِ ذِي دِينٍ وَصَلَاحٍ، بَلْ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَعْظَمُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَمَنْ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ فَلِاعْتِمَادِهِ وَتَعْوِيلِهِ عَلَيْهَا. لَقَدْ أَكْمَلَهَا الَّذِي أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِشَرْعِهَا قَبْلَ سِيَاسَاتِ الْمُلُوكِ، وَحِيلَ الْمُتَحَيِّلِينَ، وَأَقْيِسَةِ الْقِيَاسِيِّينَ، وَطَرَائِقِ الْخِلَافِيِّينَ، وَأَيْنَ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالْقَوَاعِدُ الْمُتَنَاقِضَةُ وَالطَّرَائِقُ الْقِدَدُ وَقْتَ نُزُولِ قَوْلِهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ يَوْمَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ» . وَيَوْمَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا أَعْلَمْتُكُمُوهُ» ؟ وَأَيْنَ كَانَتْ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ: لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَعِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِسَلْمَانَ: لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ: أَجَلْ؟ فَأَيْنَ عَلَّمَهُمْ الْحِيَلَ وَالْمُخَادَعَةَ وَالْمَكْرَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ؟ كَلًّا وَاَللَّهِ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَأَوْعَدَهُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْوَعِيدِ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ، وَأَخْبَرَ عَنْ لَعْنَةِ الْيَهُودِ لِمَا ارْتَكَبُوهُ، وَقَالَ لِأُمَّتِهِ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَسَدَّ الذَّرَائِعَ، وَفَصَّلَ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ، وَبَيَّنَ الْحُدُودَ، وَقَسَّمَ شَرِيعَتَهُ إلَى حَلَالٍ بَيِّنٍ وَحَرَامٍ بَيِّنٍ، وَبَرْزَخَ بَيْنَهُمَا؛ فَأَبَاحَ الْأَوَّلَ، وَحَرَّمَ الثَّانِي، وَحَضَّ الْأُمَّةَ عَلَى اتِّقَاءِ الثَّالِثِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَةِ الْمُحْتَالِينَ عَلَى حِلِّ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ: لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودَ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا، وَصَدَقَ وَاَللَّهِ لَآكِلُ حُوتٍ صِيدَ يَوْمَ السَّبْتِ أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقَلُّ جُرْمًا مِنْ آكِلِ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ بِالْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: عُجِّلَ لِأُولَئِكَ عُقُوبَةُ تِلْكَ الْأَكْلَةِ الْوَخِيمَةِ وَأُرْجِئَتْ عُقُوبَةُ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ: وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ حَفَرُوا الْحَفَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا. وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدُّرَّةِ إذْ صَيَّرَهَا فِي قَصَبَةٍ ثُمَّ دَفَعَ الْقَصَبَةَ إلَى خَصْمِهِ وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، وَاسْتِعَارَةُ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ لِتَحْلِيلِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَظَائِمِ وَالْمَصَائِبِ الْفَاضِحَاتِ، الَّتِي لَوْ اعْتَمَدَهَا مَخْلُوقٌ مَعَ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ؟ وَقَالَ: وَإِذَا وَازَنَ اللَّبِيبُ بَيْنَ حِيلَةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَالْحِيَلِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَرْبَابُ الْحِيَلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَبْوَابِ ظَهَرَ لَهُ التَّفَاوُتُ وَمَرَاتِبُ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْحِيَلِ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الشَّرْعِ، وَعَظَمَةَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ، وَقَطَعَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ نَقْضَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ. [فَصْلٌ الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ الَّذِينَ جَوَّزُوا الْحِيَلَ] َ تَفْصِيلًا] قَالُوا: وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي تَقْرِيرِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ، مُتَحَرِّينَ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، مُنَزِّهِينَ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ الْمُحَرَّمِ، وَنُبَيِّنُ انْقِسَامَ الْحِيَلِ وَالطُّرُقِ إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَفِسْقٌ ظَاهِرٌ، وَمَكْرُوهٌ، وَجَائِزٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَوَاجِبٌ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا نُبَيِّنُ فِيهِ التَّعْوِيضَ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ: [الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ أَيُّوبَ] أَمَّا قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] فَقَالَ شَيْخُنَا: الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي مُوجِبِ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي شَرْعِنَا قَوْلَيْنِ، يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مُوجِبُهَا الضَّرْبُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْجَمْعِ الْوُصُولَ إلَى الْمَضْرُوبِ؛ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُتْيَا مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِحِيلَةٍ، إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّفْظَ عَنْ مُوجِبِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مُوجِبَهُ الضَّرْبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الْمَعْرُوفُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجِبُهُ فِي شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلِنَا؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: " لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا " فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا: " هُوَ شَرْعٌ لَنَا " فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِشَرْعِنَا، وَقَدْ انْتَفَى الشَّرْطُ. وَأَيْضًا؛ فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةَ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يَخْفَ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجِبَ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ؛ فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ وَنَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا، أَمَّا مَا كَانَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهَا؛ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَتَخْفِيفًا عَنْ امْرَأَتِهِ، وَرَحْمَةً بِهَا، لَا أَنَّ هَذَا مُوجِبُ هَذِهِ الْيَمِينِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذِهِ الْفُتْيَا لِئَلَّا يَحْنَثَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى. فَصْلٌ [مَتَى شُرِعَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؟] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ وَالْحِنْثَ، كَمَا هُوَ ثَابِتُ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا؛ وَكَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا، وَهُوَ نَذْرٌ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعٌ عَنْ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذْ ذَاكَ مَشْرُوعَةً فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ أَوْلَى، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيَجُوزُ جَمْعُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مَرِيضًا مَيْئُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْكُلِّ أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضَعِيفَةً عَنْ احْتِمَالِ مِائَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا إيَّاهَا، وَكَانَتْ كَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا، فَخَفَّفَ عَنْهَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ بِأَنْ أَفْتَاهُ بِجَمْعِ الضَّرَبَاتِ بِالضِّغْثِ كَمَا خَفَّفَ عَنْ الْمَرِيضِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ الثُّلُثُ، فَأَقَامَ الثُّلُثَ فِي النَّذْرِ مَقَامَ الْجَمِيعِ رَحْمَةً بِالنَّاذِرِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَهُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الْوَصِيَّةِ رَحْمَةً بِالْوَارِثِ وَنَظَرًا لَهُ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ فِيمَنْ نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِي، إقَامَةً لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَقَامَ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ فِي الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ. وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ بِشَاةٍ، إقَامَةَ لِذَبْحِ الشَّاةِ مَقَامَ ذَبْحِ الِابْنِ كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ لِلْخَلِيلِ، وَأَفْتَى أَيْضًا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ بِأَنْ يَطُوفَ أُسْبُوعَيْنِ، إقَامَةً لِأَحَدِ الْأُسْبُوعَيْنِ مَقَامَ طَوَافِ الْيَدَيْنِ. وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْمَرِيضُ الْمَيْئُوسُ مِنْهُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ بِأَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ وَأَفْتَى أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَنْ تُفْطِرَا وَتُطْعِمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا، إقَامَةً لِلْإِطْعَامِ مَقَامَ الصِّيَامِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّيْءَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ بِفِعْلِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَبْدَالِ وَغَيْرِهَا وَلَكِنْ مِثْلُ قِصَّةِ أَيُّوبَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ أَمَتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى حِيلَةٍ وَتَخْفِيفُ الضَّرْبِ بِجَمْعِهِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّائِفَةِ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَضْرُوبُ مَعْذُورًا عُذْرًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ؛ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مَجْمُوعًا، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إلَى الزَّوَالِ، أَوْ يُقَامُ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ مُوجِبُ يَمِينِهِ هُوَ الضَّرْبُ الْمَجْمُوعُ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَقُوَّتِهِ؟ فَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْحِيَلِ، وَعَلَيْهَا بَنَوْا حِيَلَهُمْ، وَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لَهُمْ فِيهَا أَلْبَتَّةَ. فَصْلٌ [الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ يُوسُفَ وَجَعْلِهِ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ] وَأَمَّا إخْبَارَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ صُوَاعَهُ فِي رَحْلِ أَخِيهِ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِهِ وَكَيْدِ إخْوَتِهِ، فَنَقُولُ لِأَرْبَابِ الْحِيَلِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 أَوَّلًا: هَلْ تُجَوِّزُونَ أَنْتُمْ مِثْلَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ؟ وَإِلَّا فَكَيْفَ تَحْتَجُّونَ بِمَا لَا تُجَوِّزُونَ فِعْلَهُ؟ ، فَإِنْ قُلْتُمْ: فَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ، قُلْنَا: وَمَا يَنْفَعُكُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِي شَرْعِنَا؟ قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ حِين كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا قَصَّ ذَلِكَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ الْحَسَنَةِ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِفِتْيَانِهِ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْ مَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْعَوْدِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تَحُوجُهُمْ إلَى الْعَوْدِ لِيَرُدُّوهَا إلَيْهِ؛ فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ، وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلَهُ وَلِأَبِيهِمْ وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي الْبَلَاءِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِمَا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ تَضَمَّنَ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَرِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَرَّفَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ وَوَطَّنَهُ عَلَى عَدَمِ الِابْتِئَاسِ بِالْحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي أَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إنِّي مَكَانَ أَخِيكَ الْمَفْقُودَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا يُعَامِلُكَ بِهِ إخْوَتُكَ مِنْ الْجَفَاءِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ: لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ، قَالَ: فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ. قَالَ يُوسُفُ: فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي، فَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ، وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشْهِرُكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا يُحْتَمَلُ، قَالَ: لَا أُبَالِي. فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنِّي لَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 أُفَارِقُكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَدُسُّ صُوَاعِي. هَذَا فِي رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ، قَالَ: فَافْعَلْ؛ وَعَلَى هَذَا فَهَذَا التَّصَرُّفُ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْأَخِ وَرِضَاهُ. وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّصِ، وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ، فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ بِضَرْبِهِ، فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ؛ وَيَأْمُرَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا جِدًّا، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَمَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ، وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ، حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ، وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى، أَعْرِفُكَ، أَسْلَمْتَ إذْ كَفَرُوا، وَوَفَيْتَ إذْ غَدَرُوا، وَأَقْبَلْتَ إذْ أَدْبَرُوا، وَعَرَفْتَ إذْ أَنْكَرُوا. وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا، وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الِاحْتِيَالِ الْمُبَاحِ؛ لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ قَدْ أَذِنَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَأَمْرٌ مُبَاحٌ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 75 - 76] وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوا عَلَيْهِ، وَخَانُوهُ فِيهِ، وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا، وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْمُوزِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى خَوَنَةُ الدَّوَاوِينِ لُصُوصًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ لَهُمْ بِذَلِكَ، أَوْ لَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي: هَؤُلَاءِ سَرَقُوا، وَعَنَى أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ، وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ فَصَدَقَ يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ، وَصَدَقَ الْمُنَادِي، وَتَأَمَّلْ حَذْفَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] لِيَصِحَّ أَنْ يُضَمِّنَ سَرِقَتَهُمْ لِيُوسُفَ فَيَتِمُّ التَّعْرِيضُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ صِدْقًا، وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، فَصَدَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ يُوسُفَ: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ، وَهُوَ أَخْصَرُ لَفْظًا، تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ، فَإِنَّ الْأَخَ لَمْ يَكُنْ سَارِقًا بِوَجْهٍ، وَكَانَ الْمَتَاعُ عِنْدَهُ حَقًّا؛ فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَأَصْدَقِهَا. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْمَلَكَيْنِ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أَيْ غَلَبَنِي فِي الْخِطَابِ، وَلَكِنَّ تَخْرِيجَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى الْمَعَارِيض لَا يَكَادُ يَتَأَتَّى، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ: أَيْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ الْحُكْمُ بَيْنَنَا. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْمَلِكِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ: " مِسْكِينٌ وَغَرِيبٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ بِي الْحِبَالُ، وَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِاَلَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا الْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي هَذَا " وَهَذَا لَيْسَ بِتَعْرِيضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمِثَالِ وَإِيهَامٌ أَنِّي أَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَمَا أَوْهَمَ الْمَلَكَانِ دَاوُد أَنَّهُمَا صَاحِبَا الْقِصَّةِ لِيَتِمَّ الِامْتِحَانُ. وَلِهَذَا قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ: سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ، وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ فِيهِ لِيُرْضِيَهُ، لَمْ يَأْثَمْ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: «لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ يَكْذِبُ فِيهِ» فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَكَرِهَ أَذَى الْمُؤْمِنِ، وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا طَمَعًا فِي شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ فِي ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ: إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أُقْدِمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَالَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ. فَصْلٌ [اسْتِنْبَاطٌ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَتَعْقِيبٌ عَلَيْهِ] . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالُ إنَّهُ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ اسْتَثْنَى فِي الْمِيثَاقِ بِقَوْلِهِ: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ يُوسُفَ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ. أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ كَمَالَ الْجَزَاءِ، وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتُهَا. وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الْقِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْرِقَ أَوْ يَخُونَ مَنْ سَرَقَهُ أَوْ خَانَهُ مِثْلَ مَا سَرَقَ مِنْهُ أَوْ خَانَهُ إيَّاهُ؟ وَقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ تَكُنْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. نَعَمْ، لَوْ كَانَ يُوسُفُ أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ، وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ يُوسُفَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ ابْتِلَاءً مِنْهُ لِذَلِكَ الْمُعْتَقَلِ، كَمَا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَيَكُونُ الْمُبِيحُ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَحْيًا خَاصًّا كَالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانُهُ وَابْتِلَاؤُهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَتَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ يُوسُفَ عَنْهُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ فِقْهِ الْقِصَّةِ وَسِيَاقِهَا وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فَنَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَيْدَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15] {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَخِدَاعًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَمَجَازِ الْمُقَابَلَةِ نَحْوُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقِيلَ وَهُوَ أَصْوَبُ: بَلْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلَى بَابِهِ؛ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ وَالْمُخَادَعَةُ، وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ: قَبِيحٌ وَهُوَ إيصَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَحَسَنٌ وَهُوَ إيصَالُهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ عُقُوبَةً لَهُ؛ فَالْأَوَّلُ مَذْمُومٌ وَالثَّانِي مَمْدُوحٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إنَّمَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً، وَهُوَ تَعَالَى يَأْخُذُ الظَّالِمَ وَالْفَاجِرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ لَا كَمَا يَفْعَلُ الظَّلَمَةُ بِعِبَادِهِ. وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ فَيْعَلَةٌ مِمَّا يَسُوءُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسُوءُ صَاحِبَهَا؛ فَهِيَ سَيِّئَةٌ لَهُ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَإِذَا عَرَفْتُ ذَلِكَ فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا بِهِ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا بِهِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْهُ بِمَا أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ، ثُمَّ إنَّ النِّسْوَةَ كَادُوهُ حَتَّى اسْتَعَاذَ. بِاَللَّهِ مِنْ كَيْدِهِنَّ فَصَرَفَهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وَقَالَ الشَّاهِدُ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . وَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فَكَادَ اللَّهُ لَهُ أَحْسَنَ كَيْدٍ وَأَلْطَفَهُ وَأَعْدَلَهُ، بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكَادَ لَهُ عِوَضَ كَيْدِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ إلَى فَضَاءِ الْمُلْكِ، وَمَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَكَانَ لَهُ فِي تَصْدِيقِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كَذَّبْنَهُ وَرَاوَدْنَهُ حَتَّى شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهِ وَعِفَّتِهِ، وَكَادَ لَهُ فِي تَكْذِيبِ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لِنَفْسِهَا وَاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ وَأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ؛ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ مَنْ صَبَرَ عَلَى كَيْدِ الْكَائِدِ لَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 فَصْلٌ [مَكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ضَرْبَيْنِ] وَكَيْدُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَغْلَبُ: أَنْ يَفْعَلَ تَعَالَى فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ؛ فَيَكُونُ الْكَيْدُ قَدْرًا [زَائِدًا] مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابٍ لَا يَسُوغُ، كَمَا كَادَ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ بِانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ، فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَأَنْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِسَرِقَتِهِمْ، فَلَمَّا أَنْكَرُوا قَالَ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ أَوْ جَزَاءُ السَّرَقِ: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسَ السَّارِقِ، يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إلَى مُدَّةٍ، وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةُ آلِ يَعْقُوبَ. [إعْرَابُ جُمْلَةٍ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ] ثُمَّ فِي إعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قَائِمَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَقَوْلُهُ: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ كَذَلِكَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى مُقَرِّرَةٌ لَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الْمَسْرُوقِ لِرَقَبَةِ السَّارِقِ، وَالثَّانِيَةَ إخْبَارٌ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ فِي شَرْعِنَا وَحُكْمِنَا؛ فَالْأُولَى إخْبَارٌ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ، وَإِنْ أَفَادَتْ الثَّانِيَةُ مَعْنَى الْحَصْرِ فَإِنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُ غَيْرُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ {جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] الْأَوَّلَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْمَعْنَى جَزَاءُ السَّارِقِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءُ، كَمَا تَقُولُ: جَزَاءُ السَّرِقَةِ مَنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَجَزَاءُ الْأَعْمَالِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَبِعَشْرٍ أَوْ سَيِّئَةً فَبِوَاحِدَةٍ، وَنَظَائِرُهُ. قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ ` لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ؛ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إلْهَامَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامَ كَيْدٌ كَادَهُ لِيُوسُفَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ؛ إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ؛ فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَادِلًا لَا يَأْخُذُهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ - كَمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ - أَنْ يُضْرَبَ السَّارِقُ وَيُغَرَّمَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي دِينِهِ طَرِيقٌ لَهُ إلَى أَخْذِهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلَى بَابِهِ، أَيْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيُهَيِّئُ لَهُ سَبَبًا يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ يُعْتَقَلُ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ - بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ مِنْ الِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ - كَانَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ، لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ. تَنْبِيهٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَيُعَامِلُهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَبِمِثْلِ عَمَلِهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ أَنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُمْ فِيمَا نَالُوهُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَيُهَيِّئُ لَهُمْ كَيْدًا عَلَى يَدِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ يُجْزَوْنَ بِهِ مِنْ جِنْسِ كَيْدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ. [مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُوسُفَ] وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَغَايَةُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا ظَنٌّ، وَأَمَّا وُجُودُ الْمَسْرُوقِ بِيَدِ السَّارِقِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ وَالرَّائِحَةِ فِي الْخَمْرِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَالِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى هَذَا أَحْسَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْحِيَلِ. وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْخَفِيَّ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَاتِ الْعَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ: بِالْعِلْمِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رَفْعِهِ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِعِلْمِ الْحُجَّةِ. وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَشَاءُ بِالْعِلْمِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ صَاحِبُهُ إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ] النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ كَيْدِهِ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ: هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ تَعَالَى أَمْرًا مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا يُوَصِّلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ؛ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا إلْهَامُهُ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَإِنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَخْصِمُ بِهِ الْمُبْطِلَ صِفَةُ مَدْحٍ؛ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ أَوْ تُسْقَطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ؛ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَكِيدُ الْكَائِدَ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرَ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ. فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ الْمُتَحَيِّلِينَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ] وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَا أَصَحُّهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَنَحْنُ نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْكَلَامُ مَعَكُمْ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إبْطَالُ اسْتِدْلَالِكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ، وَثَانِيهِمَا: بَيَانُ دَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِكُمْ؛ إذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ عَلَى بَاطِلٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً، مَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ. [بَحْثٌ فِي دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ] فَأَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: غَايَةُ مَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِثَمَنِهَا تَمْرًا آخَرَ» ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْذَنُ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِلِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ صَحِيحًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِي الْعَقْدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَلَوْ سَلَّمَ لَكُمْ الْمُنَازِعُ صِحَّتَهُ لَاسْتَغْنَيْتُمْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " بِعْ " مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ؛ فَهَذَا الْبَيْعُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ عَامٌّ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَنَاوُلِهِ، فَكَيْفَ هَذَا الْبَيْعُ مِمَّا قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ، وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْمُطْلَقِ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ. وَنُكْتَةُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَأَ فِيهَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الرِّبَا وَجَعْلِ السِّلْعَةِ الدَّخِيلَةِ مُحَلِّلًا لَهُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ بِالْبَيْعِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقٌ، وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ صُوَرِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُمَيِّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ، وَلَا هُوَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ؛ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيِّزِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ: «بِعْ هَذَا الثَّوْبَ» لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَلَا بِكَذَا أَوْ كَذَا، وَلَا بِهَذِهِ السُّوقِ أَوْ هَذِهِ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمْتَثِلًا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقُيُودَ لَا تُنَافِي الْأَمْرَ وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ، وَإِنْ كَانَ لُزُومُ بَعْضِهَا لُزُومًا عَقْلِيًّا ضَرُورَةَ وُقُوعِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي ضِمْنِ قَيْدٍ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرُهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ لِبَائِعِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَا بِحُلُولٍ وَلَا تَأْجِيلٍ وَلَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقُيُودِ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا، وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ وَلَا غَيْرِهِ، كَمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ؛ فَمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ أُبِيحَ فِعْلُهُ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِهِ لَا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ لَمْ يُعَارَضْ دَلِيلُ الْمَنْعِ بِهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُطْلَبَ التَّرْجِيحُ، بَلْ يَكُونُ دَلِيلُ الْمَنْعِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِهَذَا، فَإِنْ عُورِضَ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُتَنَاوِلٍ لِإِبَاحَتِهِ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لَهُ أَوْ بِدَلِيلِ خَاصٍّ صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ؛ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَثِيرًا مَا يَغْلَطُ فِيهِ النَّاظِرُ وَالْمُنَاظِرُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا جَوَابُ مَنْ قَالَ: " لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ " فَإِنَّ مَقْصُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ اشْتِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ أُحِيلَ عَلَى فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي بَيْعٍ يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعٍ يَكُونُ وَسِيلَةً وَذَرِيعَةً ظَاهِرَةً إلَى مَا هُوَ رِبًا صَرِيحٌ، وَكَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا عَنْهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا بَيْعٌ وَبَاطِنُهَا رِبًا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بِوَجْهٍ لَمْ يَفْهَمْهَا عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِخِطَابِهِ بِوَجْهٍ، وَمَا نَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إلَّا اسْتِدْلَالَ بَعْضِهِمْ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ الْمُصِرَّةِ عَلَى الزِّنَا، وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] ، وَاسْتِدْلَالَ غَيْرِهِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِذَلِكَ، وَعَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاسْتِدْلَالَ آخَرَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ إذَا كَانَ زَانِيًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَخَذَ يُعَارِضُ بِهِ السُّنَّةَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، بَلْ لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كُلِّ نِكَاحٍ حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «بِعْ الْجَمِيعَ» لَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ مُسْتَدِلٌّ عَلَى بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِالْغَالِبِ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ: هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَشَرْعًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِرَادَةُ هَذِهِ الصُّورَةِ وَحْدَهَا مِنْ اللَّفْظِ مُمْتَنِعٌ، وَإِرَادَتُهَا مَعَ غَيْرِهَا فَرْعٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا عُمُومَ لَهُ، وَإِرَادَةُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَيْعِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ كُلِّهَا لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا تَدْخُلُ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ وَوَلَدِهِ وَوَكِيلِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ كَذَا، فَلَوْ قَالَ: " بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا جَدِيدَةً " لَمْ يَفْهَمْ السَّامِعُ إلَّا بَيْعًا مَقْصُودًا، أَوْ شِرَاءً مَقْصُودًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِالْحِيلَةِ الرِّبَوِيَّةِ أَلْبَتَّةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " بِعْ كَذَا، وَاشْتَرِ كَذَا " أَوْ " بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ " لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْبَيْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ نَقْلُ مِلْكِ الْمَبِيعِ نَقْلًا مُسْتَقِرًّا؛ وَلِهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ بَيْعُ الْهَازِلِ وَلَا الْمُكْرَهِ، وَلَا بَيْعُ الْحِيلَةِ، وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ، وَلَا يَعُدُّ النَّاسُ مَنْ اتَّخَذَ خَرَزَةً أَوْ عَرْضًا يُحَلِّلُ بِهِ الرِّبَا وَيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَهُ صُورَةً خَالِيَةَ عَنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَمَقْصُودِهِ تَاجِرًا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ مُرَابِيًا وَمُتَحَيِّلًا، فَكَيْفَ يَدْخُلُ هَذَا تَحْتَ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ يَزِيدُهُ إيضَاحًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكْسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» وَنَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَتَى تَوَاطَئَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَا يَكُونُ مَا نَهَى عَنْهُ دَاخِلًا تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ. يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» وَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ غَيْرَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ مُنْطَبِقٌ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ؛ فَلَا يَدْخُلُ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَحْتَ مَا أَذِنَ فِيهِ. يُوَضِّحُهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِئُهُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَمَتَى وَاطَأَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ وَأَبْتَاعَ مِنْكَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا؛ فَلَا يَكُونُ الثَّانِي عَقْدًا مُسْتَقِلًّا مُبْتَدَأً، بَلْ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا وَفِي اتِّفَاقِهِمَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِعَقْدَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ لَا يَرْتَبِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ. وَلَوْ نَزَلْنَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَسَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ صُورَةُ الْحِيلَةِ فَهُوَ لَا رَيْبَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ؛ فَنَخُصُّ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَأَضْعَافِهَا، وَالْعَامُّ يُخَصُّ بِدُونِ مِثْلِهَا بِكَثِيرٍ، فَكَمْ قَدْ خُصَّ الْعُمُومُ بِالْمَفْهُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَخْصِيصُهُ - لَوْ فُرِضَ عُمُومُهُ - بِالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى، بَلْ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْحِيَل وَتَحْرِيمِهَا كَافٍ فِي التَّخْصِيصِ، وَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ خَصَّصْتُمْ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَخَصَصْتُمُوهُ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَا اشْتَرَطَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَهَا لِيَحِلَّهَا وَمَتَى أَحَلَّهَا فَهِيَ طَالِقٌ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ نَادِرَةٌ جِدًّا لَا يَفْعَلُهَا الْمُحَلِّلُ، وَالصُّوَرُ الْوَاقِعَةُ فِي التَّحْلِيلِ أَضْعَافُ هَذِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 فَحَمَلْتُمْ اللَّفْظَ الْعَامَّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا عَلَى أَنْدَرِ صُورَةٍ تَكُونُ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهَا، وَأَخْلَيْتُمُوهُ عَنْ الصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بَيْنَ الْمُحَلِّلِينَ؛ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ» أَوْلَى بِالتَّقْيِيدِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ الْمَعْهُودِ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ يُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ [حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ تَمْنَعُ مِنْ صُورَةِ الْحِيلَةِ] : وَمِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى صُورَةِ الْحِيلَةِ وَأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ وَمَنْصِبَهُ الْعَالِي مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَيْعَ وَأَحَلَّهُ لِأَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي؛ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ بِالْبَيْعِ، هَذَا يَنْتَفِعُ بِالثَّمَنِ وَهَذَا بِالسِّلْعَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا وَقَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا يَحْتَاطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْعَرْضِ هَذَا فِي وَزْنِ الثَّمَنِ وَنَقْدِهِ وَرَوَاجِهِ وَهَذَا فِي سَلَامَةِ السِّلْعَةِ مِنْ الْعَيْبِ وَأَنَّهَا تُسَاوِي الثَّمَنَ الَّذِي بَذَلَهُ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ فَقَدْ قَصَدَا بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَسَوَاءٌ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِعَقْدٍ أَوْ تَوَقَّفَ عَلَى عُقُودٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى لَا تُبَاعُ سِلْعَتُهُ [بِهَا] لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا وَهَذَا بَيْعٌ مَقْصُودٌ وَعِوَضُهُ مَقْصُودٌ ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ فِي تَمْرِ خَيْبَرَ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا مَقْصُودًا مَشْرُوعًا؛ فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً، وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ تَمَلُّكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً، فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا إذَا ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ مُبْتَاعِهِ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَهَذَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا لَهُمَا، بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا بِعَيْنِهِ، وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى صَاعٍ بِصَاعَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَصَّلَانِ إلَى ذَلِكَ بِبَيْعِ الصَّاعِ بِدِرْهَمٍ وَيَشْتَرِي بِهِ صَاعَيْنِ وَلَا يُبَالِي الْبَائِعُ بِنَقْدِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَلَا بِقَبْضِهِ وَلَا بِعَيْبٍ فِيهِ وَلَا بِعَدَمِ رَوَاجِهِ وَلَا يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ فِيهِ احْتِيَاطَ مَنْ قَصْدُهُ تَمَلُّكُ الثَّمَنِ؛ إذْ قَدْ عَلِمَ هُوَ وَالْآخَرُ أَنَّ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ خَارِجٌ مِنْهُ عَائِدٌ إلَيْهِ، فَنَقْدُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وَقَبْضُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ يَكُونُ عَبَثًا، وَتَأَمَّلْ حَالَ بَاعَةَ الْحُلِيِّ عَنْهُ. كَيْفَ يُخْرِجُ كُلَّ حَلْقَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ قِطْعَةٍ مَا وَيَبِيعُكَ إيَّاهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْكَ؟ فَكَيْفَ لَا تَسْأَلُ عَنْ قِيمَتِهَا وَلَا عَنْ وَزْنِهَا وَلَا مُسَاوَاتِهَا لِلثَّمَنِ؟ بَلْ قَدْ تُسَاوِي أَضْعَافَهُ وَقَدْ تُسَاوِي بَعْضَهُ؛ إذْ لَيْسَتْ هِيَ الْقَصْدُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَمْرٌ وَرَاءَهَا وَجُعِلَتْ هِيَ مُحَلِّلًا لِذَلِكَ الْمَقْصُودِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهُوَ إنَّمَا عَقَدَ مَعَهُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بِعَيْنِهِ وَيَأْخُذَ الْعِوَضَ الْآخَرَ، وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقَدَاهُ عَلَى فَسْخِهِ، وَالْعَقْدُ إذَا قُصِدَ بِهِ فَسْخُهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَكَانَ تَوَسُّطُهُ عَبَثًا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ حِنْطَةٍ لِيَبْتَاعَهُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُمَا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ مَثَلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، ثُمَّ يَقُولُ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ كَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالْغَرَضُ مَعْرُوفٌ، فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهَا إلَى مَنْ يَبِيعُهُ إيَّاهَا بِثَمَنٍ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمَلُّكِهِ وَقَبْضِهِ؟ وَتَوَسُّطِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ عَبَثٌ مَحْضٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَعَ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالْكُلْفَةِ فِيهِ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ سِوَى تَضْيِيعِ الزَّمَانِ وَإِتْعَابِ النُّفُوسِ بِلَا فَائِدَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ الْأَوَّلِ إلَّا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَابْتَعْتُ مِنْكَ هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ؛ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ قَطُّ بِأَدْنَى الْحِيَلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ، فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِكَذَا، وَيُسَمِّي مَا شَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا لِلَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ - بِذَلِكَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ مَقْصُودَةٌ، وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ، وَابْتَعْتُهَا مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَيُمَكِّنَهُ رِبَا الْفَضْلِ، فَلَا يَشَاءُ مُرَابٍ إلَّا أَقْرَضَهُ ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيَعُودُ الرِّبَا - الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتَبَهُ، وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ - إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ نَوْعَاهُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ لَا كُلْفَةَ فِيهَا أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يُضْحَكُ مِنْهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا؟ فَكَيْفَ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يُنْسَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ أَنْ يُنْسَبَ رَبُّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَظِيمَةِ وَيُوعِدَ عَلَيْهَا بِأَغْلَظِ الْعُقُوبَاتِ وَأَنْوَاعِ الْوَعِيدِ، ثُمَّ يُبِيحُهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْعَبَثِ وَالْخِدَاعِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ؟ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُرَابِينَ - لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَقْصُودَةٌ أَلْبَتَّةَ - قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ ابْتَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجِنْسَ بِتِلْكَ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ ابْتَاعَ الْخَرَزَةَ بِالْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ، أَفَيَسْتَجِيزُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّهَا بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ؟ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُجَّارِ قَدْ أَعَدَّ سِلْعَةً لِتَحْلِيلِ رِبَا النَّسَاءِ، فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ يُرِيدُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَدْخَلَ تِلْكَ السِّلْعَةِ مُحَلِّلًا، وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ حِيلَ الرِّبَا فِي بَابِهَا أَغْلَظَ مِنْ حِيَلِ التَّحْلِيلِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهَا أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى شَهَادَةٍ، وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ ثُمَّ يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا، وَلِهَذَا إنَّمَا لَعَنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ، وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ تُؤْثَرُ كَالْمُقَارِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ إذْ تَقْدِيمُ الشَّرْطِ وَمُقَارَنَتُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ تَحْلِيلٍ وَيُدْخِلُهُ فِي نِكَاحِ الرَّغْبَةِ، وَالْقُصُودُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ. فَصْلٌ وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ رِبَوِيًّا بِثَمَنٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا، أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمَا قَدْ جَرَى بِذَلِكَ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْ مِلْكَ الثَّمَنِ وَلَا قَصَدَ هَذَا تَمْلِيكَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَمْلِيكَ الْمُثَمَّنِ بِالْمُثَمَّنِ، وَجَعَلَا تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ تَلْبِيسًا وَخِدَاعًا وَوَسِيلَةً إلَى الرِّبَا؛ فَهُوَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمَلْعُونِ فِي عَقْدِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ رِبَوِيًّا بِرِبَوِيٍّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ، وَهُوَ يَمْنَعُ قَصْدَ الثَّمَنِ الَّذِي يَخْرُجَانِ بِهِ عَنْ قَصْدِ الرِّبَا، وَإِنْ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي؛ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَاهُنَا لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ وَيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا، وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَكَ مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِكَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهُمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَوَجْهُ مَا مَنَعَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 الْإِمَامُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: إنَّهُ مَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ - بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدُ - لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ مِنْهُ عَلَى التَّحْرِيمِ. وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ وَمُوَاطَأَةٌ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْرُمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ؛ قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أَشْتَرِي مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنْهُ، قَالَ: بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَحَبُّ إلَيَّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَلِهَذَا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَحَصَلَا عَلَى رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ، وَفِي الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا، ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ وُصْلَةً إلَى الرِّبَا؛ فَهَذَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هَاهُنَا بَاطِلٌ بِلَا تَوَقُّفٍ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ: قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ الْأَصْحَابِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْسَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ، وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُحَرِّمُونَ الْحِيَلَ وَيُحَرِّمُونَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ، وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ؛ فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ، فَصَارَ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ، فَلَمَّا لَمْ يَتَمَحَّصْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ، هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، فَإِنْ قَصَدَ حَقِيقَتَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْمَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَاءً؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّقَابُضِ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودَةُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 لَمْ يَصِحَّ أَنْ تُلْحَقَ بِهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ تُقْصَدْ حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا قُصِدَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا عُمْدَةُ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ السُّنَّةِ، كَمَا [أَنَّ] عُمْدَتَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] . فَصْلٌ [دَلَالَةُ حَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ] : فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ عَدَمُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَفَسَادِهَا - فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْحِيَلِ مَقْصُودَةٌ يَرْتَفِع سِعْرُهُ لِأَجْلِهَا، وَالْعَاقِلُ لَا يَخْرُجُ صَاعَيْنِ وَيَأْخُذُ صَاعًا إلَّا لِتَمَيُّزِ مَا يَأْخُذُهُ بِصِفَةٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ لَيْسَ فِي الْمَبْذُولِ، وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ مِمَّا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا لِتَضَمُّنِهِ أَوْ لِاسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً أَرْجَحَ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاس حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَتَبَيَّنُ لِي مَا وَجْهُ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمُرَاعَاةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: " رِبَا نَسِيئَةٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الْمَقَاصِدِ، وَرِبَا فَضْلٍ، وَتَحْرِيمُهُ تَحْرِيمُ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَتَى ذَاقَتْ الرِّبْحَ فِيهِ عَاجِلًا تَسَوَّرَتْ مِنْهُ إلَى الرِّبْحِ الْآجِلِ، فَسُدَّتْ عَلَيْهَا بِالذَّرِيعَةِ وَحُمِيَ جَانِبُ الْحِمَى، وَأَيُّ حِكْمَةٍ وَحُكْمٍ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ بِلَالًا مِنْ أَخْذِ مُدٍّ بِمُدَّيْنِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِحِيلَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ فَائِدَةٌ أَصْلًا، بَلْ كَانَ بَيْعُهُ كَذَلِكَ أَسْهَلَ وَأَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ تَوَسُّطِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنْ الْمَفْسَدَةِ شَيْئًا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَفْعَلْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَنَهَاهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ بِحِيلَةٍ أَوْ غَيْرِ حِيلَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ لِأَجْلِهَا يَنْهَى عَنْهُ، وَتِلْكَ الْمَفْسَدَةُ لَا تَزُولُ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا، بَلْ تَزِيدُ، وَأَشَارَ إلَى الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ: «أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يُهْمَلُ قَوْلُهُ: «عَيْنُ الرِّبَا» فَتَحْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَهِيَ مَحَلُّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِهَا وَعِبَارَاتِهَا الَّتِي يَكْسُوهَا إيَّاهَا الْعَبْدُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَقَائِقِهَا وَذَوَاتِهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ] : وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِجَوَازِ الْمَعَارِيضِ وَقَوْلِهِمْ: " إنَّ الْحِيَلَ مَعَارِيضُ فِعْلِيَّةٌ عَلَى وِزَانِ الْمَعَارِيضِ الْقَوْلِيَّةِ " فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ إذَا تَضَمَّنَتْ اسْتِبَاحَةَ الْحَرَامِ وَإِسْقَاطَ الْوَاجِبَاتِ وَإِبْطَالَ الْحُقُوقِ كَانَتْ جَائِزَةً؟ بَلْ هِيَ مِنْ الْحِيَلِ الْقَوْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ إذَا كَانَ فِيهِ تَخَلُّصٌ مِنْ ظَالِمٍ، كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ: " هَذِهِ أُخْتِي " فَإِذَا تَضَمَّنَتْ نَصْرَ حَقٍّ أَوْ إبْطَالَ بَاطِلٍ كَمَا عَرَّضَ الْخَلِيلُ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وَقَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَكَمَا عَرَّضَ الْمَلَكَانِ لِدَاوُدَ بِمَا ضَرَبَاهُ لَهُ مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي نَسَبَاهُ إلَى أَنْفُسِهِمَا، وَكَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَكَمَا كَانَ يُوَرِّي عَنْ الْغَزْوَةِ بِغَيْرِهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، إذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، كَمَا عَرَّضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» وَبِقَوْلِهِ: «إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا الْعُجُزُ» وَبِقَوْلِهِ: «مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ» يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ، وَبِقَوْلِهِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ: «زَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي عُيُونِ بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ، فَأَيْنَ فِي جَوَازِ هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ؟ . وَقَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ وَلَيْسَتْ مِثْلُهُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الْمَعَارِيضُ، وَهِيَ: أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا، وَيُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ؛ فَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ الْوَهْمِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْن حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا أَوْ شَرْعِيَّةٍ مَعَ إحْدَاهُمَا، فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيُوهِمُ السَّامِعَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ: إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيه، وَإِمَّا لِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ يَضُمُّهَا إلَى اللَّفْظِ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا: بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ لِعُرْفٍ خَاصٍّ بِهِ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ جَهْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ؛ فَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ رَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ فَهُوَ جَائِزٌ، كَقَوْلِ الْخَلِيلِ: " هَذِهِ أُخْتِي " وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ " وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الْأَبْيَاتَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ0 الْقُرْآنَ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَضَمَّنَ دَفْعَ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ. وَهَذَا الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ حِيلَةٍ فِي الْخِطَابِ لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالُ بِهِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَوْنِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، فَلَوْ تَضَمَّنَ كِتْمَانَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصِيحَةِ مُسْلِمٍ أَوْ التَّعْرِيفَ بِصِفَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَإِنَّهُ غِشٌّ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ. قَالَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ؟ فَقَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ، وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ، وَوَصْفُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْفُتْيَا وَالْحَدِيثُ وَالْقَضَاءُ، وَكُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ وَوَجَبَ الْخِطَابُ، كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي كِتْمَانِهِ أَوْ فِي إظْهَارِهِ أَوْ كِلَاهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالتَّعْرِيضُ مُسْتَحَبٌّ كَتَوْرِيَةِ الْغَازِي عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَتَوْرِيَةِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ طَاعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَتَوْرِيَةِ أَحْمَدَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ، وَتَوْرِيَةِ الْحَالِفِ لِظَالِمٍ لَهُ أَوْ لِمَنْ اسْتَحْلَفَهُ يَمِينًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالتَّوْرِيَةُ فِيهِ مَكْرُوهَةٌ، وَالْإِظْهَارُ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا، وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَرِيقًا إلَى الْمَقْصُودِ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ جَازَ الْأَمْرَانِ، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَخِطَابُهُ بِكُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ، وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي التَّعْرِيضِ وَلَا حَذَرَ عَلَيْهِ فِي التَّصْرِيحِ، وَالْمُخَاطَبُ لَا يَفْهَمُ مَقْصُودُهُ، وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَحَدُهَا: لَهُ التَّعْرِيضُ؛ إذْ لَا يَتَضَمَّنُ كِتْمَانَ حَقٍّ وَلَا إضْرَارًا بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إيهَامٌ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، وَذَلِكَ تَغْرِيرٌ، وَرُبَّمَا أَوْقَعَ السَّامِعَ فِي الْخَبَرِ الْكَاذِبِ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ. وَالثَّالِثُ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ، قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْجَوَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالْمَنْعُ فِيهِ ظَاهِرٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ، وَكُلُّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَغَايَةُ هَذَا الْقِسْمِ تَجْهِيلُ السَّامِعِ بِأَنْ يُوقِعَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا التَّجْهِيلُ قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ تَجْهِيلُهُ بِهِ وَكِتْمَانُهُ عَنْهُ أَصْلَحُ لَهُ وَلِلْمُتَكَلِّمِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْقَائِلِ أَنْ تَفُوتَ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ هِيَ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيَانِ فَلَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَنْ السَّامِعِ؛ فَإِنْ أَبَى إلَّا اسْتِنْطَاقَهُ فَلَهُ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ. فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ وَنَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ؛ فَلَا يُقَاسُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ وَتَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ، فَأَيْنَ أَحَدُ الْبَابَيْنِ مِنْ الْآخَرِ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؟ وَهُوَ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَالْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى. فَصْلٌ فَهَذَا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعَرِّضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ، وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الظُّهُورِ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي فَهْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِزَاحُهُ كَانَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، كَقَوْلِهِ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِهِ: «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْعُجُزُ» «وَزَوْجُكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالدِّينِ وَكَوْنِ الْبَيَانِ فِي الْعِلْمِ وَاجِبًا، بِخِلَافِ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ ظَالِمٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ. [الْمَعَارِيضُ عَلَى نَوْعَيْنِ] وَالْمَعَارِيضُ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَا وُضِعَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَيَقْصِدُ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَتِهِ، فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ قَصَدَ غَيْرَهُ: إمَّا لِقُصُورِ فَهْمِهِ، وَإِمَّا لِظُهُورِ ذَلِكَ الْفَرْدِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِمَّا لِشَاهِدِ الْحَالِ عِنْدَهُ، وَإِمَّا لِكَيْفِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 الْمُخْبِرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ مِنْ ضَحِكٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ إشَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْمَعَارِيضَ النَّبَوِيَّةَ وَالسَّلَفِيَّةَ وَجَدْتَ عَامَّتَهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْعَامُّ فِي الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ فِي الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَلَيْسَ يُفْهَمُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ وَالْبَحْرِ وَالشَّمْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ مَعْنًى، وَعِنْدَ التَّقْيِيدِ لَهُ مَعْنًى يُسَمُّونَهُ الْمَجَازُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُقَيَّدٍ وَلَا بَيْنَ قَيْدٍ وَقَيْدٍ، فَإِنْ قَالُوا: " كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازٌ " لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ مُرَكَّبٍ مَجَازًا؛ فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُقَيِّدُهُ بِقُيُودٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ قَالُوا: " بَعْضُ الْقُيُودِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا دُونَ بَعْضٍ " سُئِلُوا عَنْ الضَّابِطِ مَا هُوَ، وَلَنْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ قَالُوا: " يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُفْرَدٌ قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَهُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ". قِيلَ لَهُمْ: هَذَا أَبْعَدُ وَأَشَدُّ فَسَادًا؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يَنْعِقُ بِهَا وَلَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا إفَادَتُهَا بَعْدَ تَرْكِيبِهَا، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَأَكْثَرُكُمْ يَقُولُ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ بِالْعَكْسِ؛ فَلَا بُدَّ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ تَرْكِيبِهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَرْكِيبُهُ بَعْدَهُ بِقُيُودٍ يُفْهَمُ مِنْهَا مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، فَمَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَ بَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ حَقِيقَةً وَمَعَ بَعْضِهَا مَجَازًا؟ وَلَيْسَ الْغَرَضُ إبْطَالَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْحَادِثِ الْمُبْتَدَعِ الْمُتَنَاقِضِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَوْعَيْ التَّعْرِيضِ، وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي ظَاهِرِهِ وَتَارَةً يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَا يَذْكُرُ الْمُعَرِّضُ قَرِينَةً تُبَيِّنُ مُرَادَهُ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَامَّةُ التَّعْرِيضِ فِي الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: " كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ فَهِيَ طَالِقٌ " وَيَنْوِي فِي بَلَدِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَنْوِي فُلَانَةَ، أَوْ قَوْلُهُ: " أَنْت طَالِقٌ " وَيَنْوِي مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْقَسَمُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَصْدِ الْمُحْتَالِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ أَوْ صُورَتِهِ مَا. لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لَهُ بِوَجْهٍ بَلْ جَعَلَهُ مُقْتَضِيًا لِضِدِّهِ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارًا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ إنْشَاءً؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " تَزَوَّجْتُ " فِي الْمَعَارِيضِ وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا كَانَ صَادِقًا كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ، وَلَوْ قَالَ: " تَزَوَّجْتُ " إنْشَاءً وَكَانَ فَاسِدًا لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ الْقَرْضَ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهُ لَا بِحِيلَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إنَّمَا شَرَعَ الْبَيْعَ لِمَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِ الثَّمَنِ وَتَمْلِيكِ السِّلْعَةِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ رِبَا الْفَضْلِ أَوْ النَّسَاءِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الثَّمَنِ وَلَا فِي الْمُثَمَّنِ وَلَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 السِّلْعَةِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا الرِّبَا، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِرَاغِبٍ فِي الْمَرْأَةِ، لَمْ يَشْرَعْهُ لِلْمُحَلِّلِ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِلْمُفْتَدِيَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِلتَّحَيُّلِ عَلَى الْحِنْثِ قَطُّ. وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا لِمَنْ قَصَدَ نَفْعَ الْغَيْرِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْمَعَارِيض لَمْ يَشْرَعْهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا أَوْ لِمَنْ لَا يُسْقِطُ بِهَا حَقًّا وَلَا يَضُرُّ بِهَا أَحَدًا، وَلَمْ يَشْرَعْهَا إذَا تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقٍّ أَوْ إضْرَارًا لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ. [مَتَى تُبَاحُ الْمَعَارِيضُ] ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ مُخَادِعَةِ الظَّالِمِ الْمُبْطِلِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ؛ فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ. وَالْمَعَارِيضُ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ تَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَيْهِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ قَصْدِهِ، أَوْ يُسْتَطْرَدُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ خِدَاعَاتِ الْحَرْبِ. فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمَعَارِيضِ] : فَهَذَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ الَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْكَيْدُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَكِيدَ بِهِ ظَالِمَهُ وَيَخْدَعَهُ بِهِ، إمَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْهُ، أَوْ عُقُوبَةً لَهُ، أَوْ لِكَفِّ شَرِّهِ وَعُدْوَانِهِ عَنْهُ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَارِهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَطْرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَفَعَلَ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ يَسْأَلُ عَنْ شَأْنِ الْمَتَاعِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ جَارَ صَاحِبِهِ يُؤْذِيهِ، فَيَسُبُّهُ وَيَلْعَنُهُ، فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ: رُدَّ مَتَاعَكَ إلَى مَكَانِهِ فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا» . فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ الْفِعْلِيَّةِ، وَأَلْطَفِ الْحِيَلِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْجِنْسَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِيَلِ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وَإِسْقَاطِ فَرَائِضِهِ، وَإِبْطَالِ حُقُوقِ عِبَادِهِ؛ فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي يَفُوتُ أَفْرَادُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ الْحَصْرَ. فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ حِيَلٌ] : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " جَعَلَ الْعُقُودَ حِيَلًا عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا - إلَى آخِرِهِ " فَهَذَا مَوْضِعُ الْكَلَامِ فِي الْحِيَلِ، وَانْقِسَامِهَا إلَى أَحْكَامِهَا الْخَمْسَةِ، فَنَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى حِيلَةً حَرَامًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] أَرَادَ بِالْحِيلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى هَزِيمَةِ الْكُفَّارِ، كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَوْ عَلَى تَخْلِيصِ مَالِهِ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ بِامْرَأَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى قَتْلِ رَأْسٍ مِنْ رُءُوسِ أَعْدَاءِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيَّ. وَكَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأَبَا رَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ مَحْمُودَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلَّهِ وَمُرْضِيَةٌ لَهُ. [فَصْلٌ اشْتِقَاقُ الْحِيلَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا] [اشْتِقَاقُ الْحِيلَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا] وَالْحِيلَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ، وَهِيَ النَّوْعُ وَالْحَالَةُ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ وَالرِّكْبَةِ فَإِنَّهَا بِالْكَسْرِ لِلْحَالَةِ، وَبِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ، كَمَا قِيلَ: الْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ، وَالْفِعْلَةُ لِلْحَالَةِ، وَالْمَفْعَلُ لِلْمَوْضِعِ، وَالْمِفْعَلُ لِلْآلَةِ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَإِنَّهَا مِنْ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالَ يَحُولُ، وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ قَلْبٌ مَقِيسٌ مُطَّرِدٌ فِي كَلَامِهِمْ، نَحْوُ مِيزَانٌ وَمِيقَاتٌ وَمِيعَادٌ؛ فَإِنَّهَا مِفْعَالٌ مِنْ الْوَزْنِ وَالْوَقْتِ وَالْوَعْدِ، فَالْحِيلَةُ هِيَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي يَتَحَوَّلُ بِهِ فَاعِلُهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهَا بِالْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى حُصُولِ غَرَضِهِ، بِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ؛ فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَوْضُوعِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَوْ مُحَرَّمًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّوَصُّلِ إلَى الْغَرَضِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عَادَةً فَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ مِنْ أَرْبَابِ الْحِيَلِ، وَلَا تُعَامِلُوهُ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّلٌ، وَفُلَانٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ، وَهَذَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُطْلَقِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَالدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 [فَصْلٌ انْقِسَامُ الْحِيلَة إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَمْثِلَتِهَا] انْقِسَامُ الْحِيلَةُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَمْثِلَتِهَا] وَإِذَا قُسِمَتْ بِاعْتِبَارِهَا لُغَةً انْقَسَمَتْ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ؛ فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ الْوَاجِبَةِ حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ مُسَبِّبَاتِهَا؛ فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللُّبْسُ وَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ حِيلَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمُبَاحُهَا كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْأَسْبَابُ الْمُحَرَّمَةُ كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى حُصُولِ مَقَاصِدِهَا مِنْهَا، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْحِيلَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ إلَى مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ؛ فَالْحِيلَةُ جِنْسٌ تَحْتَهُ التَّوَصُّلُ إلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمِ، وَتَخْلِيصُ الْحَقِّ، وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَهْرُ الظَّالِمِ، وَعُقُوبَةُ الْمُعْتَدِي، وَتَحْتَهُ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ، وَإِبْطَالِ الْحُقُوقِ، وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّوْعِ الْمَذْمُومِ، وَكَمَا يَذُمُّ النَّاسُ أَرْبَابَ الْحِيَلِ فَهُمْ يَذُمُّونَ أَيْضًا الْعَاجِزَ الَّذِي لَا حِيلَةَ عِنْدَهُ لِعَجْزِهِ وَجَهْلِهِ بِطُرُقِ تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ، فَالْأَوَّلُ مَاكِرٌ مُخَادِعٌ، وَالثَّانِي عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ، وَالْمَمْدُوحُ غَيْرُهُمَا، وَهُوَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا فَيُحْسِنُ التَّوَصُّلَ إلَى مَقَاصِدِهِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَيَعْرِفُ طُرُقَ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى خِدَاعِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ فَيَحْتَرِزَ مِنْهَا وَلَا يَفْعَلُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَعْلَمَ الْخَلْقِ بِطُرُقِ الشَّرِّ وَوُجُوهِ الْخِدَاعِ، وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَرْتَكِبُوا مِنْهَا شَيْئًا أَوْ يُدْخِلُوهُ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَسْتُ بِخِبٍّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ، وَكَانَ حُذَيْفَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَالْفِتَنِ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَيْرِ، وَكَانَ هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ، وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ لَيْسَ هُوَ الْجَاهِلُ بِالشَّرِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ، بَلْ الَّذِي يَعْرِفُهُ وَلَا يُرِيدُهُ، بَلْ يُرِيدُ الْخَيْرَ وَالْبِرَّ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَمَّى الْحَرْبَ خُدْعَةً، وَلَا رَيْبَ فِي انْقِسَامِ الْخِدَاعِ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِلَى مَا يُبْغِضُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: مَحْمُودٌ، وَمَذْمُومٌ؛ فَالْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ. فَالْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَغِيرَةٌ، وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ؛ فَالْحِيلَةُ بِالرِّدَّةِ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ كُفْرٌ، ثُمَّ إنَّهَا لَا تَتَأَتَّى إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ بِالرِّدَّةِ، فَأَمَّا مَنْ وَقَفَهُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَا يَتِمُّ لَهَا غَرَضُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ فَإِنَّهَا مَتَى عُلِمَ بِرِدَّتِهَا قُتِلَتْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، بَلْ يَحْبِسُهَا حَتَّى تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ، وَكَذَلِكَ التَّحَيُّلُ بِالرِّدَّةِ عَلَى حِرْمَانِ الْوَارِثِ كُفْرٌ، وَالْإِفْتَاءُ بِهَا كُفْرٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وَلَا تَتِمُّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتِمُّ الْحِيلَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ. فَإِنَّ ارْتِدَادَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ هَذَا التَّعَلُّقَ بِتَبَرُّعٍ، فَهَكَذَا الْمُرْتَدُّ بِرِدَّتِهِ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ إذْ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ. [فَصْلٌ الْحِيَلُ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ الْكَبَائِرِ] ِ] : وَأَمَّا الْحِيَلُ الَّتِي هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَمِثْلُ قَتْلِ امْرَأَتِهِ إذَا قَتَلَ حَمَاتَهُ وَلَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَلَدٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْقَوَدَ، وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُ وَرِثَ ابْنَهُ بَعْضَ دَمِ أَبِيهِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ " مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ الْقَوَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَتْلِ أُمِّ الْمَرْأَةِ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ، وَلَهَا أَنْ تُسْقِطَهُ، فَلَمَّا قَتَلَهَا قَامَ وَلِيُّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مَقَامَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى أُمِّهَا، وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْقَاتِلِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا مِيزَانٌ عَادِلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ مِنْ وَالِدِهِ لِغَيْرِهِ. وَغَايَةُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الضَّعْفِ وَفِي حُكْمِهِ مِنْ النِّزَاعِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ الْوَلَدُ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْعِ قَدْ أُقِيدَ بِابْنِهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إنَّمَا أُقِيدَ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَكَيْفَ تَأْتِي شَرِيعَةٌ أَوْ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ بِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ عَادَ فَقَتَلَ نَفْسًا أُخْرَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَضَاعَفَ إثْمُهُ وَجُرْمُهُ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِتَحَتُّمِ قَتْلِهِ وَلَا بُدَّ إذَا قَصَدَ هَذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعُقُولِ وَالْقِيَاسِ. فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَفْتَى بِهَا تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ ابْنَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا حَيْثُ صَارَتْ مَوْطُوءَةَ ابْنِهِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، أَوْ وَطْأَهُ حَمَاتَهُ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَتَمَشَّى إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالزِّنَا كَمَا تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بِذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَقِيَاسُ السِّفَاحِ عَلَى النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفُرُوقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الصِّهْرَ قَسِيمَ النَّسَبِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي امْتَنَّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَلَا يَكُونُ الصِّهْرُ مِنْ آثَارِ الْحَرَامِ وَمُوجِبَاتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ النَّسَبُ مِنْ آثَارِهِ، بَلْ إذَا كَانَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 أَصْلٌ لَا يَحْصُلُ بِوَطْءِ الْحَرَامِ فَالصِّهْرُ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ أَوْلَى أَلَّا يَحْصُلَ بِوَطْءِ الْحَرَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمَحْرَمِيَّةُ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وَمَنْ زَنَى بِهَا الِابْنُ لَا تُسَمَّى حَلِيلَةً لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السِّفَاحِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ النِّكَاحُ الْمُرَادُ بِهِ الزِّنَا قَطُّ، وَلَا الْوَطْءُ الْمُجَرَّدُ عَنْ عَقْدٍ. وَقَدْ تَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ هُوَ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُنَاظَرَتَهُ بِلَفْظِهَا. [مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ إنَّ الزِّنَا مُوجِبُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ] : قَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ، وَلَا يُقَاسَ شَيْءٌ عَلَى ضِدِّهِ، فَقَالَ لِي قَائِلٌ: مَا تَقُولُ لَوْ قَبَّلَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا؟ فَقُلْتُ: لِمَ قُلْتَ ذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ وَنَحْوُ هَذَا بِالنِّكَاحِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ؟ فَقَالَ: أَجِدْ جِمَاعًا وَجِمَاعًا، قُلْتُ: جِمَاعًا حُمِدَتْ بِهِ وَأُحْصِنَتْ وَجِمَاعًا رُجِمَتْ بِهِ، أَحَدُهُمَا نِقْمَةٌ وَالْآخَرُ نِعْمَةٌ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا، وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا، وَجَعَلَ عَلَى الزِّنَا نِقْمَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ، فَتَقِيسَ الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْحَلَال الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ؟ وَقُلْتُ لَهُ: فَلَوْ قَالَ لَكَ وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ فَأُحِلُّهَا بِالزِّنَا لِأَنَّهُ جِمَاعٌ كَجِمَاعٍ، قَالَ: إذًا أُخْطِئ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِنِكَاحِ زَوْجٍ، قُلْتُ: وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ، قَالَ: أَفَيَكُونُ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ وَلَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ أَقُولُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَنْكِحُ أَرْبَعًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ النِّسَاء خَامِسَةً، أَفَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا زَنَى بِأَرْبَعٍ شَيْءٌ مِنْ النِّسَاءِ؟ قَالَ: لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَلَالُ، قَالَ: فَقَدْ تَرْتَدُّ فَتَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا، قُلْتُ: نَعَمْ، وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَأَقْتُلُهَا وَأَجْعَلُ مَالَهَا فَيْئًا، قَالَ: فَقَدْ نَجِدُ الْحَرَامَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، قُلْتُ: أَمَّا فِي مِثْلِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ النِّسَاء فَلَا، انْتَهَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ وَالْمِيرَاثِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَصِحَّةِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْقَصْرِ عَلَى أَرْبَعٍ وَوُجُوبِ الْقَسْمِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الرَّجْعَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 بِالزِّنَا، وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لِبَغِيٍّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَمَا فَطَرَ اللَّهُ عُقُولَ النَّاسِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ بَاطِلَةٌ شَرْعًا كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدِّينِ. [إبْطَالُ الْحِيلَةُ عَلَى إسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ] [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ] : وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ عَلَى إسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ بِقَوْلِ السَّارِقِ: هَذَا مِلْكِي، وَهَذِهِ دَارِي، وَصَاحِبُهَا عَبْدِي، مِنْ الْحِيَل الَّتِي هِيَ إلَى الْمَضْحَكَةِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهَا أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ قَبُولَ مِثْلِ هَذَا الْهَذَيَانِ الْبَارِدِ الْمُنَاقِضِ لِلْعُقُولِ وَالْمَصَالِحِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْرَعَ لَهُمْ قَبُولَهُ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِاَللَّهِ وَشَرْعِهِ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّهُ شَرَعَ رَدَّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَقْطَعُ كُلُّ أَحَدٍ بِبُطْلَانِهِ، وَبِالْبُهْتَانِ الَّذِي يَجْزِمُ كُلُّ حَاضِرٍ بِبُهْتَانِهِ. وَمَتَى كَانَ الْبُهْتَانُ وَالْوَقَاحَةُ وَالْمُجَاهَرَةُ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ مَقْبُولًا فِي دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ أَوْ شَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ أَوْ سِيَاسَةِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ؟ وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ وَإِنْ بُلِيَ بِالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِدَعْوَى هَذَا الْبُهُتِ وَالزُّورِ، وَيَا لِلَّهِ وَيَا لَلْعُقُولِ، أَيَعْجِزُ سَارِقٌ قَطُّ عَنْ التَّكَلُّمِ بِهَذَا الْبُهْتَانِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ؟ فَمَا مَعْنَى شَرْعِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ ثُمَّ إسْقَاطِهِ بِهَذَا الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ؟ ،. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ الْغَاصِب] وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ شَيْئًا فَادَّعَاهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَأَنْكَرَ، فَطَلَبَ تَحْلِيفَهُ، قَالُوا: فَالْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْهُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ وَيَفُوزَ الْمَغْصُوبُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدِّينِ، بَلْ الْمُقَرُّ لَهُ إنْ كَانَ كَبِيرًا صَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي، وَغَرِمَ قِيمَتَهُ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ قَدْ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ رَجُلًا، فَخَشِيَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْجُرْحِ، فَدَفَعَ عَلَيْهِ دَوَاءً مَسْمُومًا فَقَتَلَهُ. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ] قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ بِالسُّمِّ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّارِعُ الْقَتْلَ عَمَّنْ قَتَلَ بِالسُّمِّ لَمَا عَجَزَ قَاتِلٌ عَنْ قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ بِهِ آمِنًا؛ إذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ الْعَالَمِ مَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ] وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ إخْرَاجَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي مَرَضِهِ، وَخَافَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُوَرِّثُ الْمَبْتُوتَةَ، قَالُوا: فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ لَا يَحِلُّ تَعْلِيمُهَا، وَيَفْسُقُ مَنْ عَلَّمَهَا الْمَرِيضَ، وَيَسْتَحِقُّ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَنْفُذُ، فَإِنَّهُ كَمَا هُوَ مُتَّهَمٌ بِطَلَاقِهَا فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْإِقْرَارِ بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَرَضِ، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ لِلتُّهْمَةِ فَالْإِقْرَارُ لَا يَمْنَعُهُ لِلتُّهْمَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ فَالْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ مُحَرَّمَةٌ. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ] وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ فَبَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ، قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، بَلْ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ الْعَامِلُ زَكَاتَهُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحَرَّمَةٌ بَاطِلَةٌ، وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُ فَرْضَ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَهُ وَأَوْعَدَ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ مَنْ ضَيَّعَهُ وَأَهْمَلَهُ، فَلَوْ جَازَ إبْطَالُهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي هِيَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ لَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فَائِدَةٌ. وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا عَلَى مُعَاقَبَةِ الْعَبْدِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا حُرِمَ الْقَاتِلُ الْمِيرَاثَ، وَوَرَّثَ الْمُطَلَّقَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الْفَارُّ مِنْ الزَّكَاةِ لَا يُسْقِطُهَا عَنْهُ فِرَارُهُ وَلَا يُعَانُ عَلَى قَصْدِهِ الْبَاطِلِ فَيَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَيَسْقُطُ مَقْصُودُ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْحِيَلِ إنَّمَا يُسَاعِدُ فِيهَا الْمُتَحَيِّلُ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ وَيُبْطِلُ غَرَضَ الشَّارِعِ. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ] [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ] وَكَذَلِكَ الْمُجَامِعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إذَا تَغَدَّى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوَّلًا ثُمَّ جَامَعَ، قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ إضْمَامَهُ إلَى إثْمِ الْجِمَاعِ إثْمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُنَاسِبُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ، بَلْ يُنَاسِبُ تَغْلِيظَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَجِبْ كَفَّارَةٌ عَلَى وَاطِئٍ اهْتَدَى لِجَرْعَةِ مَاءٍ أَوْ ابْتِلَاعِ لُبَابَةٍ أَوْ أَكْلِ زَبِيبَةٍ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ، هَلْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الْكَفَّارَةَ لِكَوْنِ الْوَطْءِ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مُفْطِرٌ قَبْلَهُ أَوْ لِلْجِنَايَةِ عَلَى زَمَنِ الصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ؟ أَفَتَرَى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَبْلَهُ صَارَ الزَّمَانُ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ فَانْقَلَبَتْ كَرَاهَةُ الشَّارِعِ لَهُ مَحَبَّةً وَمَنْعُهُ إذْنًا؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ، وَأَفْسَدَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحِيلَةَ فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْجِمَاعِ قَطْعَ الصَّوْمِ، فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَلْيُجَامِعْ آمِنًا مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ عَلَى مُجَامِعٍ أَبَدًا، وَإِبْطَالُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ رَأْسًا؛ فَإِنَّ الْمُجَامِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الْجِمَاعِ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَإِذَا عَزَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 عَلَى الْجِمَاعِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نِيَّتُهُ قَطْعَ الصَّوْمِ فَأَفْطَرَ قَبْلَ الْفِعْلِ بِالنِّيَّةِ الْجَازِمَةِ لِلْإِفْطَارِ، فَصَادَفَهُ الْجِمَاعُ وَهُوَ مُفْطِرٌ بِنِيَّةِ الْإِفْطَارِ السَّابِقَةِ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمْ يَفْطُرْ بِهِ، فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَتَضَمَّنَ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ مُنَاقَضَةَ الدِّينِ وَإِبْطَالَ الشَّرَائِعِ؟ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ قَضَاءِ الْحَجِّ] وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا خَافَ الْفَوْتَ وَخَشِيَ الْقَضَاءَ مِنْ قَابِلٍ فَالْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي حَالِ إحْرَامِهِ فَيَبْطُلُ إحْرَامُهُ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَقَدْ أَسْلَمَ إسْلَامًا مُسْتَأْنَفًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عِلْمٍ وَدِينٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ مُنَاقِضَةٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ مُنَاقَضَةٍ، فَهُوَ فِي شِقٍّ وَالْإِسْلَامُ فِي شِقٍّ. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ] وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَرَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَكِيلِهِ قِبَلَهُ، فَالْحِيلَةُ فِي حَلِفِهِ صَادِقًا أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ إلَى مَنْزِلِهِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ حَقَّهُ ثُمَّ يُغْلِقُ عَلَيْهِ الْبَابَ وَيَمْضِيَ مَعَ الْوَكِيلِ، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَكِيلِهِ قِبَلَهُ حَلَفَ صَادِقًا، فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْبَيْتِ فَشَأْنُهُ وَشَأْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَهَذِهِ شَرٌّ مِنْ حِيلَةِ الْيَهُودِ أَصْحَابِ الْحِيتَانِ، وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ حِيلَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَمَا لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِدْخَالِهَا فِيهِ؟ وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِ هَذَا الْفِعْلُ فِي بِرِّهِ بِالْيَمِينِ شَيْئًا، بَلْ هُوَ حَانِثٌ كُلَّ الْحِنْثِ؛ إذْ لَمْ يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ الظَّفَرِ بِحَقِّهِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْحَالِفِ كَمَا هُوَ؟ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْهُ إذَا تَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنْ قَبْضِهِ وَعَدَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ] وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُسْقِطَ زَكَاتَهَا، قَالُوا: فَالْحِيلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْقِنْيَةَ. فِي آخِرِ الْحَوْلِ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ يَنْقُضَ هَذِهِ النِّيَّةَ وَيُعِيدَهَا لِلتِّجَارَةِ، فَيَسْتَأْنِفَ بِهَا حَوْلًا، ثُمَّ يَفْعَلَ هَكَذَا فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَبَدًا. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، أَيَرُوجُ هَذَا الْخِدَاعُ وَالْمَكْرُ وَالتَّلْبِيسُ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ؟ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ كَمَا هِيَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَمَكْرٌ بِدِينِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الْإِسْلَامِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لِلْقِنْيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِهِ إعَادَتُهَا لِلتِّجَارَةِ، فَأَمَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْتَنِيهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا لَهُ حَاجَةً بِاقْتِنَائِهَا، وَإِنَّمَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ لِلْقِنْيَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقْتَنِيهَا وَلَا يُرِيدُ اقْتِنَاءَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ خَاطِرٍ أَجْرَاهُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ بِلِسَانِهِ " أَعْدَدْتُهَا لِلْقِنْيَةِ " وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ؟ أَفَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ مَنْ يُسْقِطُ فَرَائِضَهُ بِهَذَا الْهَوَسِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ؟ . [إبْطَالُ حِيلَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ الزَّكَاةِ] [إبْطَالُ حِيلَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ الزَّكَاةِ] : وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَيْنٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأَرَادَ إسْقَاطَ زَكَاتِهَا فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مُحْتَالٍ مِثْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ نَظِيرُهَا فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ، ثُمَّ فِي آخِرِهِ يَعُودُ فَيَسْتَبْدِلُ بِهَا مِثْلَهَا، فَإِذَا هُوَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ مَا عَاشَ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ إضَافَةُ هَذَا الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ إلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ. وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَنَعَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَأْتِي رَسُولٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ؟ وَأَسَاءُوا ظَنَّهُمْ بِهِ وَبِدِينِهِ، وَتَوَاصَوْا بِالتَّمَسُّكِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تَأْتِي بِهَذَا شَرِيعَةٌ أَوْ تَقُومُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ وَلَوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ سَاسَ رَعِيَّتَهُ بِهَذِهِ السِّيَاسَةِ لَقَدَحَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَشْرَعُ الْحَكِيمُ الشَّيْءَ لِمَا فِي شَرْعِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَيُحَرِّمُ لِمَا فِي فِعْلِهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ ثُمَّ يُبِيحُ إبْطَالَ ذَلِكَ بِأَدْنَى حِيلَةٍ تَكُونُ؟ وَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا نَاظَرَهُ الْمُسْلِمُ فِي صِحَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ، كَمَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ وَكَمَا نَسْمَعُهُ مِنْ لَفْظِهِمْ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ، فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَرَادَ إسْقَاطَ زَكَاتِهَا فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلِفَهَا يَوْمًا وَاحِدًا ثُمَّ تَعُودَ إلَى السَّوْم، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ حِيلَةٍ يَتَحَيَّلُ بِهَا عَلَى إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَوْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِهِ لَا يَزِيدُ ذَلِكَ الْفَرْضَ إلَّا تَأْكِيدًا وَذَلِكَ الْحَقَّ إلَّا إثْبَاتًا. [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْطَالِ الشَّهَادَةِ] وَكَذَلِكَ قَالُوا: إذَا عَلِمَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ شَهَادَتَهُمَا فَلْيُخَاصِمْهُمَا قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ حَسَنَةٌ إذَا كَانَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِحَقٍّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مُخَاصَمَتُهُمَا، وَلَا تُسْقِطُ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةُ شَهَادَتَهُمَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِضَمَانِ الْبَسَاتِينِ] وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ ضَمَانُ الْبَسَاتِينِ، وَالْحِيلَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الثَّمَرِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ جُزْءٌ عَلَى جُزْءٍ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَتِمُّ إذَا كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا وَهُوَ نَاظِرُهُ أَوْ كَانَ لِيَتِيمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ فِي الْمُسَاقَاةِ تَقْدَحُ فِي نَظَرِهِ وَوَصِيَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهَا تُغْتَفَرُ لِأَجْلِ الْعَقْدِ الْآخَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحَابَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَابِيَ فِي الْمُسَاقَاةِ لِمَا حَصَلَ لِلْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ مِنْ مُحَابَاةٍ أُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً بِرِبْحٍ ثُمَّ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً بِخَسَارَةٍ تُوَازِنُ ذَلِكَ الرِّبْحَ، هَذَا إذَا لَمْ يَبْنِ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَا عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ، وَكَانَا بِمَنْزِلَةِ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، وَشَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَإِنْ شُرِطَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ فَسَدَا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا عَلَى أَصْلِ لَمْ يَرَ جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ أَوْ خَصَّهَا بِالتَّحَيُّلِ وَحْدَهُ، ثُمَّ فِيهَا مَفْسَدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَمَتَى أَرَادَ أَحَدُهُمَا فَسْخَهَا فَسَخَهَا وَتَضَرَّرَ الْآخَرُ، وَمَفْسَدَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ جَمِيعِ ثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ. وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ يَتَعَسَّرُ، إمَّا بِأَنْ يَأْكُلَ الثَّمَرَةَ أَوْ يُهْدِيَهَا كُلَّهَا أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى أُصُولِهَا، فَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَهَكَذَا يَقَعُ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ الْأَلْفِ يَسِيرًا جِدًّا، فَلَا يُطَالَبُ بِهِ عَادَةً، فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ لِلْيَتِيمِ وَجِهَةُ الْوَقْفِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا أَفْقَهَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَبَرَّ قُلُوبًا، فَكَانُوا يَرَوْنَ ضَمَانَ الْحَدَائِقِ بِدُونِ هَذِهِ الْحِيلَةِ، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَدِيقَةِ أُسَيْدَ بْنِ حُضَيْرٍ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَضَمَانُ الْبَسَاتِينِ كَمَا هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، كَمَا تُضْمَنُ الْأَرْضِ لِمُغِلِّ الزَّرْعِ فَكَذَلِكَ تُضْمَنُ الشَّجَرُ لِمُغِلِّ الثَّمَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ؛ إذْ الْأَصْلُ هُنَا كَالْأَرْضِ هُنَاكَ، وَالْمُغِلُّ يَحْصُلُ بِخِدْمَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ كَمَا يَحْصُلُ بِخِدْمَتِهِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَحْرُثَهَا وَيَسْقِيَهَا وَيَسْتَغِلَّ مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الشَّجَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، فَهَذَا أَفْقَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ، وَأَبْعَدُ مِنْ الْفَسَادِ، وَأَصْلَحُ لِلنَّاسِ، وَأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ الصَّوَابُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 [الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَصْلًا] ) : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ تَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ تَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الطَّلَاقِ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يَبْقَى لَهُ سَبِيلٌ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ مُخَالَعَتُهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْخُلْعَ طَلَاقًا، وَهِيَ نَظِيرُ سَدِّ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَهَذَا لَوْ صَحَّ تَعْلِيقُهُ لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مَا عَاشَ، وَذَلِكَ لَوْ صَحَّ شَرْعُهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَةً أَبَدًا. وَصُورَةُ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَقُولَ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ - أَوْ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي - فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، قَالُوا: فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إذْ لَوْ وَقَعَ لَزِمَ وُقُوعَ مَا عَلَّقَ بِهِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، وَإِذَا وَقَعَتْ الثَّلَاثُ امْتَنَعَ وُقُوعُ هَذَا الْمُنَجَّزِ، فَوُقُوعُهُ يُفْضِي إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إلَى عَدَمِ وُجُودِهِ لَمْ يُوجَدْ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إبْطَالِ هَذَا التَّعْلِيقِ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا التَّعْلِيقُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ، وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَهَذَا مُحَالٌ، فَمَا تَضَمَّنَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ، وَإِذَا طَلَّقْتُكِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْكِ طَلَاقِي، وَنَحْوُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، بَلْ قَوْلُهُ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَدَخَلُ فِي الْإِحَالَةِ وَالتَّنَاقُضِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ جَعَلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ قِيَامِ الطَّلَاقِ، وَهُنَا جَعَلَ وُقُوعَهُ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ مَعَ زِيَادَةِ مُحَالٍ عَقْلًا وَعَادَةً، فَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ يَتَكَلَّمُ بِالْمُحَالِ قَاصِدًا لِلْمُحَالِ، فَوُجُودِ هَذَا التَّعْلِيقِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، فَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ طَلَاقُهَا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ الْمُحَالُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الثَّلَاثِ عَلَى الْمُنَجَّزِ، وَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَيَقَعَ جَمِيعُ مَا عَلَّقَ بِهِ؛ فَالصَّوَابُ أَنْ يَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَيَقَعَ جَمِيعُ مَا عَلَّقَ بِهِ أَوْ تَمَامُ الثَّلَاثِ مِنْ الْمُعَلَّقِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَبِي بَكْر وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا وُقُوعَ الطَّلَاقِ جُمْلَةً قَالُوا: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَهَذَا تَلْخِيصُ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ. قَالَ الْمُصَحِّحُونَ لِلتَّعْلِيقِ: صَدَرَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ طَلَاقَانِ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ، وَالْمَحَلُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 قَابِلٌ، وَهُوَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَالتَّعْلِيقَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْتَنِعٌ، وَلَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَتَمَانَعَا وَتَسَاقَطَا، وَبَقِيَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، وَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا لِهَذَا الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَزَوَّجَهَا عَبْدُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَمَهْرُهَا مِائَةٌ وَبَاقِي التَّرِكَةِ مِائَةٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْمَهْرِ، وَسُقُوطُ الْمَهْرِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخِيَارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، لِأَنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِهِمَا الشَّرْعُ، فَأَبْقَيْنَا النِّكَاحَ وَرَفَضْنَا الْخِيَارَ وَلَمْ يَسْقُطْ الْمَهْرُ، وَكُلُّ مَا أَفْضَى وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَهَذِهِ سَبِيلُهُ. وَمِثَالُهُ فِي الْحِسِّ إذَا تَشَاحَّ اثْنَانِ فِي دُخُولِ دَارٍ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُوَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَزِيَّةٌ تُوجِبُ تَقْدِيمَهُ؛ فَإِنَّهُمَا يَتَمَانَعَانِ فَلَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ دَلِيلِ التَّمَانُعِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ فَاعِلَانِ مُسْتَقِلَّانِ بِالْفِعْلِ؛ فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْفِي اسْتِقْلَالَ الْآخَرِ، فَاسْتِقْلَالهمَا يَمْنَعُ اسْتِقْلَالَهُمَا، وَوَازَنَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وُقُوعَهُمَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا. [مَسَائِلُ عَدِيدَةٍ مِنْ الدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ] قَالُوا: وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ اسْتِلْزَامُ هَذَا التَّعْلِيقِ لِدَوْرٍ حُكْمِيٍّ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ، وَنَحْنُ نُرِيكُمْ مِنْ مَسَائِلِ الدَّوْرِ الَّتِي يُفْضِي وُقُوعُهَا إلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا كَثِيرًا، مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهَا مَا لَوْ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ وَشَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلْ هِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ، لَمْ يَجُزْ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ يُبْطِلُ اقْتِدَاءَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمَا إنَاءَانِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ فَأَدَّى اجْتِهَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى إنَاءٍ لَمْ تَجُزْ الْقُدْوَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْقُدْوَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَهَدَا فِي الثَّوْبَيْنِ وَالْمَكَانَيْنِ، وَمِنْهَا لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ حُرَّةً وَضَمِنَ السَّيِّدُ مَهْرَهَا ثُمَّ بَاعَهُ لِزَوْجِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تُؤَدِّي إلَى فَسَادِهِ، إذْ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَإِذَا بَطَلَ سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا، وَإِذَا سَقَطَ مَهْرُهَا وَهُوَ الثَّمَنُ بَطَلَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ إمَّا أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَا يَقَعَ الْعِتْقُ إذْ لَوْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَبَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِذَا بَطَلَ بَطَلَ الْعِتْقُ؛ فَوُقُوعُهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَقَعَ الْعِتْقُ قَبْلَهُ، وَوُقُوعُ الْعِتْقِ قَبْلَهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، فَصِحَّةُ الْبَيْعِ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: " إذَا رَهَنْتُك فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ وَقَدْ أَفْلَسَ: " إنْ حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيَّ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ قَبْلَ الْحَجْرِ بِيَوْمٍ " لَمْ يَصِحَّ الْحَجْرُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَمِثَالُهُ لَوْ قَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 لِعَبْدِهِ: " مَتَى صَالَحْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الصُّلْحِ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " إنْ صَالَحْت فُلَانًا وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: " مَتَى ضَمِنْتُ عَنْكَ صَدَاقَ امْرَأَتِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ إنْ كُنْتَ فِي حَالِ الضَّمَانِ مَمْلُوكِي " ثُمَّ ضَمِنَ عَنْهُ الصَّدَاقَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَعَتَقَ قَبْلَهُ، وَإِذَا عَتَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ الضَّمَانُ شَرْطَهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَمْلُوكَهُ وَقْتَ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَصِحَّ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ، فَكُلٌّ مِنْ الضَّمَانِ وَالْعِتْقِ تُؤَدِّي صِحَّتُهُ إلَى بُطْلَانِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ: " إنْ شَارَكَنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ شَرِيكٌ فَهُوَ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ " لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، فَصِحَّتُهَا تُفْضِي إلَى بُطْلَانِهَا، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ: " إنْ وَكَّلْتُ إنْسَانًا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ رَهْنِهِ أَوْ هِبَتِهِ وَكَالَةً صَحِيحَةً فَهُوَ قَبْلَهَا بِسَاعَةٍ حُرٌّ " لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا تُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِهَا. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " إنْ وَكَّلْتُ وَكِيلًا فِي طَلَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ ثَلَاثًا " لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ فِي طَلَاقِهَا؛ إذْ لَوْ صَحَّتْ الْوَكَالَةُ لَطَلُقَتْ فِي حَالِ الْوَكَالَةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ، فَصِحَّتُهَا تُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَفَ الْمَيِّتُ ابْنًا، فَأَقَرَّ بِابْنٍ آخَرَ لِلْمَيِّتِ، فَقَالَ الْمُقِرُّ بِهِ: " أَنَا ابْنُهُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَسْتَ بِابْنِهِ " لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُ الْمُقِرِّ بِهِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ يُبْطِلُ قَوْلَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَخَرَجَ الْمُقِرُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِوَارِثٍ آخَرَ، فَتَوْرِيثُ الِابْنِ يُفْضِي إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ، وَنَازَعَهُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّسَبِ، وَمِنْهَا الْمِيرَاثُ، وَلَا يُفْضِي تَوْرِيثُهُ إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمِيرَاثُ وَالْأَخُ كَانَ وَارِثًا فِي الظَّاهِرِ، فَحِينَ أَقَرَّ كَانَ هُوَ كُلُّ الْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ عَنْ الْمِيرَاثِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ؛ فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُ الِابْنِ مُبْطِلًا لِكَوْنِ الْمُقِرِّ وَارِثًا حِينَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ وَارِثًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ، وَأَيْضًا فَالْمِيرَاثُ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالتَّابِعُ أَضْعَفُ مِنْ الْمَتْبُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْمَتْبُوعُ الْأَقْوَى فَالتَّابِعُ أَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الْوِلَادَةِ ثُمَّ فِي النَّسَبِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى إبْطَالِهَا لَوْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ فِي مَرَضِهَا عَبْدًا فَتَزَوَّجَهَا وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ؛ إذْ لَوْ وَرِثَهَا لَبَطَلَ تَبَرُّعُهَا لَهُ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَرُّعًا لِوَارِثٍ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ بَطَلَ الْمِيرَاثُ، وَكَانَ تَوْرِيثُهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَلَا يَبْطُلُ مِيرَاثُهُ وَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 عِتْقُهُ وَلَا نِكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، فَالتَّبَرُّعُ نَزَلَ فِي غَيْرِ وَارِثٍ، وَالْعِتْقُ الْمُنَجَّزُ يَتَنَجَّزُ مِنْ حِينِهِ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بَعْدَ ثُبُوتِ عِتْقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِابْنِهِ، فَمَاتَ قَبْلَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ، وَخَلَفَ إخْوَةً لِأَبِيهِ، فَقَبِلُوا الْوَصِيَّةَ، عَتَقَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ مِيرَاثُهُ مِنْهُ؛ إذْ لَوْ وَرِثَ لَأَسْقَطَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ، وَإِذَا سَقَطَ مِيرَاثُهُمْ بَطَلَ قَبُولُهُمْ لِلْوَصِيَّةِ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ، لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْقَبُولِ، وَكَانَ تَوْرِيثُهُ مُفْضِيًا إلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهِ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَرِثُ، وَلَا دَوْرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ حَالَ الْقَبُولِ وَهُمْ وَرَثَةٌ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى الْعِتْقِ تَابِعَهُ وَهُوَ الْمِيرَاثُ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمِيرَاثُ مَعَ الْقَبُولِ لِيَلْزَمَ الدَّوْرُ، وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْقَبُولِ الْعِتْقُ وَعَلَى الْعِتْقِ الْمِيرَاثُ؛ فَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ بِدَرَجَتَيْنِ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى بُطْلَانِهَا لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا لَمْ يَصِحَّ؛ إذْ لَوْ صَحَّ لَمَلَكَتْهُ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: " مَتَى أَكْرَهْتُكِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ حَالَ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ " فَأَكْرَههَا عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ؛ إذْ لَوْ صَحَّ النِّكَاحُ عَتَقَتْ، وَلَوْ عَتَقَتْ بَطَلَ إكْرَاهُهَا، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا. وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ: " مَتَى اسْتَقَرَّ مَهْرُكِ عَلَيَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " ثُمَّ وَطِئَهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مَهْرُهَا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقَرَّ لَبَطَلَ النِّكَاحُ قَبْلَهُ، وَلَوْ بَطَلَ النِّكَاحُ قَبْلَهُ لَكَانَ الْمُسْتَقِرُّ نِصْفَ الْمَهْرِ لَا جَمِيعَهُ؛ فَاسْتِقْرَارُهُ يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ اسْتِقْرَارِهِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي حُكْمًا مُسْتَحِيلًا. فَصْلٌ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُؤَدِّي ثُبُوتُهَا إلَى نَفْيِهَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " إنْ لَمْ أُطَلِّقَكِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ " وَمَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ تَطْلُقْ؛ إذْ لَوْ طَلُقَتْ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ لَكَانَ طَلَاقُهَا مُسْتَنِدًا إلَى وُجُودِ الصِّفَةِ وَهِيَ عَدَمُ طَلَاقِهَا الْيَوْمَ، وَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالْيَوْمِ. وَمِنْهَا؛ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: " إنْ مَاتَ مَوْلَاكِ وَوَرِثْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ قَالَ: " إنْ مَلَكْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ وَرِثَهَا أَوْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ إرْثٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ تَكُنْ الزَّوْجَةُ فِي حَالِ وُقُوعِهِ مِلْكًا لَهُ؛ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي مِلْكِهِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مُفْضِيًا إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وَمِنْهَا: لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ مُوسِرَيْنِ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: " مَتَى أَعْتَقْتَ نَصِيبَك فَنَصِيبِي حُرٌّ قَبْلَ ذَلِكَ " فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ لَوَجَبَ عِتْقُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ السِّرَايَةَ إلَى نَصِيبِهِ، فَلَا يُصَادِفُ إعْتَاقُهُ مَحَلًّا، فَنُفُوذُ عِتْقِهِ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ نُفُوذِهِ. وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيقِ لِتَضَمُّنِهِ الْمُحَالَ، وَأَيُّهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ صَحَّ وَسَرَى إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: " إنْ دَبَّرْتُك فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ دَبَّرَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّدْبِيرِ، وَعَدَمَ صِحَّتِهِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِتْقِ، وَكَانَتْ صِحَّتُهُ تُفْضِي إلَى بُطْلَانِهِ، هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَقَعَ الْعِتْقُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّدْبِيرَ، وَكَانَ وُقُوعُهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ لِمُدَبَّرِهِ: " مَتَى أَبْطَلْتُ تَدْبِيرَكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ أَبْطَلَهُ بَطَلَ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ عَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ؛ إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ يُصَادِفْ إبْطَالَ التَّدْبِيرِ مَحَلًّا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ إبْطَالُ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ إبْطَالُهُ لَوَقَعَ الْعِتْقُ، وَلَوْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَمْ يَصِحَّ إبْطَالُ التَّدْبِيرِ وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِمُدَبَّرِهِ: " إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: " إنْ كَاتَبْتُكَ غَدًا فَأَنْتَ الْيَوْمَ حُرٌّ " ثُمَّ كَاتَبَهُ مِنْ الْغَدِ. وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِمُكَاتَبِهِ: " إنْ عَجَزْتَ عَنْ كِتَابَتِكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ: " مَتَى زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ وَجَبَ عَلَيْك حَدٌّ وَأَنْتِ مَمْلُوكٌ فَأَنْتِ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ وُجِدَ الْوَصْفُ وَجَبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَقَعْ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ؛ إذْ لَوْ وَقَعَ لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَكَانَ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ وُقُوعِهِ. وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " مَتَى جَنَيْتَ جِنَايَةً وَأَنْتَ مَمْلُوكِي فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ جَنَى لَمْ يَعْتِقْ. وَمِثْلُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " مَتَى بِعْتُكَ وَتَمَّ الْبَيْعُ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ " ثُمَّ بَاعَهُ، فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ قَبْلَهُ وَعِتْقُهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ. وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: " إنْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ " فَصَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ. فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيّ تَصِحُّ الصَّلَاةُ دُونَ الْعِتْقِ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ عَتَقَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا عَتَقَتْ بَطَلَتْ صَلَاتُهَا، وَكَانَتْ صِحَّةُ صَلَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةً لِبُطْلَانِهَا. وَمِنْهَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ بِحُرٍّ، وَادَّعَى عَلَيْهِ مَهْرَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَادَّعَى الزَّوْجُ الْإِعْسَارَ، وَادَّعَى سَيِّدُ الْأَمَةِ يَسَارَهُ قَبْلَ نِكَاحِهِ الْأَمَةَ بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ إذْ لَوْ ثَبَتَتْ دَعْوَاهُ لَبَطَلَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ دَعْوَى الْمَهْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةٍ فَادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ عِنِّينٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهَا؛ إذْ لَوْ ثَبَتَتْ دَعْوَاهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 لَزَالَ خَوْفُ الْعَنَتِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وَبُطْلَانَهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّعْوَى مِنْهَا، فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ دَعْوَاهَا تُؤَدِّي إلَى إفْسَادِهَا أَفْسَدْنَاهَا. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا ادَّعَتْ عَلَى سَيِّدِ زَوْجِهَا أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهَا بِمَهْرِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَسَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ فَحَكَمَ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهِ عَلَى أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ؛ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَهَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ، فَتَبْطُلُ دَعْوَى مِلْكِهِ لِلشَّاهِدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سُبِيَ مُرَاهِقٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُعْلَمْ بُلُوغُهُ، فَأَنْكَرَ الْبُلُوغَ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ؛ لِأَنَّ إحْلَافَهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ اسْتِحْلَافِهِ، فَإِنَّا لَوْ حَلَّفْنَاهُ لَحَكَمْنَا بِصِغَرِهِ وَالْحُكْمُ بِالصِّغَرِ يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ. وَنَظِيرُهُ لَوْ ادَّعَى عَلَى أُمِّ مُرَاهِقٍ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوْ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ مَالًا مِنْ مُبَايَعَةٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَادَّعَى أَنَّهُ بَالِغٌ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فَأَنْكَرَ الْغُلَامُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ إذْ لَوْ حَلَّفْنَاهُ لَحَكَمْنَا بِصِغَرِهِ، وَالْحُكْمُ بِالصِّغَرِ يُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا يَمِينٌ لَمْ يَكُنْ رَدُّ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْيَمِينِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ نُكُولِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ جَارِيَةً لَهُ قِيمَتُهَا مِائَةٌ، وَتَزَوَّجَ بِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَمَهْرُهَا مِائَةٌ، وَتَرَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا مِيرَاثَ، أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، وَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بُطْلَانُ الْحُرِّيَّةِ، وَفِيهِ بُطْلَانُ الْمِيرَاثِ. وَأَمَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ فَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَرَكِبَ السَّيِّدُ دَيْنٌ، وَلَمْ تَخْرُجْ قِيمَتُهَا مِنْ الثُّلُثِ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهَا كُلُّهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْكِحَهَا وَبَعْضُهَا رَقِيقٌ، فَيَبْطُلُ الْمَهْرُ، فَكَانَ ثُبُوتُ الْمَهْرِ مُؤَدِّيًا إلَى بُطْلَانِهِ. فَالْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] فَعَيَّرَ تَعَالَى مَنْ نَقَضَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إثْبَاتُهُ مُؤَدِّيًا إلَى نَفْيِهِ وَإِبْطَالِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَهَذَا مَا احْتَجَّ بِهِ السُّرَيْجِيُّونَ. [الرَّدُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ قَالَ الْآخَرُونَ لَقَدْ أَطَلْتُمْ الْخَطْبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ تَأْتُوا بِطَائِلٍ، وَقُلْتُمْ وَلَكِنْ تَرَكْتُمْ مَقَالًا لِقَائِلٍ، وَتَأْبَى قَوَاعِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ تَصْحِيحًا، وَالْمِيزَانُ الْعَادِلُ لَهَا عِنْدَ الْوَزْنِ تَرْجِيحًا، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشَابَهَةً لِشَرِيعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أَهْلِ الْكِتَابِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَتُسَدُّ دُونَهُ الْأَبْوَابِ. وَهَلْ هَذَا إلَّا تَغْيِيرٌ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ. وَإِلْزَامٌ لَهَا بِالْأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ؟ وَهَذَا أَشْنَعُ مِنْ سَدِّ بَابِ النِّكَاحِ بِتَصْحِيحِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَهَا فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَظِيرَ سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ، لَكِنْ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَمِمَّا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَعْصَارِ الْمُفَضَّلَةِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مُنَاقَضَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ، ثُمَّ نُجِيبُ عَنْ شُبَهِكُمْ شُبْهَةً شُبْهَةً. أَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِلشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِلْأَزْوَاجِ - إذَا أَرَادُوا اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَالتَّخَلُّصَ مِنْ الْمَرْأَةِ - الطَّلَاقَ، وَجَعَلَهُ بِحِكْمَتِهِ ثَلَاثًا تَوْسِعَةً عَلَى الزَّوْجِ؛ إذْ لَعَلَّهُ يَبْدُو لَهُ وَيَنْدَمُ فَيُرَاجِعُهَا، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَنْكِحَتَهُمْ كَأَنْكِحَةِ النَّصَارَى تَكُونُ الْمَرْأَةُ غُلًّا فِي عُنُقِ الرَّجُلِ إلَى الْمَوْتِ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الشَّرِيعَتَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُنَافِيَةٌ لِإِحْدَاهُمَا مُنَافَاةٌ ظَاهِرَةٌ، وَمُشْتَقَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى اشْتِقَاقًا ظَاهِرًا، وَيَكْفِي هَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِهَا. وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِلُّغَةِ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَلَامًا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَضْمُونُهُ إذَا وُجِدَ الشَّيْءُ لَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا وُجِدَ الشَّيْءُ الْيَوْمَ فَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإِذَا فَعَلْتُ الشَّيْءَ الْيَوْمَ فَقَدْ وَقَعَ مِنِّي قَبْلَ الْيَوْمِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ فِي نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ إلَى الْمُحَالِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَقَالِ. وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهَا لِقَضَايَا الْعُقُولِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ، وَيَتَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ فِي الْوُجُودِ، هَذَا مِمَّا لَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ؛ فَإِنَّ رُتْبَةَ الشَّرْطِ التَّقَدُّمُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ، وَالْفُقَهَاءُ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مَعَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَلَوْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْمَشْرُوطِ بِشَرْطٍ مُتَأَخِّرٍ بَعْدَهُ لَكَانَ ذَلِكَ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا أَوْ جُزْءَ شَرْطٍ أَوْ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ شَرْطَهُ وَلَا سَبَبَهُ وَلَا عِلَّتَهُ؛ إذْ فِي ذَلِكَ إخْرَاجُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ عَنْ حَقَائِقِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطِهِ لَجَازَ تَقْدِيمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى إيقَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْإِيقَاعَ سَبَبٌ، وَالْأَسْبَابُ تَتَقَدَّمُ مُسَبَّبَاتُهَا، كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ رُتْبَتُهَا التَّقَدُّمُ؛ فَإِذَا جَازَ إخْرَاجُ هَذَا عَنْ رُتْبَتِهِ جَازَ إخْرَاجُ الْآخَرِ عَنْ رُتْبَتِهِ، فَجَوَّزُوا حِينَئِذٍ تَقَدُّمَ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ وَالْعِتْقِ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالْمِلْكِ عَلَى الْبَيْعِ، وَحَلِّ الْمَنْكُوحَةِ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 عَقْدِ النِّكَاحِ. وَهَلْ هَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الِانْكِسَارِ عَلَى الْكَسْرِ وَالسَّيْلِ عَلَى الْمَطَرِ وَالشِّبَعِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْوَلَدِ عَلَى الْوَطْءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؟ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْعِلَلَ وَالْأَسْبَابَ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا، بَلْ هِيَ مُعَرَّفَاتٌ، وَالْمُعَرَّفُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ الْمُعَرِّفِ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِكُمْ: إنَّ الشُّرُوطَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَاتٌ وَأَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ، وَالْعَلَامَةُ يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا؛ فَإِنَّ هَذَا وَهْمٌ وَإِيهَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرَائِطَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا عَنْ الْمَشْرُوطِ، وَلَوْ تَأَخَّرَتْ لَمْ تَكُنْ شُرُوطًا. [بَحْثٌ فِي الشُّرُوطِ وَأَنْوَاعِهَا وَحُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا] الثَّانِي: أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لُغَوِيٌّ كَقَوْلِهِ: " إنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَحْوِ ذَلِكَ: " وَإِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ وَعِلَلٌ مُقْتَضِيَةٌ لِأَحْكَامِهَا اقْتِضَاءَ الْمُسَبَّبَاتِ لِأَسْبَابِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَمُؤَثِّرٌ وَأَثَرٌ، وَلِهَذَا يَقَعُ جَوَابًا عَنْ الْعِلَّةِ، فَإِذَا قَالَ: " لَمْ أُطَلِّقْهَا؟ " قَالَ: لِوُجُودِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقْت عَلَيْهِ الطَّلَاقَ، فَلَوْلَا أَنَّ وُجُودَهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيقَاعِ لَمَا صَحَّ هَذَا الْجَوَابُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُخْرِجَهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَيَقُولُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَدْخُلِينَ الدَّارَ؛ فَيُجْعَلُ إلْزَامُهُ لِلطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ مُسَبَّبًا عَنْ دُخُولِهَا الدَّارَ بِالْقَسَمِ وَالشَّرْطِ، وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ قَسَّمُوا الشَّرْطَ إلَى شَرْعِيٍّ وَلُغَوِيٍّ وَعَقْلِيٍّ، ثُمَّ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِحُكْمٍ شَامِلٍ فَقَالُوا: الشَّرْطُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ. ثُمَّ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاؤُهُ؛ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ بِطَائِلٍ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ عَقْلِيَّةٌ، وَالسَّبَبُ إذَا تَمَّ لَزِمَ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ مُسَبَّبِهِ، وَإِذَا انْتَفَى لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُ الْمُسَبَّبِ مُطْلَقًا؛ لِجَوَازِ خَلْفِ سَبَبٍ آخَرَ، بَلْ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ عَنْ هَذَا الْمُسَبَّبِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ صَدَرَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ طَلَاقَانِ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا " فَجَوَابُهُ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلْمُعَلَّقِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ، وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ الْمُحَالَ، نَعَمْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمُنَجَّزِ وَحْدَهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ، وَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْمَحَلَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 قَابِلٌ لِلْمُعَلَّقِ، وَمُنَازِعُكُمْ إنَّمَا نَازَعَكُمْ فِيهِ، وَقَالَ: لَيْسَ الْمَحَلُّ بِقَابِلٍ لِلْمُعَلَّقِ، فَجَعَلْتُمْ نَفْسَ الدَّعْوَى مُقَدَّمَةً فِي الدَّلِيلِ. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ الزَّوْجَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ وَالتَّعْلِيقَ " جَوَابُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ الْمُمْكِنَ، فَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمُسْتَحِيلُ فَلَمْ يَمْلِكْهُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا عَادَةً، وَقَوْلُكُمْ: " لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ " بَاطِلٌ، بَلْ الْمَزِيَّةُ كُلُّ الْمَزِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَإِنَّ الْمُنَجَّزَ لَهُ مَزِيَّةُ الْإِمْكَانِ فِي نَفْسِهِ، وَالْمُعَلَّقَ لَهُ مَزِيَّةُ الِاسْتِحَالَةِ وَالِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَتَمَانَعَا وَلَمْ يَتَسَاقَطَا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ مَانِعٌ، وَقَوْلُكُمْ " إنَّهُ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ " جَوَابُهُ أَنَّهُ تَنْظِيرٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْمُنَجَّزَ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُحَالِ. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ " بَاطِلٌ، بَلْ لِلْمُنَجَّزِ مَزِيَّةٌ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: قُوَّةُ التَّنْجِيزِ عَلَى التَّعْلِيقِ، الثَّانِي: أَنَّ التَّنْجِيزَ لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْمُوَقِّعُونَ لَمْ يُقِيمُوا عَلَى الْمَانِعِينَ حُجَّةً تُوجِبُ الْمَصِيرَ إلَيْهَا مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ، فَمُنَازِعُوهُمْ يَقُولُونَ: الطَّلَاقُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ فِي الْإِسْقَاطِ وَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بِفَرْقٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ تَنَاقُضِهِمْ، بَلْ الْغَرَضُ أَنَّ لِلْمُنَجَّزِ مَزِيَّةً عَلَى الْمُعَلَّقِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ وَالشَّرْطُ تَابِعٌ وَوَسِيلَةٌ، الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُنَجَّزَ لَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ لِأَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ وَقَبُولِ الْمَحَلِّ، وَالتَّعْلِيقُ الْمُحَالُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ الصَّحِيحِ أَثَرَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيقِ فَرْعٌ عَلَى مِلْكِ التَّنْجِيزِ، فَإِذَا انْتَفَى مِلْكُهُ لِلْمُنَجَّزِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْتَفَى صِحَّةُ التَّعْلِيقِ، فَصِحَّةُ التَّعْلِيقِ تَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ، وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ صَحِيحَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَتَأَمَّلْهَا. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي مَرَضِهِ: " إذَا أَعْتَقْتَ سَالِمًا فَغَانِمٌ حُرٌّ ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا وَلَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ قُدِّمَ عِتْقُ الْمُنَجَّزِ عَلَى الْمُعَلَّقِ لِقُوَّتِهِ. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: " اُدْخُلْ الدَّارَ فَإِذَا دَخَلْتَ أَخْرَجْتُكَ " وَهُوَ نَظِيرُهُ فِي الْقُوَّةِ؛ فَإِذَا دَخَلَ لَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُهُ، وَهَذَا الْمِثَالُ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُوَ الْإِخْرَاجُ وَالْمُنَجَّزَ هُوَ الدُّخُولُ. الثَّامِنُ: أَنَّ الْمُنَجَّزَ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ وَالْمُعَلَّقُ قَدْ قَارَنَهُ مَا جَعَلَهُ مُسْتَحِيلًا. التَّاسِعُ: أَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِاللَّفْظِ، وَوُجُودُ الشَّرْطِ، مَا تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ أَقْرَبُ وُجُودًا مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَى أَمْرَيْنِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ مُوَافِقٌ لِتَصَرُّفِ الشَّارِعِ وَمِلْكِ الْمَالِكِ، وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 الشَّارِعُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ تَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُنَجَّزِ وَتُبْطِلُ قَوْلَكُمْ إنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا سَائِرُ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا مِنْ صُوَرِ الدَّوْرِ الَّتِي يُفْضِي ثُبُوتُهَا إلَى إبْطَالِهَا فَمِنْهَا مَا هُوَ مَمْنُوعُ الْحُكْمِ لَا يُسَلِّمُهُ لَكُمْ مُنَازِعُكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسَائِلُ مَذْهَبِيَّةٌ يَحْتَجُّ لَهَا وَلَا يَحْتَجُّ بِهَا، وَهُمْ يَفُكُّونَ الدَّوْرَ تَارَةً بِوُقُوعِ الْحُكْمَيْنِ مَعًا وَعَدَمِ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَيَجْعَلُونَهُمَا مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا دَوْرَ، وَتَارَةً يَسْبِقُ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ لِلْآخَرِ سَبْقَ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ ثُمَّ يَتَرَتَّبُ الْآخَرُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسَلَّمُ الْحُكْمِ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِيهِ يَقْتَضِي إبْطَالَهُ. وَلَكِنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ فِي إبْطَالِ هَذَا التَّعْلِيقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَأَفْضَى ثُبُوتُهُ إلَى بُطْلَانِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَزِمَ مِنْهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَسَبْقُهَا بِثَلَاثٍ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا، فَبَطَلَ التَّعْلِيقُ مِنْ أَصْلِهِ لِلُزُومِ الْمُحَالِ؛ فَهَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي اسْتَشْهَدْتُمْ بِهَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِهِمْ عَلَيْكُمْ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيقِ. وَأَدِلَّتُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَوْعَانِ: أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ وَهِيَ إنَّمَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ التَّعْلِيقِ. وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمُنَجَّزِ فَلَيْسَ مِنْهَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ طَلَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ؛ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ؛ أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْمُطَلِّقِ فَلِأَنَّهُ زَوْجٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ، وَأَمَّا مَحَلِّيَّةُ الْمُطَلَّقَةِ فَلِأَنَّهَا زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فَيَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَفِي سَائِرِ نُصُوصِ الطَّلَاقِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقٌ لَزِمَ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَكُلُّهَا مُنْتَفِيَةٌ: إمَّا عَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُطَلِّقِ، وَإِمَّا عَدَمُ قَبُولِ الْمَحَلِّ، وَإِمَّا قِيَامُ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ الطَّلَاقِ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ إذْ لَيْسَ مَعَ مُدَّعِي قِيَامَهُ إلَّا التَّعْلِيقُ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِمُسَبَّبِهِ إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ ثَابِتٌ يُعَارِضُ سَبَبِيَّتَهُ فَيُوقِفُهَا عَنْ اقْتِضَائِهَا، فَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مُعَارِضًا لِلْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فَصْلٌ [جَوَابُ مَنْ قَالَ بِالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ] قَالَ السُّرَيْجِيُّونَ: لَقَدْ ارْتَقَيْتُمْ مُرْتَقًى صَعْبًا، وَأَسَأْتُمْ الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُمْ أَئِمَّةٌ عُلَمَاءُ لَا يُشَقُّ غُبَارُهُمْ، وَلَا تُغْمَزُ قَنَاتُهُمْ، كَيْفَ وَقَدْ أَخَذُوهَا مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَنَوْهَا عَلَى أُصُولِهِ، وَنَظَّرُوا لَهَا النَّظَائِرَ، وَأَتَوْا لَهَا بِالشَّوَاهِدِ؟ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " ثُمَّ مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيقِ؛ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَهَذَا إيقَاعُ طَلَاقٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَوْتُهُ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ: " إنْ مِتَّ - أَوْ إذَا مِتَّ - فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَنَحْنُ نُلْزِمُكُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّكُمْ مُوَافِقُونَ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَتَانِ، وَإِحْدَاهُمَا وَقَعَتْ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ عَلَى التَّطْلِيقِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " إنَّ الْوُقُوعَ كَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْإِيقَاعَ فَلَا يَسْبِقُ الطَّلَاقُ التَّطْلِيقَ فَكَذَا لَا يَسْبِقُ شَرْطَهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى شَرْطِهِ وَأَحَدِ سَبَبَيْهِ أَوْ أَسْبَابِهِ " فَإِنَّ الشَّرْطَ مُعَرَّفٌ، مَحْضٌ وَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الْمُعَرَّفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ فَكَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجُرْحِ قَبْلَ الزُّهُوقِ، وَنَظَائِرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الشَّرْطَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ تَوَقُّفُ الْمَشْرُوطِ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ، وَلَيْسَ مُقْتَضَاهُ تَأَخُّرُ الْمَشْرُوطِ عَنْهُ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى نَصٍّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ، فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَتَقَدَّمُ مَشْرُوطُهُ، وَلَكِنَّ دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَحَتَّى لَوْ جَاءَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي كَلَامِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ: " إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ " " وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ جِئْتُكَ " فَيَقْتَضِي الشَّرْطُ ارْتِبَاطًا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: فَلَا يَتَقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ وَلَا يَتَأَخَّرُ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَقْبَلُ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ وَالِانْتِقَالَ، كَمَا لَوْ قَالَ: " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا فِي الْحِسِّيَّاتِ كَانَ مُحَالًا، فَلَوْ قَالَ: " إذَا زُرْتنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَ أَنَّ تَزُورَنِي بِشَهْرٍ " كَانَ مُحَالًا، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَهُوَ إذَا أَرَدْتَ أَوْ عَزَمْتَ عَلَى زِيَارَتِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نَقْلَ الْحَقَائِقِ عَنْ مَوَاضِعِهَا مُمْتَنِعٌ، وَالْأَحْكَامُ قَابِلَةٌ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: " أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي " فَفَعَلَ؛ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْقَائِلِ، وَجُعِلَ الْمِلْكُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِتْقِ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُكُمْ: " يَلْزَمُنَا تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ " فَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ؛ فَلَا يَسْبِقُ إيقَاعَهُ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ، وَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ بِهِ، وَالِارْتِبَاطُ أَعَمُّ مِنْ السَّابِقِ وَالْمُقَارِنِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ. وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مُوجِبٌ لِلْوُقُوعِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ أَثَرُهُ وَمُوجِبُهُ، وَالشَّرْطُ عَلَامَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَوِزَانُ الشَّرْطِ وِزَانُ الدَّلِيلِ، وَوِزَانُ الْإِيقَاعِ وِزَانُ الْعِلَّةِ، فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ تَضَمَّنَ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا، وَقَدْ تُعْقَدُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوعِ، وَقَدْ تُعْقَدُ لِلْإِبْطَالِ؛ فَلَا يُوجَدُ فِيهَا الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ، بَلْ تَعْلِيقٌ مُمْتَنِعٌ بِمُمْتَنِعٍ، فَتَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ وَإِنْ انْتَفَى كُلٌّ مِنْ جُزْأَيْهَا، كَمَا تَقُولُ: " لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: " إنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " فَقَضِيَّةٌ عُقِدَتْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ طَرَفَيْهَا، وَهُمَا الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ. ثُمَّ نَذْكُرُ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا [آخَرَ] حَرَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ: طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ. نَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَإِنْ قَدِمَ عَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً، فَقَدِمَ زَيْدٌ بُكْرَةً، وَعَمْرٌو عَشِيَّةً وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ الْمُبَاشِرَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَلَوْ أَوْقَعْنَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَامْتَنَعَ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِهِ؛ فَقَدْ أَدَّى الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ إلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، فَلَا يَقَعُ. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ رَحْمَةً بِهِ - إلَى آخِرِهِ " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَانٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَذِهِ الْيَمِينُ، وَهَذَا لَيْسَ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الطَّلَاقِ فَجَعَلَهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِئَلَّا يَنْدَمَ، فَإِذَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْقَعَهَا بِفَمٍ وَاحِدٍ حَصَرَ نَفْسَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَمَنَعَهَا مَا كَانَ حَلَالًا لَهَا، وَرُبَّمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عَوْدِهَا إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ إلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 الرِّجَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلنِّسَاءِ فِيهِ حَظًّا؛ لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ وَأَدْيَانِهِنَّ، فَلَوْ جَعَلَهُ إلَيْهِنَّ لَكَانَ فِيهِ فَسَادٌ كَبِيرٌ تَأْبَاهُ حِكْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَشَاءُ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِالزَّوْجِ إلَّا اسْتَبْدَلَتْ بِهِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْمَلُ عُقُولًا وَأَثْبَتُ، فَلَا يَسْتَبْدِلُ بِالزَّوْجَةِ إلَّا إذَا عِيلَ صَبْرُهُ، ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَجْعَلُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا، بِأَنْ يُمَلِّكَهَا ذَلِكَ أَوْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَفْعَلَ كَذَا، فَتَخْتَارَ طَلَاقَهُ مَتَى شَاءَتْ، وَيَبْقَى الطَّلَاقُ بِيَدِهَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ هَذَا الْحَرَجَ بِيَمِينِهِ وَتَمْلِيكِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ امْرَأَةً، حَتَّى قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَطْبَقُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قَالَ: " كُلُّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ أَمْلِكُهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ " لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ بَعْدَ هَذَا إلَى مِلْكِ رَقِيقٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ، بَلْ هُوَ الْمُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالضِّيقُ وَالْحَرَجُ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَّعَهُ لَهُ، وَإِنْ أَلْزَمَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَأَوْلَدَهَا ثُمَّ سَاءَتْ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهَا، وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي إعْتَاقِهَا أَوْ تَزْوِيجِهَا أَوْ إمْسَاكِهَا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا. ثُمَّ نَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْتُمْ: بَلْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ، بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِزَوْجَتِهِ شَدِيدَ الْإِلْفِ بِهَا، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَنْزِغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَيَقَعَ مِنْهُ طَلَاقُهَا مِنْ غَضْبَةٍ أَوْ مَوْجِدَةٍ، أَوْ يَحْلِفُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ أَوْ يُبْلَى بِمَنْ يَسْتَحْلِفُهُ بِالطَّلَاقِ وَيُضْطَرُّ إلَى الْحِنْثِ، أَوْ يُبْلَى بِظَالِمٍ يُكْرِهُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَيَرْفَعُهُ إلَى حَاكِمٍ يُنَفِّذُهُ، أَوْ يُبْلَى بِشَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا طَرِيقَ أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ؛ فَلَا يُنْكَرُ مِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ، لَكِنَّ رَأْيَ احْتِمَالِهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْفِرَاقِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْبَقَاءِ، وَمَا يُنْكَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ دَفْعِ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا؟ . فَصْلٌ [الْجَوَابُ عَلَى شُبَهِ أَصْحَابِ الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ] قَالَ الْمُوَقِّعُونَ: لَقَدْ دَعَوْتُمْ الشُّبَهَ الْجَفَلَى إلَى وَلِيمَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَمْ تَدَعُوا مِنْهَا دَاعِيًا وَلَا مُجِيبًا، وَاجْتَهَدْتُمْ فِي تَقْرِيرِهَا ظَانِّينَ إصَابَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وَنَثَرْتُمْ عَلَيْهَا مَا لَا يَصْلُحُ مِثْلُهُ لِلنِّثَارِ، وَزَيَّنْتُمُوهَا بِأَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، وَلَكِنَّهُ حُلِيٌّ مُسْتَعَارٌ؛ فَإِذَا اسْتَرَدَّتْ الْعَارَةَ زَالَ الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ، وَهُنَاكَ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ. فَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّا ارْتَقَيْنَا مُرْتَقًى صَعْبًا، وَأَسَأْنَا الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ تَأْثِيمًا أَوْ تَبْدِيعًا فَمَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بِنَا الظَّنَّ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِإِسَاءَةِ الظَّنِّ أَنَّا لَمْ نُصَوِّبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِمْ فِيهَا؛ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ، بَلْ سَائِرُ الْمُتَنَازِعِينَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَرْبَعَةُ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَيْسَتْ كُلُّهَا صَوَابًا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ " فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً لَهُ فَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُحْتَجُّ لَهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ نَازَعَهُ الْجُمْهُورُ فِيهَا، وَالْحُجَّةُ تَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهَا. وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ نَصُّهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " فَإِذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ هَذَا التَّعْلِيقِ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ. وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ مَنْ يُبْطِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا هُوَ نَظِيرُهَا. وَلَيْسَ فِيهِ سَبْقُ الطَّلَاقِ لِشَرْطِهِ، وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْمُحَالِ؛ إذْ حَقِيقَتُهُ إذَا بَقِيَ مِنْ حَيَاتِي شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَعْقُولٌ غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمُ الطَّلَاقِ عَلَى زَمَنِ التَّطْلِيقِ وَلَا عَلَى شَرْطِ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا أَنْ يَقُولَ: " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَهَذَا الْمُحَالُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَوْ يَقُولَ: " أَنْتِ طَالِقٌ عَامَ الْأَوَّلِ " فَمَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ وَمَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ شَيْءٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ إذَا مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ؛ فَلَوْ مَاتَ عَقِيبَ الْيَمِينِ لَمْ تَطْلُقْ، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي " وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَكِ " فَإِنَّ كِلَا الْوَقْتَيْنِ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا، وَفِي الثَّانِي لَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا قَطْعًا، فَقَوْلُهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ فِي وَقْتٍ قَدْ مَضَى " وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ طَالِقًا إمَّا إخْبَارٌ كَاذِبٌ أَوْ إنْشَاءٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ قِيلَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَيَلْغُو قَوْلُهُ: " أَمْسِ " لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ثُمَّ وَصَلَ بِهِ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ أَوْ يَرْفَعُهُ فَلَا يَصْلُحُ وَيَقَعُ لَغْوًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " لَيْسَ فِيهِ إيقَاعُ الطَّلْقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي وَلَا تَقَدُّمُهَا عَلَى الْإِيقَاعِ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيقَاعُ طَلْقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى؛ فَمِنْ ضَرُورَةِ قَوْلِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 قَبْلَهَا طَلْقَةً " إيقَاعُ هَذِهِ السَّابِقَةِ أَوَّلًا ثُمَّ إيقَاعُ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا؛ فَالطَّلْقَتَانِ إنَّمَا وَقَعَتَا بِقَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ تَتَقَدَّمْ إحْدَاهُمَا عَلَى زَمَنِ الْإِيقَاعِ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْأُخْرَى تَقْدِيرًا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ التَّعْلِيقِ الْمُسْتَحِيلِ؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ وَقُلْتُمْ: قَدْ وَصَلَ الطَّلْقَةَ الْمُنَجَّزَةَ بِتَقَدُّمِ مِثْلِهَا عَلَيْهَا، وَالسَّبَبُ هُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ عَلَى الْمُنَجَّزَةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا نِكَاحًا صَحَّ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " أَكْثَرُ مَا فِيهِ تَقَدُّمُ الطَّلَاقِ السَّابِقِ عَلَى الْمُنَجَّزِ، وَلَكِنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُهُمَا؛ فَتَدَافَعَا وَبَقِيَتْ الزَّوْجَةُ بِحَالِهَا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ وَاحِدَةً " صَحَّ لِاحْتِمَالِ الْمَحَلِّ لَهُمَا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلْقَتَيْنِ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ تَسْبِقْ إحْدَاهُمَا إيقَاعَهُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ شَرْطُ الْإِيقَاعِ؛ فَلَا مَحْذُورَ، وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: " بَعْدَهَا طَلْقَةٌ، أَوْ مَعَهَا طَلْقَةٌ " وَكَأَنَّهُ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ مَعًا، أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ " وَيَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ وَاحِدٍ عَنْ الْأُخْرَى سَبْقُ إحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى، فَلَا إحَالَةَ، أَمَّا وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ فَهُوَ مُحَالٌ وَقَصْدُهُ بَاطِلٌ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ إنْ كَانَ خَبَرًا فَهُوَ كَذِبٌ، وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَهُوَ مُنْكَرٌ؛ فَالتَّكَلُّمُ بِهِ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فِي إخْبَارِهِ، مُنْكَرٌ فِي إنْشَائِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ فَهَاهُنَا لِمُنَازِعِيكُمْ قَوْلَانِ تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُمَا، وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ هَذَا التَّعَلُّقُ وَيَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ، وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وِزَانِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: " إذَا مَاتَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ " فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، فَهَكَذَا إذَا قَالَ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ وَاحِدَةً " ثُمَّ مَضَى زَمَنٌ تُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْلِيَّةُ ثُمَّ طَلَّقَهَا تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْإِيقَاعِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْوَقْتِ السَّابِقِ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أَوْ وُقُوعِهِ مُعَلَّقًا " فَهُوَ تَطْلِيقٌ فِي زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُحَالٌ أَيْضًا، وَلَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ؛ إذْ حَقِيقَتُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ عَلَى تَطْلِيقِكِ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا فَيَعُودُ إلَى سَبْقِ الطَّلَاقِ لِلتَّطْلِيقِ، وَسَبْقِ الْوُقُوعِ لِلْإِيقَاعِ، وَهُوَ حُكْمٌ بِتَقْدِيمِ الْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: " إذَا وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ " إمَّا أَنْ يُرِيدَ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الْإِيقَاعِ أَوْ بِإِيقَاعٍ مُتَقَدِّمٍ. وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالثَّانِي كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أُطَلِّقَكِ " وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ. فَهَذَا كَشْفُ حِجَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّ مَأْخَذِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ لَوْنٌ وَهَذِهِ لَوْنٌ آخَرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الْحُكْمَ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى عِلَّتِهِ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى شَرْطِهِ كَمَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ - إلَى آخَرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ إمَّا أَنْ يُوجَدَ جُزْءًا مِنْ الْمُقْتَضَى أَوْ يُوجَدَ خَارِجًا عَنْهُ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلنُّظَّارِ، وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ؛ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُقْتَضَى التَّامُّ فَالشَّرْطُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُقْتَضَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ اقْتِضَاؤُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَعَدَمِ مَانِعِهِ فَالشَّرْطُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ، وَلَكِنْ اقْتِضَاؤُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَالْأُولَى طَرِيقَةُ الْمَانِعِينَ مِنْ التَّخْصِيصِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَمْتَنِعُ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ عَنْ وُقُوعِ الْمَشْرُوطِ؛ لَأَنْ يَسْتَلْزِمَ وُقُوعَ الْحُكْمِ بِدُونِ سَبَبِهِ التَّامِّ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ إنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ الْمُقْتَضَى فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِاقْتِضَائِهِ فَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ يُوجَدُ بِدُونِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ قَبْلَهُ لَثَبَتَ بِدُونِ سَبَبِهِ التَّامِّ، فَإِنَّ سَبَبَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالشَّرْطِ، فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى سَبْقِ الْأَثَرِ لَمُؤَثِّرِهِ وَالْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ وَعَلِمْتُمْ لُزُومَهُ فَرَرْتُمْ إلَى مَا لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا. وَهُوَ جَعْلُ الشَّرْطِ مُجَرَّدَ عَلَامَةٍ وَدَلِيلٍ وَمُعَرِّفٍ، وَهَذَا إخْرَاجٌ لِلشَّرْطِ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا وَإِبْطَالٌ لِحَقِيقَتِهِ؛ فَإِنَّ الْعَلَامَةَ وَالدَّلِيلَ [وَ] الْمُعَرِّفَ لَيْسَتْ شُرُوطًا فِي الْمَدْلُولِ الْمُعَرَّفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهَا نَفْيُهُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَثْبُتُ بِدُونِ عَلَامَةٍ وَمُعَرِّفٍ لَهُ، وَالْمَشْرُوطُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِوُجُودِهِ. وَكُلُّ الْعُقَلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ وَأَنَّ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا وَحُكْمَهُ دُونَ حَقِيقَةِ الْآخَرِ وَحُكْمِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعَلَامَةَ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ بِالْمُعَلَّمِ وَالدَّلِيلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، فَذَاكَ أَمْرٌ وَرَاءَ الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَهَذَا شَيْءٌ وَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ عِنْدَ انْتِفَاءِ دَلِيلِهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ الْمَدْلُولَ يَنْتَفِي وَانْتِفَاءَ دَلِيلِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: نَعَمْ، قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ. قِيلَ: نَعَمْ فَإِنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَلِيلِهِ، فَدَلِيلُهُ مُوجِبٌ لِثُبُوتِهِ، فَإِذَا انْتَفَى الْمُوجِبُ انْتَفَى الْمُوجَبَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: لَا مُوجِبَ فَلَا مُوجَبَ، أَمَّا شَرْطُ اقْتِضَاءِ السَّبَبِ لِحِكْمَةٍ فَلَا يَجُوزُ اقْتِضَاؤُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الشَّرْطُ عَنْهُ لَكَانَ مُقْتَضِيًا بِدُونِ شَرْطِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إخْرَاجَ الشَّرْطِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ، أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى شَرْطٍ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى؛ فَالتَّنْظِيرُ بِهِ مَغْلَطَةٌ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى سَبَبِهِ وَلَا شَرْطِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ. وَإِنْ وَقَعَ تَسَامُحٌ فِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْحَوْلُ مَثَلًا وَالْحِنْثُ وَالْمَوْتُ بَعْدَ الْجُرْحِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَنَحْنُ لَمْ نُقَدِّمْ الْوُجُوبَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 شَرْطٍ وَلَا سَبَبِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا فِعْلَ الْوَاجِبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ، وَبَيْنَ تَقَدُّمِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ أَوْ إيهَامٌ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ شَرْطِ عِلَّةِ الْحُكْمِ وَمُوجِبِهِ عَلَى الْحُكْمِ أَمْرٌ ثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ ذَلِكَ عَنْ نَصِّ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى تُطَالِبُونَا بِنَقْلِهِ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ لِذَاتِ الشَّرْطِ وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَخْتَلِفُ بِتَقَدُّمِ لَفْظٍ وَلَا تَأَخُّرِهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ " أَوْ قَالَ: " يَبْعَثُكِ اللَّهُ إذَا مِتَّ " أَوْ: " تَجِبُ عَلَيْكِ الصَّلَاةُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالشَّرْطُ مُتَقَدِّمٌ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الْأَحْكَامَ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَتُتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ " فَتَطْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ، وَتَهْوِيلٌ بِلَا تَفْضِيلٍ، فَهَلْ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْ تَرْتِيبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَمُوجِبَاتِهَا بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِ سَبَبِهِ وَمُقْتَضِيهِ؟ نَعَمْ قَدْ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ وَيَنْتَقِلُ لِقِيَامِ سَبَبٍ آخَرَ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبِهِ الثَّانِي بَعْدَ انْتِقَالِهِ كَمَا كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى سَبَبِهِ هَذَا فِي حُكْمِهِ وَذَاكَ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا تَنْظِيرُكُمْ بِنَقْلِ الْأَحْكَامِ وَتَقَدُّمِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا بِقَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَقَوْلِكُمْ: " إنَّ نَظِيرَهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَنْ تَقُولَ: إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَ زِيَارَتِكَ بِشَهْرٍ " فَوَهْمٌ أَيْضًا أَوْ إيهَامٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " إنَّمَا تَطْلُقُ إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ إيقَاعِهِ فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ لَمْ تَطْلُقْ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ عَامَ الْأَوَّلِ؛ لَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ " فَإِنَّ الطَّلَاقَ حُكْمٌ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالْإِكْرَامُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يَكُونُ إكْرَامًا بِالتَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إكْرَامًا بِالْوُقُوعِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُكُمْ بِقَوْلِهِ: " أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي " فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْمِلْكِ التَّقْدِيرِيِّ عَلَى الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ وَمُوجَبُهُ، وَالْمِلْكُ شَرْطُهُ، وَلَوْ جَازَ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ لَقُدِّرَ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَذَا مُحَالٌ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ يَجِبُ تَقَدُّمُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُحَقَّقَةً أَوْ مُقَدَّرَةً. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا، وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ قَدْ تُعْقَدُ لِلْوُقُوعِ وَقَدْ تُعْقَدُ لِنَفْيِ الشَّرْطِ وَالْجُزْءِ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا مِنْ الْوَهْمِ أَوْ الْإِيهَامِ؛ فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ جُزْأَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَا مُمَكِّنَيْنِ أَوْ مُمْتَنِعَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهَا شَرْطِيَّةً صِدْقُ جُزْأَيْهَا جُمْلَتَيْنِ؛ فَالِاعْتِبَارُ إنَّمَا هُوَ بِصِدْقِهَا فِي نَفْسِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] مِنْ أَصْدَقِ الْكَلَامِ وَجُزْءُ الشَّرْطِيَّةِ مُمْتَنِعَانِ، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَلْزُومٌ لِلْآخَرِ، فَقَامَتْ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 التَّلَازُمِ الَّذِي بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَوُجُودُ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ مَلْزُومٌ لِفَسَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْفَسَادُ لَازِمٌ، فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ، فَصَدَقَتْ الشَّرْطِيَّةُ دُونَ مُفْرَدَيْهَا، وَأَمَّا الشَّرْطِيَّةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ وَسَبْقِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَذِبٌ فِي الْإِخْبَارِ بَاطِلٌ فِي الْإِنْشَاءِ؛ فَالشَّرْطِيَّةُ نَفْسُهَا بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ بِوَجْهٍ؛ فَظَهَرَ أَنَّ تَنْظِيرَهَا بِالشَّرْطِيَّةِ الصَّادِقَةِ الْمُمْتَنِعَةِ الْجُزْأَيْنِ وَهْمٌ أَوْ إيهَامٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ الْمُحَرَّرُ، وَهُوَ قَوْلُكُمْ: " طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ. كَقَوْلِهِ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ زَيْدٌ طَلُقَتْ ثَلَاثًا، فَقَدِمَ عَمْرٌو بَعْدَهُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَلَمْ يُصَادِفْ الطَّلَاقُ الثَّانِيَ مَحَلًّا، فَهَذَا مَعْقُولٌ شَرْعًا وَلُغَةً وَعُرْفًا، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَعَلُّقٍ مُسْتَحِيلٍ شَرْعًا وَعُرْفًا؟ وَلَقَدْ وَهَنَتْ كُلَّ الْوَهْنِ مَسْأَلَةٌ إلَى مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ اسْتِنَادُهَا، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُهَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الْمُنَجَّزَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيقَاعِ الْمُنَجَّزِ إيقَاعُ الثَّلَاثِ قَبْلَهُ، لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، فَإِنْ قُلْتُمْ: لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْمُعَلَّقِ قَبْلَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُ الْمُعَلَّقِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النُّكْتَةَ قَلْبًا أَصَحَّ مِنْهَا شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً، فَنَقُولُ: إذَا أَوْقَعْنَا الْمُنَجَّزَ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا قَطْعًا، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ، فَيَسْتَلْزِمُ مُوجَبَهُ وَهُوَ الْوُقُوعُ، وَإِذَا وَقَعَ مُوجَبُهُ اسْتَحَالَ وُقُوعُ الثَّلَاثِ؛ فَهَذِهِ النُّكْتَةُ أَصَحُّ وَأَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الْمُكَلَّفَ أَتَى بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَأَلْزَمْنَاهُ حُكْمَهُ - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ شَرْعًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مَقْدُورًا وَمَشْرُوعًا، وَهَذَا السَّبَبُ الَّذِي أَتَى بِهِ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَا مَشْرُوعٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُمَلِّكْهُ طَلَاقًا يُنْجِزُهُ تَسْبِقُهُ ثَلَاثٌ قَبْلَهُ، وَلَا ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُ؛ فَالسَّبَبُ لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَاسِدٌ؛ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا نَظَرْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى - وَهِيَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا جُمْلَةً - فَهَذِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ لَهَا، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلِلنَّاسِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: الْإِلْزَامُ بِهَا، وَالثَّانِي: إلْغَاؤُهَا جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ الْفُقَهَاءِ الشِّيعَةِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِهِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ أَعْلَمِ النَّاسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 بِسِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَاهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي حَقِّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَثَلَاثٌ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ إمَامِ أَهْلِ خُرَاسَانَ فِي وَقْتِهِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ نَظِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَفِيهَا مَذْهَبٌ خَامِسٌ، وَهُوَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً وَقَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً لَمْ تَقَعْ، وَهُوَ مَذْهَبُ حَافِظِ الْغَرْبِ وَإِمَامِ أَهْلِ الظَّاهِرِ فِي وَقْتِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَلَوْ طُولِبْتُمْ بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ قَوْلِكُمْ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَرْكَنُ إلَيْهِ الْعَالِمُ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ تَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِينَ يُسَلِّمُونَ لَكُمْ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَقُولُ بِجَوَازِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى الْمُكَلَّفُ عِنْدَهُ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ الْمَقْدُورِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ سَبَبُهُ، وَفَرِيقٌ يَقُولُ: تَقَعُ وَإِنْ كَانَ إيقَاعُهَا مُحَرَّمًا كَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ، بِخِلَافِ وُقُوعِ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ؟ فَصْلٌ وَأَمَّا نَقْضُكُمْ الثَّانِي بِتَمْلِيكِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الطَّلَاقَ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِهِ بِيَدِهِ، فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ لَمْ يَخْرُجْ الطَّلَاقُ عَنْ يَدِهِ، بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ كَمَا هُوَ، هَذَا إنْ قِيلَ إنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ تَوْكِيلٌ فَلَهُ عَزْلُهَا مَتَى شَاءَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ وَلَا تَوْكِيلُهَا فِيهِ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا مِمَّنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ؛ فَالنَّقْضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ يَسْتَلْزِمُ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إنَّهُ إذَا عَلَّقَ الْيَمِينَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ لَمْ تَطْلُقْ إذَا حَنِثَ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ، وَجَعَلَهُ بِيَدِهِ رَحْمَةً مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ إلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِفِعْلِهَا لَكَانَ إلَيْهَا إنْ شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ، وَهَذَا خِلَافُ شَرْعِ اللَّهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ الصِّفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ يَمِينًا أَوْ تَعْلِيقًا مَحْضًا، وَهَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ لَزِمَ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَالِالْتِزَامِ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَالِالْتِزَامِ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ نَوَاهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ فِي فَتَاوِيهِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مَقْصُودَيْنِ وَقَعَ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مَقْصُودَيْنِ - وَإِنَّمَا حَلَّ بِهِ قَاصِدًا مَنْعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ - لَمْ يَقَعْ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَالسَّابِعُ: كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ اخْتِيَارُ أَخِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ حَكَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إذَا حَنِثَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، وَحَكَيْنَا لَفْظَهُ. وَالْمَقْصُودُ الْجَوَابُ عَنْ النَّقْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ تَوْكِيلِهَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ فِي النَّقْضِ الثَّالِثِ: " إنَّ فُقَهَاءَ الْكُوفَةِ صَحَّحُوا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ يَسُدُّ بَابَ النِّكَاحِ " فَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: هُوَ سَدٌّ لِبَابِ النِّكَاحِ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ: أُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ الْمُنَجَّزَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُعَلَّقَ؛ إذْ كِلَاهُمَا مُسْتَدْعٍ لِقِيَامِ مَحَلِّهِ، وَلَا مَحَلَّ، فَهَلَّا قَبِلْتُمْ مِنْهُمْ احْتِجَاجَهُمْ عَلَيْكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ قَابِلٍ لِطَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَغْوًا وَبَاطِلًا فَلَا يَنْعَقِدُ، كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُمْ فِي تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ: إنَّهُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فَصْلٌ [إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى مِلْكِهِ] وَأَمَّا النَّقْضُ الرَّابِعُ بِقَوْلِهِ: " كُلُّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ " فَهَذَا لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ قَدْ شُرِعَ طَرِيقًا إلَى زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ، إمَّا بِنَفْسِ الْمِلْكِ كَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَإِمَّا بِاخْتِيَارِ الْإِعْتَاقِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا لِيَعْتِقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُشَرِّعْ اللَّهُ النِّكَاحَ طَرِيقًا إلَى زَوَالِ مِلْكِ الْبُضْعِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، بَلْ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا، وَالْعِتْقُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الشِّرَاءِ تَرْتِيبٌ لِمَقْصُودِهِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ؟ وَكَوْنُهُ قَدْ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مِلْكِ الرَّقِيقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مَقْصُودًا أَوْ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا؛ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَهُوَ قَدْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ صَوْمَ الدَّهْرِ وَسَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الْفِطْرِ. وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا فَلَهُ سَعَةٌ بِمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ تَقَدَّمَ. فَصْلٌ وَأَمَّا النَّقْضُ الْخَامِسُ بِمَنْ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَأَوْلَدَهَا، فَهَذَا أَيْضًا نَقْضٌ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْفَقَهَا فِي شَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ، وَقَعَدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، أَوْ تَزَوَّجَ بِهَا امْرَأَةً وَقَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ وَبَقَاءِ الْمَرْأَةِ كَالْغُلِّ فِي عُنُقِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا؟ فَصْلٌ [لَمْ تُبْنَ الشَّرَائِعُ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ] . وَقَوْلُكُمْ: " قَدْ يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ مَصْلَحَةٌ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ، بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِزَوْجَتِهِ وَيَخْشَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْحَلِفِ أَوْ غَيْرِهِ فَيُسَرِّحُهَا " جَوَابُهُ أَنَّ الشَّرَائِعَ الْعَامَّةَ لَمْ تُبْنَ عَلَى الصُّوَرِ النَّادِرَةِ، وَلَوْ كَانَ لِعُمُومِ الْمُطَلِّقِينَ فِي هَذَا مَصْلَحَةٌ لَكَانَتْ حِكْمَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ تَمْنَعُ الرِّجَالَ مِنْ الطَّلَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَجْعَلُ الزَّوْجَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا. وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى أَوْلَى وَأَلْيَقُ مِنْ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي فِي مُرَاعَاتِهَا تَعْطِيلُ مَصْلَحَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَهَمَّ، وَقَاعِدَةُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ تَحْصِيلُ أَعْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ وَإِنْ فَاتَ أَدْنَاهُمَا، وَدَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ أَدْنَاهُمَا، وَهَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ تَمْلِيكِ الرِّجَالِ الطَّلَاقَ أَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ سَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَفْسَدَةُ سَدِّهِ عَلَيْهِمْ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ فَتْحِهِ لَهُمْ الْمُفْضِيَةُ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ. وَشَرَائِعُ الرَّبِّ تَعَالَى كُلُّهَا حِكَمٌ وَمَصَالِحُ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ، وَإِنَّمَا الْعَبَثُ وَالْجَوْرُ وَالشِّدَّةُ فِي خِلَافِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْحِيَلِ وَقَوَاعِدِهَا، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ بُطْلَانِ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَلَا أُصُولِ الْأَئِمَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا - بَلْ أَكْثَرُهَا - مِنْ تَوْلِيدَاتِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَّا الْأَئِمَّةَ وَتَفْرِيعَهُمْ، الْأَئِمَّةُ بَرَاءٌ مِنْهَا. [فَصْلٌ بُطْلَانُ الْحِيلَةِ بِالْخُلْعِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ] فَصْلٌ [بُطْلَانُ الْحِيلَةِ بِالْخُلْعِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ بِالْخُلْعِ، ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْبَيْنُونَةِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى النِّكَاحِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ شَرْعًا، وَبَاطِلَةٌ عَلَى أُصُولِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ: أَمَّا بُطْلَانُهَا شَرْعًا فَإِنَّ هَذَا خُلْعٌ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْ الزَّوْجَ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ مَتَى شَاءَ؛ فَإِنَّهُ لَازِمٌ، وَإِنَّمَا مَكَّنَهُ مِنْ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَسْخُهُ إلَّا عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَالتَّبَاغُضِ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَشَرَعَ لَهُمَا التَّخَلُّصَ بِالِافْتِدَاءِ؛ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا زَمَنِ أَصْحَابِهِ قَطُّ خُلْعُ حِيلَةٍ، وَلَا فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَعَلَهُ طَرِيقًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُقْتَضِيًا لِلْبَيْنُونَةِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمَرْأَةِ مِنْ الِافْتِدَاءِ مِنْ زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُودَهَا إذَا قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَقَعَ وَلَيْسَتْ زَوْجَتَهُ فَلَا يَحْنَثُ، وَهَذَا إنَّمَا حَصَلَ تَبَعًا لِلْبَيْنُونَةِ التَّابِعَةِ لِقَصْدِهِمَا، فَإِذَا خَالَعَهَا لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمَا الْبَيْنُونَةَ، بَلْ حَلَّ الْيَمِينُ، وَحَلُّ الْيَمِينِ إنَّمَا يَحْصُلُ تَبَعًا لِلْبَيْنُونَةِ لَا أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْخُلْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خُلْعُ الْحِيلَةِ فَجَاءَتْ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ لِأَجْلِ [حَلِّ] الْيَمِينِ، وَحَلُّ الْيَمِينِ جَاءَ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ؛ فَلَيْسَ عَقْدُ الْخُلْعِ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ لِلرَّجُلِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشَرِّعُ عَقْدًا لَا يَقْصِدُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقِيقَتَهُ، وَإِنَّمَا يَقْصِدَانِ بِهِ ضِدَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِتَخْلُصَ الْمَرْأَةُ مِنْ الزَّوْجِ، وَالْمُتَحَيِّلُ يَفْعَلُهُ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ؛ فَالشَّارِعُ شَرَعَهُ لِقَطْعِ النِّكَاحِ، وَالْمُتَحَيِّلُ يَفْعَلُهُ لِدَوَامِ النِّكَاحِ. [فَصْلٌ الْمُتَأَخِّرُونَ هُمْ الَّذِينَ أَحْدَثُوا الْحِيَلَ] . فَصْلٌ [الْمُتَأَخِّرُونَ هُمْ الَّذِينَ أَحْدَثُوا الْحِيَلَ وَنَسَبُوهَا إلَى الْأَئِمَّةِ] وَالْمُتَأَخِّرُونَ أَحْدَثُوا حِيَلًا لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَنَسَبُوهَا إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي نِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ مَعَ الْأَئِمَّةِ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ. وَمَنْ عَرَفَ سِيرَةَ الشَّافِعِيِّ وَفَضْلَهُ وَمَكَانَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِفِعْلِ الْحِيَلِ، وَلَا بِالدَّلَالَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 عَلَيْهَا، وَلَا كَانَ يُشِيرُ عَلَى مُسْلِمٍ بِهَا. وَأَكْثَرُ الْحِيَلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ، تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ، وَأَدْخَلُوهَا فِي مَذْهَبِهِ، وَإِنْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْرِي الْعُقُودَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يَنْظُرُ إلَى قَصْدِ الْعَاقِدِ وَنِيَّتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ كَلَامِهِ، فَحَاشَاهُ ثُمَّ حَاشَاهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَلَا يُظَنُّ بِمَنْ دُونَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنَّهُ يَأْمُرُ أَوْ يُبِيحُ ذَلِكَ؛ فَالْفَرْقُ [ظَاهِرٌ] بَيْنَ أَنْ لَا يَعْتَبِرَ الْقَصْدَ فِي الْعَقْدِ وَيُجْرِيَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَوِّغَ عَقْدًا قَدْ عُلِمَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ. فَوَاَللَّهِ مَا سَوَّغَ الشَّافِعِيُّ وَلَا إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ هَذَا الْعَقْدَ قَطُّ، وَمَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَهُمْ خُصَمَاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ؛ فَاَلَّذِي سَوَّغَهُ الْأَئِمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ يُجْرِي الْأَحْكَامَ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ شُهُودَ زُورٍ، وَاَلَّذِي سَوَّغَهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ شُهُودُ زُورٍ كَذَبَةٌ وَأَنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمَّ يَحْكُمُ بِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمْ. وَهَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَيْنَةِ: إنَّمَا جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ مِمَّنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ جَرْيًا عَلَى ظَاهِرِ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَلَوْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ: " إنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ تَوَاطَآ عَلَى أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، وَتَرَاوَضَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَا السِّلْعَةَ مُحَلَّلًا لِلرِّبَا " لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ، وَلَأَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَلَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُحْكَى عَنْهُ الْإِفْتَاءُ بِالْحِيَلِ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ الْآجُرِّيَّ وَأَنَا وَهُوَ بِمَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ عَنْ هَذَا الْخُلْعِ الَّذِي يُفْتِي بِهِ النَّاسَ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: اخْلَعْ زَوْجَتَكَ وَافْعَلْ مَا حَلَفْتَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَاجِعْهَا، وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا، وَقُلْتُ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يُحِلُّ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ وَيَحْنَثُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ شَيْئًا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْجَبُ مِنْ سُؤَالِي عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: مُنْذُ كَتَبْتُ الْعِلْمَ وَجَلَسْتُ لِلْكَلَامِ فِيهِ وَلِلْفَتْوَى مَا أَفْتَيْتُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَرْفٍ، وَلَقَدْ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا سَأَلْتَنِي عَنْ التَّعَجُّبِ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِمَا، فَأَجَابَنِي فِيهِمَا بِجَوَابٍ كَتَبْتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَخْرَجَ لِي كِتَابَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ وَالنُّشُوزِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَقُلْتُ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُفْتُونَ فِيهَا بِالْخُلْعِ، يُخَالِعُ ثُمَّ يَفْعَلُ، فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا بَلَغَنِي أَنَّ لَهُ فِي هَذَا قَوْلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 مَعْرُوفًا، وَلَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ هَذَا عَنْهُ إلَّا مُحِيلًا. وَالزُّبَيْرِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ وَتَنْزِيهَهُ لِلشَّافِعِيِّ عَنْ خُلْعِ الْيَمِينِ فَكَيْفَ بِحِيَلِ الرِّبَا الصَّرِيحِ وَحِيَلِ التَّحْلِيلِ وَحِيَلِ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالْحُقُوقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ؟ فَصْلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ، وَهُوَ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُنَاقِضَةِ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ، الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَبَيَانُ نَفْيِهَا عَنْ الدِّينِ وَإِخْرَاجِهَا مِنْهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهَا فِيهِ مَنْ أَدْخَلَهَا بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ. [مِنْ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ] وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ فَضْلِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَقَادِيرِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ، وَأَنَّ فَضْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَنُصْحَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُوجِبُ قَبُولَ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَمَا وَقَعَ فِي فَتَاوِيهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَالْحَقُّ فِي خِلَافِهَا لَا يُوجِبُ إطْرَاحَ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَتَنَقُّصَهُمْ وَالْوَقِيعَةَ فِيهِمْ؛ فَهَذَانِ طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنْ الْقَصْدِ، وَقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُمَا، فَلَا نُؤَثِّمُ وَلَا نَعْصِمُ، وَلَا نَسْلُكُ بِهِمْ مَسْلَكَ الرَّافِضَةِ فِي عَلِيٍّ وَلَا مَسْلَكَهُمْ فِي الشَّيْخَيْنِ، بَلْ نَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَثِّمُونَهُمْ وَلَا يَعْصِمُونَهُمْ، وَلَا يَقْبَلُونَ كُلَّ أَقْوَالِهِمْ وَلَا يُهْدِرُونَهَا. فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَسْلَكًا يَسْلُكُونَهُ هُمْ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ؟ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَتَنَافَيَانِ عِنْدَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: جَاهِلٍ بِمِقْدَارِ الْأَئِمَّةِ وَفَضْلِهِمْ، أَوْ جَاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كُنْتُ بِالْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي النَّبِيذِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِسَنَدٍ صَحَّتْ عَنْهُ، فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ أَحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلَّا جِئْنَاهُمْ بِسَنَدٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ، إنَّمَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَبِذْ لَهُ فِي الْجَرِّ الْأَخْضَرِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فَقُلْتُ لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ: يَا أَحْمَقُ، عُدْ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا فَقَالَ: هُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَمَا وَصَفْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَحْذَرَ وَتَخْشَى. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ - وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا - كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: دَعُوا عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ، فَرُبَّ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا، وَعَسَى أَنْ تَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ، أَفَيَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ؟ قَالُوا: كَانُوا خِيَارًا، قُلْتُ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ؟ قَالُوا: حَرَامٌ، فَقُلْتُ: إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا، أَفَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ؟ فَبُهِتُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَآنِي أَبِي وَأَنَا أَنْشُدُ الشِّعْرَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تَنْشُدُ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إنْ أَخَذْتُ بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا وَلَهُ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَّلِ اسْتِذْكَارِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ. فَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمِ الْجَائِرِ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» . وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ: قَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ، قَلَّمَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ، فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتْبَعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتَدَعَ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، قَالُوا: كَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تَرُوعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ، فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ، وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ، وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا. وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ؟ فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ وَتَقُولُونَ نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَا تَقْطَعُوا إيَاسَكُمْ مِنْهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوا وَمَا لَمْ تَعْرِفُوا فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ، ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا وَغَيْرَهُ. فَإِنْ كُنَّا قَدْ حَذَّرْنَا زَلَّةَ الْعَالِمِ وَقِيلَ لَنَا: إنَّهَا مِنْ أَخْوَفِ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا، وَأُمِرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا نَرْجِعَ عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُهَا، بَلْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِهَا إنْ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا، وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا؛ فَكَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُخَرِّجُهَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتْبُوعِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنَّهَا تُفْضِي إلَى ذَلِكَ لَمَا الْتَزَمَهَا، وَأَيْضًا فَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَازِمُ النَّصِّ حَقًّا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ، فَلَازِمُ قَوْلِهِ حَقٌّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ الشَّيْءَ وَيَخْفَى عَلَيْهِ لَازِمُهُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَازِمُهُ لَمَا قَالَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَذْهَبُهُ، وَيَقُولُ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَكُلُّ مَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرِيعَةِ وَقَدْرِهَا وَبِفَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَمَقَادِيرِهِمْ وَعِلْمِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ لِلدِّينِ تَيَقَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ شَاهَدُوا أَمْرَ هَذِهِ الْحِيَلِ وَمَا - أَفَضْتَ إلَيْهِ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِهَا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ الْحِيَلِ وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ قَوَاعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَرَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لِسَانُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لِسَانُ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ، وَمِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُنْتَشِرَةِ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهَا. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ؛ إذْ لَوْ كَانَ مِنْ مَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَتَكَلَّمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْأَئِمَّةُ فِي أَرْبَابِ الْحِيَلِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْغَلِيظِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْهُ الْيَسِيرَ مِنْ الْكَثِيرِ، وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ يُفْتِي بِهَا، وَيَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ الدَّلَالَةُ لِلْمُقَلِّدِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، كَمَا أَنَّ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّبِيذِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ بَعْضِ الْمَدَنِيِّينَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُشُوشِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلِفَ فِيهِ حُدَّ، وَهَذَا فَوْقَ الْإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ، بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُفَسَّقُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يُعْلَمُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ الزِّنَا يُقْتَلُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ لَا يَرَوْنَ خِلَاف أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ وَابْنَتَهُ أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ دَرَاءَةٍ لِلْحَدِّ، بَلْ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقْتَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا فِي هَذَا، مَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ مَعَهُمْ سُنَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً، وَأَرْبَابُ الْحِيَلِ لَيْسَ مَعَهُمْ سُنَّةٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنْ صَاحِبٍ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ. [خَطَأُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ] وَقَوْلُهُمْ: " إنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا " لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ وَالْفَتْوَى أَوْ الْعَمَلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا شَائِعًا وَجَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 إنْكَارُهُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ إنْكَارُ مِثْلِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ، وَكَيْفَ يَقُولُ فَقِيهٌ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ قَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؟ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ لَمْ تُنْكَرْ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا. وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ، كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ تَحْقِيقٌ فِي الْعِلْمِ. وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا مِثْلَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَيُسَوَّغُ فِيهَا - إذَا عُدِمَ فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْعَالِمِ: " إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ أَوْ يَقِينِيَّةٌ، وَلَا يُسَوَّغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ " طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا نِسْبَةٌ لَهُ إلَى تَعَمُّدِ خِلَافِ الصَّوَابِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْخَلْفُ وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا كَثِيرٌ مِثْلَ كَوْنِ الْحَامِلِ تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي شَرْطٌ فِي حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْمُتْعَةَ حَرَامٌ، وَأَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ، وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرُّكُوعِ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ دُونَ التَّطْبِيقِ، وَأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ سُنَّةٌ، وَأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ وَأَنَّ الْوَقْتَ صَحِيحٌ لَازِمٌ، وَأَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَأَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ حَدِيدٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ، وَأَنَّ صِيَامَ الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّتِ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ دُونَ ابْتِدَائِهِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ فِي الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ، وَأَنَّ الْمُصَرَّاةَ يُرَدُّ مَعَهَا عِوَضُ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِرُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَأَنَّ الْقَضَاءَ جَائِزٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، إلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِنَقْضِ حُكْمِ مَنْ حَكَمَ بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ بِهَا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا عُذْرَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ بَلَغَهُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا إذَا نَبَذَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَقَلَّدَ مَنْ نَهَاهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ، وَقَالَ لَهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقُولَ بِقَوْلِي إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ، وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا تَعْبَأْ بِقَوْلِي، وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبًا لَا فُسْحَةَ لَهُ فِيهِ، وَحَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا اتِّبَاعَ الْحُجَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ هَذِهِ الْحِيَلَ، وَلَا يَدُلُّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَوْ بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُفْتِي بِهَا وَلَا يَعْلَمُهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ وَسِيرَتِهِمْ وَفَتَاوِيهمْ، هَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ] فَصْلٌ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيَلِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَمَشَّى لَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَصَالِحِهِ وَحُكْمِهِ وَلَا عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ] قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنْ الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: أَقِرَّ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي بِيَدِكَ وَقْفٌ عَلَيْك مِنْ غَيْرِك، وَيُعَلِّمُونَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي يُرِيدُ إنْشَاءَهَا، فَيَجْعَلُهَا إقْرَارًا؛ فَيُعَلِّمُونَهُ الْكَذِبَ فِي الْإِقْرَارِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ هَذَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِصِحَّتِهَا؟ ثُمَّ إنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا فِي دِينِ اللَّهِ فَقَدْ عَلَّمْتُمُوهُ حَقِيقَةَ الْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ، وَلَا صَارَ وَقْفًا بِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ، فَيَصِيرُ الْمَالُ حَرَامًا عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحًا فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَكَلُّفِ الْكَذِبِ. قُلْتُ: وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ يُسَوَّغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَإِذَا وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ لَسَاغَ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ فَكَذِبٌ بَحْتٌ، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ وَقْفًا اتِّفَاقًا، إذْ أُخِذَ الْإِقْرَارُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ تَقْلِيدَ الْإِنْسَانِ لِمَنْ يُفْتِي بِهَذَا الْقَوْلِ وَيَذْهَبُ إلَيْهِ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ تَوَصُّلِهِ إلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وَالْإِقْرَارِ الْبَاطِلِ؛ فَتَقْلِيدُ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ تَلْقِينِ الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. فَصْلٌ وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى - وَهِيَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ - وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ؛ فَإِنَّ التَّمْلِيكَ الْمَشْرُوعَ الْمَعْقُولَ أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكِ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يَجِبُ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَبْدِ وَمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا الْمُمَلِّكِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى هَذَا، وَلَا خَطَرَ لَهُ عَلَى بَالٍ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَلَعَلَّهُ كَانَ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ إلَّا بِوَقْفِهِ عَلَى الْمُمَلَّكِ خَاصَّةً، بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا إمَّا بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ وَإِمَّا بِشَرْطٍ مَعْهُودٍ مُتَوَاطَأٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ قَطْعًا، وَلَيْسَ بِهِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا هَدِيَّةٍ وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا إبَاحَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعَمِّرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَشَرَطَ الْعَوْدَ، وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُغْنِيَةَ عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةً لِتَأْجِيرِ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ: تَحَيُّلُهُمْ عَلَى إيجَارِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا، وَقَدْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَلَّا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ فَيُؤَجِّرُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَمْ قَدْ مُلِكَ مِنْ الْوُقُوفِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَخَرَجَ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا عَلَى الْوَقْفِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَوَرَثَتُهُ سِنِينَ بَعْدَ سِنِينَ؟ وَكَمْ فَاتَ الْبُطُونَ اللَّوَاحِقَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ بِالْإِيجَارِ الطَّوِيلِ؟ وَكَمْ أُوجِرَ الْوَقْفُ بِدُونِ إجَارَةِ مِثْلِهِ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَقَبْضِ الْأُجْرَةِ؟ وَكَمْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْعَقَارُ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَفَاسِدُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ تُفَوِّتُ الْعَدَّ، وَالْوَاقِفُ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَهَا، وَخَشِيَ مِنْهَا بِالْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 فَإِيجَارُهُ أَكْثَرَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي عَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ مُخَالِفَةٌ صَرِيحَةٌ لِشَرْطِهِ، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ بَلْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ. وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ، هَلْ تَزُولُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ بِتَعَدُّدِ الْعُقُودِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَمْنَعَ الْإِجَارَةَ لِأَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُجَوِّزُهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ؟ وَإِذَا أَجَّرَهُ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، أَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَفَّى بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ؟ هَذَا مَنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ وَأَقْبَحِ الْحِيَلِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَتَعْرِيضٌ لِإِبْطَالِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَمِرَّ نَفْعُهَا، وَأَلَّا يَصِلَ إلَى مَنْ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَمَا قَارَبَهَا، فَلَا يَحِلُّ لِمُفْتٍ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ، وَلَا لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَمَتَى حَكَمَ بِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، بِأَنْ يَخْرَبَ وَيَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ فَتَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى إيجَارِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً يَعْمُرُ فِيهَا بِتِلْكَ الْأُجْرَةِ، فَهُنَا يَتَعَيَّنُ مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ تَصْحِيحًا لِوَقْفِهِ وَاسْتِمْرَارًا لِصَدَقَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا مِنْ بَيْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ أَوْ الِاسْتِبْدَالُ خَيْرًا مِنْ الْأُجْرَةِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ. وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ التَّحَيُّلُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَقَصْدِهِ الَّذِي يَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَصْدُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَفْسَدَةِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ شَرْطِهِ وَلَفْظِهِ الْمُخَالِفِ لِقَصْدِهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَصْلَحَةِ الْوَاقِفِ وَزِيَادَةِ أَجْرِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَحُصُولِ الرِّفْقِ بِهِ مَعَ كَوْنِ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا يُغَيِّرُ شَرْطَ الْوَاقِفِ، وَيَجْرِي مَعَ ظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ قَصْدُهُ بِخِلَافِهِ. وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ قِلَّةِ الْفِقْهِ؟ بَلْ مِنْ عَدَمِهِ، فَإِذَا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى إبْطَالِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ فَهَلَّا تَحَيَّلْتُمْ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ حَيْثُ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ الرَّاجِحَةَ بِتَخْصِيصِ لَفْظِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ أَوْ تَقْدِيمِ شَرْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ شَرْطَ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ، بَلْ يَقُولُونَ هَا هُنَا: نُصُوصُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَبْطَلْ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ لِنُصُوصِ الشَّارِعِ نَظِيرٌ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ أَبَدًا، بَلْ نُصُوصُ الْوَاقِفِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَجِبُ إبْطَالُهَا إذَا خَالَفَتْ نُصُوصَ الشَّارِعِ وَإِلْغَاؤُهَا، وَلَا حُرْمَةَ لَهَا حِينَئِذٍ أَلْبَتَّةَ، وَيَجُوزُ - بَلْ يَتَرَجَّحُ - مُخَالَفَتُهَا إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهَا وَأَنْفَعُ لِلْوَاقِفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهَا وَالْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ تَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ مَعَهَا، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَا بَعْدُ، وَنُبَيِّنُ مَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِهِ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ؛ إذْ الْقَصْدُ بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيلَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلُغَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَمِثْلُهُ لَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يَبِيعَ كَذَا، وَلَا يَحْرُثَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَلَا يَزْرَعُهَا، وَلَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ بَلَدِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْ أَبْرَدِ الْحِيَلِ وَأَسْمَجِهَا وَأَقْبَحِهَا، وَفِعْلُ ذَلِكَ هُوَ الْحِنْثُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّهُ حَانِثٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَفَظَةُ - بَلْ وَالْحَالِفُ نَفْسُهُ - أَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ ذَلِكَ، لَا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَالْحِيَلُ إذَا أَفَضْت إلَى مِثْلِ هَذَا سَمُجَتْ غَايَةَ السَّمَاجَةِ، وَيَلْزَمُ أَرْبَابُ الْحِيَلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِفُلَانٍ تَوْقِيعًا وَلَا عَهْدًا ثُمَّ أَمَرَ كُتَّابَهُ أَنْ يَكْتُبُوهُ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ كَاتِبًا، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَحْفِرَ هَذَا الْبِئْرَ، وَلَا يُكْرِيَ هَذَا النَّهْرَ، فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِحَفْرِهِ وَإِكْرَائِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، أَوْ لَا يَسْكُنُ فِي الدَّارِ هَذِهِ السَّنَةَ، أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ، قَالُوا: يَأْكُلُ الرَّغِيفَ وَيَدَعُ مِنْهُ لُقْمَةً وَاحِدَةً، وَيَسْكُنُ السَّنَةَ كُلَّهَا إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ كُلَّهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ وَلَوْ أَنَّهُ لُقْمَةٌ. وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ بَارِدَةٌ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْحِنْثِ، وَفَعَلَ نَفْسَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَحْنَثُ بِفِعْلِ [بَعْضِ] الْمَحْلُوفِ [عَلَيْهِ] وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا أَكَلَ لُقْمَةً مَثَلًا مِنْ الطَّعَامِ الذِّمِّيِّ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُهُ أَوْ حَبَّةً مِنْ الْقِطْفِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْقِطْفَ إلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً مِنْهُ، وَعَالِمٌ لَا يَقُولُ هَذَا. ثُمَّ يَلْزَمُ هَذَا الْمُتَحَيِّلُ أَنْ يُجَوِّزَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلَ كُلِّ مَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ جُمْلَتِهِ فَيَفْعَلُهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ لَا يَبَرُّ إلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ جَمِيعِهِ، لَا بِفِعْلِ بَعْضِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ مُطِيعًا إلَّا بِفِعْلِهِ جَمِيعِهِ، وَيَحْنَثُ بِفِعْلِ بَعْضِهِ كَمَا يَعْصِي بِفِعْلِ بَعْضِهِ، فَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ يُجَوِّزَ لِلْمُحْرِمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فِي الْإِحْرَامِ حَلْقَ تِسْعَةِ أَعْشَارِ رَأْسِهِ، بَلْ وَتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعُشْرِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ كُلِّهِ، لَا عَنْ بَعْضِهِ، كَمَا يُفْتِي لِمَنْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَنْ يَحْلِقَهُ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهُ. وَتَأَمَّلْ لَوْ فَعَلَ الْمَرِيضُ هَذَا فِيمَا نَهَاهُ الطَّبِيبُ عَنْ تَنَاوُلِهِ، هَلْ يُعَدُّ قَابِلًا مِنْهُ؟ أَوْ لَوْ فَعَلَ مَمْلُوكُ الرَّجُلِ أَوْ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ ذَلِكَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، هَلْ يَكُونُونَ مُطِيعِينَ لَهُ أَمْ مُخَالِفِينَ؟ وَإِذَا تَحَيَّلَ أَحَدُهُمْ عَلَى نَقْضِ غَرَضِ الْآمِرِ وَإِبْطَالِهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ، هَلْ كَانَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَحْمَدُهُ عَلَيْهِ أَوْ يَعْذِرُهُ؟ وَهَلْ يَعْذِرُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ؟ فَكَيْفَ يُعَامِلُ هُوَ بِهَذَا مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ؟ [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْحَضَانَةِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَا لَوْ أَرَادَ الْأَبُ إسْقَاطَ حَضَانَةِ الْأُمِّ أَنْ يُسَافِرَ إلَى غَيْرِ بَلَدِهَا، فَيَتْبَعُهُ الْوَلَدُ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مُنَاقِضَةٌ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْأُمَّ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ مَعَ قُرْبِ الدَّارِ وَإِمْكَانِ اللِّقَاءِ كُلَّ وَقْتٍ لَوْ قَضَى بِهِ لِلْأَبِ، وَقَضَى أَنْ لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنَعَ أَنْ تُبَاعَ الْأُمُّ دُونَ وَلَدِهَا وَالْوَلَدُ دُونَهَا، وَإِنْ كَانَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا التَّحَيُّلِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا تَفْرِيقًا تَعِزُّ مَعَهُ رُؤْيَتُهُ وَلِقَاؤُهُ وَيَعِزُّ عَلَيْهَا الصَّبْرُ عَنْهُ وَفَقْدُهُ؟ وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ، بَلْ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَقُّ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْأُمِّ: سَافَرَ الْأَبُ أَوْ أَقَامَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأُمِّ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» فَكَيْفَ يُقَالُ: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يُسَافِرْ الْأَبُ؟ وَأَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فَتَاوَى أَصْحَابِهِ أَوْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ؟ فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ وَلَا مَصْلَحَةَ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِجَعْلِ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ نَافِذَةً] فَصْلٌ (إبْطَالُ حِيلَةً لِجَعْلِ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ نَافِذَةً) : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ حِرْمَانَ امْرَأَتِهِ [مِنْ] الْمِيرَاثِ، أَوْ كَانَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا عَبِيدًا وَإِمَاءً فَأَرَادَ جَعْلَ تَدْبِيرِهِمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَنْ يَقُولَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: إذَا مِتُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَرَضِي بِسَاعَةٍ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: إذَا مِتُّ فِي مَرَضِي هَذَا فَأَنْتُمْ عُتَقَاءُ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ. وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُقَارِنْهُ أَثَرُهُ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ لَكَانَ الْعِتْقُ مِنْ الثُّلُثِ وَالطَّلَاقُ غَيْرُ مَانِعٍ لِلْمِيرَاثِ، مَعَ مُقَارَنَةِ أَثَرِهِ لَهُ، وَقُوَّةِ الْمُنَجَّزِ وَضَعْفِ الْمُعَلَّقِ، وَأَيْضًا فَالشَّرْطُ هُوَ مَوْتُهُ فِي مَرَضِهِ، وَالْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ هُوَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، وَالْجَزَاءُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْبِقَ شَرْطَهُ؛ إذْ فِي ذَلِكَ إخْرَاجُ الشَّرْطِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا دِينَارٌ رَدِيءٌ وَمَعَ الْآخَرِ نِصْفُ دِينَارٍ جَيِّدٍ، فَأَرَادَ بَيْعَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: الْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ دِينَارًا بِدِينَارٍ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يَأْخُذَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ بِالنِّصْفِ، فَيُرِيدُ الْآخَرُ دِينَارًا عِوَضَهُ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الدِّينَارِ وَفَاءً، ثُمَّ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ، فَيَبْقَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَفَاءً عَنْ قَرْضِهِ، فَيَبْرَأُ مِنْهُ، وَيَفُوزُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا كَانَ مَعَ الْآخَرِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ دِينَارًا يُوَفِّيهِ إيَّاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ نِصْفُ دِينَارٍ وَيُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ دِينَارًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ دِينَارًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يُوَفِّيهِ نِصْفَ الدِّينَارِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يُوَفِّيهِ إيَّاهُ عَمَّا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَيَتَفَرَّقَانِ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ نِصْفُ دِينَارٍ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مِنْ أَقْبَحِ الْحِيَلِ؛ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْرُجَانِ بِهَا عَنْ بَيْعِ دِينَارٍ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَلَا عَنْ تَأْخِيرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ تَوَصَّلَا إلَى ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي جَعَلَا صُورَتَهُ مُبِيحَةً لِصَرِيحِ الرِّبَا، وَلِتَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَهَذَا غَيْرُ الْقَرْضِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ قَرْضٌ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ تَلَاعُبًا بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، وَاِتِّخَاذًا لِآيَاتِهِ هُزُوًا، وَإِذَا كَانَ الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ النَّفْعَ رِبًا عِنْدَ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ صَرِيحَ الرِّبَا وَتَأْخِيرُ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى إسْقَاطِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا لِلشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَالتَّحَيُّلُ لِإِبْطَالِهَا مُنَاقِضٌ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِبْطَالٌ لِهَذَا الْحُكْمِ بِطَرِيقِ التَّحَيُّلِ. وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا مِنْ الْحِيَلِ. مِنْهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارِ الثَّمَنِ، ثُمَّ عِنْدَ الْعَقْدِ يَصْبِرُهُ صُبْرَةً غَيْرَ مَوْزُونَةٍ، فَلَا يَعْرِفُ الشَّفِيعُ مَا يَدْفَعُ، فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ الثَّمَنِ، فَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَإِنْ حَلَفَ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِقِيمَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَهَبَ الشِّقْصَ لِلْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَهَبَهُ الْمُشْتَرِي مَا يُرْضِيهِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، وَهَذَا بَيْعٌ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظَا بِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِنَظِيرِ الْمَوْهُوبِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ، وَيَضُمَّ إلَيْهِ سِكِّينًا أَوْ مَنْدِيلًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَيَصِيرُ حِصَّةُ الشِّقْصِ مِنْ الثَّمَنِ مَجْهُولَةً. وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، بَلْ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ [هـ] بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ، وَإِلَّا فَبِقِيمَتِهِ. وَهَذَا الشِّقْصُ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الشَّفِيعَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ بِالْحِيلَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ يُصَارِفَهُ عَنْ كُلِّ دِينَارٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِذَا أَرَادَ أَخْذَهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، وَإِذَا أَرَادَ أَخْذَهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ؛ فَاَلَّذِي يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ عِنْدَ الْأَخْذِ. هَذَا مَحْضُ الْعَدْلِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِيعَةُ سِوَاهُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ بَائِعُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تُبْطِلُ الشُّفْعَةَ، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ الشِّقْصَ بِأَلْفٍ وَهُوَ يُسَاوِي مِائَةً، ثُمَّ يُبْرِئُهُ الْبَائِعُ مِنْ تِسْعِ مِائَةٍ. وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ، وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ. وَهَذَا لَا يُسْقِطُهَا، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِالثَّمَنِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَالْمَوْهُوبُ هُوَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ، وَلَا تُغَيَّرُ حَقَائِقُ الْعُقُودِ وَأَحْكَامُهَا الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُغَيِّرَ حُكْمَ الْعَقْدِ بِتَغْيِيرِ عِبَارَتِهِ فَقَطْ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا لَوْ أَرَادَ مِنْ الْبَائِعِ أَنْ يَهَبَهُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الشِّقْصِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَهَبُهُ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفٍ بِلَا عِوَضٍ؟ وَكَيْفَ يَشْتَرِي مِنْهُ. الْآخَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا سَفَهٌ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي هَذِهِ الْحِيَلِ وَأَشْبَاهِهَا: مَنْ يَخْدَعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَالْحِيلَةُ خَدِيعَةٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الْخَدِيعَةُ لِمُسْلِمٍ» وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُخَادِعِينَ، وَالْمُتَحَيِّلُ مُخَادِعٌ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ شُرِعَ التَّحَيُّلُ لِإِبْطَالِهَا لَكَانَ عَوْدًا عَلَى مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ بِالْإِبْطَالِ، وَلَلَحِقَ الضَّرَرُ الَّذِي قَصَدَ إبْطَالَهُ. [فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ الْقِسْمَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَفْوِيتِ حَقِّ الْقِسْمَةِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِ الْقِسْمَةِ فِي الْأَرْضِ الْقَابِلَةِ لَهَا، بِأَنْ يَقِفَ الشَّرِيكُ مِنْهَا سَهْمًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَهْمٍ مَثَلًا عَلَى مَنْ يُرِيدُ، فَيَصِيرُ الشَّرِيكُ شَرِيكًا فِي الْوَقْفِ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ؛ فَتَبْطُلُ. وَهَذِهِ حِيلَةٌ فَاسِدَةٌ بَارِدَةٌ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الشَّرِيكِ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَلَوْ وَقَفَ حِصَّتَهُ كُلَّهَا؛ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مُعَاوَضَةً، وَهِيَ غَيْرُ الْبَيْعِ حَقِيقَةً وَاسْمًا وَحُكْمًا وَعُرْفًا، وَلَا يُسَمَّى الْقَاسِمُ بَائِعًا لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَلَا يُقَالُ لِلشَّرِيكَيْنِ إذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 تَقَاسَمَا تَبَايَعَا، وَلَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّهُ قَدْ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُتَقَاسِمَانِ تَحْتَ نَصِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّصُوصِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْبَيْعِ، وَلَا يُقَالُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا أَفْرَزَ الْوَقْفَ وَقَسَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ إنَّهُ قَدْ بَاعَ الْوَقْفَ، وَلِلْآخَرِ إنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الْوَقْفَ، وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْقِسْمَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَوَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ؟ وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَيْهَا إذَا طَلَبَهَا شَرِيكُهُ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ، وَيَلْزَمُ إخْرَاجُ الْقُرْعَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَيَتَقَدَّرُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ فِيهَا بِقَدْرِ النَّصِيبِ الْآخَرِ إذَا تَسَاوَيَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْبَيْعِ بِاسْمِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَحُكْمِهَا. [فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى تَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْقَوْلِ بِفَسَادِهَا] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى تَصْحِيحِ الْمُزَارَعَةِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا، بِأَنْ يَدْفَعَ الْأَرْضَ إلَى الْمُزَارِعِ وَيُؤَجِّرَهُ نِصْفَهَا مَشَاعًا مُدَّةً مَعْلُومَةً يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لِلْمُؤَجِّرِ النِّصْفَ الْآخَرَ بِبَذْرِهِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَحْفَظَهُ وَيَسْقِيَهُ وَيَحْصُدَهُ وَيُذَرِّيَهُ، فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ أُخْرِجَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ نِصْفًا مِنْ الْمَالِكِ وَنِصْفًا مِنْ الْمُزَارِعِ، ثُمَّ خَلَطَاهُ، فَتَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ ثُلُثَا الْغَلَّةِ آجَرَهُ ثُلُثَ الْأَرْضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ ثُلُثَيْ الْأَرْضِ وَيُخْرِجَانِ الْبَذْرَ مِنْهُمَا أَثْلَاثًا وَيَخْلِطَانِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثَا الْبَذْرِ اسْتَأْجَرَ ثُلُثَيْ الْأَرْضِ بِزَرْعِ الثُّلُثِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْحِيلَةَ الطَّوِيلَةَ الْبَارِدَةَ الْمُتْعِبَةَ، وَتَرْكَ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَأَنَّهَا رَأْيُ عَيْنٍ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ، وَصَحَّ فِعْلُهَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ صِحَّةً لَا يُشَكُّ فِيهَا، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَمَا مِثْلُ هَذَا الْعُدُولِ عَنْ طَرِيقَةِ الْقَوْمِ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ الطَّوِيلَةِ السَّمِجَةِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ الطَّرِيقُ مَسْدُودَةٌ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحُجَّ فَاذْهَبْ إلَى الشَّامِ ثُمَّ مِنْهَا إلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ حُجَّ عَلَى دَرْبِ الْعِرَاقِ وَقَدْ وَصَلْتَ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ، كَيْفَ تُسَدُّ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْقَرِيبَةُ السَّهْلَةُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ الَّتِي سَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَيَدُلُّ عَلَى الطُّرُقِ الطَّوِيلَةِ الصَّعْبَةِ الْمَشَقَّةِ الْخَطِرَةِ الَّتِي لَمْ يَسْلُكْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ فَلِلَّهِ الْعَظِيمِ عَظِيمُ حَمْدٍ ... كَمَا أَهْدَى لَنَا نِعَمًا غِزَارَا وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْحِيَلِ إذْ كَانَتْ صَحِيحَةً جَائِزَةً، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَاطِلَةً مُحَرَّمَةً فَتِلْكَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ، وَهِيَ طَرِيقٌ إلَى مَقْصِدٍ آخَرَ غَيْرَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تُسْقِطُ الْحَقَّ إذَا أَرَادَ الِابْنُ مَنْعَ الْأَبِ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ إيَّاهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَرَادَتْ مَنْعَ الزَّوْجِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَاعَتْهُ ثُمَّ اسْتَقَالَتْهُ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَإِنَّ الْمَحْذُورَ إبْطَالُ حَقٍّ لِغَيْرٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَهَذَا لَا يُبْطِلُ لِلْغَيْرِ حَقًّا، وَالزَّائِلُ الْعَائِدُ كَاَلَّذِي لَمْ يَزُلْ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ زَوَالُهُ إنَّمَا جُعِلَ ذَرِيعَةً وَصُورَةً إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ تَعَلُّقًا قَدَّمَ الشَّارِعُ مُسْتَحِقَّهُ عَلَى الْمَالِكِ لِقُوَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ صُورَةُ إخْرَاجِهِ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ إخْرَاجًا لَا حَقِيقَةً لَهُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي أَثْبَتَ الشَّارِعُ بِهِ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْإِخْرَاجُ حَقِيقَةً ثُمَّ عَادَ لَعَادَ حَقُّ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَخْذِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَزَوَالِ مَانِعِهِ، وَالْحُكْمُ إذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضٍ فَمَنَعَ مَانِعٌ مِنْ إعْمَالِهِ ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ اقْتَضَى الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِبَعْضِ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ، وَأَنَّ عَطِيَّتَهُ فِي مَرَضِهِ وَصِيَّةٌ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: كُنْتُ وَهَبْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا فِي صِحَّتِي، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ، فَيَتَقَدَّمُ بِهِ. وَهَذَا بَاطِلٌ، وَالْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ لِلتُّهْمَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَلْ مَالِكٌ يَرُدُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ إذَا ظَهَرَتْ التُّهْمَةُ، وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا إقْرَارُهُ أَنَّهُ كَانَ وَهَبَهُ إيَّاهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَا يُقْبَلُ أَيْضًا كَمَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ عَقْدِ التَّبَرُّعِ الْمَذْكُورِ؛ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِبُطْلَانِ الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَبِهَذَا يَزُولُ النَّقْضُ بِالصُّوَرِ الَّتِي يَمْلِكُ فِيهَا الْإِقْرَاءَ دُونَ الْإِنْشَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ الْإِنْشَاءِ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْإِقْرَارِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحَابِيَ وَارِثَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَبِيعَ أَجْنَبِيًّا شَفِيعُهُ وَارِثُهُ شِقْصًا بِدُونِ ثَمَنِهِ، لِيَأْخُذَهُ وَارِثُهُ بِالشُّفْعَةِ. فَمَتَى قَصَدَ ذَلِكَ حُرِّمَتْ الْمُحَابَاةُ الْمَذْكُورَةُ، وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا إذَا كَانَتْ حِيلَةً عَلَى مُحَابَاةِ الْوَارِثِ، وَهَذَا كَمَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّخَذُ حِيلَةً لِتَخْصِيصِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ، إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَ حِيلَةً فَأُصُولُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَنْ اعْتَبَرَ سَدَّ الذَّرَائِعِ فَأَصْلُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَخْذِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِيلَةَ، فَإِنْ قَصَدَ التَّحَيُّلَ امْتَنَعَ الْأَخْذُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ امْتَنَعَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا أَوْضَحَ رَأْسَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِذَا أَرَادَ جَعَلَهَا خَمْسَةً فَلْيُوضِحْهُ ثَالِثَةً تَخْرِقُ مَا بَيْنَهُمَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَعَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فَإِنَّهُمَا لَا تُسْقِطُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَشْرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِانْدِمَالِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَهِيَ مُوضِحَةٌ ثَالِثَةٌ، وَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ أَرْشُ الْمُوضِحَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ وَاحِدَةً مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَرَتْ الْجِنَايَةُ حَتَّى خَرَقَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَاحِدَةً. وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا بَعْدَ أُصْبُعٍ مِنْ امْرَأَةٍ حَتَّى قَطَعَ أَرْبَعًا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عِشْرُونَ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثِ وَجَبَ ثَلَاثُونَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ الرَّابِعَةَ بَعْدَ الِانْدِمَالِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا عَشْرَةٌ، كَمَا لَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشُ جِنَايَتِهِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَ رَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَاتٌ، فَإِنْ انْدَمَلَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ مَعَ تِلْكَ الدِّيَاتِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ عُضْوًا عُضْوًا حَتَّى مَاتَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيَلٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيَلُ الَّتِي فُتِحَتْ لِلسُّرَّاقِ وَاللُّصُوصِ الَّتِي لَوْ صَحَّتْ لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ أَبَدًا، وَلَعَمَّ الْفَسَادُ، وَتَتَابَعَ السُّرَّاقُ فِي السَّرِقَةِ. فَمِنْهَا: أَنْ يَنْقُبَ أَحَدُهُمَا السَّطْحَ وَلَا يَدْخُلَ، ثُمَّ يُدْخِلَ عَبْدَهُ أَوْ شَرِيكَهُ فَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ السَّطْحِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَنْزِلَ أَحَدُهُمَا مِنْ السَّطْحِ، فَيَفْتَحَ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ، وَيَدْخُلُ الْآخَرُ فَيُخْرِجُ الْمَتَاعَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ عَبْدُهُ، فَبِمُجَرَّدِ مَا يَدَّعِي ذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، وَالنَّاسُ تَعْرِفُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَأَبْلُغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ السَّارِقُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لِسَيِّدِهِ وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ، قَالُوا: فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى. وَمِنْهَا: أَنْ يَبْلَعَ الْجَوْهَرَةَ أَوْ الدَّنَانِيرَ وَيَخْرُجَ بِهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يُغَيِّرَ هَيْئَةَ الْمَسْرُوقِ بِالْحِرْزِ ثُمَّ يَخْرُجَ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَدْخَلَهُ دَارِهِ، وَفَتَحَ لَهُ بَابَ دَارِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ وَإِنْ كَذَّبَهُ، إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَقِيقَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقٍ أَلْبَتَّةَ. وَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ بَاطِلَةٌ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ، وَلَا تُثِيرُ أَدْنَى شُبْهَةٍ، وَمُحَالٌ أَنْ تَأْتِيَ شَرِيعَةٌ بِإِسْقَاطِ عُقُوبَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ بِهَا، بَلْ وَلَا سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ؛ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَفِي هَذِهِ الْحِيَلِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ، وَلَوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ وَضَعَ عُقُوبَةً عَلَى جَرِيمَةٍ مِنْ الْجَرَائِمِ لِمَصْلَحَةِ رَعِيَّتِهِ، ثُمَّ أَسْقَطَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ عُدَّ مُتَلَاعِبًا. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَدِّ الزِّنَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَتُرْفَعُ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْأَرْضِ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الْمَرْأَةَ لِتَطْوِيَ لَهُ ثِيَابَهُ، أَوْ تُحَوِّلَ لَهُ مَتَاعًا مِنْ جَانِبِ الدَّارِ إلَى جَانِبٍ آخَرَ، أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا لِنَفْسِ الزِّنَا، ثُمَّ يَزْنِي بِهَا؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ بِأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ ابْنَته أَوْ خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَلْيَعْقِدْ عَلَيْهَا عَقْدَ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، ثُمَّ يَطَؤُهَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُحْصَنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَزْنِيَ وَلَا يُحَدَّ فَلْيَرْتَدَّ ثُمَّ يُسْلِمْ فَإِنَّهُ إذَا زَنَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا جَدِيدًا. وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأُمِّهِ وَخَافَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلْيَقْتُلْهَا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقَدْحُ فِيهِمْ فَلْيُصَدِّقْهُمْ. فَإِذَا صَدَقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَلَا يَخْفَى أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ وَنِسْبَتُهَا إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَلْ هِيَ نِسْبَةٌ مُوَافِقَةٌ أَوْ هِيَ نِسْبَةٌ مُنَاقِضَةٌ؟ . [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِبْرَارِ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ الْأَوَّلِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْقَمْحِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَطْحَنَهُ وَيَعْجِنَهُ وَيَأْكُلَهُ خُبْزًا، وَطَرْدُ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الشَّاةَ فَلْيَذْبَحْهَا وَلْيَطْبُخْهَا ثُمَّ يَأْكُلْهَا، وَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ النَّخْلَةَ فَلْيَجِذَّ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَأْكُلْهَا، فَإِنْ طَرَدُوا ذَلِكَ فَمِنْ الْفَضَائِحِ الشَّنِيعَةِ، وَإِنْ فَرَّقُوا تَنَاقَضُوا، فَإِنْ قَالُوا: " الْحِنْطَةُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا صِحَاحًا بِخِلَافِ الشَّاةِ وَالنَّخْلَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهَا ذَلِكَ " قِيلَ: وَالْعَادَةُ أَنَّ الْحِنْطَةَ لَا يَأْكُلُهَا صِحَاحًا إلَّا الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ، وَإِنَّمَا تُؤْكَلُ خُبْزًا، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ عِنْدَ الْحَالِفِ وَكُلِّ عَاقِلٍ. [فَصْلٌ مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّحْمَ] فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْمُضَاهِيَةِ لِلْحِيلَةِ الْيَهُودِيَّةِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّحْمَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُذِيبَهُ ثُمَّ يَأْكُلَ. وَهَذَا كُلُّهُ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، قَالُوا: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟» وَتَصْدِيقُ قَوْلِهِ: «لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَا أَخَذَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى عَلَانِيَةً لَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي الشُّحُومِ هِيَ حِيلَةُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهَا، بَلْ أَبْلَغُ مِنْهَا، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَأْكُلُوا الشَّحْمَ بَعْدَ إذَابَتِهِ وَإِنَّمَا أَكَلُوا ثَمَنَهُ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ الطَّوْلِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ الطَّوْلِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ أَنْ يُمَلِّكَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ ثُمَّ يَعْقِدَ عَلَى الْأَمَةِ ثُمَّ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَرْفَعُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي حُرِّمَ لِأَجْلِهَا نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَا تُخَفِّفُهَا، وَلَا تَجْعَلُهُ عَادِمًا لِلطَّوْلِ؛ فَلَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَهَذِهِ الْحِيلَةُ حِيلَةٌ عَلَى اسْتِبَاحَةِ نَفْسِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الْحِيلَةُ فِيمَا إذَا عَلَّى كَافِرٌ بِنَاءَهُ عَلَى مُسْلِمٍ] فَصْلٌ وَمِنْهَا لَوْ عَلَّى كَافِرٌ بِنَاءَهُ عَلَى مُسْلِمٍ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُعَلِّيَهَا مُسْلِمٌ مَا شَاءَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْكَافِرُ مِنْهُ فَيَسْكُنُهَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ وَإِنْ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ فَهِيَ مِمَّا أُدْخِلَتْ فِي الْمَذْهَبِ غَلَطًا مَحْضًا، وَلَا تُوَافِقُ أُصُولَهُ وَلَا فُرُوعَهُ؛ فَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَدَمُ تَمْكِينِهِ مِنْ سُكْنَاهَا؛ فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِ الْبِنَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي تَرَفُّعِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ. [فَصْلٌ إسْقَاطُ حِيلَةٍ لِإِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مِنْ الضَّمَانِ] فَصْلٌ [إسْقَاطُ حِيلَةٍ لِإِبْرَاءِ الْغَاصِبِ مِنْ الضَّمَانِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ إذَا غَصَبَهُ طَعَامًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَلَا يُعْلِمَهُ بِهِ، فَلْيَدْعُهُ إلَى دَارِهِ، ثُمَّ يُقَدِّمُ لَهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ، فَإِذَا أَكَلَهُ بَرِئَ الْغَاصِبُ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ إيَّاهُ، وَلَا مَكَّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ رَادًّا لِعَيْنِ مَالِهِ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالُهُ؟ قِيلَ: إنْ خَافَ مِنْ إعْلَامِهِ بِهِ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ مِنْهُ بَرِئَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَافَأَهُ عَلَى الْهَدِيَّةِ فَقَبِلَ، فَهَذَا لَا يَبْرَأُ قَطْعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الْأَيْمَانِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الْأَيْمَانِ] مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ بِلَا شَكٍّ الْحِيَلُ الَّتِي يُفْتِي بِهَا مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ ثُمَّ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّهُ، فَيَتَحَيَّلُ لَهُ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِلَا حِنْثٍ، وَذَكَرُوا لَهَا صُوَرًا: أَحَدَهَا: أَنْ يَحْلِفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ، ثُمَّ يَحْلِفُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَيَأْكُلَنَّهُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْكُلَهُ إلَّا لُقْمَةً مِنْهُ، فَلَا يَحْنَثُ. وَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الْجُبْنَ، ثُمَّ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ، قَالُوا: فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْكُلَهُ بِالْخُبْزِ، وَيَبَرَّ وَلَا يَحْنَثَ. وَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، ثُمَّ حَلَفَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَيَلْبَسَنَّهُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا ثُمَّ يَلْبَسُهُ، فَلَا يَحْنَثُ. وَطَرْدُ قَوْلِهِمْ أَنْ يُنْسِلَ مِنْهُ خَيْطًا ثُمَّ يَلْبَسَهُ. وَلَا يَخْفَى أَمْرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَبُطْلَانُهَا، وَأَنَّهَا مِنْ أَقْبَحِ الْخِدَاعِ وَأَسْمَجِهِ، وَلَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَلَا فُرُوعِهِ وَلَا أُصُولِ الْأَئِمَّةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بِتَرْكِ الْبَعْضِ لَا يُعَدُّ آكِلًا وَلَا لَابِسًا فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ إنْ عُدَّ فَاعِلًا وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ، وَإِنْ لَمْ يُعَدَّ فَاعِلًا وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ، فَأَمَّا أَنْ يُعَدَّ فَاعِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الثُّبُوتِ وَغَيْرِ فَاعِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفْيِ فَتَلَاعُبٌ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِهِمَا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيَلٍ فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِهِمَا] وَمِنْهَا الْحِيَلُ الَّتِي تُبْطِلُ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْحِيلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: إنْ تَظَاهَرْتُ مِنْكِ أَوْ آلَيْتُ مِنْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَلَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظِهَارٌ وَلَا إيلَاءٌ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: إنْ أَعْتَقْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذِهِ الْحِيَلِ كُلِّهَا. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِحُسْبَانِ الدَّيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِحُسْبَانِ الدَّيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، وَقَدْ أَفْلَسَ غَرِيمُهُ وَأَيِسَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 أَخَذَهُ مِنْهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْسِبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْوَفَاءِ، فَيُطَالِبُهُ حِينَئِذٍ بِالْوَفَاءِ، فَإِذَا أَوْفَاهُ بَرِئَ وَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْ الدَّافِعِ. وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ دَيْنِهِ، فَكُلُّ هَذَا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ الزَّكَاةَ، وَلَا يُعَدُّ مَخْرَجًا لَهَا لَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا كَمَا لَوْ أَسْقَطَ دَيْنَهُ وَحَسَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ، قَالَ: يُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْكَ هُوَ لَكَ، وَيَحْسِبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَيَدْفَعُ إلَيْهِ زَكَاتَهُ فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَى مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَعْطَاهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ؟ - قَالَ: إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَحَسِبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: إذَا أَرَادَ بِهَذَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَمُطْلَقُ كَلَامِهِ يَنْصَرِفُ إلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ؛ فَيَحْصُلُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ وَاسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ لِلَّهِ وَلِلْمُسْتَحِقِّ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الدَّافِعِ، يَفُوزُ بِنَفْعِهَا الْعَاجِلِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بِعِوَضِهَا، فَقَالَ: " لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " فَجَعَلَهُ بِشِرَائِهَا مِنْهُ بِثَمَنِهَا عَائِدًا فِيهَا، فَكَيْفَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ بِنِيَّةِ أَخْذِهَا مِنْهُ؟ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا جَاءَ الْمُصَدَّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَكَ، وَلَا تَشْتَرِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: " ابْتَعْهَا " فَأَقُولُ: إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكِ. وَلِلْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهِ عِلَّتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُتَّخَذُ ذَرِيعَةً وَحِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحِي مِنْهُ فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا أَرْخَصَهَا لِيَطْمَعَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ فَيَقُولُ: ظَفَرِي بِهَذَا الثَّمَنِ خَيْرٌ مِنْ الْحِرْمَانِ. الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: قَطْعُ طَمَعِ نَفْسِهِ عَنْ الْعَوْدِ فِي شَيْءٍ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى طَمِعَتْ فِي عَوْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَآمَالُهَا بَعْدُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَلَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا لِلَّهِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَقَطَعَ عَلَيْهَا طَمَعَهَا فِي الْعَوْدِ، وَلَوْ بِالثَّمَنِ، لِيَتَمَحَّصَ الْإِخْرَاجُ لِلَّهِ، وَهَذَا شَأْنُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَالْهِمَمِ، أَنَّهَا إذَا أَعْطَتْ عَطَاءً لَمْ تَسْمَحْ بِالْعَوْدِ فِيهِ بِوَجْهٍ لَا بِشِرَاءٍ وَلَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 بِغَيْرِهِ، وَتُعَدُّ ذَلِكَ دَنَاءَةً، وَلِهَذَا مَثَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لِخَسَّتِهِ وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ وَشُحِّهِ بِمَا قَاءَهُ أَنْ يَفُوتَهُ. فَمِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ مَنْعُ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ شِرَاءِ صَدَقَتِهِ، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ سُكْنَى بِلَادِهِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا لِلَّهِ وَإِنْ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَارَ إسْلَامٍ، كَمَا «مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ لِلَّهِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُودُوا فِي شَيْءٍ تَرَكُوهُ لِلَّهِ» ، وَإِنْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي تَرَكُوهَا لِأَجْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُجَوِّزُونَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَ الْمَدِينِ، إذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ غَيْرَهُ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ؟ وَيَحْصُلُ لِلْغَرِيمِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَرَاحَةٌ مِنْ ثِقَلِ الدَّيْنِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ حَمْلِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَمَنْفَعَتُهُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ؟ فَقَدْ انْتَفَعَ هُوَ بِخَلَاصِهِ مِنْ رِقِّ الدَّيْنِ، وَانْتَفَعَ رَبُّ الْمَالِ بِتَوَصُّلِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا لِيَعْمَلَ فِيهِ وَيُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ. قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ زَكَاتِهِ، بَلْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الزَّكَاةَ وَيُؤَدِّيَهَا هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفٌ، وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ زَكَاةُ مَالِهِ أَلْفٌ، فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، يَجُوزُ هَذَا مِنْ زَكَاتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ لَمْ يَنْتَفِعْ هَاهُنَا بِمَا دَفَعَهُ إلَى الْغَرِيمِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَحْيَا مَالَهُ بِمَالِهِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ أَنَّهُ قَدْ يُتَّخَذُ ذَرِيعَةً إلَى انْتِفَاعِهِ بِالْقَضَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِمَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، قِيلَ: هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فَيَأْكُلَهُ وَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ قَالَ: فَقُلْ لَهُ يُوَكِّلُهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِمَا دَفَعَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ، فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى وُجُوبِهَا بِمَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ أَخَذَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْآخِذُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَأْخُوذِ وَسَدَّ خَلَّتَهُ مِنْهُ لَمَا مَكَّنَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، فَأَمَّا لَوْ أَعْطَاهُ عَطَاءً قَطَعَ طَمَعَهُ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَمَلَّكَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ الْآخِذُ دَيْنَهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى نَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَالْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ، بِأَنْ يَبِيعَهُ وَلَا يَذْكُرَ تَبْقِيَتَهُ ثُمَّ يُخَلِّيَهُ إلَى وَقْتِ كَمَالِهِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَأْخُذُهُ وَقْتَ إدْرَاكِهِ، وَهَذَا هُوَ نَفْسُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ الْقَطْعُ، فَيَصِحُّ وَيَنْصَرِفُ إلَى مُوجِبِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، ثُمَّ الْقَطْعُ حَقٌّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِهِ جَازَ، وَوَجْهُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَيْنِهِ لِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي يُفْضِي إلَيْهَا مِنْ التَّشَاجُرِ وَالتَّشَاحُنِ، فَإِنَّ الثِّمَارَ تُصِيبُهَا الْعَاهَاتُ كَثِيرًا، فَيُفْضِي بَيْعُهَا قَبْلَ كَمَالِهَا إلَى أَكْلِ مَالِ الْمُشْتَرِي بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلَّلَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَرْفَعُ الْمَفْسَدَةَ، وَلَا تُزِيلُ بَعْضَهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَالنَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى الثِّمَارَ وَهِيَ شِيصٌ لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِيهَا لِلْقَطْعِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا لِهَذَا الْغَرَضِ لَكَانَ سَفَهًا وَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ، وَكَذَلِكَ الْجَوْزُ وَالْخَوْخُ وَالْإِجَّاصُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الثِّمَارِ الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ بِهَا قَبْلَ إدْرَاكِهَا، لَا يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ إلَّا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الشَّرْطِ بِلِسَانِهِ فَهُوَ قَائِمٌ بِقَلْبِهِ وَقَلْبِ الْبَائِعِ، وَفِي هَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ وَلِلْحِكْمَةِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ لِأَجْلِهَا؛ أَمَّا تَعْطِيلُ الْحِكْمَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا تَعْطِيلُ النَّصِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى مَا إذَا بَاعَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ لَفْظًا، فَلَوْ سَكَتَ عَنْ التَّلَفُّظِ بِذَلِكَ وَهُوَ مُرَادُهُ وَمُرَادُ الْبَائِعِ جَازَ، وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَإِسْقَاطٌ لِحِكْمَتِهِ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ شَيْءٍ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَهُ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ شَيْءٍ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَهُ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ فَلْيَبِعْهُ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ سَهْمًا، ثُمَّ يَهَبْهُ السَّهْمَ الْبَاقِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ إيَّاهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ. وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ فِي جَارِيَةٍ قَدْ وَطِئَهَا الْحَالِفُ الْيَوْمَ فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَطَأَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ فَلَهُ حِيلَتَانِ عَلَى إسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْتِقَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُمَلِّكَهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا، فَإِذَا قَضَى وَطَرَهُ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَهَا أَوْ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلْيَشْتَرِهَا مِنْ الْمُمَلَّكِ فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ، فَإِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى وَطْئِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ فَلْيُنْسِلْ مِنْهُ خَيْطًا ثُمَّ يَلْبَسْهُ، أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَلِيُخْرِجْ مِنْهُ لُبَابَةً ثُمَّ يَأْكُلْهُ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: لَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَكَانَ أَخَفَّ وَأَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ، وَلَوْ قَابَلَ الْعَبْدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ لَعُدَّ عَاصِيًا مُخَادِعًا، بَلْ لَوْ قَابَلَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ أَمْرَ الْمَلِكِ وَنَهْيَهُ أَوْ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ وَنَهْيَهُ أَوْ الْمَرِيضُ أَمْرَ الطَّبِيبِ وَنَهْيَهُ بِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ لَمَا عَذَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ، وَلَعَدَّهُ كُلُّ أَحَدٍ عَاصِيًا، وَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَالِمُ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْرَ هَذِهِ الْحِيَلِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ نِسْبَتُهَا إلَيْهَا وَمَحَلُّهَا مِنْهَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حيلة فِي الْإِيمَان] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ فِي الْأَيْمَانِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا؛ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِذَلِكَ فَلْيَبِعْهَا بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دِينَارًا، أَوْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَبِعْهَا بِدَرَاهِمَ تُسَاوِي ذَلِكَ، أَوْ يَبِعْهَا بِتِسْعِينَ دِينَارًا وَمِنْدِيلًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَكُلُّ هَذِهِ حِيَلٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْسَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُ الْحَالِفِ عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَمِينُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ كَائِنًا مَا. كَانَ؛ فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ، وَلْيَتَحَيَّلْ مَا شَاءَ، فَلَيْسَتْ يَمِينُهُ إلَّا عَلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ قَصْدُ الْقَلْبِ وَكَسْبُهُ، لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ؛ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فِي اللَّغْوِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَاصِدًا لِصَدِّ مَا يَتَحَيَّلُ عَلَيْهِ؟ [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِتَجْوِيزِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ وَإِذَا حَبِلَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ، فَلَهُ بَيْعُهَا: أَنْ يُمَلِّكَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ عَتَقَ الْأَوْلَادُ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهُ، وَمَنْ مَلَكَ أَخَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قَالُوا: فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا تَتَمَشَّى هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ ابْنِهِ - وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - فَالْحِيلَةُ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، ثُمَّ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ عَلَى مِلْكِ ذِي الرَّحِمِ؛ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَلْيَهَبْهَا لَهُ، فَيَنْفَسِخْ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلْيُمَلِّكْهَا أَجْنَبِيًّا، ثُمَّ يُزَوِّجْهَا بِهِ، فَإِنْ خَافَ مِنْ رِقِّ الْوَلَدِ فَلْيُعَلِّقْ الْأَجْنَبِيُّ عِتْقَهُمْ بِشَرْطِ الْوِلَادَةِ، فَيَقُولُ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، فَيَكُونُ الْأَوْلَادُ كُلُّهُمْ أَحْرَارًا؛ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَّهِبْهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يَبِعْهَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّمْلِيكِ لَمْ تُوجَدْ، إذْ حَقِيقَتُهُ نَقْلُ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَحَبَّ. هَذَا هُوَ الْمِلْكُ الْمَشْرُوعُ الْمَعْقُولُ الْمُتَعَارَفُ، فَأَمَّا تَمْلِيكٌ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْمُمَلَّكُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِالتَّزْوِيجِ وَحْدَهُ؛ فَهُوَ تَلْبِيسٌ لَا تَمْلِيكٌ؛ فَإِنَّ الْمُمَلَّكَ لَوْ أَرَادَ وَطْأَهَا أَوْ الْخَلْوَةَ بِهَا أَوْ النَّظَرَ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمَالِكُ فِي مَمْلُوكِهِ لَمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَمْلِيكُ تَلْبِيسٍ وَخِدَاعٍ وَمَكْرٍ، لَا تَمْلِيكُ حَقِيقَةٍ، بَلْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَالْمُمَلِّكُ وَالْمُمَلَّكُ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِسَيِّدِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَطِبْ قَلْبُهُ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ كُلَّهُ لِيُسْقِطَ عَنْهُ زَكَاتَهُ ثُمَّ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذَا التَّمْلِيكِ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، وَلَا يُعَدُّ الْمُمَلَّكُ لَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَنِيًّا بِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ وَالنَّفَقَةُ وَأَدَاءُ الدُّيُونِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ مَعْدُودًا فِي جُمْلَةِ الْأَغْنِيَاءِ؛ فَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، لَا التَّمْلِيكُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَلْبِيسٌ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ رَجْعَةِ الْبَائِنِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ رَجْعَةِ الْبَائِنِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى رَدِّ امْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ بَانَتْ مِنْهُ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ وُجُوهًا كُلُّهَا بَاطِلَةٌ؛ فَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ لَهَا: حَلَفْتُ يَمِينًا وَاسْتَفْتَيْتُ فَقِيلَ لِي جَدِّدْ نِكَاحَكَ؛ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَإِلَّا لَمْ يَضُرّكَ، فَإِذَا أَجَابَتْهُ قَالَ: اجْعَلِي الْأَمْرَ إلَيَّ فِي تَزْوِيجِكِ، ثُمَّ يَحْضُرُ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ وَيَتَزَوَّجُهَا، فَتَصِيرُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ سَفَرًا وَيَقُولُ: لَا آمَنُ الْمَوْتَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَجْعَلَ لَكَ هَذَا الْمَتَاعَ صَدَاقًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ وَأُرِيدُ أَنْ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ حَتَّى أَجْعَلَهُ صَدَاقًا؛ فَإِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 فَعَلَتْ عَقَدَ نِكَاحَهَا عَلَى ذَلِكَ وَتَمَّ الْأَمْرُ؛ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ السَّفَرَ فَلْيُظْهِرْ أَنَّهُ مَرِيضٌ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَ لَكِ ذَلِكَ، وَأَخَافُ أَنْ أَقِرَّ لَكِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ؛ فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ أَجْعَلْهُ صَدَاقًا، فَإِذَا فَعَلَتْ أَحْضَرَ وَلِيَّهَا وَتَزَوَّجَهَا؛ فَإِنْ حَذِرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا، أَوْ يَقُولَ: قَدْ حَلَفْت بِطَلَاقِكِ أَنِّي أَتَزَوَّجُ عَلَيْكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ هَذَا الْأُسْبُوعِ، أَوْ أُسَافِرُ بِكِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَمَسَّكَ بِكِ وَلَا أُدْخِلَ عَلَيْك ضَرَّةً وَلَا تُسَافِرِينَ، فَاجْعَلِي أَمْرَكِ إلَيَّ حَتَّى أُخَالِعَكِ وَأَرُدَّكِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ وَتَتَخَلَّصِي مِنْ الضَّرَّةِ وَالسَّفَرِ، فَإِذَا فَعَلَتْ أَحْضَرَ الشُّهُودَ وَالْوَلِيَّ ثُمَّ يَرُدُّهَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَانَتْ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ؛ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا، وَهِيَ لَمْ تَأْذَنْ فِي هَذَا النِّكَاحِ الثَّانِي، وَلَا رَضِيَتْ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَتْ أَنَّهَا قَدْ مَلَّكَتْ نَفْسَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ فَلَعَلَّهَا لَا تَرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْدَعَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَيَجْعَلَهَا لَهُ زَوْجَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ جِدَّ النِّكَاحِ كَهَزْلِهِ، وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ هَازِلٌ. قِيلَ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْهَازِلِ؛ فَإِنَّ الْهَازِلَ لَمْ يُظْهِرْ أَمْرًا يُرِيدُ خِلَافَهُ، بَلْ تَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ قَاصِدًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُوجَبُهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ، بَلْ إلَى الشَّارِعِ، وَأَمَّا هَذَا فَمَاكِرٌ مُخَادِعٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا، مُظْهِرٌ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مَحْضَةٌ؛ فَهُوَ يَمْكُرُ بِهَا وَيُخَادِعُهَا بِإِظْهَارِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ أَجْنَبِيَّةٌ؛ فَهُوَ كَمَنْ يَمْكُرُ بِرَجُلٍ يُخَادِعُهُ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ لَهُ وَيَصُونُهُ مِمَّنْ يُذْهَبُ بِهِ، بَلْ هَذَا أَفْحَشُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْبُضْعِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ، وَالْمُخَادَعَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُخَادَعَةِ عَلَى الْمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْحِيلَةُ عَلَى وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الْحِيلَةُ عَلَى وَطْءِ مُكَاتَبَتِهِ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَهَبَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ عَلَى مِلْكِ ابْنِهِ ثُمَّ يُكَاتِبَهَا لِابْنِهِ، ثُمَّ يَطَأَهَا بِحُكْمِ النِّكَاحِ، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ كَانُوا أَحْرَارًا؛ إذْ وَلَدُهُ قَدْ مَلَكَهُمْ، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ الْكِتَابَةِ عَادَتْ قِنًّا لِوَلَدِهِ وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ بَاطِلَةٌ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا لِوَلَدِهِ تَمْلِيكًا حَقِيقِيًّا، وَلَا كَاتَبَهَا لَهُ حَقِيقَةً، بَلْ خِدَاعًا وَمَكْرًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَمُكَاتَبَتُهُ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 الْبَاطِنِ، وَحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ خِلَافَ ذَلِكَ تَوَصُّلًا إلَى وَطْءِ الْفَرْجِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ. فَأَظْهَرَ تَمْلِيكًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَكِتَابَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ عَنْ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ. [فَصْلٌ حِيلَةِ الْعَقَارِبِ وَإِبْطَالِهَا] فَصْلٌ [بَيَانُ حِيلَةِ الْعَقَارِبِ وَإِبْطَالِهَا] وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ الْحِيَلُ الَّتِي تُسَمَّى حِيلَةَ الْعَقَارِبِ، وَلَهَا صُوَرٌ؛ مِنْهَا: أَنْ يُوقِفَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ وَيَشْهَدَ عَلَى وَقْفِهَا وَيَكْتُمَهُ ثُمَّ يَبِيعَهَا، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ سَكَنَهَا أَوْ اسْتَغَلَّهَا بِمِقْدَارِ ثَمَنِهَا أَظْهَرَ كِتَابَ الْوَقْفِ وَادَّعَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِأُجْرَةِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: أَنَا وَزَنْت الثَّمَنَ، قَالَ: وَانْتَفَعْتُ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ فَلَا تَذْهَبُ الْمَنْفَعَةُ مَجَّانًا، وَمِنْهَا: أَنْ يُمَلِّكَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ، وَيَكْتُمَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعَهَا، ثُمَّ يَدَّعِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ مَلَّكَهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيُعَامِلُهُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ وَضَمَّنَهُ الْمَنَافِعَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ، وَيَكْتُمَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُؤَجِّرَهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ، فَإِنْ ارْتَفَعَ الْكَرْيُ أَخْرَجَ الْإِجَارَةَ الْأُولَى، وَفَسَخَ إجَارَةَ الثَّانِي، وَإِنْ نَقَصَ الْكَرْيُ أَوْ اسْتَمَرَّ أَبْقَاهَا؛ وَمِنْهَا: أَنْ يَرْهَنَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ، ثُمَّ يَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ فَيَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً، فَمَتَى أَرَادَ فَسْخَ الْبَيْعِ وَاسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ أَظْهَرَ كِتَابَ الرَّهْنِ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعَقَارِبِ الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا أَشْبَاهُ الْعَقَارِبِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَيُمْشِيهَا لَهُمْ مَنْ رَقَّ عِلْمُهُ وَدِينُهُ وَلَمْ يُرَاقِبْ اللَّهَ وَلَمْ يَخَفْ مَقَامَهُ تَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ فِي تَضْمِينِ الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ؛ فَيَجْعَلُ قَوْلَهُ إعَانَةً لِهَذَا الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا يَجْعَلُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ إعَانَةً لِلْمَظْلُومِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِشِقِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ: «اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» . وَاكْتَفَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ دُونَ مَا بَعْدَهَا، وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَجْوِيزِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَنَصْرِ الظَّالِمِ، وَإِضَاعَةِ حَقِّ الْمَظْلُومِ جِهَارًا. وَذَلِكَ الْإِمَامُ وَإِنْ قَالَ: " إنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَضْمَنُ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْمَقْبُوضَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - الَّذِي هُوَ حِيلَةٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَظُلْمٌ مَحْضٌ لِلْمُشْتَرِي وَغُرُورٌ لَهُ - يُوجِبُ تَضْمِينَهُ وَضَيَاعَ حَقِّهِ وَأَخْذَ مَالِهِ كُلِّهِ وَإِيدَاعَهُ فِي الْحَبْسِ عَلَى مَا بَقِيَ وَإِخْرَاجَ الْمِلْكِ مِنْ يَدِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَرِي الْأَرْضَ أَوْ الْعَقَارَ وَتَبْقَى فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً تَزِيدُ أُجْرَتُهَا عَلَى ثَمَنِهَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعَقَارُ، وَيُحْسَبُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيُبْقِي الْبَاقِيَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ مِرَارًا، فَرُبَّمَا أَخَذَ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ وَفَضَلَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 عَلَيْهِ فَضْلَةٌ، فَيَجْتَاحُ الظَّالِمُ الْمَاكِرُ مَالَهُ وَيَدَعُهُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَالِيَةِ، فَحَاشَا إمَامًا وَاحِدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لِهَذَا الْعَقْرَبِ الْخَبِيثِ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْوَاجِبُ عُقُوبَةُ مِثْلِ هَذَا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنْ لَدْغِ النَّاسِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى اسْتِهْلَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ طَلَبِ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يُضَمِّنُ مَنَافِعَ الْغَصْبِ - وَهُمْ الْجُمْهُورُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ أَصَحُّهُمَا دَلِيلًا - فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ يُضَمِّنُ الْغَاصِبَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَأَتَّى تَضْمِينُ هَذَا عَلَى قَاعِدَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِغَاصِبٍ، وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْبَائِعَ غَرَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِلَا عِوَضٍ، وَأَنْ يَضْمَنَ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ لَا بِقِيمَتِهِ؛ فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ بِثَمَنِهِ، فَإِذَا انْتَفَعَ بِهِ انْتَفَعَ بِلَا عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ، وَلَوْ قُدِّرَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فَإِنَّ الْغَارَّ هُوَ الَّذِي يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِغُرُورِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ سَبَبٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَا بُدَّ. وَلَا يُقَالُ: الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْإِتْلَافَ، وَقَدْ وُجِدَ مُتَسَبِّبٌ وَمُبَاشِرٌ، فَيُحَالُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُبَاشِرِ؛ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ مَالُ الْمُشْتَرِي الَّذِي تَلِفَ عَلَيْهِ بِالتَّضْمِينِ، وَإِنَّمَا تَلِفَ بِتَسَبُّبِ الْغَارِّ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مُبَاشِرٌ يُحَالُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا إذَا ضَمَّنَّا الْمَغْرُورَ فَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى تَضْمِينِ الْغَارِّ ابْتِدَاءً. قِيلَ: هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَلِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَصَ، وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ نَقْصَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَهَذَا أَفْقَهُ النَّصَّيْنِ وَأَقْرَبُهُمَا إلَى الْعَدْلِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ غَرَسَ وَبَنَى غِرَاسًا وَبِنَاءً مَأْذُونًا فِيهِ، وَلَيْسَ ظَالِمًا بِهِ، فَالْعِرْقُ لَيْسَ بِظَالِمٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُهُ حَتَّى يَضْمَنَ لَهُ نَقْصَهُ، وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ الْمُسْتَحِقَّ بِبَيْعِهِ مَالَهُ وَغَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِبِنَائِهِ وَغِرَاسِهِ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ ضَمِنَ لِلْمَغْرُورِ مَا نَقَصَ بِقَلْعِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الظَّالِمِ، وَكَانَ تَضْمِينُهُ لَهُ أَوْلَى مِنْ تَضْمِينِ الْمَغْرُورِ ثُمَّ تَمْكِينُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبٍ بِبَيْعٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ اتِّهَابٍ أَوْ إجَارَةٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالِكٌ لِذَلِكَ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ عَالِمًا بِالْغَصْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَم نَظَرْتَ فِيمَا ضَمِنَ فَإِنْ الْتَزَمَ ضَمَانَهُ بِالْعَقْدِ كَبَدَلِ الْعَيْنِ وَمَا نَقَصَ مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمْ يَغُرَّهُ، بَلْ دَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ ضَمَانَهُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا ضَمَّنَهُ إيَّاهُ بِقِيمَتِهِ رَجَعَ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ. قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ نَظَرْتُ؛ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ كَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَنُقْصَانِ الْجَارِيَةِ بِالْوِلَادَةِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ بِهِ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ كَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ. وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةٌ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا يُوجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ اللَّذَيْنِ ضَمِنَهُمَا؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى الضَّمَانِ بِالْمُسَمَّى، لَا بِعِوَضِ الْمِثْلِ، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ إنَّمَا هِيَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْمُسَمَّى، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ نَحْوُ ذَلِكَ. وَعَقْدُ الْبَابِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَرْجِعُ إذَا غَرَّهُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ خَاصَّةً، فَإِذَا غَرِمَ وَهُوَ مُودَعٌ أَوْ مُتَّهَبٌ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانًا، وَإِنْ ضَمِنَ وَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ وَالْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا بَذَلَهُ مِنْ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ مِنْ عِوَضِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ؛ نَعَمْ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهِ بِالْمُسَمَّى لَا بِعِوَضِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا، وَضَمِنَ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ؟ فَقَالُوا: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ قِيمَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْعَيْنِ وَدَخَلَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا زَادَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعِيرًا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ رَجَعَ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى اسْتِيفَائِهَا مَجَّانًا، وَلَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ضَمَانِهَا بِقِيمَتِهَا. وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةٌ تُقَابِلُ مَا غَرِمَ كَالْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْمَبِيعِ وَفِي الْهِبَةِ وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَكَقِيمَةِ الطَّعَامِ إذَا قُدِّمَ لَهُ أَوْ وُهِبَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ، فَإِذَا غَرِمَ عِوَضَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى اسْتِيفَائِهِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ بِعِوَضِهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمَ الضَّيْفُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرَهُ يُغَرِّمُهُ الطَّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمَالِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْغَاصِبِ جَازَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ إلَّا بِمَا يَرْجِعُ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَأْجِرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ خَاصَّةً، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا بَذَلَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُسْتَعِيرًا بِمَا غَرِمَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ؛ إذْ لَا مُسَمًّى هُنَاكَ، وَإِذَا كَانَ مُتَّهَبًا أَوْ مُودَعًا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَمَا سِوَاهُ فَعَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا بَلْ يَكُونُ قَرَارُهُ عَلَى الْغَاصِبِ فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ أَيْضًا هَاهُنَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ الْمَغْرُورِ ابْتِدَاءً، كَمَا لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ قَرَارًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَهَا - يَعْنِي الْوَدِيعَةَ - عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الثَّانِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ. وَطَرْدُ هَذَا النَّصِّ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْمَغْرُورَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّهُ مَغْرُورٌ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ مُطَالَبٌ، فَلَا هُوَ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ وَلَا الشَّارِعُ أَلْزَمَهُ بِهَا، وَكَيْفَ يُطَالِبُ الْمَظْلُومَ الْمَغْرُورَ وَيَتْرُكُ الظَّالِمَ الْغَارَّ؟ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُحْسِنًا بِأَخْذِهِ الْوَدِيعَةَ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا شَأْنُ الْغَارِّ الظَّالِمِ. وَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْرُورَ بِالْأَمَةِ إذَا وَطِئَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، وَأَخَذَ مِنْهُ سَيِّدُهَا الْمَهْرَ، رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ. وَقَضَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ. وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ الصَّحَابَةِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٌ أَخَذَ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَقَوْلُ عُمَرَ أَفْقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِالْمَهْرِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالثَّمَنِ وَقَدْ بَذَلَهُ، وَأَيْضًا فَالْبَائِعُ ضَمِنَ لَهُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ سَلَامَةَ الْوَطْءِ كَمَا ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ. فَكَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي أُجْرَةِ الِاسْتِخْدَامِ إذَا ضَمَّنَهُ إيَّاهَا الْمُسْتَحِقُّ، هَلْ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَارِّ؟ . قُلْنَا: نَعَمْ يَرْجِعُ بِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَجَدَ امْرَأَتَهُ بَرْصَاءَ أَوْ عَمْيَاءَ أَوْ مَجْنُونَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَهَا الصَّدَاقُ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا لَمْ يُعْلِمْهُ وَأَتْلَفَ عَلَيْهِ الْمَهْرَ لَزِمَهُ غُرْمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ الَّذِي أَتْلَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالدُّخُولِ. قِيلَ: لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنَّمَا دَخَلَ بِهَا بِنَاءً عَلَى السَّلَامَةِ الَّتِي غَرَّهُ بِهَا الْوَلِيُّ، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ وَرَضِيَ بِهِ وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَسْخٌ وَلَا رُجُوعٌ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ سَقَطَ مَهْرُهَا. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَغْرُورَ إمَّا مُحْسِنٌ، وَإِمَّا مَعْذُورٌ، وَكِلَاهُمَا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ مَا يَلْزَمُ الْمَغْرُورَ بِاسْتِلْزَامِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَهْرُ قَدْ الْتَزَمَهُ، فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِهِ؟ قِيلَ: إنَّمَا الْتَزَمَهُ فِي مَحَلٍّ سَلِيمٍ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فِي مَعِيبَةٍ وَلَا أَمَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْزَمَهُ فِيهِ بِالصَّدَاقِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. قِيلَ: لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ غَرَّهُ، بَلْ كَانَ هُوَ الْغَارُّ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَذْهَبُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ مَجَّانًا، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ فَسَدَ النِّكَاحُ بِغُرُورِ الْمَرْأَةِ سَقَطَ مَهْرُهَا، أَوْ بِغُرُورِ الْوَلِيِّ رَجَعَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ التَّحَيُّلُ عَلَى جَوَازِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيَلٍ لِتَجْوِيزِ الْعِينَةِ] : وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَوَازِ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، مَعَ أَنَّهَا حِيلَةٌ فِي نَفْسِهَا عَلَى الرِّبَا، وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ لِاسْتِبَاحَتِهَا عِدَّةَ حِيَلٍ، مِنْهَا: أَنْ يُحْدِثَ الْمُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ حَدَثًا مَا تَنْقُصُ بِهِ أَوْ تَتَعَيَّبُ؛ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِبَائِعِهَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهَا، وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ قَابِلَةً لِلتَّجَزُّؤِ فَيَمْسِكُ مِنْهَا جُزْءًا مَا وَيَبِيعُهُ بَقِيَّتَهَا، وَمِنْهَا: أَنْ يَضُمَّ الْبَائِعُ إلَى السِّلْعَةِ سِكِّينًا أَوْ مِنْدِيلًا أَوْ حَلْقَةً حَدِيدًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي وَيَبِيعُهُ السِّلْعَةَ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَهَبَهَا الْمُشْتَرِي لِوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَيَبِيعُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ بَائِعِهَا، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ أَعْطَاهُ لِلْوَاهِبِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ وَلَا هِبَةٍ لِغَيْرِهِ، لَكِنْ يَضُمُّ إلَى ثَمَنِهَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ مِنْدِيلًا أَوْ سِكِّينًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِينَةَ عَلَى وَجْهِهَا أَسْهَلُ مِنْ هَذَا التَّكَلُّفِ، وَأَقَلُّ مَفْسَدَةً، وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ حَرَّمَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ لِمَفْسَدَةٍ فِيهَا فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ لَا تَزُولُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، بَلْ هِيَ بِحَالِهَا، وَانْضَمَّ إلَيْهَا مَفْسَدَةٌ أُخْرَى أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهِيَ مَفْسَدَةُ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَاِتِّخَاذِ أَحْكَامِ اللَّهِ هُزُوًا وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَفْسَدَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِيَلِ، لَا تُزِيلُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي حُرِّمَ لِأَجْلِهَا، وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهَا مَفْسَدَةَ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِينَةُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِيَالِ عَلَيْهَا. ثُمَّ إنَّ الْعِينَةَ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ إلَى الرِّبَا، فَإِذَا تَحَيَّلَ عَلَيْهَا الْمُحْتَالُ صَارَتْ حِيَلًا مُتَضَاعِفَةً، وَمَفَاسِدَ مُتَنَوِّعَةً، وَالْحَقِيقَةُ وَالْقَصْدُ مَعْلُومَانِ لِلَّهِ وَلِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلِمَنْ حَضَرَهُمَا مِنْ النَّاسِ، فَلْيَضَعْ أَرْبَابُ الْحِيَلِ مَا شَاءُوا، وَلْيَسْلُكُوا أَيَّةَ طَرِيقٍ سَلَكُوا؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى سَنَةٍ، فَلْيُدْخِلُوا مُحَلِّلَ الرِّبَا أَوْ يُخْرِجُوهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمَقْصُودُ مَعْلُومٌ، وَاَللَّهُ لَا يُخَادَعُ وَلَا تَرُوجُ عَلَيْهِ الْحِيَلُ وَلَا تَلْبَسُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ. [فَصْلٌ مِنْ الْحِيَلِ الْمُحْرِمَة إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ] فَصْلٌ وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي، وَيَقُولُ: لَمْ يُعَيِّنْ لِي عَيْبَ كَذَا وَكَذَا؛ أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا غَرِيبًا لَا يَعْرِفُ فِي بَيْعِهَا، وَيَضْمَنَ لِلْمُشْتَرِي دَرْكَ الْمَبِيعِ، فَإِذَا بَاعَهَا قَبَضَ مِنْهُ رَبُّ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ، فَلَا يَجِدُ الْمُشْتَرِي مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ. وَهَذَا غِشٌّ حَرَامٌ، وَحِيلَةٌ لَا تُسْقِطُ الْمَأْتَمَ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِصُورَةِ الْحَالِ فَلَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ، حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ الدَّرَكَ الْمَعْرُوفَ [الَّذِي] يَتَمَكَّنُ مِنْ مُخَاصَمَتِهِ، فَالتَّفْرِيطُ مِنْ هَذَا وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ مِنْ ذَلِكَ. [فَصْلٌ إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ] فَصْلٌ [إبْطَالُ حِيلَةٍ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ] وَمِنْ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْبَاطِلَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً وَيُرِيدَ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ فَلَهُ عِدَّةُ حِيَلٍ، مِنْهَا: أَنْ يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ، فَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ يَبِيعُهُ إيَّاهَا فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ زَوْجَتِهِ، وَقَدْ كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وَطْؤُهَا حَلَالًا لَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ؛ فَصَارَ حَلَالًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، ثُمَّ يَبِيعَهَا مِنْ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهَا، فَيَمْلِكُهَا مُزَوَّجَةً وَفَرْجُهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ؛ فَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهَا، فَإِذَا فَعَلَ حَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي. وَمِنْهَا: أَنْ مُشْتَرِيَهَا لَا يَقْبِضُهَا حَتَّى يُزَوِّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَقْبِضَهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ، فَإِذَا قَبَضَهَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، فَيَطَؤُهَا سَيِّدُهُ بِلَا اسْتِبْرَاءٍ. قَالُوا: فَإِنْ خَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ اسْتَوْثَقَ بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ أَمْرَهَا بِيَدِ السَّيِّدِ، فَإِذَا فَعَلَ طَلَّقَهَا هُوَ ثُمَّ وَطِئَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ. وَلَا يَخْفَى نِسْبَةُ هَذِهِ الْحِيَلِ إلَى الشَّرْعِ، وَمَحَلُّهَا مِنْهُ، وَتَضَمُّنُهَا أَنَّ بَائِعَهَا يَطَؤُهَا بُكْرَةً وَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي عَشِيَّةً، وَأَنَّ هَذَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَمُبْطِلٌ لِفَائِدَةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ كَمَا هِيَ مُحَرَّمَةٌ فَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا؛ فَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مَوْطُوءَتَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ يَطَؤُهَا وَرَحِمُهَا مَشْغُولٌ بِمَائِهِ؟ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بَيْعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي لَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ، فَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ قَطْعًا، فَإِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا حِيلَةً عَلَى إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّهِ وَتَعْطِيلِ أَمْرِهِ كَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا لِإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَاِتِّخَاذٌ لِآيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا لَمْ يَحِلَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَطَأَهَا بِدُونِ الِاسْتِبْرَاءِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْمُتَجَدِّدِ، وَالنِّكَاحُ الْعَارِضُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ، وَزَوَالُ الْمَانِعِ لَا يُزِيلُ اقْتِضَاءَ الْمُقْتَضِي مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الِاقْتِضَاءِ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوَصْفِ عَنْ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ قِيَامِ مَانِعٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي مَنَعَ الشَّارِعُ الْمُشْتَرِيَ لِأَجْلِهَا مِنْ الْوَطْءِ بِدُونِ الِاسْتِبْرَاءِ لَمْ تَزُلْ بِالتَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ، بَلْ انْضَمَّ إلَيْهَا مَفَاسِدُ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّحَيُّلِ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبَ مِنْ شَيْءٍ حُرِّمَ لِمَفْسَدَةٍ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ بِكَثِيرٍ صَارَ حَلَالًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إذَا ذُبِحَ كَانَ حَرَامًا، فَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ خُنِقَ حَتَّى يَمُوتَ صَارَ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا اُحْتِيلَ عَلَيْهَا صَارَتْ حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ وَتَأَكَّدَ تَحْرِيمُهَا. وَاَلَّذِي يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ سُقُوطِ الِاسْتِبْرَاءِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ وَبَيْنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وُجُوبِ اسْتِبْرَاءِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَلَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، وَبَيْنَ اسْتِبْرَاءِ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ يَقْرَعْهَا. فَحْلٌ، وَاسْتِبْرَاءِ الْعَجُوزِ الْهَرِمَةِ الَّتِي قَدْ أَيِسَتْ مِنْ الْحَبَلِ وَالْوِلَادَةِ، وَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ الَّتِي يُقْطَعُ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا، ثُمَّ يُسْقِطُونَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رَحِمَهَا مَشْغُولٌ، فَأَوْجَبْتُمُوهُ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ، وَأَسْقَطْتُمُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ. قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ مِنْ تَنَاقُضِكُمْ، بَلْ وَأَعْجَبُ مِنْهُ إنْكَارُ كَوْنِ الْقُرْعَةِ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَعَ وُرُودِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِهَا، وَإِثْبَاتُ حَلِّ الْوَطْءِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ يَعْلَمُ الزَّوْجُ الْوَاطِئُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالزُّورِ عَلَى طَلَاقِهَا حَتَّى يَجُوزَ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِشَهَادَتِهِمَا. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ هِيَ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا كُلَّ وَقْتٍ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَوْ وَلَدَتْ [وَلَدًا] لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ وَالشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ " هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا " وَكَانَتْ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ وَهُوَ بِأَقْصَى الْمَغْرِبِ صَارَتْ فِرَاشًا بِالْعَقْدِ؛ فَلَوْ أَتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ نَسَبُهُ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُمْ: لَوْ مَنَعَ الذِّمِّيُّ دِينَارًا وَاحِدًا وَلِّ. " لَا أُؤَدِّيهِ " انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَلَوْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ عَلَى رُءُوسِنَا أَقْبَحَ سَبٍّ وَحَرَقَ أَفْضَلَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاسْتَهَانَ بِالْمُصْحَفِ بَيْنَ أَيْدِينَا أَعْظَمَ اسْتِهَانَةٍ وَبَذَلَ ذَلِكَ الدِّينَارَ فَعَهْدُهُ بَاقٍ وَدَمُهُ مَعْصُومٌ. وَمِنْ الْعَجِيبِ تَجْوِيزُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمَنْعُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَمِنْ الْعَجَبِ إخْرَاجُ الْأَعْمَالِ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَتَكْفِيرُ مَنْ يَقُولُ مُسَيْجِدٌ أَوْ فَقِيهٌ، أَوْ يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ، أَوْ يَلْتَذُّ بِآلَاتِ الْمَلَاهِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ الْعَجَبِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِلزِّنَا أَوْ لِكَنْسِ بَيْتِهِ فَزَنَى بِهَا، وَإِيجَابُهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً عَلَى فِرَاشِهِ فِي الظُّلْمَةِ فَجَامَعَهَا يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ. وَمِنْ الْعَجَبِ التَّشْدِيدُ فِي الْمِيَاهِ حَتَّى تَنَجَّسَ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنْهَا بِقَطْرَةِ بَوْلٍ أَوْ قَطْرَةِ دَمٍ، وَتَجْوِيزُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ رُبُعُهُ مُضَمَّخٌ بِالنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُغَلَّظَةً فَبِقَدْرِ رَاحَةِ الْكَفِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا فَكَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ، وَإِنْ صَدَّقَهُمْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ دَارٍ لِتُتَّخَذَ مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ، وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُهَا [كَيْ] تُجْعَلَ كَنِيسَةً يُعْبَدُ فِيهَا الصَّلِيبُ أَوْ بَيْتَ نَارٍ تُعْبَدُ فِيهَا النَّارُ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ فِي صَلَاةٍ فَقَهْقَهَ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَلَوْ غَنَّى فِي صَلَاتِهِ أَوْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ أَوْ شَهِدَ الزُّورَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوُضُوءُهُ بِحَالِهِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نَزَحَ مِنْهَا أَدْلَاءً مَعْدُودَةً، فَإِذَا حَصَلَ الدَّلْوُ فِي الْبِئْرِ تَنَجَّسَ وَغَرَفَ الْمَاءَ نَجَسًا، وَمَا أَصَابَ حِيطَانَ الْبِئْرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ نَجَّسَهَا، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنْ الدِّلَاءِ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إلَى الدَّلْوِ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ نَجَسًا ثُمَّ يَصْعَدُ طَاهِرًا فَيُقَشْقِشُ النَّجَاسَةَ كُلَّهَا مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ إلَى رَأْسِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا الدَّلْوِ وَلَا أَعْقَلَ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً حَنِثَ بِأَكْلِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ، وَلَوْ كَانَ يَابِسًا قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيلُ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ خِيَارِ الْفَاكِهَةِ وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا، فَلَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ الْمُطْلَقِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ النِّيلِ أَوْ الْفُرَاتِ أَوْ دِجْلَةَ فَشَرِبَ بِكَفِّهِ أَوْ بِكُوزٍ أَوْ دَلْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِذَا شَرِبَ بِفِيهِ مِثْلَ الْبَهَائِمِ حَنِثَ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَأُغْلِقَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابُ وَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى الْخَلَاءِ فَطَاقُ الْقِبْلَةِ وَمِحْرَابُ الْمَسْجِدِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إلَّا فَسَادًا مُضَاعَفًا، كَيْفَ تُبَاحُ مَعَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ الزَّائِدَةِ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَتُحَرَّمُ بِدُونِهَا؟ وَكَيْفَ تَنْقَلِبُ مَفَاسِدُهَا بِالْحِيَلِ صَلَاحًا، وَتَصِيرُ خَمْرَتُهَا خَلًّا، وَخُبْثُهَا طِيبًا؟ قَالُوا: فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَيَانِ فَسَادِ هَذِهِ الْحِيَلِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، كَمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى فَسَادِهَا وَتَحْرِيمِهَا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَاهَا حِيلَةً حِيلَةً لَطَالَ الْكِتَابُ، وَلَكِنْ هَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُحْتَذَى عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ [أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَمَرَاتِبِهَا] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْحِيَلِ] فَصْلٌ قَالَ أَرْبَابُ الْحِيَلِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وَالْحِيَلُ مَخَارِجٌ مِنْ الْمَضَائِقِ. وَالْجَوَابُ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَمَرَاتِبِهَا، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ هِيَ أَقْسَامٌ. [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْحِيَلِ طُرُقٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَا هُوَ حَرَامٌ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الطُّرُقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لَا يَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ كَالْحِيَلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِبْطَالِ حُقُوقِهِمْ وَإِفْسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الشَّيَاطِينِ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهُمْ يَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ لِيُوقِعُوهُمْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ سِتَّةٍ وَلَا بُدَّ؛ فَيَتَحَيَّلُونَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ أَنْ يُوقِعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَإِذَا عَمِلَتْ حِيَلُهُمْ فِي ذَلِكَ قَرَّتْ عُيُونُهُمْ، فَإِنْ عَجَزَتْ حِيَلُهُمْ عَنْ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ وَتَلَاهَا شَاهِدُ الْإِيمَانِ مِنْ رَبِّهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ أَعْمَلُوا الْحِيلَةَ فِي إلْقَائِهِ فِي الْبِدْعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَقَبُولِ الْقَلْبِ لَهَا وَتَهْيِئَتِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ. فَإِنْ تَمَّتْ حِيَلُهُمْ كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فِي حَالِ مَنْ اسْتَجَابَ لَهُمْ إلَى الْبِدْعَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا فِي النَّاسِ أَمَرُوهُ بِالزُّهْدِ وَالتَّعَبُّدِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، ثُمَّ أَطَارُوا لَهُ الثَّنَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لِيَصْطَادُوا عَلَيْهِ الْجُهَّالَ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَعَلُوا بِدْعَتَهُ عَوْنًا لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَذَاهُمْ وَالنِّيلِ مِنْهُمْ، وَزَيَّنُوا لَهُ أَنَّ هَذَا انْتِصَارٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ، فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَمَنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِتَحْكِيمِ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِدْعَةِ أَلْقَوْهُ فِي الْكَبَائِرِ، وَزَيَّنُوا لَهُ فِعْلَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ عَلَى السُّنَّةِ، وَفُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَعُبَّادُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَعْدَاءُ اللَّهِ، وَقُبُورُ فُسَّاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَقُبُورُ عُبَّادِ أَهْلِ الْبِدَعِ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، كَمَا أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ إنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ قَامَتْ بِهِمْ عَقَائِدُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ إذَا قَامَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ قَعَدَتْ بِهِمْ عَقَائِدُهُمْ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ هُمْ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ إذْ وَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَوَصَفُوهُ بِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ وَنَزَّهُوهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ هُمْ الَّذِينَ يَظُنُّونَ بِرَبِّهِمْ ظَنَّ السُّوءِ؛ إذْ يُعَطِّلُونَهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْهَا، وَإِذَا عَطَّلُوهُ عَنْهَا لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِأَضْدَادِهَا ضَرُورَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَنْكَرَ صِفَةً وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِهِ وَهِيَ صِفَةُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ الظَّانِّينَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أَنَّ عَلَيْهِمْ دَائِرَةَ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَعَنَهُمْ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرًا، فَلَمْ يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ أَحَدًا أَعْظَمَ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُّوءَ، وَأَنْتَ لَا تَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السُّوءِ، فَمَا لَك وَلِلْعِقَابِ؟ وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ وَصْلَةً لَهُمْ، وَحِيلَةً إلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالْكَبَائِرِ، وَأَخْذِهِ الْأَمْنَ لِنَفْسِهِ. وَهَذِهِ حِيلَةٌ لَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ، الْعَارِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ بِاَللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَكُلَّمَا كَانَ بِهِ أَجْهَلَ كَانَ أَشَدَّ غُرُورًا بِهِ وَأَقَلَّ خَشْيَةً. فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَعَظُمَ وَقَارُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ هَوَّنُوا عَلَيْهِ الصَّغَائِرَ، وَقَالُوا لَهُ: إنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَرُبَّمَا مَنَّوْهُ أَنَّهُ إذَا تَابَ مِنْهَا - كَبَائِرَ كَانَتْ أَوْ صَغَائِرَ - كُتِبَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، فَيَقُولُونَ لَهُ: كَثِّرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت، ثُمَّ ارْبَحْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً بِالتَّوْبَةِ، وَلَوْ قَبْلَ الْمَوْتِ بِسَاعَةٍ؛ فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ وَخَلَّصَ اللَّهُ عَبْدَهُ مِنْهَا نَقَلُوهُ إلَى الْفُضُولِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَاحَاتِ وَالتَّوَسُّعِ فِيهَا، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ إلَّا وَاحِدَةً ثُمَّ أَرَادَ تَكْمِيلَهَا بِالْمِائَةِ، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ ابْنِهِ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ الدُّنْيَا وَسَعَةِ الْمَالِ مَا لَا يُجْهَلُ، وَيُنْسُوهُ مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الْفَضْلِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ اللَّهِ بِدُنْيَاهُمْ، بَلْ سَارُوا بِهَا إلَيْهِ، فَكَانَتْ طَرِيقًا لَهُمْ إلَى اللَّهِ. فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ - بِأَنْ تَفْتَحَ بَصِيرَةَ قَلْبِ الْعَبْدِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ بِهَا الْآخِرَةَ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فَأَخَذَ حَذَرَهُ، وَتَأَهَّبَ لِلِّقَاءِ رَبِّهِ، وَاسْتَقْصَرَ مُدَّةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْحَيَاةَ الْبَاقِيَةَ الدَّائِمَةَ - نَقَلُوهُ إلَى الطَّاعَاتِ الْمَفْضُولَةِ الصَّغِيرَةِ الثَّوَابِ لِيَشْغَلُوهُ بِهَا عَنْ الطَّاعَاتِ الْفَاضِلَةِ الْكَثِيرَةِ الثَّوَابِ، فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ فِي تَرْكِهِ كُلَّ طَاعَةٍ كَبِيرَةٍ إلَى مَا هُوَ دُونَهَا، فَيُعْمِلُ حِيلَتَهُ فِي تَفْوِيتِ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ أَعْجَزَتْهُمْ هَذِهِ الْحِيلَةُ - وَهَيْهَاتَ - لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَسْلِيطُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ وَالظَّلَمَةِ عَلَيْهِ يُؤْذُونَهُ، وَيُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ؛ لِيُفَوِّتُوا عَلَيْهِ مَصْلَحَةَ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِمْ مَصْلَحَةَ الْإِجَابَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فَهَذِهِ مَجَامِعُ أَنْوَاعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ، وَلَا يُحْصِي أَفْرَادَهَا إلَّا اللَّهُ، وَمَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ الْعَقْلِ يَعْرِفُ الْحِيلَةَ الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَإِلَّا فَيَسْأَلُ مَنْ تَمَّتْ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [مِنْ حِيَلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ] وَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ نَظِيرُ حِيَلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَيَتَوَصَّلُوا بِهِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَذَلِكَ كَحِيَلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى إفْسَادِ الشَّرَائِعِ، وَحِيَلِ الرُّهْبَانِ عَلَى أَشْبَاهِ الْحَمِيرِ مِنْ عَابِدِ الصَّلِيبِ بِمَا يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَخَارِيقِ وَالْحِيَلِ كَالنُّورِ الْمَصْنُوعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ مِنْ الْإِذْنَ وَالتَّسْيِيرِ وَالتَّغْيِيرِ وَإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ وَدُخُولِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ حِيَلِ أَشْبَاهِ النَّصَارَى الَّتِي تَرُوجُ عَلَى أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ، وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الدَّكِّ وَخِفَّةِ الْيَدِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى النَّاظِرِينَ أَسْبَابُهَا وَلَا يَتَفَطَّنُونَ لَهَا، وَكَحِيَلِ السَّحَرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ؛ فَإِنَّ سِحْرَ الْبَيَانِ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَيُّلِ: إمَّا لِكَوْنِهِ بَلَغَ مِنْ اللُّطْفِ وَالْحُسْنِ إلَى حَدِّ اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ فَأَشْبَهَ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْقَادِرِ عَلَى الْبَيَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْسِينِ الْقَبِيحِ وَتَقْبِيحِ الْحَسَنِ فَهُوَ أَيْضًا يُشْبِهُ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ سِحْرُ الْوَهْمِ أَيْضًا هُوَ حِيلَةٌ وَهْمِيَّةٌ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِتَأْثِيرِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَشَبَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمَشْيِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ عَلَى مَهْوَاةٍ بَعِيدَةِ الْقَعْرِ؟ وَالْأَطِبَّاءُ تَنْهَى صَاحِبَ الرُّعَافِ عَنْ النَّظَرِ إلَى الشَّيْءِ الْأَحْمَرِ، وَتَنْهَى الْمَصْرُوعَ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ اللَّمَعَانِ أَوْ الدَّوْرَانِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مَطِيَّةَ الْأَوْهَامِ، وَالطَّبِيعَةُ فَعَّالَةٌ، وَالْأَحْوَالُ الْجُسْمَانِيَّةُ تَابِعَةٌ لِلْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَكَذَلِكَ السِّحْرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا بِالْإِشْرَاكِ بِهَا وَالِاتِّصَافِ بِهَيْئَاتِهَا الْخَبِيثَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ السِّحْرُ إلَّا مَعَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ النَّفْسُ أَخْبَثَ كَانَ سِحْرُهَا أَقْوَى، وَكَذَلِكَ سِحْرُ التَّمْزِيجَاتِ - وَهُوَ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ - أَنْ يُمْزَجَ بَيْنَ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْخَبِيثَةِ الْفَعَّالَةِ وَالْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ الْمُنْفَعِلَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ الَّتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 يَنَالُ بِهَا السَّاحِرُ غَرَضَهُ، وَحِيَلُ السَّاحِرِ مِنْ أَضْعَفِ الْحِيَلِ وَأَقْوَاهَا، وَلَكِنْ لَا تُؤَثِّرُ تَأْثِيرًا مُسْتَقِرًّا إلَّا فِي الْأَنْفُسِ الْبَاطِلَةِ الْمُنْفَعِلَةِ لِلشَّهَوَاتِ الضَّعِيفَةِ تَعَلُّقِهَا بِفَاطِرِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ؛ فَهَذِهِ النُّفُوسُ مَحَلُّ تَأْثِيرِ السِّحْرِ، وَكَحِيَلِ أَرْبَابِ الْمَلَاهِي وَالطَّرِبِ عَلَى اسْتِمَالَةِ النُّفُوسِ إلَى مَحَبَّةِ الصُّوَرِ وَالْوُصُولِ إلَى الِالْتِذَاذِ بِهَا؛ فَحِيلَةُ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ عَلَيْهِ، حَتَّى قِيلَ: أَوَّلُ مَا وَقَعَ الزِّنَا فِي الْعَالَمِ فَإِنَّمَا كَانَ بِحِيلَةِ الْيَرَاعِ وَالْغِنَاءِ، لَمَّا أَرَادَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ حِيلَةً أَدْنَى مِنْ الْمَلَاهِي. وَكَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُمْ أَنْوَاعٌ لَا تُحْصَى؛ فَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَيْدِيهِمْ، وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَقْلَامِهِمْ، وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِأَمَانَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَالْفَقْرِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، وَمِنْهُمْ السُّرَّاقُ بِمَكْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ وَغِشِّهِمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحِيَلُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ مِنْ أَكْثَرِ الْحِيَلِ، وَتَلِيهَا حِيَلُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ فَإِنَّهَا تَقَعُ فِي الْغَالِبِ خَفِيَّةً، وَإِنَّمَا تَتِمُّ غَالِبًا عَلَى النُّفُوسِ الْقَابِلَةِ الْمُنْفَعِلَةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَكَحِيَلِ التَّتَارِ الَّتِي مَلَكُوا بِهَا الْبِلَادَ وَقَهَرُوا بِهَا الْعِبَادَ وَسَفَكُوا بِهَا الدِّمَاءَ وَاسْتَبَاحُوا بِهَا الْأَمْوَالَ، وَكَحِيَلِ الْيَهُودِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنْ الرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ بَيْتُ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَلِهَذَا ضُرِبَتْ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الذِّلَّةُ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ مُخَادِعٍ مُحْتَالٍ بِالْبَاطِلِ. [أَرْبَابُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ] ثُمَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْحِيَلِ نَوْعَانِ: نَوْعُ يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ مَقْصُودِهِ، وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ حَلَالٌ، كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَعُشَّاقِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَنَوْعٌ يُظْهِرُ صَاحِبُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ. وَأَرْبَابُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَالْأَمْرَ مِنْ طَرِيقِهِ وَوَجْهِهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَلَبُوا مَوْضُوعَ الشَّرْعِ وَالدِّينِ، وَلَمَّا كَانَ أَرْبَابُ هَذَا النَّوْعِ إنَّمَا يُبَاشِرُونَ الْأَسْبَابَ الْجَائِزَةَ وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَاصِدَهُمْ أَعْضَلَ أَمْرُهُمْ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِمْ، وَصَعُبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُمْ، وَعَزَّ عَلَى الْعَالَمِ اسْتِنْقَاذُ قَتْلَاهُمْ، فَاسْتُبِيحَتْ بِحِيَلِهِمْ الْفُرُوجُ، وَأُخِذَتْ بِهَا الْأَمْوَالُ مِنْ أَرْبَابِهَا فَأُعْطِيَتْ لِغَيْرِ أَهْلِهَا، وَعُطِّلَتْ بِهَا الْوَاجِبَاتُ، وَضُيِّعَتْ بِهَا الْحُقُوقُ، وَعَجَّتْ الْفُرُوجُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ إلَى رَبِّهَا عَجِيجًا، وَضَجَّتْ مِمَّا حَلَّ بِهَا إلَيْهِ ضَجِيجًا، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ تَعْلِيمَ هَذِهِ الْحِيَلِ حَرَامٌ، وَالْإِفْتَاءُ بِهَا حَرَامٌ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَضْمُونِهَا حَرَامٌ، وَالْحُكْمُ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا حَرَامٌ، وَاَلَّذِي جَوَّزُوا مِنْهَا مَا جَوَّزُوا مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوهُ عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَإِنَّمَا جَوَّزُوا صُورَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ. ثُمَّ إنَّ الْمُتَحَيِّلَ الْمُخَادِعَ الْمَكَّارَ أَخَذَ صُورَةَ مَا أَفْتَوْا بِهِ فَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَا مَنَعُوا مِنْهُ، وَرَكَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَفَتَاوَاهُمْ، وَهَذَا فِيهِ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الشَّارِعِ، مِثَالُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ؛ فَيَتَّخِذُهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ لِوَارِثِهِ وَسِيلَةً إلَى الْوَصِيَّةِ لَهُ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ. وَيَقُولُ: هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَيْهَا بِالْإِقْرَارِ؛ فَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ لِلرَّجُلِ إذَا اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ سِلْعَةً بِثَمَنٍ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ حِيلَةً عَلَى بَيْعِ مِائَةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى سَنَةٍ؛ فَاَلَّذِي يَسُدُّ الذَّرَائِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: هُوَ يُتَّخَذُ حِيلَةً إلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَا يَقْبَلُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعَ. وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ شَهَادَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا التُّهْمَةُ بَطَلَتْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَقْبَلُ إقْرَارَهُ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ، وَحَمْلًا لِإِقْرَارِهِ عَلَى السَّلَامَةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَاتِمَةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ بِمَا يُعْلِمُهُ إيَّاهَا أَرْبَابُ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، بِأَنْ تُنْكِرَ أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لِلْوَلِيِّ، أَوْ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الشُّهُودَ جَلَسُوا وَقْتُ الْعَقْدِ عَلَى فِرَاشِ حَرِيرٍ، أَوْ اسْتَنَدُوا إلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ. وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْحِيلَةَ إذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَرَادَ تَخْلِيصَهُ مِنْ عَارِ التَّحْلِيلِ وَشَنَارِهِ أَرْشَدَهُ إلَى الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ أَوْ الشُّهُودِ، فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ. وَقَدْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لَمَّا كَانَ مُقِيمًا مَعَهَا عِدَّةَ سِنِينَ، فَلَمَّا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فَسَدَ النِّكَاحُ. وَمِنْ هَذَا احْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا، أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مِلْكًا لَهُ وَلَا مَأْذُونًا لَهُ فِي بَيْعِهِ فَهَذِهِ الْحِيَلُ وَأَمْثَالُهَا لَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَأَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ مِنْ التَّلَاعُبِ بِدِينِ اللَّهِ، وَاِتِّخَاذِ آيَاتِهِ هُزُوًا، وَهِيَ حَرَامٌ مِنْ جِهَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِكَوْنِهَا كَذِبًا وَزُورًا، وَحَرَامٌ مِنْ جِهَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا، وَهُوَ إبْطَالُ حَقٍّ وَإِثْبَاتُ بَاطِلٍ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: [الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْمُحَرَّمُ؛ فَيَصِيرُ حَرَامًا تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ تَكُونُ الْحِيلَةُ فِيهِمَا مَوْضُوعَةً لِلْمَقْصُودِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ، وَمُفْضِيَةً إلَيْهِ، كَمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ الْجَائِزِ وَمُفْضِيَةٌ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِهَذَا وَهَذَا. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ لَمْ تُوضَعْ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ مُفْضِيَةً إلَى الْمَشْرُوعِ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَتَّخِذُهَا الْمُتَحَيِّلُ سُلَّمًا وَطَرِيقًا إلَى الْحَرَامِ، وَهَذَا مُعْتَرَكُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ. [نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ الْحِيَلِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ يُقْصَدُ بِهَا أَخْذُ حَقٍّ] الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْصَدَ بِالْحِيلَةِ أَخْذِ حَقٍّ أَوْ دَفْعُ بَاطِلٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ حَقًّا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدَهُ، وَلَا يُبَيِّنُهُ لَهُ، فَيُقِيمَ صَاحِبُهُ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمَانِ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَمِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَيَجْحَدَ الطَّلَاقَ، وَلَا يُبَيِّنُهُ لَهَا، فَتُقِيمَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَلَمْ يَسْمَعَا الطَّلَاقَ مِنْهُ، وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَيَجْحَدَ الْوَدِيعَةَ، فَيَجْحَدَ هُوَ الدَّيْنَ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَيَحْلِفَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ، أَوْ مَا أَوْدَعَنِي شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ يُجِيزُ هَذَا مَنْ يُجِيزُ مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ. وَمِثْلُ أَنْ تَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ كِسْوَةً أَوْ نَفَقَةً مَاضِيَةً كَذِبًا وَبَاطِلًا، فَيُنْكِرَ أَنْ تَكُونَ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ، أَوْ يُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهَا كَانَتْ نَاشِزًا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ، وَمِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلٌ وَلِيَّهُ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ وَلَمْ يَشْهَدَا الْقَتْلَ فَيَشْهَدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَمِثْلُ أَنْ يَمُوتَ مَوْرُوثُهُ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْ زُورٍ أَنَّهُ مَاتَ وَأَنَّهُ وَارِثُهُ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ، وَنَظَائِرُهُ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ لَا شَاهِدَ لَهُ بِهِ فَيُقِيمُ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ لَهُ بِهِ؛ فَهَذَا يَأْثَمُ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْمَقْصُودِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» . [فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ] فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مَشْرُوعَةً، وَمَا يُفْضِي إلَيْهِ مَشْرُوعٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبَّبَاتِهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارِعَةِ وَالْوَكَالَةِ، بَلْ الْأَسْبَابُ مَحَلُّ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ فِي اقْتِضَائِهَا لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا؛ فَهَذَا شَرْعُ الرَّبِّ تَعَالَى وَذَلِكَ قَدَرُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وَهُمَا خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ، وَاَللَّهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَغْيِيرَ لِحُكْمِهِ، فَكَمَا لَا يُخَالِفُ سُبْحَانَهُ بِالْأَسْبَابِ الْقَدَرِيَّةِ أَحْكَامَهَا بَلْ يُجْرِيهَا عَلَى أَسْبَابِهَا وَمَا خُلِقَتْ لَهُ؛ فَهَكَذَا الْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ سَبَبِهَا وَمَا شُرِعَتْ لَهُ، بَلْ هَذِهِ سُنَّتُهُ شَرْعًا وَأَمْرًا، وَتِلْكَ سُنَّتُهُ قَضَاءً وَقَدَرًا، وَسُنَّتُهُ الْأَمْرِيَّةُ قَدْ تُبَدَّلُ وَتَتَغَيَّرُ كَمَا يُعْصَى أَمْرُهُ وَيُخَالَفُ، وَأَمَّا سُنَّتُهُ الْقَدَرِيَّةُ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، كَمَا لَا يُعْصَى أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّحَيُّلُ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَعَلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ؛ فَلِأَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالْمَكْرِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ بَنُو آدَمَ. وَلَيْسَ كَلَامُنَا وَلَا كَلَامُ السَّلَفِ فِي ذَمِّ الْحِيَلِ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا الْقِسْمِ. بَلْ الْعَاجِزُ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَالْكَيِّسُ مَنْ كَانَ بِهِ أَفْطَنَ وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهَا خَدْعَةٌ. وَالْعَجْزُ كُلُّ الْعَجْزِ تَرْكُ هَذِهِ الْحِيلَةِ. وَالْإِنْسَانُ مَنْدُوبٌ إلَى اسْتِعَاذَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ؛ فَالْعَجْزُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِيلَةِ النَّافِعَةِ. وَالْكَسَلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ لِفِعْلِهَا؛ فَالْعَاجِزُ لَا يَسْتَطِيعُ الْحِيلَةَ، وَالْكَسْلَانُ لَا يُرِيدُهَا. وَمَنْ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ أَضَاعَ فُرْصَتَهُ وَفَرَّطَ فِي مَصَالِحِهِ، كَمَا قَالَ: إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَحْتَلْ وَقَدْ جَدَّ جِدُّهُ ... أَضَاعَ وَقَاسَى أَمْرَهُ وَهُوَ مُدْبِرُ وَفِي هَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْأَمْرُ أَمْرَانِ: أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا يُعْجَزُ عَنْهُ، وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا يُجْزَعُ مِنْهُ. [فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ] [الْمِثَالُ الْأَوَّلُ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَخَافَ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ الْمُكْرِي فِي آخِرِ الْمُدَّةِ] فَصْلٌ [الِاحْتِيَالُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ بِطَرِيقٍ مُبَاحَةٍ لَكِنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ] . الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَالَ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى حَقٍّ أَوْ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ بِطَرِيقٍ مُبَاحَةٍ لَمْ تُوضَعْ مُوَصِّلَةً إلَى ذَلِكَ، بَلْ وُضِعَتْ لِغَيْرِهِ، فَيَتَّخِذُهَا هُوَ طَرِيقًا إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ، أَوْ قَدْ يَكُونُ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ لَكِنْ تَكُونُ خَفِيَّةً وَلَا يَفْطِنُ لَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلَى مَقْصُودِهَا ظَاهِرًا، فَسَالِكُهَا سَالِكٌ لِلطَّرِيقِ الْمَعْهُودِ، وَالطَّرِيقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ نُصِبَتْ مُفْضِيَةً إلَى غَيْرِهِ فَيَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ؛ فَهِيَ فِي الْفِعَالِ كَالتَّعْرِيضِ الْجَائِزِ فِي الْمَقَالِ، أَوْ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ لَكِنْ بِخَفَاءٍ، وَنَذْكُرُ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً يُنْتَفَعُ بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَارًا مُدَّةَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَخَافَ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ الْمُكْرِي فِي آخِرِ الْمُدَّةِ وَيَتَسَبَّبَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَة بِأَنْ يَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَارِ أَوْ أَنَّ الْمُؤَجَّرَ مِلْكٌ لِابْنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّرًا قَبْلَ إيجَارِهِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُدَّةِ وَيَنْتَزِعُ الْمُؤَجَّرَ لَهُ مِنْهُ؛ فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْمُسْتَأْجِرُ دَرَكَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَوْ ظَهَرَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْهُ، أَوْ يَأْخُذُ إقْرَارَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يَدَّعِيهَا بِسَبَبِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، أَوْ يَسْتَأْجِرُهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا ثُمَّ يُصَارِفَهُ كُلَّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ طَالَبَهُ هُوَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَلْيُقَسِّطْ [مَبْلَغَ] الْأُجْرَةِ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَ، وَيَجْعَلْ مُعْظَمَهَا لِلسَّنَةِ الَّتِي يَخْشَى غَدْرَهُ فِيهَا. وَكَذَلِكَ إذَا خَافَ الْمُؤَجِّرُ أَنْ يَغْدِرَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَرْحَلَ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَلْيَجْعَلْ مُعْظَمَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا مِنْ رَحِيلِهِ، وَالْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنْهَا لِآخِرِ الْمُدَّةِ [الْمِثَالُ الثَّانِي خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ] الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ رَبُّ الدَّارِ غَيْبَةَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَحْتَاجُ إلَى دَارِهِ فَلَا يُسَلِّمُهَا أَهْلُهُ إلَيْهِ، فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا رَبُّهَا مِنْ امْرَأَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ الْمَرْأَةُ الدَّارَ وَتُفْرِغَهَا مَتَى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، أَوْ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ الزَّوْجُ؛ فَمَتَى اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا وَضَمِنَ الْآخَرُ الرَّدَّ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدُهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فَجَحَدَ وَرَثَتُهُ الْإِجَارَةُ وَادَّعَوْا أَنَّ الدَّارَ لَهُمْ نَفَعَ رَبَّ الدَّارِ كَفَالَةُ الْوَرَثَةِ وَضَمَانُهُمْ رَدَّ الدَّارِ إلَى الْمُؤَجِّرِ، فَإِنْ خَافَ الْمُؤَجِّرُ إفْلَاسَ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْأُجْرَةِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِأُجْرَةِ مَا سَكَنَ أَبَدًا، وَيُسَمِّيَ أُجْرَةَ كُلِّ شَهْرٍ لِلضَّمِينِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ [الْمِثَالُ الثَّالِثُ أَذِنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُحْتَسَبَ مِنْ الْأُجْرَةِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ رَبُّ الدَّارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ يَعْلِفَ الدَّابَّةَ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا، وَخَافَ أَنْ لَا يَحْتَسِبَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي اعْتِدَادِهِ بِهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّارُ، وَيُسَمِّي لَهُ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَيَحْسِبَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيُشْهِدَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّارُ أَوْ الدَّابَّةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُجَوِّزُونَ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِهِ أَوْ إبْرَاءِ نَفْسِهِ مِنْهُ أَوْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا، وَيَبْرَأَ الْمَدِينُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَفِي صُورَةِ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِبْرَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَيْنِ الْغَرِيمِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَخْرَجَ الدَّيْنَ وَضَارَبَ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ أَمَانَةً وَبَرِئَ مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ، وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْتَضِي تَجْوِيزُهُ مُخَالَفَةَ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَلَا وُقُوعًا فِي مَحْظُورٍ مِنْ رِبًا وَلَا قِمَارٍ وَلَا بَيْعِ غَرَرٍ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَتَجْوِيزُهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْرَاءَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ " كَلَامٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُوهِمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَبِالْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يَبْرَأُ، وَهَذَا إيهَامٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَرِئَ بِمَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِي أَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَذِنَ لَهُ فِيهِ رَبُّ الدَّيْنِ، وَمُسْتَحِقُّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ؟ فَكَيْفَ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؟ حَتَّى لَوْ وَكَّلَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ وَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت، أَوْ يَقُولَ لِغَرِيمِهِ: أَبْرِي نَفْسَك إنْ شِئْت، وَقَدْ قَالُوا: لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ مَلَكَهُ، فَلَوْ أَعْتَقَ نَفْسَهُ صَحَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِمَانِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، نَعَمُ الْمَحْذُورُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا رَبِّهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُخَالِفُ لِقَوَاعِد الشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالدَّيْنُ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَخْرَجَ مَالًا وَاشْتَرَى بِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّيْنُ، وَرَبُّ الدَّيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ. قِيلَ: هُوَ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقٌ، وَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ طَابَقَهُ صَحَّ أَنْ يُعَيَّنَ عَنْهُ وَيُجْزِئَ، وَهَذَا كَإِيجَابِ الرَّبِّ تَعَالَى الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَكِنْ أَيُّ رَقَبَةٍ عَيَّنَهَا الْمُكَلَّفُ وَكَانَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ. وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عَيَّنَهُ وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ تَعَيَّنَ وَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ. وَهَذَا كَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَى رَبِّهِ، وَكَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِهِ؛ فَهَكَذَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يُعَيِّنَهُ ثُمَّ يُضَارِبَ بِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا؛ وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوجَبُ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَيُّنِهِ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ فِي قَبْضِهِ وَالشِّرَاءِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ وَبَيْنَ تَعْيِينِهِ إذَا وَكَّلَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 يُعَيِّنَهُ وَيُضَارِبَ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَهَلْ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فِقْهٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا أَوْ حِكْمَةٌ لِلشَّارِعِ فَيَجِبُ مُرَاعَاتُهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: تَجَوَّزُوا عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ لَهُ: اجْعَلْ الدَّيْنَ عَلَيْك رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي كَذَا وَكَذَا. قِيلَ: شَرْطُ صِحَّةِ النَّقْضِ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ الَّتِي تَنْقُضُ بِهَا مُسَاوِيَةً لِسَائِرِ الصُّوَرِ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا، فَلَا إجْمَاعَ مَعْلُومٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُكِيَ وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِهَا رَأَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمُجَوِّزُ لَهَا يَقُولُ: لَيْسَ عَنْ الشَّارِعِ نَصٌّ عَامٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَغَايَةُ مَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَالْكَالِئُ: هُوَ الْمُؤَخَّرُ، وَهَذَا كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ، فَهَذَا هُوَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ شَغْلَ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لَهُمَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ وَخَلَفَهُ دَيْنٌ آخَرُ وَاجِبٌ فَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ السَّاقِطِ بِالْوَاجِبِ، فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّاقِطِ بِالسَّاقِطِ فِي بَابِ الْمُقَاصَّةِ، فَإِنْ بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَقَالَ: أَنْفَقْتُ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْكَرَ الْمُؤَجِّرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِنْ الْحَقِّ الثَّابِتِ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَنْفَعُهُ إشْهَادُ رَبِّ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ؟ . قِيلَ: لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَنْفَقَ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَلَّا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَكِنْ يَنْتَفِعُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ بِإِشْهَادِ الْمُؤَجِّرِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَنْفَقَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ مُدَّعٍ، فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ لَيْسَ مُدَّعِيًا، وَلَا يَنْفَعُهُ إشْهَادُ الْمُؤَجِّرِ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا سَوْفَ يَدَّعِيه فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَهَذَا شَيْءٌ وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِيلَةُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُؤَجِّرُ الْمُسْتَأْجِرَ فِيمَا يَدَّعِيه مِنْ النَّفَقَةِ؟ قِيلَ: الْحِيلَةُ أَنْ يُسْلِفَ الْمُسْتَأْجِرُ رَبَّ الدَّارِ أَوْ الْحَيَوَانِ مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ يَدْفَعَ رَبُّ الدَّارِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ، وَيُوَكِّلَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى دَارِهِ أَوْ دَابَّتِهِ، فَيَصِيرَ أَمِينَهُ فَيُصَدِّقَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه إذَا كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 مِثْلِهِ عُرْفًا، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يُصَدَّقْ بِهِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لَا يَدْفَعُ بِهَا حَقًّا، وَلَا يَتَوَصَّلُ بِهَا لَمُحَرَّمٍ، وَلَا يُقِيمُ بِهَا بَاطِلًا. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ تَسْلِيمَهَا] [خَوْفُ رَبِّ الدَّارِ مِنْ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ تَسْلِيمَهَا] الْمِثَالُ الرَّابِعُ: إذَا خَافَ رَبُّ الدَّارِ أَوْ الدَّابَّةِ أَنْ يُعَوِّقَهَا عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَالْحِيلَةُ فِي أَمْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: مَتَى حَبَسْتُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَأُجْرَتُهَا كُلَّ يَوْمٍ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ يَخَافُ مِنْ حَبْسِهَا أَنْ يُلْزِمَهُ بِذَلِكَ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ] [اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ: لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ، لِذَهَابِ عَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَالْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الشَّمْعَةِ أَوَاقِيَّ مَعْلُومَةً، ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَشْعَلَ مِنْهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَإِلَّا احْتَسَبَ لَهُ بِمَا أَذْهَبَهُ مِنْهَا، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الشَّمْعَةِ كُلَّ أُوقِيَّةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، قَلَّ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا أَوْ كَثُرَ، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ إجَارَةِ الدَّارِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، وَقَدْ أَجَرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ نَفْسَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَلَا مَحْذُورَ فِي هَذَا أَصْلًا، وَلَا يُفْضِي إلَى تَنَازُعٍ وَلَا تَشَاحُنٍ، بَلْ عَمَلُ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ بِيَاعَاتِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّهُ جَهَالَةُ كَمْيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الْقِمَارِ وَالْغَرَرِ، وَلَا يَدْرِي الْعَاقِدُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَدْخُلُ، وَهَذِهِ لَا تُؤَدِّي إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إنْ أَرَادَ قَلِيلًا أَخَذَ وَالْبَائِعُ رَاضٍ، وَإِنْ أَرَادَ كَثِيرًا أَخَذَ وَالْبَائِعُ رَاضٍ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تُحَرِّمُ مِثْلَ هَذَا وَلَا تَمْنَعُ مِنْهُ، بَلْ هِيَ أَسْمَحُ مِنْ ذَلِكَ وَأَحْكَمُ. فَإِنْ قِيلَ: لَكِنْ فِي الْعَقْدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْذُورَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تَضَمُّنُهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ يَذْهَبُ عَيْنُهُ أَوْ بَعْضُهُ بِالْإِشْعَالِ. قِيلَ: لَا مَحْذُورَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عَقْدَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزٌ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً وَأَجَرَهُ دَارِهِ شَهْرًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَمَّا مَذْهَبُ إجْزَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِانْتِفَاعِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّضْ عَنْهُ الْمُؤَجِّرُ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي رَدَّ الْعَيْنِ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ، وَأَمَّا هَذَا الْعَقْدُ فَهُوَ عَقْدُ بَيْعٍ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْمُتْلَفِ بِثَمَنِهِ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ وَأُجْرَةِ انْتِفَاعِهِ بِالْعَيْنِ قَبْلَ الْإِتْلَافِ، فَالْأُجْرَةُ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاعِهِ بِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا، وَالثَّمَنُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَذْهَبَ مِنْهَا، فَدَعَوْنَا مِنْ تَقْلِيدِ آرَاءِ الرِّجَالِ، مَا الَّذِي حَرَّمَ هَذَا؟ وَأَيْنَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَوْ الْقِيَاسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الصَّحِيحِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ؟ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَذَاكَ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْمِثَالُ السَّادِسُ اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ] [اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ] الْمِثَالُ السَّادِسُ: أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ حَاكِمٌ يُصَحِّحُ هَذَا الشَّرْطَ، أَوْ تَخَافُ أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى حَاكِمٍ يُبْطِلُهُ، فَالْحِيلَةُ فِي تَصْحِيحِهِ أَنْ تُلْزِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ تَزَوَّجْت عَلَيْك امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ. وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ وَإِنْ قُلْنَا: " لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ " نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَمَّا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَنْعِ التَّزْوِيجِ بِحَيْثُ لَوْ تَزَوَّجَ فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَمُفَارَقَتِهِ جَازَ اشْتِرَاطُ طَلَاقِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا، كَمَا جَازَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ نِكَاحِهَا، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهَا هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلِتَأْخُذْ شَرْطَهُ أَنَّهُ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، أَوْ أَمْرُ الضَّرَّةِ بِيَدِهَا، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ عَلَى الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، كَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ عَلَى الشَّرْطِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. وَلَوْ قِيلَ: " لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ " لَصَحَّ تَعْلِيقُ هَذَا التَّوْكِيلِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْقَاطَ، فَهُوَ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْبَرَاءَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأُصُولُهُ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ، وَلَيْسَ عَنْهُ نَصٌّ بِالْمَنْعِ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَمْ يُمْنَعْ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ كَمَا تُعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكُ مَالٍ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهَا هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلْيَتَزَوَّجْهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ دَارِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ أَضْعَافُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَيُقِرُّ الزَّوْجُ بِأَنَّهُ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى إلَّا بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهَا فِي دَارِهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهَا ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَتْ فِي مُقَابَلَتِهِ زِيَادَةً جَازَ، وَتَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَهَا مِنْ الْغَرَضِ الَّذِي إنَّمَا أَرْخَصَتْ الْمَهْرَ لِيَسْلَمَ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْمَهْرِ الزَّائِدِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ دَارِهَا وَلَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرْضَ بِبَذْلِ بِضْعِهَا لِلزَّوْجِ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ عَنْ تَرَاضٍ، وَكَانَ إلْزَامًا لَهَا بِمَا لَمْ تَلْتَزِمْهُ وَبِمَا لَمْ يُلْزِمْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ بِهِ، فَلَا نَصَّ وَلَا قِيَاسَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 [الْمِثَالُ السَّابِعُ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا] تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا] الْمِثَالُ السَّابِعُ: إذَا خَاصَمَتْهُ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ: قُلْ " كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيَعْنِي بِالْجَارِيَةِ السَّفِينَةَ لِقَوْلِهِ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] وَيُمْسِكُ بِيَدِهِ حَصَاةً أَوْ خِرْقَةً وَيَقُولُ: " فَهِيَ طَالِقٌ " فَيَرُدُّ الْكِنَايَةَ إلَيْهَا، فَإِنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ وَقَالَتْ: قُلْ: " كُلُّ رَقِيقَةٍ أَوْ أَمَةٍ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ وَلْيَعْنِ فَهِيَ حُرَّةُ الْخِصَالِ غَيْرُ فَاجِرَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ تُعْتَقْ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: " غُلَامُك فَاجِرٌ زَانٍ " فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ إلَّا حُرًّا عَفِيفًا، وَلَمْ يُرِدْ الْعِتْقَ، لَمْ يُعْتَقْ. وَإِنْ تَفَقَّهَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: قُلْ: " فَهِيَ عَتِيقَةٌ " فَلِيَقُلْ ذَلِكَ وَلِيَنْوِ ضِدَّ الْجَدِيدَةِ، أَيْ عَتِيقَةٌ فِي الرِّقِّ، فَإِنْ تَفَقَّهَتْ وَقَالَتْ: قُلْ: " فَهِيَ مَعْتُوقَةٌ " وَ: " قَدْ أَعْتَقْتهَا إنْ مَلَكْتهَا " فَلْيَرُدَّ الْكِنَايَةَ إلَى حَصَاةٍ فِي يَدِهِ أَوْ خِرْقَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَدَعْهُ أَنْ يَمْسِكَ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَيَعْنِي أَنْ قَدْ أَعْتَقَهَا مِنْ النَّارِ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَيْسَتْ رَقِيقَةً لِأَحَدٍ، وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ جُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ وَقَالَتْ: قُلْ: " فَالْجَارِيَةُ الَّتِي أَشْتَرِيهَا مَعْتُوقَةٌ " فَلْيُقَيِّدْ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ فِي نِيَّتِهِ، وَلَا يَحْنَثْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ حَضَرَتْهُ وَقَالَتْ: مِنْ غَيْرِ تَوْرِيَةٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلَا نِيَّةٍ تُخَالِفُ قَوْلِي، وَهَذَا آخِرُ التَّشْدِيدِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ التَّوْرِيَةِ وَالْكِنَايَةِ. وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: " لَا أُوَرِّي وَلَا أُكَنِّي " وَالتَّوْرِيَةُ وَالْكِنَايَةُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: " لَا أَسْتَثْنِي " بِلِسَانِهِ وَمِنْ نِيَّتِهِ الِاسْتِثْنَاءُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَثْنَى نَفَعَهُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا بِوَجْهٍ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، كَقَوْلِ الْمَلَكِ لِسُلَيْمَانَ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا الْإِذْخِرَ» بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِهِ الْعَبَّاسُ، وَقَوْلِهِ: «إنْ شَاءَ اللَّهُ» بَعْدَ أَنْ قَالَ: «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ثُمَّ قَالَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ وَسُكُوتِهِ: «إنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا نَسِيَهُ وَلَمْ يَنْوِهِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَا أَثْنَاءَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] ، وَهَذَا إمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ إذَا نَسِيَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ يَعُمَّهُ وَيَعُمَّ غَيْرَهُ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَأَمَّا أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ وَيَرُدَّ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهِ نِيَّةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِهِ وَبَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِهِ؛ فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَفْعَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ خَطَر لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ] [إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ: لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ الْمَشْغُولَةِ بِالزَّرْعِ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلَهُ حِيلَتَانِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 جَائِزَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ، فَتَكُونَ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِكَوْنِ الزَّرْعِ لَمْ يَشْتَدَّ أَوْ كَانَ زَرْعًا لِلْغَيْرِ انْتَقَلَ إلَى الْحِيلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يُؤْجِرَهُ إيَّاهَا لِمُدَّةٍ تَكُونُ بَعْدَ أَخْذِ الزَّرْعِ، وَيَصِحُّ هَذَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ اسْتِئْجَار الْأَرْض بِخَرَاجِهَا مَعَ الْأُجْرَةِ] [اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِخَرَاجِهَا مَعَ الْأُجْرَةِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ: لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخَرَاجِ مَعَ الْأُجْرَةِ، أَوْ يَكُونَ قِيَامُهُ بِهِ هُوَ أُجْرَتُهَا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةٌ تَلْزَمُ الْمَالِكَ بِسَبَبِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ؛ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُسَمِّيَ مِقْدَارَ الْخَرَاجِ، وَيُضِيفَهُ إلَى الْأُجْرَةِ - قُلْت: وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ إذَا كَانَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا جَهَالَةَ فِيهِ - فَيَقُولَ: أَجَرْتُكَهَا بِخَرَاجِهَا تَقُومُ بِهِ عَنِّي، فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَا جَهَالَةَ، وَلَا غَرَرَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ آجَرْتُك كُلَّ سَنَةٍ بِمِائَةٍ أَوْ بِالْمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهَا كُلَّ سَنَةٍ خَرَاجًا؟ فَإِنْ قِيلَ: الْأُجْرَةُ تُدْفَعُ إلَى الْمُؤَجِّرِ وَالْخَرَاجُ إلَى السُّلْطَانِ. قِيلَ: بَلْ تُدْفَعُ الْأُجْرَةُ إلَى الْمُؤَجِّرِ أَوْ إلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، فَيَصِيرُ وَكِيلَهُ فِي الدَّفْعِ. [الْمِثَالُ الْعَاشِرُ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا] [اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا] الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الدَّابَّةَ بِعَلَفِهَا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُسَمِّيَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعَلَفِ فَيَجْعَلَهُ أُجْرَةً ثُمَّ يُوَكِّلَهُ فِي إنْفَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا عَلَى أَصْلِنَا؛ فَإِنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الظِّئْرَ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَالْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، فَكَذَلِكَ إجَارَةُ الدَّابَّةِ بِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا. فَإِنْ قِيلَ: عَلَفُ الدَّابَّةِ عَلَى مَالِكِهَا، فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفْسِهَا. قِيلَ: هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْعَلَفَ قَدْ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ نَفْسُهُ أُجْرَةٌ مُغْتَفَرَةٌ جَهَالَتُهَا الْيَسِيرَةُ لِلْحَاجَةِ، بَلْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَةِ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ؛ إذْ يُمْكِنُ الْأَجِيرَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الدَّابَّةُ فَإِنْ كُلِّفَ رَبُّهَا أَنْ يَصْحَبَهَا لِيَعْلِفَهَا شِقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى قِيَامِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهَا، وَلَا يُظَنُّ بِهِ تَفْرِيطُهُ فِي عَلَفِهَا لِحَاجَتِهِ إلَى ظَهْرِهَا، فَهُوَ يَعْلِفُهَا لِحَاجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا مُخَاصَمَتُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 [الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ الْإِجَارَةُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُدَّة] الْإِجَارَةُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمُدَّةِ] الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا، وَلَا يَدْرِي مُدَّةَ مُقَامِهِ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ سَنَةً فَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّحَوُّلِ قَبْلَهَا. فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَكَذَا، فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ وَتَلْزَمَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَتَصِيرَ جَائِزَةً فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ الشُّهُورِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخُ عَقِيبَ كُلِّ شَهْرٍ إلَى تَمَامِ يَوْمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِذَا خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَتَحَوَّلَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَيَلْزَمَهُ أُجْرَتُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا كُلَّ أُسْبُوعٍ بِكَذَا، فَإِنْ خَافَ التَّحَوُّلَ قَبْلَ الْأُسْبُوعِ اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ يَوْمٍ بِكَذَا، وَيَصِحُّ وَيَكُونُ حُكْمُ الْيَوْمِ كَحُكْمِ الشَّهْرِ. [الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ شِرَاء الْوَكِيل مَا وُكِّلَ فِيهِ لِنَفْسِهِ] [شِرَاءُ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ فِيهِ لِنَفْسِهِ] الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ: لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً مُعَيَّنَةً، فَلَمَّا رَآهَا الْوَكِيلُ أَعْجَبَتْهُ وَأَرَادَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَلَا غَدْرٍ بِالْمُوَكِّلِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ وَإِخْرَاجٌ لَهَا مِنْ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْبَتِهِ، وَإِذَا عَزَلَ [نَفْسَهُ] وَاشْتَرَى الْجَارِيَةَ لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ مَلَكَهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بَيْعٌ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ شِرَاءٌ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَيِّدُهَا قَدْ رَكَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَعَزَمَ عَلَى إمْضَاءِ الْبَيْعِ لَهُ؛ فَيَكُونَ شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَلَا يُقَالُ: " الْعَقْدُ لَمْ يَتِمَّ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَائِهِ هُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْبَائِعِ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَيَعْقِدَ مَعَهُ هُوَ " لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا حَمْلٌ لِلْحَدِيثِ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ، وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهَا. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ ذَلِكَ بِخِطْبَتِهِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ «نُهِيَ أَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» ، وَذَلِكَ أَيْضًا قَبْلَ الْعَقْدِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَرَّمَ الشَّارِعُ لِأَجْلِهِ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الْخِيَارِ، بَلْ هُوَ قَائِمٌ بَعْدَ الرُّكُونِ وَالتَّرَاضِي وَإِنْ لَمْ يَعْقِدَاهُ كَمَا هُوَ قَائِمٌ بَعْدَ الْعَقْدِ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ بِلَا مُوجِبٍ، فَيَكُونُ فَاسِدًا، فَإِنَّ شِرَاءَهُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ مُتَنَاوِلٌ لِحَالِ الشِّرَاءِ وَمَا بَعْدَهُ، وَاَلَّذِي غَرَّ مَنْ خَصَّهُ بِحَالَةِ الْخِيَارِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ اشْتَرَى بَعْدَ شِرَاءِ أَخِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ اللَّفْظُ صَادِقٌ عَلَى الْقِسْمَيْنِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ اللَّفْظُ بِمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ لَوَجَبَ تَعْدِيَتُهُ بِتَعَدِّيَةِ عِلَّتِهِ إلَى حَالَةِ السَّوْمِ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، فَلَوْ اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ لَكَانَ عَزْلًا لِنَفْسِهِ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 قَالُوا: فَالْحِيلَةُ فِي شِرَائِهَا لِنَفْسِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ الَّذِي وُكِّلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَمْلِكَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَاةٍ فَاشْتَرَى فَرَسًا؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ فَإِنْ أَرَادَ الْمُوَكِّلُ الِاحْتِرَازَ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَأَنْ لَا يُمَكِّنَ الْوَكِيلَ مِنْ شِرَائِهَا لِنَفْسِهِ فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ حُرَّةٌ؛ فَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ مَنْ يَشْتَرِيهَا لَهُ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَكِيلَ هَلْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا؛ فَوَكَّلَ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ وَفِي الْأَصْلَيْنِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي بَيْعِ جَارِيَةٍ وَوَكَّلَهُ آخَرُ فِي شِرَائِهَا، وَأَرَادَ هُوَ شِرَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا أَصْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ هَلْ يَمْلِكُ بَيْعَهُ لِنَفْسِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقْصِي فِي الثَّمَنِ، وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ إذَا زَادَ عَلَى ثَمَنِهَا فِي النِّدَاءِ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ؛ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى حِيلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّحَيُّلُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: لَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ دَرَاهِمَ وَيَقُولَ لَهُ: اشْتَرِهَا لِنَفْسِك، ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا مِنْهُ، وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَحَيُّلٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى عَدَمِ اسْتِقْصَائِهِ وَاحْتِيَاطِهِ فِي الْبَيْعِ، بَلْ يُسَامِحُ فِي ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهَا تَصِيرُ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزِنُ الثَّمَنَ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ ذَلِكَ نَوْعَ غَدْرٍ وَمَكْرٍ؛ فَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ تَأْبَى الْجَوَازَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ وَكَّلَهُ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِهَا وَالْآخَرُ فِي شِرَائِهَا وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ . قِيلَ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى شِرَاءِ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنْ أَجَزْنَاهُ هُنَاكَ جَازَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ مَنَعْنَاهُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَيْضًا هَاهُنَا؛ لِتَضَادِّ الْغَرَضَيْنِ؛ لِأَنَّ وَكِيلَ الْبَيْعِ يَسْتَقْصِي فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَوَكِيلَ الشِّرَاءِ يَسْتَقْصِي فِي نُقْصَانِهِ؛ فَيَتَضَادَّانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ - وَإِنْ مَنَعْنَا الْوَكِيلَ مِنْ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ - عَلَى جَوَازِ كَوْنِ الْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ وَكِيلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَكَوْنِهِ أَيْضًا وَلِيًّا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَأَنَّهُ يَلِي بِذَلِكَ عَلَى إيجَابِ الْعَقْدِ وَقَبُولِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التُّهْمَةَ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ التُّهْمَةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ. وَالْحِيلَةُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَبِيعَهَا بَيْعًا بَتَاتًا ظَاهِرًا لِأَجْنَبِيٍّ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ شِرَاءً مُسْتَقِلًّا؛ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 [الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ الْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ] حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ] الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَقُولِينَ لِي شَيْئًا إلَّا قُلْت لَك مِثْلَهُ " فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: قُلْت لِي: أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: وَفِي هَذِهِ الْحِيلَةِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهَا مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا حَكَى كَلَامَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ لَهَا نَظِيرَهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ الْمَسْبُوبُ: " أَنْتِ قُلْت لِي كَذَا وَكَذَا " لَمْ يَكُنْ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ، لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا؛ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: الْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: " أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا " - بِفَتْحِ التَّاءِ - فَلَا تَطْلُقُ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَتْ لَهُ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْ الْأُولَى؛ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ الْمُتَعَارَفَ لُغَةً وَعَقْلًا وَعُرْفًا مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يُخَاطِبَهَا خِطَابَ الْمُؤَنَّثِ، فَإِذَا خَاطَبَهَا خِطَابَ الْمُذَكَّرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَدًّا وَلَا جَوَابًا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ رَدٌّ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْمُوَاجَهَةِ وَإِنْ فَتَحَ التَّاءَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا الشَّخْصُ أَوْ الْإِنْسَانُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إنْ كَلَّمْت السُّلْطَانَ، أَوْ إنْ سَافَرْت، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَيَكُونَ قَدْ قَالَ لَهَا نَظِيرَ مَا قَالَتْ، وَلَا يَضُرُّهُ زِيَادَةُ الشَّرْطِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَكِنْ فِي كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا رَادًّا أَوْ مُجِيبًا نَظَرٌ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ تَضَمَّنَ زِيَادَةً فِي الْكَلَامِ لَكِنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نَظِيرًا لِكَلَامِهَا، وَمِثْلًا لَهُ، وَهُوَ إنَّمَا حَلَفَ أَنْ يَقُولَ لَهَا مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، بَلْ الشَّرْطُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ التَّامِّ فَيُصَيِّرُهُ نَاقِصًا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْخَبَرِ فَيَقْلِبُهُ إنْشَاءً، وَيُغَيِّرُ صُورَةَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَمَعْنَاهَا، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: " لَعَنَك اللَّهُ "، فَقَالَ لَهُ: " لَعَنَك اللَّهُ إنْ بَدَّلْت دِينَك أَوْ ارْتَدَدْت عَنْ الْإِسْلَامِ " لَمْ يَكُنْ سَابًّا لَهُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: " يَا زَانٍ " فَقَالَ: " بَلْ أَنْتَ زَانٍ إنْ وَطِئْت فَرْجًا حَرَامًا " لَمْ يَكُنْ الثَّانِي قَاذِفًا لَهُ. وَلَوْ بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت السُّلْطَانَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَالَ، وَلَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا حَاجَةَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحَالِفُ لَمْ تَدْخُلْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فَهِيَ مِنْ الْمَخْصُوصِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَقْلِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذِهِ الصُّورَةَ قَطْعًا، وَلَا خَطَرَتْ بِبَالِهِ، وَلَا تَنَاوَلَهَا لَفْظُهُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَنَاوَلَ لَفْظُهُ الْقَوْلَ الَّذِي يَصِحُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 أَنْ يُقَالَ لَهُ، وَقَوْلُهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " لَيْسَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ؛ فَهُوَ لَغْوٌ مَحْضٌ وَبَاطِلٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا " أَنْتِ امْرَأَتِي " وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْأَمَةِ لِسَيِّدِهَا: " أَنْتِ أَمَتِي وَجَارِيَتِي " وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ اللَّغْوِ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ لَفْظِ الْحَالِفِ وَلَا إرَادَتِهِ، أَمَّا عَدَمُ دُخُولِهِ تَحْتَ إرَادَتِهِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا عَدَمُ تَنَاوُلِ لَفْظِهِ لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إنَّمَا يَكُونُ عَامًّا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ وَفِيمَا سِيقَ لِأَجْلِهِ. وَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَغَايَتُهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لُغَةً وَعُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ مُطَابِقًا وَمُمَاثِلًا لِكَلَامِهَا مِثْلَهُ، فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْإِحْرَامُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ] [الْإِحْرَامُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ] الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ: إذَا خَافَ الرَّجُلُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَيَفُوتَهُ فَيَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُحْرِمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا وَلَا يُعَيِّنَهُ؛ فَإِنْ اتَّسَعَ لَهُ الْوَقْتُ جَعَلَهُ حَجًّا أَوْ قِرَانًا أَوْ تَمَتُّعًا، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ جَعَلَهُ عُمْرَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا. [الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ] [مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ] الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ: إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَدَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ لِلْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ أَنْ لَا يُحْرِمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، بَلْ يَرْجِعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَيُحْرِمَ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَلَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ. [الْمِثَال السَّادِسَ عَشْر الْحِيلَة لِلْبِرِّ فِي يَمِينٍ] [حِيلَةٌ لِلْبِرِّ فِي يَمِينٍ] الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ: إذَا سُرِقَ لَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ تُخْبِرِينِي مَنْ أَخَذَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالْمَرْأَةُ لَا تَعْلَمُ مَنْ أَخَذَهُ. فَالْحِيلَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ أَنْ تَذْكُرَ الْأَشْخَاصَ الَّتِي لَا يَخْرُجُ الْمَأْخُوذُ عَنْهُمْ، ثُمَّ تُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَتَقُولَ: هُوَ أَخَذَهُ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ مُخْبِرَةً عَنْ الْآخِذِ وَعَنْ غَيْرِهِ فَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا تَطْلُقُ. [الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَر ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ نَفَقَةً مَاضِيَةً] [ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ نَفَقَةً مَاضِيَةً] الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ: إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ لِمُدَّةٍ مَاضِيَةٍ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ دَعْوَاهَا، فَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقْبَلَانِ دَعْوَاهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مَأْخَذِ الرَّدِّ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُسْقِطُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَمَا يَقُولُهُ مُنَازِعُوهُ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَمَالِكٌ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى الَّتِي يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَلَا يُحْلَفُ عِنْدَهُ فِيهَا، وَلَا يَقْبَلُ فِيهَا بَيِّنَةً، كَمَا لَوْ كَانَ رَجُلٌ حَائِزًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 دَارًا مُتَصَرِّفًا فِيهَا مُدَّةَ السِّنِينَ الطَّوِيلَةِ بِالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعِمَارَةِ وَيَنْسُبُهَا إلَى نَفْسِهِ وَيُضِيفُهَا إلَى مِلْكِهِ وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ خَوْفٍ أَوْ شَرِكَةٍ فِي مِيرَاثٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ، فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فَضْلًا عَنْ إقَامَةِ بَيِّنَتِهِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةَ سِنِينَ يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَالْجِيرَانُ دَاخِلًا بَيْتَهُ بِالطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ، ثُمَّ ادَّعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ فَدَعْوَاهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْلَفَ لَهَا، أَوْ يُسْمَعَ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالُوا: وَكُلُّ دَعْوَى يَنْفِيهَا الْعُرْفُ وَتُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ فَإِنَّهَا مَرْفُوضَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ سِوَاهُ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ أَنْ تَسْمَعَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَالنَّاسُ أَنَّهَا كَذِبٌ وَزُورٌ؟ وَكَيْفَ تَدَّعِي الْمَرْأَةُ أَنَّهَا أَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فِيهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا كَسَاهَا فِيهَا ثَوْبًا، وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَيْهِ، وَيُلْزَمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَيُقَالُ: الْأَصْلُ مَعَهَا وَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى أَصْلٍ يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَالظَّاهِرُ الَّذِي بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ إلَى حَدِّ الْقَطْعِ؟ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا الظَّاهِرُ الْقَوِيُّ عَلَى الْأَصْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَمِثْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ فِي الْقُوَّةِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ سُقُوطُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ قَامَتْ بِدُونِهَا؛ فَهِيَ كَحَقِّ الْمَبِيتِ وَالْوَطْءِ. وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُمْ أَئِمَّةُ النَّاسِ فِي الْوَرَعِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمَظَالِمِ - قَضَى لِامْرَأَةٍ بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ، أَوْ اسْتَحَلَّ امْرَأَةً مِنْهَا، وَلَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ امْرَأَةً وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَلَا قَالَ لَهَا: مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ حَقٌّ لَكَ عِنْدَ الزَّوْجِ؛ فَإِنْ شِئْتِ فَطَالِبِيهِ، وَإِنْ شِئْتِ حَلَلْتِيهِ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَهْلِهِ أَيَّامًا حَتَّى سَأَلَتْهُ إيَّاهَا، وَلَمْ يَقُلْ لَهُنَّ: هِيَ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِي حَتَّى يُوَسِّعَ اللَّهُ وَأَقْضِيَكُنَّ، وَلَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِ لِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ ذَلِكَ، وَلَا قَالَ لَهَا: هَذَا عِوَضٌ عَمَّا فَاتَك مِنْ الْإِنْفَاقِ، وَلَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَبَرًا؛ وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْغُيَّابِ: " إمَّا أَنْ تُطَلِّقُوا وَإِمَّا أَنْ تَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى " فِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، فَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: " ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ " فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ. وَلَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهُ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا طَلَّقُوا لَمْ يُلْزِمْهُمْ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى. فَإِنْ قِيلَ: وَحُجَّةٌ عَلَيْكُمْ فِي إلْزَامِهِ لَهُمْ بِهَا، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قِيلَ: بَلْ نَقُولُ بِهِ، وَإِنَّ الْأَزْوَاجَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 يَسْقُطْ بِالِامْتِنَاعِ وَلَزِمَهُمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَعْذُورُ الْعَاجِزُ فَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَيَسْمَعُهَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الدَّعَاوَى، وَأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ وَمُسْتَحِقُّهُ يُنْكِرُ قَبْضَهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَحْتَاجُ الزَّوْجُ إلَى طَرِيقٍ تُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَى النُّشُورِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُخَلِّصُهُ دَعْوَى عَدَمِ التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِلْإِنْفَاقِ لِتَمَكُّنِ الْمَرْأَةِ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ حِيلَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلِلْبَيِّنَةِ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمْته وَتَحَقَّقْته بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِمَا عَلِمَهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ عَلِمَهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْبَيِّنَةَ عَنْ مُسْتَنَدِ التَّحَمُّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَهُ فِي الشَّهَادَةِ وَالْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْكِرَ التَّمْكِينَ الْمُوجِبَ لِثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ التَّمْكِينَ الْمَاضِي لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ مَا ادَّعَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ إلَيْهَا. وَالتَّمْكِينُ الَّذِي يُوجِبُ مَا ادَّعَتْ بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَهُوَ صَادِقٌ فِي إنْكَارِهِ. [الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ شِرَاءُ مَعِيبٍ ثُمَّ تَعَيُّبُهُ عِنْد الْمُشْتَرِي] [شِرَاءُ مَعِيبٍ ثُمَّ تَعَيُّبُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي] : الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ: إذَا اشْتَرَى رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ فَتَعَيَّبَ عِنْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ لِلْعَيْبِ الْحَادِثِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ الْأَرْشِ لِدُخُولِ التَّفَاضُلِ فَالْحِيلَةُ فِي اسْتِدْرَاكِ ظُلَامَتِهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ رِبَوِيًّا مَعِيبًا بِنَظِيرِ الْعَيْبِ الَّذِي وَجَدَهُ بِالْمَبِيعِ ثُمَّ يَسْتَرْجِعَ مِنْهُ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ اسْتَرَدَّ مِنْهُ نَظِيرَهُ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْحِيلَةُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَ الْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي تَجْوِيزِ مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَكَتَمَهُ لَمْ يَمْنَعْ الْعَيْبُ الْحَادِثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ عِنْدَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ وَمَعَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَيَسْتَرِدُّ الْعِوَضَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ؛ فَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ زِيَادَةً فِي عِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ رِبًا. [الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ إبراء الغريم فِي مَرَضِ الْمَوْتِ] [إبْرَاءٌ الْغَرِيمِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ] الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ: إذَا أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ دَيْنِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَدَيْنُهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ فَخَافَ الْمُبْرَأُ أَنْ تَقُولَ الْوَرَثَةُ: " لَمْ يُخَلِّفْ مَالًا سِوَى الدَّيْنِ " وَيُطَالِبُونَ بِثُلُثَيْهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 فَالْحِيلَةُ أَنْ يُخْرِجَ الْمَرِيضُ إلَى الْغَرِيمِ مَالًا بِقَدْرِ دَيْنِهِ فَيَهَبَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ مِنْ دَيْنِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ [وَلَمْ تَغِبْ عَنْهُ الْوَرَثَةُ] فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ شَرِيكُهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ كَانَ قَبَضَهُ مِنْهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إذَا تُوُفِّيَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ أَيِّ وَقْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مَتَى ادَّعَى عَلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا فَهُوَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ بَعْدَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَدَّقَ الْمَوْرُوثَ إنْ ادَّعَى، وَلَمْ تَحْصُلْ دَعْوَاهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ مَا ادَّعَى بِهِ الْمَوْرُوثُ وَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ. [الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ لِنَفَاذِ عِتْقِ عَبْدِهِ مَعَ خَوْفِهِ جَحْدَ الْوَرَثَةِ] [حِيلَةٌ لِنَفَاذِ عِتْقِ عَبْدِهِ مَعَ خَوْفِهِ جَحْدَ الْوَرَثَةِ] الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَجْحَدَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ وَيُرِقُّوا ثُلُثَيْهِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ، وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَهَبَ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَسْأَلَهُ إعْتَاقَ الْعَبْدِ. وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ تَنْجِيزَ عِتْقِهِ وَأَحَبَّ تَدْبِيرَهُ وَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُمَلِّكَهُ لِرَجُلٍ يَثِقُ بِهِ، وَيُعَلِّقُ الْمُشْتَرِي عِتْقَهُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ الْمُمَلِّكِ، فَلَا يَجِدُ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ سَبِيلًا [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ دَيْنٌ عَلَى الْمَوْرُوثِ وَأَحَبَّ أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ] ِ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ أَبْطَلْنَا إقْرَارَهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ عِوَضَهُ كَانَ تَبَرُّعًا فِي الظَّاهِرِ فَلِبَاقِي الْوَرَثَةِ رَدُّهُ، فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ مِنْ دَيْنِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْوَارِثُ مَالَهُ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، ثُمَّ يَبِيعَهُ سِلْعَةً أَوْ دَارًا أَوْ عَبْدًا بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَيَسْتَرِدَّ مِنْهُ الْمَالَ، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ تِلْكَ السِّلْعَةَ الَّتِي هِيَ بِقَدْرِ دَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ حَاجَةٍ [لَهُ] إلَى ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَهُ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ؟ قِيلَ: بَلْ فِي ذَلِكَ خَلَاصٌ الْوَارِثِ مِنْ دَعْوَى بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَاتِّهَامِهِمْ لَهُ وَشَكْوَاهُمْ إيَّاهُ أَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ مَوْرُوثِنَا أَوْ صَارَ إلَيْهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ الَّذِي عَايَنُوهُ عِنْدَ الْمَوْرُوثِ عَنْ التَّرِكَةِ سَلِمَ مِنْ تَطَرُّقِ التُّهْمَةِ وَالْأَذَى وَالشَّكْوَى [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ إذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ ابْنَتِهِ] صَحَّ، فَإِنْ خَافَ مِنْ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِمَوْتِهِ حَيْثُ تَمْلِكُهُ أَوْ بَعْضَهُ، فَالْحِيلَةُ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهُ أَوْ يَهَبَهُ إيَّاهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ الْأَجْنَبِيُّ لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا كَانَ مُوَلِّيهِ سَفِيهًا إنْ زَوَّجَهُ طَلَّقَ وَإِنْ سَرَّاهُ أَعْتَقَ وَإِنْ أَهْمَلَهُ فَسَقَ] َ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَيُزَوِّجَهُ إيَّاهَا فَإِنْ أَعْتَقَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا رَجَعَتْ إلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطَالِبُهُ بِمَهْرِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ تَزْوِيجُ عَبْدِهِ جَارِيَةً بَعْدَ أَنْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا] تَزْوِيجُ عَبْدِهِ جَارِيَةً بَعْدَ أَنْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُهُ إيَّاهَا] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا طَلَبَ عَبْدُهُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يُزَوِّجَهُ إيَّاهَا، فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِهَا وَلَا يَحْنَثُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمَلِّكَهُمَا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ يُزَوِّجَهُمَا الْمُشْتَرِي، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَرَدَّهُمَا وَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ قَدْ وُجِدَتْ فِي حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِنْثٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْحِنْثُ بِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ وَقَدْ تَقَضَّى، وَإِنَّمَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَمْ يَحْنَثْ بِاسْتِدَامَتِهِ، قَالَ: وَيُفَارِقُ هَذَا إذَا حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَبَاعَهُ وَدَخَلَهَا ثُمَّ مَلَكَهُ وَدَخَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَقَدْ عَلَّقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ رَهَنْت كَذَا وَكَذَا " فَإِذَا هِيَ قَدْ رَهَنَتْهُ قَبْلَ الْيَمِينِ، فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: " إنْ كُنْت رَهَنْتِيهِ " فَيَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْحَمْلِ مِنْ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ كَلَامِ السَّائِلِ وَكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَمَّا كَلَامُ السَّائِلِ فَظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ رَهْنًا تُنْشِئُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَإِنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ تُخَلِّصُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَهَذَا الْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ بِوَضْعِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ لَوْ فَهِمَ مِنْ السَّائِلِ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي لَجَزَمَ بِالْحِنْثِ، وَلَمْ يَقُلْ: " أَخَاف " فَهُوَ إنَّمَا يُطْلِقُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِيمَا عِنْدَهُ فِيهِ نَوْعُ تَوَقُّفٍ. وَاسْتِقْرَاءُ أَجْوِبَتِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَجْهُ هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ اسْتِدَامَةَ الرَّهْنِ رَهْنًا كَاسْتِدَامَةِ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ لَهَا شَبَهٌ بِهَذَا وَشَبَهٌ بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْحِنْثِ، بَلْ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَنِثَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ هَلْ تَصِحّ] [الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَالْفُلُوسِ إنْ قُلْنَا هِيَ عُرُوضٌ وَالنُّقُودُ الْمَغْشُوشَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنْ جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ بِهَا لَمْ يُحْتَجْ إلَى حِيلَةٍ، بَلْ يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ تُجَوَّزْ الشَّرِكَةُ بِهَا فَالْحِيلَةُ عَلَى أَنْ يَصِيرَا شَرِيكَيْنِ فِيهَا أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِهِ مُشَاعًا، فَيَصِيرَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرِيكًا لِصَاحِبِهِ فِي عَرْضِهِ، وَيَصِيرَ عَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَأْذَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ. هَذَا إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَرْضَيْنِ سَوَاءً، فَإِذَا كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ - بِأَنْ يُسَاوِيَ أَحَدُهُمَا مِائَةً وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ - فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 الْعَرْضِ الْأَدْنَى ثُلُثَيْ عَرْضِهِ بِثُلُثِ عَرْضِ صَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونَ الْعَرْضَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَالرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَلَا تَمْتَنِعُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّهَا لَا تُبْطِلُ حَقًّا، وَلَا تُثْبِتُ بَاطِلًا، وَلَا تُوقِعُ فِي مُحَرَّمٍ. [الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ بِبَعْضِهِ] [الصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ بِبَعْضِهِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهَا فَلَهَا ثَمَانُ صُوَرٍ؛ فَإِنَّهُ إمَّا يَكُونُ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً، ثُمَّ الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ أَوْ فِي الْمُصَالَحِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ أَحْكَامُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِذِكْرِ صُوَرِهَا وَأُصُولِهَا. الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يُصَالِحَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ قَدْ أَقَرَّ بِهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ؛ فَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُصَحِّحُ الصُّلْحَ إلَّا عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْخِرَقِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا عَلَى الْإِنْكَارِ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ يُصَحِّحُونَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَالْمُبْطِلُونَ لَهُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَقُولُونَ: هُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَرَّ لَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، فَإِذَا بَذَلَ لَهُ دُونَهُ فَقَدْ هَضَمَهُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الْمُنْكِرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّمَا افْتَدَيْت يَمِينِي وَالدَّعْوَى عَلَيَّ بِمَا بَذَلْته، وَالْآخِذُ يَقُولُ: أَخَذْت بَعْضَ حَقِّي، وَالْمُصَحِّحُونَ لَهُ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُمْكِنُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ؛ فَتُمْكِنُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى بَعْضِهِ، وَأَمَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَأَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ حَتَّى يُصَالِحَ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: " صَالَحَهُ عَنْ الدَّعْوَى وَالْيَمِينِ وَتَوَابِعِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا لَا تَجُوزُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُقَابَلُ بِالْأَعْوَاضِ، فَهَذَا أَصْلٌ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَمُرَاعَاةِ الْعُهُودِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» ، وَأَخْبَرَ أَنَّ: «الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» ، وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الصُّلْحَ عَلَى الْإِقْرَارِ: " إنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ " لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْهَضْمُ أَنْ يَقُولَ: لَا أُقِرُّ لَك حَتَّى تَهَبَ لِي كَذَا وَتَضَعَ عَنِّي كَذَا وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ ثُمَّ صَالَحَهُ بِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَيُّ هَضْمٍ هُنَاكَ؟ وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ: " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُعَاوَضَةَ عَمَّا لَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّهُ افْتِدَاءٌ لِنَفْسِهِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْيَمِينِ وَتَكْلِيفِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا تَفْتَدِي الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَا تَبْذُلُهُ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، بَلْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَأُصُولُهُ وَقَوَاعِدُهُ وَمَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ تَقْتَضِي ذَلِكَ. فَهَاتَانِ صُورَتَانِ: صُلْحٌ عَنْ الدَّيْنِ الْحَالِّ بِبَعْضِهِ حَالًّا مَعَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ الْإِنْكَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَهَاتَانِ صُورَتَانِ أَيْضًا، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِنْكَارِ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَهُ دَيْنٌ حَالٌّ فَيُقَالُ: لَا يُقْبَلُ التَّأْجِيلُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ، وَهِيَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَحَدُهَا: لَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا التَّأْجِيلُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ وَعَلَى أَنَّ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَالتَّأْجِيلُ، وَهُوَ الصَّوَابُ، بِنَاءً عَلَى تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَتَارَةً يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ مُؤَجَّلًا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَتَارَةً يُصَالِحُهُ بِبَعْضِهِ حَالًّا مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَهَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَيْعَ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا، وَهُوَ عَيْنُ الرِّبَا، وَفِي الْإِنْكَارِ الْمُدَّعِي يَقُولُ: هَذِهِ الْمِائَةُ الْحَالَّةُ عِوَضٌ عَنْ مِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الرِّبَا؛ فَإِنَّ الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَجَلِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الْأَجَلِ، فَسَقَطَ بَعْضُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الْأَجَلِ، فَانْتَفَعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لَا حَقِيقَةً وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هَهُنَا، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا، وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " إمَّا أَنْ تُرْبِيَ وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَجِّلْ لِي وَأَهَبُ لَك مِائَةً، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ؟ فَلَا نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَلَا إجْمَاعَ وَلَا قِيَاسَ صَحِيحٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. قَالُوا: لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَعْجِيلَ الْعِتْقِ الْمَحْبُوبِ إلَى اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَلَا رِبًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ؛ فَالْمُكَاتَبُ وَكَسْبُهُ لِلسَّيِّدِ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ كَسْبِهِ وَتَرَكَ لَهُ بَعْضَهُ، ثُمَّ تَنَاقَضُوا فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، مَا الَّذِي جَعَلَهُ مَعَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا وَجَعَلَهُ مَعَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ فِي الْبَابِ الْآخَرِ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 فَهَذِهِ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأُصُولُهَا وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوَابَ جَوَازُهَا كُلِّهَا؛ فَالْحِيلَةُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهَا حِيلَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ لَيْسَتْ عَلَى حَرَامٍ. [فَصْلٌ فَالْحِيلَةُ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ] فَصْلٌ فَالْحِيلَةُ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ أَنْ يَجِيءَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ فَيَقُولَ لِلْمُدَّعِي: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَك، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّك صَادِقٌ فِي دَعْوَاك، وَأَنَا وَكِيلُهُ، فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا، فَيَنْقَلِبَ حِينَئِذٍ صُلْحًا عَلَى الْإِنْكَارِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ رَجَعَ بِمَا دَفَعَهُ أَيْ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَالَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ: " صَالِحْ عَنِّي بِذَلِكَ " جَازَ أَيْضًا. [فَصْلٌ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ] فَصْلٌ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً وَيُحَابِيَهُ فِيهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِهِ بِالصُّلْحِ. [فَصْل الْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْحَالِ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا] فَصْلٌ وَالْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْحَالِ بِبَعْضِهِ مُؤَجَّلًا حَتَّى يَلْزَمَهُ التَّأْجِيلُ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ الْحَالِّ، وَيُقِرَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إلَّا الْمُؤَجَّلَ، وَالْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يَجْعَلَانِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَالِّ، فَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ دَابَّةً أَوْ خَالَفَتْهُ عَلَى عِوَضٍ مُؤَجَّلٍ فَسَخَا الْعَقْدَ ثُمَّ جَعَلَا عِوَضَهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْحَالَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْفَسْخُ كَالدِّيَةِ وَغَيْرِهَا فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى الدَّيْنِ بِسِلْعَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَتْلَفَ لَهُ مِثْلِيًّا لَزِمَهُ مِثْلُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ رِبًا، وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مُتَقَوِّمًا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا جَازَ؛ إذْ هُوَ بَيْعٌ لِلْقِيمَةِ، وَهِيَ دَيْنٌ بِذَلِكَ الْعِوَضِ، وَهُوَ جَائِزٌ [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ اخْتِلَاف الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي ثَمَنِ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ] [اخْتِلَافُ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فِي ثَمَنِ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ جَارِيَةٍ بِأَلْفٍ، فَاشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ، وَقَالَ: أَذِنْت لِي فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ وَقَدْ فَعَلْت، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفَانِ، وَلَا يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ وَالْوَكِيلُ مُقِرٌّ أَنَّهَا لِلْمُوَكِّلِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَالْأَلْفُ الزَّائِدَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْوَكِيلَ بَيْعُهَا وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ، وَأَنَّ الْأَلْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 الْأُخْرَى فِي ذِمَّتِهِ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لَهَا، فَالْحِيلَةُ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ لَهَا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: إنْ كُنْت أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ بِعْتُكهَا بِالْأَلْفَيْنِ. فَيَقُولَ: قَدْ اشْتَرَيْتهَا مِنْك، فَيَمْلِكَهَا حِينَئِذٍ، وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يَضُرُّ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ بِصُورَةِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ صِحَّتَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: " إنْ كَانَتْ مِلْكِي فَقَدْ بِعْتُكَهَا بِأَلْفَيْنِ " وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى نِصْفِ فَقِيهٍ يَقُولُ: هَذَا تَعْلِيقٌ لِلْبَيْعِ بِالشَّرْطِ فَيَبْطُلُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ بِعْتُك كَذَا بِكَذَا، بَلْ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: إنْ كُنْت جَائِزَ التَّصَرُّفِ فَقَدْ بِعْتُك كَذَا، وَإِنْ أَعْطَيْتنِي ثَمَنَ هَذَا الْمَبِيعِ فَقَدْ بِعْتُكَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُودِعِ] [الْحِيلَةٌ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْمُودِعِ] : الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَتَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِهِ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ فَأَنْكَرَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ضَمِنَ، فَإِنْ ادَّعَى التَّلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ لَهُ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَبْضِهِ مَالَهُ فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ الْبَيِّنَةِ، فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَنْ يَقُولَ: مَا لَك عِنْدِي شَيْءٌ، فَإِنْ حَلَّفَهُ حَلَفَ حَلِفًا صَادِقًا، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ الْوَدِيعَةِ فَلْيُصَدِّقْ الْبَيِّنَةَ، وَيَقُولُ: صَدَقْت فِيمَا شَهِدْت بِهِ، وَيَدَّعِي التَّلَفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ فَإِنْ كَذَّبَ الْبَيِّنَةَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَى التَّلَفِ. [الْمِثَال التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ الْحِيلَةُ فِي تَضْمِينِ الرَّاهِنِ تَلَفَ الْمَرْهُونِ] [الْحِيلَةُ فِي تَضْمِينِ الرَّاهِنِ تَلَفَ الْمَرْهُونِ] : الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا رَهَنَ عِنْدَهُ رَهْنًا، وَلَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ، وَخَافَ أَنْ يَدَّعِيَ هَلَاكَهُ وَيَذْهَبَ بِهِ، فَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ أَوَّلًا، فَإِذَا قَبَضَهُ رَهَنَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا تَلِفَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ طَرَيَان الرَّهْنِ عَلَى الْعَارِيَّةِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا قَبْلَهُ، وَلَوْ بَطَلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ. [الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ] [الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ] : الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَارِيَّةِ: هَلْ تُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ الْمُسْتَعِيرُ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا يُوجِبُ الضَّمَانَ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ الثَّانِي: لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَيَدُ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ أَمَانَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّلَفُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَأَخْذِ السَّيْلِ وَمَوْتِ الْحَيَوَانِ وَخَرَابِ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَدَعْوَى سَرِقَةِ الْجَوْهَرَةِ وَالْمِنْدِيلِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْو ذَلِكَ ضَمِنَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إنْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَطْلَقَ ضَمِنَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ قَوِيٌّ مُتَّجِهٌ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ، لَكِنْ إذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي التَّلَفِ بِأَمْرٍ لَا يُنْسَبُ فِيهِ إلَى تَفْرِيطٍ فَعَدَمُ التَّضْمِينِ أَقْوَى. فَالْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَنْ يَشْتَرِطَ نَفْيَهُ، فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَفِيَ لَهُ بِالشَّرْطِ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى ادَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعَيْنِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَدَعْوَاك بَاطِلَةٌ. فَإِنْ لَمْ تَصْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ أَوْ خَافَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ الدَّعْوَى فَلَهُ حِيلَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَيْنَ مِنْهُ بِأَقَلِّ شَيْءٍ لِلْمُدَّةِ الَّتِي يُرِيدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، أَوْ يَسْتَأْجِرَهَا مِنْهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ الْأُجْرَةَ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ مِمَّا تُحَلِّلُ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمُ حَلَالًا [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا أَجَّلَهَا] ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَتَأَجَّلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّأْجِيلِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مَتَى شَاءَ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُؤَجِّلْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلَ مِثْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ مِنْ مَوْضِعِهَا. [الْحِيلَةٌ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ] : وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمُسْتَقْرِضُ وَالْمُسْتَعِيرُ آمِنٌ مِنْ غَدْرِ الْمُقْرِضِ غَنِيٌّ عَنْ الْحِيلَةِ لِلُّزُومِ الْأَجَلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِ التَّأْجِيلِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ أَرَادَ حِيلَةً غَيْرَ هَذِهِ فَلْيَسْتَأْجِرْ مِنْهُ الْعَيْنَ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُبْرِئْهُ مِنْ الْأُجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْقَرْضُ فَالْحِيلَةُ فِي تَأْجِيلِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُقْرِضِ شَيْئًا مَا بِمَبْلَغِ الْقَرْضِ ثُمَّ يَكْتُبَهُ مُؤَجَّلًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ لَا يَبْطُلُ بِهَا حَقٌّ فَلَا تُكْرَهُ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ] [حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: إذَا رَهَنَهُ رَهْنًا بِدَيْنٍ، وَقَالَ: " إنْ وَفَيْتُك الدَّيْنَ إلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا عَلَيْهِ " صَحَّ ذَلِكَ، وَفَعَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: أَلَّا يُغْلَقَ الرَّهْنُ " وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ هَذَا كَانَ مُوجِبَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَتَمَلَّكُ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ إذَا لَمْ يُوفِهِ؛ فَهَذَا هُوَ غَلْقُ الرَّهْنِ الَّذِي أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا بَيْعُهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 الْحُلُولِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَلَا مَفْسَدَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بَيْعٌ عُلِّقَ عَلَى شَرْطٍ، وَنَعَمْ فَكَانَ مَاذَا؟ وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ إلَى هَذَا مِنْ الْمُرْتَهِنَيْنِ، وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لِلرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مِنْ تَكْلِيفِهِ الرَّفْعَ إلَى الْحَاكِمِ، وَإِثْبَاتِهِ الرَّهْنَ، وَاسْتِئْذَانِهِ فِي بَيْعِهِ وَالتَّعَبِ الطَّوِيلِ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ سِوَى الْخَسَارَةِ وَالْمَشَقَّةِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَهُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْحُلُولِ كَانَ أَصْلَحَ لَهُمَا وَأَنْفَعَ وَأَبْعَدَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْخَسَارَةِ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَاكِمٍ أَوْ يُمَلِّكُهُ الْعَيْنَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَرْهَنَهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِالْمَبْلَغِ الَّذِي يُرِيدُ اسْتِدَانَتَهُ، ثُمَّ يَقُولَ: إنْ وَفَيْتُك الثَّمَنَ إلَى كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا، فَإِنْ وَفَاهُ وَإِلَّا انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَعَادَتْ السِّلْعَةُ إلَى مِلْكِهِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ مُخَلِّصَةٌ لِغَرَضِهِمَا مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ وَلَا تَضَمُّنَ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَا لِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ] [الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَادَّعَى بِهِ صَاحِبُهُ وَأَقَرَّ بِهِ فَالصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِلْزَامُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ إلْزَامٌ بِمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: يَكُونُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِتَأْجِيلِهِ، فَيُؤَاخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْأَجَلَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ إقْرَارًا مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْغِيَ التَّقْيِيدَ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ الْمُطْلَقِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ نَقْدِ كَذَا وَكَذَا أَوْ مُعَامَلَةِ كَذَا وَكَذَا؛ فَيَلْزَمُهُمْ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ أَنْ يُبْطِلُوا هَذِهِ التَّقْيِيدَاتِ كُلَّهَا وَيُلْزِمُوهُ بِأَلْفٍ كَامِلَةٍ مِنْ النَّقْدِ الْغَالِبِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنَّهَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] . وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَا قَبْلَ الْأَجَلِ اتِّفَاقًا، فَهَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهَا مُؤَجَّلَةً فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ مِنْ الْإِلْزَامِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَوْفِيَةُ مَا تَدَّعِي عَلَيَّ أَدَاءَهُ إلَيْك إلَى مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَإِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: " لِي عَلَيْك كَذَا أَمْ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ؟ " وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجِيبَ بِأَحَدِ الْجَوَابَيْنِ، فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ أَنْ يَقُولَ: إنْ ادَّعَيْتهَا مُؤَجَّلَةً فَأَنَا مُقِرٌّ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَيْتهَا حَالَّةً فَأَنَا مُنْكِرٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَدْ قَضَاهُ الدَّيْنَ وَخَافَ أَنْ يَقُولَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته، فَيَجْعَلَهُ الْحَاكِمُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُنِي أَدَاءُ مَا يَدَّعِيهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 فَإِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ غَيْرُ هَذَا، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهِ، بَلْ مُنْكِرًا الْآنَ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْفَ يُلْزَمُ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ أَقَرَّ بِثُبُوتٍ سَابِقٍ وَادَّعَى قَضَاءً طَارِئًا عَلَيْهِ. قِيلَ: لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتٍ مُطْلَقٍ بَلْ بِثُبُوتٍ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ وَهُوَ الزَّمَنُ الْمَاضِي، وَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ الْآنَ فِي ذِمَّتِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِهِ الْآنَ اسْتِنَادًا إلَى إقْرَارِهِ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ ثُبُوتَهُ فِي الْمَاضِي، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْكِرٌ لِثُبُوتِهِ الْآنَ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا بِمَا هُوَ مُنْكِرٌ لَهُ؟ وَقِيَاسُهُمْ هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى قَوْلِهِ: " لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي أَوْ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِي " قِيَاسٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ لَا يُعْقَلُ، وَأَمَّا هَذَا فَكَلَامٌ مَعْقُولٌ، وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ، وَلَمْ يُقِرَّ بِشَغْلِ ذِمَّتِهِ الْآنَ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِهِ بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهِ بِشَغْلِهَا فِي الْمَاضِي، وَمَا نَظِيرُ هَذَا إلَّا قَوْلُ الزَّوْجِ: " كُنْت طَلَّقْت امْرَأَتِي وَرَاجَعْتهَا " فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُطَلِّقًا الْآنَ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كُنْت فِيمَا مَضَى كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمْت، فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَافِرًا الْآنَ؟ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كُنْت عَبْدًا فَأَعْتَقَنِي مَوْلَايَ، هَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ رَقِيقًا؟ فَإِنْ طَرَدُوا الْحُكْمَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَطَلَّقُوا الزَّوْجَ وَكَفَّرُوا الْمُعْتَرِفَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ وَأَمَرُوهُ أَنْ يُجَدِّدَ إسْلَامَهُ وَجَعَلُوا هَذَا قِنًّا. قِيلَ لَهُمْ: فَاطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ أَوْ هَذَا الْبُسْتَانُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، فَأَخْرِجُوهَا مِنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقُولُوا: قَدْ أَقَرَّ بِهَا لِفُلَانٍ ثُمَّ ادَّعَى [أَنَّهُ] اشْتَرَاهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فَمَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ الْوَاقِعَ فَأَخْرِجُوا مِلْكَهُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: كُنْت مُزَوَّجَةً بِفُلَانٍ ثُمَّ طَلَّقَنِي، اجْعَلُوهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ زَوْجَتَهُ، وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ بَعْضُهُ وَيُلْغَى بَعْضُهُ، وَيُقَالُ قَدْ لَزِمَك حُكْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِك؛ فَإِنَّ هَذَا يَرْفَعُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدَاتِ جَمِيعَهَا، وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْجَوَابَ إلَّا عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ التَّخَلُّصِ مِنْ ظُلْمِ الْمُدَّعِي، وَيُلْجِئُهُ إلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ وَظُلْمُهُ، أَوْ إلَى أَنْ يُكَذِّبَ بَيَانَهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَدَانَ مِنْهُ وَوَفَّاهُ، فَإِنْ قَالَ: " لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ " لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَلَى نَفْيِ الدَّعْوَى، وَإِنْ قَالَ: " كُنْت اسْتَدَنْت مِنْهُ وَوَفَّيْته " لَمْ تَسْمَعُوا مِنْهُ آخِرَ كَلَامِهِ وَسَمِعْتُمْ مِنْهُ أَوَّلَهُ، وَإِنْ قَالَ: " لَمْ أَسْتَدِنْ مِنْهُ " وَكَانَ كَاذِبًا فَقَدْ أَلْجَأْتُمُوهُ إلَى أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَكْذِبَ وَلَا بُدَّ؛ فَالْحِيلَةُ لِمَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّوْرِيَةَ، وَيَحْلِفَ مَا اسْتَدَانَ مِنْهُ، وَيَنْوِيَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، فَإِذَا قَالَ: " وَاَللَّهِ إنِّي مَا اسْتَدَنْت مِنْهُ " أَيْ إنِّي الَّذِي اسْتَدَنْت مِنْهُ، وَيَنْفَعُهُ تَأْوِيلُهُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، كَمَا لَا يَنْفَعُهُ إذَا كَانَ ظَالِمًا بِالِاتِّفَاقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ] حِيلَةٌ فِي تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَعْسَرَ بِهِ فَادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ، وَإِنْ جَحَدَهُ أَقَامَ بِهِ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي قَدْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ كَذِبُهُ فِي جَحْدِهِ الْحَقَّ فَهَكَذَا هُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَى الْإِعْسَارِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي تَخْلِيصِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي تَوْفِيَةُ مَا يَدَّعِيه عَلَيَّ وَلَا أَدَاؤُهُ، فَإِنْ طَالَبَهُ الْحَاكِمُ بِجَوَابٍ يُطَابِقُ السُّؤَالَ فَلَهُ أَنْ يُوَرِّيَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَهُنَا تَعِزُّ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَجْزَهُ عَنْ الْوَفَاءِ أَوْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَلَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِالْعَجْزِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ غَيْرُ الصَّبْرِ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ] [حِيلَةٌ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا هِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ، فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً حُكِمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ؛ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا، وَسَلِمَتْ الْيَدُ عَنْ مُعَارِضٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى بَيِّنَةِ صَاحِبِ الْيَدِ فَإِنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى ظَاهِرِ الْيَدِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تَسْتَنِدُ أَيْضًا إلَى سَبَبٍ خَفِيٍّ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَتَكُونُ أَوْلَى، فَالْحِيلَةُ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَارِجُ أَنَّهُ فِي يَدِ الدَّاخِلِ غَصْبًا أَوْ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَفْقِ مَا ادَّعَاهُ، فَحِينَئِذٍ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ. [الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ الْمُخَلِّصَةُ مِنْ لَدْغِ الْمُخَادِعِ] [حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ لَدْغِ الْمُخَادِعِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: الْحِيلَةُ الْمُخَلِّصَةُ مِنْ لَدْغِ الْعَقَارِبِ، وَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى الْمَاكِرُ الْمُخَادِعُ مِنْ رَجُلٍ دَارًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ سِلْعَةً، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ مَضَى إلَى الْبَيْتِ أَوْ الْحَانُوتِ لِيَأْتِيَهُ بِالثَّمَنِ، فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ، فَلَا يَصِلُ الْبَائِعُ إلَى أَخْذِ الثَّمَنِ، فَالْحِيلَةُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ أَوْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَعَهُ إلَيْهِ لِيَثْبُتَ لَهُ التَّبَايُعَ، ثُمَّ يَسْأَلَهُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مَالِهِ، وَيَقِفَهُ حَتَّى يُسْلِمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ؛ لِئَلَّا يَتْلَفَ مَالُهُ أَوْ يَتَبَرَّعَ بِهِ فَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ. وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ إذَا خَشِيَ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَى حَقِّهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الْحِيلَةُ وَلَدَغَتْهُ الْعَقْرَبُ وَادَّعَى الْإِعْسَارَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَأَلَ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ. فَإِنْ كَانَتْ الْعَقْرَبُ دَاهِيَةً بِأَنْ غَيَّرَ الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ أَوْ مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَرَى رُجُوعَ الْبَائِعِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى إبْطَالِ الْعَقْدِ بِإِقْرَارٍ سَابِقٍ عَلَى الْمَبِيعِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ أَوْ يَرْهَنَهُ أَوْ يَبِيعَهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُقَدِّمُ تَارِيخَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعِ الْعَقْرَبِ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرًا وَخِدَاعًا؛ فَإِنَّ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ حَسَنٌ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] وَقَالَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وَقَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَادَ لِيُوسُفَ فِي مُقَابَلَةِ كَيَدِ إخْوَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ] [حِيلَةٌ فِي عَدَمِ سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا تَحَيَّلَ الْمَكَّارُ الْمُخَادِعُ عَلَى سُقُوطِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِالْمُمَاطَلَةِ وَقَالَ: إنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى دَيْنًا عَلَيَّ، فَتَرَكَهَا آمِنًا مِنْ إلْزَامِهِ بِهَا لِمَا مَضَى، فَالْحِيلَةُ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَفْرِضَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْتَأْذِنَهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا، فَإِذَا فَعَلَ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِقَضَاءِ مَا اسْتَدَانَهُ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الِاسْتِدَانَةِ وَمَضَى الزَّمَانُ فَهَلْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ صَرَّحُوا بِسُقُوطِهَا مُطْلَقًا فُرِضَتْ أَوْ لَمْ تُفْرَضْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ فُرِضَتْ لَمْ تَسْقُطْ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إلَى الْحَاكِمِ فَلْيَقُلْ لَهُ: اشْفَعْ لِي إلَى فُلَانٍ لِيُنْفِقَ عَلَيَّ أَوْ يُعْطِيَنِي مَا أَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ لَزِمَ الشَّافِعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَدَّاهُ إلَى الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ عَنْ الشَّفِيعِ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْمَنْصُوصِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ الْجُوزَجَانِيِّ عَلَى رُجُوعِ مَنْ عَمَرَ قَنَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَوْ أَنَّ الْقَرِيبَ اسْتَدَانَ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ أَحَالَ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَلَا يُقَالُ: قَدْ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَمْ تُصَادِفْ الْحَوَالَةُ مَحَلًّا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَدَانَ عَلَى الْمُنْفِقِ، بَلْ تَبَرَّعَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ تَكَلَّفَ أَوْ صَبَرَ، فَأَمَّا إذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَهُنَا لَا وَجْهَ لِسُقُوطِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ قَدْ أَطْلَقُوا السُّقُوطَ فَتَعْلِيلُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَتَأَمَّلْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَاءِ] حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَاءِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا اسْتَنْبَطَ فِي مِلْكِهِ أَوْ أَرْضٍ اسْتَأْجَرَهَا عَيْنَ مَاءٍ مَلَكَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِمَنْ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ أَوْ يَسْقِي بِهِ بَهَائِمَهُ، بَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا فَضَلَ مِنْهُ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ، فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَ الْعَيْنِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ يُؤَجِّرَهُ ذَلِكَ؛ فَيَكُونَ الْمَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ الْمَاءُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْعَيْنِ أَوْ مَنْفَعَتِهَا، وَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ، وَإِنَّمَا بَاعَ الْعَيْنَ، وَدَخَلَ الْمَاءُ تَبَعًا، وَالشَّيْءُ قَدْ يَسْتَتْبِعُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ وَحْدَهُ [الْمِثَال التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ تَسْوِيغِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إلَّا لِمَنْ بَاعَهُ] [حِيلَةٌ فِي عَدَمِ تَسْوِيغِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي إلَّا لِمَنْ بَاعَهُ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَلَهُ غَرَضٌ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ بَائِعِهِ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ بَاعَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْمَانِعِينَ: " إنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ " فَنَعَمْ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَجَمِيعُ الشُّرُوطِ اللَّازِمَةِ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَلَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ، بَلْ هِيَ مُقْتَضَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ: إمَّا أَنْ تَقُولَ: " مَتَى بِعْته فَهُوَ حُرٌّ " وَإِلَّا فَسَخْت الْبَيْعَ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَمَتَى بَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْعِتْقَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَذَلِكَ بَيْعٌ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا يُقَالُ: " بِعْته الْعَبْدَ فَاشْتَرَاهُ " فَكَمَا أَنَّ الشِّرَاءَ هُوَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ هُوَ إيجَابُ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا تُبَاعُ كَرِيمَةٌ أَوْ تُشْتَرَى ... فَسِوَاكَ بَائِعُهَا وَأَنْتَ الْمُشْتَرِي هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، فَإِنْ لَمْ تَسْعَدْ مَعَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلْيَقُلْ لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ: " إمَّا أَنْ تَقُولَ مَتَى بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَهُ بِسَاعَةٍ، وَإِمَّا أَنْ أَفْسَخَ " فَمَتَى قَالَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ بَيْعُهُ أَلْبَتَّةَ. [الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ] [حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ] الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ: إذَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَ وَكِيلِهِ شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنْ أَرَادَ قَبُولَهَا فَلْيَعْزِلْهُ أَوْ لِيَعْزِلْ نَفْسَهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ يُقِيمُ الشَّهَادَةَ، فَإِذَا تَمَّتْ عَادَ تَوَكُّلُهُ بِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ مَحْذُورٌ؛ فَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] [حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا تَوَضَّأَ وَلَبِسَ إحْدَى خُفَّيْهِ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 غَسَلَ رِجْلَهُ الْأُخْرَى وَأَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ، جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ الْأُولَى عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ؛ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّ الرِّجْلِ الْأُولَى ثُمَّ يَلْبَسَهُ، وَهَذَا نَوْعُ عَبَثٍ لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِيهِ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِ؛ فَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُهُ بِهِ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي عَدَمِ حِنْثِ الْحَالِفِ] [حِيلَةٌ فِي عَدَمِ حِنْثِ الْحَالِفِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ، فَأَحَبَّ أَنْ يَحْلِفَ وَلَا يَحْنَثَ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِقَوْلِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْمِعَهَا نَفْسَهُ؟ فَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَقَالَ شَيْخُنَا: هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ مَتَى حَرَّكَ لِسَانَهُ بِذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا، وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْأَقْوَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، قُلْت: وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُطْبِقُ شَفَتَيْهِ وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ذَاكِرًا، وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لِلشَّفَتَيْنِ فِي حُرُوفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، بَلْ كُلُّهَا حَلْقِيَّةٌ لِسَانِيَّةٌ؛ فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِهَا وَلَا يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَلَا تَرَاهُ الْعَيْنُ يَتَكَلَّمُ، وَهَكَذَا التَّكَلُّمُ يَقُولُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " يُمْكِنُ مَعَ إطْبَاقِ الْفَمِ؛ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَرَاهُ، وَإِنْ أَطْبَقَ أَسْنَانَهُ وَفَتَحَ شَفَتَيْهِ أَدْنَى شَيْءٍ سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ بِجُمْلَتِهِ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ زَوْجَتَهُ الَّتِي لَاعَنَهَا أَوْ قَتَلَ وَلَدَهَا] [حِيلَةٌ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ زَوْجَتَهُ الَّتِي لَاعَنَهَا أَوْ قَتَلَ وَلَدَهَا] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، ثُمَّ قَتَلَ الْوَلَدَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا فَلِوَلَدِهَا الْقِصَاصُ إذَا بَلَغَ؛ فَإِنْ أَرَادَ إسْقَاطَ الْقِصَاصِ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ ابْنُهُ؛ فَيَسْقُطَ الْقِصَاصُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي جَوَازِ هَذِهِ الْحِيلَةِ نَظَرٌ. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَدْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَادَّعَاهُ] [حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِدَيْنٍ كَانَ أَدَّاهُ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَدْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِالْإِبْرَاءِ ثُمَّ عَادَ فَادَّعَاهُ؛ فَإِنْ قَالَ: " قَدْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ " لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: " كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته " وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ مُقِرًّا بِهِ مُدَّعِيًا لِلْإِبْرَاءِ؛ فَيُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ؛ فَالْحِيلَةُ عَلَى التَّخَلُّصِ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْمُدَّعَى بِهِ؛ فَإِذَا سَأَلَ إحْلَافَ خَصْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْ الدَّعْوَى مَلَكَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ صَرَفَهُمَا الْحَاكِمُ، وَإِنْ حَلَفَ طُولِبَ بِالْجَوَابِ، وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّعْوَى فَإِنْ قَالَ: " أَبْرَأْتنِي مِنْ الْحَقِّ " فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ قَالَ: " لَا شَيْءَ عِنْدِي " اكْتَفَى مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ عِنْدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 الْجُمْهُورِ؛ فَإِنْ طَالَبَهُ الْحَاكِمُ بِالْجَوَابِ عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى فَالْحِيلَةُ أَنْ يُجِيبَ وَيُوَرِّيَ كَمَا تَقَدَّمَ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ] [حِيلَةٌ فِي الْمُضَارَبَةِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا خَافَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ الْمَالَ فَقَالَ: " قَدْ رَبِحْت أَلْفًا " لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ شَرِيكًا؛ فَإِنْ قَالَ: " ذَلِكَ حِيلَةٌ، وَلَمْ يَرْبَحْ " فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " كَذَبْت " لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ؛ فَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِهِ أَنْ يَدَّعِيَ خَسَارَتهَا بَعْدِ ذَلِكَ أَوْ تَلَفَهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. [الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي تَجْوِيزِ نَظَرِ الْوَاقِفِ عَلَى وَقْفِهِ] [حِيلَةٌ فِي تَجْوِيزِ نَظَرِ الْوَاقِفِ عَلَى وَقْفِهِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا وَقَفَ وَقْفًا وَجَعَلَ النَّظَرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ اتِّفَاقٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَلِي صَدَقَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِوَقْفِ أَرْضِهِ لَمْ يَقُلْ لَهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى تُخْرِجَهَا عَنْ يَدِك وَلَا تَلِي نَظَرَهَا» وَأَيُّ غَرَضٍ لِلشَّارِعِ فِي ذَلِكَ؟ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ بَلْ الْمَصْلَحَةُ خِلَافُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِمَالِهِ، وَأَقْوَمُ بِعِمَارَتِهِ وَمَصَالِحِهِ وَحِفْظِهِ مِنْ الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَتْ خِبْرَتُهُ وَشَفَقَتُهُ كَخِبْرَةِ صَاحِبِهِ وَشَفَقَتِهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَثُبُوتُ نَظَرِهِ وَيَدِهِ عَلَيْهِ كَثُبُوتِ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ وَيَدِهِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا، فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ لَهُ: " لَا يَصِحُّ وَقْفُك حَتَّى تَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ لَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ وَإِخْرَاجِ نَظَرِك عَنْهُ؟ " فَإِنْ قِيلَ: إخْرَاجُهُ لِلَّهِ يَقْتَضِي رَفْعَ يَدِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَالْعِتْقِ. قِيلَ: بِالْعِتْقِ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَصَارَ مُحَرَّرًا مَحْضًا، فَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ لِحِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، وَأَحَقُّ مَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُ أَشْفَقِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَقْوَمُهُمْ بِمَصَالِحِهِ، وَثُبُوتُ يَدِهِ وَنَظَرِهِ لَا يُنَافِي وَقْفَهُ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ وَقَفَهُ لِلَّهِ وَجَعَلَ نَظَرَهُ عَلَيْهِ وَيَدَهُ لِلَّهِ فَكِلَاهُمَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، فَكَيْفَ يُحْرَمُ ثَوَابَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَيُقَالُ لَهُ: لَا يَصِحُّ لَك قُرْبَةُ الْوَقْفِ إلَّا بِحِرْمَانِ قُرْبَةِ النَّظَرِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْوَقْفِ؟ فَأَيُّ نَصٍّ وَأَيُّ قِيَاسٍ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ وَأَيُّ غَرَضٍ لِلشَّارِعِ أَوْجَبَ ذَلِكَ؟ بَلْ أَيُّ صَاحِبٍ قَالَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ احْتَاجَ الْوَاقِفُ إلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ يُبْطِلُ الْوَقْفَ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ يَدِهِ وَإِذَا شَرَطَ النَّظَرَ بِنَفْسِهِ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ وَيَجْعَلَ إلَيْهِ تَفْوِيضَ النَّظَرِ لِمَنْ شَاءَ، فَيَقْبَلَ النَّاظِرُ ذَلِكَ، وَيَصِحَّ الْوَقْفُ وَيَلْزَمَ، ثُمَّ يُفَوِّضَهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَارَ أَجْنَبِيًّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، فَهَذِهِ حِيلَةٌ صَحِيحَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقٍّ، فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ النَّظَرَ فِيهِ لِلْحَاكِمِ ثُمَّ فَوَّضَهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يُفَوِّضَهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ فَلْيُمَلِّكْهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيَقِفُهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُرِيدُ الْمُمَلِّكُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ لِتَجْوِيزِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ] [حِيلَةٌ لِتَجْوِيزِ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ صَحَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ لَا يَصِحُّ. وَالْمَانِعُونَ مِنْ صِحَّتِهِ قَالُوا: يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْإِنْسَانِ مُعْطِيًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ وَلَا يَهَبَ نَفْسَهُ وَلَا يُؤَجِّرَ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَذَا لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: الْوَقْفُ شَبِيهُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ، وَلِهَذَا لَا يُفْتَقَرُ إلَى قَبُولٍ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ اتِّفَاقًا، وَلَا إذَا كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ. وَإِذَا كَانَ مِثْلَ التَّحْرِيرِ لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ مُمَلِّكًا لِنَفْسِهِ، بَلْ يَكُونُ مُخْرِجًا لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَانِعًا لَهَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ انْتِفَاعِهِ بِالْعَيْنِ كَأُمِّ الْوَلَدِ. وَهَذَا إذَا قُلْنَا بِانْتِقَالِ رَقَبَةِ الْوَقْفِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَ رَقَبَةَ الْوَقْفِ لِلَّهِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى مِنْ الْبُطُونِ الْمُرَتَّبَةِ فَلَا يَكُونُ دُونَ بَعْضِهِمْ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَقْفُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ الْوَاقِفِ فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ أَوْ بَاعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ عَلَى الْمُخْتَارِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمِلْكَيْنِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَنْقُلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى طَبَقَاتٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهَا هُوَ أَحَدُهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ نَقَلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، بَلْ فِي الشَّرِكَةِ الْمِلْكُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ يَمْلِكُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، كَمَا وَقَفَ عُثْمَانُ بِئْرَ رُومَةَ وَجَعَلَ دَلْوَهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يُصَلِّي الْمَرْءُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي وَقَفَهُ، وَيَشْرَبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 مِنْ السِّقَايَةِ الَّتِي وَقَفَهَا، وَيُدْفَنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الَّتِي سَبَّلَهَا، أَوْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيق الَّتِي فَتْحَهَا، وَيَنْتَفِعُ بِالْكِتَابِ الَّذِي وَقَفَهُ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ اللَّذَيْنِ وَقَفَهُمَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فِي الْجِهَةِ الْعَامَّةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، بَلْ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُنَاكَ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ. وَتَقْلِيدُ هَذَا الْقَوْلِ خَيْرٌ مِنْ الْحِيلَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي يُمَلِّكُ الرَّجُلُ فِيهَا مَالَهُ لِمَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ نَفْسُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ يَقِفَهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَى الْمُمَلِّكِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ. وَالثَّانِي: اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَوْ إذْنُهُ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ [لَهُ] فِي الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الْوَقْفِ؛ فَصَارَ وُجُودُ هَذَا التَّمْلِيكِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ وَلَا يُمْكِنُهُ وُجُودُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ، وَلَوْ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ عُدَّ ظَالِمًا غَاصِبًا، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا كَنُفُوذِهِ قَبْلَهُ، هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُمَا تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ عِنْدَكُمْ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، أَنْ يَقِفَهُ عَلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ؛ وَيَسْتَثْنِيَ غَلَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَهَذَا جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ مُدَّةً. وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةٍ أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ سَفِينَةَ، وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ، وَبِآثَارٍ صِحَاحٍ كَثِيرَةٍ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمْ مَنْ خَالَفَهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ قُوَّةٌ فِي الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ عَدَلَ إلَى الْحِيلَةِ الْأُولَى فَمَا حُكْمُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟ وَمَا حُكْمُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِالْحَالِ، هَلْ يَطِيبُ لَهُ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْوَقْفِ وَنُفُوذَهُ، وَيَطِيبُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَيْهِ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ وَهَذَا كَمَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ وَجَحَدَ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْعَبْدُ أَوْ الْمَرْأَةُ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ فَشَهِدَا بِهِ وَسِعَ الْعَبْدَ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ وَالْمَرْأَةَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَفِقْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ وَالتَّوْكِيلَ فِي الْوَقْفِ وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ أَوْ الْمُضَارَبَةُ لَمْ يَفْسُدْ تَصَرُّفُ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مِنْ الْإِذْنِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاتِّفَاقَ يَلْزَمُهُ قَبْلَ التَّمْلِيكِ إذْنٌ صَحِيحٌ وَوَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَافِيهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا بَطَلَ عَقْدُ الْهِبَةِ لِكَوْنِهِ شَرَطَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ بَلْ يَصِحُّ بِالْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدٌ غَيْرُ الْمِلْكِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَطَلَ الْمِلْكُ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ. قِيلَ: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْإِذْنِ وَالتَّوْكِيلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي أُعِيرَتَهَا وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ، كَمَا سُلِبَ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا وَنِكَاحًا وَهَدِيَّةً هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَأُعْطِيَ اسْمَ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَالرِّشْوَةِ؛ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى إذْنًا وَتَوْكِيلًا، وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ، بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْوَكَالَةِ؛ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْكِيلٌ لِلْغَيْرِ فِي أَنْ يَقِفَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ اعْتَقَدَ جَوَازَ هَذَا الْوَقْفِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ وَبُطْلَانَ الْحِيَلِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ يَكُونُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، فَمَنْ أَبْطَلَهُ رَأَى أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهَا تَبَعٌ لِلْأُولَى، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَتْبُوعِ فَفِي التَّابِعِ أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ، وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ تَصِيرَ الثَّانِيَةُ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ؛ إذْ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَا الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ؛ فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ. فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَصِحُّ الْوَقْفُ حِينَئِذٍ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَيَكُونُ مَأْخَذُهُمَا ذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَالَ: " هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي " فَيَصِحُّ، أَوْ أَنَّهُ وَقْفٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ وَفِي الزَّائِدِ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِهِ كَانَ مِيرَاثًا، وَمَنْ رَأَى صِحَّتَهُ قَالَ: قَدْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ بِأَنْ يُصَحِّحَ الْوَقْفَ وَيَصْرِفَهُ فِي الْحَالِ إلَى جِهَتِهِ الَّتِي يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَتَلْغَى الْجِهَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فَتُجْعَلُ كَالْمَعْدُومَةِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: بَلْ تُصْرَفُ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ مَصْرِفَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ سَلَكَ حِيلَةً غَيْرَ هَذَا كُلِّهِ، وَأَسْهَلَ مِنْهُ وَأَقْرَبَ؟ وَهِيَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعَقَارِ وَقْفٌ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ جَائِزِ الْمِلْكِ جَائِزِ الْوَقْفِ، ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، فَمَا حُكْمُ هَذِهِ الْحِيلَةِ فِي الْبَاطِنِ، وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ بِهَا مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ؟ . قِيلَ: هَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا إنْشَاءَ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا الْإِخْبَارَ؛ فَهِيَ إنْشَاءٌ فِي الْبَاطِنِ إخْبَارٌ فِي الظَّاهِرِ، فَهِيَ كَمَنْ أَقَرَّ بِبُطْلَانٍ أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ، وَالْوَقْفُ يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ وَبِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَبِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ: " هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ " وَمَيَّزَهُ بِفِعْلِهِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ وَقْفًا؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْإِنْشَاءِ مَعَ النِّيَّةِ، فَإِذَا قَصَدَهُ بِهِ صَحَّ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِنْشَاءِ يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ دِينَ، فَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ صَالِحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْآخَرِ، فَقَدْ يُقْصَدُ بِالْإِقْرَارِ الْإِخْبَارُ عَمَّا مَضَى، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ قَدْ قِيلَ: هِيَ إنْشَاءَاتٌ، وَقِيلَ: إخْبَارَاتٌ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ؛ فَهِيَ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ، وَقَصْدُ تِلْكَ الْمَعَانِي إنْشَاءٌ؛ فَاللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى إنْشَاءٌ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقِفْهُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا بِهَذَا الْإِخْبَارِ فَقَدْ اجْتَمَعَ لَفْظُ الْإِخْبَارِ وَإِرَادَةُ الْإِنْشَاءِ، فَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَيْبٌ أَنَّهُ أَنْشَأَ الْوَقْفَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَفْظُهُ إخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَا عَنَاهُ، وَاَلَّذِي عَنَاهُ لَمْ يُنْشِئْ لَهُ لَفْظًا صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً، وَنَشَأَتْ الشُّبْهَةُ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ الصَّالِحِ لِلْكِنَايَةِ مَعَ الْفِعْلِ الدَّالِ عَلَى الْوَقْفِ يَقُومُ مَقَامَ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُنْشَأُ بِهِ الْوَقْفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً] [بَيْعُ الشَّيْءِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهِ مُدَّةً] : الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَوْ بَاعَ غَيْرُهُ دَارًا أَوْ عَبْدًا أَوْ سِلْعَةً؛ وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ وَالْمَصْلَحَةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ؛ فَإِنْ خَافَ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بُطْلَانَ هَذَا الشَّرْطِ فَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي تَخْلِيصِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَاطِئَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَهُ إيَّاهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ؛ وَيُقِرَّ بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ، ثُمَّ يَبِيعَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ يَسْتَأْجِرَهُ كَمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَيُقِرَّ لَهُ بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ لَا تَتَضَمَّنُ تَحْلِيلَ حَرَامٍ وَلَا تَحْرِيمَ حَلَالٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ] حِيلَةٌ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: الْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنَةُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَهِيَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَهِيَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ خَافَ الْمُطَلِّقُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى أَوْ السُّكْنَى وَحْدَهَا فَالْحِيلَةُ فِي تَخْلِيصِهِ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا عَلَى الْبَرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولَ: إنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُك لِي مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى أَوْ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ فَلَا يُمْكِنُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَدَّعِي بِهِمَا أَلْبَتَّةَ. وَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى نَظِيرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُفْرَضُ عَلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِذَا ادَّعَتْ بِذَلِكَ وَفَرَضَهُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ صَارَ لَهَا عَلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا، فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا وَيُعْطِيَهَا وَإِمَّا أَنْ يَتَقَاصَّا. [الْمِثَالُ الْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الشِّرَاءِ] [حِيلَةٌ فِي الشِّرَاءِ] : الْمِثَالُ الْخَمْسُونَ: إذَا اشْتَرَى سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ غَرِيبٍ فَخَافَ أَنْ تُسْتَحَقَّ أَوْ تَظْهَرَ مَعِيبَةً وَلَا يَعْرِفُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِيمَ لَهُ وَكِيلًا يُخَاصِمُهُ إنْ ظَهَرَ ذَلِكَ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَعْزِلَ الْبَائِعُ الْوَكِيلَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ الْوَكِيلِ نَفْسِهِ وَيُضَمِّنَهُ دَرَكَ الْمَبِيعِ. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ] [حِيلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ مَتَاعًا مِنْ [بَلَدٍ] غَيْرِ بَلَدِهِ فَاشْتَرَاهُ وَأَرَادَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ وَإِقَامَتُهُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَإِنْ أَوْدَعَهُ غَيْرَهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّهُ، وَإِنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ ضَمِنَ أَيْضًا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يُوصِلُهُ إلَيْهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَأْمَنُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي إيصَالِهِ إلَى رَبِّهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ بِرَأْيِهِ، وَأَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ أَوْ أَنْ يُودِعَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُوَكِّلُ وَقَالَ: " لَا يُوَافِينِي بِهِ غَيْرُك " فَقَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ، فَلْيُخْرِجْ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ، فَتَصِيرُ يَدُهُ يَدَ مُودِعٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ، بَلْ مُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ مَالِهِ أَرْسَلَ مَنْ يَأْخُذُهُ أَوْ جَاءَ هُوَ فِي طَلَبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ كَانَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لَمَّا دَخَلَ مَعَهُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْمَالَ، فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ بِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ بَقِيَ كَالْمُودِعِ الْمَحْضِ، فَإِنْ كَانَ وَكِيلًا بِجُعْلٍ فَهُوَ كَالْأَجِيرِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الْعَمَلِ كَالْأَجِيرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 [المثال الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ إسْلَامُ ذِمِّيٍّ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ] إسْلَامُ ذِمِّيٍّ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ] الْفَصْلُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: إذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ أَنْ يُسْلِمَ وَعِنْدَهُ خَمْرٌ، فَخَافَ إنْ أَسْلَمَ، يَجِبُ عَلَيْهِ إرَاقَتُهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يُسْلِمَ، وَيَتَقَاضَاهُ الثَّمَنَ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ كَتَحْرِيمِهَا بِالْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ» . فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَسْلَمَ مَنْ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهَا هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ؟ قِيلَ: لَا يَسْقُطُ؛ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي خَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا. قِيلَ: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَيَرُدُّ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَخَافَ أَنْ يُلْزِمَهُ بِثَمَنِهَا، فَهَلْ لَهُ حِيلَةٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: الْحِيلَةُ أَنْ لَا يَمْلِكَهَا بِالشِّرَاءِ، بَلْ بِالْقَرْضِ، فَإِذَا اقْتَرَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِ الْقَرْضِ؛ فَإِنَّ مُوجِبَ الْقَرْضِ رَدُّ الْمِثْلِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْإِسْلَامِ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيَلُ فِي الشُّفْعَةِ] [حِيَلٌ فِي الشُّفْعَةِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا اشْتَرَى دَارًا أَوْ أَرْضًا وَقَدْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحُدُودُ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ بَلْ طَرِيقُهَا وَاحِدَةٌ فَفِيهَا الشُّفْعَةُ، هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ خَافَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْفَعَهُ الْجَارُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى الشُّفْعَةَ وَإِنْ صُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَهُ التَّحَيُّلُ عَلَى إبْطَالِهَا بِضُرُوبٍ مِنْ الْحِيَلِ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَيُكَاتِبَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يُعْطِيَهُ عِوَضَ كُلِّ دِينَارٍ دِرْهَمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَهَبَ مِنْهُ الدَّارَ وَالْأَرْضَ ثُمَّ يَهَبَهُ ثَمَنَهَا، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ إنْ شِئْت بِعْتُكهَا بِمَا اشْتَرَيْتهَا بِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَصْبِرُ عَلَيْك بِالثَّمَنِ، فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ فَتَسْقُطُ شُفْعَتُهُ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَصَادَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ تُفْسِدُ الْبَيْعَ كَأَجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ خِيَارٍ مَجْهُولٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقِرَّهَا الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ سَبِيلٌ عَلَيْهَا، وَخَامِسُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ مُدَّةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 طَوِيلَةً، فَإِنْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَإِنْ بَطَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَسَادِسُهَا: أَنْ يَهَبَ لَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدَّارِ أَوْ الْأَرْضِ، وَيَبِيعَهُ الْعُشْرَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَسَابِعُهَا: أَنْ يُوَكِّلَ الشَّفِيعَ فِي بَيْعِ دَارِهِ أَوْ أَرْضِهِ، فَيَقْبَلَ الْوَكَالَةَ فَيَبِيعَ، أَوْ يُوَكِّلَهُ الْمُشْتَرِي فِي الشِّرَاءِ لَهُ، وَثَامِنُهَا: أَنْ يَزِنَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ سِرًّا ثُمَّ يَجْعَلَهُ صُبْرَةً غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَيَبِيعَهُ الدَّارَ بِهَا، وَتَاسِعُهَا: أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِسَهْمٍ مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ لِلْمُشْتَرِي فَيَصِيرَ شَرِيكَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ بَاقِيَ الدَّارِ، فَلَا يَجِدَ جَارُهُ إلَيْهَا سَبِيلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْجَارِ. وَعَاشِرُهَا: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِبَيْتٍ مِنْ الدَّارِ، ثُمَّ يَبِيعَهُ بَاقِيَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَيَصِيرَ شَرِيكًا، فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِ، وَحَادِي عَشَرَهَا: أَنْ يَأْمُرَ غَرِيبًا أَوْ مُسَافِرًا بِشِرَائِهَا، فَإِذَا فَعَلَ دَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ وَكَّلَهُ بِحِفْظِهَا، ثُمَّ يُشْهِدُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ وَتَوْكِيلِهِ حَتَّى لَا يُخَاصِمَهُ الشَّفِيعُ، وَثَانِي عَشَرَهَا: أَنْ يَجِيءَ الْمُشْتَرِي إلَى الْجَارِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ دَارِهِ وَيُرَغِّبَهُ فِي الثَّمَنِ أَضْعَافَ مَا تُسَاوِي، وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَمْضِي وَيَشْتَرِي تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي يُرِيدُ شِرَاءَهَا، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا فَسَخَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ جَارُهُ عَلَيْهِ شُفْعَةً؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ جَارًا، وَإِنَّمَا طَرَأَ لَهُ الْجِوَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَثَالِثُ عَشَرَهَا: أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُشْتَرِي لِبَائِعِ الدَّارِ عَبْدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ شَهْرًا بِسَهْمٍ مِنْ الدَّارِ، فَيَصِيرَ شَرِيكَهُ، ثُمَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَشْتَرِي مِنْهُ بَقِيَّتَهَا؛ فَلَا يَكُونُ لِجَارِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَرَابِعُ عَشَرَهَا: أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَضْعَافَ مَا تُسَاوِي، فَإِنَّ الْجَارَ لَا يَأْخُذُهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَإِذَا رَغِبَ عَنْهَا صَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ عَلَى مَا يُسَاوِيه حَالًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. [رَدُّ شُبْهَةٍ وَارِدَةٍ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ] فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ قَدْ بَالَغْتُمْ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ احْتَالَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَذَكَرْتُمْ تِلْكَ الْآثَارَ، فَنَكِيلُ لَكُمْ بِالْكَيْلِ الَّذِي كِلْتُمْ بِهِ لَنَا. قُلْنَا: لَا سَوَاءٌ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْوُجُوهَ تَحَيُّلًا عَلَى [إبْطَالِ] مَا أَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَلَمَّا أَبْطَلَ الشُّفْعَةَ تَحَيَّلْنَا عَلَى تَنْفِيذِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ فَكُنَّا فِي هَذِهِ الْحِيَلِ مُنَفِّذِينَ لِأَمْرِهِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبْطَلْتُمْ بِهَا مَا أَثْبَتَهُ بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِذَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الْبَيْعَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهِ فَمَا الظَّنُّ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى إسْقَاطِ شُفْعَتِهِ؟ فَتَوَصَّلْتُمْ أَنْتُمْ بِهَذِهِ الْحِيَلِ إلَى إسْقَاطِ مَا أَثْبَتَهُ، وَتَوَصَّلْنَا نَحْنُ بِهَا إلَى إسْقَاطِ مَا أَسْقَطَهُ وَأَبْطَلَهُ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالصَّوَابِ، وَأَتْبَعُ لِمَقْصُودِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ] حِيلَةٌ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ] : الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ، كَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ، كَمَا صَحَّتْ بِهِ السُّنَّةُ، بَلْ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الْوَلِيَّ وَكِيلٌ وَكَالَةً عَامَّةً، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ نِيَابَةً عَنْ الْمُولِي، فَوَكَالَتُهُ أَعَمُّ مِنْ وَكَالَةِ الْوَكِيلِ فِي الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا صَحَّ تَعْلِيقُهَا فَتَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ؛ فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَوْ يُوَكِّلُهُ مُطْلَقًا ثُمَّ يُعَلِّقُ التَّصَرُّفَ عَلَى شَرْطٍ فَيَصِحُّ، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ فِقْهِيٌّ بَيْنَ امْتِنَاعِ هَذَا وَجَوَازِ هَذَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّوْكِيلِ التَّصَرُّفُ، وَالتَّوْكِيلُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ؛ فَإِذَا صَحَّ تَعْلِيقُ الْغَايَةِ فَتَعْلِيقُ الْوَسِيلَةِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي إبْطَالِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى] [حِيلَةٌ فِي إبْطَالِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا رَفَعَ إلَى الْإِمَامِ وَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ زَنَى، فَخَافَ إنْ أَنْكَرَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَيُحَدَّ؛ فَالْحِيلَةُ فِي إبْطَالِ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يُقِرَّ إذَا سُئِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهَا؛ فَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ مَعَ الْإِقْرَارِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَرِّرَهُ تَمَامَ النِّصَابِ، بَلْ إذَا سَكَتَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يَرَى وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ فَإِذَا خَافَ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَقَرَّ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ، وَهَكَذَا أَبَدًا، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ جَائِزَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُخْلِدَ إلَى التَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّحَابَةِ لَمَّا فَرَّ مَاعِزٌ مِنْ الْحَدِّ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» فَإِذَا فَرَّ مِنْ الْحَدِّ إلَى التَّوْبَةِ فَقَدْ أَحْسَنَ. [الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ الْحِنْثِ] [حِيلَةٌ فِي الْخَلَاصِ مِنْ الْحِنْثِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا حَلَفَ لِغَادِرٍ أَوْ جَاسُوسٍ أَوْ سَارِقٍ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا، وَلَا يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ فَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ وَأَنْ لَا يُخْفِيَهُ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَقْوَامٍ هُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؛ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ غَيْرِهِ قَالَ: لَا، فَإِذَا انْتَهَتْ التَّوْبَةُ إلَيْهِ سَكَتَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَا يَأْثَمُ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَإِيوَائِهِ، وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، قَالَ لَهُ السَّائِلُ: نَزَلَ بِي اللُّصُوصُ؛ فَأَخَذُوا مَالِي وَاسْتَحْلَفُونِي بِالطَّلَاقِ أَلَّا أُخْبِرَ أَحَدًا بِهِمْ؛ فَخَرَجْت فَرَأَيْتُهُمْ يَبِيعُونَ مَتَاعِي فِي السُّوقِ جَهْرَةً، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى الْوَالِي فَقُلْ لَهُ يَجْمَعُ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ أَوْ السِّكَّةِ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ ثُمَّ يُحْضِرُهُمْ ثُمَّ يَسْأَلُك عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ فَإِذَا سَأَلَك عَمَّنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَقُلْ: لَيْسَ مِنْهُمْ، وَإِذَا سَأَلَك عَمَّنْ هُوَ مِنْهُمْ فَاسْكُتْ؛ فَفَعَلَ الرَّجُلُ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 فَأَخَذَ الْوَالِي مَتَاعَهُ مِنْهُمْ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ؛ فَلَوْ عُمِلَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ مَعَ مَظْلُومٍ لَمْ تَنْفَعْ، وَحَنِثَ الْحَالِفُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الدَّفْعُ عَنْهُ، وَبِالسُّكُوتِ قَدْ أَعَانَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي بِرِّ زَوْجٍ وَزَوْجَتِهِ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا] [حِيلَةٌ فِي بِرِّ زَوْجٍ وَزَوْجَتِهِ حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: مَا سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ امْرَأَةٍ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا سَأَلْتَينِي الْخُلْعَ إنْ لَمْ أَخْلَعْك، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَسْأَلْك الْخَلْع الْيَوْمَ؛ فَجَاءَ الزَّوْجُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَحْضِرْ الْمَرْأَةَ؛ فَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو حَنِيفَةَ: سَلِيهِ الْخُلْعَ، فَقَالَتْ: سَأَلَتْك أَنْ تَخْلَعَنِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: قُلْ لَهَا قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ تُعْطِينِيهَا، فَقَالَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا قَوْلِي: لَا أَقْبَلُ، فَقَالَتْ: لَا أَقْبَلُ، فَقَالَ: قَوْمِي مَعَ زَوْجِك فَقَدْ بَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا وَلَمْ يَحْنَثْ فِي شَيْءٍ، ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ لَهُ. وَإِنَّمَا تَتِمُّ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ فَلَوْ قَالَتْ لَهُ: " أَسْأَلُك الْخُلْعَ عَلَى أَلْفٌ دِرْهَمٍ حَالَّةً، أَوْ إلَى شَهْرٍ " فَقَالَ: " قَدْ خَلَعْتُك عَلَى ذَلِكَ " وَقَعَ الْخُلْعُ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ لَهُ: " اخْلَعْنِي " قَالَ: " خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ " فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ خُلْعًا حَتَّى تَقْبَلَ وَتَرْضَى، وَهِيَ لَمْ تَرْضَ بِالْأَلْفِ؛ فَلَا يَقَعُ الْخُلْعُ. [فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ إذًا لَمْ يَقَعْ الْخُلْعُ؟] قِيلَ: هُوَ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى قَبُولِهَا؛ فَإِذَا قَالَ: " قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ " فَقَدْ وُجِدَ الْخُلْعُ مِنْ جِهَتِهِ؛ فَانْحَلَّتْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَقِفْ حَلُّ الْيَمِينِ عَلَى قَبُولِهَا، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَبَاعَ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ أَخَوَانِ زُفَّتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجَةُ الْآخَرِ] [أَخَوَانِ زُفَّتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجَةُ الْآخَرِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِهِ أَيْضًا عَنْهُ أَتَاهُ أَخَوَانِ قَدْ تَزَوَّجَا بِأُخْتَيْنِ؛ فَزُفَّتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ أُخْتِهَا؛ فَدَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ عَلِمَ الْحَالَ لَمَّا أَصْبَحَا؛ فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، وَسَأَلَاهُ الْمَخْرَجَ، فَقَالَ لَهُمَا: كُلٌّ مِنْكُمَا رَاضٍ بِاَلَّتِي دَخَلَ بِهَا؟ فَقَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ: لِيُطَلِّقْ كُلٌّ مِنْكُمَا امْرَأَتَهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً؛ فَفَعَلَا، فَقَالَ: لِيَعْقِدْ كُلٌّ مِنْكُمَا عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا، فَفَعَلَا، فَقَالَ: لِيَمْضِ كُلٌّ مِنْكُمَا إلَى أَهْلِهِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ؛ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِاَلَّتِي طَلَّقَهَا فَالْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ، فَلِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِ الْمَرْأَة مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي لَا تَرْضَى بِهِ] حِيلَةٌ فِي تَخَلُّصِ الْمَرْأَةِ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي لَا تَرْضَى بِهِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَخَافَتْ أَنْ يُسَافِرَ عَنْهَا الزَّوْجُ وَيَدَعَهَا أَوْ يُسَافِرَ بِهَا وَلَا تُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ دَارِهَا أَوْ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ يَتَسَرَّى أَوْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ أَوْ يَضْرِبَهَا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ أَوْ يَتَبَيَّنَ فَقِيرًا وَقَدْ ظَنَّتْهُ غَنِيًّا أَوْ مَعِيبًا وَقَدْ ظَنَّتْهُ سَلِيمًا أَوْ أُمِّيًّا وَقَدْ ظَنَّتْهُ قَارِئًا أَوْ جَاهِلًا وَقَدْ ظَنَّتْهُ عَالِمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا يُمْكِنُهَا التَّخَلُّصُ، فَالْحِيلَةُ لَهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا، إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ، وَتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ خَافَتْ أَنْ لَا تَشْتَرِطَ ذَلِكَ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُهَا إلْزَامُهُ بِالشَّرْطِ فَلَا تَأْذَنُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَيَقُولَ: زَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَيْتَ وَكَيْتَ؛ فَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَلَكَتْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا، وَلَا بَأْسَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ لَمْ تَرْضَ بِنِكَاحِهِ، وَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ رَفْعِ أَمْرِهَا إلَى الْحَاكِمِ لِيَفْسَخَ نِكَاحَهَا بِالْغَيْبَةِ وَالْإِعْسَارِ وَنَحْوِهِمَا. [الْمِثَالُ السِّتُّونَ ضَمَانُ مَا لَا يَجِبُ] [ضَمَانُ مَا لَا يَجِبُ] الْمِثَالُ السِّتُّونَ: يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَا يَجِب كَقَوْلِهِ: " مَا أَعْطَيْت لِفُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِ مُؤَذِّنِ يُوسُفَ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَالْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ أَوْ الضَّرُورَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ، وَسَلِمَ جَوَازُهُ إذَا تَبَيَّنَ سَبَبُ وُجُوبِهِ كَدَرَكِ الْمَبِيعِ. وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا رَضِيَ بِأَنْ يَلْتَزِمَ عَنْهُ مِقْدَارًا لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ الْمَضْمُونُ عَنْهُ بِهِ لِلدَّافِعِ ثُمَّ يَضْمَنَهُ عَنْهُ الضَّامِنُ، فَإِنْ خَشِيَ الْمُقِرُّ أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، فَإِنْ تَحَرَّجَ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ مَا يُرِيدُ أَخْذَهُ مِنْهُ بِالْمَبْلَغِ الَّذِي الْتَزَمَ الضَّامِنُ أَدَاءَهُ، فَإِذَا صَارَ فِي ذِمَّتِهِ ضَمِنَهُ عَنْهُ، وَهَذَا الْحُكْمُ إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ وَضَمِنَ لِلْمَرْأَةِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا فَالصَّحِيحُ فِي هَذَا كُلِّهِ جَوَازُ الضَّمَانِ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَةُ، وَعُقُودُ الِالْتِزَامِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْجَهَالَةُ كَالنَّذْرِ، ثُمَّ يُمْكِنُ رَفْعُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يَحُدَّ لَهُ حَدًّا فَيَقُولَ: مِنْ دِرْهَمٍ إلَى كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالْغَايَةِ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي كَمْ يَلْزَمُهُ مِنْهُ. قِيلَ: لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي جَوَازِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ فِي الْآخَرِ كَمْ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْهُ، ثُمَّ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقَالَ: " لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ " صَحَّ؛ فَهَكَذَا إذَا قَالَ: " ضَمِنْت عَنْهُ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فَإِنْ قِيلَ: الضَّامِنُ فَرْعٌ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَنْبَنِي الضَّمَانُ وَيَتَفَرَّعُ؟ قِيلَ: إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا إذَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَإِلَّا فِي الْحَالِ فَلَيْسَ هُوَ ضَامِنًا. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: " هُوَ ضَامِنٌ بِالْقُوَّةِ " فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ضَمَانٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ اللِّسَانُ] [حِيلَةٌ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ اللِّسَانُ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِمَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، أَوْ أَرَادَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَتَابَ مِنْهُ، أَوْ خَافَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ شُهُودُ زُورٍ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَرُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ وَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ لَا يَرَى قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ أَنْ لَا يُقِرَّ بِهِ وَلَا يُنْكِرَ، فَيَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، بَلْ يَكْفِيه فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ: " إنْ كُنْت قُلْته فَقَدْ رَجَعْت عَنْهُ، وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْهُ " وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَكْتَفِي مِنْك بِهَذَا الْجَوَابِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ هَذَا جَوَابٌ كَافٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَتَكْلِيفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ خُطَّةَ الْخَسْفِ بِالْإِقْرَارِ - وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ، أَوْ الْإِنْكَارِ وَقَدْ تَابَ مِنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ - ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ بَعْدَ هَذَا هَلْ وَقَعَ مِنْك ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقَعْ؟ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَقَالَ: " لَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ لَا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُنْذُ عَقَلْت وَإِلَى الْآنَ " لَمْ يُسْتَكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ، وَلَمْ يُسْأَلْ لَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: " إنْ كُنْت قُلْته فَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْهُ " أَوْ " قَدْ تُبْت مِنْهُ " فَقَدْ اُكْتُفِيَ مِنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَلَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. [هَلْ تُعَلَّقُ التَّوْبَةُ بِالشَّرْطِ؟] فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيقٌ لِلتَّوْبَةِ أَوْ الْإِسْلَامِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ. قِيلَ: هَذَا مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ مُورِدِهِ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، تَلَفَّظَ بِهِ أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وَكَذَلِكَ تَجْدِيدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ مَا يُنَاقِضُهُ فَتَلَفُّظُهُ بِالشَّرْطِ تَأْكِيدٌ لِمُقْتَضَى عَقْدِ التَّوْبَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا كَمَا إذَا قَالَ: " إنْ كَانَ هَذَا مِلْكِي فَقَدْ بِعْتُك إيَّاهُ " فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ هَذَا بَيْعٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ فَلَا يَصِحُّ؟ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: " إنْ كَانَتْ هَذِهِ امْرَأَتِي فَهِيَ طَالِقٌ " لَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ، وَنَظَائِرُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 التَّعْلِيقَ بِالشُّرُوطِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ، حَتَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ شَكَتْ إلَيْهِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ، فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي عَلَى رَبِّك فَقَوْلِي: إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي، فَإِنَّ لَك مَا اشْتَرَطْت عَلَى رَبِّك» فَهَذَا شُرِعَ مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَدْ شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لِحَاجَةِ الْأُمَّةِ إلَيْهِ، وَيُفِيدُ شَيْئَيْنِ: جَوَازُ التَّحَلُّلِ، وَسُقُوطُ الْهَدْيِ، وَكَذَلِكَ الدَّاعِي بِالْخِيَرَةِ يَشْتَرِطُ عَلَى رَبِّهِ فِي دُعَائِهِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي عَاجِلُهُ وَآجِلُهُ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، فَيُعَلِّقُ طَلَبَ الْإِجَابَةِ بِالشَّرْطِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ لِخَفَاءِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَّهُ أَوْ لَعَنَهُ وَلَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا كَفَّارَةً لَهُ وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْهِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ لَلْمُدَّعُو بِهِ بِشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي عَلَى الْمَيِّتِ شُرِعَ لَهُ تَعْلِيقُ الدُّعَاءِ بِالشَّرْطِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَتَقَبَّلْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ؛ فَهَذَا طَلَبٌ لِلتَّجَاوُزِ عَنْهُ بِشَرْطٍ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ تَعْلِيقُ التَّوْبَةِ بِالشَّرْطِ؟ وَقَالَ شَيْخُنَا: كَانَ يُشْكِلُ عَلَيَّ أَحْيَانًا حَالُ مَنْ أُصَلِّي عَلَيْهِ الْجَنَائِزَ، هَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ؟ فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَسَأَلْته عَنْ مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ مِنْهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ الشَّرْطَ الشَّرْطَ، أَوْ قَالَ: عَلِّقْ الدُّعَاءَ بِالشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ أَرْشَدَ أُمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى تَعْلِيقِ الدُّعَاءِ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِالشَّرْطِ فَقَالَ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَإِذَا أَرَدْت بِعِبَادِك فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إلَيْك غَيْرَ مَفْتُونٍ» وَقَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» . وَتَعْلِيقُ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالِالْتِزَامَاتِ وَغَيْرِهَا بِالشُّرُوطِ أَمْرٌ قَدْ تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوْ الْحَاجَةُ أَوْ الْمَصْلَحَةُ؛ فَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُكَلَّفُ، وَقَدْ صَحَّ تَعْلِيقُ النَّظَرِ بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَنَصِّ الْكِتَابِ، وَتَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِالشَّرْطِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيقُ النِّكَاحِ بِالشَّرْطِ فِي تَزْوِيجِ مُوسَى بِابْنَةِ صَاحِبِ مَدْيَنَ وَهُوَ [مِنْ] أَصَحِّ نِكَاحٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي شَرِيعَتِنَا مَا يَنْسَخُهُ، بَلْ أَتَتْ مُقَرِّرَةً لَهُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ حِلَّ الْفُرُوجِ بِالنِّكَاحِ قَدْ يُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، كَمَا يُعَلَّقُ الطَّلَاقُ وَالْجَعَالَةُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعُقُودِ، وَعَلَّقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ يَدْفَعُ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ فَلَهُ كَذَا وَإِنْ جَاءَ الْعَامِلُ بِالْبَذْرِ فَلَهُ كَذَا، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَاحِبٌ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَيْعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إنْ بِعْت هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَهَنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ نَعْلَهُ وَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: إنْ جِئْتُك بِالْحَقِّ إلَى كَذَا وَإِلَّا فَهُوَ لَك، وَهَذَا بَيْعٌ بِشَرْطٍ، فَقَدْ فَعَلَهُ وَأَفْتَى بِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ، نَصَّ عَلَى جَوَازِهِ فِعْلًا مِنْهُ، فَقَالَ لِمَنْ اغْتَابَهُ ثُمَّ اسْتَحَلَّهُ: " أَنْتَ فِي حِلٍّ إنْ لَمْ تَعُدْ " فَقَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيُّ: قَدْ اغْتَابَك وَتُحْلِلُهُ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَنِي قَدْ اشْتَرَطْت عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ؟ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِنُصُوصِهِ وَلَا لِأُصُولِهِ، وَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِلَايَةَ الْإِمَارَةِ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ، وَعَلَى تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَقَدْ عَلَّقَ أَبُو بَكْرٍ تَوْلِيَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّرْطِ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» فَهَذَا الشَّرْطُ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّارِعُ، وَقَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ السَّيِّدُ» وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: «كُنْت مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَعْتَقْتُكَ، وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِشْتَ، فَقُلْتُ: وَلَوْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِشْتُ، فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ» ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَلَك مَا شَرَطْت. ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ: إذَا أَحَلَّهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ، وَقَالَ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الْإِقْرَارِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ: وَقَالَ ابْنُ عَوْفٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيهٍ: ارْحَلْ رِكَابَك فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَك فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: إنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا فَقَالَ: إنْ لَمْ آتِك الْأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَك بَيْعٌ، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْته، فَقَضَى عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي بَابِ الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ: وَقَالَ الْمِسْوَرُ: «سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَانِي» ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَرْثِ: وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُمْ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ: " إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ كَذَا " وَفِي جَوَازِ: " بِعْتُكَهُ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً " فَالصَّوَابُ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ لِلنَّصِّ وَالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ. وَقَالَ جَابِرٌ: «بِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرًا، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي» . وَرَوَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ عَامِلِ عُمَرَ عَلَى مَكَّةَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ نَافِعٌ إنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعُرْبُونِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ فَعَلَهُ، وَأَجَازَ هَذَا الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ فِيهِ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ يَقُولُ: أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ اشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ حَمْلَهَا إلَى قَصْرِ سَعْدٍ، وَاشْتَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ، وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَفْتَى بِهِ. [لِلشُّرُوطِ عِنْدَ الشَّارِعِ شَأْنٌ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لِلشُّرُوطِ عِنْدَ الشَّارِعِ شَأْنًا لَيْسَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ يُلْغُونَ شُرُوطًا لَمْ يُلْغِهَا الشَّارِعُ، وَيُفْسِدُونَ بِهَا الْعَقْدَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ تَقْتَضِي فَسَادَهُ، وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشُّرُوطِ مِنْ الْعُقُودِ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ ضَابِطٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ فَالصَّوَابُ الضَّابِطُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَكِتَابَهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ، مَا لَمْ يُخَالِفْهُ حُكْمُهُ فَهُوَ لَازِمٌ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشَّرْطِ كَالِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ، وَالنَّذْرُ لَا يَبْطُلُ مِنْهُ إلَّا مَا خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَكِتَابَهُ، بَلْ الشُّرُوطُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْسَعُ مِنْ النَّذْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَالِالْتِزَامُ بِهِ أَوْفَى مِنْ الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ. وَإِنَّمَا بَسَطْت الْقَوْلَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ بَابَ الشُّرُوطِ يَدْفَعُ حِيَلَ أَكْثَرِ الْمُتَحَيِّلِينَ، وَيَجْعَلُ لِلرَّجُلِ مَخْرَجًا مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ وَمِمَّا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ؛ فَالشَّرْطُ الْجَائِزُ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ وَعَهْدٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَالَ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] . [الشَّرْطُ اللَّازِمُ وَالشَّرْطُ الْبَاطِلُ] وَهَاهُنَا قَضِيَّتَانِ كُلِّيَّتَانِ مِنْ قَضَايَا الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، إحْدَاهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ وَنَاقَضَ كِتَابَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَا يُخَالِفُ حُكْمَهُ وَلَا يُنَاقِضُ كِتَابَهُ وَهُوَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ بِدُونِ الشَّرْطِ - فَهُوَ لَازِمٌ بِالشَّرْطِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ شَيْءٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وَلَا تَعْبَأْ بِالنَّقْضِ بِالْمَسَائِلِ الْمَذْهَبِيَّةِ وَالْأَقْوَالِ الأرائية فَإِنَّهَا لَا تَهْدِمُ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ؛ فَالشُّرُوطُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ كَالنَّذْرِ فِي حُقُوقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكُلُّ طَاعَةٍ جَازَ فِعْلُهَا قَبْلَ النَّذْرِ لَزِمَتْ بِالنَّذْرِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ قَدْ جَازَ بَذْلُهُ بِدُونِ الِاشْتِرَاطِ لَزِمَ بِالشَّرْطِ، فَمَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَإِذَا كَانَ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ إخْلَافُ الْوَعْدِ وَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فَكَيْفَ الْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالشَّرْطِ؟ بَلْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوب] [الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: إذَا بَاعَهُ جَارِيَةً مَعِيبَةً وَخَافَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَلْيُبَيِّنْ لَهُ مِنْ عَيْبِهَا وَيُشْهِدْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَافَ رَدَّهَا بِعَيْبٍ آخَرَ لَا يَعْلَمُهُ الْبَائِعُ فَلْيُعَيِّنْ لَهُ عُيُوبًا يَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهَا وَأَنَّهُ رَضِيَ بِهَا كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ غَيْرَ مُتَصَوَّرٍ وَلَا دَاخِلٍ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ الْعُيُوبِ فَلْيَقُلْ: " وَأَنَّك رَضِيت بِهَا بِجُمْلَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ الرَّدَّ " مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يَقُلْ: " وَأَنَّك أَسْقَطْت حَقَّك مِنْ الرَّدِّ " وَلَا: " أَبْرَأْتنِي مِنْ كُلِّ دَعْوَى تُوجِبُ الرَّدَّ " وَلَا يَبِيعُهَا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُسْقِطُ الرَّدَّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبَيْعِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: صِحَّةُ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ، وَالثَّانِي: صِحَّةُ الْبَيْعِ وَفَسَادُ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ وَأَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ. وَهَلْ يَعُمُّ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمَبِيعَاتِ أَوْ يَخُصُّ بَعْضَهَا؟ فَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَبِيعَاتِ عَرْضًا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ حَيَوَانًا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمَبِيعَاتِ. وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَعْيِينِهِ فَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّإِ عَنْهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْحَيَوَانِ نَاطِقًا كَانَ أَوْ بَهِيمًا. وَاَلَّذِي فِي التَّهْذِيبِ اخْتِصَاصُهُ بِنَاطِقِ الْحَيَوَانِ. قَالُوا: وَعَلَى [هَذَا] الْمَذْهَبِ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، فَبَيْعُ السُّلْطَانِ وَبَيْعُ الْمِيرَاثِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ جَارٍ مَجْرَى بَيْعِ الْبَرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَالَ: أَبِيعُكَ بَيْعَ الْمِيرَاثِ لَا قِيَامَ بِعَيْبٍ صَحَّ ذَلِكَ وَيَكُونُ بَيْعَ بَرَاءَةٍ؛ وَفِي الْمِيرَاثِ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ. قَالُوا: وَإِذَا قُلْنَا إنَّ الْبَرَاءَةَ تَنْفَعُ فَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهَا [فِي] امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِعَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ؛ وَأَمَّا مَا عَلِمَ بِهِ الْبَائِعُ فَإِنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْمُشْتَرِي بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ فَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي عِلْمَ الْبَائِعِ فَأَقَرَّ أَوْ نَكَلَ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ تَوَجَّهَ الرَّدُّ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَلَوْ مَلَكَ شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ وَيَسْتَبْرِئَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ فِي: التُّجَّارُ يَقْدَمُونَ بِالرَّقِيقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 فَيَبِيعُونَهُ بِالْبَرَاءَةِ وَلَمْ تَطُلْ إقَامَةُ الرَّقِيقِ عِنْدَهُمْ: هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ بَاطِلًا، لَا تَنْفَعُهُمْ الْبَرَاءَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُ: لَا يُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا طُولُ مُقَامِهِ عِنْدَهُ، بَلْ تَنْفَعُهُ الْبَرَاءَةُ كَمَا تَنْفَعُهُ مَعَ الطُّولِ وَالِاسْتِعْمَالِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ يَعْلَمُهُ الْبَائِعُ بِعَيْنِهِ فَأَدْخَلَهُ فِي جُمْلَةِ عُيُوبٍ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً، وَتَبَرَّأَ مِنْهَا كُلِّهَا، لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ حَتَّى يُفْرِدَهُ بِالْبَرَاءَةِ وَيُعَيِّنَ مَوْضِعَهُ وَجِنْسَهُ وَمِقْدَارَهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمُبْتَاعِ فِيهِ قَوْلٌ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاهُ الْعَيْبَ وَشَاهَدَهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِحَاطَةَ بِبَاطِنِهِ وَبَاطِنُهُ فِيهِ فَسَادٌ آخَرُ كَمَا إذَا أَرَاهُ دَبَرَةَ الْبَعِيرِ وَشَاهَدَهَا وَهِيَ مُنْغِلَةٌ مُفْسِدَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ نَغَلٍ وَغَيْرِهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ بِهِ إبَاقًا أَوْ سَرِقَةً وَهُوَ إبَاقٌ بِعَبْدٍ أَوْ سَرِقَةٌ عَظِيمَةٌ وَالْمُشْتَرِي يَظُنُّهُ يَسِيرًا لَمْ يَبْرَأْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ بَيْعُ بَرَاءَةٍ عَلَى الْمُفْلِسِ أَوْ لِقَضَاءِ دُيُونٍ مِنْ تَرِكَةِ مَيِّتٍ بَيْعُ بَرَاءَةٍ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ بِالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الْبَرَاءَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ السُّلْطَانُ بِأَحَدِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ لَمْ تُرَدَّ قَضِيَّتُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: السُّلْطَانُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْبَيْعِ إلَى خِلَافٍ وَلَا وِفَاقٍ، وَلَا قَصَدَ إلَى حُكْمٍ بِهِ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الشُّيُوخِ الْخِلَافَ فِي بَيْعِ الْبَرَاءَةِ وَلَوْ تَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ، قَالَ: وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَحْنُونًا قَالَ: وَكَانَ قَوْلُ مَالِكٍ الْقَدِيمُ أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ وَبَيْعَ الْوَارِثِ لَا قِيَامَ فِيهِ بِعَيْبٍ وَلَا بِعُهْدَةٍ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ خِلَافَ هَذَا، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: إذَا بِيعَ عَبْدٌ عَلَى مُفْلِسٍ فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، قَالَ: فَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ وَبَيْعَ الْوَرَثَةِ كَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الْوَرَثَةِ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ، قَالَ: وَأَمَّا مَا بَاعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِلِانْفِصَالِ مِنْ شَرِكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَمُلْتَحَقٌ بِبَيْعِ الرَّجُلِ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ فِي وَلَايَتِهِ. قُلْت: وَقَوْلُ الْمَازِرِيِّ: " إنَّ بَيْعَ السُّلْطَانِ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِحُكْمٍ " مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عَقَدَ بِنَفْسِهِ عَقْدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِهِ بِهِ [فَيَسُوغُ تَنْفِيذُهُ، وَلَا يَسُوغُ رَدُّهُ أَوْ لَا يَكُونُ حُكْمًا مِنْهُ بِهِ] فَيَسُوغُ لِحَاكِمٍ آخَرَ خِلَافُهُ؟ وَفِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ، وَلَا يُمَكِّنُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الرَّدِّ بَعْدَ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، حَيَوَانًا كَانَ الْمَبِيعُ أَوْ غَيْرَهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وَتَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَشَارَ إلَيْهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ بَاعَتْ عَبْدًا زِنْجِيًّا عَلَى ذَكَرِهِ عَيْبٌ أَفَتَضَعُ أُصْبُعَهَا عَلَى ذَكَرِهِ؟ فَسَكَتَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِذَلِكَ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إلَّا مِنْ عَيْبٍ عَيَّنَهُ وَعَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ حَتَّى يَعْلَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ أَبْطَلْنَا الشَّرْطَ فَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَوْ يَصِحُّ، وَيَثْبُتُ الرَّدُّ فِيهِ؟ وَجْهَانِ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا الرَّدَّ وَأَبْطَلْنَا الشَّرْطَ فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِالتَّفَاوُتِ الَّذِي نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَسْلَمْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَاعَهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا لَمْ يَبِعْهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالتَّفَاوُتِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ عِنْدَ فَوَاتِ غَرَضِهِ مِنْ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ فَهَكَذَا الْبَائِعُ يَرْجِعُ بِالتَّفَاوُتِ عِنْدَ فَوَاتِ غَرَضِهِ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي أَبْطَلْنَاهُ عَلَيْهِ. [بَحْثٌ فِي النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ] وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ بَاعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَبْدًا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَصَابَ بِهِ زَيْدٌ عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَتَرَافَعَا إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ أَنَّك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ، فَقَالَ: لَا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَبَاعَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ، وَاتِّفَاقٌ مِنْ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَنْفَعْهُ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَتَى نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، لَكِنَّ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا بِمَعْرِفَةِ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِصُورَةِ الْحَالِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْعِلْمِ بِالْحَالِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عِلْمُهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَضِيَّةُ ابْنِ عُمَرَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَنَّهُ هَلْ كَانَ يَعْلَمُ الْعَيْبَ أَوْ لَا يَعْلَمُهُ، بِخِلَافِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ ابْنِ عُمَرَ بِذَلِكَ، وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ، فَلَا يُشْرَعُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: إذَا ادَّعَى عَلَى وَارِثِ مَيِّتٍ أَنَّهُ أَقْرَضَ مُورِثَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً وَلَمْ يُقْبِضْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 ثَمَنَهَا أَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً وَالْوَارِثُ غَائِبٌ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَسَأَلَ إحْلَافَهُ، فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَرُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُقْضَ لَهُ. وَمِثَالُ الثَّالِثِ: إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَهُ أَوْ أَجَرَهُ فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، حَلَفَ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ وَلَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ نُكُولِ خَصْمِهِ مُصَحِّحًا لِدَعْوَاهُ. فَهَذَا التَّحْقِيقُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الصَّحَابَةِ وَيَزُولُ عَنْهَا الِاخْتِلَافُ، وَيَكُونُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ وَهَذَا فِي مَوْضِعِهِ. وَعَرَفَ حُذَيْفَةُ جَمَلًا لَهُ فَادَّعَاهُ، فَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى حُذَيْفَةَ، فَقَالَ: أَتُرَانِي أَتْرُكُ جَمَلِي؟ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ مَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ. [مَتَى يَكُونُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي؟] فَقَدْ ثَبَتَ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، وَالشَّاهِدُ أَقْوَى مِنْ النُّكُولِ، فَتَحْلِيفُهُ مَعَ النُّكُولِ أَوْلَى، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ؛ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِاللَّوْثِ، فَتَحْلِيفُهُ مَعَ النُّكُولِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ شَرَعَ تَحْلِيفَ الزَّوْجِ فِي اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ شَاهِدُ الْحَالِ يُصَدِّقُهُ كَمَا إذَا تَدَاعَيَا مَتَاعَ الْبَيْتِ أَوْ تَدَاعَى النَّجَّارُ وَالْخَيَّاطُ آلَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يُقْضَى لِمَنْ تَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ» ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَالْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ إذَا نَكَلَ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَظُنَّ صِدْقُهُ، فَشُرِعَ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالْأَصْلِ. فَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ ضَعُفَ هَذَا الْأَصْلُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ قُوَّتُهُ مِنْ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي بِالْيَمِينِ، وَهَكَذَا إذَا نَكَلَ ضَعُفَ أَصْلُ الْبَرَاءَةِ، وَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ مُسْتَقِلًّا بِإِثْبَاتِ الدَّعْوَى؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِجَهْلِهِ بِالْحَالِ، أَوْ لِتَوَرُّعِهِ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْيَمِينِ، أَوْ لِمُوَافَقَةِ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ؛ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ، أَوْ لِتَرَفُّعِهِ عَنْ ابْتِذَالِهِ بِاسْتِحْلَافِ خَصْمِهِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ كَانَ صَادِقًا، وَإِذَا احْتَمَلَ نُكُولُهُ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُقَوِّيًا لِجَنَبَةِ الْمُدَّعِي فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا جَرَّ إلَيْهَا الْكَلَامُ فِي أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْبَرَاءَةِ. وَقَدْ عُلِمَ حُكْمُ هَذَا الشَّرْطِ، وَأَيْنَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَارُّ، وَأَيْنَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 وَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَنْفَعُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَتَى رَدَّهُ فَهُوَ حُرٌّ أَمْ لَا يَنْفَعُهُ وَإِذَا خَافَ تَوْكِيلَهُ فِي الرَّدِّ اسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: " مَتَى رَدَدْته أَوْ وَكَّلْت فِي رَدِّهِ " فَإِنْ خَافَ مِنْ رَدِّ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ حَيْثُ يَرُدُّهُ بِالشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي هُوَ الرَّادُّ وَلَا وَكِيلُهُ بَلْ الْحَاكِمُ الْمُنَفِّذُ لِلشَّرْعِ فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: " إذَا ادَّعَيْت رَدَّهُ فَهُوَ حُرٌّ " فَهُنَا تَصْعُبُ الْحِيلَةُ عَلَى الرَّدِّ، إلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ وَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ مَتَى قُصِدَ بِهِ الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ فَهُوَ يَمِينٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ، وَحُكْمُ مَا لَوْ قَالَ: " إنْ رَدَدْته فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُ " بَلْ أَوْلَى بِعَدَمِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ هَذَا نَذْرُ قُرْبَةٍ، وَلَكِنَّ إخْرَاجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ مَنَعَ لُزُومَ الْوَفَاءِ بِهِ، مَعَ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِقَوْلِهِ: " فَهُوَ حُرٌّ " فَكُلُّ مَا فِي الْتِزَامِ قَوْلِهِ: " فَهُوَ حُرٌّ " فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْتِزَامِ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُ " وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُ " يَتَضَمَّنُ وُجُوبَ الْإِعْتَاقِ وَفِعْلَ الْعِتْقِ وَوُقُوعَ الْحُرِّيَّةِ. فَإِذَا مَنَعَ قَصْدُ الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعِ وُقُوعَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَلَأَنْ يَمْنَعَ وُقُوعَ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا لَا جَوَابَ عَنْهُ، وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ فِقْهِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ بَيْنَ فِقْهِهِمْ وَفِقْهِ مَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَكَانَ هَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأُصُولِهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا لَا تَخْفَى عَلَى مُتَبَحِّرٍ تَتَبُّعُهَا، وَيَكْفِي قَوْلُ فَقِيهِ الْأُمَّةِ وَحَبْرِهَا وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَالطَّلَاقُ مَا كَانَ عَنْ وَطَرٍ " فَتَأَمَّلْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ الصَّادِرَتَيْنِ عَنْ عِلْمٍ قَدْ رَسَخَ أَسْفَلُهُ وَبَسَقَ أَعْلَاهُ وَأَيْنَعَتْ ثَمَرَتُهُ وَذُلِّلَتْ لِلطَّالِبِ قُطُوفُهُ ثُمَّ اُحْكُمْ بِالْكَلِمَتَيْنِ عَلَى أَيْمَانِ الْحَالِفِينَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، هَلْ تَجِدُ الْحَالِفَ بِهَذَا مِمَّنْ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ بِإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ؟ وَهَلْ تَجِدُ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ مِمَّنْ لَهُ وَطَرٌ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ؟ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ حَبْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَقَدْ شَفَتْ كَلِمَتَاهُ هَاتَانِ الصُّدُورَ، وَطَبَّقَتَا الْمُفَصَّلَ، وَأَصَابَتَا الْمَحَزَّ، وَكَانَتْ بُرْهَانًا عَلَى اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ وَيُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ. وَلَا يُوحِشَنَّكَ مَنْ قَدْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، فَإِذَا ظَفِرْت بِرَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ طَالِبٍ لِلدَّلِيلِ مُحَكِّمٍ لَهُ مُتَّبِعٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ وَمَعَ مَنْ كَانَ زَالَتْ الْوَحْشَةُ وَحَصَلَتْ الْأُلْفَةُ، وَلَوْ خَالَفَك فَإِنَّهُ يُخَالِفُك وَيَعْذِرُك، وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يُخَالِفُك بِلَا حُجَّةٍ وَيُكَفِّرُك أَوْ يُبَدِّعُك بِلَا حُجَّةٍ، وَذَنْبُك رَغْبَتُك عَنْ طَرِيقَتِهِ الْوَخِيمَةِ، وَسِيرَتِهِ الذَّمِيمَةِ، فَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ هَذَا الضَّرْبِ، فَإِنَّ الْآلَافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهُمْ لَا يُعْدَلُونَ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُعْدَلُ بِمِلْءِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 [مَنْ هُوَ الْعَالِمُ صَاحِبُ الْحَقِّ؟] وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَالْحُجَّةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ هُوَ الْعَالِمُ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ: صَحِبْت مُعَاذًا بِالْيَمَنِ، فَمَا فَارَقْته حَتَّى وَارَيْته فِي التُّرَابِ بِالشَّامِ، ثُمَّ صَحِبْت مِنْ بَعْدِهِ أَفْقَهَ النَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَسَمِعْته يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ سَمِعْته يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ وُلَاةٌ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا؛ فَهِيَ الْفَرِيضَةُ، وَصَلُّوا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ، قَالَ: قُلْت يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَا أَدْرِي مَا تُحَدِّثُونَ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْت: تَأْمُرُنِي بِالْجَمَاعَةِ وَتَحُضُّنِي عَلَيْهَا ثُمَّ تَقُولُ لِي: صَلِّ الصَّلَاةَ وَحْدَك وَهِيَ الْفَرِيضَةُ، وَصَلِّ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ نَافِلَةٌ قَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مَيْمُونٍ قَدْ كُنْت أَظُنُّك مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَتَدْرِي مَا الْجَمَاعَةُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: إنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هُمْ الَّذِينَ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت وَحْدَك، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِي وَقَالَ: وَيْحَك، إنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: إذَا فَسَدَتْ الْجَمَاعَةُ فَعَلَيْك بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَبْلَ أَنْ تَفْسُدَ، وَإِنْ كُنْت وَحْدَك، فَإِنَّك أَنْتَ الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ وَأَصْحَابُهُ. فَمُسِخَ الْمُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ جُعِلُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَالْحُجَّةَ وَالْجَمَاعَةُ هُمْ الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهُمْ عِيَارًا عَلَى السُّنَّةِ، وَجَعَلُوا السُّنَّةَ بِدْعَةً، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا لِقِلَّةِ أَهْلِهِ وَتَفَرُّدِهِمْ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَالُوا: مَنْ شَذَّ شَذَّ اللَّهُ بِهِ فِي النَّارِ، وَمَا عَرَفَ الْمُخْتَلِفُونَ أَنَّ الشَّاذَّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَهُمْ الشَّاذُّونَ. وَقَدْ شَذَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ زَمَنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَّا نَفَرًا يَسِيرًا؛ فَكَانُوا هُمْ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَتْ الْقُضَاةُ حِينَئِذٍ وَالْمُفْتُونَ وَالْخَلِيفَةُ وَأَتْبَاعُهُ كُلُّهُمْ هُمْ الشَّاذُّونَ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَحْدَهُ هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَلَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْ هَذَا عُقُولُ النَّاسِ قَالُوا لِلْخَلِيفَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكُونُ أَنْتَ وَقُضَاتُك وَوُلَاتُك وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُفْتُونَ كُلُّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَحْمَدُ وَحْدَهُ هُوَ عَلَى الْحَقِّ؟ فَلَمْ يَتَّسِعْ عِلْمُهُ لِذَلِكَ؛ فَأَخَذَهُ بِالسِّيَاطِ وَالْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْحَبْسِ الطَّوِيلِ؛ فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، وَهِيَ السَّبِيلُ الْمَهْيَعُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ حَتَّى يَلْقَوْا رَبَّهُمْ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 مَضَى عَلَيْهَا سَلَفُهُمْ، وَيَنْتَظِرُهَا خَلَفُهُمْ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23] وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ نَفَقَةُ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا] [نَفَقَةُ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ الْبَائِنَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لَمْ تَجِبْ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَتَغَيَّبَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا رَفَعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَمَا يَقُولُ الْأَكْثَرُونَ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَكَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى إسْقَاطِ مَا أَسْقَطَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بِخِلَافِ الْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهَذِهِ لَوْنٌ وَتِلْكَ لَوْنٌ، فَإِنْ لَمْ تُمْكِنْهُ الْغَيْبَةُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِسُقُوطِ ذَلِكَ فَعَلَ. وَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ بِذَلِكَ أَنْ يُنْشِئَ الطَّلَاقَ أَوْ يُقِرَّ بِهِ بِحَضْرَتِهِ ثُمَّ يَسْأَلَهُ الْحُكْمَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ سُقُوطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى بِهَذِهِ الْفُرْقَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَرَتْهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى وُجُوبَهَا فَقَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ وُجُوهُ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ دَعْوَاهُ أَنَّهَا [كَانَتْ] بَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَأَنَّهُ نَسِيَ سَبَبَ الْبَيْنُونَةِ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ تَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّوَصُّلِ إلَى الْجَائِزِ بِالْمَحْظُورِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ الضَّمَانُ وَأَثَرُهُ] [الضَّمَانُ وَأَثَرُهُ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّمَانِ، هَلْ هُوَ تَعَدُّدٌ لِمَحَلِّ الْحَقِّ وَقِيَامٌ لِلضَّمِينِ مَقَامَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَوْ هُوَ اسْتِيثَاقٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ، يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ - وَهُمْ الْجُمْهُورُ - قَالُوا: لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ: لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِثَلَاثِ حُجَجٍ؛ إحْدَاهَا: أَنَّ الضَّامِنَ فَرْعٌ، وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ أَصْلٌ، وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْفُرُوعَ وَالْأَبْدَالَ لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأُصُولِ كَالتُّرَابِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَشَاهِدِ الْفَرْعِ مَعَ شَاهِدِ الْأَصْلِ. وَقَدْ اطَّرَدَ هَذَا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، لَا يَلِي فَرْعٌ مَعَ أَصْلِهِ وَلَا يَرِثُ مَعَهُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَوْثِقَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 وَحِفْظٌ لِلْحَقِّ، فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الرَّهْنِ، وَلَكِنَّ ذَاكَ رَهْنُ عَيْنٍ وَهِيَ رَهْنُ ذِمَّةٍ أَقَامَهَا الشَّارِعُ مَقَامَ رَهْنِ الْأَعْيَانِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا وَاسْتِدْعَاءِ الْمَصْلَحَةِ لَهَا، وَالرَّهْنُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إلَّا مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّاهِنِ، فَكَذَا الضَّمِينُ. وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ الرَّهْنُ وَالضَّمِينُ لِتُوَاخِيهِمَا وَتَشَابُهِهِمَا وَحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الضَّامِنَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُوضَعْ لِتَعَدُّدِ مَحَلِّ الْحَقِّ كَمَا لَمْ يُوضَعْ لِنَقْلِهِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِيَحْفَظَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ مِنْ التَّوَى وَالْهَلَاكِ، وَيَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ يَرْجِعُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ، وَلَمْ يُنَصِّبْ الضَّامِنُ نَفْسَهُ لَأَنْ يُطَالِبَهُ الْمَضْمُونُ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْأَصِيلِ وَيَسْرَتِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ مُطَالَبَتِهِ. وَالنَّاسُ يَسْتَقْبِحُونَ هَذَا، وَيُعِدُّونَ فَاعِلَهُ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَعْذُرُونَهُ بِالْمُطَالَبَةِ، حَتَّى إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ عَذَرُوهُ بِمُطَالَبَةِ الضَّامِنِ وَكَانُوا عَوْنًا لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَمُعَامَلَاتِهِمْ بِحَيْثُ لَوْ طَالَبَ الضَّامِنَ وَالْمَضْمُونُ عَنْهُ إلَى جَانِبِهِ وَالدَّرَاهِمُ فِي كُمِّهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مُطَالَبَتِهِ لَاسْتَقْبَحُوا ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِقْبَاحِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُوَّةِ كَمَا تَرَى، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ عَنْ مَالِكٍ. وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فَإِنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَارِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى الْأَصِيلُ لَمْ يَكُنْ غَارِمًا، وَلِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ لِتَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ الضَّمَانَ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّمِّ فَاقْتَضَى لَفْظُهُ ضَمَّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَّ مِنْ الْمُضَاعَفِ، وَالضَّمَانَ مِنْ الضَّمِينِ، فَمَادَّتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ وَإِنْ تَشَابَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ الضَّمِّ فَالضَّمُّ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ضَمٍّ يُطَالِبُ مَعَهُ اسْتِقْلَالًا وَبَدَلًا، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ. [تَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِالشَّرْطِ] وَإِذَا عُرِفَ هَذَا وَأَرَادَ الضَّامِنُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُعَلِّقَ الضَّمَانَ بِالشَّرْطِ فَيَقُولَ: إنْ تُوِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ فَأَنَا ضَامِن لَهُ، وَلَا يَمْنَعُ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِالشَّرْطِ وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ، فَجَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ كَالنُّذُورِ، وَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَهَذَا لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَمَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، فَإِنْ خَافَ مِنْ قَاصِرٍ فِي الْفِقْهِ غَيْرِ رَاسِخٍ فِي حَقَائِقِهِ فَلْيَقُلْ: " ضَمِنْت لَك هَذَا الدَّيْنَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ " فَهَذَا ضَمَانٌ مَخْصُوصٌ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِهِ فِي غَيْرِهَا، كَمَا لَوْ ضَمِنَ الْحَالَّ مُؤَجَّلًا أَوْ ضَمِنَهُ فِي مَكَان دُونَ مَكَان، فَإِنْ خَافَ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 إفْسَادِ هَذَا أَيْضًا فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ لَهُ بِهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ، وَأَنَّهُ مَتَى طَالَبَهُ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ هَلْ يَجُوزُ إبْهَامُ الْإِجَارَةِ] [هَلْ يَجُوزُ إبْهَامُ الْإِجَارَةِ؟] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إنْ رَكِبْت هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى أَرْضِ كَذَا فَلَكَ عَشَرَةٌ وَإِنْ رَكِبْتهَا إلَى أَرْضِ كَذَا فَلَكَ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ يَقُولَ: إنْ خِطْت هَذَا الْقَمِيصَ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَنِصْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ زَرَعْت هَذِهِ الْأَرْضَ حِنْطَةً فَأُجْرَتُهَا مِائَةٌ، أَوْ شَعِيرًا فَأُجْرَتُهَا خَمْسُونَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ، لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ، بَلْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي صِحَّتَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ مُتَأَخِّرٌ، فَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ عَنْهُمْ فِيهِ نِزَاعٌ جَوَازُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا وَقَالَ: إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَحَابِيٌّ وَاحِدٌ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَا خَطَرَ، وَلَا غَرَرَ، وَلَا أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَلَا جَهَالَةَ تَعُودُ إلَى الْعَمَلِ وَلَا إلَى الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا مُعَيَّنًا، وَالْخِيَرَةُ إلَى الْأَجِيرِ؛ أَيَّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَعَلَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ [لَهُ] أَيُّ ثَوْبٍ أَخَذْته مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ فَقِيمَتُهُ كَذَا، أَوْ أَيُّ دَابَّةٍ رَكِبْتهَا فَأُجْرَتُهَا كَذَا، أَوْ أُجْرَةُ هَذِهِ الْفَرَسِ كَذَا [وَأُجْرَةُ هَذَا الْحِمَارِ كَذَا] ، فَأَيُّهَا شِئْت فَخُذْهُ، أَوْ ثَمَنُ هَذَا الثَّوْبِ مِائَةٌ وَثَمَنُ هَذَا مِائَتَانِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ وَلَا جَهَالَةٌ وَلَا رِبًا وَلَا ظُلْمٌ، فَكَيْفَ تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِهِ؟ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حِيلَةٍ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ يُبْطِلُ هَذَا الْعَقْدَ، فَالْحِيلَةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يَقُولَ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ، فَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَكَذَا يَقُولُ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى أَرْضِ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَإِنْ رَكِبْتهَا إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيْك أُجْرَةُ مِثْلِهَا كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ يَدُهُ يَدَ عُدْوَانٍ ضَمَّنَهُ فَلْيَقُلْ: فَإِذَا انْقَضَتْ الْمَسَافَةُ الْأُولَى فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَك، هَذَا عِنْدَ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْإِجَارَةَ الْمُضَافَةَ، وَمَنْ صَحَّحَهَا فَالْحِيلَةُ عِنْدَهُ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا قَطَعْت هَذِهِ الْمَسَافَةَ فَقَدْ آجَرْتُكَهَا إلَى مَسَافَةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا انْتَهَتْ آجَرْتُكَهَا إلَى مَسَافَةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ خَشِيَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَنْقَضِيَ شُغْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمًا لَهُ وَقَدْ فَرَغَ شُغْلُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: إذَا انْقَضَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ الْمُدَّةُ فَقَدْ وَكَّلْتُك فِي إجَارَتِهَا لِمَنْ شِئْت، فَلْيُؤْجِرْهَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَسْتَأْجِرْهَا مِنْهُ، فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا تَتِمَّ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ فَلْيُوَكِّلْهُ فِي الْحَالِ وَكَالَةً غَيْرَ مُعَلَّقَةٍ، ثُمَّ يُعَلِّقْ تَصَرُّفَهُ بِالشَّرْطِ، فَيَقُولُ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي إجَارَتِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي إجَارَتِهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ: إنْ احْتَالَ فِي إجَازَةِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالَ: اسْتَأْجِرْهَا إلَى دِمَشْقَ بِكَذَا، وَمِنْ دِمَشْقَ إلَى الرَّمْلَةِ بِكَذَا، وَمِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِكَذَا، جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى لِكُلٍّ مِنْ الْمَسَافَتَيْنِ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ. قُلْت: وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ إذَا انْقَضَى غَرَضُهُ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْأُولَى، وَيَبْقَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمًا لَهُ فِيمَا وَرَاءَهَا، فَتَصِيرُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى مِصْرَ فَانْقَضَى غَرَضُهُ فِي الرَّمْلَةِ، فَمَا الَّذِي أَفَادَهُ تَعَدُّدُ الْعُقُودِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَيْعُ الْمَقَاثِي وَمَا يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا] : الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا كَمَا تُبَاعُ الثِّمَارُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ تَلَاحُقُ الْمَبِيعِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ بَيْعِ التُّوتِ وَالتِّينِ وَسَائِرِ مَا يَخْرُجُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، هَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَعَلَيْهِ تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَنْ مَنَعَ بَيْعَ ذَلِكَ إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً فَمَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ هُوَ فِي غَايَةِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَنْضَبِطُ وَلَا مَا هِيَ اللُّقَطَةُ الْمَبِيعَةُ أَهِيَ الْكِبَارُ أَوْ الصِّغَارُ أَوْ الْمُتَوَسِّطُ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ؟ وَتَكُونُ الْمَقْثَأَةُ كَبِيرَةً جِدًّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ اللُّقْطَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَحْدُثُ كُلَّ يَوْمٍ لُقَطَةٌ أُخْرَى تَخْتَلِطُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهَا مِنْهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ دَوَابَّ الْمِصْرِ كُلَّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ مِنْ الْقَطَّافِينَ ثُمَّ يَقْطَعَ الْجَمِيعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَيُعَرِّضَهُ لِلتَّلَفِ وَالضَّيَاعِ، وَحَاشَا كُلَّ الشَّرَائِعِ - بَلْ غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ - أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ الْأَغْلَاطِ الْوَاقِعَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ نَظِيرَهُ؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا غَرَرًا فَبَيْعُ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الْأَجْزَاءِ غَرَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَرَرًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَيْسَ غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا؛ وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ، فَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى اللُّغَةِ طُولِبَ بِالنَّقْلِ، وَلَنْ يَجِدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ شَاهِدٌ بِخِلَافِهِ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ غَرَرًا، وَإِنْ ادَّعَاهُ عَلَى الشَّرْعِ طُولِبَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ هَكَذَا فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 الْكِتَابِ وَهَكَذَا قَالُوا: فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ بِعُرُوقِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى ثَمَرَتَهُ تَصَرَّفَ فِي الْعُرُوقِ بِمَا يُرِيدُ. وَالْمَانِعُونَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْحِيلَةَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُرُوقَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الثَّمَرَةُ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْبَيْعُ لِأَجْلِ الْغَرَرِ فَالْغَرَرُ لَمْ يَزُلْ بِمِلْكِ الْعُرُوقِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ كَبَيْعِ الثِّمَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 [الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ] قِسْمَةُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: تَجُوزُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بِمِيرَاثٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ إتْلَافٍ فَيَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِحِصَّتِهِ، وَيَخْتَصُّ بِمَا قَبَضَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي ذِمَمٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قِسْمَتِهِ أَوْ عَلَى بَقَائِهِ مُشْتَرَكًا، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، بَلْ هَذِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ بِالْمُهَايَأَةِ بِالزَّمَانِ أَوْ بِالْمَكَانِ، وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالزَّمَانِ تُقَدِّمُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ تُسَلِّمُ الْمَنْفَعَةَ إلَى نَوْبَةِ الشَّرِيكِ، وَقَدْ تَتْوَى. وَالدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَرِيمِ وَغَيْرِهِ، وَتَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ زَكَاتُهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَرَقِيقِهِ مِنْهُ، وَلَا يُعَدُّ فَقِيرًا مُعْدَمًا، فَاقْتِسَامُهُ يَجْرِي مَجْرَى اقْتِسَامِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ؛ فَإِذَا رَضِيَ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الدَّيْنِ فَيَنْفَرِدَ هَذَا بِرَجُلٍ يُطَالِبُهُ، وَهَذَا بِرَجُلٍ يُطَالِبُهُ، أَوْ يَنْفَرِدَ هَذَا بِالْمُطَالَبَةِ بِحِصَّتِهِ، وَهَذَا بِالْمُطَالَبَةِ بِحِصَّتِهِ، لَمْ يَهْدِمَا بِذَلِكَ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا اسْتَحَلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَا خَالَفَا نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةَ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلَا قِيَاسًا شَهِدَ لَهُ الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ عَدَمُ تَكَافُؤِ الذِّمَمِ، وَوُقُوعِ التَّفَاوُتِ فِيهَا، وَأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ،، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَرَاضِيهِمَا بِالْقِسْمَةِ مَعَ التَّفَاوُتِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا. وَعَدَمُ تَعَيُّنِ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَمْنَعُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرًا، وَيَكْفِي فِي إمْكَانِ الْقِسْمَةِ التَّعَيُّنُ بِوَجْهٍ؛ فَهُوَ مُعَيَّنٌ تَقْدِيرًا، وَيَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ تَحْقِيقًا، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ: " لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي عَدَمِ جَوَازِ قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي جَوَازِ قِسْمَتِهِ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّتَيْنِ، فَعَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ عَنْهُ فِي كُلٍّ مِنْ الصُّورَتَيْنِ رِوَايَتَانِ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِهِ مَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ، كَمَا لَيْسَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مَا يَمْنَعُهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى حِيلَةٍ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَيُّلِ عَلَيْهَا، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْذَنَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْغَرِيمِ مَا يَخُصُّهُ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ، عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ حِصَّتَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ الْمُحَاصَّةِ لَمْ يَضَعْنَ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ ضَمَانِهِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِشَرِيكِهِ فِي قَبْضِ مَا يَخُصُّهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْمُحَاصَّةِ، فَيَخْتَصُّ الشَّرِيكُ بِالْمَقْبُوضِ، وَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَ الشَّرِيكُ مَا قَبَضَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ قِبَلِ الْمُحَاصَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ بِمُجَرَّدِ قَبْضِ الشَّرِيكِ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَفَّى شَرِيكَهُ نَظِيرَهُ لَمْ يَقُلْ انْتَقَلَ إلَى الْقَابِضِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِلْكًا لَلشَّرِيك، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالْمُحَاصَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ قَبْضِ الشَّرِيكِ. وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ بِعَقْدٍ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ إتْلَافًا أَوْ إرْثًا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِعَقْدٍ فَكَأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ الشَّرِيكَيْنِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ بِمَا يَخُصُّهُ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْإِرْثِ وَالْإِتْلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْعُ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ] [بَيْعُ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْجَزَرِ وَاللُّفْتِ وَالْفُجْلِ وَالْقُلْقَاسِ، وَنَحْوِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ، وَالْوَرَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى بَاطِنِهِ، بِخِلَافِ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ. وَعِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يُبَاعُ حَتَّى يُقْلَعَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَصْحَابِ الْحُقُولِ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فَإِنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ ذَلِكَ حَتَّى يُقْلَعَ أَعْظَمَ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ قَلَعَهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ وَالْفَسَادِ. وَإِنْ قِيلَ: " كُلَّمَا أَرَدْت بَيْعَ شَيْءٍ مِنْهُ فَاقْلَعْهُ " كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ قِيلَ: " اُتْرُكْهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَفْسُدَ، وَلَا تَبِعْهُ فِيهَا " فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُفْتُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَوْ بُلُوا بِذَلِكَ فِي حُقُولِهِمْ أَوْ مَا هُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إلَّا بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا بُدَّ، أَوْ إتْلَافُهُ وَعَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّ هَذَا غَرَرٌ وَمَجْهُولٌ " فَهَذَا لَيْسَ حَظُّ الْفَقِيهِ، وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. فَإِنْ عَدُّوهُ قِمَارًا أَوْ غَرَرًا فَهُمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَظُّ الْفَقِيهِ يُحِلُّ كَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَهُ وَيُحَرِّمُ كَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ، وَقَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُهُ، وَقَالَ الصَّحَابَةُ. وَأَمَّا أَنْ يَرَى هَذَا خَطَرًا وَقِمَارًا أَوْ غَرَرًا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ بَلْ أَرْبَابُهُ أَخْبَرُ بِهَذَا مِنْهُ، وَالْمَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِيهِ، كَمَا يَرْجِعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 إلَيْهِمْ فِي كَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ عَيْبًا أَمْ لَا، وَكَوْنِ هَذَا الْبَيْعِ مُرْبِحًا أَمْ لَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السِّلْعَةِ نَافِقَةً فِي وَقْتِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ، فَالْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ فِيهَا مِثْلُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنْ بُلِيتَ بِمَنْ يَقُولُ: هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا قَالُوا فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ تَسْتَأْجِرَ مِنْهُ الْأَرْضَ الْمَشْغُولَةَ بِذَلِكَ مُدَّةً يُعْلَمُ فَرَاغُهُ مِنْهَا، وَيُقِرُّ لَهُ إقْرَارًا مَشْهُودًا لَهُ بِهِ أَنَّ مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ لَهُ لَا حَقَّ لِلْمُؤَجِّرِ فِيهِ، وَلَكِنَّ عَكْسَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ وَضْعِ الْجَائِحَةِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ كَالثَّمَرَةِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ إنْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، وُضِعَتْ عَنْهُ الْجَائِحَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: جَوَازُ بَيْعِهِ، وَوَضْعُ الْجَوَائِحِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ الْمُبَايَعَةُ يَوْمِيًّا وَالْقَبْضُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ] [الْمُبَايَعَةُ يَوْمِيًّا وَالْقَبْضُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: اخْتَلَفَتْ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ، يَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعْطِيهِ ثَمَنَهُ؛ فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوا الْقَبْضَ بِهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. هَذَا وَكُلُّهُمْ إلَّا مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا، وَهُوَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمُسَاوَمَتِهِ لَهُ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ يَأْخُذُهَا قَلَّ ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَرَطَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَفْظًا؛ فَلَا بُدَّ مَعَ الْمُسَاوَمَةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَفْظًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي -: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ - جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُولُ: لِي أُسْوَةٌ بِالنَّاسِ آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي، قَالَ: وَاَلَّذِينَ يَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهُ، بَلْ هُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا إجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ مَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ وَالْغَسَّالِ، وَالْخَبَّازِ وَالْمَلَّاحِ، وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، وَالْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ كَبَيْعِ مَاءِ الْحَمَّامِ؛ فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ فَيَجُوزُ، كَمَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ النَّاسِ إلَّا بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 فَإِنْ بُلِيتَ بِالْقَائِلِ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا قَالُوا؛ فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ قَرْضًا فِي ذِمَّتِهِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ لِلدَّافِعِ مِثْلُهُ، ثُمَّ يُعَاوِضُهُ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ؛ فَإِنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ الْغَرِيمِ وَهُوَ جَائِزٌ. وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ آفَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَرْتَفِعُ السِّعْرُ فَيُطَالِبُهُ بِالْمِثْلِ فَيَتَضَرَّرُ الْآخِذُ، وَقَدْ يَنْخَفِضُ فَيُعْطِيهِ الْمِثْلَ فَيَتَضَرَّرُ الْأَوَّلُ؛ فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْلَى بِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ تَوْكِيلُ الدَّائِنِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ] [تَوْكِيلُ الدَّائِنِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَهُ وَقْفٌ مِنْ غَلَّةِ دَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ، فَوَكَّلَ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِهِ جَازَ؛ فَإِنْ خَافَ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ وَيَعْزِلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ؛ فَلْيَجْعَلْهَا حَوَالَةً عَلَى مَنْ فِي ذِمَّتِهِ عِوَضَ ذَلِكَ الْمُغَلِّ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آجَرَ الدَّارَ أَوْ الْأَرْضَ لِأَحَدٍ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا مِنْهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِعِوَضٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يُعَاوِضَهُ بِدَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِوَضِ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَكِيلَهُ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ، وَلَا بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فِي قَبْضِ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ غَلَّةِ ذَلِكَ الْوَقْفِ، وَخَافَ عَزْلَهُ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَهُ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَصْرِفَ إلَيْهِ بَعْدَ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّهُ وَجَبَ لِفُلَانٍ - وَهُوَ الْغَرِيمُ - عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ مُغِلِّ هَذَا الْوَقْفِ مُقَدَّمًا بِهِ عَلَى سَائِرِ مَصَارِفِ الْوَقْفِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْقُوفِ شَيْءٌ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَأَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ هَذَا الْوَقْفِ إلَى فُلَانٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ؛ فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِذَلِكَ كَانَ أَوْفَقَ. [الْمِثَالُ السَّبْعُونَ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ] [تَعْلِيقُ الْإِبْرَاء بِالشَّرْطِ] الْمِثَالُ السَّبْعُونَ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ: " إنْ مِتَّ قَبْلِي فَأَنْت فِي حِلٍّ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَأَنْت فِي حِلٍّ " صَحَّ وَبَرِئَ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ فَإِنَّ إحْدَاهُمَا وَصِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، كَمَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْإِحْلَالِ مِنْ الْعَرْضِ، وَالْمَالُ مِثْلُهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَالَ: " إنْ مِتَّ قَبْلَك فَأَنْتَ فِي حِلٍّ " هُوَ إبْرَاءٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ: " إنْ مِتَّ قَبْلِي فَأَنْتَ فِي حِلٍّ " لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُقِيمُوا شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ عَلَى امْتِنَاعِ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَدْفَعُهُ نَصٌّ، وَلَا قِيَاسٌ، وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ؛ فَالصَّوَابُ صِحَّةُ الْإِبْرَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى حِيلَةٍ؛ فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ وَهَكَذَا قَالُوا؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُشْهِدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، وَلَا فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ الْفَصْلَيْنِ فِي سِجِلٍّ وَاحِدٍ، وَضَمَّنَهُ الْوَصِيَّةَ لَهُ بِهِ إنْ مَاتَ رَبُّ الدَّيْنِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَدِينُ فَلَا حَقَّ لَهُ بِهِ قِبَلَهُ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ مُسْتَنِدًا إلَى ظَاهِرِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ إبْرَاءٌ فِي الْمَعْنَى. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ اسْتِدْرَاكُ الْأَمِينِ لِمَا غَلِطَ فِيهِ] [اسْتِدْرَاكُ الْأَمِينِ لِمَا غَلِطَ فِيهِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: لَوْ غَلِطَ الْمُضَارِبُ أَوْ الشَّرِيكُ وَقَالَ: " رَبِحْت أَلْفًا " ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ إقْرَارٍ، وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْغَلَطِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا؛ فَالْحِيلَةُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ مَا غَلِطَ فِيهِ بِحَيْثُ تُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: خَسِرْتهَا بَعْدَ أَنْ رَبِحْتهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ، وَهَكَذَا الْحِيلَةُ فِي اسْتِدْرَاكِ كُلِّ أَمِينٍ لِظِلَامَتِهِ كَالْمُودِعِ إذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي دُفِعَتْ إلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى رَدِّهَا، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِذَا خَافَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فَالْحِيلَةُ فِي تَخَلُّصِهِ أَنْ يَدَّعِيَ تَلَفَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَإِنْ حَلَّفَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَحْلِفْ مُوَرِّيًا مُتَأَوِّلًا أَنَّ تَلَفَهَا مِنْ عِنْدِهِ خُرُوجُهَا مِنْ تَحْتِ يَدِهِ وَنَظَائِرِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ تَصَرُّفُ الْمَدِينِ الَّذِي اسْتَغْرَقَتْ] [تَصَرُّفُ الْمَدِينِ الَّذِي اسْتَغْرَقَتْ الدُّيُونُ مَالَهُ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: إنْ اسْتَغْرَقَتْ الدُّيُونُ مَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ بِمَا يَضُرُّ بِأَرْبَابِ الدُّيُونِ، سَوَاءٌ حَجَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، أَوْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا، وَعِنْدَ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَهُوَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ؛ وَلِهَذَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، لَمْ يَسَعْ الْحَاكِمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ مَنَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنَّ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ التَّبَرُّعِ بِمَالِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْوَرَثَةِ مِنْهُ. وَفِي تَمْكِينِ هَذَا الْمِدْيَانِ مِنْ التَّبَرُّعِ إبْطَالُ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ بِحِفْظِ حُقُوقِ أَرْبَابِ الْحُقُوقِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَسَدِّ الطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى إضَاعَتِهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّبَرُّعَ إتْلَافٌ لَهَا، فَكَيْفَ يَنْفُذُ تَبَرُّعُ [مَنْ] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَاعِلِهِ؟ ، وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيُضَعِّفُهُ، قَالَ: إلَى أَنْ بُلِيَ بِغَرِيمٍ تَبَرَّعَ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ وَتَرْجَمَتُهُ وَاسْتِدْلَالُهُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ: وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: أَرَادَ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - حَدِيثَ جَابِرٍ فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ نَفْسِهِ: وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، وَلَهُ عَبْدٌ لَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ هُوَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ: وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُفْلِسِ، وَلَا عِتْقُهُ، وَلَا صَدَقَتُهُ إلَّا بِإِذْنِ غُرَمَائِهِ، وَكَذَلِكَ الْمِدْيَانُ الَّذِي لَمْ يُفَلِّسْهُ غُرَمَاؤُهُ فِي عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَا يُخْتَارُ غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْحِيلَةُ لِمَنْ تَبَرَّعَ غَرِيمُهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ عِتْقٍ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ سَعَةٌ لَهُ وَلِدَائِنِهِ؛ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بُطْلَانَ هَذَا التَّبَرُّعِ، وَيَسْأَلَهُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ حَاكِمٌ يَحْكُمُ بِذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ إذَا خَافَ مِنْهُ ذَلِكَ الضَّمِينَ أَوْ الرَّهْنَ، فَإِنْ بَادَرَ الْغَرِيمُ وَتَبَرَّعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَاقَتْ الْحِيلَةُ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُ أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ أَعْيَانُ أَمْوَالِ الْغُرَمَاءِ، فَيَمْتَنِعُ التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ قَدَّمَ تَارِيخَ الْإِقْرَارِ بَطَلَ التَّبَرُّعُ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ حِيلَةٌ عَلَى إبْطَالِ حَقٍّ، وَلَا تَحْقِيقِ بَاطِلٍ، بَلْ عَلَى إبْطَالِ جَوْرٍ وَظُلْمٍ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ خَوْفُ الدَّائِنِ مِنْ جَحْدِ الْمَدِينِ] [خَوْفُ الدَّائِنِ مِنْ جَحْدِ الْمَدِينِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا كَانَ لَهُ [عَلَيْهِ] دَيْنٌ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، وَخَافَ أَنْ يَجْحَدَهُ، أَوْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِهِ، وَيَخَافُ أَنْ يَمْطُلَهُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَدِينَ مِنْهُ بِقَدْرِ دَيْنِهِ إنْ أَمْكَنَ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ بِهِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُ دَيْنِهِ قَاصَّهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عَلَى أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ، فَإِنْ حَذَّرَ غَرِيمَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلْعَةً، وَلَا يُعَيِّنَ الثَّمَنَ، وَيُخْرِجَ النَّقْدَ فَيَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا قَبَضَ السِّلْعَةَ وَطَلَبَ مِنْهُ الثَّمَنَ قَاصَّهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَطَرِيقُ الْحِيلَةِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ نَظِيرَ مَالِهِ. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ خَوْفُ زَوْجِ الْأَمَةِ مِنْ رِقِّ أَوْلَادِهِ] [خَوْفُ زَوْجِ الْأَمَةِ مِنْ رِقِّ أَوْلَادِهِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا خَافَ الْعَنَتَ، وَلَمْ يَجِدْ طَوْلَ حُرَّةٍ وَكَرِهَ رِقَّ أَوْلَادِهِ، فَالْحِيلَةُ فِي عِتْقِهِمْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى السَّيِّدِ أَنَّ مَا وَلَدَتْهُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ مِنْ الْوَلَدِ فَهُمْ أَحْرَارٌ، فَكُلُّ وَلَدٍ تَلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْوِلَادَةِ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْفَظُ فِيهِ خِلَافًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُجَوِّزُونَ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِدُونِ الشَّرْطَيْنِ إذَا أَمِنَ رِقَّ وَلَدِهِ بِهَذَا التَّعْلِيقِ؟ قِيلَ: هَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَلَا تَأْبَاهُ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْوَلَدَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ، وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ الرِّقِّ، وَمِثْلُ هَذَا هَلْ يَنْتَهِضُ سَبَبًا؛ لِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ؟ أَوْ يُقَالُ - وَهُوَ أَظْهَرُ -: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي الْغَالِبِ لَا يُحْجَبْنَ حَجْبَ الْحَرَائِرِ، وَهُنَّ فِي مِهْنَةِ سَادَاتِهِنَّ وَحَوَائِجِهِنَّ، وَهُنَّ بَرْزَاتٌ لَا مُخَدَّرَاتٌ؟ ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي إمَائِهِنَّ، وَإِلَى الْيَوْمِ، فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَاتُهُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، مَعَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ رِقِّ الْوَلَدِ، وَأَبَاحَهُ لَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَمَا أَبَاحَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَكُلُّ هَذَا مَنَعَ مِنْهُ تَعَالَى كَنِكَاحِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، وَلِهَذَا شَرَطَ تَعَالَى فِي نِكَاحِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ، وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، أَيْ: غَيْرَ زَانِيَةٍ مَعَ مَنْ كَانَ، وَلَا زَانِيَةً مَعَ خَدِينِهَا وَعَشِيقِهَا دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ نِكَاحَ الْإِمَاءِ إلَّا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: عَدَمُ الطَّوْلِ، وَخَوْفُ الْعَنَتِ، وَإِذْنُ سَيِّدِهَا، وَأَنْ تَكُونَ عَفِيفَةً غَيْرَ فَاجِرَةٍ فُجُورًا عَامًّا، وَلَا خَاصًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ أَمَتُهُ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يُعْتِقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إخْرَاجَهَا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا تَصْبِرُ نَفْسُهُ عَنْهَا؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يَهَبَهَا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ هِيَ، وَالْبَيْعُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ، ثُمَّ يُعْتِقُهَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَإِذَا فَعَلَ اسْتَرَدَّهَا مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ الْجَارِيَةُ، فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ، فَيَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. [الْحِيلَةُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ بَيْعِ جَارِيَتِهِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا أَرَادَهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ مِنْهُ فَالْحِيلَةُ فِي خَلَاصِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءٌ، وَيُشْهِدَ عَلَى عِتْقِهَا أَوْ نِكَاحِهَا، ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ الْبَيْعَ، فَيَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْبَاطِنِ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَيَجُوزُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ ذِي حَقٍّ، وَإِنْ شَاءَ احْتَالَ بِحِيلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ إقْرَارُهُ بِأَنَّهَا وَضَعَتْ مِنْهُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ فَصَارَتْ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا، فَإِنْ أَحَبَّ دَفْعَ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّحَيُّلَ فَلْيَبِعْهَا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ يُوَاطِئَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّهَا وَضَعَتْ فِي مِلْكِهِ مَا فِيهِ صُورَةُ إنْسَانٍ. وَيُقِرُّ بِذَلِكَ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَيَكْتُبُ بِذَلِكَ مَحْضَرًا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَيْعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْجَارِيَةَ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِأَنْ تَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْحِيَلِ: إحْدَاهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ، كَمَا اشْتَرَطَتْ ذَلِكَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ،، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ؛ لِعَدَمِ مَنْ يُنَفِّذُهَا لَهُ فَلْيَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنَّك إنْ بِعْتهَا لِغَيْرِي فَهِيَ حُرَّةٌ، وَيَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، وَتُعْتَقُ عَلَيْهِ إنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ، إمَّا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا بِالْقَبُولِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَقِيبَهُ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي. قَالَ فِي كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ: إذَا قَالَ: " إنْ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ "، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: " إنْ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ " فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْآخَرِ حَالَ اسْتِقْرَارٍ حَتَّى يُعْتَقَ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ التَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ثَابِتٌ لِلْبَائِعِ، فَمِلْكُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ: " وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ " تَقْرِيرٌ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ، وَيُعْتَقُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ، وَيَقُولُ إذَا اشْتَرَاهَا مَلَكَهَا، وَلَا تُعْتَقُ بِالشَّرْطِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: إذَا بِعْتهَا فَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَيَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ، فَإِذَا بَاعَهَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الْعِتْقِ قَبْلَ الْبَيْعِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ هَذَا التَّعْلِيقَ فَلَهُ حِيلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: إذَا اشْتَرَيْتهَا فَهِيَ مُدَبَّرَةٌ، فَيَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ، وَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ جَارٍ مَجْرَى الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِصِفَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَيْعُهَا عِنْدَهُ. فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ التَّدْبِيرِ بِصِفَةٍ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَائِعُ قَرَارَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ دَبَّرَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا حُرَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ - وَهُوَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ - فَالْحِيلَةُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا مِنْ سَيِّدِهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا. فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ أَنْ تَحْمِلَ وَتَضَعَ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ تَلِدَ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ - فَقَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ وُجُوهُ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَتَرَاضَى سَيِّدُ الْجَارِيَةِ وَالْمُشْتَرِي بِرَجُلٍ ثِقَةٍ عَدْلٍ بَيْنَهُمَا فَيَبِيعُهَا هَذَا الْعَدْلُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَنْ سَيِّدِهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِهَا الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ، وَيَقْبِضُ مِنْهُ الثَّمَنَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا طَالَبَهُ بِبَاقِي الثَّمَنِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَلَوْ لَمْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا ثَالِثًا بَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: " أَبِيعُكهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَآخُذُ مِنْك أَرْبَعِينَ، فَإِنْ بِعْتهَا طَالَبْتُك بِبَاقِي الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ تَبِعْهَا لَمْ أُطَالِبْك " جَازَ، لَكِنْ فِي تَوَسُّطِ الْعَدْلِ الَّذِي يَثِقُ بِهِ الْمُشْتَرِي كَأَبِيهِ وَصَاحِبِهِ تَطْيِيبٌ لِقَلْبِهِ، وَأَمَانٌ لَهُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْبَائِعِ لَهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ حِيلَةٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ] [حِيلَةٌ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا طَلَبَ مِنْهُ وَلَدُهُ أَوْ عَبْدُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ، وَخَافَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ بِالزَّوْجَةِ وَيَأْمُرَهُ بِطَلَاقِهَا فَلَا يُقْبَلُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا أُزَوِّجُك إلَّا أَنْ تَجْعَلَ أَمْرَ الزَّوْجَةِ بِيَدِي، فَإِنْ وَثِقَ مِنْهُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ قَالَ لَهُ بَعْدَ التَّزْوِيجِ: أَمْرُهَا بِيَدِك، وَإِنْ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِهِ، وَخَافَ أَنَّهُ إذَا قَبِلَ الْعَقْدَ لَا يَفِي لَهُ التَّزْوِيجُ: أَمْرُهَا بِيَدِك، وَإِنْ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِهِ، وَخَافَ أَنَّهُ إذَا قَبِلَ الْعَقْدَ لَا يَفِي لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لَهُ حَتَّى يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ: إنْ تَزَوَّجْتهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِك، وَيَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلْيَكْتُبْ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ: "، وَأَقَرَّ الزَّوْجُ الْمَذْكُورُ أَنَّ أَمْرَ الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ بِيَدِ السَّيِّدِ أَوْ الْأَبِ " فَإِذَا وَقَعَ مَا يَحْذَرُهُ مِنْهَا تَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِنْ التَّطْلِيقِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ قَدْ يُخْرِجُهُ عَنْ الْوَكَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ مُرَادُهُ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى أَخْرَجَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَهِيَ طَالِقٌ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ] [حِيلَةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ، وَيَبْطُلُ تَدْبِيرُهُ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَرْفَعَهُ الْعَبْدُ إلَى حَاكِمٍ لَا يَرَى بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتَّ، وَأَنْت فِي مِلْكِي فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ كَمَا أَرَادَ، فَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهُ مَا دَامَ حَيًّا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: " أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي " وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: " إنْ مِتَّ، وَأَنْتَ فِي مِلْكِي فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي " أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِصِفَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَيْعَ الْعَبْدِ كَمَا لَوْ قَالَ: " إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ " فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي " فَإِنَّهُ جَزَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: " إنْ مِتَّ قَبْلِي فَأَنْت فِي حِلٍّ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْك " فَهُوَ إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: " أَنْتَ فِي حِلٍّ بَعْدَ مَوْتِي " صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا لِلْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ، وَنَظِيرُهُ لَوْ قَالَ: " إنْ مِتَّ فَدَارِي وَقْفٌ " فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوَقْفِ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ: " هِيَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي " صَحَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّمَانُونَ بَرَاءَةُ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ] [بَرَاءَةُ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ] الْمِثَالُ الثَّمَانُونَ: لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ضَمِنَا رَجُلًا بِنَفْسِهِ، فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الطَّالِبِ، بَرِئَ الَّذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 لَمْ يَدْفَعْ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ ضَمِنَا لِرَجُلٍ مَالًا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُمَا يَبْرَآنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ إحْضَارُ وَاحِدٍ، فَإِذَا سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا فَقَدْ وُجِدَ الْإِحْضَارُ الْمَضْمُونُ فَبَرِئَا جَمِيعًا. قَالَ الْقَاضِي: وَرُبَّمَا أَلْزَمَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ الضَّمَانَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يُجْعَلُ دَفْعُ الْآخَرِ بَرَاءَةً لِلَّذِي لَمْ يَدْفَعْ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَضْمَنَا لِلطَّالِبِ هَذَا الرَّجُلَ بِنَفْسِهِ، عَلَى أَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا فَهُمَا جَمِيعًا بَرِيئَانِ، فَيَتَخَلَّصُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ، أَوْ يَشْهَدَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي دَفْعِ هَذَا الرَّجُلِ إلَى الطَّالِبِ وَالتَّبَرُّؤِ إلَيْهِ، فَإِذَا دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا بَرِئَا جَمِيعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ كَانَ تَسْلِيمُهُ كَتَسْلِيمِ مُوَكِّلِهِ. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ زَوَاجُ أَحَدِ دَائِنَيْ الْمَرْأَةِ إيَّاهَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ] [زَوَاجُ أَحَدِ دَائِنَيْ الْمَرْأَةِ إيَّاهَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: قَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ: إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ مَالٌ، وَهُمَا شَرِيكَانِ، فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهَا، لَمْ يَضْمَنْ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ نَصِيبَهُ فِي ضَمَانِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ، وَرُبَّمَا ضَمَّنَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ؛ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَهَبَ لَهَا نَصِيبَهُ مِمَّا عَلَيْهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ مَا وَهَبَهَا، ثُمَّ تَهَبَ الْمَرْأَةُ لِلزَّوْجِ الْمَهْرَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا وَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَضْمَنُ؛ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَهْرٍ، وَوَهَبَتْهُ لَهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ حِيلَةٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ فِي يَمِينٍ] [حِيلَةٌ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ فِي يَمِينٍ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَحَلَفَ آخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَضْمَنَ عَنِّي؛ فَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ، وَلَا يَحْنَثُ، أَنْ يُشَارِكَهُ وَيَشْتَرِيَ مَتَاعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ. قَالَ الْقَاضِي: فَإِنَّهُ يَضْمَنُ عَنْ شَرِيكِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَقْدُ الضَّمَانِ، وَمَا يَلْزَمُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَالِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ شَرِكَةٌ، لَكِنَّهُ وَكَّلَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَاشْتَرَاهَا لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ الْحِيلَةُ فِي ضَمَانِ شَرِيكَيْنِ] [حِيلَةٌ فِي ضَمَانِ شَرِيكَيْنِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ: شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ ضَمِنَا عَنْ رَجُلٍ مَالًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ رَجَعَ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ أَدَّاهُ الْآخَرُ فَشَرِيكُهُ مِنْهُ بَرِيءٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وَلِلْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ صُوَرٍ: إحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَا أَيُّنَا أَدَّاهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ، الثَّانِيَةُ: عَكْسُهُ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ إنْ أَدَّيْتُهُ أَنَا رَجَعْت بِهِ عَلَيْك، وَلَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيَّ إنْ أَدَّيْتَهُ، الرَّابِعَةُ: عَكْسُهُ، فَالصُّورَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى حِيلَةٍ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِمَا أَنْ يَضْمَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ الْمَدِينِ مَا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، ثُمَّ يَجِيءُ شَرِيكُهُ فَيَضْمَنُ مَا لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا أَدَّى هَذَا الشَّرِيكُ الْمَالَ رَجَعَ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ وَالْأَصِيلِ، وَإِذَا أَدَّاهُ شَرِيكُهُ وَالْأَصِيلُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّرِيكِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ صَارَ صَاحِبَ الْأَصْلِ هَاهُنَا، فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ هُوَ عَلَيْهِ، فَمِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ يَسْقُطُ، فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ تَحَيُّلُ الْمَظْلُومِ عَلَى مَسَبَّةِ النَّاسِ لِلظَّالِمِ] [تَحَيُّلُ الْمَظْلُومِ عَلَى مَسَبَّةِ النَّاسِ لِلظَّالِمِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: لَا بَأْسَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَحَيَّلَ عَلَى مَسَبَّةِ النَّاسِ لِظَالِمِهِ، وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالْأَخْذِ مِنْ عِرْضِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ إذْ لَعَلَّ ذَلِكَ يَرْدَعُهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَهُ فَلَبِسَ أَرَثَّ الثِّيَابِ بَعْدَ أَحْسَنِهَا، وَأَظْهَرَ الْبُكَاءَ وَالنَّحِيبَ وَالتَّأَوُّهَ، أَوْ آذَاهُ فِي جِوَارِهِ فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ، وَطَرَحَ مَتَاعَهُ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ أَخَذَ دَابَّتَهُ فَطَرَحَ حِمْلَهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَجَلَسَ يَبْكِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَدْعُو النَّاسَ إلَى لَعْنِ الظَّالِمِ لَهُ وَسَبِّهِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَظْلُومَ بِأَذَى جَارِهِ لَهُ إلَى نَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي السُّنَنِ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَارِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاصْبِرْ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَك فِي الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ مِنْ لَطَائِفِ حِيَلِ أَبِي حَنِيفَةَ] [مِنْ لَطَائِفِ حِيَلِ أَبِي حَنِيفَةَ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ: مَا ذُكِرَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: أَدْرِكْنِي قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِلَّا طَلَّقْت امْرَأَتِي، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَرَكَتْ اللَّيْلَةَ كَلَامِي، فَقُلْت لَهَا: إنْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَلَمْ تُكَلِّمِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَدْ تَوَسَّلْت إلَيْهَا بِكُلِّ أَمْرٍ أَنْ تُكَلِّمَنِي فَلَمْ تَفْعَلْ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَمُرْ مُؤَذِّنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يَنْزِلَ فَيُؤَذِّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَعَلَّهَا إذَا سَمِعَتْهُ أَنْ تُكَلِّمَك، وَاذْهَبْ إلَيْهَا وَنَاشِدْهَا أَنْ تُكَلِّمَك قَبْلَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ، وَجَلَسَ يُنَاشِدُهَا، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَالَتْ: قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَتَخَلَّصْت مِنْك، فَقَالَ: قَدْ كَلَّمْتِنِي قَبْلَ الْفَجْرِ وَتَخَلَّصْت مِنْ الْيَمِينِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْحِيَلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 حِيلَةٌ أُخْرَى لَهُ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ: قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: كَانَ فِي جِوَارِ أَبِي حَنِيفَةَ فَتًى يَغْشَى مَجْلِسَهُ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: إنِّي أُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَةٍ، وَقَدْ طَلَبُوا مِنِّي مِنْ الْمَهْرِ فَوْقَ طَاقَتِي، وَقَدْ تَعَلَّقْت بِالْمَرْأَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَعْطِهِمْ مَا طَلَبُوا مِنْك، فَفَعَلَ، فَلَمَّا عَقَدَ الْعَقْدَ جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ طَلَبُوا مِنِّي الْمَهْرَ، فَقَالَ: احْتَلْ وَاقْتَرِضْ وَأَعْطِهِمْ فَفَعَلَ، فَلَمَّا دَخَلَ بِأَهْلِهِ قَالَ: إنِّي أَخَافُ الْمُطَالَبِينَ بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُوَفِّيهِمْ، فَقَالَ: أَظْهِرْ أَنَّك تُرِيدُ سَفَرًا بَعِيدًا، وَأَنَّك تُرِيدُ الْخُرُوجَ بِأَهْلِك، فَفَعَلَ، وَاكْتَرَى جِمَالًا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَأَوْلِيَائِهَا، فَجَاءُوا إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ، فَقَالُوا: نَحْنُ نُرْضِيهِ وَنَرُدُّ إلَيْهِ مَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُ، وَلَا يُسَافِرُ، فَلَمَّا سَمِعَ الزَّوْجُ طَمِعَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ حَتَّى يَزِيدُونِي، فَقَالَ لَهُ: إنْ رَضِيت بِهَذَا، وَإِلَّا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ عَلَيْهَا دَيْنًا لِرَجُلٍ، فَلَا يُمْكِنُك أَنْ تُخْرِجَهَا حَتَّى تُوَفِّيَهُ فَقَالَ: بِاَللَّهِ لَا يَسْمَعُ أَهْلُ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ مِنْك، أَنَا أَرْضَى بِاَلَّذِي أَعْطَيْتهمْ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ وَالْبَرَاءَةِ بِالشُّرُوطِ] [تَعْلِيقُ الْفَسْخِ وَالْبَرَاءَةِ بِالشُّرُوطِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي شَهْرِ كَذَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَأَخَّرَهَا إلَى شَهْرٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ مِائَتَانِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ، قَالَ: أَمَّا جَوَازُ الصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى مِائَةٍ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ التِّسْعَمِائَةِ لَا يَسْتَفِيدُهَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَهَا بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، وَهُوَ الْعَقْدُ السَّابِقُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى طَرِيقِ الْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ، قَالَ: وَيُفَارِقُ هَذَا إذَا كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى تِسْعِمِائَةٍ حَالَّةً أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ هَذِهِ التِّسْعَمِائَةِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهَا حَالَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُهَا مُؤَجَّلَةً، فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا جَوَازُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَانِ - فَلِأَنَّ الْمُصَالِحَ إنَّمَا عَلَّقَ فَسْخَ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، وَالْفَسْخُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَبِيعُك هَذَا الثَّوْبَ بِشَرْطِ أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ الْيَوْمَ، فَإِنْ لَمْ تَنْقُدْنِي الثَّمَنَ الْيَوْمَ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا " إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فِي يَوْمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ يَقُولُ: هَذَا تَعْلِيقُ بَرَاءَةِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، قَالَ: وَالْوَجْهُ فِي جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ عَلَى مَذْهَبِ الْجَمِيعِ أَنْ يُعَجِّلَ رَبُّ الْمَالِ حَطَّ ثَمَانَمِائَةٍ يَحُطُّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ يُصَالِحَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي شَهْرِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 أَخَّرَهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدْ اسْتَوْثَقَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَالَحَهُ عَلَى مِائَتَيْنِ، وَقَدْ حَطَّ عَنْهُ الْبَاقِيَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْ الْمِائَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي شَهْرِ كَذَا فَإِنْ أَخَّرَهَا فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ فَسْخُ الْعَقْدِ مُعَلَّقًا بِتَرْكِ النَّقْدِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَيْعِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى، فَهِيَ كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ إيجَابَ الْمَالِ بِخَطَرٍ، وَتَعْلِيقُ الْمَالِ بِالْأَخْطَارِ لَا يَجُوزُ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، ثُمَّ يُصَالِحَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ تَعْلِيقًا لِلْفَسْخِ بِخَطَرٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ؛ فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَتَيْنِ فَأَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يُصَالِحَ سَيِّدَهُ عَلَى النِّصْفِ يُعَجِّلَهَا لَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيُبْطِلُهُ غَيْرُنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ صُلْحُ الشَّفِيعِ مِنْ الشُّفْعَةِ] [صُلْحُ الشَّفِيعِ مِنْ الشُّفْعَةِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ: قَالَ الْقَاضِي: إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ فَجَاءَ الشَّفِيعُ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ؛ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ صَالَحَ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَحِصَّةُ الْمَبِيعِ مِنْ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ، وَجَهَالَةُ الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ فَالْحِيلَةُ حَتَّى يُسَلِّمَ الْبَيْتَ لِلشَّفِيعِ وَالدَّارَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّفِيعُ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُسَمًّى، ثُمَّ يُسَلِّمَ الشَّفِيعَ لِلْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ، وَشِرَاءُ الشَّفِيعِ لِهَذَا الْبَيْتِ تَسْلِيمٌ لِلشُّفْعَةِ، وَمُسَاوَمَتُهُ بِالْبَيْتِ تَسْلِيمٌ لِلشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى كَانَ عِوَضُ الْبَيْتِ مَعْلُومًا، وَدُخُولُهُ فِي شِرَاءِ الْبَيْتِ تَسْلِيمٌ لِلشُّفْعَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَيْتَ بِهَذَا الثَّمَنِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسَلِّمًا لِلشُّفْعَةِ حَتَّى يَجِبَ لَهُ الْبَيْتُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ لِلشَّفِيعِ: هَذَا الْبَيْتُ ابْتَعْتُهُ لَك بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَيَقُولُ الشَّفِيعُ: قَدْ رَضِيت وَاسْتَوْجَبْت؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَتَى ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: " هَذَا الْبَيْتُ لَك بِكَذَا " لَمْ يَكُنْ الشَّفِيعُ مُسَلِّمًا لِلشُّفْعَةِ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ مُشَارَكَةُ الْعَامِلِ لِلْمَالِكِ وَأَنْوَاعُهَا] [مُشَارَكَةُ الْعَامِلِ لِلْمَالِكِ، وَأَنْوَاعُهَا] الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ: تَجُوزُ الْمُغَارَسَةُ عِنْدَنَا عَلَى شَجَرِ الْجَوْزِ وَغَيْرِهِ، بِأَنْ يَدْفَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 إلَيْهِ أَرْضَهُ وَيَقُولَ: اغْرِسْهَا مِنْ الْأَشْجَارِ كَذَا وَكَذَا، وَالْغَرْسُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ يَزْرَعَهَا، وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ شَجَرَةً يَقُومُ عَلَيْهِ، وَالثَّمَرُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ بَقَرَهُ أَوْ غَنَمَهُ أَوْ إبِلَهُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ زَيْتُونَهُ يَعْصِرُهُ، وَالزَّيْتُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ دَابَّتَهُ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ فَرَسَهُ يَغْزُو عَلَيْهَا، وَسَهْمُهَا بَيْنَهُمَا، وَكَمَا يَدْفَعَ إلَيْهِ قَنَاةً يَسْتَنْبِطُ مَاءَهَا، وَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِهَا النَّصُّ وَالْقِيَاسُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ وَمَصَالِحُ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا مَصْلَحَةٍ، وَلَا مَعْنًى صَحِيحٍ يُوجِبُ فَسَادَهَا. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ عُذْرُهُمْ أَنَّهُمْ ظَنُّوا ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ، فَالْعِوَضُ مَجْهُولٌ فَيَفْسُدُ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهَا، وَالْمُضَارَبَةَ لِلْإِجْمَاعِ دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْجَوَازَ بِالْمُضَارَبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْجَوَازَ فِيمَا إذَا كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ يَرْجِعُ إلَى الْعَامِلِ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَجَوَّزَهُ فِيمَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ الثَّمَرَةُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ. وَالصَّوَابُ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا شَرِيكَ الْمَالِكِ هَذَا بِمَالِهِ، وَهَذَا بِعَمَلِهِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَوْلَى، بِالْجَوَازِ مِنْ الْإِجَارَةِ، حَتَّى قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هَذِهِ الْمُشَارَكَاتُ أَحَلُّ مِنْ الْإِجَارَةِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدْفَعُ مَالَهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، فَيَفُوزُ الْمُؤَجِّرُ بِالْمَالِ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْخَطَرِ، إذْ قَدْ يَكْمُلُ الزَّرْعُ. وَقَدْ لَا يَكْمُلُ، بِخِلَافِ الْمُشَارَكَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْفَوْزِ وَعَدَمِهِ عَلَى السَّوَاءِ، إنْ رَزَقَ اللَّهُ الْفَائِدَةَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ مَنَعَهَا اسْتَوَيَا فِي الْحِرْمَانِ، وَهَذَا غَايَةُ الْعَدْلِ؛ فَلَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِحِلِّ الْإِجَارَةِ وَتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ. وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُضَارَبَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَضَارَبَ أَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الْأُمَّةُ، وَدَفَعَ خَيْبَرَ إلَى الْيَهُودِ يَقُومُونَ عَلَيْهَا وَيَعْمُرُونَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَهَذَا كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَخْهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَا امْتَنَعَ مِنْهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَأَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، بَلْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَرَاضِيِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ يَدْفَعُونَهَا إلَى مَنْ يَقُومُ عَلَيْهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْمَنْعُ إلَّا فِيمَا مَنَعَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إذَا نَظَرَ ذُو الْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ هَذِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ؛ فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ فَإِذَا بُلِيَ الرَّجُلُ بِمَنْ يَحْتَجُّ فِي التَّحْرِيمِ بِأَنَّهُ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا قَالُوا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ؛ إذْ لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْأُمَّةِ إلَّا بِهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حِيلَةٍ تُؤَدِّي إلَيْهِ، فَإِنَّهَا حِيَلٌ تُؤَدِّي إلَى فِعْلِ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِيلَةِ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَنَظِيرُهَا فِي الِاحْتِيَالِ عَلَى الْمُغَارَسَةِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْأَرْضَ يَغْرِسُ فِيهَا مَا شَاءَ مِنْ الْأَشْجَارِ لِمُدَّةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً بِخِدْمَتِهَا، وَغَرْسِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأَشْجَارِ فِيهَا؛ فَإِنْ اتَّفَقَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَا لِكُلٍّ مِنْهَا غِرَاسًا مُعَيَّنًا مُقَرَّرًا جَازَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ الْغِرَاسِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمُشَارَكَةِ عَلَى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِلْقِيَامِ عَلَيْهَا كَذَا وَكَذَا سَنَةً لِلْمُدَّةِ الَّتِي يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَاشِيَةِ أَوْ ثُلُثِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا يُجْعَلُ لَهُ مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَيُقِرَّ لَهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَاشِيَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا، فَيَصِيرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ مِلْكِهِمَا، فَإِنْ خَافَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ بِمِلْكِ نِصْفِهَا حَيْثُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ ذَلِكَ النِّصْفَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَسْتَرْهِنَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَإِنْ ادَّعَى الْمِلْكَ بَعْدَ هَذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ ادَّعَى الْإِعْسَارَ اقْتَضَاهُ مِنْ الرَّهْنِ. وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ أَنْ يُمَلِّكَهُ جُزْءًا مِنْ الْحَبِّ أَوْ الزَّيْتُونِ، إمَّا رُبُعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ، فَيَصِيرُ شَرِيكَهُ فِيهِ، ثُمَّ يَطْحَنَهُ أَوْ يَعْصِرَهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ مِلْكَيْهِمَا فِيهِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يُمَلِّكَهُ ذَلِكَ فَيُمَلِّكَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْدِثُ فِيهِ عَمَلًا؛ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَصِيرَ شَرِيكَهُ فِيهِ، فَإِذَا عَمِلَ فِيهِ سَلَّمَ إلَيْهِ حِصَّتَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِنْ خَافَ الْأَجِيرُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ وَيَتَسَلَّمَ الْجَمِيعَ، وَلَا يُعْطِيَهُ أُجْرَتَهُ؛ فَالْحِيلَةُ فِي أَمْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَصْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْعَمَلِ، فَإِذَا أَحْدَثَ فِيهِ الْعَمَلَ فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَهَكَذَا الْحِيلَةُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ، وَهِيَ حِيلَةٌ جَائِزَةٌ؛ فَإِنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقٍّ، وَلَا تَحْرِيمَ حَلَالٍ، وَلَا تَحْلِيلَ حَرَامٍ. [الْمِثَالُ التِّسْعُونَ حِيلَةٌ فِي إسْقَاطِ الْمُحَلِّلِ فِي السِّبَاقِ] [حِيلَةٌ فِي إسْقَاطِ الْمُحَلِّلِ فِي السِّبَاقِ] الْمِثَالُ التِّسْعُونَ: إذَا خَرَجَ الْمُتَسَابِقَانِ فِي النِّضَالِ مَعًا جَازَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ،، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُحَلِّلٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ الصِّدِّيقِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا وَغَيْرِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحَلِّلٍ، عَلَى تَفَاصِيلَ لَهُمْ فِي الْمُحَلِّلِ وَحُكْمِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْفُرُوسِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرْنَا فِيهِ وَفِي كِتَابِ: " بَيَانِ الِاسْتِدْلَالِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 عَلَى بُطْلَانِ اشْتِرَاطِ مُحَلِّلِ السِّبَاقِ وَالنِّضَالِ " بَيَانَ بُطْلَانِهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ وَجْهًا، وَبَيَّنَّا ضَعْفَ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مَنْ اشْتَرَطَهُ، وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِي ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ وَجْهِ الْحِيلَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُقْنَعُ بِهَذَا قَالُوا وَهَكَذَا فِي الْكِتَابِ؛ فَالْحِيلَةُ عَلَى تَخَلُّصِ الْمُتَسَابِقَيْنِ الْمُخْرِجَيْنِ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكَا الْعِوَضَيْنِ لِثَالِثٍ يَثِقَانِ بِهِ، وَيَقُولُ الثَّالِثُ: أَيُّكُمَا سَبَقَ فَالْعِوَضَانِ لَهُ، وَإِنْ جِئْتُمَا مَعًا فَالْعِوَضَانِ بَيْنَكُمَا؛ فَيَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ حِيلَةً عَلَى جَوَازِ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ، وَلَا تَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقٍّ، وَلَا تُدْخِلُ فِي مَأْثَمٍ؛ فَلَا بَأْسَ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ حِيلَةٌ فِي اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ] [اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ] الْمِثَالُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ فَوْقَ ثَلَاثٍ عَلَى أَصَحِّ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ عَلَى تَفَاصِيلَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى جَوَازِهِ؛ لِكَوْنِ الْمَبِيعِ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِعْلَامُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ أَوْ لَغَيْبَةِ مَنْ يُشَاوِرُهُ وَيَثِقُ بِرَأْيِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ جَوَازُهُ كَمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ مَا يَجُوزُ مِنْ الْمُدَّةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَجَعَلَهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُغْلَبُ فِي الْبُيُوعِ، فَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سِلْعَةٍ يَشْتَرِيهَا، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، هَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ الْجَوَازَ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ؛ فَالْمَخْرَجُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا، فَإِذَا قَارَبَ انْقِضَاءَ الْأَجَلِ فَسَخَهُ ثُمَّ اشْتَرَطَ ثَلَاثًا، وَهَكَذَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تُدْخِلُ فِي بَاطِلٍ، وَلَا تُخْرِجُ مِنْ حَقٍّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحِيلَةِ عَلَى إيجَارِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَقَدْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَحَيَّلَ عَلَى إيجَارِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا بِعُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. [الْمِثَالُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ حِيلَةٌ فِي الرَّهْنِ] [حِيَلٌ فِي الرَّهْنِ] الْمِثَالُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ رَجُلًا مَالًا وَيَأْخُذَ مِنْهُ رَهْنًا، فَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ الرَّهْنُ فَيَسْقُطُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى ذَلِكَ، فَالْمَخْرَجُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَيْنَ الَّتِي يُرِيدُ ارْتِهَانَهَا بِالْمَالِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُقْبِضْهُ، فَإِنْ وَثِقَ بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ تَرَكَهُ عِنْدَهُ، فَإِنْ تَلِفَ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ بَقِيَ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ أَقَالَهُ الْبَائِعُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْعَيْنَ قَبْلَ الْقَرْضِ، ثُمَّ يُقْرِضَهُ، وَهِيَ عِنْدَهُ؛ فَهِيَ فِي الظَّاهِرِ وَدِيعَةٌ، وَفِي الْبَاطِنِ رَهْنٌ، فَإِنْ تَلِفَتْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَلَاكِهَا شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ. فَإِنْ خَافَ الرَّاهِنُ أَنَّهُ إذَا وَفَّاهُ حَقَّهُ لَمْ يُقِلْهُ الْبَيْعَ، فَالْمَخْرَجُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْخِيَارَ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوَفِّيهِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. فَإِنْ خَافَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُسْتَحَقَّ الرَّهْنُ أَوْ بَعْضُهُ، فَالْمَخْرَجُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ دَرْكَ الرَّهْنِ غَيْرَ الرَّاهِنِ، أَوْ يُشْهِدُ عَلَى مَنْ يَخْشَى دَعْوَاهُ الِاسْتِحْقَاقَ بِأَنَّهُ مَتَى ادَّعَاهُ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً، أَوْ يُضَمِّنَهُ الدَّرَكَ لِنَفْسِهِ. [الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْعُ الثَّمَرِ وَقَدْ بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ الْآخَرِ] [بَيْعُ الثَّمَرِ، وَقَدْ بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ الْآخَرِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ: إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِ الشَّجَرَةِ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَلِكَ النَّوْعِ كُلِّهِ فِي الْبُسْتَانِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: يَجُوزُ بَيْعُ الْبُسْتَانِ كُلِّهِ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، تَقَارَبَ إدْرَاكُهُ وَتَلَاحَقَ أَمْ تَبَاعَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِيَالِ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إذَا خَرَجَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ دُونَ بَقِيَّتِهَا أَوْ خَرَجَ الْجَمِيعُ وَبَعْضُهُ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ دُونَ بَعْضٍ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُتَقَوِّمِ وَغَيْرِهِ، فَتَصِيرُ حِصَّةُ الْمَوْجُودِ الْمُتَقَوِّمِ مَجْهُولَةً فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَبَعْضُ الشُّيُوخِ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِهِ فِي الثِّمَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِمَا، جَعَلَا الْمَعْدُومَ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ. وَأَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِجَوَازِهِ فِي الْوَرْدِ لِسُرْعَةِ تَلَاحُقِهِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ. قَالُوا: فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْأُصُولَ، وَهَذَا قَدْ لَا يَتَأَتَّى غَالِبًا، قَالُوا: فَالْحِيلَةُ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ الَّذِي بَدَا صَلَاحُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ مَا يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَيْضًا قَدْ تَتَعَذَّرُ؛ إذْ قَدْ يَرْجِعُ فِي الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ جُعِلَتْ هِبَةً فَهِبَةُ الْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى الثَّمَرَةِ مِنْ كُلِّ أَلْفِ جُزْءٍ عَلَى جُزْءٍ - مَثَلًا - لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ عِنْدَهُمْ، وَتَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ آجَرَهُ الشَّجَرَةَ؛ لِأَخْذِ ثَمَرَتِهَا لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ؛ فَالْحِيلَةُ إذًا أَنْ يَبِيعَهُ الثَّمَرَةَ الْمَوْجُودَةَ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا فَهُوَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، لَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ، وَلَا يَذْكُرُ سَبَبَ الْحُدُوثِ، وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى فِيمَا إذَا بَدَتْ الثِّمَارُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ يَشْتَرِيَهَا وَيُطْلِقَ، وَيَكُونَ الْقَطْعُ [هُوَ] مُوجِبُ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى التَّبْقِيَةِ إلَى وَقْتِ الْكَمَالِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَخْرَجَ بِبَيْعِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا أَوْ بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ أَوْ بِالْمُسَاقَاةِ أَقْرَبُ إلَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 [الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ حِيلَةٌ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ] حِيلَةٌ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: إذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِضَاعَةً، وَتِلْكَ الْبِضَاعَةُ عِنْدَ الْوَكِيلِ، وَهِيَ رَخِيصَةٌ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ، وَلَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمَا تُسَاوِيهِ بَيْعًا تَامًّا صَحِيحًا لِأَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ إنْ شَاءَ اشْتَرَاهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِمُوَكِّلِهِ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ؛ إذْ قَدْ يَتَّخِذُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَبِيعَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا تُسَاوِي فَيَكُونُ قَدْ غَشَّ الْمُوَكِّلَ، وَيَظْهَرُ هَذَا إذَا اشْتَرَاهَا بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا؛ فَيَكُونُ قَدْ غَرَّ الْمُوَكِّلَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ لَوْ اطَّلَعَ عَلَى الْحَالِ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَهُ غُرُورًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَهُ لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ: مُقَابَلَةُ الْمَكْرِ بِالْمَكْرِ] [مُقَابَلَةُ الْمَكْرِ بِالْمَكْرِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ: إذَا اشْتَرَى مِنْهُ دَارًا، وَخَافَ احْتِيَالَ الْبَائِعِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَّكَهَا لِبَعْضِ وَلَدِهِ فَيَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً ثُمَّ يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ وَيَحْسِبُ سُكْنَاهَا بِثَمَنِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُخَادِعُونَ الْمَاكِرُونَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَحْتَالَ لِنَفْسِهِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ، مِنْهَا أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ الدَّرَكُ، وَمِنْهَا: أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ ادَّعَى هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ فِي الدَّارِ كَانَتْ دَعْوَى بَاطِلَةً، وَكُلُّ بَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا زُورٌ، وَمِنْهَا: أَنْ يُضَمِّنَ الدَّرَكَ لِرَجُلٍ مَعْرُوفٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَجْعَلَ ثَمَنَهَا أَضْعَافَ مَا اشْتَرَاهَا بِهِ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَشْهَدَ بِهِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ فَيَشْتَرِيهَا بِعَشْرَةِ آلَافٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِالْعَشَرَةِ آلَافٍ سِلْعَةً ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِالْأَلْفِ، وَهِيَ الثَّمَنُ، فَيَأْخُذُ الْأَلْفَ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّمَنَ عَشْرَةُ آلَافٍ، وَأَنَّهُ قَبَضَهُ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْعَشَرَةِ آلَافٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمُقَابَلَةُ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ وَالْمَكْرِ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ بِالْخِدَاعِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا، بَلْ مَأْمُورًا بِهِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ حِيلَةٌ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ] [حِيلَةٌ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ: إذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالِ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ، فَأَدَّى إلَيْهِ مُعْظَمَهُ، ثُمَّ جَحَدَ السَّيِّدُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ نَفْسَهُ، وَلِلسَّيِّدِ فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالٌ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِهِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يُشْهِدَ الْعَبْدُ فِي السِّرِّ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ وَفَّى لَهُ سَيِّدُهُ بِمَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ وَفَّى لَهُ الْعَبْدُ، وَسَلَّمَهُ مَالَهُ، وَإِنْ غَدَرَ بِهِ تَمَكَّنَ الْعَبْدُ مِنْ الْغَدْرِ بِهِ، وَإِخْرَاجِ الْمَالِ عَنْ يَدِهِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَا تَتَأَتَّى عَلَى أَصْلِ مَنْ يَمْنَعُ مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا، فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا ظَلَمَهُ بِجَحْدِهِ حَقَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَظْلِمَهُ بِمَنْعِهِ مَالَهُ، وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَيُقَابِلُ الظُّلْمَ بِالظُّلْمِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْهُ فَائِدَةٌ، وَلَكِنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنَّ السَّيِّدَ مَتَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 عَلِمَ بِصُورَةِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ مَتَى جَحَدَهُ الْبَيْعَ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ بِالْإِقْرَارِ الَّذِي يُظْهِرُهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ جُحُودِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَمْسَكَ وَلَدَ غَيْرِهِ؛ لِيَقْتُلَهُ فَظَفِرَ هُوَ بِوَلَدِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ فَأَمْسَكَهُ، وَأَرَاهُ أَنَّهُ إنْ قَتَلَ وَلَدَهُ قَتَلَ هُوَ وَلَدَهُ أَيْضًا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يَخَافُ مِنْ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُقِرَّ لَهُ بِالْمَالِ وَيُقِرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ يَتَوَاطَآنِ عَلَيْهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبْدَأَ السَّيِّدُ فَيَبِيعَ الْعَبْدَ لِأَجْنَبِيٍّ فِي السِّرِّ، وَيُشْهِدَ عَلَى بَيْعِهِ، ثُمَّ يَبِيعَ الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمَالَ فَأَظْهَرَ الْعَبْدُ إقْرَارًا بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَظْهَرَ السَّيِّدُ أَنَّ بَيْعَهُ لِنَفْسِهِ كَانَ بَاطِلًا، وَأَنَّ فُلَانًا الْأَجْنَبِيَّ قَدْ اشْتَرَاهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ عِتْقَهُ يَبْطُلُ، وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ امْتَنَعَ مِنْ التَّحَيُّلِ عَلَى إخْرَاجِ مَالِ السَّيِّدِ عَنْهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ إذَا أَرَادَ ظَالِمٌ أَخْذَ دَارِهِ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ يُظْهِرَ أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَوْ كَانَ فِي بَلَدِهِ حَاكِمٌ يَرَى صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَصِحَّةَ اسْتِثْنَاءِ الْغَلَّةِ لَهُ وَحْدَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَصِحَّةَ وَقْفِهِ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَكَمَ لَهُ بِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ. [الْحِيَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ] وَحِيَلُ هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: حِيلَةٌ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ وَالْمَكْرِ حَتَّى لَا يَقَعَ، وَحِيلَةٌ عَلَى رَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَحِيلَةٌ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ فَالنَّوْعَانِ الْأَوَّلَانِ جَائِزَانِ، وَفِي الثَّالِثِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ إنْ كَانَ الْمُتَحَيَّلُ بِهِ حَرَامًا لِحَقِّ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، كَمَا لَوْ جَرَّعَهُ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى بِحُرْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِكَوْنِهِ ظُلْمًا لَهُ فِي مَالِهِ، وَقَدَرَ عَلَى ظُلْمِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الظَّفَرِ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِيهَا قَوْمٌ حَتَّى أَفْرَطُوا وَجَوَّزُوا قَلْعَ الْبَابِ، وَنَقْبَ الْحَائِطِ وَخَرْقَ السَّقْفِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِمُقَابَلَتِهِ بِأَخْذِ نَظِيرِ مَالِهِ، وَمَنَعَهَا قَوْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ إلَّا بِإِعْلَامِهِ بِهِ، وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ وَقَالُوا: إنْ كَانَ سَبَبُ الْحَقِّ ظَاهِرًا كَالزَّوْجِيَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ الْمُوجِبِ لِلْإِنْفَاقِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ إعْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ إلَّا بِإِعْلَامِهِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ السُّنَّةُ دَلَالَةً صَرِيحَةً؛ وَالْقَائِلُونَ بِهِ أَسْعَدُ بِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَإِنْ كَانَ بَهْتًا لَهُ وَكَذِبًا عَلَيْهِ أَوْ قَذْفًا لَهُ أَوْ شَهَادَةً عَلَيْهِ بِالزُّورِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 كَانَ دُعَاءً عَلَيْهِ أَوْ لَعْنًا أَوْ مَسَبَّةً فَلَهُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ مَنَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ إتْلَافُ مَالٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُحْتَرَمًا كَالْعَبْدِ وَالْحَيَوَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ فَإِنْ خَافَ تَعَدِّيَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَوْ حَرَقَ دَارِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْرِقَ دَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ - بَلْ كَانَ يَفْعَلُ بِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِهِ سَوَاءٌ كَمَا لَوْ قَطَعَ شَجَرَتَهُ أَوْ كَسَرَ إنَاءَهُ أَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرِهِ أَوْ حَلَّ وِكَاءَ مَائِعٍ لَهُ أَوْ أَرْسَلَ الْمَاءَ عَلَى مِسْطَاحِهِ فَذَهَبَ بِمَا فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَهُ مُقَابَلَتُهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ سَوَاءٌ - فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ كِتَابٌ، وَلَا سُنَّةٌ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، بَلْ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَكَانَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُرَجِّحُ هَذَا وَيَقُولُ: هُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ إتْلَافِ طَرَفِهِ بِطَرَفِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ] [فِي الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مَتَى شَاءَ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ ضَمَانَ الْمَالِ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوَقِّتْهَا بِمُدَّةٍ فَيَقُولُ: ضَمِنْتُهُ، أَوْ تَكَفَّلْت بِهِ شَهْرًا أَوْ جُمُعَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَصِحُّ. الثَّانِي: أَنْ يُقَيِّدَهَا بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَيَقُولُ: ضَمِنْتُهُ أَوْ تَكَفَّلْت بِهِ مَا دَامَ فِي هَذَا الْبَلَدِ أَوْ فِي هَذَا السُّوقِ. الثَّالِثِ: أَنْ يُعَلِّقَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيَقُولُ: ضَمِنْت أَوْ كَفَلْت إنْ رَضِيَ فُلَانٌ، أَوْ يَقُولُ: ضَمِنْت مَا عَلَيْهِ إنْ كَفَلَ فُلَانٌ بِوَجْهِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. الرَّابِعِ: أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ حَتَّى يَتَعَذَّرَ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ، فَيَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ، بَلْ هُوَ حُكْمُ الضَّمَانِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ فَلَا يُطَالِبُ الضَّامِنَ حَتَّى يَتَعَذَّرَ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ. الْخَامِسِ: أَنْ يَقُولَ: كَفَلْت بِوَجْهِهِ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُحْضِرْهُ بَلْ يَلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ. السَّادِسِ: أَنْ يُطَالِبَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ إلَى رَبِّهِ؛ لِيَبْرَأَ هُوَ مِنْ الضَّمَانِ إذَا كَانَ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ، وَيَكُونُ خَصْمًا فِي الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنْ ضَمِنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ [عَلَيْهِ] مُطَالَبَتُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ إلَى رَبِّهِ، فَإِنْ أَدَّاهُ عَنْهُ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ حِينَئِذٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 [الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِالشَّرْطِ] تَعْلِيقُ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ بِالشَّرْطِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ: إذَا كَانَ لَهُ دَارَانِ فَاشْتَرَى مِنْهُ إحْدَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ إنْ اُسْتُحِقَّتْ فَالدَّارُ الْأُخْرَى لَهُ بِالثَّمَنِ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ إذْ غَايَتُهُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهِ فِيمَنْ بَاعَ جَارِيَةً، وَشَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ، وَفِعْلُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا رَهَنَ نَعْلَهُ، وَشَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ إنْ جَاءَهُ بِفِكَاكِهَا إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ بِمَا عَلَيْهَا، وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالشَّرْطِ فَالْبَيْعُ أَوْلَى، وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ التَّوْلِيَةِ بِالشَّرْطِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ نَصًّا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ،، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ عِنْدَ الْكُلِّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي الدَّارَ الْأُخْرَى الَّتِي لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا، وَيَقْبِضَهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِهَا الدَّارَ الَّتِي يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَيُسَلِّمَهَا إلَيْهِ، وَيَتَسَلَّمَ دَارِهِ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ هَذِهِ الدَّارُ عَلَيْهِ رَجَعَ فِي ثَمَنِهَا، وَهُوَ الدَّارُ الْأُخْرَى، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لَطِيفَةٌ جَائِزَةٌ لَا تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقٍّ، وَلَا دُخُولًا فِي بَاطِلٍ، وَهِيَ مِثَالٌ لِمَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا يَخَافُ اسْتِحْقَاقَهُ، وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْبَائِعِ أَخْذُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ: رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أَوْ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ غَرِيبٍ] ٍ، فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ تُسْتَحَقَّ أَوْ تَخْرُجَ مَعِيبَةً فَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ، وَلَا الرَّدُّ، فَإِنْ قَالَ لَهُ الْبَائِعُ ": أَنَا أُوَكِّلُ مَنْ تَعْرِفُهُ فِيمَا تَدَّعِي بِهِ مِنْ عَيْبٍ أَوْ رُجُوعٍ " لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ وَيَعْزِلَهُ فَيَذْهَبَ حَقُّهُ، فَالْحِيلَةُ فِي التَّوَثُّقِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ، وَيَضْمَنَ لَهُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ الدَّرَكَ، وَيَكُونَ وَكِيلًا لِهَذَا الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ، فَيُمْكِنُ لِلْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ مُطَالَبَةُ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ وَيَأْمَنُ مَا يَحْذَرُهُ. [الْمِثَالُ الْمُوَفِّي الْمِائَة رَجُلٌ قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرِ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَان بِكَذَا وَكَذَا وَأَنَا أُرْبِحُك فِيهَا كَذَا وَكَذَا] الْمِثَالُ الْمُوَفِّي الْمِائَةَ: رَجُلٌ قَالَ لِغَيْرِهِ: " اشْتَرِ هَذِهِ الدَّارَ - أَوْ هَذِهِ السِّلْعَةَ مِنْ فُلَانٍ - بِكَذَا وَكَذَا، وَأَنَا أُرْبِحُك فِيهَا كَذَا وَكَذَا " فَخَافَ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ فَلَا يُرِيدُهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلْآمِرِ: قَدْ اشْتَرَيْتهَا بِمَا ذَكَرْت، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَإِلَّا تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا الْآمِرُ إلَّا بِالْخِيَارِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ خِيَارًا أَوْ نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْخِيَارِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا هُوَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِيَتَّسِعَ لَهُ زَمَنُ الرَّدِّ إنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ. [الْمِثَالُ الْحَادِي بَعْدَ الْمِائَة اشْتَرَى مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا فَخَافَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِكَذَا] الْمِثَالُ الْحَادِي بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا اشْتَرَى مِنْهُ جَارِيَةً أَوْ سِلْعَةً ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا فَخَافَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِكَذَا وَكَذَا أَنْ يُنْكِرَ الْبَائِعُ قَبْضَ الثَّمَنِ، وَيَسْأَلَ الْحَاكِمَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ يُنْكِرَ الْبَيْعَ وَيَسْأَلَهُ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ، فَالْحِيلَةُ الَّتِي تُخَلِّصُهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ أَوَّلًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِاسْتِحْقَاقِ ثَمَنِهَا، وَلَا يُعَيِّنُ السَّبَبَ، فَإِنْ أَقَرَّ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنُ، فَإِمَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَوْ يُحَلِّفَهُ [الْمِثَال الثَّانِي بَعْدَ الْمِائَةِ: لَهُ مَالٌ حَالٌّ فَأَبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ يُؤَجِّلَهُ] الْمِثَالُ الثَّانِي بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ حَالٌّ فَأَبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ يُؤَجِّلَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، فَأَرَادَ حِيلَةً يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى أَخْذِ مَالِهِ كُلِّهِ حَالًّا، وَيُبْطِلُ الصُّلْحَ وَالتَّأْجِيلَ فَالْحِيلَةُ لَهُ أَنْ يُوَاطِئَ رَجُلًا يَدَّعِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَيُقِرَّ لَهُ بِهِ، وَيَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَالُ مُضَارَبَةً فَيَصِيرُ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِهِ لَهُ لَضَاعَ مَالُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ إنَّ فِي الرِّعَايَةِ وَلَوْ قَالَ: دِينِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو احْتَمَلَ الصِّحَّةَ، وَالْبُطْلَانُ أَظْهَرُ؛ فَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الدَّيْنَ إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ لِعَمْرٍو، فَيَصِيرُ نَظِيرَ مَا لَوْ قَالَ: مِلْكِي كُلُّهُ لِعَمْرٍو، أَوْ دَارِي هَذِهِ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِلتَّنَاقُضِ وَيَصِحُّ هِبَةً، فَأَمَّا إذَا قَالَ: " هَذَا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو يَسْتَحِقُّهُ دُونِي " صَحَّ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، كَمَا لَوْ قَالَ ": هَذِهِ الدَّارُ لَهُ، أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَهُ " عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ صِحَّةُ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ أَضَافَ الدَّيْنَ أَوْ الْعَيْنَ إلَى نَفْسِهِ، وَلَا تَنَاقُضَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَصْدُقُ مَعَ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ. فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ دَارُ فُلَانٍ، إذَا كَانَ سَاكِنُهَا بِالْأُجْرَةِ، وَيَقُولُ الْمُضَارِبُ: دِينِي عَلَى فُلَانٍ، وَهَذَا الدَّيْنُ لِفُلَانٍ، يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَالْمُخَاصَمَةَ فِيهِ، فَالْإِضَافَةُ تَصْدُقُ بِدُونِ هَذَا، ثُمَّ يَأْتِي صَاحِبُ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ فَيُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ يُؤَجِّلُهُ ثُمَّ يَجِيءُ الْمُقَرُّ لَهُ فَيَدَّعِي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ بِجُمْلَتِهِ حَالًّا، فَإِذَا أَظْهَرَ كِتَابَ الصُّلْحِ وَالتَّأْجِيلِ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْمُصَالِحُ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ إنَّمَا أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِ غَرِيمِهِ الدَّيْنَ مُؤَجَّلًا أَوْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْهُ فَقَطْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ. [الْحِيلَةُ فِي إيدَاعِ الشَّهَادَةِ] [إيدَاعُ الشَّهَادَةِ] وَنَظِيرُ هَذِهِ الْحِيلَةِ حِيلَةُ إيدَاعِ الشَّهَادَةِ وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ لَهُ الْخَصْمُ: لَا أُقِرُّ لَك حَتَّى تُبْرِئَنِي مِنْ نِصْفِ الدَّيْنِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَأُشْهِدَ عَلَيْكَ أَنَّكَ لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيَأْتِي صَاحِبُ الْحَقِّ إلَى رَجُلَيْنِ فَيَقُولُ: اشْهَدَا أَنِّي عَلَى طَلَبِ حَقِّي كُلِّهِ مِنْ فُلَانٍ، وَأَنِّي لَمْ أُبْرِئْهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ مُصَالَحَتَهُ عَلَى بَعْضِهِ؛ لِأَتَوَصَّلَ بِالصُّلْحِ إلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي، وَأَنِّي إذَا أَشْهَدْت أَنِّي لَا أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ سِوَى مَا صَالَحَنِي عَلَيْهِ فَهُوَ إشْهَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنِّي إنَّمَا أَشْهَدْت عَلَى ذَلِكَ تَوَصُّلًا إلَى أَخْذِ بَعْضِ حَقِّي؛ فَهَذِهِ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ إيدَاعِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَقَاءَهُ عَلَى حَقِّهِ، وَيُقِيمَ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَجَارٍ عَلَى أُصُولِهِ. فَإِنَّ لَهُ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ بِكُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 طَرِيقٍ جَائِزٌ، بَلْ لَا يَقْتَضِي الْمَذْهَبُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مَظْلُومٌ تَوَصَّلَ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِطَرِيقٍ لَمْ يُسْقِطْ بِهَا حَقًّا لِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ؛ فَلَا خَرَجَ بِهَا مِنْ حَقٍّ، وَلَا دَخَلَ بِهَا فِي بَاطِلٍ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَيَجْحَدُهُ وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَتَّى تُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَطَرِيقُ الْحِيلَةِ أَنْ تُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةَ فُلَانٍ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إقْرَارًا كَاذِبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِ مَالِي عِنْدَهُ، فَاشْهَدُوا أَنَّ إقْرَارِي بِالزَّوْجِيَّةِ بَاطِلٌ أَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّي. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا أَنْ يُنْكِرَ نَسَبَ أَخِيهِ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يُشْهِدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَهُ أَوْ اعْتَاضَ عَنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُودِعُ الشَّهَادَةَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، وَأَنَّهُ يُظْهِرُ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ تَوَصُّلًا إلَى إقْرَارِ أَخِيهِ بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَلَا أَبْرَأَ أَخَاهُ، وَلَا عَاوَضَهُ، وَلَا وَهَبَهُ. [الْحِيلَةُ فِي إقْرَارِ الْمُضْطَهَدِ] [إقْرَارُ الْمُضْطَهَدِ] وَهَذَا يُشْبِهُ إقْرَارَ الْمُضْطَهَدِ الَّذِي قَدْ اُضْطُهِدَ وَدُفِعَ عَنْ حَقِّهِ حَتَّى يُسْقِطَ حَقًّا آخَرَ، وَالسَّلَفُ كَانُوا يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا مُضْطَهَدًا، كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَأَرَادَ سَفَرًا، فَأَخَذَهُ أَهْلُهَا، فَجَعَلَهَا طَالِقًا إنْ لَمْ يَبْعَثْ بِنَفَقَتِهَا إلَى شَهْرٍ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَبْعَثْ إلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا قَدِمَ خَاصَمُوهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ: اضْطَهَدْتُمُوهُ حَتَّى جَعَلَهَا طَالِقًا، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إكْرَاهٌ بِضَرْبٍ، وَلَا أَخْذِ مَالٍ، وَإِنَّمَا طَالَبُوهُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَنَّتُوهُ بِالْيَمِينِ جَعَلَهُ مُضْطَهَدًا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلَى قَصْدِهِ مِنْ السَّفَرِ، فَلَمْ يَكُنْ حَلِفُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ، بَلْ هُوَ كَالْمَحْمُولِ عَلَيْهِ. [الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضْطَهَدِ وَالْمُكْرَهِ] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَاصِدٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِاحْتِمَالِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَاصِدٌ لِلْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ بِالْتِزَامِ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ رَاضٍ، وَلَا مُؤْثِرًا لِمَا الْتَزَمَهُ، وَلَيْسَ لَهُ وَطَرٌ فِيهِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا، وَنَزِّلْهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَمْ يَكُنْ يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ إذَا حَنِثَ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: وَلَا يُعْلَمُ لِعَلِيٍّ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ أَوْ حَلَفَ أَوْ وَهَبَ أَوْ صَالَحَ لَا عَنْ رِضًا مِنْهُ، وَلَكِنْ مُنِعَ حَقُّهُ إلَّا بِذَلِكَ، فَهُوَ بِالْمُكْرَهِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمُخْتَارِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَلْزَمُهُ مَا عَقَدَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ. وَمَنْ لَهُ قَدَمٌ رَاسِخٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمَعْرِفَةٌ بِمَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا، وَكَانَ الْإِنْصَافُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى، وَالْعِلْمُ وَالْحُجَّةُ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَكَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ الصَّوَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ نَفَائِسِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ لَا يَرَى الْإِحْسَانَ إلَّا إسَاءَةً، وَلَا الْهُدَى إلَّا الضَّلَالَةَ. فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ لِلشَّمْسِ أَعْيُنٌ ... سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ وَسَامِحْ نُفُوسًا بِالْقُشُورِ قَدْ ارْتَضَتْ ... وَلَيْسَ لَهَا لِلُّبِّ مِنْ مُتَطَلَّعِ [الْمِثَالُ الثَّالِثُ بَعْدَ الْمِائَة حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى ثَمَنِهَا وَأُجْرَتِهَا] [حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى ثَمَنِهَا وَأُجْرَتِهَا] الْمِثَالُ الثَّالِثُ بَعْدَ الْمِائَةِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَ السِّلْعَةِ عَلَى ثَمَنِهَا؟ وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ حَبْسَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْعَمَلِ عَلَى الْأُجْرَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يَمْلِكُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَالثَّالِثُ: يَمْلِكُ حَبْسَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى عَمَلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَمَلَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا يُقَابَلُ بِالْعِوَضِ؛ فَصَارَ كَأَنَّهُ شَرِيكٌ لِمَالِكِ الْعَيْنِ بِعَمَلِهِ، فَأَثَرُ عَمَلِهِ قَائِمٌ بِالْعَيْنِ؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَصَارَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ تَعَلُّقٌ بِالْعَيْنِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا قَالَ: الْأُجْرَةُ قَدْ صَارَتْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ رَهْنُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا، فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا. وَعَلَى هَذَا فَالْحِيلَةُ فِي الْحَبْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَتَّى يَصِلَ إلَى حَقِّهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ رَهْنَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى أُجْرَتِهَا، فَيَقُولُ: رَهَنَتْك هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أُجْرَتِهِ، وَهِيَ كَذَا وَكَذَا، وَهَكَذَا فِي الْمَبِيعِ يَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَهْنَهُ عَلَى ثَمَنِهِ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَا مَعْنًى، وَلَا مَأْخَذًا قَوِيًّا يَمْنَعُ صِحَّةَ هَذَا الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَهْنَ عَيْنٍ أُخْرَى عَلَى الثَّمَنِ جَازَ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ جَوَازَ رَهْنِ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْبِضَهُ أَوْ لَا يَقْبِضَهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأُصُولِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَصِحُّ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَهَنَ مَا لَا يَمْلِكُ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَرْهَنَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ يَشْتَرِيَهُ وَيَرْهَنَهُ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ الرَّهْنُ بَعْدَ مِلْكِهِ، وَاشْتِرَاطُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رَهْنِ الْمِلْكِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ رَهْنِ عَبْدِ زَيْدٍ أَنَّ اشْتِرَاطَ رَهْنِ عَبْدِ زَيْدٍ [غَرَرٌ] قَدْ يُمْكِنُ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ رَهْنِ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، فَإِنَّهُ إنْ تَمَّ الْعَقْدُ صَارَ الْمَبِيعُ رَهْنًا، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ثَمَنَ يُحْبَسُ عَلَيْهِ الرَّهْنُ، فَلَا غَرَرَ أَلْبَتَّةَ؛ فَالْمَنْصُوصُ أَفْقَهُ، وَأَصَحُّ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ " لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ " أَلْزَمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَنْصُوصِ أَحْمَدَ. لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَفِي إجْبَارِ الْبَائِعِ عَلَى التَّسْلِيمِ قَبْلَ حُضُورِ الثَّمَنِ، وَتَمْكِينِهِ مِنْ قَبْضِهِ إضْرَارٌ بِهِ، فَإِذَا [كَانَ] مَلَكَ حَبْسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ مَعَ الشَّرْطِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَقَوْلُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِ مُخَالِفٌ لِنَصِّ أَحْمَدَ وَالْقِيَاسِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ثُمَّ يَرْهَنَهُ عَلَى ثَمَنِهِ عِنْدَ بَائِعِهِ فَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ: وَالرَّهْنُ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا شَرَطَا رَهْنَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، وَعَلَّلَهُ أَيْضًا بِتَعْلِيلٍ آخَرَ فَقَالَ: إطْلَاقُ الْبَيْعِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ، وَالرَّهْنُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَهُ مِنْ عَيْنِهِ إنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ ثَمَنَهُ إنْ كَانَ عَرَضًا فَيَتَضَادَّا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ الْقَوْلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، فَيُقَالُ: الْمَحْذُورُ مِنْ التَّضَادِّ إنَّمَا هُوَ التَّدَافُعُ بِحَيْثُ يَدْفَعُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ الْآخَرَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَلَا مَحْذُورَ، وَالْبَائِعُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُؤَدِّيَهُ إيَّاهُ مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَمِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقْبِضَهُ ثَمَنَهُ مِنْهُ. وَغَايَةُ عَقْدِ الرَّهْنِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ، فَأَيُّ تَدَافُعٍ، وَأَيُّ تَنَافٍ هُنَا؟ : وَأَمَّا قَوْلُهُ " إطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لِلثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ " فَيُقَالُ: بَلْ إطْلَاقُهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الثَّمَنِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مَلَكَ أَنْ يُوَفِّيَهُ إيَّاهُ ثَمَنًا كَمَا اسْتَوْفَاهُ مَبِيعًا، كَمَا لَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُ ذَلِكَ ثُمَّ وَفَّاهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: إذَا حَبَسَ السِّلْعَةَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَهُوَ غَاصِبٌ، وَلَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ الرَّهْنَ، فَظَاهِرُ هَذَا إنْ شَرَطَ كَوْنَ الْمَبِيعِ رَهْنًا [فِي حَالِ الْعَقْدِ أَصَحُّ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ رَهْنًا] غَيْرَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ رَهْنِ الْبَيْعِ اشْتِرَاطُ تَعْوِيقِ التَّسْلِيمِ فِي الْمَبِيعِ. قُلْت: وَلَا يَخْفَى مُنَافَاةُ مَا قَالَهُ لِظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي صُورَةِ حَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى ثَمَنِهِ، فَقَالَ: " هُوَ غَاصِبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ الرَّهْنَ " أَيْ: فَلَا يَكُونُ غَاصِبًا بِحَبْسِ السِّلْعَةِ بِمُقْتَضَى شَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ إذَا حَبَسَ السِّلْعَةَ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَهُوَ غَاصِبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ لَهُ رَهْنًا آخَرَ غَيْرَ الْمَبِيعِ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَرْتَبِطُ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَصًّا فِي صِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ اشْتِرَاطَ رَهْنِ الْمَبِيعِ تَعْوِيقٌ لِلتَّسْلِيمِ فِي الْمَبِيعِ " فَيُقَالُ: وَاشْتِرَاطُ التَّعْوِيقِ إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ، وَلَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِيهِ؟ ثُمَّ هَذَا يَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلْمُشْتَرِي عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِاشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلْبَائِعِ عَنْ تَسَلُّمِهِ أَيْضًا، وَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِ بِاشْتِرَاطِ الْبَائِعِ انْتِفَاعَهُ بِالْمَبِيعِ مُدَّةً يَسْتَثْنِيهَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَعْوِيقًا لِلتَّسْلِيمِ، وَيَبْطُلُ أَيْضًا بِبَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا قَبْلَ قَبْضِهِ تَدَافَعَ مُوجِبُ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، فَإِنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ مِنْ ضَمَانِ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَمُوجِبُ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ التَّمْكِينِ مِنْ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِذَا تَلِفَ هَذَا الرَّهْنُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ، فَمِنْ ضَمَانِ أَيِّهِمَا يَكُونُ؟ قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ أَقْوَى مِنْ السُّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَالتَّدَافُعُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ التَّدَافُعِ فِي التَّعْلِيلِ الثَّانِي، وَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الضَّمَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ كَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا كَانَ، وَلَا يُزِيلُ هَذَا الضَّمَانَ إلَّا تَمَكُّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ فَهُوَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا كَانَ، وَحَبْسُهُ إيَّاهُ عَلَى ثَمَنِهِ لَا يُدْخِلُهُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَيَجْعَلُهُ مَقْبُوضًا لَهُ كَمَا لَوْ حَبَسَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ قَالَ: " إنَّهُ إذَا حَبَسَهُ عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ غَاصِبًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ فِي ضَمَانِهِ بَيْنَ أَنْ يَحْبِسَهُ بِشَرْطٍ أَوْ يَحْبِسَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَعِنْدَكُمْ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا جَعَلَهُ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ، وَالْغَاصِبُ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْعَيْنَ بِقِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا، ثُمَّ يَسْتَوْفِي الثَّمَنَ أَوْ بَقِيَّتَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إذَا تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ أَعَادَهُ إلَيْهِ، فَهَذَا الضَّمَانُ شَيْءٌ، وَضَمَانُ الْغَاصِبِ شَيْءٌ آخَرُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ رَهْنًا وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؟ قِيلَ: لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَهْنٌ، وَإِنَّمَا ضَمِنَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَبِيعًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مُشْتَرِيهِ مِنْ قَبْضِهِ، فَحَقُّ تَوْفِيَتِهِ بَعْدُ عَلَى بَائِعِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ حَبَسَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ؛ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا، وَهَذَا يَكُونُ فِي صُوَرٍ: إحْدَاهَا: أَنْ يَبِيعَهُ دَارًا لَهُ فِيهَا مَتَاعٌ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِيَةِ: أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْبَائِعُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَصْلِكُمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَبْضِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ هَلْ تَكُونُ مِنْ ضَمَانَةِ أَوْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؟ . الثَّالِثَةِ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ وَيَمْنَعَهُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ، قِيلَ: الضَّمَانُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ؟ قِيلَ: بَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ؛ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ. [الْمِثَالُ الرَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ] [إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ: إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِلتُّهْمَةِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَيُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَوَصْلِ صَاحِبِ الدَّيْنِ إلَى مَالِهِ؟ فَهَهُنَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَ بَاقِي الْوَرَثَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 بِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ عَلَى الْمَيِّتِ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا بَطَلَ؛ لِحَقِّهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِهِ لَزِمَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلَهُ وَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ يَثِقُ بِهِ يُقِرُّ لَهُ بِالْمَالِ فَيَدْفَعُهُ الْأَجْنَبِيُّ إلَى رَبِّهِ. فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلَهُ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلْعَةً بِقَدْرِ دَيْنِهِ، وَيُقِرُّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، أَوْ يَقْبِضُ مِنْهُ الثَّمَنَ بِمَحْضَرِ الشُّهُودِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ سِرًّا، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ لَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ فَلْيَجْعَلْ الثَّمَنَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَيَكُونُ أَمَانَةً فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِهِ، وَيَتَأَوَّلُ أَوْ يَدَّعِي رَدَّهُ إلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَ الْوَارِثُ شَيْئًا ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ مَوْرُوثِهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فَيَقْبِضَهُ وَيَصِيرَ مَالَهُ، ثُمَّ يَهَبَهُ الْمَوْرُوثَ لِأَجْنَبِيٍّ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَهَبَهُ الْأَجْنَبِيُّ لِلْوَارِثِ، فَإِذَا فُعِلَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ؛ لِيَصِلَ الْمَرِيضُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَالْوَارِثُ إلَى أَخْذِ دَيْنِهِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا. [الْمِثَالُ الْخَامِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ الْإِحَالَةُ بِالدَّيْنِ وَخَوْفُ هَلَاكِ الْمُحَالِ بِهِ] [الْإِحَالَةُ بِالدَّيْنِ وَخَوْفُ هَلَاكِ الْمُحَالِ بِهِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا أَحَالَهُ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ فَخَافَ أَنْ يَتْوَى مَالُهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُحَوِّلُ الْحَقَّ وَتَنْقُلُهُ، فَلَهُ ثَلَاثُ حِيَلٍ. إحْدَاهَا: أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَا أَحْتَالُ، وَلَكِنْ أَكُونُ وَكِيلًا لَك فِي قَبْضِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَإِنْ اسْتَنْفَقَهُ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ، وَلَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ نَظِيرُهُ فَيَتَقَاصَّانِ، فَإِنْ خَافَ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَكِيلُ ضَيَاعَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَيَعُودَ يُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ فَالْحِيلَةُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَهُ بِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ قَبْضُهُ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْحَقِّ أَوْ مِنْ جِهَتِهِ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا إبْرَاءً مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ حَتَّى يَتَوَصَّلَ إلَى إبْطَالِهِ، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ تَوَى الْمَالُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ؛ فَإِنَّ الْمُحْتَالَ إنَّمَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ بِهَا بِدُونِ الشَّرْطِ، كَمَا لَوْ قَبِلَ عَقْدَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الرَّهْنِ أَوْ الضَّمِينِ أَوْ التَّأْجِيلِ أَوْ الْخِيَارِ، أَوْ قَبِلَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِشَرْطِ الضَّمِينِ لِلْأُجْرَةِ أَوْ تَأْجِيلِهَا، أَوْ قَبِلَ عَقْدَ النِّكَاحِ بِشَرْطِ تَأْجِيلِ الصَّدَاقِ، أَوْ قَبِلَ عَقْدَ الضَّمَانِ بِشَرْطِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ الْحَالِّ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، أَوْ قَبِلَ عَقْدَ الْكَفَالَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 بِشَرْطِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَوْ قَبِلَ عَقْدَ الْحَوَالَةِ بِشَرْطِ مَلَاءَةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْجُورٍ، وَلَا مُمَاطِلٍ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تُحِلُّ حَرَامًا، وَلَا تُحَرِّمُ حَلَالًا، فَإِنَّهَا جَائِزٌ اشْتِرَاطُهَا لَازِمٌ الْوَفَاءُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ نَصًّا وَقِيَاسًا. وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْحَوَالَةِ، فَقَالُوا، وَاللَّفْظُ لِلْخَصَّافِ: يَجُوزُ أَنْ يَحْتَالَ الطَّالِبُ بِالْمَالِ عَلَى غَرِيمِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْغَرِيمَ إنْ لَمْ يُوَفِّ الطَّالِبَ هَذَا الْمَالَ إلَى كَذَا وَكَذَا فَالْمَطْلُوبُ ضَامِنٌ لِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَالِهِ، وَلِلطَّالِبِ أَخْذُهُ بِذَلِكَ، وَتَقَعُ الْحَوَالَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ وَفَّاهُ الْغَرِيمُ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي يَشْتَرِطُهُ، وَإِلَّا رَجَعَ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَأَخَذَهُ بِالْمَالِ، ثُمَّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ قَالَ: قُلْت: وَهَذَا جَائِزٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ طَالِبُ الْحَقِّ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ: اضْمَنْ لِي هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى غَرِيمِي، وَيَرْضَى مِنْهُ بِذَلِكَ بَدَلَ الْحَوَالَةِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ تَمَكَّنَ مِنْ مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْحِيَلِ، وَأَلْطَفِهَا. [الْمِثَالُ السَّادِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ حِيلَةٌ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ الْحَالِّ] [حِيلَةٌ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ الْحَالِّ] الْمِثَالُ السَّادِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ، فَاتَّفَقَا عَلَى تَأْجِيلِهِ، وَخَافَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا يَفِيَ لَهُ بِالتَّأْجِيلِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِهِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الدَّيْنِ الْحَالِّ، ثُمَّ يَعْقِدَهُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ عَنْ ضَمَانٍ أَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ أَوْ عَنْ دِيَةٍ، وَقَدْ حَلَّتْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِ التَّأْجِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً بِمِقْدَارِ هَذَا الدَّيْنِ، وَيُؤَجِّلَ عَلَيْهِ ثَمَنَهَا، ثُمَّ يَبِيعَهُ الْمَدِينُ تِلْكَ السِّلْعَةَ بِالدَّيْنِ الَّذِي أَجَّلَهُ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَيَبْرَأَ مِنْهُ، وَيَثْبُتَ فِي ذِمَّتِهِ نَظِيرُهُ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ خَافَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ لَا يَفِيَ لَهُ مَنْ عَلَيْهِ بِأَدَائِهِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ كَمَا أَجَّلَهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ حَلَّ نَجْمٌ، وَلَمْ يُؤَدِّهِ قِسْطَهُ فَجَمِيعُ الْمَالِ عَلَيْهِ حَالٌّ، فَإِذَا نَجَّمَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ جَازَ، وَتَمَكَّنَ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِهِ حَالًّا وَمُنَجَّمًا عِنْدَ مَنْ يَرَى لُزُومَ تَأْجِيلِ الْحَالِّ وَمَنْ لَا يَرَاهُ، أَمَّا مَنْ لَا يَرَاهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ يَرَاهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ؛ لِهَذَا الشَّرْطِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ السَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَصِيَّةُ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْبِرِّ] [وَصِيَّةُ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْبِرِّ] الْمِثَالُ السَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا أَرَادَ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا وَارِثَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ الشَّارِعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَكَانَ لَهُ وَرَثَةٌ، فَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ حَاكِمٌ لَا يَرَاهُ فَالْحِيلَةُ لَهُ أَنْ يُقِرَّ لِإِنْسَانٍ يَثِقُ بِدَيْنِهِ، وَأَمَانَتِهِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ يُوصِيهِ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ الْمَالَ أَنْ يَضَعَهُ فِي الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ، فَإِنْ خَافَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يُلْزَمَ بِيَمِينٍ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمَرِيضُ اشْتَرَى مِنْهُ الْمَرِيضُ عَرْضًا مِنْ الْعُرُوضِ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَيُسَلِّمُ الْعَرْضَ فَإِذَا حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ حَلَفَ بَارًّا، فَإِنْ خَافَ الْمَرِيضُ أَنْ يَصِحَّ فَيَأْخُذَهُ الْبَائِعُ بِثَمَنِ الْعَرْضِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ سَنَةً، فَإِنْ مَاتَ بَطَلَ الْخِيَارُ، وَإِنْ عَاشَ فَسَخَ الْعَقْدَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يُوقِفَهُ جَمِيعَهُ عَلَى قَوْمٍ يَسْتَغِلُّونَهُ، وَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ وَاقِفًا وَقَفَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يُعَيِّنُهَا، وَيُشْهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّ هَذَا الْعَقَارَ فِي يَدِهِ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ مِنْ وَاقِفٍ كَانَ ذَلِكَ الْعَقَارُ مِلْكًا لَهُ إلَى حِينِ الْوَقْفِ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّ وَاقِفًا مُعَيَّنًا وَقَفَهُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَجَعَلَهُ نَاظِرًا عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي يَدِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ الْحِيلَةُ إذَا كَانَ لَهُ بِنْتٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ وَارِثٌ بِالْفَرْضِ لَا يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ، وَلَا عَصَبَةَ لَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ السُّلْطَانُ فَلَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْمَخَارِجِ: مِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ الْوَارِثُ تِلْكَ الْأَعْيَانَ، وَيُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى قَبْضِهِ بِأَنْ يُحْضِرَ الْوَارِثُ مَالًا يَقْبِضُهُ إيَّاهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ سِرًّا، فَهُوَ أَوْلَى، وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ سِلْعَةً بِمِقْدَارِ التَّرِكَةِ مِنْ الثَّمَنِ وَيُشْهِدَ عَلَى الشِّرَاءِ، ثُمَّ يُعِيدَ إلَيْهِ تِلْكَ السِّلْعَةَ، وَيَرْهَنَهُ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَى الثَّمَنِ، فَإِذَا أَرَادَ السُّلْطَانُ مُشَارَكَتَهُ قَالَ: وَفُّونِي حَقِّي، وَخُذُوا مَا فَضَلَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ يَثِقُ بِهِ، وَيُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، أَوْ يَقْبِضَهُ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ يَأْذَنَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي تَمْلِيكِهِ لِلْوَارِثِ أَوْ وَقْفِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يُقِرَّ لِأَجْنَبِيٍّ يَثِقُ بِهِ بِمَا يُرِيدُ، ثُمَّ يَأْمُرَهُ بِدَفْعِ ذَلِكَ إلَى الْوَارِثِ. وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ، وَأَمْثَالِهَا أَمْرَانِ مَخُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ فَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ قَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُسَلِّمُهُ إلَى الْوَارِثِ، فَلَا خَلَاصَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِوَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ إقْرَارَ الْأَجْنَبِيِّ، وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ فِي مَكْتُوبٍ ثَانٍ أَنَّهُ مَتَى ادَّعَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ وَارِثِهِ هَذَا الْمَالَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ كَانَتْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً. وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً فَهِيَ بَيِّنَةُ زُورٍ، وَأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَلَا وَارِثَهُ بِوَجْهٍ مَا، وَيُمْسِكَ الْكِتَابَ عِنْدَهُ، فَيَأْمَنُ هُوَ وَالْوَارِثُ ادِّعَاءَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الثَّامِنُ بَعْدَ الْمِائَةِ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَتَوَارِي الْمَدِينِ] [اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَتَوَارِي الْمَدِينِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ بَعْدَ الْمِائَةِ: رَجُلٌ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيُوَكِّلُ وَكِيلًا فِي اقْتِضَاءِ دُيُونِهِ، ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْ غَرِيمِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ اقْتِضَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ الْغَرِيمُ مِمَّنْ لَهُ الدَّيْنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 عَلَى هَذَا الرَّجُلِ حِيلَةً يَقْتَضِي بِهَا دَيْنَهُ مِنْهُ، وَلَا يَضُرُّهُ تَوَارِي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَقُولَ لَهُ: وَكَّلْتُك بِقَبْضِ مَالِي عَلَى فُلَانٍ وَبِالْخُصُومَةِ فِيهِ، وَوَكَّلْتُك أَنْ تَجْعَلَ مَالَهُ عَلَيْك قِصَاصًا بِمَالِي عَلَيْهِ، وَأَجَزْت أَمْرَك فِي ذَلِكَ، وَمَا عَمِلْت فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَيَقْبَلُ الْوَكِيلُ، وَيُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ شُهُودًا، ثُمَّ يُشْهِدُهُمْ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ الَّتِي لِفُلَانٍ عَلَيْهِ قِصَاصًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لِمُوَكِّلِهِ عَلَى فُلَانٍ، فَيَصِيرُ الْأَلْفُ قِصَاصًا، وَيَتَحَوَّلُ مَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْمُتَوَارِي عَلَى هَذَا الْوَكِيلِ لِلرَّجُلِ الَّذِي وَكَّلَهُ. وَهَذِهِ الْحِيلَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَامَ الْوَكِيلَ مَقَامَ نَفْسِهِ، وَالْوَكِيلُ يَقُولُ: مُطَالَبَتِي لَك بِهَذَا الدَّيْنِ كَمُطَالَبَةِ مُوَكَّلِي بِهِ، فَأَنَا أُطَالِبُك بِأَلْفٍ، وَأَنْتَ تُطَالِبُنِي بِهِ، فَاجْعَلْ الْأَلْفَ الَّذِي تُطَالِبُنِي بِهِ عِوَضًا عَنْ الْأَلْفِ الَّذِي أُطَالِبُك بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ لِي لَحَصَلَتْ الْمُقَاصَّةُ، إذْ لَا مَعْنَى لِقَبْضِك لِلْأَلْفِ مِنِّي أَمْ أَدَائِهَا إلَيَّ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا طَالَبْتُك بِهَا لِمُوَكِّلِي؛ أَنَا أَسْتَحِقُّ عَلَيْك أَنْ تَدْفَعَ إلَيَّ الْأَلْفَ، وَأَنْتَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ أَنْ أَدْفَعَ إلَيْك أَلْفًا، فَنَتَقَاصُّ فِي الْأَلْفَيْنِ. [الْمِثَالُ التَّاسِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ إثْبَاتُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ] [إثْبَاتُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ: رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، فَغَابَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ، فَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُثْبِتَ مَالَهُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَحْكُمَ لَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَائِبٌ، فَلْيَرْفَعْهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ حَكَمُ الْبَلَدِ لَا يَرَى الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَجِيءَ رَجُلٌ فَيَضْمَنَ لِهَذَا الَّذِي لَهُ الْمَالُ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى الرَّجُلِ الْغَائِبِ، وَيُسَمِّيَهُ وَيَنْسُبَهُ، وَلَا يَذْكُرَ مَبْلَغَ الْمَالِ، بَلْ يَقُولُ: ضَمِنْت لَهُ جَمِيعَ مَا صَحَّ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَدِّمَهُ إلَى الْقَاضِي، فَيُقِرُّ الضَّامِنُ بِالضَّمَانِ، وَيَقُولُ: لَا أَعْرِفُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ شَيْئًا. فَيَسْأَلُ الْقَاضِي الْمَضْمُونَ لَهُ: هَلْ لَك بَيِّنَةٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَأْمُرُهُ بِإِقَامَتِهَا، فَإِذَا شَهِدَتْ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى الْغَائِبِ، وَحَكَمَ عَلَى الضَّمِينِ بِالْمَالِ، وَيَجْعَلُهُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ مَا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَى الضَّامِنِ بِثُبُوتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ حَتَّى يَحْكُمَ عَلَى الْغَائِبِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالضَّامِنُ فَرْعُهُ، وَثُبُوتُ الْفَرْعِ بِدُونِ أَصْلِهِ مُمْتَنِعٌ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ إذَا اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِحَاضِرٍ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ كَوَكِيلِ الْغَائِبِ، وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ غَائِبٍ مَا فِيهِ شُفْعَةٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَبِالشُّفْعَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَكَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ ادَّعَتْ زَوْجَةُ غَائِبٍ أَنَّ لَهُ عِنْدَ فُلَانٍ وَدِيعَةً، فَإِنَّهُ يُفْرَضُ لَهَا مِمَّا فِي يَدَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 [الْمِثَالُ الْعَاشِرُ بَعْدَ الْمِائَةِ انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ] انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ] الْمِثَالُ الْعَاشِرُ بَعْدَ الْمِائَةِ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ إلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَانَ إبَاحَةً أَوْ عَارِيَّةً لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ، وَيَقْضِي لَهُ بِالْأُجْرَةِ مِنْ حِينِ الرُّجُوعِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَالْحِيلَةُ فِي انْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ آمِنًا مِنْ الرُّجُوعِ وَمِنْ الْأُجْرَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ مِنْهُ لِلْمُدَّةِ الَّتِي يُرِيدُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِيهَا، ثُمَّ يُبْرِئَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ، أَوْ يُقِرَّ بِقَبْضِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى عَقْدِ الرَّهْنِ، وَلَا يُبْطِلَهُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ مَا اسْتَأْجَرَهُ، فَيَرُدَّ كُلٌّ مِنْ الْعَقْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَحَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فِيهِمَا، إلَّا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَرْهُونِ مَعَ الْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنُ بِحَالِهِ. [الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ اسْتِيثَاقُ كُلٍّ مِنْ الرَّاهِنِ وَالدَّائِنِ بِمَالِهِ] [اسْتِيثَاقُ كُلٍّ مِنْ الرَّاهِنِ وَالدَّائِنِ بِمَالِهِ] الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ، وَبِالْمَالِ رَهْنٌ، فَادَّعَى صَاحِبُ الرَّهْنِ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَخَافَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُقِرَّ بِالرَّهْنِ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ: قَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ لِي رَهْنًا فِي يَدِك، وَادَّعَيْت الدَّيْنَ، فَيَنْزِعُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يُقِرُّ لَهُ بِالدَّيْنِ، فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ حِيلَةً تُحْرِزُ حَقَّهُ، وَهِيَ أَنْ لَا يُقِرَّ بِهِ حَتَّى يُقِرَّ لَهُ صَاحِبُهُ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ، وَسَأَلَ إحْلَافَهُ أَنْكَرَ وَحَلَفَ، وَعَرَّضَ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَنْوِيَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ أَوْ إذَا بَاعَهُ، أَوْ لَيْسَ لَهُ عَارِيًّا عَنْ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يُفَصِّلَ فِي جَوَابِ الدَّعْوَى فَيَقُولَ: إنْ ادَّعَيْتَهُ رَهْنًا فِي يَدِي عَلَى أَلْفٍ لِي عَلَيْك فَأَنَا مُقِرٌّ بِهِ، وَإِنْ ادَّعَيْتَهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا أُقِرُّ لَك، وَيَنْفَعُهُ هَذَا الْجَوَابُ، كَمَا قَالُوا فِيمَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا، فَقَالَ: إنْ ادَّعَيْتهَا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ أَقْبِضْهُ مِنْك فَأَنَا مُقِرٌّ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا مِثْلُهُ سَوَاءٌ. فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ هُوَ الْمُدَّعِيَ لِلْمَالِ فَخَافَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ فَيَجْحَدَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَيَلْزَمَ الرَّاهِنَ الْمَالُ، وَيَذْهَبُ رَهْنُهُ، فَالْحِيلَةُ فِي أَمْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إنْ ادَّعَيْت هَذَا الْمَالَ، وَأَنَّك تَسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ رَهْنٍ لِي عِنْدَك فَلَا أُقِرُّ بِهِ، وَإِنْ ادَّعَيْتَهُ مَعَ كَوْنِي رَهَنْتُك بِهِ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا مُقِرٌّ بِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: الْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ فَيَقُولَ: لَك عَلَيَّ دِرْهَمٌ، وَلِي عِنْدَك رَهْنُ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعِيَ عَنْ الرَّهْنِ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَلْيُقِرَّ لَهُ خَصْمُهُ بِبَاقِي دَيْنِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ وَسِعَ الْآخَرَ أَنْ يَجْحَدَ بَاقِي الدَّيْنِ وَيَحْلِفَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ الرَّهْنُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ مِنْ حَقِّهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرَّهْنَ إنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ سَقَطَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِيهِ صَارَتْ قِيمَتُهُ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُمْ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، وَالثَّانِي: جَوَازُ الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ. [الْمِثَالُ الثَّانِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ حِيلَةٌ فِي إبْرَارِ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ] [حِيلَةٌ فِي إبْرَارِ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ] الْمِثَالُ الثَّانِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ " إنْ لَمْ أَطَأَكِ اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " فَقَالَتْ " إنْ وَطِئَتْنِي اللَّيْلَةَ فَأَمَتِي حُرَّةٌ " فَالْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَبِيعَهُ الْجَارِيَةَ فَإِذَا وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُعْتَقْ؟ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهَا ثُمَّ تَسْتَرِدَّهَا. فَإِنْ خَافَتْ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى عَلَى الرَّجُلِ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا مِنْ امْرَأَتِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. فَالْحِيلَةُ أَنْ تَشْتَرِيَهَا مِنْهُ عَقِيبَ الْوَطْءِ فَإِنْ خَافَتْ أَنْ لَا يَرُدَّ إلَيْهَا الْجَارِيَةَ وَيُقِيمَ عَلَى مِلْكِهَا فَلَا تَصِلُ إلَيْهَا، فَالْحِيلَةُ لَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْجَارِيَةَ إلَيْهَا عَقِيبَ الْوَطْءِ فَهِيَ حُرَّةٌ. فَإِنْ خَافَتْ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِغَيْرِهِ تَلْجِئَةً فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ عِتْقِهَا، فَالْحِيلَةُ لَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهَا عَقِيبَ الْوَطْءِ فَهِيَ طَالِقٌ، فَهُنَا تَضِيقُ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِهَا، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مُفَارَقَةِ إحْدَاهُمَا. [الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ حِيلَةٌ فِي الْمُخَالَفَةِ عَلَى نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا قَبْلَ وُجُوبِهِمَا] [حِيلَةٌ فِي الْمُخَالَفَةِ عَلَى نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا قَبْلَ وُجُوبِهِمَا] الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ الْحَامِلَ عَلَى سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا جَازَ ذَلِكَ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا، هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْخُلْعُ، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ، وَقَدْ خَالَعَهَا بِمَعْدُومٍ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عِوَضِ شَيْءٍ يُتْلِفُهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَتَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ السُّكْنَى، قَالُوا: لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا، وَقَدْ أَسْقَطَتْهُ، وَالسُّكْنَى حَقُّ الشَّارِعِ فَلَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهَا، فَيَلْزَمُ إسْكَانُهَا. قَالُوا: فَالْحِيلَةُ عَلَى سُقُوطِ الْأُجْرَةِ عَنْهُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ السُّكْنَى، وَأَنَّ مُؤْنَتَهَا تَلْزَمُ الْمَرْأَةَ فِي مَالِهَا، وَتَجِبُ أُجْرَةُ الْمَسْكَنِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْخُلْعِ بَرَاءَةَ الزَّوْجِ عَنْ النَّفَقَةِ صَحَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ إذَا شُرِطَ فِي الْخُلْعِ كَانَ إبْرَاءً بِعِوَضٍ، فَالْإِبْرَاءُ بِعِوَضٍ اسْتِيفَاءٌ لِمَا وَقَعَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ قَائِمٌ مَقَامَ مَا وَقَعَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَجُوزُ قَبْلَ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَسَلَّفَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ جُمْلَةً، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي غَيْرِ خُلْعٍ قَبْلَ ثُبُوتِهَا فَهُوَ إسْقَاطٌ لِمَا لَمْ يَجِبْ فَلَا يَسْقُطُ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنْ الْقَسْمِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ مَتَى شَاءَتْ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ " وَقِيلَ: إنْ أَوْجَبْنَا نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ صَحَّ، وَإِلَّا فَهُوَ خُلْعٌ بِمَعْدُومٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ " يَعْنِي إنْ قُلْنَا: إنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ، وَإِنَّ النَّفَقَةَ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، وَإِنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ خُلْعًا بِشَيْءٍ ثَابِتٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ فَقَدْ زَالَ التَّمْكِينُ بِالْخُلْعِ، وَصَارَتْ النَّفَقَةُ نَفَقَةَ قَرِيبٍ، فَالْخُلْعُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ حِينَئِذٍ خُلْعٌ بِمَعْدُومٍ، هَذَا أَقْرَبُ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ كَلَامُهُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ حِيلَةٌ فِي التَّحْلِيلِ مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الثَّلَاثِ] [لِلتَّحْلِيلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ] الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ بِالْمَرْأَةِ، وَكَانَ دِينُهَا وَدِينُ وَلِيِّهَا وَزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ أَعَزَّ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلَعْنَةِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ بِالتَّحْلِيلِ الَّذِي لَا يُحِلُّهَا، وَلَا يُطَيِّبُهَا بَلْ يَزِيدُهَا خُبْثًا فَلَوْ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْ مَالِهَا ثَمَنَ مَمْلُوكٍ فَوَهَبَتْهُ لِبَعْضِ مَنْ تَثِقُ بِهِ فَاشْتَرَى بِهِ مَمْلُوكًا ثُمَّ خَطَبَهَا عَلَى مَمْلُوكِهِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ فَدَخَلَ بِهَا الْمَمْلُوكُ ثُمَّ وَهَبَهَا إيَّاهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ مَشْرُوطٌ، وَلَا مَنْوِيٌّ مِمَّنْ تُؤَثِّرُ نِيَّتُهُ وَشَرْطُهُ، وَهُوَ الزَّوْجُ؛ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِنِيَّةِ الزَّوْجَةِ، وَلَا الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِنِيَّةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ مُحَلِّلًا فَيَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِهَذَا النِّكَاحِ الْبَاطِلِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ الثَّانِي، وَلَا الْأَوَّلُ بِمَا فِي قَلْبِ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا مِنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ شَيْئًا. وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ رُجُوعِهَا إلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَانِعَ عَدَمَ وَطْءِ الثَّانِي فَقَالَ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» . وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ ذَلِكَ يُحِلُّهَا، فَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مَمْلُوكٌ وَوَطِئَهَا أَحَلَّهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا. قُلْت: هَذِهِ الصُّورَةُ غَيْرُ الصُّورَةِ الَّتِي مَنَعَ مِنْهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ حِلِّهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ قَدْ اشْتَرَى الْعَبْدَ وَزَوَّجَهُ بِهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا لِيُحِلَّهَا، فَهَذِهِ حِيلَةٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَلَا لِلثَّانِي فِيهَا نِيَّةٌ، وَمَعَ هَذَا فَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ حِيلَةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 [الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْإِبْرَارُ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ] الْإِبْرَارُ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ] الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك الْيَوْمَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْتُ مِنْكِ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يُجَامِعُهَا، فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " اغْتَسَلْت " الْمُجَامَعَةَ. وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَطَأَكِ فِي رَمَضَانَ، فَسَافَرَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ وَطِئَهَا، فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ، وَلَا يُعْجِبُنِي الْحِيلَةُ فِي هَذَا، وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَقْصُودًا مُبَاحًا، وَهَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ حِلِّ الْيَمِينِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَيُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ مُبَاحٌ؛ لِقَصْدٍ صَحِيحٍ، وَإِرَادَةِ حِلِّ يَمِينِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ أَبَحْنَا لِمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ قَصِيرَةٌ لَا يَقْصِرُ فِيهَا وَبَعِيدَةٌ أَنْ يَسْلُكَ الْبَعِيدَةَ؛ لِيُقْصِرَ فِيهَا الصَّلَاةَ وَيُفْطِرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ سِوَى التَّرَخُّصِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. قُلْت: وَيُؤَيِّدُ اخْتِيَارَ الشَّيْخِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ أَنْبَأَ الْأَزْهَرِيُّ أَنْبَأَ سُهَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَثُ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ثنا أُبَيٌّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي رَجُلٍ حَلَفَ فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ يَطَأْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا، قَالَ: يُسَافِرُ ثُمَّ يُجَامِعُهَا نَهَارًا. [الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْمَخَارِجُ مِنْ التَّحْلِيلِ فِي الطَّلَاقِ] [الْمَخَارِجُ مِنْ التَّحْلِيلِ فِي الطَّلَاقِ] الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ: فِي الْمَخَارِجِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَاعِلَهُ وَالْمُطَلِّقَ الْمُحَلَّلَ لَهُ، فَأَيُّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ خَرَجَ بِهِ مِنْ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَعْذَرَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ارْتِكَابِهِ لِمَا يُلْعَنُ عَلَيْهِ، وَمَبَاءَتِهِ بِاللَّعْنَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَخَارِجَ الَّتِي نَذْكُرُهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ، بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ، أَوْ أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ، أَوْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ، أَوْ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْ إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ أَتْبَاعِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تَخْرُجُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الَّتِي نَذْكُرُهَا عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ذَلِكَ، فَلَا يَكَادُ يُوصَلُ إلَى التَّحْلِيلِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ جَمِيعِهَا إلَّا فِي أَنْدَرِ النَّادِرِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ، وَنَصَحَ نَفْسَهُ وَنَصَحَ عِبَادَهُ أَنَّ أَيًّا مِنْهَا ارْتَكَبَ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ. [الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ زَائِلَ الْعَقْلِ] الْمَخْرَجُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ أَوْ الْحَالِفُ زَائِلَ الْعَقْلِ إمَّا بِجُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ شُرْبِ مُسْكِرٍ يُعْذَرُ بِهِ أَوْ لَا يُعْذَرُ أَوْ وَسْوَسَةٌ، وَهَذَا الْمُخَلِّصُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إلَّا فِي شُرْبِ مُسْكِرٍ لَا يُعْذَرُ بِهِ، فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. [طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ] قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشَّكِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَتَلَا الشَّعْبِيُّ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ، «، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ» وَقَالَ «عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفِيَّ فَطَفِقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ» . قَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ، وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، هَذَا لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، ثُمَّ سَاقَ بَقِيَّةَ الْبَابِ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ خَالَفَ عُثْمَانَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُفْتِي بِنُفُوذِ طَلَاقِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الشَّافِي وَالزَّادِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: قَدْ كُنْت أَقُولُ بِأَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَجُوزُ، حَتَّى تَبَيَّنْتَهُ، فَغَلَبَ عَلَيَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ بَاعَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ. قَالَ: وَأُلْزِمُهُ الْجِنَايَةَ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبِهَذَا أَقُولُ، وَفِي مَسَائِلِ الْمَيْمُونِيِّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلَاقِ السَّكْرَانِ، فَقَالَ: أَكْثَرُ مَا عِنْدِي فِيهِ أَنَّهُ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، قُلْت: أَلَيْسَ كُنْت مَرَّةً تَخَافُ أَنْ يَلْزَمَهُ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أَكْثَرُ مَا عِنْدِي فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، قُلْت: السُّكْرُ شَيْءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ، قَالَ: قَدْ يَشْرَبُ رَجُلٌ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ، قُلْت: فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِقْرَارُهُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَرْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ " لَيْسَ لِمَجْنُونٍ، وَلَا سَكْرَانَ طَلَاقٌ ". وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَاَلَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ قَدْ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَأَحَلَّهَا لِغَيْرِهِ، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَأَنَا اتَّقِي جَمِيعَهَا. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ نُفُوذِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ. وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَهُمَا. وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَنَصَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْ الظِّهَارِ قَوْلًا إلَى الطَّلَاقِ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ حُكْمَ النَّصَّيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بِطَائِلٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِأَقْوَالِهِ مِنْ طَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقٍ، وَلَا بَيْعٍ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا وَقْفٍ، وَلَا إسْلَامٍ، وَلَا رِدَّةٍ، وَلَا إقْرَارٍ؛ لِبِضْعَةِ عَشَرَ دَلِيلًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا، وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَدَمُ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةَ بِتَجْدِيدِ إسْلَامِهِ لَمَّا قَالَ فِي سُكْرِهِ " أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِآبَائِي " وَفَتْوَى عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمَحْضُ عَلَى زَائِلِ الْعَقْلِ بِدَوَاءٍ أَوْ بَنْجٍ أَوْ مُسْكِرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا قَصْدَ لَهُ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ اللَّاغِي، وَمَنْ جَرَى اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَعْتُوهِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ، وَلَا يَشْتُمُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَجْنُونُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الثَّانِي وَيَشْتَمِلُ عَلَى الْقَوْلِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ] الْمَخْرَجُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَحْلِفَ فِي حَالِ غَضَبٍ شَدِيدٍ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَمَالِ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ؛ فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَا عِتْقُهُ، وَلَا وَقْفُهُ، وَلَوْ بَدَرَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكْفُرْ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْغَلْقِ وَالْإِغْلَاقِ الَّذِي مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِيهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ زَادِ الْمُسَافِرِ لَهُ: بَابٌ فِي الْإِغْلَاقِ فِي الطَّلَاقِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: وَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا طَلَاقَ، وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ» يَعْنِي الْغَضَبَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَالْإِغْلَاقُ أَظُنُّهُ الْغَضَبَ. وَقَسَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ الْغَضَبَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ كَالسُّكْرِ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مَعَهُ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ. وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي مَبَادِئِهِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَصَوُّرِ مَا يَقُولُ وَقَصْدُهُ، فَهَذَا يَقَعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ. وَقِسْمٌ يَشْتَدُّ بِصَاحِبِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ زَوَالَ عَقْلِهِ، بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّثَبُّتِ وَالتَّرَوِّي وَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالِ اعْتِدَالِهِ، فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَلْقَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ انْغَلَقَ عَلَيْهِ طَرِيقُ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ كَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمُكْرَهِ وَالْغَضْبَانِ، فَحَالُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ حَالُ إغْلَاقٍ، وَالطَّلَاقُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ وَطَرٍ؛ فَيَكُونُ عَنْ قَصْدِ الْمُطَلِّقِ وَتَصَوُّرٍ لِمَا يَقْصِدُهُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ": أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، أَوْ خَرَجْت مِنْ بَيْتِي بِغَيْرِ إذْنِي، ثُمَّ بَدَا لِي فَتَرَكْت الْيَمِينَ، وَلَمْ أُرِدْ التَّنْجِيزَ فِي الْحَالِ، إنَّهُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّنْجِيزَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْيَمِينَ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ " أَنْتِ طَاهِرٌ " فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لَا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَقَعُ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ عُمَارَةَ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ غَلِطَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَلَطٌ، ثنا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ فَغَلِطَ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الثَّالِثُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الْقَوْلِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ] الْمَخْرَجُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ الْحَلِفِ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِكْرَاهِ وَشُرُوطِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: يَمِينُ الْمُسْتَكْرَهِ إذَا ضُرِبَ. ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُرِيَاهُ شَيْئًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا طَلَّقَ الْمُكْرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، فَإِذَا فَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِثَابِتِ بْنِ الْأَحْنَفِ فَهُوَ مُكْرَهٌ؛ لِأَنَّ ثَابِتًا عَصَرُوا رِجْلَهُ حَتَّى طَلَّقَ، فَأَتَى ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَرَيَا ذَلِكَ شَيْئًا، وَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ، فَلَمَّا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عَنْ الْقَوْلِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ عَنْ النَّاسِ سَقَطَ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي» وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا تُوَسْوِسُ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ» . زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: «وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَا طَلَاقَ لِمُكْرَهٍ، وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ وَابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَجُزْ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ طَلَاقَهُ غَيْرَ جَائِزٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَلَا الْمُضْطَهَدِ طَلَاقٌ. وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى أَهْل الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَا لَا يَرَيَانِ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا، ثنا وَكِيعٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا. قُلْت: قَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى يَشْتَارُ عَسَلًا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَوَقَفَتْ عَلَى الْحَبْلِ، فَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّهُ أَوْ لِتُطَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ، فَأَبَتْ إلَّا ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فَلَمَّا ظَهَرَ أَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهَا إلَيْهِ وَمِنْهُ إلَيْهَا، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى أَهْلِك فَلَيْسَ هَذَا بِطَلَاقٍ، تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بِهَذَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَرَفَعَ إلَى عُمَرَ فَأَبَانَهَا مِنْهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ خِلَافُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَنْفِيذُ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ سِوَى هَذَا الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ إبَانَتُهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْوُقُوعِ، بَلْ لَعَلَّهُ رَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُمَا لَا يَتَصَافَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَلْزَمَهُ بِإِبَانَتِهَا. وَلَكِنَّ الشَّعْبِيَّ وَشُرَيْحًا وَإِبْرَاهِيمَ يُجِيزُونَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ: لَوْ وَضَعَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِهِ ثُمَّ طَلَّقَ لَأَجَزْتُ طَلَاقَهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: قَالَ ابْنُ شَيْبَةَ: ثنا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ الْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَقَالَ: إذَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ جَازَ، وَإِذَا أَكْرَهَهُ اللُّصُوصُ لَمْ يَجُزْ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ غَوْرٌ وَفِقْهٌ دَقِيقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. فَصْلٌ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُكْرَهِ يَظُنُّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ فَيَنْوِيهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَمَنْ أَلْزَمَهُ رَأَى أَنَّ النِّيَّةَ قَدْ قَارَنَتْ اللَّفْظَ، وَهُوَ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى النِّيَّةِ، فَقَدْ أَتَى بِالطَّلَاقِ الْمَنْوِيِّ اخْتِيَارًا فَلَزِمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بِهِ رَأَى أَنَّ لَفْظَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، وَهِيَ لَا تَسْتَقِلُّ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. فَصْلٌ: وَاخْتُلِفَ فِي مَا لَوْ أَمْكَنَهُ التَّوْرِيَةُ فَلَمْ يُوَرِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ تَرَكَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ التَّوْرِيَةَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، مَعَ أَنَّ التَّوْرِيَةَ هُنَاكَ أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِمَعْنَاهُ، وَلَا مُرِيدٍ لِمُوجِبِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِدَاءً لِنَفْسِهِ مِنْ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ، فَصَارَ تَكَلُّمُهُ بِاللَّفْظِ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَمَنْ لَا قَصْدَ لَهُ، سَوَاءٌ وَرَّى أَوْ لَمْ يُوَرِّ. وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ التَّوْرِيَةِ إبْطَالٌ لِرُخْصَةِ التَّكَلُّمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَرُجُوعٌ إلَى الْقَوْلِ بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَرَّى بِغَيْرِ إكْرَاهٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَالتَّأْثِيرُ إذًا إنَّمَا هُوَ لِلتَّوْرِيَةِ لَا لِلْإِكْرَاهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُوَرِّيَ إنَّمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ مَعَ قَصْدِهِ لِلتَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْإِكْرَاهِ، فَالْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ مِنْ النُّفُوذِ فِي التَّوْرِيَةِ هُوَ الَّذِي مَنَعَ النُّفُوذَ فِي الْإِكْرَاهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 [فَصْلٌ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الرَّابِعُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ] الْمَخْرَجُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي يَمِينِهِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ وَالْحَلِفِ، فَإِذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ " نَفَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْضِعِ [الَّذِي] يُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ اتِّصَالَهُ بِالْكَلَامِ فَقَطْ، سَوَاءٌ نَوَاهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ كَلَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ عَقَدَ الْيَمِينَ ثُمَّ عَنَّ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ عَنَّ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَثْنَاءِ الْيَمِينِ فَوَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ، وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ عَقْدِ الْيَمِينِ صَحَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى كَذَا وَكَذَا امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَهَا لَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ. وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثُمَّ سَكَتَ قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَغْزُهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا [أَلْبَتَّةَ] فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَنَفْعِهِ أَنْ يَنْوِيَهُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْيَمِينِ، وَلَا قَبْلَهَا، بَلْ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ " لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا "، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى نَفْعِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ النِّسْيَانِ أَظْهَرُ دَلَالَةً. وَمَنْ شَرَطَ النِّيَّةَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النِّسْيَانِ عِنْدَهُ تَأْثِيرٌ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ،، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَجْزَائِهِ، وَأَبْعَاضِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ مَا يَرْفَعُ بَعْضَهَا، وَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي حَالِ تَكَلُّمِهِ بِهَا، فَيَقُولُ: لِزَيْدٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ فِي الْحَالِ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْهَا مِائَةً فَيَقُولُ: إلَّا مِائَةً، فَلَوْ اشْتَرَطَ نِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَتَعَذَّرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ ذَلِكَ وَأُلْجِئَ إلَى الْإِقْرَارِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ وَالْكَذِبِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِخْبَارِ فَمِثْلُهُ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيُعَلِّقُ الْيَمِينَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَدْ يَذْهَلُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ عَنْ قَصْدِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ يَشْغَلُهُ شَاغِلٌ عَنْ نِيَّتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَكُونَ نَاوِيًا لَهُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينِهِ لَفَاتَ مَقْصُودُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَحَصَلَ الْحَرَجُ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأُمَّةِ بِهِ، وَلَمَّا قَالَ لِرَسُولِهِ إذَا نَسِيَهُ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وَهَذَا مُتَنَاوِلٌ لِذِكْرِهِ إذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ قَطْعًا، فَإِنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ وَتَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّهُ مُرَادٌ قَطْعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ إنْ طَرَدَهُ لَزِمَهُ أَلَّا يَصِحَّ مُخَصِّصٌ مِنْ صِفَةٍ أَوْ بَدَلٍ أَوْ غَايَةٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ بِإِلَّا وَنَحْوِهَا حَتَّى يَنْوِيَهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ فَإِذَا قَالَ ": لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ إلَى سَنَةٍ " هَلْ يَقُولُ عَالِمٌ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهَا بِالتَّأْجِيلِ حَتَّى يَكُونَ مَنْوِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ؟ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ " بِعْتُك هَذَا بِعَشَرَةٍ " فَقَالَ " اشْتَرَيْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ، بَلْ عَنَّ لَهُ الِاشْتِرَاطُ عَقِيبَ الْقَبُولِ. وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ ": وَقَفْت دَارِي عَلَى أَوْلَادِي أَوْ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ مُسْلِمِينَ، أَوْ مُتَأَهِّلِينَ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِلْبَاقِينَ " صَحَّ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَّ لَهُ ذِكْرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ بَعْدَ تَلَفُّظِهِ بِالْوَقْفِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: لَا تُقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَاهَا قَبْلَ الْوَقْفِ أَوْ مَعَهُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ قَطُّ سُؤَالُ الْوَاقِفِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ " لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً " فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَنْفَعُهُ، وَلَا يَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ كُنْت نَوَيْت الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِك لَزِمَك تِسْعُونَ، وَإِنْ كُنْت إنَّمَا نَوَيْتَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَك مِائَةٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَالُ لَبَيَّنَ لَهُ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، وَلَسَاغَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ بَلْ يُحَلِّفُهُ أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ قَبْلَ الْفَرَاغِ إذَا طَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ بَاعَهُ أَرْضًا فَقَالَ: نَعَمْ بِعْتُهُ هَذِهِ الْأَرْضَ إلَّا هَذِهِ الْبُقْعَةَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بَيْعَ الْأَرْضِ جَمِيعِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى اسْتِثْنَاءَ الْبُقْعَةِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَكَّةَ: إنَّهُ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إلَّا الْإِذْخِرَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: إلَّا الْإِذْخِرَ» وَقَالَ فِي أَسْرَى بَدْرٍ: «لَا يَنْفَلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: إلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَقَالَ: إلَّا سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ.» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ، بَلْ اسْتَثْنَاهُ لَمَّا ذُكِّرَ بِهِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِهِ الْمِلْكُ نَفَعَهُ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وَشُبْهَةُ مَنْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ مُوجَبُ كَلَامِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مَنْعُ رَفْعِهِ، وَلَا رَفْعِ بَعْضِهِ بَعْدَ لُزُومِهِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ لَوْ صَحَّتْ لَمَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي طَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقٍ، وَلَا إقْرَارٍ أَلْبَتَّةَ، نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ مُوجِبُ كَلَامِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ رَفْعُهُ، وَلَا رَفْعُ بَعْضِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ طَرَدَ هَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ؛ تَوَهُّمًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَجَوَابُهَا: أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مُوجِبُ كَلَامِهِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا وَصَلَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَا دُونَهُ فَإِنَّ مُوجِبَ كَلَامِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ وَتَمَامُهُ، مِنْ تَقْيِيدٍ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ، أَوْ بَدَلٍ أَوْ غَايَةٍ، فَتَكْلِيفُهُ نِيَّةَ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَإِلْغَاؤُهُ إنْ لَمْ يَنْوِهِ أَوَّلًا تَكْلِيفُ مَا لَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ هَلْ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ] فَصْلٌ: وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إيقَاعِهِمَا، وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا، وَلَا الظِّهَارُ، وَلَا الْحَلِفُ بِهِ، وَلَا النَّذْرُ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيْمَانِ، إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا اسْتَثْنَى فِي الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ الْجَوَابِ، وَقَدْ قَطَعَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ إذَا قَالَ ": أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " لَمْ تَطْلُقْ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ": الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ لَهُ ثُنْيَا فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَوْلُهُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " قَدْ شَاءَ اللَّهُ الطَّلَاقَ حِينَ أَذِنَ فِيهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. قَالَ حَنْبَلٌ: لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ: وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْوُقُوعُ، وَعَدَمُهُ، وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ " أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ أَتَزَوَّجُ بِك إنْ شَاءَ اللَّهُ " ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ " أَنْتِ حُرَّةٌ يَوْمَ أَشْتَرِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ " صَارَتْ حُرَّةً، فَلَعَلَّ أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَلَا تَطْلُقُ "، وَأَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَتُعْتَقُ اسْتَنَدَ إلَى هَذَا النَّصِّ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِ عَلَى أَحْمَدَ، بَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 هَذَا تَفْرِيقٌ مِنْهُ بَيْنَ صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ عَلَى الْمِلْكِ وَعَدَمِ صِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ، وَهَذَا قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِ، وَالْفَرْقُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ شُرِعَ سَبَبًا؛ لِحُصُولِ الْعِتْقِ كَمِلْكِ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ يُعْقَدُ الْبَيْعُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِتْقِ اخْتِيَارًا كَشِرَاءِ مَنْ يُرِيدُ عِتْقَهُ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ قُرْبَةٍ أَوْ فِدَاءٍ كَشِرَاءِ قَرِيبِهِ، وَلَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ النِّكَاحَ سَبَبًا لِإِزَالَتِهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَهَذَا فِقْهُهُ وَفَرْقُهُ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَتَوَقَّفَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، فَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ صَرَّحَ بِهِمَا الْأَصْحَابُ، وَذَكَرُوا وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ وَجَهِلَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ التَّأَدُّبَ طَلُقَتْ، وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ: يَقَعُ الْعِتْقُ دُونَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّفْرِيقُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ رُوِيَ فِي الْفَرْقِ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ: فَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى فِعْلٍ يَقْصِدُ بِهِ الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ كَقَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَرِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تَطْلُقُ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ قَدْ صَارَ حَالِفًا، وَصَارَ تَعْلِيقُهُ يَمِينًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِيهَا؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ فِي الْأَيْمَانِ الْمُكَفِّرَةِ، فَالتَّكْفِيرُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَلَازِمَانِ، وَيَمِينُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يُكَفَّرَانِ، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَمِنْ هُنَا خَرَّجَ شَيْخُنَا عَلَى الْمَذْهَبِ إجْزَاءَ التَّكْفِيرِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفَّرَةِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْفَعُ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَيَخْرُجُ مِنْ نَصِّهِ إجْزَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِهِمَا، وَهَذَا تَخْرِيجٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالصِّحَّةِ، وَنَصُّ أَحْمَدَ عَلَى الْوُقُوعِ لَا يُبْطِلُ صِحَّةَ هَذَا التَّخْرِيجِ، كَسَائِرِ نُصُوصِهِ، وَنُصُوصِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يُخَرَّجُ مِنْهَا عَلَى مَذْهَبِهِ خِلَافُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَكْثَرُ، وَأَشْهُرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: إنْ أَعَادَ الِاسْتِثْنَاءَ إلَى الْفِعْلِ نَفَعَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَعَادَهُ إلَى الطَّلَاقِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ أَعَادَهُ إلَى الْفِعْلِ نَفَعَهُ، وَإِنْ أَعَادَهُ إلَى قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَنْفَعْهُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: " إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّهُ تَارَةً يُرِيدُ " فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك " وَتَارَةً يُرِيدُ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقَ الْيَمِينِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ " أَيْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ عَقْدَ هَذِهِ الْيَمِينَ فَهِيَ مَعْقُودَةٌ، فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ ": وَاَللَّهِ لَأَقُومَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِذَا قَامَ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ الْقِيَامَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ قِيَامَهُ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَمْ يَحْنَثْ، فَيُنْقَلُ هَذَا بِعَيْنِهِ إلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَقُومَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْقِيَامَ " فَلَمْ يَقُمْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَهُ الْقِيَامَ، فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَمْ يَحْنَثْ، فَهَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ. [فَصْلٌ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " فَاخْتَلَفَ الَّذِينَ يُصَحِّحُونَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " هَاهُنَا: هَلْ يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَالثَّانِي: يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تَطْلُقُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَلَّذِينَ لَمْ يُصَحِّحُوا الِاسْتِثْنَاءَ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَعَلَّقَ رَفْعَهُ بِمَشِيئَةٍ لَمْ تُعْلَمْ؛ إذْ الْمَعْنَى قَدْ وَقَعَ عَلَيْك الطَّلَاقُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَفْعَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعًا مُنَجَّزًا وَرَفْعًا مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، وَاَلَّذِينَ صَحَّحُوا الِاسْتِثْنَاءَ قَوْلُهُمْ أَفْقَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوقِعْ طَلَاقًا مُنَجَّزًا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا عَلَى الْمَشِيئَةِ. فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك، فَإِنْ شَاءَ عَدَمَهُ لَمْ تَطْلُقِي، بَلْ لَا تَطْلُقِينَ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ جَعَلَ مَشِيئَةَ اللَّهِ لِطَلَاقِهَا شَرْطًا فِيهِ، وَهَاهُنَا أَضَافَ إلَى ذَلِكَ جَعْلَهُ عَدَمَ مَشِيئَتِهِ مَانِعًا مِنْ طَلَاقِهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ؛ فَقَوْلُهُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ صَرِيحًا، وَعَلَى انْتِفَاءِ الْوُقُوعِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا لُزُومًا، وَقَوْلُهُ ": إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَشِيئَةِ صَرِيحًا، وَعَلَى الْوُقُوعِ عِنْدَهَا لُزُومًا فَتَأَمَّلْهُ. فَالصُّورَتَانِ سَوَاءٌ كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُهُمْ ": إنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَعَلَّقَ رَفْعَهُ بِمَشِيئَةٍ لَمْ تُعْلَمْ " فَهَذَا بِعَيْنِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَنْفَعُ فِي الْإِيقَاعِ بِحَالٍ؛ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ جُمْلَةً، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَصِحَّ الْفَرْقُ، وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا كَمَا قَرَّرْنَاهُ؛ فَالطَّلَاقُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا أَصْلًا، فَهَلْ يَنْفَعُهُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ؟ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَا يَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، قَالُوا: لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ، فَعِلْمُهُ وَجَهْلُهُ سَوَاءٌ، قَالُوا: وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ سُكُوتُ الْبِكْرِ رِضًا اسْتَوَى فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ جَهْلُهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ثُمَّ قَالُوا: فَلَوْ قَالَ لَهَا " أَنْتِ طَالِقٌ " فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَكَانَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ وُجِدَ حَقِيقَةً، وَالْكَلَامُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ إيقَاعًا، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي طَرَفٍ وَقَوْلُ مَنْ يَشْتَرِطُ نِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فِي طَرَفٍ آخَرَ، وَبَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ بُعْدِ الْمَشْرِقَيْنِ. فَلَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ، أَوْ مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ " فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ أَوْ لَا يَقَعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَمَنْ أَوْقَعَهُ احْتَجَّ بِأَنَّ كَلَامَهُ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ: مُحَالًا، وَمُمْكِنًا، فَالْمُمْكِنُ التَّطْلِيقُ، وَالْمُحَالُ وُقُوعُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ وُقُوعُهُ، فَيَلْغُو هَذَا التَّقْيِيدُ الْمُسْتَحِيلُ، وَيَسْلَمُ أَصْلُ الطَّلَاقِ فَيَنْفُذُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقَعُ، وَلِهَذَا الْقَوْلِ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى الشَّرْطِ الْمُحَالِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ جَمَعْت بَيْنَ الضِّدَّيْنِ " أَوْ " إنْ شَرِبْت مَاءَ الْكُوزِ "، وَلَا مَاءَ فِيهِ؛ لِعَدَمِ وُقُوعِ شَرْطِهِ، فَهَكَذَا إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ " فَهُوَ تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ، وَهُوَ عَدَمُ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَلَوْ طَلُقَتْ لَطَلُقَتْ بِمَشِيئَتِهِ، وَشَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَفْقَهُ - أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَتَعْلِيقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَالْمَعْنَى إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ عَدَمَ طَلَاقِك؛ فَهُوَ كَقَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَشَأْ اللَّهُ " سَوَاءٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ شَبَه الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ] فَصْلٌ: [شُبَهُ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الِاسْتِثْنَاءَ] قَالَ الْمُوَقِّعُونَ: قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ: ثنا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنُ أَسَدٍ الْقَسْرِيُّ: ثنا جُمَيْعُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مُعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَرَى الِاسْتِثْنَاءَ جَائِزًا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، قَالُوا: وَرَوَى أَبُو حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَهِيَ طَالِقٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَقَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا ". قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إنْشَاءُ حُكْمٍ فِي مَحَلٍّ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالْمَشِيئَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُك إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ لَنَا سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِالشَّرْطِ صَحَّ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ. وَيَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الطَّلَاقُ حِينَئِذٍ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ تَحَقَّقَ وُجُودُهُ بِمُبَاشَرَةِ الْآدَمِيِّ سَبَبَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ حِينَئِذٍ أَنْ تَطْلُقَ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ شَرْعًا، وَقَدَرًا؛ فَإِذَا أَتَى بِهَا الْمُكَلَّفُ فَقَدْ أَتَى بِمَا شَاءَهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ قَطُّ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ شَاءَ الْأُمُورَ بِأَسْبَابِهَا؛ فَإِذَا شَاءَ تَكْوِينَ شَيْءٍ، وَإِيجَادَهُ شَاءَ سَبَبَهُ؛ فَإِذَا أَتَى الْمُكَلَّفُ بِسَبَبِهِ فَقَدْ أَتَى بِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَشِيئَةُ السَّبَبِ مَشِيئَةٌ لِلْمُسَبِّبِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَشَأْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ فَإِنَّ مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ كَمَا أَنَّ مَا شَاءَهُ وَجَبَ وُجُودُهُ. قَالُوا: وَهَذَا فِي الْقَوْلِ نَظِيرُ الْمَشِيئَةِ فِي الْفِعْلِ، فَلَوْ قَالَ: " أَنَا أَفْعَلُ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ صَحَّ ذَلِكَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ فِعْلِي هَذَا إنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، كَمَا لَوْ قَالَ حَالَ دُخُولِهِ الدَّارَ " أَنَا أَدْخُلُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ قَالَ مَنْ تَخَلَّصَ مِنْ شَرٍّ: " تَخَلَّصْت إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ، وَإِخْوَتِهِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] فِي حَالِ دُخُولِهِمْ، وَالْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الدُّخُولِ الْمُقَيَّدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ؛ فَالْمَشِيئَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا، قَالُوا: وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُمَا: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَوْ قَالَ: " أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ شَيْئًا، وَلَا يَجْعَلُهُ إسْلَامًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ. قَالُوا: وَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمَهُ بِالطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " تَحْقِيقٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ شَاءَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ أَبَاحَ الطَّلَاقَ، وَأَذِنَ فِيهِ "، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا " فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي طَلَاقِهَا مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ؛ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ مَا عَلَّقَ بِهِ، وَوُجُودُ الشَّرْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ سَبَبَهُ؛ فَإِذَا بَاشَرَهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ، قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْكَفَّارَةُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَهَا، وَالرَّافِعُ أَقْوَى مِنْ الْمَانِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تُؤَثِّرُ مُتَّصِلَةً وَمُنْفَصِلَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُؤَثِّرُ مَعَ الِانْفِصَالِ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ فَأَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْلَى وَأَحْرَى، قَالُوا: وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " إنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً فَهُوَ رَافِعٌ لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَا يَرْتَفِعُ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ طَلَاقَك، أَوْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُوقِعَ عَلَيْك فِي الْمُسْتَقْبَلِ طَلَاقًا غَيْرَ هَذَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهِ لِسَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَا سَبِيلَ لِلْمُكَلَّفِ إلَى الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ؛ فَيَلْغُو التَّعْلِيقُ، وَيَبْقَى أَصْلُ الطَّلَاقِ فَيَنْفُذُ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ كَائِنٌ، فَوَجَبَ نُفُوذُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ قَدَّرَ اللَّهُ " أَوْ " إنْ سَمِعَ " أَوْ " إنْ رَأَى ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ حَذَفَ مَفْعُولَ الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يَنْوِ مَفْعُولًا مُعَيَّنًا؛ فَحَقِيقَةُ لَفْظِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ، أَوْ إنْ شَاءَ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، وَلَوْ كَانَ نِيَّتُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَا الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ لَمْ يَمْنَعْ جَعْلُ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَى هَذَا الْحَادِثِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهَا شَرْطًا فِي الْوُقُوعِ، وَلِهَذَا لَوْ سُئِلَ الْمُسْتَثْنِي عَمَّا أَرَادَ لَمْ يُفْصِحْ بِالْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ، بَلْ لَعَلَّهَا لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِنَاءً عَلَى مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَالْوَعْدِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا بَابُهُ الْأَيْمَانُ، كَقَوْلِهِ: " مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ " وَلَيْسَ لَهُ دُخُولٌ فِي الْإِخْبَارِ، وَلَا فِي الْإِنْشَاءَاتِ، فَلَا يُقَالُ: " قَامَ زَيْدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَا: " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَا: " لَا تَقُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَا: " بِعْت، وَلَا قَبِلْت إنْ شَاءَ اللَّهُ ". وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ إنْشَاءِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تُعَلَّقُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِنَّ زَمَنَ الْإِنْشَاءِ مُقَارِنٌ لَهُ؛ فَعُقُودُ الْإِنْشَاءَاتِ تُقَارِنُهَا أَزْمِنَتُهَا؛ فَلِهَذَا لَا تُعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ. قَالُوا: وَاَلَّذِي يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا مَاضِيًا أَوْ مُقَارِنًا لِلتَّكَلُّمِ بِهِ أَوْ مُسْتَقْبَلًا؛ فَإِنْ أَرَادَ الْمَاضِيَ أَوْ الْمُقَارِنَ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَقْبَلَ - وَمَعْنَى كَلَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ طَالِقًا فَأَنْتِ طَالِقٌ - وَقَعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ بِطَلَاقِهَا الْآنَ يُوجِبُ طَلَاقَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَيَعُودُ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَى أَنِّي إنْ طَلَّقْتُك الْآنَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَدْ طَلَّقَهَا بِمَشِيئَتِهِ، فَتَطْلُقُ؛ فَهَاهُنَا ثَلَاثُ دَعَاوَى: إحْدَاهَا: أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ شَاءَ ذَلِكَ، وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهَا قَدْ طَلُقَتْ؛ فَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى الْأُولَى صَحَّتْ الْأُخْرَيَانِ، وَبَيَانُ صِحَّتِهَا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ صَالِحٍ لِلطَّلَاقِ، فَيَكُونُ طَلَاقًا، وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ حَادِثٌ؛ فَيَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَهَا فَتَطْلُقُ؛ فَهَذَا غَايَةُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُوَقِّعُونَ. [جَوَابُ الْمَانِعِينَ] قَالَ الْمَانِعُونَ: أَنْتُمْ مُعَاشِرَ الْمُوَقِّعِينَ قَدْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ، وَلَسْتُمْ مِمَّنْ يُبْطِلُهُ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ كَفَيْتُمُونَا نِصْفَ الْمُؤْنَةِ، وَحَمَلْتُمْ عَنَّا كُلْفَةَ الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ، فَبَقِيَ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيقِ الْمُعَيَّنِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيقِ قَرُبَ الْأَمْرُ وَقَطَعْنَا نِصْفَ الْمَسَافَةِ الْبَاقِيَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ صَحِيحٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ مُحَالًا لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُ الْيَمِينِ وَالْوَعْدِ، وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهِمَا بِالْمَشِيئَةِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ لَغْوًا لَا يُفِيدُ، وَهَذَا بَيِّنُ الْبُطْلَانِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَصَحَّ التَّعْلِيقُ حِينَئِذٍ، فَبَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ وُجُودُ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 الشَّرْطِ مُمْكِنٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى الْإِمْكَانِ، وَلَا رَيْبَ فِي هَذِهِ الْمُسَاعَدَةِ قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ جِدًّا، وَحَصَلَتْ الْمُسَاعَدَةُ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ صَحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُمْكِنٍ، فَبَقِيَتْ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ وَعَمَلَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَمْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَجُوزُ تَأْثِيرُهُ فِي الْمَاضِي، وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ؟ . فَإِنْ سَاعَدْتُمُونَا عَلَى تَوَقُّفِ تَأْثِيرِهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِمَاضٍ، وَلَا حَالٍ - وَأَنْتُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُسَاعِدُونَ - بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَنْزِلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَتَرَتَّبُ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ أَمْ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَيَكُونُ التَّعْلِيقُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا عَلَى مَا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَنَا طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِهِ؟ فَهَاهُنَا مُعْتَرَكُ النِّزَالِ، وَدَعْوَةُ الْأَبْطَالِ، فَنَزَالِ نَزَالِ. فَنَقُولُ: مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَأَبْيَنِ الْفَضَائِحِ، الَّتِي تَشْمَئِزُّ مِنْهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُنْكِرُهَا فِطَرُ الْعَالَمِينَ، مَا تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُكُمْ، وَهَذَا لَفْظُهُ بَلْ حُرُوفُهُ، قَالَ: لَنَا إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الصِّفَاتُ الْمُسْتَحِيلَةُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الْحَجَرُ " أَوْ " إنْ شَاءَ الْمَيِّتُ ": أَوْ " إنْ شَاءَ هَذَا الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ الْآنَ " فَيَا لَك مِنْ قِيَاسٍ مَا أَفْسَدَهُ، وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ مَا أَبْعَدَهُ، وَهَلْ يَسْتَوِي فِي عَقْلٍ أَوْ رَأْيٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ قِيَاسٍ مَشِيئَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَمَشِيئَةُ الْحَجَرِ وَالْمَيِّتِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ؟ . وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَعِيَاذًا بِهِ مِنْ الْخِذْلَانِ، وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ تَمَسُّكُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ، كَمَا لَوْ قَالَ ": أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ إبْلِيسُ " فَسُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَعِيَاذًا بِوَجْهِك الْكَرِيمِ، مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ الْعَظِيمِ، وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي نُصْرَةِ هَذَا الْقَوْلِ غِنًى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي ضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَعَانِي وَالْإِلْزَامَاتِ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ، وَلِلَّهِ شَرَفُ نُفُوسِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُمْ، وَشَادَّ فِي الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُمْ، حَيْثُ يَأْنَفُونَ لِنُفُوسِهِمْ، وَيَرْغَبُونَ بِهَا عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي تَسْوَدُّ بِهَا الْوُجُوهُ قَبْلَ الْأَوْرَاقِ، وَتُحِلُّ بِقَمَرِ الْإِيمَانِ الْمَحَاقُ. وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى مَشِيئَتِهِ، وَتُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ حَادِثٍ أَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ بِمَشِيئَتِهِ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ أَصَحِّ التَّعْلِيقَاتِ، فَإِذَا أَنْشَأَ الْمُعَلِّقُ طَلَاقًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَبَيَّنَّا وُجُودَ الشَّرْطِ بِإِنْشَائِهِ فَوَقَعَ؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ شَرْعًا وَفِطْرَةً وَقَدَرًا، وَتَعْلِيقٌ مَقْبُولٌ. يُبَيِّنُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَهَا مَاضِيًا قَطْعًا، بَلْ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا الطَّلَاقَ الَّذِي تَلَفَّظَ بِهِ أَوْ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا غَيْرَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ هَذَا الْمَلْفُوظُ؛ فَإِنَّهُ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ؛ إذْ الشَّرْطُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقُك فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يُنْشِأَ لَهَا طَلَاقًا آخَرَ. وَنُقَرِّرُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ فَنَقُولُ: عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَهُ مَشِيئَةٌ صَحِيحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمَشِيئَةِ آحَادِ النَّاسِ، يُبَيِّنُهُ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا شَاءَهُ اللَّهُ فَقَدْ شَاءَهُ رَسُولُهُ؛ فَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مُوجِبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَالِ لَكَانَ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَاءَ الطَّلَاقَ حِينَ تَكَلَّمَ الْمُكَلَّفُ بِهِ " فَنَعَمْ إذًا؛ لَكِنْ شَاءَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ أَوْ الْمُعَلَّقَ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ طَلَاقٌ مُطْلَقٌ، بَلْ الْوَاقِعُ مِنْهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ مَشِيئَةً لِلطَّلَاقِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ وُجِدَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ طَلَاقَهَا فَطَلُقَتْ. وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْطِقَ الْعَبْدَ لَأَنْطَقَهُ بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ، وَلَا اسْتِثْنَاءٍ، فَلَمَّا أَنْطَقَهُ بِهِ مُقَيَّدًا بِالتَّعْلِيقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ لَهُ الطَّلَاقَ الْمُنَجَّزَ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْأَمْرَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّفْظِ لَا تَكُونُ مَشِيئَةً لِلْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ صَالِحًا لِلْحُكْمِ، وَلِهَذَا لَوْ تَلَفَّظَ الْمُكْرَهُ أَوْ زَائِلُ الْعَقْلِ أَوْ الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ وُقُوعَ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يَشَأْ وُقُوعَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرَتِّبْ عَلَى أَلْفَاظِ هَؤُلَاءِ أَحْكَامَهَا؛ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لِأَحْكَامِهَا، فَهَكَذَا الْمُعَلِّقُ طَلَاقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يُرِيدُ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ لَهُ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ أَنْصَفَ. وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقْدَ الْيَمِينِ لِأَجْلِهِ؛ هُوَ بِعَيْنِهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: " وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَقَدْ الْتَزَمَ فِعْلَهُ فِي الْيَوْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَقَدْ عَلِمْنَا مَشِيئَةَ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْهُ؛ إذْ لَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ، وَلَا بُدَّ، وَلَا يَكْفِي فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مَشِيئَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إنْ شَاءَهُ فَقَطْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَشَاءُ الْفِعْلَ، وَلَا يَقَعُ، فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ لَيْسَتْ مُوجِبَةً، وَلَا تَلْزَمُهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْمَشِيئَةِ الْأُولَى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] وَقَالَ فِي الْمَشِيئَةِ الثَّانِيَةِ: {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 54] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] وَإِذَا كَانَ تَعْلِيقُ الْحَلِفِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْوَعْدِ، فَإِذَا قَالَ: " أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ مُخْلِفًا، كَمَا لَا يَكُونُ فِي الْيَمِينِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 حَانِثًا. وَهَكَذَا إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ الطَّلَاقَ فَوَقَعَ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا تَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ الطَّلَاقَ فَلَا تَطْلُقُ، فَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْإِيقَاعِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنْشَاءٌ، وَإِلْزَامٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. قَالُوا: وَأَمَّا الْأَثَرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْتُمُوهُمَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمَا أَحْسَنُهُمَا لَوْ ثَبَتَا، وَلَكِنْ كَيْف بِثُبُوتِهِمَا وَعَطِيَّةُ ضَعِيفٌ، وَجُمَيْعُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ مَجْهُولٌ، وَخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفٌ؟ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَحَادِيثُهُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُعْلَمُ حَالُ إسْنَادِهِ حَتَّى يُقْبَلَ أَوْ يُرَدَّ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ مُقَابَلَةٌ بِآثَارٍ أُخَرَ لَا تَثْبُتُ أَيْضًا، فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مُعَاذُ، مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْعَتَاقِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهُ، وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ» ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفًّى: ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ اللَّخْمِيِّ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؟ قَالَ: يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَشَاءُ الْعِتْقَ، وَلَا يَشَاءُ الطَّلَاقَ» . ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ لِغُلَامِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ الْجَارُودِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا فِي الطَّلَاقِ وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَلَوْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْرَحُ بِالْبَاطِلِ كَكَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ الَّذِينَ يَفْرَحُ أَحَدُهُمْ بِمَا وَجَدَهُ مُؤَيِّدًا لِقَوْلِهِ لَفَرِحْنَا بِهَذِهِ الْآثَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا غُنْيَةً؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا آثَارٌ بَاطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ عِدَّةُ بَلَايَا: إحْدَاهَا: حُمَيْدٍ بْنُ مَالِكٍ، ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَكْحُولٌ عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهِ حُمَيْدٍ هَذَا الضَّعِيفُ؛ فَمَرَّةً يَقُولُ: عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَمَرَّةً يَقُولُ: عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 عَنْ مُعَاذٍ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَقِيلَ: مَكْحُولٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامُرَ عَنْ مُعَاذٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَمْ يَصِحَّ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ لَيْسَ مِمَّنْ يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِمِثْلِ هَذَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ فَبَاطِلٌ عَنْهُ لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَا حَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فَمُسْتَنَدُهُ حِكَايَةُ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ أَوْ مَنْ تَلَقَّاهَا عَنْهُ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الثَّانِي، فَإِسْنَادُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ حَتَّى انْتَهَى أَمْرُهُ إلَى الْكَذَّابِ إِسْحَاقَ بْنِ نَجِيحٍ الْمَلْطِيِّ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الثَّالِثُ؛ فَالْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ قَدْ ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلَى حَدِّ التَّرْكِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْآثَارَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا مُسْتَرَاحَ فِيهَا. [فَصْلٌ الْقَوْلُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا " فَمَا أَبْرَدَهَا مِنْ حُجَّةٍ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمَ الطَّلَاقِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِهِ مُنَجَّزًا، بَلْ انْعَقَدَ مُعَلَّقًا، كَقَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ " فَلَمْ يَشَأْ فُلَانٌ؛ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَفَعَ جُمْلَةَ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ ": إنَّهُ مِنْ إنْشَاءِ حُكْمٍ فِي مَحَلٍّ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِالْمَشِيئَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ " فَأَبْرَدُ مِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُمَا بِالشَّرْطِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إزَالَةُ مِلْكٍ؛ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ كَالْإِبْرَاءِ " فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا عِنْدَكُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مَشِيئَةَ اللَّهِ أَوْ غَيْرَهَا، فَلَوْ قَالَ: " أَبْرَأْتُك إنْ شَاءَ زَيْدٌ " لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ زَيْدٌ " صَحَّ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى مَا لَنَا سَبِيلٌ إلَى عِلْمِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَوْقَعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلِمْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ قَطْعًا، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " إنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ بِتَكَلُّمِ الْمُطَلِّقِ بِهِ " فَاَلَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ إنَّمَا هُوَ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ، وَالطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ؛ إذْ لَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ، وَلَا بُدَّ، فَمَا شَاءَهُ اللَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ، وَمَا يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ شَرْعًا وَقَدَرًا " فَنَعَمْ وَضَعَ تَعَالَى الْمُنَجَّزَ لِإِيقَاعِ الْمُنَجَّزِ، وَالْمُعَلَّقَ لِوُقُوعِهِ عِنْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " لَوْ لَمْ يَشَأْ الطَّلَاقَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُكَلَّفِ فِي التَّكَلُّمِ بِهِ " فَنَعَمْ شَاءَ الْمُعَلَّقَ، وَأَذِنَ فِيهِ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ، وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِعْلِ: أَنَا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَا التَّطْلِيقَ الَّذِي صَدَرَ مِنِّي " لَزِمَهُ الطَّلَاقُ قَطْعًا؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَا إذَا أَرَادَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا " أَوْ أَطْلَقَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَلَا يَنْبَغِي النِّزَاعُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ يُنَازِعُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُطَلِّقَك غَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " إلَّا أَنْ يَسْتَرْوِحَ إلَى ذَلِكَ الْمَسْلَكِ الْوَخِيمِ أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْمُسْتَحِيلِ فَلَغَا التَّعْلِيقَ كَمَشِيئَةِ الْحَجَرِ وَالْمَيِّتِ. وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ لُغَةً وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَهُوَ اقْتِضَاؤُهُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِ يُوسُفَ لِأَبِيهِ، وَإِخْوَتِهِ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنْ عَادَ إلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ عَادَ إلَى الدُّخُولِ الْمُقَيَّدِ بِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَالَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا قَالَهَا عِنْدَ تَلَقِّيهِ لَهُمْ، وَيَكُونُ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ اللِّقَاءِ فَقَالَ لَهُمْ حِينَئِذٍ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ مَمْلَكَتِهِ فَالْمَعْنَى اُدْخُلُوهَا دُخُولَ اسْتِيطَانٍ وَاسْتِقْرَارٍ آمَنِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ لَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ فِي الْحَالِ " فَنَعَمْ إذًا؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ تَنَجَّزَ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الرِّدَّةَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهَا تُنَجَّزُ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمَهُ بِالطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقٌ لِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَهُ " فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا شَاءَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ شَاءَ الْمُنَجَّزَ؟ ، وَلَمْ تَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ أَذِنَ فِي الطَّلَاقِ أَوْ أَبَاحَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا " فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَأَبَيْنَهُ حَقِيقَةً وَلُغَةً،، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عَنْ تَكَلُّفِ بَيَانِهِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ الْوَاضِحَاتِ نَوْعٌ مِنْ الْعِيِّ، بَلْ نَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ تَلَفُّظِي بِهَذَا اللَّفْظِ؛ فَهَذَا يَقَعُ قَطْعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الْكَفَّارَةَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْيَمِينِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَهَا، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ الْكَفَّارَةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَالِاسْتِثْنَاءُ أَوْلَى " فَمَا أَوْهَنَهَا مِنْ شُبْهَةٍ، وَهِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَيْءَ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إذَا وَقَعَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ شَيْئًا، وَلَا يُمْكِنُ حِلُّهُمَا بِالْكَفَّارَةِ، بِخِلَافِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّ حِلَّهَا بِالْكَفَّارَةِ مُمْكِنٌ، وَهَذَا تَشْرِيعٌ شَرَعَهُ شَارِعُ الْأَحْكَامِ هَكَذَا، فَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ؛ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يَقْبَلُ الْكَفَّارَةَ كَمَا لَمْ تَقْبَلْهَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْخُلْعِ، فَالْكَفَّارَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَيْمَانِ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِهَا الَّتِي لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا، وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَيُشْرَعُ فِي أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ كَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وَقَوْلِهِ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وَكَذَا الْخَبَرُ عَنْ الْحَالِ نَحْوَ " أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَا تَدْخُلُ الْكَفَّارَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّكْفِيرِ تَلَازُمٌ. بَلْ تَكُونُ الْكَفَّارَةُ حَيْثُ لَا اسْتِثْنَاءَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَيْثُ لَا كَفَّارَةَ، وَالْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ تَحِلَّةً لِلْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ شُرِعَ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ تَأْكِيدُ التَّوْحِيدِ، وَتَعْلِيقُ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ؛ فَشُرِعَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ، وَحَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ؛ وَيَعْقِدُ نُطْقَهُ بِذَلِكَ، فَهَذَا شَيْءٌ، وَالْكَفَّارَةُ شَيْءٌ آخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنْ كَانَ رَافِعًا فَهُوَ رَافِعٌ لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَا يَرْتَفِعُ " فَهَذَا كَلَامٌ عَارٍ عَنْ التَّحْقِيقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ بِأَدَاةِ إلَّا، وَأَخَوَاتِهَا الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا بَعْضُ الْمَذْكُورِ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، ثُمَّ كَيْفَ يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ زَيْدٌ الْيَوْمَ "، وَلَمْ يَشَأْ؟ فَمُوجِبُ دَلِيلِهِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخْرَجَهُ بِأَدَاةِ إلَّا فَقَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ " كَانَ رَفْعًا لِجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، قِيلَ: هَذِهِ مَغْلَطَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَاهُنَا لَيْسَ إخْرَاجُ جُمْلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْمَذْكُورُ؛ لِيَلْزَمَ مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى مُخَصَّصَةٍ لِبَعْضِ أَحْوَالِهَا، أَيْ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ إلَّا حَالَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ حَالَةٌ لَا يَشَاءُ اللَّهُ فِيهَا الطَّلَاقَ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ طَلَاقٌ بَعْدَ هَذَا عَلِمْنَا بِعَدَمِ وُقُوعِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ الطَّلَاقَ؛ إذْ لَوْ شَاءَهُ لَوَقَعَ. ثُمَّ يُنْتَقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ " وَ " إلَّا أَنْ تَقُومِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إذَا لَمْ يَشَأْهُ زَيْدٌ، وَإِذَا لَمْ تَقُمْ، وَسَمَّى هَذَا التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً فِي لُغَةِ الشَّارِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] أَيْ: لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 يَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَمَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ، كَأَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ بِإِلَّا قَدْ عَادَ عَلَى كَلَامِهِ فَثَنَى آخِرَهُ عَلَى أَوَّلِهِ بِإِخْرَاجِ مَا أَدْخَلَهُ أَوَّلًا فِي لَفْظِهِ، وَهَكَذَا التَّقَيُّدُ بِالشَّرْطِ سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ قَدْ ثَنَى آخِرَ كَلَامِهِ عَلَى أَوَّلِهِ فَقَيَّدَ بِهِ مَا أَطْلَقَهُ أَوَّلًا، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا، وَأَخَوَاتِهَا فَعُرْفٌ خَاصٌّ لِلنُّحَاةِ. وَقَوْلُكُمْ: " إنْ كَانَ شَرْطًا، وَيُرَادُ بِهِ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ طَلَاقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَنْفُذُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِ لِسَبَبِهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُطَلِّقَك فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ عَلَّقَهُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ فَيَلْغُو التَّعْلِيقُ وَيَبْقَى أَصْلُ الطَّلَاقِ " فَهَذَا هُوَ أَكْبَرُ عُمْدَةِ الْمُوَقِّعِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ شَاءَ تَكَلُّمِي بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ شَاءَ طَلَاقَك بِهَذَا اللَّفْظِ طَلُقَتْ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا، بَلْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ، فَبَقِيَ الْقِسْمُ الْآخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْك فِيمَا يَأْتِي، فَهَذَا تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعْقُولٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ مَا عَلَّقَ عَلَيْهِ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ كَائِنٌ، فَوَجَبَ نُفُوذُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ، أَوْ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ، أَوْ سَمِعَ اللَّهُ - إلَى آخِرِهِ " فَمَا أَبْطَلَهَا مِنْ حُجَّةٍ، فَإِنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَبَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يَخْطُرْ هَذَا عَلَى بَالِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَعْلِيقِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ إنْ شَاءَهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَقَعْ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُسْتَثْنِيًا، أَيْ: وَإِنْ كُنْت قَدْ الْتَزَمْت الْيَمِينَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ فَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ بَعْدَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَبَعًا لَهَا، فَإِنْ شَاءَهُ فَهُوَ تَعَالَى يُنْفِذُهُ بِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَلَمْ يُرِدْ الْمُسْتَثْنِيَ إنْ كَانَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ سَمْعٌ أَوْ بَصَرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِبَالِهِ أَلْبَتَّةَ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، وَلَا سِيَّمَا بِأَدَاةِ " إنْ " الَّتِي لِلْجَائِزِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَلَوْ شَكَّ فِي هَذَا لَكَانَ ضَالًّا، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطَّلَاقِ، وَأَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ شَاكٌّ فِيهَا كَمَا يَشُكُّ الْعَبْدُ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ هَلْ شَاءَهُ أَمْ لَا؟ فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي فِي فِطَرِ الْحَالِفِينَ وَالْمُسْتَثْنِينَ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذَكَرْتُمْ، وَهُوَ عَدَمُ إرَادَةِ مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَتَعَيُّنِ إرَادَتَهُ؛ إذْ الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ. كَمَا لَوْ قَالَ: " وَاَللَّهِ لَأُسَافِرَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ " أَيْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ سَفَرِي، وَلَيْسَ مُرَادُهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ صِفَةٌ هِيَ الْمَشِيئَةُ؛ فَاَلَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ الْحَالِفِ وَالْمُطَلِّقِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ سَوَاءٌ هُوَ الْمَشِيئَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْخَاصَّةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وَقَوْلُكُمْ: " إنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَوْ سُئِلَ عَمَّا أَرَادَ لَمْ يُفْصِحْ بِالْمَشِيئَةِ الْخَاصَّةِ، بَلْ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنَاءً عَلَى مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ " كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا نَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي يَمِينٍ قَطُّ، وَلِهَذَا نَقُولُ: إنْ قَصَدَ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ يُنَجَّزُ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَابُهُ الْأَيْمَانُ " إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ اخْتِصَاصَ الْأَيْمَانِ بِهِ فَلَمْ تَذْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى» ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ» فَحَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ بِالْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] وَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَيُشْرَعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: غَدًا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ عَتَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ أَشْيَاءَ " غَدًا أُخْبِرُكُمْ "، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ شَهْرًا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] أَيْ: إذَا نَسِيتَ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ عَقِيبَ كَلَامِك فَاذْكُرْهُ بِهِ إذَا ذَكَرْت، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَرَاخِي، وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ عَبَّاسٍ قَطُّ، وَلَا مَنْ هُوَ دُونَهُ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ لِعَبْدِهِ: " أَنْتَ حُرٌّ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ " إنَّهَا لَا تَطْلُقُ، وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَأَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِالْيَمِينِ لَا شَرْعًا، وَلَا عُرْفًا، وَلَا لُغَةً، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِكَوْنِ بَابِهِ الْأَيْمَانَ كَثْرَتَهُ فِيهَا؛ فَهَذَا لَا يَنْفِي دُخُولُهُ فِي غَيْرِهَا. وَقَوْلُكُمْ: " إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِخْبَارَاتِ، وَلَا فِي الْإِنْشَاءَاتِ، فَلَا يُقَالُ: قَامَ زَيْدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ [وَلَا بِعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ] فَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَلَيْسَ هَذَا بِتَمْثِيلٍ صَحِيحٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَاضِيَةَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالشَّرْطُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: قُمْت أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَوْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَتَى بِغَيْرِ صِيغَةِ الشَّرْطِ، فَيَقُولُ: فَعَلْت كَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: غَدًا أَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَ " لَا تَقُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ؛ إذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَك الْقِيَامَ فَقُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْهُ فَلَا تَقُمْ؟ . نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ قُمْ أَوْ لَا تَقُمْ الْخَبَرَ، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الطَّلَبِ تَأْكِيدًا، أَيْ: تَقُومُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، صَحَّ ذَلِكَ، كَمَا إذَا قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 مُتْ عَلَى الْإِسْلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا تَمُتْ إلَّا عَلَى تَوْبَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " قُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ " رَدَّ الْمَشِيئَةَ إلَى مَعْنًى خَبَرِيٍّ، أَيْ: وَلَا تَقُومُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَمَّا " بِعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاشْتَرَيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ صَحَّ وَانْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُ إنْشَاءً، وَتَنَافَى الْإِنْشَاءُ وَالتَّعْلِيقُ؛ إذْ زَمَنُ الْإِنْشَاءِ يُقَارِنُ وُجُودَ مَعْنَاهُ، وَزَمَنُ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ يَتَأَخَّرُ عَنْ التَّعْلِيقِ، فَتَنَافَيَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا مَاضِيًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا - إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَةَ إلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ لَمْ يُرِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَلَّا يَقَعَ الطَّلَاقُ، فَرَدَّهُ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ إنْ شَاءَهُ بَعْدَ هَذَا وَقَعَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُرِيدُ طَلَاقَك، وَلَا أَرَبَ لِي فِيهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيَنْفُذُ رَضِيتُ أَمْ سَخِطْتُ، كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أَيْ: نَحْنُ لَا نَعُودُ فِي مِلَّتِكُمْ، وَلَا نَخْتَارُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] أَيْ: لَا يَقَعُ بِي مَخُوفٌ مِنْ جِهَةِ آلِهَتِكُمْ أَبَدًا، إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا فَيَنْفُذُ مَا شَاءَهُ. فَرَدَّ الْأَنْبِيَاءُ مَا أَخْبَرُوا أَلَّا يَكُونَ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِلَى عِلْمِهِ اسْتِدْرَاكًا وَاسْتِثْنَاءً، أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَكِنْ إنْ شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حِكْمَتُهُ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ التَّحْقِيقُ فِي مَوْضُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ] فَصْلٌ: [التَّحْقِيقُ فِي مَوْضُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ] فَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَثْنِيَ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " التَّحْقِيقَ أَوْ التَّعْلِيقَ؛ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّحْقِيقَ وَالتَّأْكِيدَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ لَمْ تَطْلُقْ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانِ فِي رِعَايَتِهِ: قُلْت: إنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ وَالتَّبَرُّكَ وَقَعَ، وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ وَجَهِلَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمَحْكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا قَصَدَ التَّعْلِيقَ، وَكَانَ جَاهِلًا بِاسْتِحَالَةِ الْعِلْم بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ عَلِمَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى لَمْ يَنْعَقِدْ الِاسْتِثْنَاءُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَجَهْلِهِ بِهَا أَنَّهُ إذَا جَهِلَ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فِي ظَنِّهِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَإِذَا لَمْ يَجْهَلْ اسْتِحَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمَشِيئَةِ فَقَدْ عَلَّقَهُ عَلَى مُحَالٍ يَعْلَمُ اسْتِحَالَتَهُ فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمُحَالِ. قُلْت: وَقَوْلُهُمْ: " إنَّ الْعِلْمَ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ مُحَالٌ " خَطَأٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ الرَّبِّ تُعْلَمُ بِوُقُوعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مُسَبِّبَاتِهَا؛ فَإِنَّ مَشِيئَةَ الْمُسَبَّبِ مَشِيئَةٌ لِحُكْمِهِ، فَإِذَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ طَلَاقَهَا. فَهَذَا تَقْرِيرُ الِاحْتِجَاجِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: [الْكَلَامُ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَتَى تُعْتَمَدُ؟] وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَزَمَنِهَا، وَأَنَّ أَضْيَقَ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَشْتَرِطُهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ، وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ إنْشَاءَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ، كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَوْسَعُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِالْقُرْبِ، وَلَا يَشْتَرِطُ اتِّصَالَهُ بِالْكَلَامِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» إذْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِالْقُرْبِ، وَلَمْ يَخْلِطْ كَلَامَهُ بِغَيْرِهِ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، فَقَالَ: مَنْ اسْتَثْنَى بَعْدَ الْيَمِينِ فَهُوَ جَائِزٌ، عَلَى مِثْلِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ، قَالَ: وَلَا أَقُولُ فِيهِ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ إلَّا مُتَّصِلًا، هَذَا لَفْظُ الشَّالَنْجِيِّ فِي مَسَائِلِهِ. وَأَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَصِحُّ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَوْسَعُ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوْلُ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ بِحَالٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي الْفَصْلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ " وَلَا يَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ، فَعِلْمُهُ وَجَهْلُهُ يَكُونُ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ " فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ " إنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَكَانَ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ وُجِدَ حَقِيقَةً، وَالْكَلَامُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَكُونُ إيقَاعًا. وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي مُتَرْجَمِهِ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ ثنا عُمَرُ قَالَ: سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَيَقُولُ لَهُ إنْسَانٌ إلَى جَانِبِهِ: قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ؟ فَقَالَ: أَرَاهُ قَدْ اسْتَثْنَى. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَصَلَهُ قَرِيبُهُ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا، فَقَالَ قَرِيبُهُ: وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: " وَاَللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا " اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا آخُذُهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَلَامٌ إلَّا انْتِظَارَهُ مَا يَقُولُ قَرِيبُهُ، أَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ إنْ هُوَ أَخَذَهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَفْقَهُ وَأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ اشْتَرَطَ نِيَّتَهُ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْيَمِينِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِعْلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِكَايَةً عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " إنْ شَاءَ اللَّهُ " بَعْدَمَا حَلَفَ وَذِكْرُهُ ذَلِكَ كَانَ نَافِعًا لَهُ، وَمُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَالِاتِّصَالِ الشَّدِيدِ لَزَالَتْ رُخْصَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَلَّ مَنْ انْتَفَعَ بِهَا إلَّا مَنْ قَدْ دَرَسَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجَعَلَهُ مِنْهُ عَلَى بَالٍ. وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَافِعًا إلَّا وَقَدْ أَرَادَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُتَمِّمَ الْيَمِينَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: شَرْطُ نَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا، وَلَوْ لِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَالِكٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَتِهِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الثُّنْيَا فِي الْيَمِينِ أَنَّهَا لِصَاحِبِهَا مَا لَمْ يَقْطَعْ كَلَامَهُ، وَمَا كَانَ نَسَقًا يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا قَبْلَ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا سَكَتَ وَقَطَعَ كَلَامَهُ فَلَا ثُنْيَا لَهُ، انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطُّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ مَعَ الشُّرُوعِ وَلَا قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْأَتْبَاعِ. فَصْلٌ: [هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ النُّطْقُ بِهِ؟] وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَنْفَعَ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ؟ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِي فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: لَوْ قَالَ: " نِسَائِي طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ " إلَّا فُلَانَةَ " صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قَالَ ": نِسَائِي الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ "، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ إلَّا فُلَانَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ نَصًّا فِي الْأَرْبَعِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الثَّانِي، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنْ يَصِحَّ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْطِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ تَقْيِيدُ مُطْلَقٍ؛ فَعَمَلُ النِّيَّةِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ عَمَلِهَا فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 تَخْصِيصِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْأَفْرَادِ وَضْعًا، وَالْمُطْلَقُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ بِالْوَضْعِ، فَتَقْيِيدُهُ بِالنِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ: إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَنَوَى بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ وَقَالَ: " نَوَيْت شَهْرًا: " قُبِلَ مِنْهُ، أَوْ قَالَ: " إذَا دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَنَوَى تِلْكَ السَّاعَةَ، أَوْ ذَلِكَ الْيَوْمَ قُبِلَتْ نِيَّتُهُ، قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا تُقْبَلُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ ": أَنْتِ طَالِقٌ "، وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَى سَنَةٍ تَطْلُقُ، لَيْسَ يُنْظَرُ إلَى نِيَّتِهِ، وَقَالَ: إذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ " وَقَالَ: نَوَيْت إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، لَا يُصَدَّقُ، قَالَ الشَّيْخُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي الْقَبُولِ عَلَى أَنَّهُ يُدَيَّنُ، وَقَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى الْحُكْمِ؛ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا - يَعْنِي مَسْأَلَةَ نِسَائِي طَوَالِقُ وَأَرَادَ بَعْضَهُنَّ - أَنَّ إرَادَةَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ شَائِعٌ كَثِيرٌ، وَإِرَادَةُ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ غَيْرُ شَائِعٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْصِيصِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا أَرَادَ الشَّرْطَ دُيِّنَ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يُفَرِّقُ فَقِيهٌ وَلَا مُحَصِّلٌ بَيْنَ الشَّرْطِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَنْفَعُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إنْ كَانَ مَظْلُومًا فَاسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ رَجَوْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى خِلَافِ هَذَا فِي الْمَظْلُومِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ، وَخَاصُّ كَلَامِهِ وَمُقَيَّدُهُ يَقْضِي عَلَى مُطْلَقِهِ وَعَامِّهِ؛ فَهَذَا مَذْهَبُهُ. فَصْلٌ: [هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ؟] وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ أَوْ يَكْفِيَ تَحَرُّكُ لِسَانِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ؟ فَاشْتَرَطَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا مِنْ لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ وَلَا شَرْعٍ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاللَّفْظُ لِصَاحِبِ الذَّخِيرَةِ: وَشَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ. وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَمِيلُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهَذَا بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَخْرَجِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَعَلَّك لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 [فَصْلٌ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الذُّهُولِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الْخَامِسُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الذُّهُولِ وَنَحْوِهِ] الْمَخْرَجُ الْخَامِسُ: أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ذَاهِلًا، أَوْ نَاسِيًا، أَوْ مُخْطِئًا، أَوْ جَاهِلًا، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ مُتَأَوِّلًا، أَوْ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ، أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ امْرَأَتَهُ طَلُقَتْ فَيَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي طَلَاقِهَا شَيْئًا. [الذُّهُولُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسْيَانِ] فَمِثَالُ الذُّهُولِ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا هُوَ مُعْتَادٌ لِفِعْلِهِ فَيَغْلِبَ عَلَيْهِ الذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ فَيَفْعَلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّاسِي أَنَّ النَّاسِيَ يَكُونُ قَدْ غَابَ عَنْهُ الْيَمِينُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ذَاكِرًا لَهُ عَامِدًا لِفِعْلِهِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، وَأَمَّا الْغَافِلُ وَالذَّاهِلُ وَاللَّاهِي فَلَيْسَ بِنَاسٍ لِيَمِينِهِ، وَلَكِنَّهُ لَهَا عَنْهَا أَوْ ذَهَلَ كَمَا يَذْهَلُ الرَّجُلُ عَنْ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ أَوْ حِجْرِهِ بِحَدِيثٍ أَوْ نَظَرٍ إلَى شَيْءٍ أَوْ نَحْوِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى - وَهُوَ يَخْشَى - فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 8 - 10] . يُقَالُ: لَهِيَ عَنْ الشَّيْءِ يَلْهَى كَغَشِيَ يَغْشَى إذَا غَفَلَ، وَلَهَا بِهِ يَلْهُو، إذَا لَعِبَ؛ وَفِي الْحَدِيثِ «فَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ» أَيْ اشْتَغَلَ بِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ «إذَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِشَيْءٍ فَالْهُ عَنْهُ» . وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَمَّا يَجِدُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْبِلَّةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، فَقَالَ " الْهَ عَنْهُ "، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ لَهَا عَنْ حَدِيثِهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ بَعَثَهُ بِمَالٍ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ثُمَّ قَالَ لِلرَّسُولِ: " تَلَهَّ عَنْهُ ثُمَّ اُنْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ ". وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْت آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ أَيْ لَا أَشْغَلُك عَنْ شَأْنِك وَأَمْرِك، وَفِي الْمُسْنَدِ «سَأَلْت رَبِّي أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّاهِينَ مِنْ أُمَّتِي» وَهُمْ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الذُّنُوبَ، وَقِيلَ: هُمْ الْأَطْفَالُ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِفُوا ذَنْبًا. فَصْلٌ: [النِّسْيَانُ ضَرْبَانِ] وَأَمَّا النَّاسِي فَهُوَ ضَرْبَانِ: نَاسٍ لِلْيَمِينِ، وَنَاسٍ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي: كَمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَفَعَلَهُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِيَمِينِهِ، لَكِنْ نَسِيَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ كَذَا وَكَذَا، فَنَسِيَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِيَمِينِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 هُوَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ هُوَ فَهُوَ خَطَأٌ. فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ كَوْنَهُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ نِسْيَانٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَاهِلِ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرِهِ فَهُوَ نِسْيَانٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَاهِلِ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمُخْطِئِ أَنَّ الْجَاهِلَ قَصَدَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَظُنَّهُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَالْمُخْطِئَ لَمْ يَقْصِدْهُ كَمَا لَوْ رَمَى طَائِرًا فَأَصَابَ إنْسَانًا. [الْمُكْرَهُ نَوْعَانِ] وَالْمُكْرَهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَكِنْ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: مُلْجَأٌ لَا فِعْلَ لَهُ، بَلْ هُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ. [الْمُتَأَوِّلُ] وَالْمُتَأَوِّلُ كَمَنْ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا وَكَاتَبَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُكَاتَبَتَهُ لَيْسَتْ تَكْلِيمًا، وَكَمَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَشَرِبَ نَبِيذًا مُخْتَلَفًا فِيهِ مُتَأَوِّلًا، وَكَمَنْ حَلَفَ لَا يُرَابِي فَبَاعَ بِالْعِينَةِ، أَوْ لَا يَطَأُ فَرْجًا حَرَامًا فَوَطِئَ فِي نِكَاحِ تَحْلِيلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالتَّأْوِيلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ وَمُتَوَسِّطٌ، وَلَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ، وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ تَقْلِيدًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُفْتِي مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ خَرَجْت مِنْ بَيْتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَخْرُجِينَ مِنْ بَيْتِي، فَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ لَا يَلْزَمُ بِهَا الطَّلَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَغْوٌ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحَلَّى، فَقَالَ: وَالطَّلَاقُ بِالصِّفَةِ عِنْدَنَا كَالطَّلَاقِ بِالْيَمِينِ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ. [الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ] وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ كَمَنْ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ زَوَالِ عَقْلٍ بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ بَنْجٍ أَوْ غَضَبٍ شَدِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [ظَنُّ الطَّلَاقِ] وَاَلَّذِي يَظُنُّ أَنَّ امْرَأَتَهُ طَلُقَتْ فَيَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحِنْثِ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ امْرَأَتَك قَدْ كَلَّمَتْ فُلَانًا، فَاعْتَقَدَ صِدْقَ الْقَائِلِ، وَأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ، فَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الْمُخْبِرَ كَاذِبٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ: قَدْ كَلَّمَتْ فُلَانًا، فَقَالَ: طَلُقَتْ مِنِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 تُكَلِّمْهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ: إنَّ امْرَأَتَك قَدْ مُسِكَتْ تَشْرَبُ الْخَمْرَ مَعَ فُلَانٍ، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُ الْمُخْبِرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ. فَنَذْكُرُ أَقْوَالَ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي ذَلِكَ؛ إذْ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ؛ أَلْفَاظُهَا وَأَقْيِسَتُهَا وَاعْتِبَارُهَا، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، فَأَوْلَى فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا. وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَالْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَمَا فَعَلَهُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، فَإِلْزَامُهُ بِالْحِنْثِ أَعْظَمُ مُؤَاخَذَةً لَمَّا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَجَاوَزَ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْأَحْكَامِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ النَّائِمِ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَلِهَذَا هُوَ عَفْوٌ لَا يَكُونُ بِهِ مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا رَتَّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ؛ لِدَلَاتِهَا عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، وَإِرَادَتِهِ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ كَلَامَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مَعَانِيَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مُخَالَفَةَ مَا الْتَزَمَهُ وَلَا الْحِنْثَ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُلْزِمُهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ قَدْ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ مِنْ ذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْدِ، فَاعْتُبِرَ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَلِمْنَا يَقِينًا خِلَافَ الْمَدْلُولِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا تَيَقَّنَّا خِلَافَهُ. وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمَعْصُومِ بِيَدِهِ مُبَاشَرَةً إذَا لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ بَلْ قَتَلَهُ خَطَأً، وَلَمْ يُلْزِمْهُ شَيْئًا مِنْ دِيَتِهِ، بَلْ حَمَلَهَا غَيْرُهُ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُهُ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ؟ هَذَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ عَلَى الشَّارِعِ. وَقَدْ رَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤَاخَذَةَ عَمَّنْ أَكَلَ وَشَرِبَ فِي نَهَارِ رَمَضَانِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ فِعْلٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُهُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا وَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَيُخَرِّبُ بَيْتَهُ وَيُشَتِّتُ شَمْلَهُ وَشَمْلَ أَوْلَادِهِ، وَأَهْلِهِ وَقَدْ عَفَا لَهُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ نَاسِيًا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَقَدْ عَفَا عَمَّنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي نَهَارِ الصَّوْمِ عَمْدًا غَيْرَ نَاسٍ لَمَّا تَأَوَّلَ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ بِالْحَبْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ حَتَّى تَبَيَّنَا لَهُ وَقَدْ طَلَعَ النَّهَارُ، وَعَفَا لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، لِتَأْوِيلِهِ، فَمَا بَالُ الْحَالِفِ الْمُتَأَوِّلِ لَا يُعْفَى لَهُ عَنْ الْحِنْثِ بَلْ يُخَرِّبُ بَيْتَهُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَبِيبَتِهِ وَيُشَتِّتُ شَمْلَهُ كُلَّ مُشَتَّتٍ؟ وَقَدْ عَفَا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي صَلَاتِهِ عَمْدًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَتَعَمَّدْ مُخَالَفَةَ حُكْمِهِ، فَأَلْغَى كَلَامَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ، فَكَيْفَ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَيُلْغَى قَوْلُ الْجَاهِلِ وَفِعْلُهُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَلَا يُحَنِّثُهُ كَمَا لَمْ يُؤَثِّمْهُ الشَّارِعُ؟ وَإِذَا كَانَ قَدْ عَفَا عَمَّنْ قَدَّمَ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلًا فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِتَرْكِ تَرْتِيبِهَا نِسْيَانًا، فَكَيْفَ يَحْنَثُ أَنْ قَدَّمَ مَا حَلَفَ عَلَى تَأْخِيرِهِ أَوْ أَخَّرَ مَا حَلَفَ عَلَى تَقْدِيمِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا؟ ، وَإِذَا كَانَ قَدْ عَفَا عَمَّنْ حَمَلَ الْقَذَرِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهِ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ الْحَالِفَ وَيَحْنَثُ بِهِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ أَوَامِرُ الرَّبِّ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ دُونَ مَا الْتَزَمَهُ الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؟ وَكَيْفَ يَحْنَثُ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا بِمَنْزِلَةِ تَأْثِيمِهِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْإِثْمَ وَتَكْفِيرِهِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكُفْرَ؟ وَكَيْفَ يُطَلِّقُ أَوْ يُعْتِقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَلَمْ يُطَلِّقْ عَلَى الْهَازِلِ إلَّا لِتَعَمُّدِهِ فَإِنَّهُ تَعَمَّدَ الْهَزْلَ، وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ بَلْ إلَى الشَّارِعِ، فَلَيْسَ الْهَازِلُ مَعْذُورًا، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا تَقْتَضِي أَلَّا يَحْنَثَ الْحَالِفُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَطَّرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَيَسْلَمُ مِنْ التَّنَاقُضِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ. وَأَمَّا تَحْنِيثُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّنَاقُضِ لَكِنَّ قَوْلَهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، وَأَدِلَّتِهَا. وَمَنْ حَنِثَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ تَنَاقَضَ، وَلَمْ يَطَّرِدْ لَهُ قَوْلٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ دَلِيلٌ عَنْ الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ؛ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيْمَانِ بِالنِّسْيَانِ وَلَا الْجَهْلِ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفَّرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَمِينُهُ بَاقِيَةٌ لَمْ تَنْحَلَّ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 مَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ حَالَةَ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِنْثِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِرِّ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبِرِّ لَكَانَ فَاعِلًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِنْثِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالثَّانِيَةُ: يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ، وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّالِثَةُ: يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفَّرُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِ. وَاَلَّذِينَ حَنَّثُوهُ مُطْلَقًا نَظَرُوا إلَى صُورَةِ الْفِعْلِ، وَقَالُوا: قَدْ وُجِدَتْ الْمُخَالَفَةُ. وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا قَالُوا: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَارًا لِوُجُودِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. كَمَا لَوْ قَالَ: " إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ، فَهَلْ هُوَ كَالنَّائِمِ فَلَا يَحْنَثُ أَوْ كَالنَّاسِي فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ،، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَالنَّائِمِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَنْ يَقْصِدُ مَنْعَهُ كَعَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَجِيرِهِ فَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، هُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مَنْعَهُ لِمَنْ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ كَمَنْعِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ لَمْ نُحَنِّثْ النَّاسِيَ فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَالنَّاسِي قَدْ قَصَدَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَنَّثْنَا النَّاسِيَ هَلْ يَحْنَثُ هَذَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّاسِي؛ إذْ هُوَ جَاهِلٌ بِكَوْنِهِ مَعَهُمْ. وَالثَّانِيَةُ: - وَهِيَ أَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ. وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ، وَلَكِنْ تَنَاقَضُوا كُلُّهُمْ فِي جَعْلِ النَّاسِي فِي الصَّوْمِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْجَاهِلِ، فَفَطَّرُوا الْجَاهِلَ دُونَ النَّاسِي، وَسَوَّى شَيْخُنَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: الْجَاهِلُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْفِطْرِ مِنْ النَّاسِي، فَسَلِمَ مِنْ التَّنَاقُضِ. وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي فِيمَنْ حَمَلَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَجَعَلُوا الرِّوَايَتَيْنِ وَالْقَوْلَيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ سَوَاءً، وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» فَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ: [فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُكْرَهًا] وَأَمَّا إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ، إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 فِي الْجَمِيعِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَحْنَثُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَخَرَّجَ أَبُو الْبَرَكَاتِ رِوَايَةً ثَالِثَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَيْمَانِ مِنْ نَصِّهِ عَلَى الْفَرْقِ فِي صُورَةِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي، فَإِنْ أُلْجِئَ أَوْ حَمَلَ أَوْ فَتَحَ فَمَهُ وَأُوجِرَ مَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَشْرَبَهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَوَجْهَانِ، وَإِذَا لَمْ يَحْنَثْ فَاسْتَدَامَ مَا أُلْجِئَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُلْجِئَ إلَى دُخُولِ دَارٍ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا، فَهَلْ يَحْنَثُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْصِدُ مَنْعَهُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ مُلْجَأً فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَوَاءٌ. فَصْلٌ: [حُكْمُ الْمُتَأَوِّلِ] أَمَّا الْمُتَأَوِّلُ فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ كَمَا لَمْ يَأْثَمْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَقْبِضَ حَقَّهُ فَأَحَالَهُ بِهِ فَفَارَقَهُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ قَبْضٌ، وَأَنَّهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، فَحَكَوْا فِيهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَ، وَطَرَدَ هَذَا كُلُّ مُتَأَوِّلٍ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَا فَعَلَهُ؛ فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِالْحِنْثِ، وَفِي الْجَاهِلِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُتَأَوِّلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ أَوْلَى، فَإِذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يُكَلِّمَ فُلَانًا أَوْ لَا يَدْخُلَ دَارِهِ فَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ، اعْتِقَادًا لِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَطَاوُسٍ وَشُرَيْحٍ، أَوْ اعْتِقَادًا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَفَّالِ فِي صِيغَةِ الِالْتِزَامِ دُونَ صِيغَةِ الشَّرْطِ، أَوْ اعْتِقَادًا لِقَوْلِ أَشْهَبَ -، وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ مَالِكٍ - أَنَّهُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بِفِعْلِهَا، أَوْ اعْتِقَادًا لِقَوْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ أَجَلُّ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَالْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، لَمْ يَحْنَثْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَلَوْ فُرِضَ فَسَادُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُتَأَوِّلًا مُقَلِّدًا ظَانًّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ مِنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِي الْجَاهِلِ إنَّهُ مُفَرِّطٌ حَيْثُ لَمْ يَسْتَقْصِ، وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَ مَنْ أَفْتَاهُ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْجَاهِلِ إنَّهُ مُفَرِّطٌ حَيْثُ لَمْ يَبْحَثْ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْفَرْقُ لَبَطَلَ عُذْرُ الْجَاهِلِ أَلْبَتَّةَ، فَكَيْفَ وَالْمُتَأَوِّلُ مُطِيعٌ لِلَّهِ مَأْجُورٌ إمَّا أَجْرًا وَاحِدًا أَوْ أَجْرَيْنِ؟ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤَاخِذْ خَالِدًا فِي تَأْوِيلِهِ حِينَ قَتَلَ بَنِي جَذِيمَةَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ أُسَامَةَ حِينَ قَتَلَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَجْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ أَكَلَ نَهَارًا فِي الصَّوْمِ عَمْدًا لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ أَصْحَابَهُ حِينَ قَتَلُوا مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَخَذُوا غَنِيمَتَهُ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ الْمُسْتَحَاضَةَ بِتَرْكِهَا الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَمَّا أَجْنَبَ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَجِدْ مَاءً، وَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ كَتَمَعُّكِ الدَّابَّةِ وَصَلَّى لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَقْصَى. وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْفِتْنَةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ، أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ رَمَى حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ الْمُؤْمِنَ الْبَدْرِيَّ بِالنِّفَاقِ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بِقَوْلِهِ لِسَعْدٍ سَيِّدِ الْخَزْرَجِ: " إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ " لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ قَالَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِْ: " ذَلِكَ الْمُنَافِقُ نَرَى وَجْهَهُ وَحَدِيثَهُ إلَى الْمُنَافِقِينَ " لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ ضَرَبَ صَدْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ ذَهَبَ لِلتَّبْلِيغِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرِهِ فَمَنَعَهُ عُمَرُ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: " ارْجِعْ "، وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِهِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ. وَكَمَا رَفَعَ مُؤَاخَذَةَ التَّأْثِيمِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهَا رَفَعَ مُؤَاخَذَةَ الضَّمَانِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ لِأَمْرٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ وَقَوْلُهُ الَّذِي قَلَّدَ فِيهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ تَأَوَّلَ وَقَلَّدَ مَنْ أَفْتَاهُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَانِثٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ، بَلْ هَذِهِ فِرْيَةٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَى الْحَالِفِ، وَإِذَا وَصَلَ الْهَوَى إلَى هَذَا الْحَدِّ فَصَاحِبُهُ تَحْتَ الدَّرْكِ، وَلَهُ مَقَامٌ، وَأَيُّ مَقَامٍ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُهُ شَيْخُهُ وَلَا مَذْهَبُهُ وَمَنْ قَلَّدَهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِأَجْلِ كَلَامِك لِزَيْدٍ وَخُرُوجِك مِنْ بَيْتِي " فَبَانَ أَنَّهَا لَمْ تُكَلِّمْهُ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ لَمْ تَطْلُقْ، صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْإِرْشَادِ فَإِنْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ " بِنَصْبِ الْأَلِفِ، وَالْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ لَهَا دُخُولٌ إلَى تِلْكَ الدَّارِ قَبْلَ الْيَمِينِ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْمَاضِي مِنْ الْفِعْلِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَدْخُلْهَا قَبْلَ الْيَمِينِ بِحَالٍ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الْيَمِينِ إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ الْفِعْلَ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ إنْ كُنْت دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ جَاهِلًا بِاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْيَمِينِ الدُّخُولَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الْمُسْتَقْبَلِ فَمَتَى دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الْيَمِينِ طَلُقَتْ بِمَا حَلَفَ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ لَهَا دُخُولُ الدَّارِ قَبْلَ الْيَمِينِ فَهَلْ يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ الْمَاضِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا لَا يَحْنَثُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا عَلَّلَ الطَّلَاقَ بِعِلَّةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ انْتِفَاؤُهَا فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ شَيْخِنَا لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّعْلِيلِ بِلَفْظِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِعِلَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ أَوْ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ انْتِفَاؤُهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْمَذْهَبِ غَيْرُهُ، وَلَا تَقْتَضِي قَوَاعِدُ الْأَئِمَّةِ غَيْرَهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: امْرَأَتُك قَدْ شَرِبَتْ مَعَ فُلَانٍ أَوْ بَاتَتْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّهَا طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي بَيْتِهَا قَائِمَةً تُصَلِّي فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ قَطْعًا، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا " فَرْقٌ أَلْبَتَّةَ، لَا عِنْدَ الْحَالِفِ وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي الشَّرْعِ، فَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ بِهَذَا وَهْمٌ مَحْضٌ؛ إذْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقَ مَنْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ طَلَاقَ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ - مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ وَالْقَفَّالُ وَغَيْرُهُمَا الرَّجُلُ يَمُرُّ عَلَى الْمَكَّاسِ بِرَقِيقٍ لَهُ فَيُطَالِبُهُ بِمَكْسِهِمْ فَيَقُولُ: " هُمْ أَحْرَارٌ " لِيَتَخَلَّصَ مِنْ ظُلْمِهِ، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي عِتْقِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يُعْتِقُونَ، وَبِهَذَا أَفْتَيْنَا نَحْنُ تُجَّارَ الْيَمَنِ لَمَّا قَدِمُوا مِنْهَا وَمَرُّوا عَلَى الْمَكَّاسِينَ فَقَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ بِمَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعِوَضَ فَقَالَ: " اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ الْعِوَضَ فَظَهَرَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا وَرَجَعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ، وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، وَصَرَّحُوا أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِشَرْطٍ فَظَنَّ أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ وَقَعَ فَقَالَ: " اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ "، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَبَانَ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ قَالَ " حَلَفْت بِطَلَاقِ امْرَأَتِي ثَلَاثًا أَلَّا أَفْعَلَ كَذَا "، وَكَانَ كَاذِبًا ثُمَّ فَعَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. قَالَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي: إذَا قَالَ: حَلَفْتُ، وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هِيَ كِذْبَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ حَكَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَذَبَ فِي الْخَبَرِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: " مَا صَلَّيْت " وَقَدْ صَلَّى. قُلْت: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: بَابُ الْقَوْلِ فِي إخْبَارِ الْإِنْسَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ كَاذِبًا، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إذَا قَالَ: " حَلَفْت بِيَمِينٍ "، وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ قَالَ: " قَدْ حَلَفْت بِالطَّلَاقِ "، وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ بِهَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، وَيَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: قَدْ حَلَفْتُ، وَلَمْ يَكُنْ حَلَفَ: فَهِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 كِذْبَةٌ لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ، إحْدَاهَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ -: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ - قَالَ عَقِيبَ حِكَايَةِ الرِّوَايَتَيْنِ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الطَّلَاقِ: يَلْزَمُهُ وَفِيمَا لَا يَكُونُ مِنْ الْأَيْمَانِ: لَا يَلْزَمُهُ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ حَيْثُ أَلْزَمَهُ أَرَادَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، وَحَيْثُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَفْقَهُ، وَأَطْرُدُ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصْلٌ: وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَإِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْعَجْزِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ كَلَامَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ. قَالُوا: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ حَنِثَ بِحُصُولِ الْفِعْلِ، عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ خَطَأً، وَاخْتَارَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْأَشْيَاخِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا نَسِيَ الْيَمِينَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالُوا: وَلَوْ أُكْرِهَ لَمْ يَحْنَثْ. فَصْلٌ: فِي تَعَذُّرِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَعَجْزِ الْحَالِفِ عَنْهُ. قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَيَفْعَلَنَّهُ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِهِ، فَإِنْ أَجَّلَ أَجَلًا فَامْتَنَعَ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَذَهَابِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمَحْلُوفِ عَلَى ضَرْبِهِ أَوْ الْحَمَامَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَى ذَبْحِهَا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ مَنْصُوصٍ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْفِعْلُ لِسَبَبِ مَنْعِ الشَّرْعِ كَمَنْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فَوَجَدَهَا حَائِضًا فَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قُلْت: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ يَمْلِكُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْوَطْءُ الَّذِي لَمْ يُمَلِّكْهُ الشَّارِعُ إيَّاهُ، فَإِنْ قَصَدَهُ حَنِثَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ: لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ يَمْلِكُهُ، وَهَكَذَا فِي صُورَةِ الْعَجْزِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا تَدْخُلُ حَالَةَ الْعَجْزِ تَحْتَ يَمِينِهِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَدْ قَالُوهُ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَالتَّفْرِيقُ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ؛ فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِقَوَاعِدِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَجْزُ لِمَنْعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مَنْعٍ كَوْنِيٍّ قَدَرِيٍّ، كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِيمَا لَوْ كَانَ الْعَجْزُ لِإِكْرَاهِ مُكْرَهٍ، وَنَصُّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ مِنْ أُصُولِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ التَّخْرِيجِ، فَلَوْ وَطِئَ مَعَ الْحَيْضِ وَعَصَى فَهَلْ يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِنْثِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، أَحَدُهُمَا: يَتَخَلَّصُ، وَإِنْ أَثِمَ بِالْوَطْءِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَشْرَبَنَّ هَذِهِ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا فَإِنَّهُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ، وَالثَّانِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِ وَطْءٍ مُبَاحٍ، فَلَا تَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ الْمُحَرَّمَ، فَيُقَالُ: إذَا كَانَ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا لَمْ تَتَنَاوَلْ يَمِينُهُ الْمُحَرَّمَ فَلَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا فَلَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ بِمَنْعِ ظَالِمٍ كَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ أَوْ غَيْرِ ظَالِمٍ كَالْمُسْتَحَقِّ فَهَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَشْهَبُ: لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا ذُكِرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ بَاقٍ، وَإِنَّمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْإِدَاوَةِ غَدًا فَأُرِيقَ قَبْلَ الْغَدِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَلَى قَوْلَيْ الْإِكْرَاهِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ، وَإِنْ حَنَّثْنَا الْمُكْرَهَ لِعَجْزِهِ عَنْ الشُّرْبِ وَقُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَجَعَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَاجِزَ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَسَوَّى غَيْرُهُ بَيْنَهُمَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولَهَا تَشْهَدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ الشَّارِعِ نَظِيرُ الْحَضِّ وَالْمَنْعِ فِي الْيَمِينِ، وَكَمَا أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ مَنُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَلَا وَاجِبَ مَعَ عَجْزٍ وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ فَكَذَلِكَ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ فِي الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقُدْرَةِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَالِفَ يَعْلَمُ أَنَّ سِرَّ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمَغْلُوبُ عَلَى الْفِعْلِ بِنِسْيَانٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَلَا مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ إلَيْهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ فَانْصَبَّ فَقَدْ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ رَغِيفًا فَجَاءَ كَلْبٌ فَأَكَلَهُ فَقَدْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَالَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ مُخَاتَلَةً فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا، وَأَمْثَالُهُ مِنْ نُصُوصِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ " إنَّهُ يَحْنَثُ " كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَحُمِلَ كُرْهًا فَأُدْخِلَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَقَدْ جَعَلَ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ وَالْمُكْرَهَ وَالْعَاجِزَ بِمَنْزِلَةٍ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَحُمِلَ كُرْهًا فَأُدْخِلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ: وَالذُّبَابُ يَدْخُلُ حَلْقَ الصَّائِمِ وَالرَّجُلِ يَرْمِي بِالشَّيْءِ فَيَدْخُلُ حَلْقَ الْآخَرِ وَكُلُّ أَمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَتَوَاتَرَتْ نُصُوصُهُ فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 عَلَيْهِ؛ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِي وَالْمَغْلُوبِ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُكْرَهِ، فَتَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْعَاجِزِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ الْمَغْلُوبُ وَالْعَاجِزُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ مِنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْتِزَامِ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ: [حُكْمُ الْتِزَامِ الطَّلَاقِ] الْمَخْرَجُ السَّادِسُ: أَخَذَهُ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا حِنْثٌ، وَهَذَا إذَا أَخْرَجَهُ بِصِيغَةِ الِالْتِزَامِ، كَقَوْلِهِ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، أَوْ لَازِمٌ لِي، أَوْ ثَابِتٌ عَلَيَّ، أَوْ حَقٌّ عَلَيَّ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَيَّ، أَوْ مُتَعَيِّنٌ عَلَيَّ إنْ فَعَلْتُ، أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ "، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ مَذْهَبِهِ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ فِي قَوْلِهِ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " وَنَحْنُ نَذْكُرُ كَلَامَهُمْ بِحُرُوفِهِ. [كَلَامُ الْحَنَفِيَّةِ] قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ قَالَ لَهَا: " طَلَاقُك عَلَيَّ وَاجِبٌ، أَوْ لَازِمٌ، أَوْ فَرْضٌ، أَوْ ثَابِتٌ " ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ خِلَافًا بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقَعُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: " وَاجِبٌ " يَقَعُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَفِي قَوْلِهِ: " لَازِمٌ " لَا يَقَعُ، وَإِنْ نَوَى، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ: " إنْ فَعَلْتِ كَذَا فَطَلَاقُك عَلَيَّ وَاجِبٌ، أَوْ قَالَ لَازِمٌ، أَوْ ثَابِتٌ " فَفَعَلَتْ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ فِي قَوْلِهِ لَازِمٌ وَلَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ اخْتَارَ مِنْ الْمَشَايِخِ الْوُقُوعَ وَمَنْ اخْتَارَ عَدَمَهُ، فَقَالَ: وَكَانَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ يُفْتِي بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فِي الْكُلِّ. [كَلَامُ الشَّافِعِيَّةِ] وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: إذَا قَالَ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ، حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ، وَإِنْ نَوَاهُ، وَلِهَذَا الْقَوْلُ مَأْخَذَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْإِضَافَةُ هَاهُنَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: " أَنَا مِنْك طَالِقٌ " لَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: " طَلِّقِي نَفْسَك " فَقَالَتْ: " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ تَطْلُقْ، وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي -، وَهُوَ مَأْخَذُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ -: أَنَّهُ الْتِزَامٌ لِحُكْمِ الطَّلَاقِ، وَحُكْمُهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَعَلَيَّ أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 أُطَلِّقَك "، وَهُوَ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ تَطْلُقْ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ فَهَكَذَا الْمَصْدَرُ، وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْتِزَامٌ لَأَنْ يُطَلِّقَ أَوْ الْتِزَامٌ لِطَلَاقٍ وَاقِعٍ؛ فَإِنْ كَانَ الْتِزَامًا لَأَنْ يُطَلِّقَ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ كَانَ الْتِزَامًا لِطَلَاقٍ وَاقِعٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا يَلْزَمُنِي " طَلُقَتْ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَلِمَنْ رَجَّحَ هَذَا أَنْ يُحِيلَ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَقْصِدُ إلَّا هَذَا، وَلَا يَقْصِدُ الْتِزَامَ التَّطْلِيقِ، وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إنْ نَوَى بِذَلِكَ الْتِزَامِ التَّطْلِيقِ لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ نَوَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ طَلُقَتْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ جَعَلَهُ صَرِيحًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ حَكَمَ فِيهِ بِالْعُرْفِ وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ، وَالْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، حَكَاهَا شَارِحُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ. [قَوْلَانِ آخَرَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ] وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ، وَهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إنْ قَالَ: " فَالطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ " يَقَعُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَإِنْ قَالَ: " فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ " لَا يَقَعُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَوَجْهُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ " لَازِمٌ " الْتِزَامٌ لَأَنْ يُطَلِّقَ؛ فَلَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ " وَاجِبٌ " إخْبَارٌ عَنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا وَقَدْ وَقَعَ وَلِمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا أَنْ يَقُولَ: هُوَ إيجَابٌ لِلتَّطْلِيقِ، وَإِخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا كَاحْتِمَالِ قَوْلِهِ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " سَوَاءً، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْفَرْقُ تَحَكُّمٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ عَكْسُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِقَوْلِهِ: " الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ، أَوْ يَلْزَمُنِي " وَلَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ: " هُوَ عَلَيَّ وَاجِبٌ " وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ قَوْلُهُ: " إنْ فَعَلْت كَذَا فَالْعِتْقُ يَلْزَمُنِي، أَوْ فَعَلَيَّ الْعِتْقُ، أَوْ فَالْعِتْقُ لَازِمٌ لِي، أَوْ وَاجِبٌ عَلَيَّ ". [فَصَلِّ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ السَّابِعُ وَفِيهِ الْبَحْثُ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ يُرَادُ بِهِ الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ] الْمَخْرَجُ السَّابِعُ: أَخْذُهُ بِقَوْلِ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، بَلْ هُوَ أَفْقَهُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: " إنْ كَلَّمَتْ زَيْدًا، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِي بِغَيْرِ إذْنِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مِنْ فِعْلِهَا " فَأَنْتِ طَالِقٌ " وَكَلَّمَتْ زَيْدًا أَوْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ تَقْصِدُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَمْ تَطْلُقْ، حَكَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الْمُقَدِّمَاتِ لَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَهُ مِنْ الْمَقْتُولِ، وَحِرْمَانِ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّةَ مَنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَتَوْرِيثِ امْرَأَةِ مَنْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فِرَارًا مِنْ مِيرَاثِهَا، وَكَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَقَبِلَهُمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ فَمُعَاقَبَةُ الْمَرْأَةِ هَاهُنَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا هُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا عَلَى أَشْهَبَ بِمَسْأَلَةِ الْمُخَيَّرَةِ وَمَنْ جَعَلَ طَلَاقَهَا بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَّكَهَا ذَلِكَ وَجَعَلَهُ بِيَدِهَا بِخِلَافِ الْحَالِفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ طَلَاقَهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا جَعَلَهُ بِيَدِهَا بِالْيَمِينِ، حَتَّى لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فَقَالَ: " إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ " إنْ أَبْرَأَتْنِي مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَأَعْطَتْهُ أَوْ أَبْرَأَتْهُ طَلُقَتْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَ أَشْهَبُ أَفْقَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا قَصَدَ حَضَّهَا وَمَنْعَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ إلَيْهَا، وَلَا خَطَرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَا قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، وَمَكَانُ أَشْهَبَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةِ غَيْرُ مَجْهُولٍ؛ فَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الِانْتِقَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَيِّ قَالَ: أَشْهَبُ أَفْقَهُ مِنْكُمْ وَمِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَنْكَرَ ابْنُ كِنَانَةَ ذَلِكَ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدَنَا كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّ أَشْهَبَ شَيْخُهُ وَمُعَلِّمُهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَشْهَبُ شَيْخُهُ وَمُعَلِّمُهُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ شَيْخُهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا لِكَثْرَةِ مُجَالَسَتِهِ لَهُمَا، وَأَخْذِهِ عَنْهُمَا. [فَصْلٌ هَلْ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ يَمِينٌ أَوْ لَا] فَصْلٌ: [هَلْ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ يَمِينٌ أَوْ لَا؟] الْمَخْرَجُ الثَّامِنُ: أَخْذُهُ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْحَانِثِ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ خَلْقٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: وَلَا يُعْرَفُ لِعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، هَذَا لَفْظُ أَبِي الْقَاسِمِ التَّيْمِيِّ فِي شَرْحِ أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ، وَقَالَهُ قَبْلَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ أَجَلُّ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَفْقَهُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا، قُلْت: أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَهَذَا أَصَحُّ إسْنَادٍ عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ، وَأَفْقَهِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ عَالِمٍ مِمَّنْ بَنَى فِقْهَهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَمِنْ آخِرِهِمْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ. قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُحَلَّى: مَسْأَلَةٌ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ، سَوَاءٌ بَرَّ أَوْ حَنِثَ، لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا طَلَاقَ إلَّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَمِينَ إلَّا كَمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، ثُمَّ قَرَّرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 ذَلِكَ، وَسَاقَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ لَا يَقْضُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قُلْت: أَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَأَرَادَ سَفَرًا، فَأَخَذَهُ أَهْلُ امْرَأَتِهِ، فَجَعَلَهَا طَالِقًا إنْ لَمْ يَبْعَثْ بِنَفَقَتِهَا إلَى شَهْرٍ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَبْعَثْ إلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا قَدِمَ خَاصَمُوهُ إلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: اضْطَهَدْتُمُوهُ حَتَّى جَعَلَهَا طَالِقًا، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ " اضْطَهَدْتُمُوهُ " لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إكْرَاهٌ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا طَالَبُوهُ بِحَقِّ نَفَقَتِهَا فَقَطْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا عَلَى الْيَمِينِ، وَلَيْسَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْيَمِينِ حَتَّى يَكُونَ يَمِينُ مُكْرَهٍ، وَالسَّائِلُونَ لَمْ يَقُولُوا لِعَلِيٍّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا خَاصَمُوهُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ فَقَطْ، فَنَزَّلَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُضْطَهَدِ حَيْثُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّخَلُّصَ إلَى سَفَرِهِ بِالْحَلِفِ، فَالْحَالِفُ وَالْمُضْطَهَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يُرِدْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، فَالْمُضْطَهَدُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّلَاقِ تَكَلَّمَ بِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ، وَالْحَالِفُ حَلَفَ بِهِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ أَوْ التَّصْدِيقِ أَوْ التَّكْذِيبِ وَلَوْ اخْتَلَفَ حَالَ الْحَالِفِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ مُخْتَارًا لَسَأَلَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ الْإِكْرَاهِ وَشُرُوطِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ أُكْرِهَ، وَهَذَا ظَاهِرُ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَارْضَ لِلْمُقَلِّدِ بِمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا أَثَرُ شُرَيْحٍ فَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ حَدَثًا، فَاكْتَرَى بَغْلًا إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ، فَتَعَدَّى بِهِ إلَى أَصْبَهَانَ فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِهِ خَمْرًا، فَقَالَ شُرَيْحٌ: إنْ شِئْتُمْ شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، فَجَعَلُوا يُرَدِّدُونَ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ وَيُرَدِّدُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرَهُ حَدَثًا، وَلَا مُتَعَلِّقَ لِقَوْلِ الرَّاوِي - إمَّا مُحَمَّدٌ، وَإِمَّا هِشَامٌ - فَلَمْ يَرَهُ حَدَثًا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ ظَنٌّ مِنْهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَيُّ حَدَثٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ تَعَدَّى مِنْ حَمَّامِ أَعْيَنَ، وَهُوَ عَلَى مَسِيرَةِ أَمْيَالٍ يَسِيرَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى أَصْبَهَانَ ثُمَّ بَاعَ بَغْلَ مُسْلِمٍ ظُلْمًا وَاشْتَرَى بِهِ خَمْرًا؟ . قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ شُرَيْحًا لَمَّا رُدَّتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ ظَنَّ مَنْ شَاهَدَ الْقِصَّةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ حَدَثًا؛ إذْ لَوْ رَآهُ حَدَثًا لَأَوْقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَشُرَيْحٌ إنَّمَا رَدَّهَا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْيَمِينَ فَقَطْ، فَلَمْ يُلْزِمْهُ بِالطَّلَاقِ، فَقَالَ الرَّاوِي فِيهِمْ: فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ حَدَثًا، وَشُرَيْحٌ أَفْقَهُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَنْ لَا يَرَى مِثْلَ هَذَا حَدَثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ إذَا حَنِثَ عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا ذَكَرَهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ أَخَاهُ، فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ طَلَاقًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] . وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمَنْقُولَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَجَدَهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَصَرِيحٌ فِي الْوُقُوعِ، وَظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَتَوَقَّفَ عَنْ الطَّرَفَيْنِ، فَالْمَنْقُولُ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشُرَيْحٍ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَعَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ صَرِيحٌ فِي التَّوَقُّفِ. وَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْوُقُوعِ فَلَا يُؤْثَرُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ إلَّا فِيمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ لِإِرَادَةِ الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ، كَالْمَنْقُولِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، بَلْ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالنُّفُوذِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ: الْقِيَاسُ أَنَّ الطَّلَاقَ مِثْلُهُ، إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ فِي الطَّلَاقِ لِتَوَهُّمِ الْإِجْمَاعِ. وَهَذَا عُذْرُ أَكْثَرِ الْمُوقِعِينَ لِلطَّلَاقِ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْوُقُوعِ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ تَبَيَّنَ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مُعَارَضَتُهَا بِدَعْوَى إجْمَاعٍ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ قَطْعًا؟ فَلَيْسَ بِأَيْدِي الْمُوقِعِينَ آيَةٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إلَّا الِاسْتِصْحَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ لَكَانَ كَافِيًا، فَكَيْفَ وَمَعَهُمْ الْأَقْيِسَةُ الَّتِي أَكْثَرُهَا مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى؟ وَالْبَاقِي مِنْ الْقِيَاسِ الْمُسَاوِي، وَهُوَ قِيَاسُ النَّظِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَالْآثَارُ وَالْعُمُومَاتُ وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ وَالْحِكَمُ وَالْمُنَاسِبَاتُ الَّتِي شَهِدَ لَهَا الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُمْ مُنَازِعُوهُمْ عَنْهُمْ بِحُجَّةٍ أَصْلًا؟ وَقَوْلُهُمْ وَسَطٌ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ غَايَةَ التَّبَايُنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ مَنْ يَعْتَبِرُ التَّعْلِيقَ فَيُوقِعُ بِهِ الطَّلَاقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا يَقْصِدُ بِهِ الْحَالِفُ مَنْعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَوْ تَعْلِيقًا شَرْطِيًّا يَقْصِدُ بِهِ حُصُولَ الْجَزَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ كُلَّهُ لَغْوٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ أَلْبَتَّةَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَخْرَجِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَؤُلَاءِ تَوَسَّطُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالُوا: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْمَقْصُودِ بِهِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَلَا يَقَعُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْقَسَمِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ كُلُّ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ احْتَجَّ بِهَا الْمُوقِعُونَ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْمَقْصُودِ. وَكُلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 حُجَّةٍ احْتَجَّ بِهَا الْمَانِعُونَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْقَسَمِيِّ، فَهُمْ قَائِلُونَ بِمَجْمُوعِ حُجَجِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَجَامِعُونَ لِلْحَقِّ الَّذِي مَعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمُعَارِضُونَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَحُجَجِهِمْ [بِقَوْلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَحُجَجِهِمْ] . [فَصْلٌ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ التَّاسِعُ وَفِيهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ] الْمَخْرَجُ التَّاسِعُ: أَخْذُهُ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقَعُ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ النِّكَاحِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الشَّافِعِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْأَجِلَّةِ أَوْ أَجَلَّهُمْ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يُجِلُّهُ وَيُكَرِّمُهُ وَيُكَنِّيهِ وَيُعَظِّمُهُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَكَانَا يُكَرِّمَانِهِ، وَكَانَ بَصَرُهُ ضَعِيفًا، فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لَا تَدْفَعُوا إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِتَابَ يُعَارَضُ بِهِ فَإِنَّهُ يُخْطِئُ، وَذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي طَبَقَاتِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَمَحَلُّ الرَّجُلِ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّضَلُّعِ مِنْهُ لَا يَدْفَعُ، وَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي ثَوْرٍ وَتِلْكَ الطَّبَقَةُ، وَكَانَ رَفِيقَ أَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا نَزَلَ بِطَبَقَتِهِ إلَى طَبَقَةِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ كَانَ قَوْلُهُ وَجْهًا، وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، بَلْ قَدْ قَالَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: وَالطَّلَاقُ بِالصِّفَةِ عِنْدَنَا كَمَا هُوَ الطَّلَاقُ بِالْيَمِينِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا يَكُونُ طَلَاقًا إلَّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ، وَمَا عَدَاهُ فَبَاطِلٌ وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْقَوْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا فِي النَّظَرِ فَإِنَّ الْمُوَقَّعِينَ لِلطَّلَاقِ لَا يُمْكِنُهُمْ إبْطَالُهُ أَلْبَتَّةَ لِتَنَاقُضِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ لَهُمْ: قَوْلُنَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِكُمْ فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ سَوَاءٌ، فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ وَالْإِسْقَاطَاتِ بِالشُّرُوطِ وَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، فَلَا تُبْطِلُوا قَوْلَ مُنَازِعِيكُمْ فِي صِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ بِشَيْءٍ إلَّا كَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ حُجَّةً عَلَيْكُمْ فِي إبْطَالِ قَوْلِكُمْ فِي مَنْعِ صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ إلْغَاءَ هَذَا التَّعْلِيقِ وَصِحَّةَ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ؟ فَإِنْ فَرَّقْتُمْ بِالْمُعَاوَضَةِ وَقُلْتُمْ: " إنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا " انْتَقَضَ عَلَيْكُمْ طَرْدًا بِالْجَعَالَةِ وَعَكْسًا بِالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ؛ فَانْتَقَضَ عَلَيْكُمْ الْفَرْقُ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بِالتَّمْلِيكِ وَالْإِسْقَاطِ فَقُلْتُمْ: " عُقُودُ التَّمْلِيكِ لَا تَقْبَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 التَّعْلِيقَ، بِخِلَافِ عُقُودِ الْإِسْقَاطِ " انْتَقَضَ أَيْضًا طَرْدُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَعَكْسُهُ بِالْإِبْرَاءِ؛ فَلَا طَرْدَ وَلَا عَكْسَ، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بِالْإِدْخَالِ فِي مِلْكِهِ وَالْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ فَصَحَّحْتُمْ التَّعْلِيقَ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ انْتَقَضَ أَيْضًا فَرْقُكُمْ؛ فَإِنَّ الْهِبَةَ وَالْإِبْرَاءَ إخْرَاجٌ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُمَا عِنْدَكُمْ، وَإِنْ فَرَّقْتُمْ بِمَا يَحْتَمِلُ الْغَرَرَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ، فَمَا يَحْتَمِلُ الْغَرَرَ وَالْأَخْطَارَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ، انْتَقَضَ عَلَيْكُمْ بِالْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ عِنْدَكُمْ وَتَحْتَمِلُ الْخَطَرَ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، وَلَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ وَلَا وَصْفَهُ وَلَا سِنَّهُ وَلَا ثَمَنَهُ، بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ جِنْسِهِ فَقَطْ، أَوْ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ دَارٍ، وَيَكْتَفِي بِذِكْرِ مَحَلِّهَا وَسَكَنِهَا فَقَطْ، وَأَنْ يُوَكِّلَهُ فِي التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةِ فَقَطْ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى كَوْنِهَا امْرَأَةً، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ جِنْسَ مَهْرِهَا وَلَا قَدْرَهُ وَلَا وَصْفَهُ، وَأَيُّ خَطَرٍ فَوْقَ هَذَا؟ وَمَعَ ذَلِكَ مَنَعْتُمْ مِنْ تَعْلِيقِهَا بِالشَّرْطِ، وَطَرْدُ هَذَا الْفَرْقِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ صِحَّةَ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرُهُ مِنْ الْعُقُودِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رُؤْيَةُ الزَّوْجَةِ، وَلَا صِفَتُهَا، وَلَا تَعْيِينُ الْعِوَضِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا وَلَا وَصْفًا، وَيَصِحُّ مَعَ جَهَالَتِهِ، وَجَهَالَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يَعْلَمُ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إنْ صَحَّ هَذَا الْفَرْقُ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِهِ فِيمَا لَوْ قَالَ: " إنْ كَانَتْ جَارِيَتِي وَلَدَتْ بِنْتًا فَقَدْ زَوَّجْتُكهَا "، وَهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا عَلَى شَرْطِ مُسْتَقْبِلٍ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: " مَتَى وَلَدَتْ جَارِيَةٌ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا " لِأَنَّ هَذَا فِيهِ خَطَرٌ لَيْسَ فِي صُورَةِ النَّصِّ، وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُوفُوهُ حَقَّهُ، وَلَمْ يَطَّرِدْ فِقْهُهُ، فَلَوْ قَالَ: " إنْ كَانَ أَبِي مَاتَ وَوَرِثْت مِنْهُ هَذَا الْمَتَاعَ فَقَدْ بِعْتُكَهُ " أَبْطَلْتُمُوهُ، وَقُلْتُمْ: هُوَ بَيْعٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَالْبُطْلَانُ هَاهُنَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا مَعْنَى تَحْتَهُ، وَلَا خَطَرَ هُنَاكَ وَلَا غَرَرَ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ عَلَى الشَّرْطِ. قَالَ صَاحِب الْمُسْتَوْعِبِ: وَأَمَّا إذَا عَلَّقَ انْعِقَادَ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: " زَوَّجْتُك إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إذَا رَضِيَتْ أُمُّهَا " فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْأُخْرَى يَصِحُّ. وَذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ جَاءَهَا بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَبْطُلُ النِّكَاحُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا؛ فَصَارَ عَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: صِحَّةُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَبُطْلَانُهُمَا، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ وَفَسَادُ الشَّرْطِ، لَكِنَّ هَذَا فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ أَوْ إنْ جَاءَهَا بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إذَا قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 زَوَّجْتُك إنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا " فَنَصَّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ إذَا رَضِيَتْ أُمُّهَا. [وَقَالَ: هُوَ نِكَاحٌ] وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَالِحٍ وَحَنْبَلٍ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ حَرَامٌ، وَكُلُّ نِكَاحٍ فِيهِ وَقْتٌ أَوْ شَرْطٌ فَاسِدٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشُّرُوطِ وَمَا لَا يَقْبَلُ إلَى الْآنَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ ضَابِطٌ فِي الْفَرْقِ، فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ مُضْطَرِبٌ فِيمَا يُعَلَّقُ وَمَا لَا يُعَلَّقُ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَإِنْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الْمَرْفُوعَةِ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا، وَإِنْ فَرَّقُوا طَالَبَهُمْ بِضَابِطِ ذَلِكَ أَوَّلًا وَبِتَأْثِيرِ الْفَرْقِ شَرْعًا ثَانِيًا، فَإِنَّ الْوَصْفَ الْفَارِقَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا كَالْوَصْفِ الْجَامِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ جَمْعًا وَفَرْقًا بِالْأَوْصَافِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهَا، فَإِنَّهُ وَضْعُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ، بَلْ الْعِلْمُ بِفَسَادِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ أَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِذَا جَازَ التَّقْرِيرُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَتَرْكُ إنْكَارِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ وَلَعَنَ فَاعِلَهُ وَذَمَّهُ فَالتَّقْرِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَجْوَدُ، وَأَجْوَزُ. هَذَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَالِمٌ مُنْصِفٌ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ فِي خِلَافِ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا أَقَلُّ خَطَأً، وَأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ زَوَالُ سَبَبِ الْيَمِينِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الْعَاشِرُ زَوَالُ سَبَبِ الْيَمِينِ] الْمَخْرَجُ الْعَاشِرُ: مَخْرَجُ زَوَالِ السَّبَبِ، وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَهُ عَلَى هَذَا الْمَخْرَجِ لِقُوَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلِهَذَا إذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا بِسَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ زَالَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِزَوَالِهِمَا كَالْخَمْرِ عُلِّقَ بِهَا حُكْمُ التَّنْجِيسِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ لِوَصْفِ الْإِسْكَارِ، فَإِذَا زَالَ عَنْهَا وَصَارَتْ خَلًّا زَالَ الْحُكْمُ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْفِسْقِ عُلِّقَ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، فَإِذَا زَالَ الْوَصْفُ زَالَ الْحُكْمُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ تَزُولُ الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهَا بِزَوَالِهَا، وَالشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَهَكَذَا الْحَالِفُ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ لَا يَفْعَلُهُ لِسَبَبٍ فَزَالَ السَّبَبُ لَمْ يَحْنَثْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَعَلَّقَتْ بِهِ لِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَإِذَا زَالَ الْوَصْفُ زَالَ تَعَلُّقُ الْيَمِينِ فَإِذَا دُعِيَ إلَى شَرَابٍ مُسْكِرٍ لِيَشْرَبَهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ، فَانْقَلَبَ خَلًّا فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنَّ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ نَظِيرَ مَنْعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الشَّارِعِ، فَإِذَا زَالَ مَنْعُ الشَّارِعِ بِانْقِلَابِهِ خَلًّا وَجَبَ أَنْ يَزُولَ مَنْعُ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ وَالتَّنْجِيسُ وَوُجُوبُ الْإِرَاقَةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ وَثُبُوتُ الْفِسْقِ قَدْ زَالَ بِزَوَالِ سَبَبِهِ فَمَا الْمُوجِبُ لِبَقَاءِ الْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَ سَبَبُهُ؟ وَهَلْ يَقْتَضِي مَحْضُ الْفِقْهِ إلَّا زَوَالَ حُكْمِ الْيَمِينِ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَالِفَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ شُرْبٍ غَيْرِ الْمُسْكِرِ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، فَإِلْزَامُهُ بِبَقَاءِ " حُكْمِ الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَ سَبَبُهَا إلْزَامٌ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ هُوَ، وَلَا أَلْزَمَهُ بِهِ الشَّارِعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ قَوْلًا وَلَا شَهَادَةً لِمَا يَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَصَارَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ كَمَا يَزُولُ حُكْمُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ لَا يَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَلَا يَطَأَهَا لِكَوْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، فَمَلَكَ الطَّعَامَ وَالثَّوْبَ وَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فَأَكَلَ الطَّعَامَ وَلَبِسَ الثَّوْبَ وَوَطِئَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ بِيَمِينِهِ كَالْمَنْعِ بِمَنْعِ الشَّارِعِ، وَمَنْعُ الشَّارِعِ يَزُولُ بِزَوَالِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْمَنْعُ؛ فَكَذَلِكَ مَنْعُ الْحَالِفِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ. وَكَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ أَنَّهَا تُعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاصِي وَتُشْرِبُ الْخَمْرُ؛ فَزَالَ ذَلِكَ وَعَادَتْ مَجْمَعًا لِلصَّالِحِينَ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، أَوْ قَالَ: " لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَكَانَ " لِأَجْلِ مَا رَأَى فِيهِ مِنْ الْمُنْكَرِ، فَصَارَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تُقَامُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لِفُلَانٍ طَعَامًا، وَكَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الرِّبَا، وَيَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ فَتَابَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَصَارَ طَعَامُهُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ أَوْ تِجَارَةٍ مُبَاحَةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَيَزُولُ حُكْمُ مَنْعِ الْيَمِينِ كَمَا يَزُولُ حُكْمُ مَنْعِ الشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا بَايَعْت فُلَانًا، وَسَبَبُ يَمِينِهِ كَوْنِهِ مُفْلِسًا أَوْ سَفِيهًا؛ فَزَالَ الْإِفْلَاسُ وَالسَّفَهُ؛ فَبَايَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَمَا إذَا اُتُّهِمَ بِصُحْبَةِ مُرِيبٍ فَحَلَفَ لَا أُصَاحِبُهُ فَزَالَتْ الرِّيبَةُ وَخَلَفَهَا ضِدُّهَا فَصَاحَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الْمَرِيضُ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ طَعَامًا وَسَبَبُ يَمِينِهِ كَوْنُهُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ فَصَحَّ وَصَارَ الطَّعَامُ نَافِعًا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِمَسَائِلَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ لِوَالٍ أَنْ لَا أُفَارِقَ الْبَلَدَ إلَّا بِإِذْنِك فَعُزِلَ فَفَارَقَ الْبَلَدُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لَا تَخْرُجِينَ مِنْ بَيْتِي إلَّا بِإِذْنِي، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِ، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَخَرَجَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَنْقُلُ حُكْمَ الْكَلَامِ إلَى نَفْسِهَا، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنْعَ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا دُمْتُمَا فِي مِلْكِي، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْخُصُوصِ كَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِقَاضٍ أَنْ لَا أَرَى مُنْكَرًا إلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 رَفَعْتُهُ إلَيْك فَعُزِلَ لَمْ يَحْنَثْ بِعَدَمِ الرَّفْعِ إلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لِامْرَأَتِهِ أَلَّا أَبِيتَ خَارِجَ بَيْتِك أَوْ خَارِجَ هَذِهِ الدَّارِ فَمَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَحْنَثْ إذَا بَاتَ خَارِجَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ عَلَى ابْنِهِ أَلَّا يَبِيتَ خَارِجَ الْبَيْتِ لِخَوْفِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْفُسَّاقِ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرَدَ، فَالْتَحَى وَصَارَ شَيْخًا لَمْ يَحْنَثْ بِمَبِيتِهِ خَارِجَ الدَّارِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ النِّيَّةَ فِي الْأَيْمَانِ وَبِسَاطُ الْيَمِينِ وَسَبَبُهَا وَمَا هَيَّجَهَا؛ فَيَحْمِلَانِ الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ. [قِفْ عَلَى اعْتِبَارِهِمْ بِسَاطَ الْيَمِينِ] وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ كِتَابِهِ الْكَافِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ نُظِرَ إلَى بِسَاطِ قِصَّتِهِ، وَمَا أَثَارَهُ عَلَى الْحَلِفِ، ثُمَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْأَغْلَبِ مِنْ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ أَهْلِ وَقْتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ: الْمُقْتَضَيَاتُ لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ أُمُورٌ؛ الْأَوَّلُ: النِّيَّةُ إذَا كَانَتْ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ اللَّفْظُ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَابِقَةً لَهُ أَوْ زَائِدَةً فِيهِ أَوْ نَاقِصَةً عَنْهُ بِتَقْيِيدِ مُطْلَقِهِ وَتَخْصِيصِ عَامِّهِ، الثَّانِي: السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْيَمِينِ يَتَعَرَّفْ مِنْهُ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْبِسَاطِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاصِدَ لِلْيَمِينِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَنْسَاهَا فِي بَعْضِهَا؛ فَيَكُونُ الْمُحَرِّكُ عَلَى الْيَمِينِ -، وَهُوَ الْبِسَاطُ - دَلِيلًا عَلَيْهَا، لَكِنْ قَدْ يَظْهَرُ مُقْتَضَى الْمُحَرِّكِ ظُهُورًا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ظُهُورُهُ وَخَفَاؤُهُ بِالْإِضَافَةِ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ وَحُمِلَ الْيَمِينُ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَإِنْ عُدِمَتْ رَجَعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى النِّيَّةِ. حَتَّى صَرَّحَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيمَنْ دَفَنَ مَالًا وَنَسِيَ مَكَانَهُ فَبَحَثَ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَحَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يَحْنَثْ، قَالُوا: لِأَنَّ قَصْدَهُ وَنِيَّتَهُ إنَّمَا هُوَ إنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ ذَهَبَ فَأَنْتِ الَّتِي أَخَذْتِهِ؛ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلُوا الْقَصْدَ وَالنِّيَّةَ فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ فَظَنَّهُ حَرَامًا فَحَلَفَ لَا أَطْعَمُهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حَلَالٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إنْ كَانَ حَرَامًا وَذَلِكَ قَصْدُهُ. وَمِثْلُهُ لَوْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَوْ ظَالِمٌ أَوْ فَاجِرٌ، فَظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الَّذِي ظَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَمِثْلُهُ لَوْ قُدِّمَتْ لَهُ دَابَّةٌ لِيَرْكَبَهَا فَظَنَّهَا قَطُوفًا أَوْ جَمُوحًا أَوْ مُتَعَسِّرَةَ الرُّكُوبِ فَحَلَفَ لَا يَرْكَبُهَا فَظَهَرَتْ لَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِهَا. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَيَرْجِعُ فِي الْأَيْمَانِ إلَى النِّيَّةِ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا رَجَعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إذَا دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَغَدَّى أَوْ قِيلَ لَهُ اُقْعُدْ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْعُدَ اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ الْغَدَاءِ وَبِالْقُعُودِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ عَاقِلًا لَا يَقْصِدُ أَنْ لَا يَتَغَدَّى أَبَدًا وَلَا يَقْعُدُ أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ فَزَالَ الظُّلْمُ، قَالَ أَحْمَدُ: النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ، يَعْنِي لَا يَدْخُلُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا كَانَ عَامًّا لِسَبَبٍ خَاصٍّ وَجَبَ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، كَذَلِكَ يَمِينُ الْحَالِفِ. وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا، فَقَالَ: إنَّمَا مَنَعَهُ أَحْمَدُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ بَعْدَ زَوَالِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ لِلَّهِ أَلَّا يَدْخُلَهَا، وَأَكَّدَ نَذْرَهُ بِالْيَمِينِ، وَالنَّذْرُ قُرْبَةٌ، فَقَدْ نَذَرَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِجْرَانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَهُ. هَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَجَابَ بِهِ السَّائِلُ حَيْثُ قَالَ: النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِلَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْعَوْدُ فِيهَا، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَكُوهَا لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ تَرْكِ الْبَلَدِ لِلظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي فِيهِ إذَا نَذَرَهُ النَّاذِرُ؛ فَهَذَا سِرُّ جَوَابِهِ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُ الَّذِي عَلَيْهِ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ فِي الْيَمِينِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا فِي نُصُوصِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِ الذَّخَائِرِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي تَقْيِيدِ الْأَيْمَانِ الْمُطْلَقَةِ بِالدَّلَالَةِ، إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ مِنْ الدَّارِ فَقَالَ الزَّوْجُ " إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَجَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَضْرِبَهُ فَحَلَفَ آخَرُ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ، فَهَذَا عَلَى تِلْكَ الضَّرْبَةِ، حَيٌّ لَوْ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ، وَيُسَمَّى هَذَا يَمِينُ الْفَوْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخَرْجَةَ الَّتِي قَصَدَ وَالضَّرْبَةَ الَّتِي قَصَدَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا عُرْفًا وَعَادَةً؛ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: تَعَالَى تَغَدَّ مَعِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، فَذَهَبَ إلَى بَيْتِهِ وَتَغَدَّى مَعَ أَهْلِهِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: كُلْ مَعَ فُلَانٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهُ لَا آكُلُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَقْرِيرَ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 بِأَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ الْآمِرِ لَهُ، وَالْجَوَابُ كَالْمَعَادِ فِي السُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَا فِيهِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَابْتِدَاءِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَمْ يَخْرُجْ جَوَابًا بِالتَّقْيِيدِ، بَلْ خَرَجَ ابْتِدَاءً، هُوَ مُطْلَقٌ عَنْ الْقَيْدِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ غَدَاءٍ، قَالَ: وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: كَلِّمْ لِي زَيْدًا الْيَوْمَ فِي كَذَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا عَنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: ائْتِنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ أَتَاكَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ لِتَعْيِينِ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ؛ فَإِذَا تَعَيَّنَ بِاللَّفْظِ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا لِمَا نَوَى لَمْ تُؤَثِّرْ النِّيَّةُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ؛ فَإِذَا احْتَمَلَهَا اللَّفْظُ فَعَيَّنَتْ بَعْضَ مُحْتَمَلَاتِهِ أَثَّرَتْ حِينَئِذٍ، قَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: " إنْ لَبِسْت ثَوْبًا أَوْ أَكَلْتَ طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا أَوْ كَلَّمْت امْرَأَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ " وَنَوَى ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ امْرَأَةً مُعَيِّنًا دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَقُبِلَتْ نِيَّتُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَوْ حَذَفَ الْمَفْعُولَ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْفِعْلِ؛ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْخَصَّافِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ فِي الْيَمِينِ تَخْصِيصًا وَتَعْمِيمًا، وَإِطْلَاقًا وَتَقْيِيدًا، وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا، فَيُؤَثِّرُ مَا يُؤَثِّرُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْإِفْتَاءُ بِهِ، وَلَا يَحْمِلُ النَّاسُ عَلَى مَا يَقْطَعُ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوهُ بِأَيْمَانِهِمْ، فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ أَرَادُوا خِلَافَهُ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [التَّعْلِيلُ كَالشَّرْطِ] وَالتَّعْلِيلُ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ لِأَجْلِ خُرُوجِك مِنْ الدَّارِ " فَبَانَ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ لَمْ تَطْلُقْ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ فَقَالَ: وَإِنْ قَالَ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ " بِنَصْبِ الْأَلِفِ وَالْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا دُخُولٌ قَبْلَ الْيَمِينِ بِحَالٍ، لَمْ تَطْلُقْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: إنَّهُ إذَا قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ " وَقَالَ أَرَدْت الشَّرْطَ دُيِّنَ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: " لِأَجْلِ كَلَامِك زَيْدًا، أَوْ خُرُوجِك مِنْ دَارِي بِغَيْرِ إذْنِي " فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ، ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ خُلْعُ الْيَمِينِ] فَصْلٌ: [الْخُلْعُ] الْمَخْرَجُ الْحَادِيَ عَشَرَ: خُلْعُ الْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ كَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ فَإِذَا دَعَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَوْ إلَى التَّحْلِيلِ كَانَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الْخُلْعَ رَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْمَشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَخَلُّصِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ؛ فَإِذَا شَرَعَ الْخُلْعَ رَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ فَتَسْوِيغُهُ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ أَوْلَى. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهَا لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَتَحَيَّلُ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَأَمَّا حِيلَةٌ تَرْفَعُ مَفْسَدَةً هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُحَرِّمُهَا. يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةُ تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْمَطْلُوبِ لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ، وَدَفْعُ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ الَّتِي بَالَغَ الشَّارِعُ كُلَّ الْمُبَالَغَةِ فِي دَفْعِهِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ وَلَعْنِ أَصْحَابِهِ، فَحِيلَةٌ تُحَصِّلُ الْمَصْلَحَةَ الْمَطْلُوبَ إيجَادُهَا وَتَدْفَعُ الْمَفْسَدَةَ الْمَطْلُوبَ إعْدَامُهَا لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مَصْلَحَةً خَاصَّةً أَوْ رَاجِحَةً لَمْ يُحَرِّمْهُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا الْخُلْعُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي [هَذَا] الْخُلْعِ اتِّفَاقُ الزَّوْجَيْنِ وَرِضَاهُمَا بِفَسْخِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شِقَاقٍ وَاقِعٍ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا وَقَعَ الْخُلْعُ مِنْ غَيْرِ شِقَاقٍ صَحَّ، وَكَانَ غَايَتُهُ الْكَرَاهِيَةَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَهَذَا الْخُلْعُ أُرِيدَ لَهُ لَمُّ شَعَثِ النِّكَاحِ بِحُصُولِ عَقْدٍ بَعْدَهُ يَتَمَكَّنُ الزَّوْجَانِ فِيهِ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِدُونِهِ لَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إمَّا خَرَابُ الْبَيْتِ وَفِرَاقُ الْأَهْلِ، وَإِمَّا التَّعَرُّضُ لِلَعْنَةِ مَنْ لَا يَقُومُ لِلَعْنَتِهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا الْتِزَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ وَلَدَهُ الْيَوْمَ، أَوْ لَيَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ، أَوْ لَيَطَأَنَّ هَذَا الْفَرْجَ الْحَرَامَ، أَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ وَلَا يُعْطِي فُلَانًا حَقَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ مَفْسَدَةِ الْتِزَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ مَفْسَدَةِ الطَّلَاقِ وَخَرَابِ الْبَيْتِ وَشَتَاتِ الشَّمْلِ أَوْ مَفْسَدَةِ الْتِزَامِ لَعْنَةِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ التَّحْلِيلِ وَبَيْنَ ارْتِكَابِ الْخُلْعِ الْمُخَلِّصِ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْعَاقِلِ أَيَّ ذَلِكَ أَوْلَى. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ شِقَاقٍ بَيْنَهُمَا، بَلْ لِيَأْخُذَ غَيْرَهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ لِيَكُونَ سَبَبًا إلَى دَوَامِ اتِّصَالِهِمَا كَانَ أَوْلَى، وَأَحْرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وَيُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْخُلْعَ إنْ قِيلَ " إنَّهُ طَلَاقٌ " فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ لِمَصْلَحَةٍ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَمَا الَّذِي يُحَرِّمُهُ؟ وَإِنْ قِيلَ " إنَّهُ فُسِخَ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ إذَا اتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى فَسْخِهِ وَرَفْعِهِ لَمْ يَمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ حَقًّا لِلَّهِ، وَالنِّكَاحُ مَحْضُ حَقِّهِمَا، فَلَا يُمْنَعَانِ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى فَسْخِهِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْخُلْعِ إذَا خَافَ الزَّوْجَانِ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَكَانَ الْخُلْعُ طَرِيقًا إلَى تَمَكُّنِهِمَا مِنْ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، وَهِيَ حُقُوقُهُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِمَا فِي النِّكَاحِ، فَإِذَا كَانَ الْخُلْعُ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ طَرِيقًا إلَى تَمَكُّنِهِمَا مِنْ إقَامَةِ حُدُودِهِ الَّتِي تَعَطَّلَ وَلَا بُدَّ بِدُونِ الْخُلْعِ تَعَيُّنُ الْخُلْعِ حِينَئِذٍ طَرِيقًا إلَى إقَامَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَتَعَيَّنُ الْخُلْعُ طَرِيقًا، بَلْ هَاهُنَا طَرِيقَانِ آخَرَانِ، أَحَدُهُمَا: مُفَارَقَتُهُمَا، وَالثَّانِي: عَدَمُ إلْزَامِ الطَّلَاقِ بِالْحِنْثِ إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إمَّا بِكَفَّارَةٍ أَوْ بِدُونِهَا، كَمَا هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ مَعْرُوفَةٌ صَرَّحَ بِهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ. قِيلَ: نَعَمْ هَذَانِ طَرِيقَانِ، وَلَكِنْ إذَا أَحْكَمَ سَدَّهُمَا غَايَةَ الْإِحْكَامِ، لَمْ يُمَكِّنْهُ سُلُوكَ أَحَدِهِمَا، وَأَيَّهُمَا سَلَكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ غَايَةُ الضَّرَرِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - سُلُوكُ طَرِيقِ الْخُلْعِ، وَتَعَيَّنَ فِي حَقِّهِ طَرِيقَانِ: إمَّا طَرِيقُ الْخُلْعِ، وَإِمَّا سُلُوكُ طَرِيقِ أَرْبَابِ اللَّعْنَةِ. وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَحْتَمِلُهَا إلَّا الْعُقُولُ الْوَاسِعَةُ الَّتِي لَهَا إشْرَافٌ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا، وَأَمَّا عَقْلٌ لَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِ تَقْلِيدِ مَنْ اتَّفَقَ لَهُ تَقْلِيدُهُ وَتَرْكِ جَمِيعِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ فَلَيْسَ الْكَلَامُ مَعَهُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ غَايَةَ مَا مَنَعَ الْمَانِعُونَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخُلْعِ أَنَّهُ حِيلَةٌ، وَالْحِيَلُ بَاطِلَةٌ؛ وَمُنَازَعُوهُمْ يُنَازِعُونَهُمْ فِي كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: الِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ بِصُوَرِهَا دُونَ نِيَّاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَسْأَلَ الزَّوْجَ إذَا أَرَادَ خُلْعَ امْرَأَتِهِ: مَا أَرَدْت بِالْخُلْعِ؟ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَك عَلَيْهِ؟ هَلْ هُوَ الْمُشَاقَّةُ أَوْ التَّخَلُّصُ مِنْ الْيَمِينِ؟ بَلْ نُجْرِي حُكْمَ التَّخَالُعِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَنَكِلُ سَرَائِرَ الزَّوْجَيْنِ إلَى اللَّهِ، قَالُوا: وَلَوْ ظَهَرَ لَنَا قَصْدُ الْحِيلَةِ فَالشَّأْنُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَ كُلُّ حِيلَةٍ بَاطِلَةٍ مُحَرِّمَةً، وَهَلْ هَذَا الْفَصْلُ الطَّوِيلُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ إلَّا فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ؟ وَالْحِيلَةُ الْمُحَرَّمَةُ الْبَاطِلَةُ هِيَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ أَوْ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ إسْقَاطَ مَا أَوْجَبَهُ؟ وَأَمَّا حِيلَةٌ تَتَضَمَّنُ الْخَلَاصَ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وَالتَّخَلُّصُ مِنْ لَعْنَةِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ فَأَهْلًا بِهَا مِنْ حِيلَةٍ وَبِأَمْثَالِهَا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] وَالْمَقْصُودُ تَنْفِيذُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ خُلْعِ الْيَمِينِ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ بِهِ غَيْرُ الْقَاصِدِ لَهُ، فَهَلُمَّ نُحَاكِمُكُمْ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَإِذَا وَقَعَ التَّحَاكُمُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ بِهِ أَقْوَى أَدِلَّةً، وَأَصَحُّ أُصُولًا، وَأَطْرُدُ قِيَاسًا، وَأَوْفَقُ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا شِئْتُمْ أَمْ أَبَيْتُمْ، فَإِذَا سَاغَ لَكُمْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْقَوْلِ الْمُتَنَاقِضِ الْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ وَلِمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ وَلِمَا تَقْتَضِيهِ [قَوَاعِدُ] الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا فَلَأَنْ يَسُوغَ لَنَا الْعُدُولُ عَنْ قَوْلِكُمْ بِبُطْلَانِ خُلْعِ الْيَمِينِ إلَى ضِدِّهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمًّا لِشَعَثِ النِّكَاحِ وَتَعْطِيلًا لِمَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ وَتَخَلُّصًا لِأَمْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دُخُولُ الْكَفَّارَةِ يَمِينَ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ: [الْمَخْرَجُ الثَّانِي عَشَرَ وَفِيهِ بَحْثٌ أَنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفَّرَةِ] الْمَخْرَجُ الثَّانِي عَشَرَ: أَخَذَهُ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ " الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ مِنْ الْأَيْمَانِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَدْخُلُهَا " الْكَفَّارَةُ " وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ " لَهُ، فَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ غَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ بِنَحْرِ وَلَدِهِ أَوْ هَدْيِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِنَذْرٍ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ أَوْ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ بِظِهَارٍ أَوْ تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ صُوَرًا أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: فَاخْتَلَفُوا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَفِيهَا كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ، أَهُوَ طَلَاقٌ فَيَلْزَمُ، أَمْ هُوَ يَمِينٌ فَلَا يَلْزَمُ؟ حَكَى فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا فَيَلْزَمُ أَوْ يَمِينًا لَا يَلْزَمُ قَوْلَيْنِ] وَحَكَى قَبْلَ ذَلِكَ هَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَ هُوَ أَلَّا يَلْزَمَ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّةَ أَخِي شَيْخِ الْإِسْلَامِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ هُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّهُمْ إذَا أَفْتَوْا مَنْ قَالَ: " إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ " بِأَنَّهُ يَمِينٌ تُكَفَّرُ فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى، قَالَ: وَقَدْ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ، فَقَالَ: إنْ لَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى لُزُومِهِ فَهُوَ يَمِينٌ تُكَفَّرُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى لُزُومِهِ، وَحَكَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ سَمَتْ هِمَمُهُمْ وَشَرُفَتْ نُفُوسُهُمْ فَارْتَفَعَتْ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ الْمَحْضِ إلَى أَوْجِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ خُصُومِهِ مَا يَرُدُّونَ بِهِ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ الشِّكَايَةِ إلَى السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِرَدِّ هَذِهِ الْحُجَّةِ قِبَلٌ، وَأَمَّا مَا سِوَاهَا فَبَيَّنَ فَسَادَ جَمِيعِ حُجَجِهِمْ، وَنَقَضَهَا أَبْلَغَ نَقْضٍ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا بَيْنَ مُطَوَّلٍ وَمُتَوَسِّطٍ وَمُخْتَصَرٍ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ وَرَقَةٍ، وَبَلَغَتْ الْوُجُوهُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَيْهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ وَقَوَاعِدِ إمَامِهِ خَاصَّةً وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ زُهَاءَ أَرْبَعِينَ دَلِيلًا، وَصَارَ إلَى رَبِّهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهَا، دَاعٍ إلَيْهَا، مُبَاهِلٌ لِمُنَازِعِيهِ، بَاذِلٌ نَفْسَهُ وَعِرْضَهُ، وَأَوْقَاتَهُ لِمُسْتَفْتِيهِ؛ فَكَانَ يُفْتِي فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهَا بِقَلَمِهِ وَلِسَانِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ فُتْيَا؛ فَعُطِّلَتْ لِفَتَاوَاهُ مَصَانِعُ التَّحْلِيلِ، وَهُدِّمَتْ صَوَامِعُهُ وَبِيَعُهُ، وَكَسَدَتْ سُوقُهُ، وَتَقَشَّعَتْ سَحَائِبُ اللَّعْنَةِ عَلَى الْمُحَلِّلِينَ وَالْمُحَلَّلِ لَهُمْ مِنْ الْمُطَلِّقِينَ، وَقَامَتْ سُوقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَانْتَشَرَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لِلطَّالِبِينَ، وَخَرَجَ مِنْ حَبْسِ تَقْلِيدِ الْمَذْهَبِ الْمُعَيَّنِ بِهِ مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ الْمُسْتَبْصِرِينَ، فَقَامَتْ قِيَامَةُ أَعْدَائِهِ وَحُسَّادِهِ وَمَنْ لَا يَتَجَاوَزُ ذِكْرِ أَكْثَرِهِمْ بَابَ دَارِهِ أَوْ مَحَلَّتِهِ، وَهَجَّنُوا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ غَايَةَ التَّهْجِينِ، فَمَنْ اسْتَخَفُّوهُ مِنْ الطَّغَامِ، وَأَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ قَالُوا: هَذَا قَدْ رَفَعَ الطَّلَاقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثُرَ أَوْلَادُ الزِّنَا فِي الْعَالَمِينَ، وَمَنْ صَادَفُوا عِنْدَهُ مَسْكَةَ عَقْلٍ وَلُبٍّ قَالُوا: هَذَا قَدْ أَبْطَلَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ، وَقَالُوا لِمَنْ تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ: هَذَا قَدْ حَلَّ بَيْعَةَ السُّلْطَانِ مِنْ أَعْنَاقِ الْحَالِفِينَ، وَنَسُوا أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ حَلُّوهَا بِخُلْعِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا هُوَ فَصَرَّحَ فِي كُتُبِهِ أَنَّ أَيْمَانَ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ حَلَّ بَيْعَةِ السُّلْطَانِ بِفَتْوَى أَحَدٍ مِنْ الْمُفْتِينَ، وَمَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى شَرِيعَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ مُنِيَ مِنْ هَذَا بِمَا مُنِيَ بِهِ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ، فَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ لِلنَّاظِرِينَ، فَهَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ تَوَصَّلَ أَعْدَاؤُهُ إلَى ضَرْبِهِ بِأَنْ قَالُوا لِلسُّلْطَانِ: إنَّهُ يَحِلُّ عَلَيْك أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ بِفَتْوَاهُ أَنَّ يَمِينَ الْمُكْرَهِ لَا تَنْعَقِدُ، وَهُمْ يَحْلِفُونَ مُكْرَهِينَ غَيْرَ طَائِعِينَ، فَمَنَعَهُ السُّلْطَانُ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ لَمَّا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنْ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلْمُسْتَرْشِدَيْنِ، ثُمَّ تَلَاهُ عَلَى أَثَرِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ فَوَشَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ إلَى الرَّشِيدِ أَنَّهُ يُحِلُّ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ بِفَتْوَاهُ أَنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا تَطْلُقُ إنْ تَزَوَّجَهَا الْحَالِفُ، وَكَانُوا يُحَلِّفُونَهُمْ فِي جُمْلَةِ الْأَيْمَانِ " وَإِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " وَتَلَاهُمَا عَلَى آثَارِهِمَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَقَالَ حُسَّادُهُ: هَذَا يَنْقُضُ عَلَيْكُمْ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ، فَمَا فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا ثَنَى عَزَمَاتِهِمْ فِي اللَّهِ وَهَمَّهُمْ، وَلَا صَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا أَوْجَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 اللَّهُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي أَدَّاهُمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، بَلْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ، وَصَارَتْ أَقْوَالُهُمْ أَعْلَامًا يَهْتَدِي بِهَا الْمُهْتَدُونَ، تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] . فَصْلٌ: [الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَفْتَوْا بِذَلِكَ] وَمَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ وَخِبْرَةٌ وَعِنَايَةٌ بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ مَنْ يُفْتِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ، وَإِلَى الْآنِ. فَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فَتَاوَاهُمْ فِي الْحَالِفِ بِالْعِتْقِ بِعَدَمِ اللُّزُومِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى مِنْهُ، وَذَكَرْنَا فَتْوَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ، وَأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَذَكَرْنَا فَتْوَى طَاوُسٍ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ، وَأَفْتَى عِكْرِمَةُ، وَهُوَ مِنْ أَغْزَرِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِلْمًا عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ طَاوُسٌ سَوَاءٌ قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21] حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21] قَالَ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْمُهَلَّبِيُّ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِغُلَامِهِ " إنْ لَمْ أَجْلِدْك مِائَةَ سَوْطٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ " قَالَ: لَا يَجْلِدُ غُلَامَهُ وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَأَمَّا مَنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ فَقَدْ حَكَى الْمُعْتَنُونَ بِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ،، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ لَمْ يَزَالُوا مُتَوَافِرِينَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ بِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُصَنِّفُونَ وَالْمُقَلِّدُونَ لَهُمْ، وَعِنْدَنَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ فِي عَصْرِنَا وَقَبْلَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ بِهَا أَحْيَانًا، فَأَخْبَرَنِي صَاحِبُنَا الصَّادِقُ مُحَمَّدُ بْنُ شَهْوَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ -، وَكَانَ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ - الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَحَلِّيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الْإِمَامُ خَطِيبُ جَامِعِ دِمَشْقَ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوقِيُّ قَالَ: كَانَ وَالِدِي يَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَيُفْتِي بِهَا بِبَغْدَادَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَغْرِبِ فَتَوَاتَرَ عَمَّنْ يَعْتَنِي بِالْحَدِيثِ وَمَذَاهِبِ السَّلَفِ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِهَا، وَأُوذِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَضُرِبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَتْوَى الْقَفَّالِ فِي قَوْلِهِ: " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَاهُ، وَذَكَرْنَا فَتَاوَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ، وَحِكَايَتَهُمْ إيَّاهُ عَنْ الْإِمَامِ نَصًّا، وَذَكَرْنَا فَتْوَى أَشْهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " إنْ خَرَجْت مِنْ دَارِي أَوْ كَلَّمْت فُلَانًا - وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَفَعَلَتْ لَمْ تَطْلُقْ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَالِمَانِ مُتَحَلِّيَانِ بِالْإِنْصَافِ أَنَّ اخْتِيَارَاتِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَا تَتَقَاصَرُ عَنْ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ بَلْ وَشَيْخُهُمَا أَبِي يَعْلَى، فَإِذَا كَانَتْ اخْتِيَارَاتُ هَؤُلَاءِ، وَأَمْثَالُهُمْ وُجُوهًا يُفْتَى بِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَيْحَكُمْ بِهَا الْحَاكِمُ فَلِاخْتِيَارَاتِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أُسْوَةٌ بِهَا إنْ لَمْ تُرَجَّحْ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. [فَصَلِّ الْفَتْوَى بِالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْفَتَاوَى الصَّحَابِيَّةِ] فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي جَوَازِ الْفَتْوَى بِالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ] فِي جَوَازِ الْفَتْوَى بِالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْفَتَاوِي الصَّحَابِيَّةِ، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِالْأَخْذِ بِهَا مِنْ آرَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفَتَاوِيهمْ، وَأَنَّ قُرْبَهَا إلَى الصَّوَابِ بِحَسَبِ قُرْبِ أَهْلِهَا مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَأَنَّ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا مِنْ فَتَاوَى التَّابِعِينَ، وَفَتَاوَى التَّابِعِينَ أَوْلَى مِنْ فَتَاوَى تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَهَلُمَّ جَرًّا وَكُلَّمَا كَانَ الْعَهْدُ بِالرَّسُولِ أَقْرَبَ كَانَ الصَّوَابُ أَغْلَبَ، وَهَذَا حُكْمٌ بِحَسَبِ الْجِنْسِ لَا بِحَسَبِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ مِنْ الْمَسَائِلِ، كَمَا أَنَّ عَصْرَ التَّابِعِينَ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَصْرِ تَابِعِيهِمْ فَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْجِنْسِ لَا بِحَسَبِ كُلِّ شَخْصٍ شَخْصٌ، وَلَكِنْ الْمُفَضَّلُونَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُفَضَّلِينَ فِي الْعَصْرِ الْمُتَأَخِّرِ، وَهَكَذَا الصَّوَابُ فِي أَقْوَالِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ الصَّوَابِ فِي أَقْوَالِ مَنْ بَعْدِهِمْ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ عُلُومِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَسَعَ الْمُفْتِيَ وَالْحَاكِمَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُفْتِيَ وَيَحْكُمَ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُقَلِّدِي الْأَئِمَّةِ وَيَأْخُذَ بِرَأْيِهِ وَتَرْجِيحِهِ وَيَتْرُكَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمَ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، بَلْ يَتْرُكُ قَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ، بَلْ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَمْثَالِهِمْ، بَلْ لَا يَعُدُّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَشُرَيْحٍ، وَأَبِي وَائِلٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَضْرَابِهِمْ مِمَّا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِهِ، بَلْ يَرَى تَقْدِيمَ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ مَنْ قَلَّدَهُ عَلَى فَتْوَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ [وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ] ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَضْرَابِهِمْ، فَلَا يَدْرِي مَا عُذْرُهُ غَدًا عِنْدَ اللَّهِ إذَا سَوَّى بَيْنَ أَقْوَالِ أُولَئِكَ وَفَتَاوِيهِمْ، وَأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ وَفَتَاوِيهِمْ، فَكَيْفَ إذَا رَجَّحَهَا عَلَيْهَا؟ فَكَيْفَ إذَا عَيَّنَ الْأَخْذَ بِهَا حُكْمًا، وَإِفْتَاءً، وَمَنَعَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتَجَازَ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهَا، وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يَكِيدُ الْإِسْلَامَ؟ تَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَ بِالْمَثَلِ الْمَشْهُورِ " رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ " وَسُمِّيَ وَرَثَةُ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ هُوَ، وَكَسَاهُمْ أَثْوَابَهُ، وَرَمَاهُمْ بِدَائِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَصْرُخُ وَيَصِيحُ وَيَقُولُ وَيُعْلِنُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دِينَنَا، وَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا كَلَامُ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَتَقَلَّدَهُ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَيَجْزِيه عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَاَلَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ ضِدُّ هَذَا الْقَوْلِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: [تَرْتِيبُ الْأَخْذِ بِفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ] إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا فَإِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ أَوْ لَا يُخَالِفُهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ مِثْلُهُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَحَدِهِمَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَعْلَمُ مِنْهُ كَمَا إذَا خَالَفَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمٍ، فَهَلْ يَكُونُ الشِّقُّ الَّذِي فِيهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَام أَحْمَدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشِّقَّ الَّذِي فِيهِ الْخُلَفَاءُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَرْجَحُ، وَأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَرْبَعَةُ فِي شِقٍّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ فِي شِقٍّ فَالصَّوَابُ فِيهِ أَغْلَبُ، وَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ فَشِقُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَالصَّوَابُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يَعْرِفُ تَفْصِيلَهَا إلَّا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ وَاطِّلَاعٌ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَعَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ رُجْحَانِ قَوْلِ الصِّدِّيقِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَكَوْنِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ تَلَفَّظَ فِيهِ بِالثَّلَاثِ، وَجَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَإِذَا نَظَرَ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ فِي أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ جَانِبَ الصِّدِّيقِ أَرْجَحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وَلَا يُحْفَظُ لِلصِّدِّيقِ خِلَافُ نَصٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا، وَلَا يُحْفَظُ لَهُ فَتْوَى وَلَا حُكْمٌ مَأْخَذُهَا ضَعِيفٌ أَبَدًا، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ خِلَافَتِهِ خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ. فَصْلٌ: [رَأْيُ الشَّافِعِيِّ فِي أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ] وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ الصَّحَابِيُّ صَحَابِيًّا آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُهُ فِي الصَّحَابَةِ أَوْ لَا يَشْتَهِرُ، فَإِنْ اشْتَهَرَ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَقَالَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ قَوْلُهُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ اُشْتُهِرَ أَمْ لَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، صَرَّحَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مُوَطَّئِهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَنْهُ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، أَمَّا الْقَدِيمُ فَأَصْحَابُهُ مُقِرُّونَ بِهِ، وَأَمَّا الْجَدِيدُ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحْكَى عَنْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فِي الْجَدِيدِ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَغَايَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نَقْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْكِي أَقْوَالًا لِلصَّحَابَةِ فِي الْجَدِيدِ ثُمَّ يُخَالِفُهَا، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ لَمْ يُخَالِفْهَا، وَهَذَا تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمُعَيَّنَ لِمَا هُوَ أَقْوَى فِي نَظَرِهِ مِنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ دَلِيلًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بَلْ خَالَفَ دَلِيلًا لِدَلِيلٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْجَدِيدِ إذَا ذَكَرَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُوَافِقًا لَهَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا كَمَا يَفْعَلُ بِالنُّصُوصِ، بَلْ يُعَضِّدُهَا بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ؛ فَهُوَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَيُصَرِّحُ بِخِلَافِهَا، وَتَارَةً يُوَافِقُهَا وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا بَلْ يُعَضِّدُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهَذَا أَيْضًا تَعَلُّقٌ أَضْعَفُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ تَظَافُرَ الْأَدِلَّةِ وَتَعَاضُدِهَا وَتَنَاصُرِهَا مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَلَا يَدُلُّ ذِكْرُهُمْ دَلِيلًا ثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ قَبْلَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، فَقَالَ: الْمُحْدَثَاتُ مِنْ الْأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ، وَالرَّبِيعُ إنَّمَا أَخَذَ عَنْهُ بِمِصْرَ، وَقَدْ جَعَلَ مُخَالَفَةَ الْأَثَرِ الَّذِي لَيْسَ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ ضَلَالَةً، وَهَذَا فَوْقَ كَوْنِهِ حُجَّةً، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ مَدْخَلِ السُّنَنِ لَهُ: بَابُ ذِكْرِ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ إذَا تَفَرَّقُوا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَاوِيلُ الصَّحَابَةِ إذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا تَصِيرُ إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 مِنْهُمْ الْقَوْلَ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةٌ وَلَا خِلَافَ صِرْتُ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِهِ إذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ: مَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مَقْطُوعٌ إلَّا بِإِتْيَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إلَى أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ إذَا صِرْنَا إلَى التَّقْلِيدِ أَحَبَّ إلَيْنَا، وَذَلِكَ إذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتْبَعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ النَّاسَ وَمَنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَشْهَرَ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ أَوْ النَّفَرَ وَقَدْ يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ وَيَدَعُهَا، وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَلَا يَعْتَنِي الْعَامَّةُ بِمَا قَالُوا عِنَايَتَهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْأَلُونَ عَنْ الْعِلْمِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ فَيُخْبِرُونَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ، فَيَقْبَلُونَ مِنْ الْمُخْبِرِ، وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَرْجِعُوا لِتَقْوَاهُمْ اللَّهَ وَفَضْلِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ، وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ، الْأَوْلَى: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، الثَّانِيَةُ: الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ صَحَابِيٌّ فَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، الرَّابِعَةُ: اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، الْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُهُ فِي الْجَدِيدِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا: وَفِي الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ لِلشَّافِعِيِّ - بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ وَتَعْظِيمِهِمْ - قَالَ: وَهُوَ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ، وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ، وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا، وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ تُرْضَى أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا فِيهِ سُنَّةً إلَى قَوْلِهِمْ إنْ اجْتَمَعُوا أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا، وَكَذَا نَقُولُ، وَلَمْ نَخْرُجْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ كُلِّهِمْ. قَالَ: وَإِذَا قَالَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَوْلَيْنِ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَخَذْت بِهِ، لِأَنَّ مَعَهُ شَيْئًا قَوِيًّا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ دَلَالَةً بِمَا وَصَفْت كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَرْجَحَ عِنْدَنَا مِنْ وَاحِدٍ لَوْ خَالَفَهُمْ غَيْرُ إمَامٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْلِ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا صِرْنَا إلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ دَلَالَةٌ، وَقَلَّمَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا بِلَا دَلَالَةٍ نَظَرْنَا إلَى الْأَكْثَرِ، فَإِنْ تَكَافَئُوا نَظَرْنَا أَحْسَنَ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا، وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ قَبْلَهُ إجْمَاعًا فِي شَيْءٍ تَبِعْنَاهُ، فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيهَا وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَيْسَ إلَّا إجْهَادُ الرَّأْيِ، فَهَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ بِنَصِّهِ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 يَرْجِعْ عَنْهُ، بَلْ كَلَامُهُ فِي الْجَدِيدِ مُطَابِقٌ لِهَذَا مُوَافِقٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْجَدِيدِ فِي قَتْلِ الرَّاهِبِ: إنَّهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ أَتْرُكُهُ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ لِقَوْلِ الصَّاحِبِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مُوجِبَ الدَّلِيلِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ وَقَالَ: فِي الضِّلَعِ بَعِيرٌ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ، وَقَالَ فِي الْفَرَائِضِ: هَذَا مَذْهَبٌ تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ زَيْدٍ. وَلَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ لَفْظَةِ التَّقْلِيدِ فِي كَلَامِهِ، وَتَظُنَّ أَنَّهَا تَنْفِي كَوْنَ قَوْلِهِ حُجَّةً بِنَاءً عَلَى مَا تَلَقَّيْتُهُ مِنْ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِ بِتَقْلِيدِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: قُلْت هَذَا تَقْلِيدًا لِلْخَبَرِ، وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ. قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إذَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِذَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ نَخْتَارُ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَإِذَا جَاءَ عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ إنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ خَالَفَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا " لَيْسَ بِحُجَّةٍ " قَالُوا: لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ مُجْتَهِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ تَعُمُّ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ، وَلِأَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ اعْتَدَّ بِخِلَافِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ حُجَّةً عَلَيْهِ؟ وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ انْحَصَرَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَلِأَنَّ امْتِيَازَهُ بِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، وَأَعْلَمَ وَأَتْقَى لَا يُوجِبُ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ، الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبَهِ النُّفَات. [الْأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ] فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ، فَإِذَا قَالُوا قَوْلًا فَاتَّبَعَهُمْ مُتَّبِعٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 أَنْ يَعْرِفَ صِحَّتَهُ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لَهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَسْتَحِقَّ الرِّضْوَانَ، وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا مَحْضًا كَتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُفْتِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ الرِّضْوَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ اتِّبَاعُهُمْ حِينَئِذٍ. فَإِنْ قِيلَ: اتِّبَاعُهُمْ هُوَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالُوا بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ سُلُوكُ سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا بِالِاجْتِهَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] وَمَنْ قَلَّدَهُمْ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ بِإِحْسَانٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ مَحْمُودًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ بِإِحْسَانٍ أَوْ بِغَيْرِ إحْسَانٍ، وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِهِ اتِّبَاعُهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ {بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] أَيْ بِالْتِزَامِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ السَّابِقِينَ قَدْ وَجَبَ لَهُمْ الرِّضْوَانُ، وَإِنْ أَسَاءُوا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» ، وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ كُلَّهُمْ، وَذَلِكَ اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِيهِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِهَادَ لِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الِاتِّبَاعَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَنَحْوُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْقَائِلِ؛ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ اتِّبَاعَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ مُوجِبِ الدَّلِيلِ يَجِبُ أَنْ يَتَّبِعَ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَالَ قَوْلًا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَجَبَ مُوَافَقَتُهُ فِيهِ؛ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إمَّا أَنْ تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ لَا تَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ تَجُزْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُمْ فَقَدْ خُولِفُوا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ وَاتَّبَعُوا فِي أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَيْسَ جَعْلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتْبِعًا لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُخَالِفًا لِمُخَالَفَتِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ؛ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي أَفْتَوْا بِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مُجْتَهِدًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ اجْتِهَادٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اتَّبِعْهُ "، وَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ يُقَالَ اتَّبِعْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاجْتِهَادِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الِاتِّبَاعَ افْتِعَالٌ مِنْ اتَّبَعَ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ نَوْعَ افْتِقَارٍ إلَيْهِ وَمَشْيٍ خَلْفَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ لَيْسَ تَبَعًا لِلْآخَرِ وَلَا مُفْتَقِرًا إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَشْعِرَ مُوَافَقَتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ وَافَقَ رَجُلًا فِي اجْتِهَادِهِ أَوْ فَتْوَاهُ اتِّفَاقًا إنَّهُ مُتَّبِعٌ لَهُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ قُصِدَ بِهَا مَدْحُ السَّابِقِينَ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَئِمَّةً مَتْبُوعِينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُمْ مُوجِبًا لِلْمُوَافَقَةِ وَلَا مَانِعًا مِنْ الْمُخَالَفَةِ - بَلْ إنَّمَا يَتَّبِعُ الْقِيَاسَ مَثَلًا - لَا يَكُونُ لَهُمْ هَذَا الْمَنْصِبُ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ؛ السَّابِعُ: أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ بِمُجَرَّدِ مُشَارَكَتِهِمْ فِي صِفَةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ مُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا سِيَّمَا وَتِلْكَ الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَنْفِي الِاتِّبَاعَ أَخَصُّ مِمَّا يُثْبِتُهُ. وَإِذَا وُجِدَ الْفَارِقُ الْأَخَصُّ وَالْجَامِعُ الْأَعَمُّ - وَكِلَاهُمَا مُؤَثِّرٌ - كَانَ التَّفْرِيقُ رِعَايَةً لِلْفَارِقِ أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ رِعَايَةً لِلْجَامِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَافَقَ أَوْ خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ بِإِحْسَانٍ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ فِيهِ اتِّبَاعٌ لَهُمْ، لَكِنَّ الِاتِّبَاعَ لَهُمْ اسْمٌ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ، فَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّبِعُ مُحْسِنًا بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ؛ لِئَلَّا يَقَعَ الِاغْتِرَارُ بِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ قَوْلًا، وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْسِنَ الْمُتَّبِعُ لَهُمْ الْقَوْلَ فِيهِمْ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمْ، اشْتَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَنَالُونَ مِنْهُمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] وَأَمَّا تَخْصِيصُ اتِّبَاعِهِمْ بِأُصُولِ الدِّينِ دُونَ فُرُوعِهِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ عَامٌّ، وَلِأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ لَوْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكُنَّا مُتَّبِعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ " فُلَانٌ يَتَّبِعُ فُلَانًا، وَاتَّبِعْ فُلَانًا، وَأَنَا مُتَّبِعٌ فُلَانًا "، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَلَا حَالِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اتِّبَاعَهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الِاتِّبَاعُ؛ لِأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فِي حَالٍ وَخَالَفَهُ فِي أُخْرَى لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ أَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّ الرِّضْوَانَ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِمَا هُوَ مُشْتَقٌّ يَقْتَضِي أَنَّ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ سَبَبٌ، وَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ سَبَبًا لِلرِّضْوَانِ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لِلِاتِّبَاعِ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلِأَنَّ الِاتِّبَاعَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ، وَأُصُولُ الدِّينِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ وَجَعْلَهُمْ أَئِمَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا اتِّبَاعَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ دُونَ الشَّرَائِعِ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " إنَّ الثَّنَاءَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ كُلَّهُمْ " فَنَقُولُ: الْآيَةُ اقْتَضَتْ الثَّنَاءَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] يَقْتَضِي حُصُولَ الرِّضْوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي قَوْلِهِ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} [التوبة: 100] وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَّقَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ تَنَاوَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِأَسْمَاءٍ عَامَّةٍ ثُبُوتُهَا لِكُلِّ فَرَدٍّ فَرْدٌ مِنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ كَقَوْلِهِ {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] وَقَوْلِهِ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] وقَوْله تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ عَلَى الْمَجْمُوعِ يُؤْتَى فِيهَا بِاسْمٍ يَتَنَاوَلُ الْمَجْمُوعَ دُونَ الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَقَوْلِهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَقَوْلِهِ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فَإِنَّ لَفْظَ الْأُمَّةِ وَلَفْظَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُمْكِنُ تَوْزِيعُهُ عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَأَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ لَفْظِ السَّابِقِينَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ السَّابِقِينَ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَعُمُّ اتِّبَاعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ فِي كُلِّ مُمْكِنٍ؛ فَمَنْ اتَّبَعَ جَمَاعَتَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا وَاتَّبَعَ آحَادَهُمْ فِيمَا وَجَدَ عَنْهُمْ مِمَّا لَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْهُمْ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتَّبَعَ السَّابِقِينَ، أَمَّا مَنْ خَالَفَ بَعْضَ السَّابِقِينَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اتَّبَعَ السَّابِقِينَ " لِوُجُودِ مُخَالَفَتِهِ لِبَعْضِهِمْ، لَا سِيَّمَا إذَا خَالَفَ هَذَا مَرَّةً، وَهَذَا مَرَّةً، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُنَاكَ قَوْلُ بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِاجْتِهَادٍ وَاسْتِدْلَالٍ، إذْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى تَسْوِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ لِمَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، فَقَدْ قَصَدَ اتِّبَاعَهُمْ أَيْضًا، أَمَّا إذَا قَالَ الرَّجُلُ قَوْلًا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ السَّابِقِينَ سَوَّغُوا خِلَافَ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَقْتَضِي اتِّبَاعَهُمْ مُطْلَقًا. فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الطَّالِبَ وَقَفَ عَلَى نَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِذَلِكَ النَّصِّ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ، أَمَّا إذَا رَأَيْنَا رَأْيًا فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّبَاعُهُمْ إلَّا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ اتِّبَاعُهُمْ إلَّا فِيمَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا إلَّا عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ؛ إذْ الِاتِّبَاعُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَأَيْضًا فَجَمِيعُ السَّابِقِينَ قَدْ مَاتَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى اتِّبَاعِهِمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَوْ فَرَضْنَا أَحَدًا يَتَّبِعُهُمْ إذْ ذَاكَ لَكَانَ مِنْ السَّابِقِينَ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّابِعِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ اتِّبَاعُ جَمِيعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 السَّابِقِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ جَمِيعِ السَّابِقِينَ كَالْمُتَعَذَّرِ، فَكَيْفَ يُتَّبَعُونَ كُلُّهُمْ فِي شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُعْلَمُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ بِكَوْنِهِمْ هُمْ السَّابِقِينَ، وَهَذِهِ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا اسْتَوْجَبَ الرِّضْوَانَ وَالْجَنَّةَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِيهَا مَا يُوجِبُ اتِّبَاعُهُمْ " فَنَقُولُ: الْآيَةُ تَقْتَضِي الرِّضْوَانَ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ؛ فَلَا يَكُونُ اتِّبَاعُهُمْ قَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ قَوْلًا بِعِلْمٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَحِينَئِذٍ فَسَوَاءٌ يُسَمَّى تَقْلِيدًا أَوْ اجْتِهَادًا، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ الْعَالِمُ لِلْعَالِمِ حَرَامًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ لِأَنَّهُ مَرَضِيٌّ، وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ جَائِزًا أَوْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّقْلِيدِ الْمُحَرَّمِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ تَقْلِيدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ مُوجِبَاتِ الرِّضْوَانِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُمْ خَارِجٌ عَنْ هَذَا، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْعَالِمِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَتَرَكَهُ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ أَوْ إلَى اجْتِهَادٍ جَائِزٌ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالشَّيْءُ الْمُبَاحُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّضْوَانُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ رِضْوَانَ اللَّهِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الَّتِي لَا تُنَالُ إلَّا بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَجُوزُ خِلَافُهُ لَيْسَ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، بَلْ الِاجْتِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ أَفْضَلُ مَا يَكُونُ فِي مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفُوا فِيهَا هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمُوجِبُ لِرِضْوَانِ اللَّهِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ. [وَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ] بِلَا شَكٍّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يَتَخَيَّرُ الرَّجُلُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالتَّقْلِيدُ وَظِيفَةُ الْعَامَّةِ، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُمْ أَوْ مُحَرَّمًا؛ إذْ الِاجْتِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ لَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ أُرِيدَ بِاتِّبَاعِهِمْ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَجُوزُ خِلَافَهُ لَكَانَ لِلْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبُ الْأَوْفَى، وَكَانَ حَظُّ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَبْخَسَ الْحُظُوظِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، وَأَيْضًا فَالرِّضْوَانُ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ صَوَابٌ لَيْسَ بِخَطَإٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأٌ لَكَانَ غَايَةُ صَاحِبِهِ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ إلَى أَنْ يُعْفَى عَنْهُ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّ خِلَافَ الصَّوَابِ خَطَأٌ، وَالْخَطَأُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَطَأٌ يَكُونُ الصَّوَابُ خِلَافَهُ، وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ مُوجِبٌ الرِّضْوَانَ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ اتِّبَاعِهِمْ مُوجِبٌ الرِّضْوَانَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَقْتَضِيه وُجُودُ الشَّيْءِ وَضِدُّهُ وَلَا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَدِيمَ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الرِّضْوَانَ وَالْآخَرُ لَا يُوجِبُهُ كَانَ الْحَقُّ مَا يُوجِبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 يُوجَدْ رِضْوَانُهُ فَإِمَّا سَخَطُهُ أَوْ عَفْوُهُ، وَالْعَفْوُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْخَطِيئَةِ، وَذَلِكَ لَا تُبَاحُ مُبَاشَرَتُهُ إلَّا بِالنَّصِّ، وَإِذَا كَانَ رِضْوَانُهُ إنَّمَا هُوَ فِي اتِّبَاعِهِمْ، وَاتِّبَاعُ رِضْوَانِهِ وَاجِبٌ، كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنَّمَا أَثْنَى عَلَى الْمُتَّبِعِ بِالرِّضْوَانِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الِاتِّبَاعِ يَدْخُلُ فِي الِاتِّبَاعِ فِي الْأَفْعَالِ، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمَ مُخَالَفَتِهِمْ مُطْلَقًا، فَيَقْتَضِي ذَمَّ الْمُخْطِئِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأَقْوَالُ فَلَا وَجْهَ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِيهَا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْلَ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهِ رِضَا اللَّهِ لَمْ يَكُنْ رِضَا اللَّهِ فِي ضِدِّهِ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَقَدْ يَكُونُ رِضَا اللَّهِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَفِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِحَسَبِ قَصْدَيْنِ وَحَالَيْنِ، أَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ وَالْأَقْوَالُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إلَّا هُوَ؛ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ. فَإِنْ قِيلَ: السَّابِقُونَ هُمْ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَتَيْنِ، أَوْ هُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اتِّبَاعِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَهُوَ أَكْبَرُ الْمَقْصُودِ، عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَكُلُّ الصَّحَابَةِ سَابِقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. فَصْلٌ: [عَوْدٌ إلَى أَدِلَّةِ اتِّبَاعِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ] الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] هَذَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ صَاحِبِ يَاسِينَ، عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى قَائِلِهَا، وَالْإِقْرَارِ لَهُ عَلَيْهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْأَلْنَا أَجْرًا، وَهُمْ مُهْتَدُونَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى خِطَابًا لَهُمْ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] وَ " لَعَلَّ " مِنْ اللَّهِ وَاجِبٌ وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ - سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4 - 5] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وَكُلٌّ مِنْهُمْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَاهَدَ إمَّا بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ هَدَاهُمْ، وَكُلُّ مَنْ هَدَاهُ فَهُوَ مُهْتَدٍ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ بِالْآيَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وَكُلٌّ مِنْ الصَّحَابَةِ مُنِيبٌ إلَى اللَّهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِ، وَأَقْوَالُهُ وَاعْتِقَادَاتُهُ مِنْ أَكْبَرِ سَبِيلِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ مُنِيبُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ هَدَاهُمْ وَقَدْ قَالَ: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ يَدْعُو إلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْجِنِّ وَرَضِيَهُ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] وَلِأَنَّ مَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَقَدْ دَعَا إلَى الْحَقِّ عَالِمًا بِهِ، وَالدُّعَاءُ إلَى أَحْكَامِ اللَّهِ دُعَاءٌ إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَإِذًا فَالصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ إذَا دَعَوْا إلَى اللَّهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْله تَعَالَى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وَحَقِيقَةُ الِاصْطِفَاءِ: افْتِعَالٌ مِنْ التَّصْفِيَةِ، فَيَكُونُ قَدْ صَفَّاهُمْ مِنْ الْأَكْدَارِ، وَالْخَطَأُ مِنْ الْأَكْدَارِ، فَيَكُونُونَ مُصَفَّيْنِ مِنْهُ، وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِمَا إذَا اخْتَلَفُوا لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَعْدُهُمْ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ كَدَرًا؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ الْكَدَرَ، وَبَيَانَهُ يُزِيلُ كَوْنَهُ كَدَرًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ فَلَوْ كَانَ قَوْلًا بَاطِلًا، وَلَمْ يَرُدَّهُ رَادٌّ لَكَانَ حَقِيقَةَ الْكَدَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ خِلَافَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أُمُورِهِ، فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الِاصْطِفَاءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] وَقَوْلِهِ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَاللَّامُ فِي " الْعِلْمِ " لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَهْدِ، أَيْ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِذَا كَانُوا أُوتُوا هَذَا الْعِلْمَ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا. الْوَجْهُ السَّابِعُ: قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] شَهِدَ لَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَادِثَةُ فِي زَمَانِهِمْ لَمْ يُفْتِ فِيهَا إلَّا مَنْ أَخْطَأَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَدْ أَمَرَ فِيهَا بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى فِيهَا عَنْ مُنْكَرٍ؛ إذْ الصَّوَابُ مَعْرُوفٌ بِلَا شَكٍّ، وَالْخَطَأُ مُنْكَرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَإِذَا كَانَ هَذَا بَاطِلًا عُلِمَ أَنَّ خَطَأَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ مُمْتَنِعٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الصَّادِقِينَ، وَكُلُّ صَادِقٍ بَعْدَهُمْ فِيهِمْ يَأْتَمُّ فِي صِدْقِهِ، بَلْ حَقِيقَةُ صِدْقِهِ اتِّبَاعُهُ لَهُمْ وَكَوْنُهُ مَعَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ وَإِنْ وَافَقَهُمْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِيمَا خَالَفَهُمْ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ، فَتَنْتَفِي عَنْهُ الْمَعِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَفِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَعَهُمْ بِهَذَا الْقِسْطِ، وَهَذَا كَمَا نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ عَنْ الزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهِ أَنْ يُقَالَ: مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ اسْمَ الْفَقِيهِ وَالْعَالِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُقَالُ لِمَنْ مَعَهُ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسْأَلَتَانِ مِنْ فِقْهٍ وَعِلْمٍ، وَإِنْ قِيلَ: مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَمُطْلَقِ الْمَعِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ نُحَصِّلَ مِنْ الْمَعِيَّةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فِي فَهْمِ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ أَوَامِرِهِ؛ فَإِذَا أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى وَالْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْعِفَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ مِنَّا أَنْ نَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَاهِيَّةِ الْمَأْمُورُ بِهَا بِحَيْثُ نَكُونُ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ إذَا أَتَيْنَا بِذَلِكَ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْرِيرِ الْأَمْرِ بِمُتَابَعَتِهِمْ سَوَاءٌ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أُمَّةً خِيَارًا عُدُولًا، هَذَا حَقِيقَةُ الْوَسَطِ، فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَأَعْدَلُهَا فِي أَقْوَالِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، وَبِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاَللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 تَعَالَى يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ شُهَدَاؤُهُ، وَلِهَذَا نَوَّهَ بِهِمْ وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اتَّخَذَهُمْ شُهَدَاءَ أَعْلَمَ خَلْقَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ بِحَالِ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ وَتَدْعُوَ لَهُمْ وَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ بِعِلْمٍ وَصِدْقٍ فَيُخْبِرُ بِالْحَقِّ مُسْتَنِدًا إلَى عِلْمِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَقَدْ يُخْبِرُ الْإِنْسَانُ بِالْحَقِّ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِ، وَقَدْ يَعْلَمُهُ وَلَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَالشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ؛ فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُمْ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدُهُمْ بِفَتْوَى وَتَكُونُ خَطَأً مُخَالَفَةً لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يُفْتِي غَيْرَهُ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إمَّا مَعَ اشْتِهَارِ فَتْوَى الْأَوَّلِ أَوْ بِدُونِ اشْتِهَارِهَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ قَدْ أَطْبَقَتْ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، بَلْ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ قِسْمًا أَفْتَى بِالْبَاطِلِ وَقِسْمًا سَكَتَ عَنْ الْحَقِّ، وَهَذَا مِنْ الْمُسْتَحِيلِ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ وَيَخْرُجُ عَنْهُمْ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ قَطْعًا، وَنَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ اجْتَبَاهُمْ، وَالِاجْتِبَاءُ كَالِاصْطِفَاءِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ " اجْتَبَى الشَّيْءَ يَجْتَبِيه " إذَا ضَمَّهُ إلَيْهِ وَحَازَهُ إلَى نَفْسِهِ، فَهُمْ الْمُجْتَبُونَ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ وَجَعَلَهُمْ أَهْلَهُ وَخَاصَّتَهُ وَصَفْوَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فَيَبْذُلُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ، وَيُفْرِدُوهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَيَخْتَارُوهُ وَحْدَهُ إلَهًا مَعْبُودًا مَحْبُوبًا عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ كَمَا اخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهُ وَحْدَهُ إلَهَهُمْ وَمَعْبُودَهُمْ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ، فَيُؤْثِرُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، كَمَا اتَّخَذَهُمْ عَبِيدَهُ، وَأَوْلِيَاءَهُ، وَأَحِبَّاءَهُ وَآثَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنْ يَسَّرَ عَلَيْهِمْ دِينَهُ غَايَةَ التَّيْسِيرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ حَرَجٍ أَلْبَتَّةَ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَنَانِهِ بِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ مِلَّةَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ، وَهِيَ إفْرَادُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ؛ فَيَكُونُ تَعَلُّقُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِهِ وَحْدَهُ لَا بِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ نَوَّهَ بِهِمْ وَسَمَّاهُمْ كَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَوْجَدَهُمْ اعْتِنَاءً بِهِمْ وَرِفْعَةً لِشَأْنِهِمْ، وَإِعْلَاءً لِقَدْرِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُشْهِدَ عَلَيْهِمْ رَسُولُهُ وَيَشْهَدُوا هُمْ عَلَى النَّاسِ؛ فَيَكُونُونَ مَشْهُودًا لَهُمْ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ شَاهِدِينَ عَلَى الْأُمَمِ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ هَذَا التَّنْوِيهُ، وَإِشَارَةُ الذِّكْرِ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَلِهَاتَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 الْحِكْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْرِمَهُمْ كُلَّهُمْ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فَيُفْتِي فِيهَا بَعْضُهُمْ بِالْخَطَأِ، وَلَا يُفْتِي فِيهَا غَيْرُهُ بِالصَّوَابِ، وَيَظْفَرُ فِيهَا بِالْهُدَى مِنْ بَعْدِهِمْ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْمُعْتَصِمِينَ بِهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ هُدُوا إلَى الْحَقِّ؛ فَنَقُولُ: الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مُعْتَصِمُونَ بِاَللَّهِ فَهُمْ مُهْتَدُونَ، فَاتِّبَاعُهُمْ وَاجِبٌ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] وَمَعْلُومٌ كَمَالُ تَوَلِّي اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَنَصْرُهُ إيَّاهُمْ أَتَمَّ نُصْرَةٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَصِمُوا بِهِ أَتَمَّ اعْتِصَامٍ، فَهُمْ مَهْدِيُّونَ بِشَهَادَةِ الرَّبِّ لَهُمْ بِلَا شَكٍّ، وَاتِّبَاعُ الْمَهْدِيِّ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً بِلَا شَكٍّ، وَمَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُتَابَعَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: قَوْله تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ مُوسَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أَئِمَّةً يَأْتَمُّ بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ لِصَبْرِهِمْ وَيَقِينِهِمْ؛ إذْ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرُهُ إلَّا بِيَقِينِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ وَبَصِيرَتِهِ بِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى تَنْفِيذِ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ بِاحْتِمَالِ مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ وَكَفِّ النَّفْسِ عَمَّا يُوهِنُ عَزْمَهُ وَيُضْعِفُ إرَادَتَهُ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ، وَأَوْلَى بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ أَصْحَابِ مُوسَى، فَهُمْ أَكْمَلُ يَقِينًا، وَأَعْظَمُ صَبْرًا مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَهُمْ أَوْلَى بِمَنْصِبِ هَذِهِ الْإِمَامَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ بِلَا شَكٍّ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَشَهَادَةِ الرَّسُولِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّهُمْ خِيرَةُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَمِنْ الْمُحَالِ عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُمْ أَنْ يُخْطِئُوا كُلُّهُمْ الْحَقَّ، وَيَظْفَرَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لَانْقَلَبَتْ الْحَقَائِقُ، وَكَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَئِمَّةً لَهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ إلَى فَتَاوِيهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ حِسًّا وَعَقْلًا فَهُوَ مُحَالٌ شَرْعًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ، وَإِمَامٌ بِمَعْنَى قُدْوَةٍ، وَهُوَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالْأُمَّةِ وَالْأُسْوَةِ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ آمِمٍ كَصَاحِبِ وَصِحَابٍ وَرَاجِلٍ وَرِجَالٍ وَتَاجِرٍ وَتُجَّارٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ كَقِتَالٍ وَضِرَابٍ، أَيْ ذَوِي إمَامٍ، وَالصَّوَابُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِمْ، وَالتَّقْوَى وَاجِبَةٌ، وَالِائْتِمَامُ بِهِمْ وَاجِبٌ، وَمُخَالَفَتُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ مُخَالِفٌ لِلِائْتِمَامِ بِهِمْ، وَإِنْ قِيلَ " نَحْنُ نَأْتَمُّ بِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَأُصُولِ الدِّينِ " فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ جَوَابِ هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنَهُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُمْ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ، إلَّا لَوْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَلَا يَكُونُونَ خَيْرَ الْقُرُونِ مُطْلَقًا، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ وَسَائِرُهُمْ لَمْ يُفْتُوا بِالصَّوَابِ -، وَإِنَّمَا ظَفَرَ بِالصَّوَابِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَخْطَئُوا هُمْ - لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَرْنُ خَيْرًا مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الصَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ الْقَرْنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ، ثُمَّ هَذَا يَتَعَدَّدُ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ " قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ " يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَصَابَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ قَالَ فِيهَا الصَّحَابِيُّ قَوْلًا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، وَفَاتَ هَذَا الصَّوَابُ الصَّحَابَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَأْتِي فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ تَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ امْتَازَ الْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُمْ بِالصَّوَابِ فِيمَا يَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ مِمَّا أَخْطَئُوا فِيهِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةَ الصَّوَابِ أَكْمَلُ الْفَضَائِلِ، وَأَشْرَفُهَا، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيُّ وَصْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصِّدِّيقُ أَوْ الْفَارُوقُ أَوْ عُثْمَانُ أَوْ عَلِيٌّ أَوْ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ أَوْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَضْرَابُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَشْتَمِلْ قَرْنُهُمْ عَلَى نَاطِقٍ بِالصَّوَابِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ حَتَّى تَبِعَ مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَرَفُوا حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي جَهِلَهُ أُولَئِكَ السَّادَةُ، وَأَصَابُوا الْحَقَّ الَّذِي أَخْطَأَهُ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةُ؟ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ،. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ، فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا مَعَك الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَك الْعِشَاءَ، قَالَ: أَحْسَنْتُمْ، وَأَصَبْتُمْ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْت أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ نِسْبَةَ أَصْحَابِهِ إلَى مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 بَعْدَهُمْ كَنِسْبَتِهِ إلَى أَصْحَابِهِ، وَكَنِسْبَةِ النُّجُومِ إلَى السَّمَاءِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يُعْطِي مِنْ وُجُوبِ اهْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ مَا هُوَ نَظِيرُ اهْتِدَائِهِمْ بِنَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظِيرُ اهْتِدَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالنُّجُومِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَعَلَ بَقَاءَهُمْ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَمَنَةً لَهُمْ، وَحِرْزًا مِنْ الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْطِئُوا فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ الظَّافِرُونَ بِالْحَقِّ أَمَنَةً لِلصَّحَابَةِ وَحِرْزًا لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ الْمُحَالِ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَا رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ [أَنَّهُ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَثَلَ أَصْحَابِي فِي أُمَّتِي كَمَثَلِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِالْمِلْحِ» قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ ذَهَبَ مِلْحُنَا فَكَيْفَ نَصْلُحُ؟ وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ أَيْضًا بِإِسْنَادَيْنِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ أَصْحَابِي فِي النَّاسِ كَمَثَلِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ» ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ: هَيْهَاتَ، ذَهَبَ مِلْحُ الْقَوْمِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي إسْرَائِيلَ - عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ أَصْحَابِي كَمَثَلِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ» قَالَ: يَقُولُ الْحَسَنُ: هَلْ يَطِيبُ الطَّعَامُ إلَّا بِالْمِلْحِ؟ وَيَقُولُ الْحَسَنُ: فَكَيْفَ بِقَوْمٍ ذَهَبَ مِلْحُهُمْ؟ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَال أَنَّهُ شَبَّهَ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاحِ دِينِ الْأُمَّةِ بِهِمْ بِالْمِلْحِ الَّذِي صَلَاحُ الطَّعَامِ بِهِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُفْتُوا بِالْخَطَأِ وَلَا يَكُونُ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِالصَّوَابِ وَيَظْفَرُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِلْحًا لَهُمْ، وَهَذَا مُحَالٌ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْحَ كَمَا أَنَّ بِهِ صَلَاحَ الطَّعَامِ؛ فَالصَّوَابُ بِهِ صَلَاحُ الْأَنَامِ، فَلَوْ أَخْطَئُوا فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ لَاحْتَاجَ ذَلِكَ إلَى مِلْحٍ يُصْلِحُهُ، فَإِذَا أَفْتَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِالْحَقِّ كَانَ قَدْ أَصْلَحَ خَطَأَهُمْ فَكَانَ مِلْحًا لَهُمْ. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا صَالِحٍ يُحَدِّثْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَفِي لَفْظٍ " فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ "، وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَلِأَقْرَانِهِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، فَإِذَا كَانَ مُدُّ أَحَدِ أَصْحَابِهِ أَوْ نَصِيفُهُ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مِثْلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِنْ مِثْلِ خَالِدٍ، وَأَضْرَابِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْرِمَهُمْ اللَّهُ الصَّوَابَ فِي الْفَتَاوَى وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ؟ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَا رَوَى الْحُمَيْدِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْلِمِ بْنِ سَاعِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي، وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ، وَأَنْصَارًا، وَأَصْهَارًا» الْحَدِيثَ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحْرِمَ اللَّهُ الصَّوَابَ مَنْ اخْتَارَهُمْ لِرَسُولِهِ وَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَهُ، وَأَنْصَارَهُ، وَأَصْهَارَهُ وَيُعْطِيَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ثنا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُخْطِئَ الْحَقَّ فِي حُكْمِ اللَّهِ خَيْرُ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا أَفْتَى بِهِ أَحَدُهُمْ وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَاقُونَ كُلُّهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُ حَسَنًا أَوْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْهُ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ رَأَوْهُ قَبِيحًا، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ لَمْ تَكُنْ قُلُوبُهُمْ مِنْ خَيْرِ قُلُوبِ الْعِبَادِ، وَكَانَ مَنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ. الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ كَانَ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَإِقَامَةَ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوا آثَارَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْرِمَ اللَّهُ أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا الصَّوَابَ فِي أَحْكَامِهِ وَيُوَفِّقَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، خُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اسْتَقَمْتُمْ لَقَدْ سُبِقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ، فِي غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ سَبَقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَا قَالَهُ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِفِرْقَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ، فَقَالُوا: نَدْعُوك إلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ، قَالَ: أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ، فَقَالَ: يَا أَخَابِيثَ خَلْقِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِنَا تَخْتَارُونَ الضَّلَالَةَ، أَمْ فِي غَيْرِ سُنَّتِنَا تَلْتَمِسُونَ الْهُدَى؟ اُخْرُجُوا عَنِّي، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ أَخْطَئُوا فِي فَتَاوِيهمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَخَالَفَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فِيهَا فَقَدْ اتَّبَعَ الْحَقَّ فِي غَيْرِ سُنَّتِهِمْ، وَقَدْ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ إنَّمَا يَدْعُو إلَى الْحَقِّ، وَكَفَى ذَلِكَ إزْرَاءً عَلَى نُفُوسِهِمْ وَعَلَى الصَّحَابَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ «الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا؟ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ، وَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، إسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَرَنَ سُنَّةَ خُلَفَائِهِ بِسُنَّتِهِ، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا كَمَا أَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِهَا حَتَّى أَمَرَ بِأَنْ يُعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا أَفْتَوْا بِهِ وَسَنُّوهُ لِلْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ نَبِيِّهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ، وَيَتَنَاوَلُ مَا أَفْتَى بِهِ جَمِيعُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسُنُّوا ذَلِكَ [وَهُمْ خُلَفَاءُ] فِي آنٍ وَاحِدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا سَنَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَقْتِهِ فَهُوَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ هِلَالٍ مَوْلَى رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَقْرِيرِ الْمُتَابَعَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا» ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ الْمِيضَأَةِ الطَّوِيلِ، فَجَعَلَ الرُّشْدَ مُعَلَّقًا بِطَاعَتِهِمَا، فَلَوْ أَفْتَوْا بِالْخَطَأِ فِي حُكْمٍ، وَأَصَابَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ لَكَانَ الرُّشْدُ فِي خِلَافِهِمَا. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي شَأْنِ تَأْمِيرِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ لَوْ اتَّفَقْتُمَا عَلَى شَيْءٍ لَمْ أُخَالِفْكُمَا» فَهَذَا رَسُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْبِرُ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُمَا لَوْ اتَّفَقَا، وَمَنْ يَقُولُ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ يُجَوِّزُ مُخَالَفَتَهُمَا، وَبَعْضُ غُلَاتِهِمْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمَا وَيَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ إمَامِنَا الَّذِي قَلَّدْنَاهُ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ» أَيْ هُمَا مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، أَوْ هُمَا مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحْرَمَ سَمْعُ الدِّينِ وَبَصَرُهُ الصَّوَابَ وَيَظْفَرَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمَا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «مَرَّ فَتًى عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْفَتَى، قَالَ: فَتَبِعَهُ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ: يَا فَتَى اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَسْتَغْفِرُ لَك، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَا أَوْ تُخْبِرَنِي، قَالَ: إنَّك مَرَرْت عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: نِعْمَ الْفَتَى، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَسْأَلَةٍ أَفْتَى بِهَا مَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ حَظَّهُ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَيَكُونُ الصَّوَابُ فِيهَا حَظُّ مَنْ بَعْدَهُ، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَدْ كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ الْأُمَمِ أُنَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ» ، وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمُحَدَّثُ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ الَّذِي يُلْقِي اللَّهُ فِي رُوعِهِ الصَّوَابَ يُحَدِّثُهُ بِهِ الْمَلَكُ عَنْ اللَّهِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَخْتَلِفَ هَذَا وَمَنْ بَعْدَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَيَكُونُ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ الْمُتَأَخِّرِ دُونَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُحَدَّثُ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْحُكْمِ دُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا، وَإِنْ أَمْكَنَ فِي أَقْرَانِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَصْرُهُمْ مِنْ الْحَقِّ إمَّا عَلَى لِسَانِ عُمَرَ، وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا الْحَالُ أَنْ يُفْتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَدَّثُ بِفَتْوَى أَوْ يَحْكُمَ بِحُكْمٍ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَهُ وَيَكُونُ خَطَأً ثُمَّ يُوَفَّقُ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُصِيبُ الْحَقَّ وَيُخْطِئُهُ الصَّحَابَةُ. الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ» وَفِي لَفْظٍ «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَخْتَلِفَ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 هَذَا شَأْنُهُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَيَكُونُ حَظُّ عُمَرَ مِنْهُ الْخَطَأَ وَحَظُّ ذَلِكَ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهُ الصَّوَابَ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَسْعَدُ بِالصَّوَابِ مِنْهُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا رَأَيْت عُمَرَ إلَّا وَكَأَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِمَّنْ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ عِلْمَ عُمَرَ وُضِعَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجُعِلَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، فَقَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَمِنْ أَبْعَدِ الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ لِعُمَرَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ قَالَ بِهِ، وَإِلَّا قَالَ بِمَا قَالَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ بِرَأْيِهِ، فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَاتِّبَاعُهُ لِلدَّلِيلِ وَتَحْكِيمُهُ لِلْحُجَّةِ مَعْرُوفٌ، حَتَّى إنَّهُ يُخَالِفُ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّلِيلِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ - يَجْعَلُ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حُجَّةً يُؤْخَذُ بِهَا بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» كَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ عَنْ زَيْدٍ عَنْ مَنْصُورٍ، وَالصَّوَابُ مَا رَوَاهُ إسْرَائِيلُ وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَلَكِنْ قَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَوْفٍ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ اقْرَأْ عَلَيَّ قَالَ: أَقْرَأُ وَعَلَيْك أُنْزِلَ؟ قَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَافْتَتَحَ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إذَا بَلَغَ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فَاضَتْ عَيْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمَ وَكَفَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ، وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقَالَ: رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَرَضِيتُ لَكُمْ مَا رَضِيَ لَكُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» وَمَنْ قَالَ لَيْسَ قَوْلُهُ بِحُجَّةٍ، وَإِذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَعْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ فِي قَوْلِ الْمُخَالِفِ لَهُ لَمْ يَرْضَ لِلْأُمَّةِ مَا رَضِيَهُ لَهُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ وَلَا مَا رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ " قَدْ بَعَثْت إلَيْكُمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أَمِيرًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ مُعَلِّمًا وَوَزِيرًا، وَهُمَا مِنْ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَاقْتَدُوا بِهِمَا، وَاسْمَعُوا قَوْلَهُمَا، وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِي " فَهَذَا عُمَرُ قَدْ أَمَرَ أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْ يَقْتَدُوا بِعَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَيَسْمَعُوا قَوْلَهُمَا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُمَا حُجَّةً يَقُولُ: لَا يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمَا وَلَا سَمَاعُ أَقْوَالِهِمَا إلَّا فِيمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُمَا بِهِ، بَلْ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا قَالَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَغَيْرُهُ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا، وَلَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَنَحْنُ نَشْهَدُ [بِاَللَّهِ] أَنَّهُمْ وَفَّوْا بِهَذِهِ الْبَيْعَةِ، وَقَالُوا بِالْحَقِّ، وَصَدَعُوا بِهِ، وَلَمْ تَأْخُذْهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَمْ يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْهُ مَخَافَةَ سَوْطٍ وَلَا عَصًا وَلَا أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ مِنْ هَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، فَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنْكَرَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَعَ سَطْوَتِهِ وَبَأْسِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ إذَا خَرَجُوا عَنْ الْعَدْلِ لَمْ يَخَافُوا سَوْطَهُمْ وَلَا عُقُوبَتَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ كَانُوا يَتْرُكُوهُ كَثِيرًا مِنْ الْحَقِّ خَوْفًا مِنْ وُلَاةِ الظُّلْمِ وَأُمَرَاءِ الْجَوْرِ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُوَفَّقَ هَؤُلَاءِ لِلصَّوَابِ وَيُحْرَمَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: بَلْ نَفْدِيَك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ خُيِّرَ فَكَانَ الْمُخَيَّرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتَهُ، لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إلَّا سُدَّ إلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ» وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَوْتَ الصَّوَابِ فِي الْفَتْوَى لِأَعْلَمْ الْأُمَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ مَعَهُ وَظَفَرَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَهُ حُجَّةً يُجَوِّزُ ذَلِكَ، بَلْ يَحْكُمُ بِوُقُوعِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَا رَوَاهُ زَائِدَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَأَتَاهُمْ عُمَرُ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؛ وَنَحْنُ نَقُولُ لِجَمِيعِ الْمُفْتِينَ: أَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ إذَا أَفْتَى بِفَتْوَى، وَأَفْتَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ بِغَيْرِهَا؟ وَلَا سِيَّمَا مَنْ قَالَ مِنْ زُعَمَائِكُمْ: إنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دِينَنَا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، اللَّهُمَّ إنَّا نُشْهِدُك أَنَّ أَنْفُسَنَا لَا تَطِيبُ بِذَلِكَ، وَنَعُوذُ بِك أَنْ نَطِيبَ بِهِ نَفْسًا. الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إذَا أُتِيت بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَقِيلَ لِي: اشْرَبْ، فَشَرِبْت مِنْهُ، حَتَّى إنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَجْرِي فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْت فَضْلَتِي عُمَرَ، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْت ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعِلْمُ» . وَمِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ فِي فُتْيَا أَوْ حُكْمٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُ فِيهِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ وَضَعَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضُوءًا، فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: «ضَمَّنِي إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» . وَمِنْ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا بَلْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُفْتِيَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ قَطْعًا أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ وَيَعْلَمَهُ الْحِكْمَةَ وَلَا يُخَالِفَهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيَكُونُ فِيهَا عَلَى خَطَأٍ وَيُفْتِي وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَهُ بِخِلَافِ فَتْوَاهُ وَيَكُونُ الصَّوَابُ مَعَهُ، فَيَظْفَرُ بِهِ هُوَ وَمُقَلِّدُوهُ، وَيُحْرَمُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالصَّحَابَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَاقِعَةِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهَا قَوْلًا، وَأَفْتَى بِفُتْيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَفُتْيَاهُ أَشْهَرُ فِي الْبَاقِينَ وَلَا أَنَّهُمْ خَالَفُوهُ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: مَنْ تَأَمَّلَ الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ، وَالْحَوَادِثَ الْفَرْعِيَّةَ، وَتَدَرَّبَ بِمَسَالِكِهَا، وَتَصَرَّفَ فِي مَدَارِكِهَا، وَسَلَكَ سُبُلَهَا ذُلُلًا، وَارْتَوَى مِنْ مَوَارِدِهَا عَلَلًا وَنَهَلًا، عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا قَدْ تَشْتَبِهُ فِيهَا وُجُوهُ الرَّأْيِ بِحَيْثُ لَا يُوثَقُ فِيهَا بِظَاهِرٍ مُرَادٍ، أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ وَيُثْلَجُ لَهُ الْفُؤَادُ، بَلْ تَتَعَارَضُ فِيهَا الظَّوَاهِرُ وَالْأَقْيِسَةُ عَلَى وَجْهٍ يَقِفُ الْمُجْتَهِدُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلظَّنِّ رُجْحَانٌ بَيِّنٍ، لَا سِيَّمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ؛ فَإِنَّ عُقُولَهُمْ مِنْ أَكْمَلِ الْعُقُولِ، وَأَوْفَرِهَا فَإِذَا تَلَدَّدُوا وَتَوَقَّفُوا، وَلَمْ يَتَقَدَّمُوا، وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ وَاضِحَةٌ وَلَا حُجَّةٌ لَائِحَةٌ؛ فَإِذَا وُجِدَ فِيهَا قَوْلٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاَلَّذِينَ هُمْ سَادَاتُ الْأُمَّةِ، وَقُدْوَةُ الْأَئِمَّةِ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ وَنِسْبَةُ مَنْ بَعْدِهِمْ فِي الْعِلْمِ إلَيْهِمْ كَنِسْبَتِهِمْ إلَيْهِمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ كَانَ الظَّنُّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِأَنَّ الصَّوَابَ فِي جِهَتِهِمْ وَالْحَقَّ فِي جَانِبِهِمْ مِنْ أَقْوَى الظُّنُونِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ، هَذَا مَا لَا يَمْتَرِي فِيهِ عَاقِلٌ مُنْصِفٌ. وَكَانَ الرَّأْيُ الَّذِي يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ هُوَ الرَّأْيَ السَّدَادَ الَّذِي لَا رَأْيَ سِوَاهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي الْحَادِثَةِ إنَّمَا هُوَ ظَنٌّ رَاجِحٌ وَلَوْ اسْتَنَدَ إلَى اسْتِصْحَابٍ أَوْ قِيَاسِ عِلَّةٍ أَوْ دَلَالَةٍ أَوْ شَبَهٍ أَوْ عُمُومٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَحْفُوظٍ مُطْلَقٍ أَوْ وَارِدٍ عَلَى سَبَبٍ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَنَا بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَمْ يُخَالَفْ أَرْجَحُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الظُّنُونِ كَحُصُولِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْعَالِمِ أَمْثِلَةُ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا أَوْ حَكَمَ بِحُكْمٍ أَوْ أَفْتَى بِفُتْيَا فَلَهُ مَدَارِكُ يَنْفَرِدُ بِهَا عَنَّا، وَمَدَارِكُ نُشَارِكُهُ فِيهَا، فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَفَاهًا أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ عَنَّا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ، فَلَمْ يَرْوِ كُلٌّ مِنْهُمْ كُلَّ مَا سَمِعَ، وَأَيْنَ مَا سَمِعَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْفَارُوقُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى مَا رَوَوْهُ؟ فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ صِدِّيقُ الْأُمَّةِ مِائَةَ حَدِيثٍ، وَهُوَ لَمْ يَغِبْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنْ مَشَاهِدِهِ، بَلْ صَحِبَهُ مِنْ حِينِ بُعِثَ بَلْ قَبْلَ الْبَعْثِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَانَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَجِلَّةُ الصَّحَابَةِ رِوَايَتُهُمْ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سَمِعُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ، وَشَاهَدُوهُ، وَلَوْ رَوَوْا كُلَّ مَا سَمِعُوهُ وَشَاهَدُوهُ لَزَادَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَحِبَهُ نَحْوَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْكَثِيرَ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ " لَوْ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابِيِّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَذَكَرَهُ " قَوْلُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْمِ وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا، وَلَا يُصَرِّحُونَ بِالسَّمَاعِ، وَلَا يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتِلْكَ الْفَتْوَى الَّتِي يُفْتِي بِهَا أَحَدُهُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَهَا مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَهْمًا خَفِيَ عَلَيْنَا، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا مَلَؤُهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْ إلَيْنَا إلَّا قَوْلَ الْمُفْتِي بِهَا وَحْدَهُ، الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِكَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ عَنَّا، أَوْ لِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِالْخِطَابِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ فَهِمُوهَا عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُشَاهَدَةِ أَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهِ وَشُهُودِ تَنْزِيلِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ تَأْوِيلِهِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَهِمَ مَا لَا نَفْهَمُهُ نَحْنُ، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ الْخَمْسَةِ تَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَ مَا لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَا فَهِمَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالِ مِنْ خَمْسَةٍ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ، وَذَلِكَ يُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا قَوِيًّا عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْلِهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ إلَّا الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَالْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَكْفِي الْعَارِفُ هَذَا الْوَجْهَ. فَصْلٌ: [مِنْ وُجُوهِ فَضْلِ الصَّحَابَةِ] هَذَا فِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنَّا، أَمَّا الْمَدَارِكُ الَّتِي شَارَكْنَاهُمْ فِيهَا مِنْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْأَقْيِسَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَقْرَبَ إلَى أَنْ يُوَفَّقُوا فِيهَا لِمَا لَمْ نُوَفَّقْ لَهُ نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَوَقُّدِ الْأَذْهَانِ، وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الْأَخْذِ، وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ أَوْ عَدَمِهِ، وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَقْوَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى النَّظَرِ فِي الْإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَا إلَى النَّظَرِ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ وَأَوْضَاعِ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ قَدْ غُنُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَيْسَ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَا، وَقَالَ رَسُولُهُ كَذَا، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا، وَهُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَأَحْظَى الْأُمَّةِ بِهِمَا، فَقُوَاهُمْ مُتَوَفِّرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقُوَاهُمْ مُتَفَرِّقَةٌ، وَهِمَمُهُمْ مُتَشَعِّبَةٌ، فَالْعَرَبِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا قَدْ أَخَذَتْ مِنْ قُوَى أَذْهَانِهِمْ شُعْبَةً، وَالْأُصُولُ وَقَوَاعِدُهَا قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا شُعْبَةً، وَعِلْمُ الْإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا شُعْبَةً، وَفِكْرُهُمْ فِي كَلَامِ مُصَنِّفِيهِمْ وَشُيُوخِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، وَمَا أَرَادُوا بِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا شُعْبَةً، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَإِذَا وَصَلُوا إلَى النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ إنْ كَانَ لَهُمْ هِمَمٌ تُسَافِرُ إلَيْهَا وَصَلُوا إلَيْهَا بِقُلُوبٍ وَأَذْهَانٍ قَدْ كَلَّتْ مِنْ السَّيْرِ فِي غَيْرِهَا. وَأَوْهَنَ قُوَاهُمْ مُوَاصَلَةُ السُّرَى فِي سِوَاهَا، فَأَدْرَكُوا مِنْ النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا بِحَسَبِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَحُسُّ بِهِ النَّاظِرُ فِي مَسْأَلَةٍ إذَا اسْتَعْمَلَ قُوَى ذِهْنِهِ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ صَارَ إلَيْهَا وَافَاهَا بِذِهْنٍ كَالٍّ وَقُوَّةٍ ضَعِيفَةٍ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ اسْتَفْرَغَ قُوَاهُ فِي الْأَعْمَالِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ تُضْعِفُ قُوَّتَهُ عِنْدَ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ، كَمَنْ اسْتَفْرَغَ قُوَّتَهُ فِي السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ فَإِذَا جَاءَ قِيَامُ اللَّيْلِ قَامَ إلَى وِرْدِهِ بِقُوَّةٍ كَالَّةٍ وَعَزِيمَةٍ بَارِدَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَرَفَ قُوَى حُبِّهِ، وَإِرَادَتِهِ إلَى الصُّوَرِ أَوْ الْمَالِ أَوْ الْجَاهِ، فَإِذَا طَالَبَ قَلْبَهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ فَإِنْ انْجَذَبَ مَعَهُ انْجَذَبَ بِقُوَّةٍ ضَعِيفَةٍ قَدْ اسْتَفْرَغَهَا فِي مَحَبَّةِ غَيْرِهِ، فَمَنْ اسْتَفْرَغَ قُوَى فِكْرِهِ فِي كَلَامِ النَّاسِ، فَإِذَا جَاءَ إلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ جَاءَ بِفِكْرَةٍ كَالَّةٍ فَأَعْطَى بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَاجْتَمَعَتْ قُوَاهُمْ عَلَى تَيْنِك الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ، هَذَا إلَى مَا خُصُّوا بِهِ مِنْ قُوَى الْأَذْهَانِ وَصَفَائِهَا، وَصِحَّتِهَا وَقُوَّةِ إدْرَاكِهَا، وَكَمَالِهِ، وَكَثْرَةِ الْمُعَاوِنِ، وَقِلَّةِ الصَّارِفِ، وَقُرْبِ الْعَهْدِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّلَقِّي مِنْ تِلْكَ الْمِشْكَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَنَا وَحَالَهُمْ فِيمَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَيْنَا، وَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نَكُونُ نَحْنُ أَوْ شُيُوخُنَا أَوْ شُيُوخُهُمْ أَوْ مَنْ قَلَّدْنَاهُ أَسْعَدَ بِالصَّوَابِ مِنْهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ؟ وَمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِهَذَا فَلْيَعْزِلْهَا مِنْ الدِّينِ وَالْعَمَلِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ لِكَيْ لَا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ الصَّحَابِيُّ فِي حُكْمٍ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ نَاطِقٌ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ قَائِمٌ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ سَاكِتٍ وَمُخْطِئٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ قَائِمٌ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَا مَنْ يَأْمُرُ فِيهِ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى فِيهِ عَنْ مُنْكَرٍ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَةٌ فَقَامَتْ بِالْحُجَّةِ وَأَمَرَتْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَتْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّهُمْ إذَا قَالُوا قَوْلًا أَوْ بَعْضُهُمْ ثُمَّ خَالَفَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ مُبْتَدِئًا لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَمُبْتَدِعًا لَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَقَوْلُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يُخَالِفُهُمْ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا، فَقَدْ كُفِيتُمْ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا: إنَّا نَقْتَدِي وَلَا نَبْتَدِي، وَنَتَّبِعُ وَلَا نَبْتَدِعُ، وَلَنْ نَضِلَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِالْأَثَرِ. وَقَالَ أَيْضًا: إيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالدِّينِ الْعَتِيقِ وَقَالَ أَيْضًا: أَنَا لِغَيْرِ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ الدَّجَّالِ، أُمُورٌ تَكُونُ مِنْ كُبَرَائِكُمْ، فَأَيُّمَا مِرْيَةَ أَوْ رُجَيْلٍ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَالسَّمْتَ الْأَوَّلَ، فَالسَّمْتَ الْأَوَّلَ، فَأَنَا الْيَوْمَ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ؛ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا: اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ، فَإِنَّك لَنْ تَضِلَّ مَا أَخَذْت بِالْأَثَرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يُقَالُ عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالْأَثَرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنَّمَا أَقْتَفِي الْأَثَرَ، فَمَا وَجَدْت قَدْ سَبَقَنَا إلَيْهِ غَيْرُكُمْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَوْ بَلَغَنِي عَنْهُمْ يَعْنِي الصَّحَابَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَاوِزُوا بِالْوُضُوءِ ظُفُرًا مَا جَاوَزْته بِهِ، وَكَفَى عَلَى قَوْمٍ وِزْرًا أَنْ تُخَالِفَ أَعْمَالُهُمْ أَعْمَالَ أَصْحَابِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعْ النَّاسُ بِدْعَةً إلَّا وَقَدْ مَضَى فِيهَا مَا هُوَ دَلِيلٌ وَعِبْرَةٌ مِنْهَا، وَالسُّنَّةُ مَا اسْتَنَّهَا إلَّا مَنْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنْ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فَارْضَ لِنَفْسِك مَا رَضِيَ الْقَوْمُ. وَقَالَ أَيْضًا: قِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَقُلْ كَمَا قَالُوا، وَاسْكُتْ كَمَا سَكَتُوا؛ فَإِنَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَاقِدٍ كَفُّوا، وَهُمْ عَلَى كَشْفِهَا كَانُوا أَقْوَى، وَبِالْفَضْلِ لَوْ كَانَ فِيهَا أَحْرَى. أَيْ فَلَئِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَلَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إلَيْهِ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ فَمَا أَحْدَثَهُ إلَّا مَنْ سَلَكَ غَيْرَ سَبِّ يَلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَهُمْ السَّابِقُونَ، وَلَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَلَا فَوْقَهُمْ مُجَسِّرٌ، وَلَقَدْ قَصَّرَ عَنْهُمْ قَوْمٌ فَجَفَوْا، وَطَمَحَ آخَرُونَ عَنْهُمْ فَغَلَوْا، وَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ. وَقَالَ أَيْضًا كَلَامًا كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَسْتَحْسِنُونَهُ وَيُحَدِّثُونَ بِهِ دَائِمًا، قَالَ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُلَاةِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَتِهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 خَالَفَهَا، فَمَنْ اقْتَدَى بِمَا سَنُّوا فَقَدْ اهْتَدَى، وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا؛ وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ الِاحْتِجَاجَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: عَلَيْك بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَك النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهَا لَك بِالْقَوْلِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا حَدَّثُوك بِهِ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخُذْهُ وَمَا حَدَّثُوك بِهِ عَنْ رَأْيِهِمْ فَانْبِذْهُ فِي الْحُشِّ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: اصْبِرْ نَفْسَك عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَاسْلُكْ سَبِيلَ سَلَفِك الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ يَسَعُك مَا وَسِعَهُمْ، وَقُلْ بِمَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا مَا خُصِصْتُمْ بِهِ دُونَ أَسْلَافِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُدَّخَرْ عَنْهُمْ خَيْرٌ خُبِّئَ لَكُمْ دُونَهُمْ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لَهُ وَبَعَثَهُ فِيهِمْ وَوَصَفَهُمْ قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الْآيَةَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَحْتَجُّونَ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَلَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ مِنْهُمْ، وَتَصَانِيفُ الْعُلَمَاءِ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَمُنَاظَرَاتُهُمْ نَاطِقَةٌ بِهِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: أَهْلُ الْأَعْصَارِ مُجْمِعُونَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي رِوَايَاتِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَمُنَاظَرَاتِهِمْ وَاسْتِدْلَالَاته م، وَيَمْتَنِعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إطْبَاقُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ وَلَا نَصْبَهُ دَلِيلًا لَلْأُمَّةِ، فَأَيُّ كِتَابٍ شِئْت مِنْ كُتُبِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ وَجَدْت فِيهِ الِاسْتِدْلَالَ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَوَجَدْت ذَلِكَ طِرَازَهَا وَزِينَتَهَا، وَلَمْ تَجِدْ فِيهَا قَطُّ لَيْسَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حُجَّةً، وَلَا يَحْتَجُّ بِأَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَتَاوِيهِمْ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَطِيبُ قَلْبُ عَالِمٍ يُقَدِّمُ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ وَافَقَ رَبَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ حُكْمٍ فَقَالَ وَأَفْتَى بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَةِ مَا قَالَ لَفْظًا وَمَعْنًى قَوْلَ مُتَأَخِّرٍ بَعْدَهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الرُّتْبَةُ وَلَا يُدَانِيهَا؟ وَكَيْفَ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ آرَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَرْجَحُ مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فَتَاوَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ وَكَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ وَيَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؟ . قَالَ جَابِرٌ: وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، فَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 عَمِلْنَا بِهِ، فِي حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمُسْتَنَدُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ فِعْلِ رَسُولِهِ وَهَدْيِهِ الَّذِي هُوَ يُفَصِّلُ الْقُرْآنَ وَيُفَسِّرُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ؟ هَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ. [فَصْلٌ حُجِّيَّةُ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ] فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ أَقْوَالِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، فَمَا تَقُولُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ؟ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهَا؟ . [أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ] قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ أَقْوَالَهُمْ فِي التَّفْسِيرِ أَصْوَبُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَالِاحْتِجَاجِ، لَا أَنَّهُ إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ فِي الْآيَةِ قَوْلًا فَلَنَا أَنْ نَقُولَ هَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ بِمَعْنَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَفَسَّرَهُ لَهُمْ كَمَا وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَبَيَّنَ لَهُمْ الْقُرْآنَ بَيَانًا شَافِيًا كَافِيًا، وَكَانَ إذَا أَشْكَلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَعْنًى سَأَلَهُ عَنْهُ فَأَوْضَحَهُ لَهُ، كَمَا سَأَلَهُ الصِّدِّيقُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فَبَيَّنَ لَهُ الْمُرَادَ، وَكَمَا سَأَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فَبَيَّنَ لَهُمْ مَعْنَاهَا، وَكَمَا سَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّهُ الْعَرْضُ، وَكَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ الْكَلَالَةِ فَأَحَالَهُ عَلَى آيَةِ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخَرِ السُّورَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِذَا نَقَلُوا لَنَا تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ فَتَارَةً يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ، وَتَارَةً بِمَعْنَاهُ، فَيَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِأَلْفَاظِهِمْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، كَمَا يَرْوُونَ عَنْهُ السُّنَّةَ تَارَةً بِلَفْظِهَا، وَتَارَةً بِمَعْنَاهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَجِدُ لِبَعْضِهِمْ أَقْوَالًا فِي التَّفْسِيرِ تُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ الصِّحَاحَ، وَهَذَا كَثِيرٌ، كَمَا فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الدُّخَانَ بِأَنَّهُ الْأَثَرُ الَّذِي حَصَلَ عَنْ الْجُوعِ الشَّدِيدِ وَالْقَحْطِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ دُخَانٌ يَأْتِي قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَعَ الدَّابَّةِ وَالدَّجَّالِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. وَفَسَّرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] بِأَنَّهَا لِلْبَائِنَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ، حَتَّى قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْبَائِنِ تُخَالِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَفَسَّرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ، فَقَالَ: تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِخِلَافِهِ. وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] بِأَنَّ الصِّفَةَ لِنِسَائِكُمْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ؛ فَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا، وَالصَّحِيحُ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَأَنَّ [أُمَّ] الْمَرْأَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى ابْنَتِهَا، وَالصِّفَةُ رَاجِعَةٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ السِّجِلَّ بِأَنَّهُ كَاتِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمَّى السِّجِلَّ، وَذَلِكَ وَهْمٌ وَإِنَّمَا السِّجِلُّ الصَّحِيفَةُ الْمَكْتُوبَةُ، وَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] ، وَفِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ أَيْ يَطْوِي السَّمَاءَ كَمَا يَطْوِي السِّجِلَّ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؟ قِيلَ: الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِهِ كَالْكَلَامِ فِي فَتْوَاهُ سَوَاءٌ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ هُنَا كَصُورَتِهَا هُنَاكَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَصُورَتُهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ يُخَالِفُهُ، وَيَقُولُ فِي الْآيَةِ قَوْلًا لَا يُخَالِفُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، سَوَاءٌ عُلِمَ لِاشْتِهَارِهِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ فَقَدْ فُقِدَ فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ الْفَتَاوَى الَّتِي تُخَالِفُ النَّصَّ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا سَوَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ لَمَا أَخْطَأَ، وَلَكَانَ مَعْصُومًا؛ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا كَانَ يُفْتِي بِالصَّوَابِ تَارَةً وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُهُ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَتْوَى الْمُعَيَّنَةَ وَالتَّفْسِيرَ الْمُعَيَّنَ مِنْ قِسْمِ الصَّوَابِ؟ إذْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ غَيْرُ قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ يَنْقَسِمُ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُعَيَّنَ مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ وَلَا بُدَّ؟ قِيلَ: الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَقُولُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْخَطَأَ الْمَحْضَ وَيُمْسِكَ الْبَاقُونَ عَنْ الصَّوَابِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا غَيْرُهُمْ بِالصَّوَابِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وَالْمَحْظُورُ إنَّمَا هُوَ خُلُوُّ عَصْرِهِمْ عَنْ نَاطِقٍ بِالصَّوَابِ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى نَاطِقٍ بِغَيْرِهِ فَقَطْ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُحَالُ. وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِكُمْ: لَوْ كَانَ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً لَمَا جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ حُجَّةً، بَلْ بِمَا انْضَافَ إلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْقَرَائِنِ. [مَنْزِلَةُ قَوْلِ التَّابِعِيِّ وَتَفْسِيرِهِ] فَإِنْ قِيلَ: فَبَعْضُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا وَلَمْ يُخَالِفْهُ صَحَابِيٌّ وَلَا تَابِعِيٌّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حُجَّةً. فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّابِعِينَ انْتَشَرُوا انْتِشَارًا لَا يَنْضَبِطُ لِكَثْرَتِهِمْ، وَانْتَشَرَتْ الْمَسَائِلُ فِي عَصْرِهِمْ؛ فَلَا يَكَادُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمُخَالِفِ لِمَا أَفْتَى بِهِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، فَإِنْ فَرَضَ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ اتِّبَاعُ التَّابِعِيِّ فِيمَا أَفْتَى بِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ صَحَابِيٌّ وَلَا تَابِعِيٌّ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ بِأَنَّهُ قَالَهُ تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ قَوْلِ عَطَاءٍ، فَكَانَ قَوْلُهُ عِنْدَهُ أَقْوَى مَا وَجَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ، وَالْأَكْثَرُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفُرُوقِ، عَلَى أَنَّ فِي الِاحْتِجَاجِ بِتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَجَدَهَا مَشْحُونَةً بِالِاحْتِجَاجِ بِتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ. [قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ] [حُكْمُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسِ] فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؟ قِيلَ: مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَهُمْ قَوْلَانِ فِيمَا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ حُجَّةً شَرْعِيَّةً، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْسَلِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ مُرْسِلُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهُ حُجَّةٌ فَلَهُمْ أَيْضًا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، فَتَرَتُّبُ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ: الْقُرْآنُ، ثُمَّ السُّنَّةُ، ثُمَّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَقْوَى مِنْ الْمُعَارِضِ الَّذِي خَالَفَهُ مِنْ الْقِيَاسِ؛ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، وَالْأَخْذُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ مُتَعَيِّنٌ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 [فَصْل أَسْئِلَةُ السَّائِلِينَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] فَصْلٌ: [أَنْوَاعُ الْأَسْئِلَةِ] وَلْنَخْتِمْ الْكِتَابَ بِفَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِالْفَتْوَى. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَسْئِلَةُ السَّائِلِينَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ لَا خَامِسَ لَهَا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْحُكْمِ فَيَقُولُ؛ مَا حُكْمُ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ دَلِيلِ الْحُكْمِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ وَجْهِ دَلَالَتِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ مُعَارِضِهِ. [مَوْقِفُ الْمُفْتِي أَمَامَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَسْئِلَةِ] فَإِنْ سَأَلَ عَنْ الْحُكْمِ فَلِلْمَسْئُولِ حَالَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ إثْمُهُ وَإِثْمُ الْمُسْتَفْتِي، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ النَّاسُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَحْكِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ لِلسَّائِلِ. وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ فَلِلسَّائِلِ حَالَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَضَرَهُ وَقْتَ الْعَمَلِ وَقَدْ احْتَاجَ إلَى السُّؤَالِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي الْمُبَادَرَةُ عَلَى الْفَوْرِ إلَى جَوَابِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْحُكْمِ لَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ سَأَلَ عَنْ الْحَادِثَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَهُ عَنْهَا، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ إذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لِلسَّائِلِ: هَلْ كَانَتْ أَوْ وَقَعَتْ؟ فَإِنْ قَالَ " لَا " لَمْ يُجِبْهُ، وَقَالَ: دَعْنَا فِي عَافِيَةٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ لَا تَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ فَالضَّرُورَةُ تُبِيحُهُ كَمَا تُبِيحُ الْمَيْتَةَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ فَعَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ، هَذَا إذَا أَمِنَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفَتْوَى، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ غَائِلَتَهَا وَخَافَ مِنْ تَرَتُّبِ شَرٍّ أَكْثَرَ مِنْ الْإِمْسَاكِ عَنْهَا أَمْسَكَ عَنْهَا، تَرْجِيحًا لِدَفْعِ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا. وَقَدْ أَمْسَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَقْضِ الْكَعْبَةِ وَإِعَادَتِهَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَجْلِ حِدْثَانِ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا نَفَّرَهُمْ عَنْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَقْلُ السَّائِلِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَخَافَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَهُ، أَمْسَكَ عَنْ جَوَابِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ: وَمَا يُؤْمِنُك أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُك بِتَفْسِيرِهَا كَفَرْت بِهِ؟ أَيْ جَحَدْتُهُ وَأَنْكَرْتُهُ وَكَفَرْت بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّك تَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 [عُدُولُ الْمُفْتِي عَنْ السُّؤَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ] لِلْمُفْتِي الْعُدُولُ عَنْ السُّؤَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جَوَابِ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ بَيَانَ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ عِلْمِ الْمُفْتِي وَفِقْهِهِ وَنُصْحِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] فَسَأَلُوهُ عَنْ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ؛ إذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ بِالسِّيَاقِ، مَعَ ذِكْرِهِ لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وَهُوَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنْفَاقُهُ وَلَا يَضُرُّهُمْ إخْرَاجُهُ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ ظُهُورِ الْهِلَالِ خَفِيًّا ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ فِيهِ النُّورُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَكْمُلَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ، فَأَجَابَهُمْ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ مَوَاقِيتِ النَّاسِ الَّتِي بِهَا تَمَامُ مَصَالِحِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَوَاقِيتِ أَكْبَرِ عِبَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ السَّبَبِ فَقَدْ أُجِيبُوا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ عَيْنِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَلَفْظُ سُؤَالِهِمْ مُحْتَمِلٌ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَتِمَّ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النَّقْصِ؟ . [جَوَابُ الْمُفْتِي بِأَكْثَرَ مِنْ السُّؤَالِ] [جَوَابُ الْمُفْتِي بِأَكْثَرَ مِنْ السُّؤَالِ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِ نُصْحِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَمَنْ عَابَ ذَلِكَ فَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَضِيقِ عَطَنِهِ وَضَعْفِ نُصْحِهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: بَابُ مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرِ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ، فَأَجَابَ عَمَّا لَا يَلْبَسُ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْجَوَابَ عَمَّا يَلْبَسُ؛ فَإِنَّ مَا لَا يَلْبَسُ مَحْصُورٌ، وَمَا يَلْبَسُهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ النَّوْعَيْنِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ لُبْسِ الْخُفِّ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلِ، وَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُمْ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . [مَنْعُ الْمُفْتِي الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ مَحْظُورٍ دَلَّ عَلَى مُبَاحٍ] [إذَا مَنَعَ الْمُفْتِي مِنْ مَحْظُورِ دَلَّ عَلَى مُبَاحٍ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ فِقْهِ الْمُفْتِي وَنُصْحِهِ إذَا سَأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَنْ شَيْءٍ فَمَنَعَهُ مِنْهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَكَانَتْ حَاجَتُهُ تَدْعُوهُ إلَيْهِ، أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ لَهُ مِنْهُ، فَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْمَحْظُورِ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْمُبَاحِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ عَالِمٍ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ قَدْ تَاجَرَ اللَّهَ وَعَامَلَهُ بِعِلْمِهِ. فَمِثَالُهُ فِي الْعُلَمَاءِ مِثَالُ الطَّبِيبِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ فِي الْأَطِبَّاءِ يَحْمِي الْعَلِيلَ عَمَّا يَضُرُّهُ، وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ، فَهَذَا شَأْنُ أَطِبَّاءِ الْأَدْيَانِ وَالْأَبْدَانِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» . وَهَذَا شَأْنُ خُلُقِ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَرَأَيْت شَيْخَنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي فَتَاوِيهِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوِيَهُ وَجَدَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهَا، «وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يَشْتَرِيَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ الْجَيِّدِ بِصَاعَيْنِ مِنْ الرَّدِيءِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ، فَقَالَ بِعْ الْجَمِيعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَمَنَعَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَأَرْشَدَهُ إلَى الطَّرِيقِ الْمُبَاحِ. وَلَمَّا سَأَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي جِبَايَةِ الزَّكَاةِ؛ لِيُصِيبَا مَا يَتَزَوَّجَانِ بِهِ مَنَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ مَحْمِيَةَ بْنَ جزو - وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ - أَنْ يُعْطِيَهُمَا مَا يَنْكِحَانِ بِهِ، فَمَنَعَهُمَا مِنْ الطَّرِيقِ الْمُحَرَّمِ، وَفَتَحَ لَهُمْ الطَّرِيقَ الْمُبَاحَ، وَهَذَا اقْتِدَاءٌ مِنْهُ بِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَمْنَعُهُ إيَّاهَا، وَيُعْطِيهِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَأَنْفَعُ مِنْهَا، وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ وَالْحِكْمَةِ. [يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ السَّائِلَ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُوهِمِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا أَفْتَى الْمُفْتِي لِلسَّائِلِ بِشَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَازِ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ الْوَهْمُ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ الصَّوَابِ، وَهَذَا بَابٌ لَطِيفٌ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ وَالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ. وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَتْبَعَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ؛ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إهْدَارِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانُوا فِي عَهْدِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ دِمَاءَهُمْ هَدَرٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدَهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ اللَّطِيفَةُ الْحَسَنَةُ عَلَى مَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ، وَقَدَّرَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» فَلَمَّا كَانَ نَهْيُهُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا نَوْعَ تَعْظِيمٍ لَهَا عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهَا حَتَّى تُجْعَلَ قِبْلَةً. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] فَنَهَاهُنَّ عَنْ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ، فَرُبَّمَا ذَهَبَ الْوَهْمُ إلَى الْإِذْنِ فِي الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ وَالتَّجَاوُزِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِلْحَاقِ الذُّرِّيَّةِ وَلَا عَمَلَ لَهُمْ بِآبَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ فَرُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنْ يَحُطَّ الْآبَاءَ إلَى دَرَجَةِ الذُّرِّيَّةِ، فَرَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أَيْ مَا نَقَصْنَا مِنْ الْآبَاءِ شَيْئًا مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ رَفَعْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ إلَى دَرَجَتِهِمْ، وَلَمْ نَحُطَّهُمْ إلَى دَرَجَتِهِمْ بِنَقْصِ أُجُورِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ الْوَهْمُ قَدْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ النَّارِ كَمَا يَفْعَلُهُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَطَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91] فَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ رُبُوبِيَّتِهِ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ قَدْ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] فَلَمَّا ذَكَرَ كِفَايَتَهُ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا أَوْهَمَ ذَلِكَ تَعْجِيلَ الْكِفَايَةِ وَقْتَ التَّوَكُّلِ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أَيْ وَقْتًا لَا يَتَعَدَّاهُ فَهُوَ يَسُوقُهُ إلَى وَقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ. فَلَا يَسْتَعْجِلُ الْمُتَوَكِّلُ وَيَقُولُ: قَدْ تَوَكَّلْت، وَدَعَوْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَلَمْ تَحْصُلْ لِي الْكِفَايَةُ، فَاَللَّهُ بَالِغُ أَمْرِهِ فِي وَقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ بَابٌ لَطِيفٌ مِنْ أَبْوَابِ فَهْمِ النُّصُوصِ. [ذَكَرَ الْمُفْتِي دَلِيلَ الْحُكْمِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ وَمَأْخَذَهُ] [مِمَّا يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَذْكُرَ الْحُكْمَ بِدَلِيلِهِ] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَذْكُرَ دَلِيلَ الْحُكْمِ وَمَأْخَذَهُ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُلْقِيهِ إلَى الْمُسْتَفْتِي سَاذَجًا مُجَرَّدًا عَنْ دَلِيلِهِ وَمَأْخَذِهِ؛ فَهَذَا لِضِيقِ عَطَنِهِ وَقِلَّةِ بِضَاعَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي قَوْلُهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ رَآهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَنَظِيرِهِ، وَوَجْهِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَهَذَا كَمَا «سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَزَجَرَ عَنْهُ» ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نُقْصَانَهُ بِالْجَفَافِ، وَلَكِنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَسَبَبِهِ. وَمِنْ هَذَا «قَوْلُهُ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قُبْلَةِ امْرَأَتِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ ثُمَّ مَجَجْتَهُ، أَكَانَ يَضُرُّ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا» ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْمَحْظُورِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَحْظُورَةً؛ فَإِنَّ غَايَةَ الْقُبْلَةِ أَنَّهَا مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ تَحْرِيمُ مُقَدِّمَتِهِ، كَمَا أَنَّ وَضْعَ الْمَاءِ فِي الْفَمِ مُقَدِّمَةُ شُرْبِهِ، وَلَيْسَتْ الْمُقَدِّمَةُ مُحَرَّمَةً. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أَرْحَامَكُمْ» ؛ فَذَكَرَ لَهُمْ الْحُكْمَ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ. وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ لِأَبِي النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَقَدْ خَصَّ بَعْضَ وَلَدِهِ بِغُلَامٍ نَحَلَهُ إيَّاهُ، فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يَكُونُوا لَك فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» وَفِي لَفْظٍ «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَفِي لَفْظٍ «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» تَهْدِيدًا، لَا إذْنًا، فَإِنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِي الْجَوْرِ قَطْعًا، وَفِي لَفْظٍ: رُدَّهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نَبَّهَهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَمِنْ هَذَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ قَالَ: لَهُ إنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُك عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ التَّذْكِيَةِ بِهِمَا بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا عَظْمًا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى عَدَمِ التَّذْكِيَةِ بِالْعِظَامِ؛ إمَّا لِنَجَاسَةِ بَعْضِهَا؛ وَإِمَّا لِتَنْجِيسِهِ عَلَى مُؤْمِنِي الْجِنِّ، وَلِكَوْنِ الْآخَرِ مُدَى الْحَبَشَةِ، فَفِي التَّذْكِيَةِ بِهَا تَشَبُّهٌ بِالْكُفَّارِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ فِي الثَّمَرَةِ تُصِيبُهَا الْجَائِحَةُ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، فَبِمَ يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ .» وَهَذَا التَّعْلِيلُ بِعَيْنِهِ يَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيُقَالُ لِلْمُؤَجِّرِ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الزَّرْعَ فَبِمَ تَأْكُلُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّارِعَ مَعَ كَوْنِ قَوْلِهِ حُجَّةً بِنَفْسِهِ يُرْشِدُ الْأُمَّةَ إلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا وَحُكْمِهَا، فَوَرَثَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ «نَهْيُهُ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ» وَمِنْ ذَلِكَ إفْتَاؤُهُ لِلْعَاضِّ يَدَ غَيْرِهِ بِإِهْدَارِ دِيَةِ ثَنِيَّتِهِ لَمَّا سَقَطَتْ بِانْتِزَاعِ الْمَعْضُوضِ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ «أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك تَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ» وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّعْلِيلِ وَأَبْيَنِهِ؛ فَإِنَّ الْعَاضَّ لَمَّا صَالَ عَلَى الْمَعْضُوضِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ صِيَالَهُ عَنْهُ بِانْتِزَاعِ يَدِهِ مِنْ فَمِهِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ ثَنَايَاهُ كَانَ سُقُوطُهَا بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا يُقَابَلُ بِالدِّيَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي السُّنَّةِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ السَّائِلَ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَمَأْخَذِهِ إنْ عَرَفَ ذَلِكَ، وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِلَا عِلْمٍ. وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ يُرْشِدُ سُبْحَانَهُ فِيهَا إلَى مُدَارِكِهَا وَعِلَلِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ عِلَّةَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] . [تَمْهِيد المفتى لِلْحُكْمِ الْمُسْتَغْرَبِ] [مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَنْ يُمَهِّدَ لِلْحُكْمِ الْمُسْتَغْرَبِ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: (إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَغْرَبًا جِدًّا مِمَّا لَا تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَإِنَّمَا أَلِفَتْ خِلَافَهُ فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُوَطِّئَ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ مُؤْذِنًا بِهِ) كَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَالْمُقَدِّمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَأَمَّلْ ذِكْرَهُ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَإِخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْهُ بَعْدَ انْصِرَامِ عَصْرِ الشَّبِيبَةِ وَبُلُوغِهِ السِّنَّ الَّذِي لَا يُولَدُ [فِيهِ] لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُ مُقَدَّمَةً بَيْنَ يَدَيْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَوِلَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَمَّا آنَسَتْ بِوَلَدٍ مِنْ بَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرِينَ لَا يُولَدُ لَهُمَا عَادَةً سَهُلَ عَلَيْهَا التَّصْدِيقُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَبْلَ قِصَّةِ الْمَسِيحِ مُوَافَاةَ مَرْيَمَ رِزْقَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَغَيْرِ إبَّانِهِ. وَهَذَا الَّذِي شَجَّعَ نَفْسَ زَكَرِيَّا وَحَرَّكَهَا لِطَلَبِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ، وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ لَمَّا كَانَتْ شَدِيدَةً عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا كَيْفَ وَطَّأَ سُبْحَانَهُ قَبْلَهَا عِدَّةَ مُوَطَّئَاتٍ: مِنْهَا: ذِكْرُ النَّسْخِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ فَعُمُومُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ صَالِحٌ لِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي كَمَا كَانَ صَالِحًا لِلْأَوَّلِ. وَمِنْهَا: تَحْذِيرُهُمْ الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَسُولِهِ كَمَا اعْتَرَضَ مَنْ قَبْلَهُمْ عَلَى مُوسَى، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ. وَمِنْهَا: تَحْذِيرُهُمْ بِالْإِصْغَاءِ إلَى الْيَهُودِ، وَأَنْ لَا تَسْتَخِفَّهُمْ شُبَهُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَوَدُّونَ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ. وَمِنْهَا: إخْبَارُهُ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِالتَّهَوُّدِ وَلَا بِالتَّنَصُّرِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ وَالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُتَابَعَةِ أَمْرِهِ. وَمِنْهَا: إخْبَارُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سَعَتِهِ، وَأَنَّهُ حَيْثُ وَلَّى الْمُصَلِّي وَجْهَهُ فَثَمَّ وَجْهُهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، فَذَكَرَ الْإِحَاطَتَيْنِ الذَّاتِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ، فَلَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ فِي الْقِبْلَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقْبِلِينَ وَجْهَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ، بَلْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا فَثَمَّ وَجْهُهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَذَّرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يَتْبَعَ هُوَ وَأُمَّتُهُ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ فَيَسْتَقْبِلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَحْدَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَعَظَمَةَ بَانِيهِ وَمِلَّتِهِ، وَسَفَّهَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْهَا، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا، فَنَوَّهَ بِالْبَيْتِ وَبَانِيهِ وَمِلَّتِهِ، وَكُلُّ هَذَا تَوْطِئَةٌ بَيْنَ يَدَيْ التَّحْوِيلِ، مَعَ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَطَالِبِ السَّنِيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَبِيُّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَطَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَخِيَارَهُمْ، وَكِتَابُهُمْ كَذَلِكَ، وَدِينُهُمْ كَذَلِكَ، وَقِبْلَتُهُمْ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا كَذَلِكَ، فَظَهَرَتْ الْمُنَاسَبَةُ شَرْعًا وَقَدَرًا فِي أَحْكَامِهِ تَعَالَى الْأَمْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ، وَتَجَلَّتْ لِلْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الْمُسْتَنِيرَةِ بِنُورِ رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُفْتِيَ جَدِيرٌ أَنْ يَذْكُرَ بَيْنَ يَدَيْ الْحُكْمِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَمْ يُؤَلَّفْ مُقَدِّمَاتٍ تُؤْنِسُ بِهِ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ تَوْطِئَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [حَلِف المفتى عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ] [يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي وَالْمُنَاظِرِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلِفُهُ مُوجِبًا لِثُبُوتِهِ عِنْدَ السَّائِلِ وَالْمُنَازِعِ؛ لِيَشْعُرَ السَّائِلُ وَالْمُنَازِعُ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِمَّا قَالَ لَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِ، فَقَدْ تَنَاظَرَ رَجُلَانِ فِي مَسْأَلَةٍ؛ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، فَقَالَ لَهُ مُنَازِعُهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِحَلِفِك، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَحْلِفْ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ عِنْدَك، وَلَكِنْ؛ لِأُعْلِمَك أَنِّي عَلَى يَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ مِنْ قَوْلِي، وَأَنَّ شُبْهَتَك لَا تُغَيِّرُ عِنْدِي فِي وَجْهِ يَقِينِي مَا أَنَا جَازِمٌ بِهِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَحَدُهَا: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3] وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] . وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَحْلِفُونَ عَلَى الْفَتَاوَى وَالرِّوَايَةِ، «فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ: إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ، فَانْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَوَاَللَّهِ وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ حَرَّمَهَا ثَلَاثًا، فَأَنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ قَسَمًا لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُتَمَتِّعًا إلَّا رَجَمْتُهُ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلَّهَا بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهَا. وَقَدْ حَلَفَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْمُتْعَةِ كَانَ يَكُونُ فِيهَا طَلَاقٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ وَاَللَّهِ عِنْدِي زِنْدِيقٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَنْ كَذَّبَ بِهِ مَا هُمْ إلَّا زَنَادِقَةً، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ فَإِنَّهُ حَلَفَ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ مِنْ فَتَاوِيهِ. قِيلَ: أَيَزِيدُ الرَّجُلُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى، يَعْنِي بِالْوَسْوَاسِ. وَسُئِلَ عَنْ تَخَلُّلِ الرَّجُلِ لِحْيَتَهُ إذَا تَوَضَّأَ، فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي الْجِهَادِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يُبَارِزُ عِلْجًا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ. وَقِيلَ لَهُ: أَتَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْصُورَةِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، قُلْت: وَهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْمَقْصُورَةُ تُحْمَى لِلْأُمَرَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَسُئِلَ: أَيُؤْجَرُ الرَّجُلُ عَلَى بُغْضِ مَنْ خَالَفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَافِرٌ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَسُئِلَ: هَلْ صَحَّ عِنْدَك فِي النَّبِيذِ حَدِيثٌ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا صَحَّ عِنْدِي حَدِيثٌ وَاحِدٌ إلَّا عَلَى التَّحْرِيمِ. وَسُئِلَ: أَيُكْرَهُ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَؤُمُّ أَبَاهُ وَيُصَلِّي الْأَبُ خَلْفَهُ، فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ: هَلْ يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ عَنْ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا وَتَنَامُ، يُكْرَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ جَارِيَتَهُ فَيَطَؤُهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ اسْتَسْقَى قَوْمًا، وَهُوَ عَطْشَانُ فَلَمْ يَسْقُوهُ فَمَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ الدِّيَةَ، تَقُولُ أَنْتَ كَذَا؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ قَذَفَ زَوْجَتَهُ يُلَاعِنُهَا؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَسُئِلَ [أَ] يَضْرِبُ الرَّجُلُ رَقِيقَهُ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الشَّرِيفُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: وَاَللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيت الْمَجْهُودَ مِنْ نَفْسِي، وَلَوَدِدْت أَنِّي أَنْجُو مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا: وَاَللَّهِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ الْمَوْتَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ، وَإِنَّهُ لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي هَذَا، وَهَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَحْمَدَ: يُكْرَهُ الْخَاتَمُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي النِّسَاءِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، يَحْتَسِبُ الْوَلَدَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْوَلَدَ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ. وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُونَ: إنَّك وَقَفْت عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: كَذَبُوا وَاَللَّهِ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا حَدَّثَتْهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «كُنَّا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُخَايِرُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى عُثْمَانَ وَلَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ» . وَسُئِلَ أَحْمَدُ: هَلْ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: أَنَّ أَيُّوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ سَافِرِي قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ إِسْحَاقَ إذَا انْفَرَدَ بِحَدِيثٍ تَقْبَلُهُ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، إنِّي رَأَيْته يُحَدِّثُ عَنْ جَمَاعَةٍ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يَفْصِلُ كَلَامَ ذَا مِنْ كَلَامِ ذَا. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْت لِأَبِي: تُقْتَلُ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَبِي: تَجْهَرُ بِآمِينَ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُ الْإِمَامِ، وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَبِي: يُفْتَحُ عَلَى الْإِمَامِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: وَنَحْنُ نَحْتَاجُ فِي رَمَضَانَ أَنْ نُبَيِّتَ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ أَيْضًا: تُبَاعُ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا عَطِبَتْ وَإِذَا فَسَدَتْ؟ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: هَلْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَقِيقَةِ شَيْءٌ؟ فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبِي: إي وَاَللَّهِ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ ". وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَقَالَ الْكَوْسَجُ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: قَالَ سُفْيَانُ: تُجْزِئُهُ تَكْبِيرَةٌ إذَا نَوَى بِهَا افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَحْمَدُ: إي وَاَللَّهِ تُجْزِئُهُ إذَا نَوَى، ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدٌ، وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: الْمُؤَذِّنُ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ، وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ يَتَحَرَّكُ، مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُشَقَّ بَطْنُهَا، قَالَ أَحْمَدُ: بِئْسَ وَاَللَّهِ مَا قَالَ، يُرَدِّدُ ذَلِكَ سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَ مَا قَالَ. وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَقَالَ أَيْضًا: قُلْت لِأَحْمَدَ: الْمُرْجِئُ إذَا كَانَ دَاعِيًا، قَالَ: إي وَاَللَّهِ يُجْفَى وَيُقْصَى. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ قَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّ لَفْظِي هَذَا بِهِ مَخْلُوقٌ، قَالَ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ، إنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] فَقِيلَ لَهُ: هَذَا مِمَّا جَاءَ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 صَاحِبُك؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، هَذَا وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، قُلْت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] هَذَا الَّذِي قَرَأْتُ السَّاعَةَ كَلَامُ اللَّهِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ " فَقَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ: أَوْفِ بِنَذْرِك، أَتَرَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، وَقَالَ الْفَضْلُ أَيْضًا: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، مَا أَدْرَكْنَا مِثْلَهُ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا عَيْنٌ نَظَرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ، وَلَا بَعْدَ عُمَرَ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عُثْمَانَ، وَلَا بَعْدَ عُثْمَانَ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُمْ وَاَللَّهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: كَانَ يَرَى التَّشَيُّعَ، قُلْت: قَدْ يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ بِالْكَذِبِ؟ قَالَ: إي وَاَللَّهِ. قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَحْلِفَ فِي مَسَائِلَ مُخْتَلَفٍ فِيهَا؟ قِيلَ: أَمَّا مَسَائِلُ الْأُصُولِ فَلَا يَسُوغُ فِيهَا اخْتِلَافٌ فَهِيَ إجْمَاعٌ، وَأَمَّا مَسَائِلُ الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِحَّةُ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ فِي دَفْتَرِ أَبِيهِ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دَيْنًا جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، قُلْت: وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْيَمِينَ هُنَاكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالنِّيَّةَ فِيهِ لِلْخَصْمِ، قُلْت: وَلَمْ يَمْنَعْ أَحْمَدُ الْيَمِينَ لِهَذَا، بَلْ شُفْعَةُ الْجِوَارِ عِنْدَهُ مِمَّا يُسَوِّغُ الْقَوْلَ بِهَا، وَفِيهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ لَا تُرَدُّ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا، فَمَرَّةً نَفَاهَا، وَمَرَّةً أَثْبَتَهَا، وَمَرَّةً فَصَّلَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ كَالطَّرِيقِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَبَيْنَ أَلَّا يَشْتَرِكَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ، وَلَا يُخْتَارُ غَيْرُهُ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي الرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِهَا تَحْقِيقًا وَتَأْكِيدًا لِلْخَيْرِ لَا إثْبَاتًا لَهُ بِالْيَمِينِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93] ، وَكَذَلِكَ أَقْسَمَ بِكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يس} [يس: 1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] ، وَأَمَّا إقْسَامُهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي هِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَكَثِيرٌ جِدًّا. [مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِلَفْظِ النُّصُوصِ] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِلَفْظِ النَّصِّ مَهْمَا أَمْكَنَهُ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ وَالدَّلِيلَ مَعَ الْبَيَانِ التَّامِّ، فَهُوَ حُكْمٌ مَضْمُونٌ لَهُ الصَّوَابُ، مُتَضَمِّنٌ لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ فِي أَحْسَنِ بَيَانٍ، وَقَوْلُ الْفَقِيهِ الْمُعَيَّنِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ سَلَكُوا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ يَتَحَرَّوْنَ ذَلِكَ غَايَةَ التَّحَرِّي، حَتَّى خَلَفَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ رَغِبُوا عَنْ النُّصُوصِ، وَاشْتَقُّوا لَهُمْ أَلْفَاظًا غَيْرَ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ هَجْرَ النُّصُوصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَا تَفِي بِمَا تَفِي بِهِ النُّصُوصُ مِنْ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ، فَتَوَلَّدَ مِنْ هِجْرَانِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْحَادِثَةِ وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِهَا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. فَأَلْفَاظُ النُّصُوصِ عِصْمَةٌ وَحُجَّةٌ بَرِيئَةٌ مِنْ الْخَطَأِ وَالتَّنَاقُضِ وَالتَّعْقِيدِ وَالِاضْطِرَابِ، وَلَمَّا كَانَتْ هِيَ عِصْمَةَ عُهْدَةِ الصَّحَابَةِ وَأُصُولِهِمْ الَّتِي إلَيْهَا يَرْجِعُونَ كَانَتْ عُلُومُهُمْ أَصَحَّ مِنْ عُلُومِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَطَؤُهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَقَلَّ مِنْ خَطَأِ مَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ التَّابِعُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَلَمَّا اسْتَحْكَمَ هِجْرَانُ النُّصُوصِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ كَانَتْ عُلُومُهُمْ فِي مَسَائِلِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالِاضْطِرَابِ وَالتَّنَاقُضِ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سُئِلُوا عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقُولُونَ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، أَوْ فَعَلَ [رَسُولُ] اللَّهِ كَذَا، وَلَا يَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ مَا وَجَدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا قَطُّ، فَمَنْ تَأَمَّلَ أَجْوِبَتَهُمْ وَجَدَهَا شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَلَمَّا طَالَ الْعَهْدُ وَبَعُدَ النَّاسُ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ صَارَ هَذَا عَيْبًا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ قَالَ اللَّهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ. أَمَّا أُصُولُ دِينِهِمْ فَصَرَّحُوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا الْحَشَوِيَّةُ وَالْمُجَسِّمَةُ وَالْمُشَبِّهَةُ، وَأَمَّا فُرُوعُهُمْ فَقَنَعُوا بِتَقْلِيدِ مَنْ اخْتَصَرَ لَهُمْ بَعْضَ الْمُخْتَصَرَاتِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ فِيهَا نَصٌّ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ الْإِمَامِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَلَّدُوهُ دِينَهُمْ، بَلْ عُمْدَتُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ وَيَقْضُونَ بِهِ وَيَنْقُلُونَ بِهِ الْحُقُوقَ وَيُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ الْمُصَنَّفِ، وَأَجَلُّهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ وَزَعِيمُهُمْ عِنْدَ بَنِي جِنْسِهِ مَنْ يَسْتَحْضِرُ لَفْظَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: هَكَذَا قَالَ، وَهَذَا لَفْظُهُ؛ فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالْوَاجِبُ مَا أَوْجَبَهُ، وَالْبَاطِلُ مَا أَبْطَلَهُ، وَالصَّحِيحُ مَا صَحَّحَهُ. هَذَا، وَأَنَّى لَنَا بِهَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ، فَقَدْ دُفِعْنَا إلَى أَمْرٍ تَضِجُّ مِنْهُ الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ ضَجِيجًا، وَتَعِجُّ مِنْهُ الْفُرُوجُ وَالْأَمْوَالُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وَالدِّمَاءُ إلَى رَبِّهَا عَجِيجًا، تُبَدَّلُ فِيهِ الْأَحْكَامُ، وَيُقْلَبُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَيُجْعَلُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُنْكَرَاتِ، وَاَلَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، الْحَقُّ فِيهِ غَرِيبٌ، وَأَغْرُبُ مِنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَأَغْرُبُ مِنْهُمَا مَنْ يَدْعُو إلَيْهِ، وَيَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ، قَدْ فَلَقَ بِهِمْ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ صُبْحَهُ عَنْ غَيَاهِبِ الظُّلُمَاتِ، وَأَبَانَ طَرِيقَهُ الْمُسْتَقِيمَ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الطُّرُقِ الْجَائِرَاتِ، وَأَرَاهُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مَعَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مِنْ الْبِدَعِ الْمُضِلَّاتِ، رَفَعَ لَهُ عَلَمَ الْهِدَايَةِ فَشَمَّرَ إلَيْهِ، وَوَضَّحَ لَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَقَامَ، وَاسْتَقَامَ عَلَيْهِ، وَطُوبَى لَهُ مِنْ وَحِيدٍ عَلَى كَثْرَةِ السُّكَّانِ، غَرِيبٍ عَلَى كَثْرَةِ الْجِيرَانِ، بَيْنَ أَقْوَامٍ رُؤْيَتُهُمْ قَذَى الْعُيُونِ، وَشَجَى الْحُلُوقِ، وَكَرْبُ النُّفُوسِ، وَحُمَّى الْأَرْوَاحِ وَغَمُّ الصُّدُورِ، وَمَرَضُ الْقُلُوبِ. وَإِنْ أَنْصَفْتَهُمْ لَمْ تَقْبَلْ طَبِيعَتُهُمْ الْإِنْصَافَ، وَإِنْ طَلَبْته مِنْهُمْ فَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُلْتَمِسِ، قَدْ انْتَكَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَعَمِيَ عَلَيْهِمْ مَطْلُوبُهُمْ، رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ، وَابْتُلُوا بِالْحُظُوظِ، وَحَصَلُوا عَلَى الْحِرْمَانِ، وَخَاضُوا بِحَارَ الْعِلْمِ لَكِنْ بِالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ وَشَقَاشِقِ الْهَذَيَانِ، وَلَا وَاَللَّهِ مَا ابْتَلَّتْ مِنْ وَشَلِهِ أَقْدَامُهُمْ، وَلَا زَكَتْ بِهِ عُقُولُهُمْ وَأَحْلَامُهُمْ، وَلَا ابْيَضَّتْ بِهِ لَيَالِيهِمْ وَأَشْرَقَتْ بِنُورِهِ أَيَّامُهُمْ، وَلَا ضَحِكَتْ بِالْهُدَى وَالْحَقِّ مِنْهُ وُجُوهُ الدَّفَاتِرِ إذْ بُلَّتْ بِمِدَادِهِ أَقْلَامُهُمْ، أَنْفَقُوا فِي غَيْرِ شَيْءٍ نَفَائِسَ الْأَنْفَاسِ، وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ وَحَيَّرُوا مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ النَّاسِ، ضَيَّعُوا الْأُصُولَ فَحُرِمُوا الْوُصُولَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ الرِّسَالَةِ، فَوَقَعُوا فِي مَهَامِهِ الْحَيْرَةِ وَبَيْدَاءِ الضَّلَالَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِصْمَةَ مَضْمُونَةٌ فِي أَلْفَاظِ النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا فِي أَتَمِّ بَيَانٍ وَأَحْسَنِ تَفْسِيرٍ، وَمَنْ رَامَ إدْرَاكَ الْهُدَى، وَدِينِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مِشْكَاتِهَا فَهُوَ عَلَيْهِ عَسِيرٌ غَيْرُ يَسِيرٍ. [فَصْلٌ مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَنْ يَتَوَجَّهَ لِلَّهِ لِيُلْهِمَهُ الصَّوَابَ] فَصْلٌ: [مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَنْ يَتَوَجَّهَ لِلَّهِ لِيُلْهِمَهُ الصَّوَابَ] الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْمُوَفَّقِ إذَا نَزَلَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنْ قَلْبِهِ الِافْتِقَارُ الْحَقِيقِيُّ [الْحَالِيُّ] لَا الْعِلْمِيُّ الْمُجَرَّدُ إلَى مُلْهِمِ الصَّوَابِ، وَمُعَلَّمِ الْخَيْرِ، وَهَادِي الْقُلُوبِ، أَنْ يُلْهِمَهُ الصَّوَابَ، وَيَفْتَحَ لَهُ طَرِيقَ السَّدَادِ، وَيَدُلَّهُ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَتَى قَرَعَ هَذَا الْبَابَ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ التَّوْفِيقِ، وَمَا أَجْدَرَ مَنْ أَمَّلَ فَضْلَ رَبِّهِ أَنْ لَا يَحْرِمَهُ إيَّاهُ، فَإِذَا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ هَذِهِ الْهِمَّةَ فَهِيَ طَلَائِعُ بُشْرَى التَّوْفِيقِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَجْهَهُ وَيُحَدِّقَ نَظَرَهُ إلَى مَنْبَعِ الْهُدَى وَمَعْدِنِ الصَّوَابِ وَمَطْلَعِ الرُّشْدِ، وَهُوَ النُّصُوصُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، فَيَسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي تَعَرُّفِ حُكْمِ تِلْكَ النَّازِلَةِ مِنْهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورُ اللَّهِ يَقْذِفُهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةُ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ أَوْ تَكَادُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهُ. وَشَهِدْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ إذَا أَعْيَتْهُ الْمَسَائِلُ وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَرَّ مِنْهَا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ، وَاسْتِنْزَالِ الصَّوَابِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، فَقَلَّمَا يَلْبَثُ الْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ أَنْ يَتَتَابَعَ عَلَيْهِ مَدًّا، وَتَزْدَلِفُ الْفُتُوحَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ وُفِّقَ هَذَا الِافْتِقَارَ عِلْمًا وَحَالًا، وَسَارَ قَلْبُهُ فِي مَيَادِينِهِ بِحَقِيقَةٍ وَقَصْدٍ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظُّهُ مِنْ التَّوْفِيقِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ مُنِعَ الطَّرِيقَ وَالرَّفِيقَ، فَمَتَى أُعِينَ مَعَ هَذَا الِافْتِقَارِ بِبَذْلِ الْجَهْدِ فِي دَرْكِ الْحَقِّ فَقَدْ سَلَكَ بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ لَا يُفْتِي وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهِ] [لَا يُفْتِي وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهِ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا نَزَلَتْ بِالْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي النَّازِلَةُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهَا أَوْ غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ بِحَيْثُ قَدْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهَا وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَلَا يَقْضِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَمَتَى أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فَجَعَلَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ؛ وَلِهَذَا حَصَرَ التَّحْرِيمَ فِيهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَدَخَلَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» وَكَانَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ثُلُثَاهُمْ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا غَالِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ بِغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُفْتِينَ الثَّلَاثَةِ وَالشُّهُودِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ أَوْ شَهِدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُرْتَكِبًا لِأَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ مَنْ أَفْتَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 أَوْ حَكَمَ أَوْ شَهِدَ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ؟ . فَالْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي وَالشَّاهِدُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ؛ فَالْحَاكِمُ مُخْبِرٌ مُنَفِّذٌ، وَالْمُفْتِي مُخْبِرٌ غَيْرُ مُنَفِّذٍ، وَالشَّاهِدُ مُخْبِرٌ عَنْ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ؛ فَمَنْ أَخْبَرَ مِنْهُمْ عَمَّا يَعْلَمُ خِلَافَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ عَمْدًا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ، وَلَا أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى دِينِهِ، وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ جَهْلًا، وَإِنْ أَصَابُوا فِي الْبَاطِنِ، وَأَخْبَرُوا بِمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ. وَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْقَاذِفِ إذَا رَأَى الْفَاحِشَةَ وَحْدَهُ فَأَخْبَرَ بِهَا فَإِنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْإِخْبَارِ بِهَا إلَّا إذَا كَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عِنْدَ اللَّهِ فِي خَبَرٍ مُطَابِقٍ لِمَخْبَرِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ أَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 117] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32] وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] . وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ فَإِنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فِي تَوْحِيدِهِ وَدِينِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ الْمُخْطِئَ الْمَأْجُورَ إذَا بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي إصَابَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمُطِيعَ لِلَّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْوَاجِبُ عَلَى الرَّاوِي وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ] [الْوَاجِبُ عَلَى الرَّاوِي وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ [ة] حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَظْهَرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَلْسِنَةٍ: لِسَانِ الرَّاوِي، وَلِسَانِ الْمُفْتِي، وَلِسَانِ الْحَاكِمِ، وَلِسَانِ الشَّاهِدِ؛ فَالرَّاوِي يَظْهَرُ عَلَى لِسَانِهِ لَفْظُ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمُفْتِي يَظْهَرُ عَلَى لِسَانِهِ مَعْنَاهُ وَمَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْحَاكِمُ يَظْهَرُ عَلَى لِسَانِهِ الْإِخْبَارُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَتَنْفِيذِهِ، وَالشَّاهِدُ يَظْهَرُ عَلَى لِسَانِهِ الْإِخْبَارُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُثْبِتُ حُكْمَ الشَّارِعِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يُخْبِرُوا بِالصِّدْقِ الْمُسْتَنِدِ إلَى الْعِلْمِ، فَيَكُونُونَ عَالِمِينَ لِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ، صَادِقِينَ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ، وَآفَةُ أَحَدِهِمْ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ، فَمَتَى كَتَمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الْحَقَّ أَوْ كَذَبَ فِيهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ فِي شَرْعِهِ وَدِينِهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُنَّتَهُ أَنْ يَمْحَقَ عَلَيْهِ بَرَكَةَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، كَمَا أَجْرَى عَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا كَتَمَا وَكَذَبَا أَنْ يَمْحَقَ بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا، وَمَنْ الْتَزَمَ الصِّدْقَ وَالْبَيَانَ مِنْهُمْ فِي مَرْتَبَتِهِ بُورِكَ لَهُ فِي عِلْمِهِ وَوَقْتِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ عَلِيمًا، فَبِالْكِتْمَانِ يَعْزِلُ الْحَقَّ عَنْ سُلْطَانِهِ، وَبِالْكَذِبِ يَقْلِبُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَزَاءُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَعْزِلَهُ اللَّهُ عَنْ سُلْطَانِ الْمَهَابَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يُلْبِسُهُ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ، وَيُلْبِسُهُ ثَوْبَ الْهَوَانِ وَالْمَقْتِ وَالْخِزْيِ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَازَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْكَاذِبِينَ الْكَاتِمِينَ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ وَرَدِّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا كَمَا طَمَسُوا وَجْهَ الْحَقِّ وَقَلَبُوهُ عَنْ وَجْهِهِ جَزَاءً وِفَاقًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . [مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَلَّا يَنْسِبَ الْحُكْمَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِنَصٍّ] [مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَلَّا يَنْسِبَ الْحُكْمَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِنَصٍّ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: (لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنَّهُ أَحَلَّ كَذَا أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ أَوْجَبَهُ أَوْ كَرِهَهُ إلَّا لِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ كَذَلِكَ مِمَّا نَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى إبَاحَتِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إيجَابِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ) . (وَأَمَّا مَا وَجَدَهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي تَلَقَّاهُ عَمَّنْ قَلَّدَهُ دِينَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِهِ) ، وَيَغُرَّ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ لَهُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، أَوْ حَرَّمَ اللَّهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْت، لَمْ أُحِلَّ كَذَا، وَلَمْ أُحَرِّمْهُ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَإِذَا حَاصَرْت حِصْنًا فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك» . وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: حَضَرْت مَجْلِسًا فِيهِ الْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ، فَجَرَتْ حُكُومَةٌ حَكَمَ فِيهَا أَحَدُهُمْ بِقَوْلِ زُفَرَ، فَقُلْت لَهُ: مَا هَذِهِ الْحُكُومَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، فَقُلْت لَهُ: صَارَ قَوْلُ زُفَرَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَأَلْزَمَ بِهِ الْأُمَّةَ؟ ، قُلْ: هَذَا حُكْمُ زُفَرَ، وَلَا تَقُلْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، أَوْ نَحْوُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ. [حَالُ الْمُفْتِي مَعَ الْمُسْتَفْتِي] [حَالُ الْمُفْتِي مَعَ الْمُسْتَفْتِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمُفْتِي إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُ السَّائِلِ فِيهَا مَعْرِفَةَ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ إلَّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الَّذِي شَهَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 الْمُفْتِي نَفْسَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَتَقْلِيدِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مَعْرِفَةَ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُفْتِي، وَمَا يَعْتَقِدُهُ فِيهَا؛ لِاعْتِقَادِهِ عِلْمَهُ وَدِينَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَهُوَ يَرْضَى تَقْلِيدَهُ [هُوَ] ، وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي قَوْلِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ؛ فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْفُتْيَا الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْمُفْتِينَ. فَفَرْضُ الْمُفْتِي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا عَرَفَهُ وَتَيَقَّنَهُ، لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَإِذَا عَرَفَ قَوْلَ الْإِمَامِ نَفْسِهِ وَسِعَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ الْقَوْلَ وَيُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَرَاهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي حَفِظَهَا أَوْ طَالَعَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ اخْتَلَطَتْ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ وَفَتَاوِيهِمْ بِأَقْوَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَنْصُوصًا عَنْ الْأَئِمَّةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُ يُخَالِفُ نُصُوصَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ لَا نَصَّ لَهُمْ فِيهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ يَخْرُجُ عَلَى فَتَاوِيهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ أَفْتَوْا بِهِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ " هَذَا قَوْلُ فُلَانٍ وَمَذْهَبُهُ " إلَّا أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ، فَمَا أَعْظَمَ خَطَرَ الْمُفْتِي وَأَصْعَبَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى،. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُسْتَفْتِيَ بِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ، بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ، فَلْيُنْزِلْ الْمُفْتِي نَفْسَهُ فِي مَنْزِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الثَّلَاثِ، وَلْيَقُمْ بِوَاجِبِهَا؛ فَإِنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَا بُدَّ سَائِلُهُ عَنْ كُلِّ مَا أَفْتَى بِهِ، وَهُوَ مُوقَرَةٌ عَلَيْهِ، وَمُحَاسَبٌ وَلَا بُدَّ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَتَوَى الْمُفْتِي بِمَا خَالَفَ مَذْهَبَهُ] [يُفْتِي الْمُفْتِي بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَذْهَبِهِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَ [ة] لِيَحْذَرْ الْمُفْتِي الَّذِي يَخَافُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفْتِيَ السَّائِلَ بِمَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَأَصَحَّ دَلِيلًا، فَتَحْمِلُهُ الرِّيَاسَةُ عَلَى أَنْ يَقْتَحِمَ الْفَتْوَى بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ؛ فَيَكُونُ خَائِنًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلسَّائِلِ وَغَاشًّا لَهُ، وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ وَهُوَ غَاشٌّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالدِّينُ النَّصِيحَةُ، وَالْغِشُّ مُضَادٌّ لِلدِّينِ كَمُضَادَّةِ الْكَذِبِ لِلصِّدْقِ وَالْبَاطِلِ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا تَرِدُ الْمَسْأَلَةُ نَعْتَقِدُ فِيهَا خِلَافَ الْمَذْهَبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 فَلَا يَسَعُنَا أَنْ نُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا نَعْتَقِدُهُ فَنَحْكِيَ الْمَذْهَبَ الرَّاجِحَ وَنُرَجِّحَهُ، وَنَقُولُ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي إلْقَاءُ الْمُسْتَفْتِي فِي الْحَيْرَةِ] [لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي إلْقَاءُ الْمُسْتَفْتِي فِي الْحَيْرَةِ] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي التَّرْوِيجُ وَتَخْيِيرُ السَّائِلِ وَإِلْقَاؤُهُ فِي الْإِشْكَالِ وَالْحَيْرَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ بَيَانًا مُزِيلًا لِلْإِشْكَالِ، مُتَضَمِّنًا لِفَصْلِ الْخِطَابِ، كَافِيًا فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ كَالْمُفْتِي الَّذِي سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمَوَارِيثِ فَقَالَ: يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَتَبَهُ فُلَانٌ. وَسُئِلَ آخَرُ عَنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَقَالَ: تُصَلَّى عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَعْلَمَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَسُئِلَ آخَرُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ: أَمَّا أَهْلُ الْإِيثَارِ فَيُخْرِجُونَ الْمَالَ كُلَّهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُخْرِجُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَسُئِلَ آخَرُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: فِيهَا قَوْلَانِ، وَلَمْ يَزِدْ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وَكَانَ عِنْدَنَا مُفْتٍ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يُفْتِي فِيهَا حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ مَنْ يَكْتُبُ، فَيَكْتُبُ هُوَ: جَوَابِي فِيهَا مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ، فَقُدِّرَ أَنَّ مُفْتِيَيْنِ اخْتَلَفَا فِي جَوَابٍ، فَكَتَبَ تَحْتَ جَوَابِهِمَا: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا قَدْ تَنَاقَضَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَتَنَاقَضُ كَمَا تَنَاقَضَا، وَكَانَ فِي زَمَانِنَا رَجُلٌ مُشَارٌ إلَيْهِ بِالْفَتْوَى، وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَكَانَ نَائِبَ السُّلْطَانِ يُرْسِلُ إلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى فَيَكْتُبُ: يَجُوزُ كَذَا، أَوْ يَصِحُّ كَذَا، أَوْ يَنْعَقِدُ بِشَرْطِهِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: تَأْتِينَا فَتَاوَى مِنْك فِيهَا يَجُوزُ أَوْ يَنْعَقِدُ أَوْ يَصِحُّ بِشَرْطِهِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَرْطَهُ، فَإِمَّا أَنْ تُبَيِّنَ شَرْطَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكْتُبَ ذَلِكَ. وَسَمِعْت شَيْخَنَا يَقُولُ: كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّ أَيَّ مَسْأَلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ يَكْتُبُ فِيهَا يَجُوزُ بِشَرْطِهِ أَوْ يَصِحُّ بِشَرْطِهِ أَوْ يُقْبَلُ بِشَرْطِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا سِوَى حَيْرَةِ السَّائِلِ وَتَبَلُّدِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي فَتَاوِيهِ: يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ الْحَاكِمُ شُرَيْحًا وَأَشْبَاهَهُ لَمَا كَانَ مَرَدُّ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى رَأْيِهِ فَضْلًا عَنْ حُكَّامِ زَمَانِنَا فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: فِيهَا خِلَافٌ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَعْمَلُ الْمُفْتِي؟ فَقَالَ: يَخْتَارُ لَهُ الْقَاضِي أَحَدَ الْمَذْهَبَيْنِ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: كُنْت عِنْدَ أَبِي السَّعَادَاتِ بْنِ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيِّ، فَحَكَى لِي عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: فِيهَا قَوْلَانِ، فَأَخَذَ يُزْرِي عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا حَيْدٌ عَنْ الْفَتْوَى، وَلَمْ يَخْلُصْ السَّائِلُ مِنْ عِمَايَتِهِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَطْلُوبِ قُلْت: وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ الْمُتَمَكِّنَ مِنْ الْعِلْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الْمُضْطَلِعَ بِهِ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الْجَزْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَ الْخِلَافَ فِيهَا لِلسَّائِلِ. وَكَثِيرًا مَا يُسْأَلُ الْإِمَامُ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَقُولُ: فِيهَا قَوْلَانِ، أَوْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِسَعَةِ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ يَقُولُ: فِيهَا قَوْلَانِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يُضَافُ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ يَحْكِيهِمَا إلَى مَذْهَبِهِ وَيُنْسَبَانِ إلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى طَرِيقَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدٌ وَأُبَيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْمُفْتِي الْقَوْلُ الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ انْتَهَى إلَى مَا يَقْدِرْ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: سَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لَا هُوَ مُمْسِكُهَا وَلَا هُوَ مُطَلِّقُهَا، فَقَالَ لَهَا: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: تُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، وَيُبْعَثُ عَلَى التَّطَلُّبِ وَالِاكْتِسَابِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَلَمْ تَفْهَمْ الْمَرْأَةُ قَوْلَهُ، فَأَعَادَتْ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ أَجَبْتُك عَنْ مَسْأَلَتِك، وَأَرْشَدْتُك إلَى طُلْبَتِك، وَلَسْتُ بِسُلْطَانٍ فَأُمْضِي، وَلَا قَاضٍ فَأَقْضِي، وَلَا زَوْجٍ فَأُرْضِي، فَانْصَرِفِي. [الْإِفْتَاء فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ] [الْإِفْتَاءُ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِيهَا شَرْطٌ وَاقِفٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ وَلَا يُسَوِّغُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَنْفِيذُهُ، وَلَا يَسُوغُ تَنْفِيذُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلْيَنْظُرْ: هَلْ فِيهِ قُرْبَةٌ أَوْ رُجْحَانٌ عِنْدَ الشَّارِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُرْبَةٌ، وَلَا رُجْحَانٌ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ، وَلَمْ يُحَرَّمْ، فَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى خِلَافِهِ فَلْيَنْظُرْ: هَلْ يَفُوتُ بِالْتِزَامِهِ وَالتَّقْيِيدِ بِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْضَى لَهُ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَعْظَمُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ مِنْ الْأَجْرِ؟ فَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْتِزَامِهِ لَمْ يَجِبْ الْتِزَامُهُ وَلَا التَّقْيِيدُ بِهِ قَطْعًا، وَجَازَ الْعُدُولُ بَلْ يُسْتَحَبُّ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفَعُ لِلْمُكَلَّفِ وَأَكْثَرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَفِي جَوَازِ الْتِزَامِ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنْ كَانَ فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ وَلَمْ يَفُتْ بِالْتِزَامِهِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَتَسَاوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي تِلْكَ الْقُرْبَةِ، وَيَحْصُلُ غَرَضُ الْوَاقِفِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ وَغَيْرُهُ طَرِيقِينَ مُوَصِّلَيْنِ إلَى مَقْصُودِهِ وَمَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْتِزَامُ الشَّرْطِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 بَلْ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ مُوجِبُ الشَّرْطِ وَكَانَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ أَظْهَرَ وَجَبَ الْتِزَامُهُ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْكُلِّيُّ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ، وَمَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ مِنْهَا، وَمَا يَسُوغُ، وَمَا لَا يَجِبُ، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ تَنَاقَضَ أَظْهَرَ تَنَاقُضٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ قَدَمٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. فَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِلَى جَانِبِهِ الْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْتِزَامُهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ إمَّا شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَإِمَّا وَاجِبَةٌ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا الْعُقُوبَةُ، وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ يُقَاتَلُ تَارِكُهَا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ شَرْطٍ يُخِلُّ بِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْعُزُوبِيَّةَ، وَتَرْكَ التَّأَهُّلِ لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ وَلَا الْتِزَامُهُ، بَلْ مَنْ الْتَزَمَهُ رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي شَيْءٍ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ يَعْصِي تَارِكُهُ، وَإِمَّا سُنَّةٌ الِاشْتِغَالُ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ أَوْرَادِ التَّطَوُّعَاتِ، وَإِمَّا سُنَّةٌ يُثَابُ فَاعِلُهَا كَمَا يُثَابُ فَاعِلُ السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَرْكِهِ؛ إذْ يَصِيرُ مَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ إلَّا مَنْ عَطَّلَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ فَعَلَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ شَيْئًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْتِزَامِ هَذَا الشَّرْطِ وَالْإِلْزَامِ بِهِ مِنْ مُضَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكَ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَصِيَامِ الْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَالتَّطَوُّعِ بِاللَّيْلِ، بَلْ أَقْبَحُ مِنْ اشْتِرَاطِهِ تَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا اشْتِرَاطُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ فِي التُّرْبَةِ الْمَدْفُونِ بِهَا وَيَدَعَ الْمَسْجِدَ، وَهَذَا أَيْضًا مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مُضَادَّةٍ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنْ الْمُتَّخِذِينَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَالصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بَاطِلَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِفِعْلِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْتِزَامُ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهَا، وَتَعْطِيلُ شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ فَهَذَا تَغْيِيرُ الدِّينِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ لَهُ مِنْ يُبَيِّنُ أَعْلَامَهُ وَيَدْعُو إلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ إيقَادِ سِرَاجٍ أَوْ قِنْدِيلٍ عَلَى الْقَبْرِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْوَاقِفِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، وَلَا لِلْحَاكِمِ تَنْفِيذُهُ، وَلَا لِلْمُفْتِي تَسْوِيغُهُ، وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَالْتِزَامُهُ، فَقَدْ لَعَنْ رَسُولُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُلْزِمَ أَوْ يُسَوِّغَ فِعْلَ مَا لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلَهُ؟ وَحَضَرْتُ بَعْضَ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ وُقِفَ عَلَى تُرْبَةٍ؛ لِيُثْبِتَهُ، وَفِيهِ: " وَأَنَّهُ يُوقَدُ عَلَى الْقَبْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قِنْدِيلٌ " فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ يَحِلُّ لَك أَنْ تُثْبِتَ هَذَا الْكِتَابَ وَتَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ مَعَ عِلْمِك بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَّخِذِينَ السُّرُجَ عَلَى الْقُبُورِ؟ فَأَمْسَكَ عَنْ إثْبَاتِهِ وَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قُلْت، أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ قَبْرِهِ دُونَ الْبُيُوتِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَوْ بَعِيدًا مِنْهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِلُ وَوُصُولُهَا فَرْعُ حُصُولِ الصَّوَابِ لِلْقَارِئِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ، فَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَمَجِيئُهُ إلَى الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْجُعْلِ [وَ] لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ، فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ فَرْعُهُ؟ فَمَا زَادَ بِمَجِيئِهِ إلَى التُّرْبَةِ إلَّا الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ لِلَّهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مَكَان يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَ لِإِخْلَاصِهِ ثُمَّ جَعَلَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ وَصَلَ إلَيْهِ. وَذَاكَرْت مَرَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضَ الْفُضَلَاءِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ، وَقَالَ: لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ انْتِفَاعَهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَوُصُولِ بَرَكَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: انْتِفَاعُهُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَشْرُوطٌ بِحَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ كُلُّهُ. وَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا لَكَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْحَظِّ الْعَظِيمِ؛ لِمُسَارَعَتِهِمْ إلَى الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إلَيْهِ فَاَلَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ حُضُورُ التُّرْبَةِ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا لَوْ وَقَفَ وَقْفًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ؛ فَإِنْ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْنِيَةِ الْفَقِيرِ وَإِتْعَابِهِ وَإِزْعَاجِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي حَالِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالضَّعْفِ حَتَّى يَأْخُذَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يُحْبِطَ أَجْرَهَا، وَيَمْنَعَ انْعِقَادَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَمِنْ هَذَا لَوْ شَرَطَ وَاقِفُ الْخَانْقَاهْ وَغَيْرِهَا عَلَى أَهْلِهَا أَنْ لَا يَشْتَغِلُوا بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْفِقْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ مُضَادٌّ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ وَلَا الْتِزَامُهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مَنْ قَامَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْوَقْفَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الْمُعَيَّنَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَجَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَجَهِلَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْكَامَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ شِرَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَمْقَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ وَحِزْبُهُ {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ وَقَفَ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَضْمُونُ هَذَا الشَّرْطِ الْمُضَادِّ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يُعَطِّلَ أَكْثَرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَنْ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْتَفَّهُمْ، وَكَثِيرًا مِنْ السُّنَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا عَنْ أَنْ تُذْكَرَ أَوْ تُرْوَى أَوْ تُسْمَعَ أَوْ يُهْتَدَى بِهَا، وَيُقَامُ سُوقُ التَّجَهُّمِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ كَفِيلٌ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَقِفَ مَكَانًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ رِبَاطًا عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَالْعَجَمِ مَثَلًا أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ أَقَارِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُرِّيَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَلَا يَنْزِلُوا فِي هَذَا الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْخَانْقَاهْ، بَلْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ النُّزُولُ بِهَذَا الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا وَالِاعْتِدَادُ بِهَا مِنْ أَسْمَجِ الْهَذَيَانِ، وَلَا تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَلَا يُنَفِّذُهَا مَنْ شَمَّ رَوَائِحَ الْعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُونَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُبْتَدَعِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ كَأَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ وَالْإِذْنِ وَالشَّيِّرِ وَالْعَنْبَرِ وَأَكْلِ الْحَيَّاتِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، وَأَشْبَاهِ الذِّئَابِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرَّقْصِ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَحَقَّ بِالْمَكَانِ مِنْهُمْ، وَشُرُوطُ اللَّهِ أَحَقُّ. فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، دُونَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، فَكَيْفَ بِمَا شَرَعَ خِلَافَهُ، وَالْوَقْفُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَصْرِفِهِ وَجِهَتِهِ وَشَرْطِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ صِفَةٌ وَحَالٌ فِي الْجِهَةِ وَالْمَصْرِفِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْرِفُ قُرْبَةً وَطَاعَةً فَالشَّرْطُ كَذَلِكَ، وَلَا يَقْتَضِي الْفِقْهُ إلَّا هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ هَذَا نَفْسُ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ فِي فَهْمِ أَقْوَالِهِمْ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا. مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، هَلْ يَصِحُّ وَيَتَقَيَّدُ الِاسْتِحْقَاقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ؟ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَتَقْيِيدِ الِاسْتِحْقَاقِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَقَالَ: هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ شَيْخُنَا عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَقَالَ: مَقْصُودُ الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ عِبَادَةَ الصَّلِيبِ، وَقَوْلَهُمْ إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ، حَتَّى إنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّبَعَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَقْفِ، فَيَكُونُ حِلُّ تَنَاوُلِهِ مَشْرُوطًا بِتَكْذِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكُفْرِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِ وَصْفِ الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا؛ فَغَلُظَ طَبْعُ هَذَا الْفَتَى، وَكَثُفَ فَهْمُهُ، وَغَلُظَ حِجَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمَيِّزْ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَقِفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَهَذَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ ذَا قَرَابَةٍ فَلَا يَكُونُ الْغِنَى مَانِعًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْغِنَى، فَيَسْتَحِقُّ مَا دَامَ غَنِيًّا، فَإِذَا افْتَقَرَ وَاضْطَرَّ إلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْوَقْفِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ وَصَحِبَهُ الْخِذْلَانُ، وَلَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ إنْكَارُهُ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلَمَا أَقَرَّهُ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى رَجُلًا مِنْ أُمَّتِهِ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِنْ الرِّجَالِ عَزَبًا غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ، فَإِذَا تَأَهَّلَ حَرَّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلَ الْوَقْفِ لَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَنَكِيرُهُ عَلَيْهِ، بَلْ دِينُهُ يُخَالِفُ هَذَا، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَهُ مَالٌ أَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا، وَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَلَاثَةً عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَمُلْتَزِمُ هَذَا الشَّرْطِ حَقٌّ عَلَيْهِ عَدَمُ إعَانَةِ النَّاكِحِ. وَمِنْ هَذَا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ إلَّا مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ النُّصُوصِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَالتَّفَقُّهِ فِي مُتُونِهَا، وَالتَّمَسُّكِ بِهَا، إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ فَقِيهٍ مُعَيَّنٍ يَتْرُكُ لِقَوْلِهِ قَوْلَ مَنْ سِوَاهُ، بَلْ يَتْرُكُ النُّصُوصَ لِقَوْلِهِ، فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ أَبْطَلْ الشُّرُوطِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْتِزَامُهُ. وَفِي بُطْلَانِ التَّوْلِيَةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى بُطْلَانِ الْعُقُودِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ الْمُفْتِيَ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وَطَرْدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِفَ مَتَى شَرَطَ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ لَا يَنْظُرَ وَلَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ يَهْجُرُ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ؛ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّرْطُ قَطْعًا، وَلَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ، بَلْ وَلَا يَسُوغُ. وَعَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَضَابِطُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يُطَاعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَنْ يُقَدَّمَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُؤَخَّرَ مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، [وَيُعْتَبَرَ مَا اعْتَبَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُلْغَى مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ، وَشُرُوطُ الْوَاقِفِينَ لَا تَزِيدُ عَلَى نَذْرِ النَّاذِرِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُوَفِّي مِنْ النُّذُورِ إلَّا بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَاقِفُ إنَّمَا نَقَلَ مَالَهُ لِمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهُوَ الَّذِي رَضِيَ بِنَقْلِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِنَقْلِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَالْوَقْفُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ، فَإِذَا بَذَلَ الْجَاعِلُ مَالَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قِيلَ: هَذَا مَنْشَأُ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِ ضَعَفَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، فَالْتَزَمُوا، وَأَلْزَمُوا مِنْ الشُّرُوطِ بِمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ، وَأَرْضَى لَهُ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ. وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ أَنَّ الْجَاعِلَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي غَرَضِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ، إمَّا مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا؛ لِيَنَالَ غَرَضَهُ الَّذِي بَذَلَ فِيهِ مَالَهُ، وَأَمَّا الْوَاقِفُ فَإِنَّمَا يَبْذُلُ مَالَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَثَوَابِهِ، فَهُوَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ بَذْلِ مَالِهِ فِي أَغْرَاضِهِ أَحَبَّ أَنْ يَبْذُلَهُ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُ الْوَاقِفِينَ، بَلْ وَلَا يَشُكُّ وَاقِفٌ أَنَّ هَذَا غَرَضُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَلَّكَهُ الْمَالَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، بَلْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَلَّكَهُ ثُلُثَهُ يُوصِي بِهِ بِمَا يَجُوزُ وَيَسُوغُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، حَتَّى إنْ حَافَ أَوْ جَارَ أَوْ أَثِمَ فِي وَصِيَّتِهِ جَازَ بَلْ وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَرَثَةِ رَدُّ ذَلِكَ الْجَوْرِ وَالْحَيْفِ وَالْإِثْمِ، وَرَفَعَ سُبْحَانَهُ الْإِثْمَ عَمَّنْ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَيْفَ وَالْإِثْمَ، مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْأَوْصِيَاءِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ، وَيُدْنِيهِ مِنْ رِضَاهُ، لَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَ، وَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي تَحْبِيسِ مَالِهِ بَعْدَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَرَادَهُ أَبَدًا. فَأَيْنَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقِفَ مَا أَرَادَ عَلَى مَنْ أَرَادَ، وَيَشْرُطَ مَا أَرَادَ، وَيَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ أَنْ يُنَفِّذُوا وَقْفَهُ، وَيُلْزِمُوا بِشُرُوطِهِ، وَأَمَّا مَا قَدْ لَهِجَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ " شُرُوطُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ " فَهَذَا يُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ وَمَعْنًى بَاطِلٌ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهَا بِمُقَيَّدِهَا وَتَقْدِيمِ خَاصِّهَا عَلَى عَامِّهَا، وَالْأَخْذُ فِيهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَهَذَا حَقٌّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ مُرَاعَاتِهَا وَالْتِزَامِهَا وَتَنْفِيذِهَا فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، بَلْ يَبْطُلُ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ وَلِرَسُولِهِ مِنْهُ، وَيَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا نَذَرَ أَبُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَصُومَ وَيَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَجْلِسُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْلِسَ فِي الظِّلِّ وَيَتَكَلَّمَ وَيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَأَلْزَمَهُ بِالْوَفَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ. وَهَكَذَا أُخْتُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَمَرَهَا أَنْ تَخْتَمِرَ وَتَرْكَبَ وَتَحُجَّ وَتُهْدِيَ بَدَنَةً، فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى أَتْبَاعِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَنْ يَعْتَمِدُوا فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [لَا يُطْلِقُ الْمُفْتِي الْجَوَابَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ] [لَا يُطْلِقُ الْمُفْتِي الْجَوَابَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُطْلِقَ الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا تَفْصِيلٌ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ السَّائِلَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ أَحَدِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ، بَلْ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى التَّفْصِيلِ اسْتَفْصَلَهُ، كَمَا اسْتَفْصَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا: هَلْ وَجَدَ مِنْهُ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ حَقِيقَتَهُ؟ فَلَمَّا أَجَابَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ اسْتَفْصَلَهُ: هَلْ بِهِ جُنُونٌ، فَيَكُونُ إقْرَارُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَمْ هُوَ عَاقِلٌ؟ فَلَمَّا عَلِمَ عَقْلَهُ اسْتَفْصَلَهُ: بِأَنْ أَمَرَ بِاسْتِنْكَاهِهِ؛ لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ سَكْرَانُ أَمْ صَاحٍ؟ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ صَاحٍ اسْتَفْصَلَهُ: هَلْ أُحْصِنَ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أُحْصِنَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَمِنْ هَذَا «قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَتْهُ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ الِاسْتِفْصَالِ بِأَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ فِي حَالٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِي حَالٍ. وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ أَبَا النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْهَدَ عَلَى غُلَامٍ نَحَلَهُ ابْنَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 فَاسْتَفْصَلَهُ، وَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْتَهُ كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَأَبَى أَنْ يَشْهَدَ» . وَتَحْتَ هَذَا الِاسْتِفْصَالِ: أَنَّ وَلَدَك إنْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي النِّحَلِ صَحَّ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ اسْتَفْتَاهُ: هَلْ يَجِدُ لَهُ رُخْصَةً أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالَ هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَجِبْ» فَاسْتَفْصَلَهُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ النِّدَاءَ أَوْ لَا يَسْمَعَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ «لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِذَا سُئِلَ الْمُفْتِي عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى قَصَّارٍ يُقَصِّرُهُ، فَأَنْكَرَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْقِصَارَةِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ بِالْإِطْلَاقِ خَطَأٌ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ الْجُحُودِ فَلَهُ أُجْرَةُ الْقِصَارَةِ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ قَصَّرَهُ بَعْدَ جُحُودِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَفَعَلَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِحِنْثِهِ حَتَّى يَسْتَفْصِلَهُ: هَلْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ وَقْتَ فِعْلِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ فَهَلْ كَانَ مُخْتَارًا فِي يَمِينِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ مُخْتَارًا فَهَلْ اسْتَثْنَى عَقِيبَ يَمِينِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَسْتَثْنِ فَهَلْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا ذَاكِرًا مُخْتَارًا أَمْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا مُخْتَارًا فَهَلْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ دَاخِلًا فِي قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ أَوْ قَصَدَ عَدَمَ دُخُولِهِ فَخَصَّصَهُ بِنِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ دُخُولَهُ وَلَا نَوَى تَخْصِيصَهُ؟ فَإِنَّ الْحِنْثَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَرَأَيْنَا مِنْ مُفْتِي الْعَصْرِ مَنْ بَادَرَ إلَى التَّحْنِيثِ، فَاسْتَفْصَلْنَاهُ، فَوَجَدَهُ غَيْرَ حَانِثٍ فِي مَذْهَبِ مِنْ أَفْتَاهُ، وَقَعَ ذَلِكَ مِرَارًا؛ فَخَطَرُ الْمُفْتِي عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ مُوَقِّعٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، زَاعِمٌ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا وَحَرَّمَ كَذَا أَوْ أَوْجَبَ كَذَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَثَلًا: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟ فَجَوَابُهُ بِتَفْصِيلِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْأُولَى لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ جَازَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ " إنْ لَمْ تُحْرِقْ هَذَا الْمَتَاعَ أَوْ تَهْدِمْ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ تُتْلِفْ هَذَا الْمَالَ، وَإِلَّا قَتَلْتُك " فَفَعَلَ: هَلْ يَضْمَنُ أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِهِ لِلْمُكْرَهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ الْمُظَاهِرُ إذَا وَطِئَ فِي أَثْنَاءِ الْكَفَّارَةِ: هَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَوْ يَبْنِي؟ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ فَوَطِئَ فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ، وَلَهُ الْبِنَاءُ؛ فَإِنَّ حُكْمَ تَتَابُعِ الصَّوْمِ، وَكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ قَدْ انْقَطَعَ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ الْمُكَفِّرِ بِالْعِتْقِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَقْطُوعَةً أُصْبُعُهُ، فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ إبْهَامًا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِلَّا أَجْزَأَهُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: مَقْطُوعُ الْأُصْبُعَيْنِ - وَهُمَا الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ أَيْضًا: إنْ كَانَا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ أُصْبُعٍ مِنْ يَدٍ أَجْزَأَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ فَاسِقٍ الْتَقَطَ لُقَطَةً أَوْ لَقِيطًا، هَلْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ؟ فَجَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، تُقَرُّ اللُّقَطَةُ دُونَ اللَّقِيطِ؛ لِأَنَّهَا كَسْبٌ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُلْتَقِطُ، وَثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى اللَّقِيطِ وِلَايَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. وَلَوْ قَالَ لَهُ " اشْتَرَيْت سَمَكَةً فَوَجَدْت فِي جَوْفِهَا مَالًا مَا أَصْنَعُ بِهِ "؟ فَجَوَابُهُ إنْ كَانَ لُؤْلُؤَةً أَوْ جَوْهَرَةً فَهُوَ لِلصَّيَّادِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالِاصْطِيَادِ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ لَك بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَاتَمًا أَوْ دِينَارًا فَهُوَ لُقَطَةٌ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا كَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ ": اشْتَرَيْت حَيَوَانًا فَوَجَدْت فِي جَوْفِهِ جَوْهَرَةً " فَجَوَابُهُ إنْ كَانَتْ شَاةً فَهِيَ لُقَطَةٌ لِلْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا ثُمَّ هِيَ لَهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ سَمَكَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلصَّيَّادِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ عَبْدٍ الْتَقَطَ لُقَطَةً فَأَنْفَقَهَا: هَلْ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا فَهِيَ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ أَنْفَقَهَا بَعْد حَوْلِ التَّعْرِيفِ فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، نَصَّ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْحَوْلِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَإِنْفَاقُهُ لَهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ الْحَوْلِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهَا، فَإِذَا أَنْفَقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَكَأَنَّهُ أَنْفَقَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَتَتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ كَدُيُونِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ رَدَّ عَلَيْهِ لُقَطَتَهُ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ رَدَّهَا؟ فَجَوَابُهُ إنْ الْتَقَطَهَا قَبْلَ بُلُوغِ قَوْلِ الْجَاعِلِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَقِطْهَا لِأَجْلِ الْجُعْلِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا بِظُهُورِ مَالِكِهَا، وَإِنْ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْلُ اسْتَحَقَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولُ: هَلْ يَجُوزُ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَتَمَلَّكَا مَالَ وَلَدِهِمَا أَوْ يَرْجِعَانِ فِيمَا وَهَبَاهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأَبِ، دُونَ الْأُمِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ لَهُ اثْنَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ غَيْرُ الْأَبِ وَالِابْنِ بِالْجُرْحِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ شَهِدَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ لَمْ يُقْبَلَا لِلتُّهْمَةِ، وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَهُ قُبِلَتْ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَأَقَرَّتْ لَهُ، هَلْ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ ادَّعَى زَوْجِيَّتَهَا وَحْدَهُ قُبِلَ إقْرَارُهَا، وَإِنْ ادَّعَاهَا مَعَهُ آخَرُ لَمْ يُقْبَلْ. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ فَادَّعَى وَرَثَتُهُ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَقَامُوا شَاهِدًا، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَمِينًا مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ اسْتَحَقَّ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُدَّعَى، وَهَلْ يُشَارِكُهُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ الَّتِي انْتَزَعَهَا بِيَمِينِهِ أَوْ لَا يُشَارِكُهُ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا لَمْ يُشَارِكْهُ وَيَنْفَرِدُ الْحَالِفُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا شَارَكَهُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَمَنْ حَلَفَ فَإِنَّمَا ثَبَتَ بِيَمِينِهِ مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ لَا غَيْرُهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ يُقِرُّ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، وَحُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِهِ، فَالْمُخَلَّصُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، وَالْبَاقِي غَصْبٌ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَعْدَى عَلَى خَصْمِهِ وَلَمْ يُحَرِّرْ الدَّعْوَى، هَلْ يُحْضِرُهُ الْحَاكِمُ؟ الْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ اسْتَعْدَى عَلَى حَاضِرٍ فِي الْبَلَدِ أَحْضَرَهُ؛ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يُحْضِرْهُ حَتَّى يُحَرِّرَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ عُضْوًا مِنْ صَيْدٍ وَأَفْلَتَ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ الْعُضْوِ؟ الْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ صَيْدًا بَحْرِيًّا حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ بَرِّيًّا لَمْ يَحِلَّ. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ تَاجِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ؟ فَالْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ رَجُلًا أُخِذَ مِنْهُ [الْعُشْرُ] ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، إنْ اتَّجَرَتْ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ أُخِذَ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَإِنْ اتَّجَرَتْ إلَى غَيْرِهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا تُقَرُّ فِي غَيْرِ أَرْضِ الْحِجَازِ بِلَا جِزْيَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَيِّتٍ مَاتَ فَطَلَبُ الْأَبُ مِيرَاثَهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ الْوَرَثَةِ غَيْرُهُ، كَمْ يُعْطَى الْأَبُ؟ فَالْجَوَابُ بِالتَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا أُعْطِيَ الْأَبُ أَرْبَعَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مَعَهُ زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَابْنَتَانِ، فَلَهُ أَرْبَعَةٌ بِلَا شَكٍّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَلَهُ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ زَوْجٌ [وَأُمٌّ] وَابْنَتَانِ، فَلَهُ سَهْمَانِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَطْعًا. فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: مَاتَ مَيِّتٌ وَتَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، مَعَ الْعُلْيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 جَدُّهَا، قَالَ الْمُفْتِي: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَالْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ جَدَّ الْعُلْيَا نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَجَدُّ الْعُلْيَا إمَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجَ الْمَيِّتِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا فَلَهُ الرُّبْعُ، وَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ، وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. فَلَوْ قَالَ السَّائِلُ: مَيِّتٌ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ، وَلَمْ تُقَسَّمْ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إحْدَاهُمَا وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ، قَالَ الْمُفْتِي: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا فَمَسْأَلَتُهُ مِنْ سِتَّةٍ، لِلْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمَانِ، فَلَمَّا مَاتَتْ إحْدَاهُمَا خَلَّفَتْ جَدَّةً وَجَدًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَرِكَتُهَا سَهْمَانِ تُوَافِقُ مَسْأَلَتُهَا بِالنِّصْفِ فَتُرَدُّ إلَى تِسْعَةٍ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى فَفَرِيضَتُهَا أَيْضًا مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ عَنْ سَهْمَيْنِ، وَخَلَّفَتْ جَدَّةً وَجَدًّا مِنْ أُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْجَدِّ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَسِهَامُهَا اثْنَانِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى وُجُوبِ التَّفْصِيلِ إذَا كَانَ يَجِدُ السُّؤَالَ مُحْتَمِلًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ غَلَطُ الْمُفْتِي فِي هَذَا الْقِسْمِ، فَالْمُفْتِي تَرِدُ إلَيْهِ الْمَسَائِلُ فِي قَوَالِبَ مُتَنَوِّعَةٍ جِدًّا، فَإِنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِحَقِيقَةِ السُّؤَالِ وَإِلَّا هَلَكَ وَأَهْلَكَ، فَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَتَانِ صُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ فَصُورَةُ الصَّحِيحِ وَالْجَائِزِ صُورَةُ الْبَاطِلِ وَالْمُحَرَّمِ وَيَخْتَلِفَانِ بِالْحَقِيقَةِ، فَيَذْهَلُ بِالصُّورَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَتَانِ صُورَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ وَحَقِيقَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، فَيَذْهَلُ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ عَنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَلَةً تَحْتَهَا عِدَّةُ أَنْوَاعٍ، فَيَذْهَبُ وَهْمُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيَذْهَلُ عَنْ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْهَا، فَيُجِيبُ بِغَيْرِ الصَّوَابِ، وَتَارَةً تُورَدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ الْبَاطِلَةُ فِي دِينِ اللَّهِ فِي قَالَبٍ مُزَخْرَفٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ، فَيَتَبَادَرُ إلَى تَسْوِيغِهَا وَهِيَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَتَارَةً بِالْعَكْسِ؛ فَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَمْ هَهُنَا مِنْ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَجَالِ أَوْهَامٍ، وَمَا دُعِيَ مُحِقٌّ إلَى حَقٍّ إلَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَخِيهِ، وَوَلِيِّهِ مِنْ الْإِنْسِ فِي قَالَبٍ تَنْفِرُ عَنْهُ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ وَضُعَفَاءُ الْعُقُولِ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَا حَذَّرَ أَحَدٌ مِنْ بَاطِلٍ إلَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ وَلِيِّهِ مِنْ الْإِنْسِ فِي قَالَبٍ مُزَخْرَفٍ يَسْتَخِفُّ بِهِ عُقُولَ ذَلِكَ الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ نَظَرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَى الصُّوَرِ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا إلَى الْحَقَائِقِ، فَهُمْ مَحْبُوسُونَ فِي سِجْنِ الْأَلْفَاظِ، مُقَيَّدُونَ بِقُيُودِ الْعِبَارَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَأَذْكُرُ لَك مِنْ هَذَا مِثَالًا وَقَعَ فِي زَمَانِنَا، وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَمَرَ أَنْ يُلْزَمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِتَغْيِيرِ عَمَائِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ خِلَافَ أَلْوَانِ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَتْ لِذَلِكَ قِيَامَتُهُمْ، وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِ الْكَفَرَةِ مَا قَرَّتْ بِهِ عُيُونُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ وَإِخْوَانِهِ أَنْ صَوِّرُوا فُتْيَا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى إزَالَةِ هَذَا الْغُبَارِ، وَهِيَ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسٍ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ وَزِيٍّ غَيْرِ زِيِّهِمْ الْمَأْلُوفِ فَحَصَلَ لَهُمْ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْفَلَوَاتِ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ السُّفَهَاءُ وَالرُّعَاةُ وَآذَوْهُمْ غَايَةَ الْأَذَى، فَطُمِعَ بِذَلِكَ فِي إهَانَتِهِمْ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ، فَهَلْ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ رَدُّهُمْ إلَى زِيِّهِمْ الْأَوَّلِ، وَإِعَادَتُهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ حُصُولِ التَّمَيُّزِ بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَهُمْ مَنْ مُنِعَ التَّوْفِيقَ وَصُدَّ عَنْ الطَّرِيقِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ إعَادَتَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قَالَ شَيْخُنَا: فَجَاءَتْنِي الْفَتْوَى، فَقُلْت: لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ، وَيَجِبُ إبْقَاؤُهُمْ عَلَى الزِّيِّ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبُوا ثُمَّ غَيَّرُوا الْفَتْوَى، ثُمَّ جَاءُوا بِهَا فِي قَالَبٍ آخَرَ، فَقُلْت: لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ، فَذَهَبُوا ثُمَّ أَتَوْا بِهَا فِي قَالَبٍ آخَرَ، فَقُلْت: هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَإِنْ خَرَجَتْ فِي عِدَّةِ قَوَالِبَ، ثُمَّ ذَهَبَ إلَى السُّلْطَانِ وَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِكَلَامٍ عَجِبَ مِنْهُ الْحَاضِرُونَ، فَأَطْبَقَ الْقَوْمُ عَلَى إبْقَائِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى؛ فَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ أَنْ صَوِّرُوا فَتْوَى فِيمَا يَحْدُثَ لَيْلَةَ النِّصْفِ فِي الْجَامِعِ، وَأَخْرَجُوهَا فِي قَالَبٍ حَسَنٍ؛ حَتَّى اسْتَخْفَوْا عَقْلَ بَعْضِ الْمُفْتِينَ، فَأَفْتَاهُمْ بِجَوَازِهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ، كَمْ تُوُصِّلَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ إلَى إبْطَالِ حَقٍّ وَإِثْبَاتِ بَاطِلٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ ظَوَاهِرَ فِي الْكَلَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَهْلُ النَّقْدِ مِنْهُمْ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى حَقِيقَتِهِ وَبَاطِنِهِ، لَا يَبْلُغُونَ عُشْرَ مِعْشَارِ غَيْرِهِمْ وَلَا قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [عَلَى الْمُفْتِي أَلَّا يُفَصِّلَ إلَّا حَيْثُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ] [عَلَى الْمُفْتِي أَلَّا يُفَصِّلَ إلَّا حَيْثُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفَرَائِضِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَوَانِعَ الْإِرْثِ فَيَقُولُ: بِشَرْطِ أَلَا يَكُونَ كَافِرًا وَلَا رَقِيقًا وَلَا قَاتِلًا، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ فَرِيضَةٍ فِيهَا أَخٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ لِأَبٍ فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ لِأُمٍّ فَلَهُ كَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ وَبَنِي الْإِخْوَةِ وَعَنْ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 السُّؤَالَ الْمُطْلَقَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَى الْوَارِثِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ، كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ أَوْ آجَرَ أَوْ تَزَوَّجَ أَوْ أَقَرَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَوَانِعَ الصِّحَّةِ مِنْ الْجُنُونِ وَالْإِكْرَاهِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا حَيْثُ يَكُونُ الِاحْتِمَالُ مُتَسَاوِيًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَجْوِبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ يَسْتَفْصِلُ حَيْثُ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِفْصَالِ وَيَتْرُكُهُ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَيُحِيلُ فِيهِ مَرَّةً عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ مِنْ شُرُوطِ الْحُكْمِ وَتَوَابِعِهِ، بَلْ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلِهِ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يَسْتَوْعِبَ شَرَائِطَ الْحُكْمِ وَمَوَانِعَهُ كُلَّهَا عِنْدَ ذِكْرِ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَنْفَعُ السَّائِلَ وَالْمُتَكَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ قَوْلُهُ " بِشَرْطِهِ، وَعَدَمِ مَوَانِعِهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا بَيَانَ أَتَمَّ مِنْ بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا هَدْيَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [هَلْ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ] [هَلْ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ؟] الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ دِينَهُ، هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ السَّلَفِ كُلِّهِمْ، وَصَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرُهُمَا. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: قَطَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ إمَامُ الشَّافِعِيِّينَ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَالْقَاضِي أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ صَاحِبُ بَحْرِ الْمَذْهَبِ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ. وَقَالَ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ حَفِظَ كَلَامَ صَاحِبِ مَذْهَبٍ، وَنُصُوصَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِغَوَامِضِهِ وَحَقَائِقِهِ، وَخَالَفَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا فِيهِ عَالِمًا بِغَوَامِضِهِ وَحَقَائِقِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الَّذِي جَمَعَ فَتَاوَى الْمُفْتِينَ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا، وَإِذَا كَانَ مُتَبَحِّرًا فِيهِ جَازَ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: مَنْ قَالَ " لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ " مَعْنَاهُ لَا يَذْكُرُهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدَ نَفْسِهِ، بَلْ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَيَحْكِيهِ عَنْ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ. فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ فِي أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ الْمُقَلَّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُفْتِينَ، وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْمُفْتِينَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وَادُّعُوا عَنْهُمْ فَعُدُّوا مِنْهُمْ، وَسَبِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا مَثَلًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَا وَكَذَا، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ كَذَا وَكَذَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمَنْ تَرَكَ مِنْهُمْ إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى إمَامِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً مِنْهُ بِالْمَعْلُومِ عَنْ الصَّرِيحِ فَلَا بَأْسَ. قُلْت: مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو حَسَنٌ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ " مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ " لِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ نَصُّهُ الَّذِي أَفْتَى بِهِ، أَوْ يَكُونُ شُهْرَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ شُهْرَةً لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى نَصِّهِ، كَشُهْرَةِ مَذْهَبِهِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَوُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لِلصَّوْمِ فِي الْفَرْضِ مِنْ اللَّيْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ مَا يَجِدُ فِي كُتُبِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ الْفُرُوعِ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُضِيفَهَا إلَى نَصِّهِ وَمَذْهَبِهِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي كُتُبِهِمْ، فَكَمْ فِيهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ لَهُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ وَكَمْ فِيهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ نَصُّهُ عَلَى خِلَافِهَا؟ وَكَمْ فِيهَا مِنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَيْهِ فِي إضَافَتِهَا إلَى مُقْتَضَى نَصِّهِ وَمَذْهَبِهِ؟ فَهَذَا يُضِيفُ إلَى مَذْهَبِهِ إثْبَاتَهَا، وَهَذَا يُضِيفُ إلَيْهِ نَفْيَهَا، فَلَا نَدْرِي كَيْفَ يَسَعُ الْمُفْتِيَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو " إنَّ لِهَذَا الْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا " فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مِنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَأْخَذِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَمَدَارِكِهِ وَقَوَاعِدِهِ جَمْعًا وَفَرْقًا، وَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُطَابِقٌ لِأُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِيهَا إذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ كَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ قَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُفْتِي مُخْبِرٌ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ إمَّا مُخْبِرٌ عَمَّا فَهِمَهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِمَّا مُخْبِرٌ عَمَّا فَهِمَهُ مِنْ كِتَابِهِ أَوْ نُصُوصِ مَنْ قَلَّدَهُ دِينَهُ، وَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ، فَكَمَا لَا يَسَعُ الْأَوَّلَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ فَكَذَا لَا يَسَعُ الثَّانِيَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ دِينَهُ إلَّا بِمَا يَعْلَمُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَتَوَى الْقَاصِرُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] [هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْفَتْوَى الْمُتَفَقِّهُ الْقَاصِرُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا تَفَقَّهَ الرَّجُلُ وَقَرَأَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَاصِرٌ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّرْجِيحِ فَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ فِي الْفَتْوَى؟ فِيهِ لِلنَّاسِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَالْجَوَازُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ، وَالْجَوَازُ إنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَنْ يُفْتِي بِقَوْلِهِمْ، وَالْمَنْعُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّلِعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 وَالصَّوَابُ فِيهِ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ السَّائِلُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى عَالِمٍ يَهْدِيهِ السَّبِيلَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مِثْلِ هَذَا، وَلَا يَحِلُّ لِهَذَا أَنْ يَنْسُبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَالِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ أَوْ نَاحِيَتِهِ غَيْرُهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الْمُسْتَفْتِي مَنْ يَسْأَلُهُ سِوَاهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجُوعَهُ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْعَمَلِ بِلَا عِلْمٍ، أَوْ يَبْقَى مُرْتَبِكًا فِي حَيْرَتِهِ مُتَرَدِّدًا فِي عَمَاهُ وَجَهَالَتِهِ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ تَقْوَاهُ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَجِدْ السُّلْطَانُ مَنْ يُوَلِّيهِ إلَّا قَاضِيًا عَارِيًّا مِنْ شُرُوطِ الْقَضَاءِ لَمْ يُعَطِّلْ الْبَلَدَ عَنْ قَاضٍ، وَوَلَّى الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ، وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ كَانَ الْفِسْقُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ تَعَطَّلَتْ الْحُقُوقُ وَضَاعَتْ قَبْلَ شَهَادَةِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ. وَنَظِيرُهَا لَوْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْمَحْضُ أَوْ الشُّبْهَةُ حَتَّى لَمْ يَجِدْ الْحَلَالَ الْمَحْضَ فَإِنَّهُ بِتَنَاوُلِ الْأَمْثَلِ بِالْأَمْثَلِ، وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ شَهِدَ بَعْضُ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَقٍّ فِي بَدَنٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، وَهُنَّ مُنْفَرِدَاتٌ، بِحَيْثُ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ كَالْحَمَّامَاتِ وَالْأَعْرَاسِ، قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْهُنَّ قَطْعًا، وَلَا يُضَيِّعُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقَّ الْمَظْلُومِ، وَلَا يُعَطِّلُ إقَامَةَ دِينِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَبَدًا، بَلْ قَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَبُولِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي آخَرِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا نَسَخَ هَذَا الْحُكْمَ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ سِوَاهُ. فَالشَّرِيعَةُ شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فِي تَعْطِيلِ حُقُوقِهِمْ إذَا لَمْ يَحْضُرْ أَسْبَابَ تِلْكَ الْحُقُوقِ شَاهِدَانِ حُرَّانِ ذَكَرَانِ عَدْلَانِ؟ بَلْ إذَا قُلْتُمْ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُسَّاقِ حَيْثُ لَا عَدْلَ، وَيَنْفُذُ حُكْمُ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ إذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنْ قَاضٍ عَالِمٍ عَادِلٍ، فَكَيْفَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إذَا خَلَا جَمْعُهُنَّ عَنْ رَجُلٍ، أَوْ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ إذَا خَلَا جَمْعُهُمْ عَنْ حُرٍّ، أَوْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا خَلَا جَمْعُهُمْ عَنْ مُسْلِمٍ؟ وَقَدْ قَبِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ شَهَادَةَ الصَّبِيَّانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي تَجَارُحِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُمْ بِأَنْ يُجِيبُوا قَبْلَ أَنْ يُجْتَنَبُوا أَوْ يَتَفَرَّقُوا إلَى بُيُوتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَكَلَامُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ فَقَدْ مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْفَتْوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وَالْحُكْمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا - وَقَدْ جَلَسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْفَظَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ ثُمَّ يُفْتِي - فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنْتَ تَحْفَظُ هَذَا؟ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَحْفَظْ هَذَا فَأَنَا أُفْتِي بِقَوْلِ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُ، وَقَالَ [أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَشَّارٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا: مَا ضَرَّ رَجُلًا عِنْدَهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ أَوْ أَرْبَعٌ مِنْ فَتَاوَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَسْتَنِدُ إلَى هَذِهِ السَّارِيَةِ وَيَقُولُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. [فَتَوَى الْعَامَيْ فِي مَسْأَلَة عِلْم حُكْمهَا] [هَلْ لِلْعَامِّيِّ إذَا عَلِمَ مَسْأَلَةً أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا؟] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَيَسُوغَ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ فِيهِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، أَحَدُهَا: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ عَنْ دَلِيلِهَا كَمَا حَصَلَ لِلْعَالِمِ، وَإِنْ تَمَيَّزَ الْعَالِمُ عَنْهُ بِقُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَهُ، فَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ، وَمَا يُعَارِضُهُ، وَلَعَلَّهُ يَظُنُّ دَلِيلًا مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً جَازَ لَهُ الْإِفْتَاءُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إلَيْهِ وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ. [خِصَالٌ يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيمَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيَا] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِهِ فِي الْخُلْعِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ) ، أَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ. الرَّابِعَةُ: الْكِفَايَةُ وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ. الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ أَحْمَدَ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ هِيَ دَعَائِمُ الْفَتْوَى، وَأَيُّ شَيْءِ نَقَصَ مِنْهَا ظَهَرَ الْخَلَلُ فِي الْمُفْتِي بِحَسْبِهِ. [النِّيَّةُ وَمَنْزِلَتُهَا] فَأَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ وَأَسَاسُهُ وَأَصْلُهُ الَّذِي عَلَيْهِ يُبْنَى؛ فَإِنَّهَا رُوحُ الْعَمَلِ وَقَائِدُهُ وَسَائِقُهُ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهَا يُبْنَى عَلَيْهَا، يَصِحُّ بِصِحَّتِهَا وَيَفْسُدُ بِفَسَادِهَا وَبِهَا يُسْتَجْلَبُ التَّوْفِيقُ، وَبِعَدَمِهَا يَحْصُلُ الْخِذْلَانُ، وَبِحَسَبِهَا تَتَفَاوَتُ الدَّرَجَاتُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 بَيْنَ مُرِيدٍ بِالْفَتْوَى وَجْهَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَالْقُرْبَ مِنْهُ وَمَا عِنْدَهُ، وَمُرِيدٍ بِهَا وَجْهَ الْمَخْلُوقِ وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ وَمَا يَنَالُهُ مِنْهُ تَخْوِيفًا أَوْ طَمَعًا، فَيُفْتِي الرَّجُلَانِ بِالْفَتْوَى الْوَاحِدَةِ وَبَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. هَذَا يُفْتِي لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَدِينُهُ هُوَ الظَّاهِرُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْمُطَاعُ، وَهَذَا يُفْتِي لِيَكُونَ قَوْلُهُ هُوَ الْمَسْمُوعَ وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ وَجَاهُهُ هُوَ الْقَائِمُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ خَالَفَهُمَا، فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تُبَدَّلُ وَسُنَّتُهُ الَّتِي لَا تُحَوَّلُ أَنْ يُلْبِسَ الْمُخْلِصَ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالنُّورِ وَالْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِقْبَالِ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ مَا هُوَ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ وَنِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ لِرَبِّهِ، وَيُلْبَسَ الْمُرَائِيَ اللَّابِسَ ثَوْبَيْ الزُّورِ مِنْ الْمَقْتِ وَالْمَهَانَةِ وَالْبِغْضَةِ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ؛ فَالْمُخْلِصُ لَهُ الْمَهَابَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَلِلْآخَرِ الْمَقْتُ وَالْبَغْضَاءُ. [الْعِلْمُ وَالْحِلْمُ وَالْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَنْ يَكُونَ لَهُ حِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ " فَلَيْسَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى الْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ فَإِنَّهَا كِسْوَةُ عِلْمِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِذَا فَقَدَهَا كَانَ عِلْمُهُ كَالْبَدَنِ الْعَارِي مِنْ اللِّبَاسِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ عِلْمٍ إلَى حِلْمٍ. وَالنَّاسُ هَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، فَخِيَارُهُمْ مِنْ أُوتِيَ الْحِلْمَ وَالْعِلْمَ، وَشِرَارُهُمْ مِنْ عَدَمِهِمَا، الثَّالِثُ: مِنْ أُوتِيَ عِلْمًا بِلَا حِلْمٍ، الرَّابِعُ: عَكْسُهُ فَالْحِلْمُ زِينَةُ الْعِلْمِ وَبَهَاؤُهُ وَجَمَالُهُ. وَضِدُّ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ وَالْحِدَةِ وَالتَّسَرُّعِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ؛ فَالْحَلِيمُ لَا يَسْتَفِزُّهُ الْبَدَوَاتُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يُقْلِقُهُ أَهْلُ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ وَالْجَهْلِ. بَلْ هُوَ وَقُورٌ ثَابِتٌ ذُو أَنَاةٍ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ وُرُودِ أَوَائِلِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ وَلَا تَمْلِكُهُ أَوَائِلُهَا، وَمُلَاحَظَتُهُ لِلْعَوَاقِبِ تَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ؛ فَبِالْعِلْمِ تَنْكَشِفُ لَهُ مَوَاقِعُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِالْحِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَثْبِيتِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْخَيْرِ فَيُؤْثِرُهُ وَيَصِيرُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّرِّ فَيَصْبِرُ عَنْهُ؛ فَالْعِلْمُ يُعَرِّفُهُ رُشْدَهُ وَالْحِلْمُ يُثَبِّتُهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى بَصِيرًا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى هَذَا وَلَا عَنْ هَذَا رَأَيْته، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى صَابِرًا عَلَى الْمَشَاقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ رَأَيْتَهُ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى مِنْ لَا صَبْرَ لَهُ وَلَا بَصِيرَةَ رَأَيْتَهُ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى بَصِيرًا صَابِرًا لَمْ تَكَدْ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ فَقَدْ رَأَيْتَ إمَامَ هُدًى حَقًّا فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ. وَالْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ ثَمَرَةُ الْحِلْمِ وَنَتِيجَتُهُ. وَلِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى السَّكِينَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا نُشِيرُ إلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ عُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ، وَأَذْهَانِنَا الْجَامِدَةِ، وَعِبَارَاتِنَا النَّاقِصَةِ، وَلَكِنْ نَحْنُ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ، وَالنَّاسُ بِزَمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 حَقِيقَةُ السَّكِينَةِ] فَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ، وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارُهُ، وَأَصْلُهَا فِي الْقَلْبِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ، وَهِيَ عَامَّةُ وَخَاصَّةٌ. فَسَكِينَةُ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - أَخَصُّ مَرَاتِبِهَا وَأَعْلَى أَقْسَامِهَا كَالسَّكِينَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَقَدْ أُلْقِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ مُسَافِرًا إلَى مَا أَضْرَمَ لَهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ، فَلِلَّهِ تِلْكَ السَّكِينَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَلْبِهِ حِينَ ذَلِكَ السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمُوسَى وَقَدْ غَشِيَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالْبَحْرُ أَمَامَهُمْ وَقَدْ اسْتَغَاثَ بَنُو إسْرَائِيلَ: يَا مُوسَى إلَى أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ هَذَا الْبَحْرُ أَمَامَنَا وَهَذَا فِرْعَوْنُ خَلْفَنَا، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَقْتَ تَكْلِيمِ اللَّهِ لَهُ نِدَاءً وَنِجَاءً كَلَامًا حَقِيقَةً سَمِعَهُ حَقِيقَةً بِأُذُنِهِ، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَقَدْ رَأَى الْعَصَا ثُعْبَانًا مُبِينًا، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ رَأَى حِبَالَ الْقَوْمِ وَعِصِيَّهُمْ كَأَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ عَدُوُّهُمَا وَهُمَا فِي الْغَارِ فَلَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ لَرَآهُمَا، وَكَذَلِكَ السَّكِينَةُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَوَاقِفِهِ الْعَظِيمَةِ وَأَعْدَاءُ اللَّهِ قَدْ أَحَاطُوا بِهِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ وَيَوْمِ الْخَنْدَقِ وَغَيْرِهِ؛ فَهَذِهِ السَّكِينَةُ أَمْرٌ فَوْقَ عُقُولِ الْبَشَرِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ، فَإِنَّ الْكَذَّابَ - وَلَا سِيَّمَا عَلَى اللَّهِ - أَقْلَقُ مَا يَكُونُ وَأَخْوَفُ مَا يَكُونُ وَأَشَدُّهُ اضْطِرَابًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْآيَاتِ إلَّا هَذِهِ وَحْدَهَا لَكَفَتْهُمْ. [السَّكِينَةُ الْخَاصَّةُ] وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَتَكُون لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِمْ، وَهِيَ سَكِينَةُ الْإِيمَانِ، وَهِيَ سَكِينَةٌ تُسَكِّنُ الْقُلُوبَ عَنْ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، وَلِهَذَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي أَصْعَبِ الْمَوَاطِنِ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4] فَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ الْخَارِجَةِ عَنْهُمْ وَالْجُنُودِ الدَّاخِلَةِ فِيهِمْ، وَهِيَ السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقَلِقِ وَالِاضْطِرَابِ الَّذِي لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَذْكُرُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِهَا أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْقَلِقِ وَالِاضْطِرَابِ لَمَّا مَنَعَهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 كُفَّارُ قُرَيْشٍ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ اللَّهِ، وَحَبَسُوا الْهَدْيَ عَنْ مَحِلِّهِ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الشُّرُوطَ الْجَائِرَةَ الظَّالِمَةَ، فَاضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ، وَقَلِقَتْ وَلَمْ تُطِقْ الصَّبْرَ، فَعَلِمَ - تَعَالَى - مَا فِيهَا، فَثَبَّتَهَا بِالسَّكِينَةِ رَحْمَةً مِنْهُ وَرَأْفَةً وَلُطْفًا، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَتَحْتَمِلُ الْآيَةَ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَثَبَّتَهَا بِالسَّكِينَةِ وَقْتَ قَلَقِهَا وَاضْطِرَابِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى إنْزَالِ السَّكِينَةِ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إنْزَالِهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26] لَمَّا كَانَتْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ تُوجِبُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا يُنَاسِبُهَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ سَكِينَةً تُقَابِلُ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى مُقَابِلَةً لِمَا تُوجِبُهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَلِمَةِ الْفُجُورِ، فَكَانَ حَظُّ، الْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَلِمَةَ التَّقْوَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَحَظُّ أَعْدَائِهِمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَلِمَةُ الْفُجُورِ وَالْعَدُوَّانِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ فَكَانَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جُنْدًا مِنْ جُنْدِ اللَّهِ أَيَّدَ بِهَا اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ جُنْدِ الشَّيْطَانِ الَّذِي فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَأَلْسِنَتِهِمْ. وَثَمَرَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ الطُّمَأْنِينَةُ لِلْخَيْرِ تَصْدِيقًا وَإِيقَانًا وَلِلْأَمْرِ تَسْلِيمًا وَإِذْعَانًا، فَلَا تَدَعْ شُبْهَةً تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَلَا إرَادَةً تُعَارِضُ الْأَمْرَ، فَلَا تَمُرُّ مُعَارَضَاتُ السُّوءِ بِالْقَلْبِ إلَّا وَهِيَ مُجْتَازَةٌ مِنْ مُرُورِ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا الْعَبْدُ لِيَقْوَى إيمَانُهُ، وَيَعْلُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانُهُ، بِمُدَافَعَتِهَا وَرَدِّهَا وَعَدَمِ السُّكُونِ إلَيْهَا، فَلَا يَظُنُّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهَا لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ. فَصْلٌ: [السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ] وَمِنْهَا السَّكِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِوَظَائِف الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوَرِّثُ الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ وَغَضَّ الطَّرَفِ وَجَمْعِيَّةَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يُؤَدِّي عُبُودِيَّتَهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ، وَالْخُشُوعُ نَتِيجَةُ هَذِهِ السَّكِينَةِ وَثَمَرَتُهَا، وَخُشُوعُ الْجَوَارِحِ نَتِيجَةُ خُشُوعِ الْقَلْبِ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَقْسَامَهَا وَنَتِيجَتَهَا وَثَمَرَتَهَا وَعَلَامَتَهَا، فَمَا أَسْبَابُهَا الْجَالِبَةُ لَهَا؟ [أَسْبَابُ السَّكِينَةِ] قُلْتُ: سَبَبُهَا اسْتِيلَاءُ مُرَاقَبَةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَكَلَّمَا اشْتَدَّتْ هَذِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الْمُرَاقَبَةُ أَوْجَبَتْ لَهُ مِنْ الْحَيَاءِ وَالسَّكِينَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، فَالْمُرَاقَبَةُ أَسَاسُ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ كُلِّهَا وَعَمُودُهَا الَّذِي قِيَامُهَا بِهِ، وَلَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُصُولَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَفُرُوعَهَا كُلَّهَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ فِي الْإِحْسَانِ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَتَأَمَّلْ كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَكُلَّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، كَيْف تَجِدُ هَذَا أَصْلُهُ وَمَنْبَعُهُ؟ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ مُحْتَاجٌ إلَى السَّكِينَةِ عِنْدَ الْوَسَاوِسِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ لِيَثْبُتَ قَلْبُهُ وَلَا يَزِيغَ، وَعِنْدَ الْوَسَاوِسِ وَالْخَطِرَاتِ الْقَادِحَةِ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ لِئَلَّا تَقْوَى وَتَصِيرَ هُمُومًا وَغُمُومًا وَإِرَادَاتٌ يَنْقُصُ بِهَا إيمَانُهُ، وَعِنْدَ أَسْبَابِ الْمَخَاوِفِ عَلَى اخْتِلَافِهَا لِيَثْبُتَ قَلْبُهُ وَيَسْكُنُ جَأْشُهُ، وَعِنْدَ أَسْبَابِ الْفَرَحِ لِئَلَّا يَطْمَحَ بِهِ مَرْكَبُهُ فَيُجَاوِزَ الْحَدَّ الَّذِي لَا يُعْبَرُ فَيَنْقَلِبُ تَرَحًا وَحُزْنًا، وَكَمْ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا يُفْرِحُهُ فَجَمَحَ بِهِ مَرْكَبُ الْفَرَحِ وَتَجَاوَزَ الْحَدَّ فَانْقَلَبَ تَرَحًا عَاجِلًا، وَلَوْ أُعِينَ بِسَكِينَةٍ تَعْدِلُ فَرَحَهُ لِأُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَعِنْدَ هُجُومِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَمَا أَحْوَجَهُ إلَى السَّكِينَةِ حِينَئِذٍ، وَمَا أَنْفَعَهَا لَهُ، وَأَجْدَاهَا عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ عَاقِبَتَهَا،. وَالسَّكِينَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ عَلَامَةٌ عَلَى الظَّفَرِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ، وَانْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ، وَفَقْدُهَا عَلَامَةٌ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، لَا يُخْطِئُ هَذَا وَلَا هَذَا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [الِاضْطِلَاعُ بِالْعِلْمِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ " أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ " أَيْ مُسْتَظْهِرًا مُضْطَلِعًا بِالْعِلْمِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، غَيْرَ ضَعِيفٍ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ ضَعِيفًا قَلِيلَ الْبِضَاعَةِ غَيْرَ مُضْطَلِعٍ بِهِ أَحْجَمَ عَنْ الْحَقِّ فِي مَوْضِعٍ يَنْبَغِي فِيهِ الْإِقْدَامُ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِمَوَاضِعِ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ، فَهُوَ يَقْدَمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَيُحْجِمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا بَصِيرَةَ لَهُ بِالْحَقِّ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ؛ فَالْمُفْتِي مُحْتَاجٌ إلَى قُوَّةٍ فِي الْعِلْمِ وَقُوَّةٍ فِي التَّنْفِيذِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ. [الْكِفَايَةُ] وَأَمَّا قَوْلُهُ " الرَّابِعَةُ الْكِفَايَةُ وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ " فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ احْتَاجَ إلَى النَّاسِ وَإِلَى الْأَخْذِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا أَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِ وَعِرْضِهِ أَضْعَافَهُ، وَقَدْ كَانَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ شَيْءٌ مِنْ مَالٍ، وَكَانَ لَا يَتَرَوَّى فِي بَذْلِهِ وَيَقُولُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَتَمَنْدَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 بِنَا هَؤُلَاءِ؛ فَالْعَالِمُ إذَا مُنِحَ غِنَاءً فَقَدْ أُعِينَ عَلَى تَنْفِيذِ عِلْمِهِ، وَإِذَا احْتَاجَ إلَى النَّاسِ فَقَدْ مَاتَ عِلْمُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ. [مَعْرِفَةُ النَّاسِ] وَأَمَّا قَوْلُهُ " الْخَامِسَةُ مَعْرِفَةُ النَّاسِ " فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِيهِ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الظَّالِمُ بِصُورَةِ الْمَظْلُومِ وَعَكْسُهُ، وَالْمُحِقُّ بِصُورَةِ الْمُبْطِلِ وَعَكْسُهُ، وَرَاجَ عَلَيْهِ الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ وَالِاحْتِيَالُ، وَتَصَوَّرَ لَهُ الزِّنْدِيقُ فِي صُورَةِ الصِّدِّيقِ، وَالْكَاذِبُ فِي صُورَةِ الصَّادِقِ، وَلَبِسَ كُلُّ مُبْطِلٍ ثَوْبَ زُورٍ تَحْتَهَا الْإِثْمُ وَالْكَذِبُ وَالْفُجُورُ، وَهُوَ لِجَهْلِهِ بِالنَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ مَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ، فَإِنَّ الْفَتْوَى تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [الصِّفَاتِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُفْتِيَ] [كَلِمَاتٌ حُفِظَتْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَتَضَمَّنُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُفْتِيَ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي أَمْرِ الْفُتْيَا، سِوَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا. قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْفُتْيَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، عَالِمًا بِالسُّنَنِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا تَجُوزُ الْفُتْيَا إلَّا لِرَجُلٍ عَالَمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَإِلَّا فَلَا يُفْتِي. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: أُحِبُّ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ النَّاسُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَفِي مِصْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَا يَحْفَظُونَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وَلَا الْإِسْنَادَ الْقَوِيَّ، فَلِمَنْ يَسْأَلُ؟ لِهَؤُلَاءِ أَوْ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ؟ فَقَالَ: يَسْأَلُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ الرَّأْيِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي، وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُهُ: إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَهَا، قَالَ حَفِيدُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: فَقُلْتُ لِجَدِّي: كَمْ كَانَ يَحْفَظُ أَحْمَدُ؟ فَقَالَ أَجَابَ عَنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِيهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ بَصَرٌ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الْمَتْرُوكِ، وَلَا الْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ مِنْ الضَّعِيفِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيَتَخَيَّرُ مِنْهَا فَيُفْتِي بِهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، قَالَ: لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَسْأَلَ مَا يُؤْخَذُ بِهِ مِنْهَا فَيَكُونُ يَعْمَلُ عَلَى أَمْرٍ صَحِيحٍ، يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ، وَمَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ الِاخْتِلَافُ مِنْ الْعِلْمِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْفُتْيَا أَحْسَنَ فُتْيَا مِنْهُ، كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ " لَا أَدْرِي " مَنْ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا؟ سَلْ الْعُلَمَاءَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ أَتْبَعُ مِنْ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَا تَقَلَّدْ دِينَكَ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ بَعْدَ الرَّجُلِ فِيهِ مُخَيَّرٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» فَقَالَ: يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ أَيْضًا: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَطْلُبُ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ بِقَدْرِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِهِ، قَالَ: الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ كُلَّ مَنْ يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ. قَالَ الْأَعْمَشُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ، فَقَالَ: لَوْ حَدَّثْتَنِي بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا أَفْتَيْتُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا كُنْتُ أُفْتِي بِهِ، قَالَ ابْنُ هَانِئٍ: وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَكُونُ الرَّجُلُ فِي قَرْيَةٍ فَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ، قَالَ: يُفْتِي بِمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمْسَكَ عَنْهُ، قِيلَ لَهُ: أَفَتَخَافُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمَا كَانَ وُضِعَ فِي الْكِتَابِ وَكَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَالِكٍ تَرَى النَّظَرَ فِيهِ؟ فَقَالَ: كُلُّ كِتَابٍ اُبْتُدِعَ فَهُوَ بِدْعَةٌ، أَوْ كُلُّ كِتَابٍ مُحْدَثٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مُنَاظَرَةٍ يُخْبِرُ الرَّجُلُ بِمَا عِنْدَهُ، وَمَا يَسْمَعُ مِنْ الْفُتْيَا فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: فَكِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ غَرِيبُ الْحَدِيثِ؟ قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ حَكَاهُ عَنْ قَوْمٍ أَعْرَابٍ، قِيلَ لَهُ: فَهَذِهِ الْفَوَائِدُ الَّتِي فِيهَا الْمَنَاكِيرُ تَرَى أَنْ تُكْتَبَ؟ قَالَ: الْمُنْكَرُ أَبَدًا مُنْكَرٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 [دَلَالَةُ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى غَيْرِهِ] ِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي دَلَالَةِ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ خَطَرٍ جِدًّا، فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ مَا يَحْدُثُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ بِدَلَالَتِهِ إمَّا إلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَحْكَامِهِ أَوْ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِمَّا مُعِينٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ إلَى مَنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فَكَانَ شَيْخُنَا - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - شَدِيدَ التَّجَنُّبِ لِذَلِكَ، وَدَلَّلْتُ مَرَّةً بِحَضْرَتِهِ عَلَى مُفْتٍ أَوْ مَذْهَبٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ؟ دَعْهُ، فَفَهِمْتُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّكَ لَتَبُوءُ بِمَا عَسَاهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِثْمِ وَلِمَنْ أَفْتَاهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا مَنْصُوصَةً عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَدُلُّهُ عَلَى إنْسَانٍ يَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ - يَعْنِي الَّذِي أَرْشَدْتَهُ إلَيْهِ - مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ، فَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إنَّهُ يُرِيدُ الِاتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلِهِ يُصِيبُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟ قُلْتُ لَهُ: فَرَأْيُ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَا تَتَقَلَّدْ فِي مِثْلِ هَذَا بِشَيْءٍ، قُلْتُ: وَأَحْمَدُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ عَلَى إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ، وَلَا خِلَافَ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِي أَهْلَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَتْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رَأَى رَجُلٌ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ اسْتَفْتَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ: وَلِبَعْضِ مَنْ يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا، وَإِقْدَامُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَى الْفُتْيَا، وَتَوَثُّبَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا، وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عَلَيْهَا مَعَ قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ أَوْ غَرِيبٌ، فَلَيْسَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ نَصِيبٌ، وَلَا يُبْدِي جَوَابًا بِإِحْسَانٍ، وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدْرُ فَتْوَاهُ كَذَلِكَ يَقُولُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْفَتَاوَى يُكَذْلِكُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ، فَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ مَنْ يَكْتُبُ الْجَوَابَ فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ، فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ فِي جَوَابٍ، فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا قَدْ تَنَاقَضَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كَمَا تَنَاقَضَا، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِكُلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 عَالِمٍ وَرَئِيسٍ وَفَاضِلٍ مِنْ يُظْهِرُ مُمَاثَلَتَهُ، وَيَرَى الْجُهَّالُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ مُسَاجَلَتَهُ وَمُشَاكَلَتَهُ، وَأَنَّهُ يَجْرِي مَعَهُ فِي الْمَيْدَانِ، وَأَنَّهُمَا عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، وَلَا سِيَّمَا إذَا طَوَّلَ الْأَرْدَانَ، وَأَرْخَى الذَّوَائِبَ الطَّوِيلَةَ وَرَاءَهُ كَذَنَبِ الْأَتَانِ، وَهَدَرَ بِاللِّسَانِ، وَخَلَا لَهُ الْمَيْدَانُ الطَّوِيلُ مِنْ الْفُرْسَانِ. فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ لَقَالَ النَّاسُ: يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ وَهَذَا الضَّرْبُ إنَّمَا يَسْتَفْتُونَ بِالشَّكْلِ لَا بِالْفَضْلِ، وَبِالْمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهْلِيَّةِ، قَدْ غَرَّهُمْ عُكُوفُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَيْهِمْ، وَمُسَارَعَةُ مَنْ أَجْهَلُ مِنْهُمْ إلَيْهِمْ، تَعِجُّ مِنْهُمْ الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَجِيجًا، وَتَضِجُّ مِنْهُمْ الْأَحْكَامُ إلَى مَنْ أَنْزَلَهَا ضَجِيجًا. فَمَنْ أَقْدَمَ بِالْجُرْأَةِ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ مِنْ فُتْيَا أَوْ قَضَاءٍ أَوْ تَدْرِيسٍ، اسْتَحَقَّ اسْمَ الذَّمِّ، وَلَمْ يَحِلَّ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَلَا قَضَائِهِ، هَذَا حُكْمُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفٌ مِنْ أُنَاسٍ فَقُلْ: يَا رَبِّ لَا تُرْغِمْ سِوَاهَا [كذلكة الْمُفْتِي] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ كَذْلَكَةِ الْمُفْتِي، وَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْلَمَ صَوَابَ جَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْفُتْيَا أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمَ صَوَابَ جَوَابِهِ فَلَهُ أَنْ يُكَذْلِكَ، وَهَلْ الْأَوْلَى لَهُ الْكَذْلَكَةُ أَوْ الْجَوَابُ الْمُسْتَقِلُّ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو الْمُبْتَدِئُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا أَوْ مُتَسَلِّقًا مُتَعَاطِيًا مَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتَرْكُهُ الكذلكة أَوْلَى مُطْلَقًا؛ إذْ فِي كذلكته تَقْرِيرٌ لَهُ عَلَى الْإِفْتَاءِ، وَهُوَ كَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَضْرِبُ عَلَى فَتْوَى مِنْ كُتُبٍ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنْهُ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَكْتُبُ مَعَهُ فِي الْوَرَقَةِ، وَيَرُدُّ السَّائِلَ، وَهَذَا نَوْعُ تَحَامُلٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَكْتُبُ فِي الْوَرَقَةِ الْجَوَابَ، وَلَا يَأْنَفُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِدِينِ اللَّهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِهِ لِكِتَابَةِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي كِتْمَانِ الْحَقِّ، بَلْ هَذَا نَوْعُ رِيَاسَةٍ وَكِبْرٍ، وَالْحَقُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يُعَطِّلَ حَقَّ اللَّهِ وَيَكْتُمَ دِينَهُ لِأَجْلِ كِتَابَةِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ؟ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا شَهِدَ الْجِنَازَةَ فَرَأَى فِيهَا مُنْكَرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَرَأَى فِيهَا مُنْكَرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا عَنْ الْفَرْقِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْجِنَازَةِ لِلْمَيِّتِ، فَلَا يُتْرَكُ حَقُّهُ لِمَا فَعَلَهُ الْحَيُّ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَالْحَقُّ فِي الْوَلِيمَةِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَتَى فِيهَا بِالْمُنْكَرِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِي بِالْجَوَابِ أَهْلًا لِلْإِفْتَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْلَمَ المكذلك صَوَابَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 جَوَابِهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكَذْلِكَ تَقْلِيدًا لَهُ؛ إذْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ، وَلَوْ نُبِّهَ لَرَجَعَ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، وَلَيْسَ المكذلك مَعْذُورًا، بَلْ مُفْتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُفْتِينَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ثُلُثَاهُمْ فِي النَّارِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةً لَا يَخْفَى وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ بالمكذلك أَنَّهُ قَلَّدَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ أَوْ تَكُونَ خَفِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَالْأَوْلَى الْكَذْلَكَةُ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَشَهَادَةٌ لِلْمُفْتِي بِالصَّوَابِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِحَيْثُ يَظُنُّ بالمكذلك أَنَّهُ وَافَقَهُ تَقْلِيدًا مَحْضًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ إيضَاحُ مَا أَشْكَلَهُ الْأَوَّلُ وَزِيَادَةُ بَيَانِ أَوْ ذِكْرُ قَيْدٍ أَوْ تَنْبِيهٍ عَلَى أَمْرٍ أَغْفَلَهُ فَالْجَوَابُ الْمُسْتَقِلُّ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ كَذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَابَ اسْتِقْلَالًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الَّذِي يُمْنَعُهُ مِنْ الْكَذْلَكَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ تَقْلِيدًا لَهُ كَمَا قَلَّدَ الْمُبْتَدِي مَنْ فَوْقَهُ؟ فَإِذَا أَفْتَى الْأَوَّلُ بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ الْمُكَذْلِكَ مِنْ تَقْلِيده؟ قِيلَ: الْجَوَاب مِنْ وُجُوه، أَحَدهَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُفْتِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، فَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، حُكِيَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُسْتَوْفَى. الثَّانِي: أَنْ هَذَا الْأَوَّلَ وَإِنْ جَازَ لَهُ التَّقْلِيدُ لِلضَّرُورَةِ فَهَذَا الْمُكَذْلِكُ الْمُتَكَلِّفُ لَا ضَرُورَة لَهُ إلَى تَقْلِيدِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ بِنَاءِ الضَّعِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ، وَذَلِكَ لَا يَسُوغُ، كَمَا لَا تَسُوغُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. الثَّالِثُ: أَنْ هَذَا لَوْ سَاغَ لَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُفْتِينَ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُفْتِي أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَتَوَى المفتى لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَته لَهُ] [لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ مِنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَشَرِيكَهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ، وَلَا يَقْضِيَ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِفْتَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الرِّوَايَةِ، فَكَأَنَّهُ حُكْمٌ عَامٌّ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ يَخُصَّ الْمَشْهُودَ لَهُ وَالْمَحْكُومَ لَهُ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ الرَّاوِي فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْفَتْوَى الَّتِي يُفْتِي بِهَا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَابِيَ مَنْ يُفْتِيهِ فَيُفْتِيَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ صِدِّيقَهُ بِشَيْءٍ وَيُفْتِيَ غَيْرَهُمْ بِضِدِّهِ مُحَابَاةً، بَلْ هَذَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُحَابَاةِ، وَمِثَالُ هَذَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْإِبَاحَةِ، فَيُفْتِي ابْنَهُ وَصِدِّيقَهُ بِقَوْلِ الْإِبَاحَةِ وَالْأَجْنَبِيَّ بِقَوْلِ الْمَنْعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ؟ . قِيلَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ بِمَا يُفْتِي غَيْرَهُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ بِالرُّخْصَةِ وَغَيْرَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ قَوْلَ الْجَوَازِ وَلِغَيْرِهِ قَوْلَ الْمَنْعِ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ يَقُولُ عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ يَكُونُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا الْجَوَازُ وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ فَالْجَوَازُ لَهُمْ وَالْمَنْعُ لِغَيْرِهِمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ. [الْفُتْيَا بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ] [لَا تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، بَلْ يَكْتَفِي فِي الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ قَوْلًا قَالَهُ إمَامٌ أَوْ وَجْهًا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَيَعْمَلُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْوُجُوهِ وَالْأَقْوَالِ حَيْثُ رَأَى الْقَوْلَ وَفْقَ إرَادَتِهِ وَغَرَضِهِ عَمِلَ بِهِ، فَإِرَادَتُهُ وَغَرَضُهُ هُوَ الْمِعْيَارُ وَبِهَا التَّرْجِيحُ، وَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِهِ مِمَّنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَوْ فُتْيَا أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ، وَقَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَأَفْتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِيَيْنِ بِمَا يَضُرُّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ سَأَلَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا لَكَ، وَأَفْتَوْهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُوَافِقُهُ، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ فَعَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَالْإِفْتَاءُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ وَمُوَافَقَةِ الْغَرَضِ فَيَطْلُبُ الْقَوْلَ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَغَرَضَ مِنْ يُحَابِيهِ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُفْتِي بِهِ، وَيَحْكُمُ بِهِ، وَيَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ وَيُفْتِيهِ بِضِدِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَقِ الْفُسُوقِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [أَقْسَامُ الْمُفْتِينَ] [أَقْسَامُ الْمُفْتِينَ أَرْبَعَةٌ] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَفْتُونَ الَّذِينَ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْفَتْوَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمْ الْعَالِمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؛ فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي أَحْكَامِ النَّوَازِلِ، يَقْصِدُ فِيهَا مُوَافَقَةَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَيْثُ كَانَتْ، وَلَا يُنَافِي اجْتِهَادُهُ تَقْلِيدَهُ لِغَيْرِهِ أَحْيَانًا، فَلَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا وَهُوَ مُقَلِّدٌ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحَجِّ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ؛ فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمْ الْإِفْتَاءُ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» وَهُمْ غَرْسُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَزَالُ يَغْرِسُهُمْ فِي دِينِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: لَنْ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّتِهِ. فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي: مُجْتَهِدٌ مُقَيَّدٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ ائْتَمَّ بِهِ؛ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَعْرِفَةِ فَتَاوِيهِ وَأَقْوَالِهِ وَمَأْخَذِهِ وَأُصُولِهِ، عَارِفٌ بِهَا، مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّخْرِيجِ عَلَيْهَا وَقِيَاسُ مَا لَمْ يَنُصَّ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الدَّلِيلِ، لَكِنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْفُتْيَا وَدَعَا إلَى مَذْهَبِهِ وَرُتَبِهِ وَقَرَّرَهُ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي مَقْصِدِهِ وَطَرِيقِهِ مَعًا. وَقَدْ ادَّعِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ الَّذِي لَهُ، وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَشْهَبَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي: هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْتَقِلِّينَ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ مُتَقَيِّدِينَ بِمَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ وَفَتَاوِيهِمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَخِلَافُهُمْ لَهُمْ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ الْمُسْتَقِلُّ وَالْمُسْتَكْثِرُ، وَرُتْبَةُ هَؤُلَاءِ دُونَ رُتْبَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالِاجْتِهَادِ. فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي مَذْهَبٍ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ، مُقَرِّرٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، مُتْقِنٌ لِفَتَاوِيهِ، عَالِمٌ بِهَا، لَكِنْ لَا يَتَعَدَّى أَقْوَالَهُ وَفَتَاوِيَهُ وَلَا يُخَالِفُهَا، وَإِذَا وُجِدَ نَصُّ إمَامِهِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَذَاهِبِ أَئِمَّتِهِمْ، وَهُوَ حَالُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُجْتَزِيًا بِنُصُوصِ إمَامِهِ، فَهِيَ عِنْدَهُ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، قَدْ اكْتَفَى بِهَا مِنْ كُلْفَةِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ كَفَاهُ الْإِمَامُ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ وَمُؤْنَةَ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَقَدْ يَرَى إمَامَهُ ذَكَرَ حُكْمًا بِدَلِيلِهِ؛ فَيَكْتَفِي هُوَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضٍ لَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ وَالْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ وَالْمُخْتَصَرَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالتَّقْلِيدِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: اجْتَهَدْنَا فِي الْمَذَاهِبِ فَرَأَيْنَا أَقْرَبَهَا إلَى الْحَقِّ مَذْهَبَ إمَامِنَا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ إمَامِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو فَيُوجِبُ اتِّبَاعَهُ، وَيَمْنَعُ مِنْ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ. فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ اجْتِهَادٍ نَهَضَ بِهِمْ إلَى كَوْنِ مَتْبُوعِهِمْ وَمُقَلَّدِهِمْ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، أَحَقَّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ سِوَاهُ، وَأَنَّ مَذْهَبَهُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَالصَّوَابُ دَائِمًا مَعَهُ، وَقَعَدَ بِهِمْ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَتَرْجِيحِ مَا يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ، مَعَ اسْتِيلَاءِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى غَايَةِ الْبَيَانِ، وَتَضَمُّنِهِ لِجَوَامِع الْكَلِمِ، وَفَصْلِهِ لِلْخِطَابِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، فَقَعَدَتْ بِهِمْ هِمَمُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَنَهَضَتْ بِهِمْ إلَى الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِ إمَامِهِمْ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، وَأَقْوَالُهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَصْلٌ: النَّوْعُ الرَّابِعُ: طَائِفَةٌ تَفَقَّهَتْ فِي مَذَاهِبِ مَنْ انْتَسَبَتْ إلَيْهِ، وَحَفِظَتْ فَتَاوِيهِ وَفُرُوعَهُ، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ ذَكَرُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَوْمًا مَا فِي مَسْأَلَةٍ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ وَالْفَضِيلَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا رَأَوْا حَدِيثًا صَحِيحًا مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَنْ انْتَسَبُوا إلَيْهِ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ وَتَرَكُوا الْحَدِيثَ، وَإِذَا رَأَوْا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ أَفْتَوْا بِفُتْيَا، وَوَجَدُوا لِإِمَامِهِمْ فُتْيَا تُخَالِفُهَا أَخَذُوا بِفُتْيَا إمَامِهِمْ وَتَرَكُوا فَتَاوَى الصَّحَابَةِ، قَائِلِينَ: الْإِمَامُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا، وَنَحْنُ قَدْ قَلَّدْنَاهُ فَلَا نَتَعَدَّاهُ وَلَا نَتَخَطَّاهُ، بَلْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنَّا، وَمِنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَمُتَكَلِّفٌ مُتَخَلِّفٌ قَدْ دَنَا بِنَفْسِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْمُشْتَغِلِينَ وَقَصُرَ عَنْ دَرَجَةِ الْمُحَصِّلِينَ، فَهُوَ مُكَذْلِكٌ مَعَ الْمُكَذْلِكِينَ، وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ، وَاسْتَقَلَّ بِالْجَوَابِ قَالَ: يَجُوزُ بِشَرْطِهِ، وَيَصِحُّ بِشَرْطِهِ، وَيَجُوزُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، وَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي يَسْتَحْسِنُهَا كُلُّ جَاهِلٍ، وَيَسْتَحْيِي مِنْهَا كُلُّ فَاضِلٍ. [مَنْزِلَةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمُفْتِينَ] فَفَتَاوَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ الْمُلُوكِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَفَتَاوَى النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ نُوَّابِهِمْ وَخُلَفَائِهِمْ، وَفَتَاوَى النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ جِنْسِ تَوْقِيعَاتِ خُلَفَاءِ نُوَّابِهِمْ، وَمَنْ عَدَاهُمْ فَمُتَشَبِّعٌ بِمَا لَمْ يُعْطِ، مُتَشَبِّهٌ بِالْعُلَمَاءِ، مُحَاكٍ لِلْفُضَلَاءِ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مُتَحَقِّقٌ بِغَيِّهِ وَمُحَاكٍ لَهُ مُتَشَبِّهٌ بِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَتَوَى مُجْتَهِد الْمَذْهَبِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ] [هَلْ لِلْمُجْتَهِدِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ؟] الْفَائِدَةُ الثَّلَاثُونَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالِاجْتِهَادِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْإِمَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَيَكُونُ مُتَّبِعُهُ مُقَلِّدًا لِلْمَيِّتِ، لَا لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ مُجَرَّدُ النَّقْلِ عَنْ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ مُقَلِّدٌ لَهُ، لَا لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ لَمْ يَجْتَهِدْ لَهُ، وَالسَّائِلُ يَقُولُ لَهُ: أَنَا أُقَلِّدُكَ فِيمَا تُفْتِينِي بِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ فَإِنْ قَالَ لَهُ السَّائِلُ: " أُرِيدُ حُكْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأُرِيدُ الْحَقَّ فِيمَا يُخَلِّصُنِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ لَهُ فِي الْحَقِّ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: " أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ قَوْلَ الْإِمَامِ وَمَذْهَبَهُ " سَاغَ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ، وَيَكُونُ نَاقِلًا لَهُ، وَيَبْقَى الدَّرْكُ عَلَى السَّائِلِ؛ فَالدَّرْكُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُفْتِي، وَفِي الثَّانِي عَلَى الْمُسْتَفْتِي [هَلْ لِلْحَيِّ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَيِّتَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِلدَّلِيلِ] [هَلْ لِلْحَيِّ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَيِّتَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِلدَّلِيلِ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْحَيِّ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ وَالْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِهَا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِصِحَّةِ الْعَمَلِ بِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: يَجُوزُ تَغْيِيرُ اجْتِهَادُهُ لَوْ كَانَ حَيًّا؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَدِّدُ النَّظَرَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ النَّازِلَةِ إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا، عَلَى النِّزَاعِ الْمَشْهُورِ، وَلَعَلَّهُ لَوْ جَدَّدَ النَّظَرَ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ جَمِيعِ الْمُقَلِّدِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَخِيَارُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ التَّقْلِيدِ تَقْلِيدُ الْأَمْوَاتِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الْمَيِّتِ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَعَمَلُهُ فِي فَتَاوِيهِ وَأَحْكَامِهِ بِخِلَافِهِ، وَالْأَقْوَالُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِهِ، كَمَا لَا تَمُوتُ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِ رُوَاتِهَا وَنَاقِلِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 [هَلْ لِلْمُجْتَهِدِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ] ِ؟] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الِاجْتِهَادُ حَالَةٌ تَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ مُقَلِّدًا فِي غَيْرِهِ، أَوْ فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، كَمَنْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي نَوْعِ الْعِلْمِ بِالْفَرَائِضِ وَأَدِلَّتِهَا وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ، أَوْ فِي بَابِ الْجِهَادِ أَوْ الْحَجِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ الْفَتْوَى فِيمَا لَمْ يَجْتَهِدْ فِيهِ، وَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ مُسَوِّغَةً لَهُ الْإِفْتَاءَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي غَيْرِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي النَّوْعِ الَّذِي اجْتَهَدَ فِيهِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الْجَوَازُ، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ. وَالثَّالِثُ: الْجَوَازُ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ غَيْرِهَا. فَحُجَّةُ الْجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ، وَقَدْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ؛ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. وَحُجَّةُ الْمَنْعِ تَعَلُّقُ أَبْوَابِ الشَّرْعِ وَأَحْكَامِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَالْجَهْلُ بِبَعْضِهَا مَظِنَّةٌ لِلتَّقْصِيرِ فِي الْبَابِ وَالنَّوْعِ الَّذِي قَدْ عَرَفَهُ، وَلَا يَخْفَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَكِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَكَذَلِكَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ كِتَابِ الْجِهَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَكِتَابِ الْحُدُودِ وَالْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا رَأَى انْقِطَاعَ أَحْكَامِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَمَعْرِفَةِ الْفُرُوضِ وَمَعْرِفَةِ مُسْتَحَقِّهَا عَنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالرُّهُونِ وَالنِّضَالِ وَغَيْرِهَا، وَعَدَمِ تَعَلُّقَاتِهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ قَطْعِيَّةٌ، وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِمَا؟ قِيلَ: نَعَمْ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ التَّبْلِيغِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَجَزَى اللَّهُ مِنْ أَعَانَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ خَيْرًا، وَمَنْعُ هَذَا مِنْ الْإِفْتَاءِ بِمَا عَلِمَ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [مَنْ تَصَدَّرَ لِلْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَثِمَ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَنْ أَفْتَى النَّاسَ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْفَتْوَى فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُ مَنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ كَمَا فَعَلَ بَنُو أُمَيَّةَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ، وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالطَّرِيقِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالطِّبِّ وَهُوَ يَطِبُّ النَّاسَ، بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعَ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ التَّطَبُّبَ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ؟ . وَكَانَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ: أَجَعَلْتَ مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى؟ فَقُلْتُ لَهُ: يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ؟ وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا: «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَفِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ: «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الْأَرْضِ» . وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ فِيهَا أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفُ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُجِيبَ فِيهَا. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا مَسْأَلَةٌ خَفِيفَةٌ سَهْلَةٌ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ خَفِيفٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل: 5] فَالْعِلْمُ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَخَاصَّةً مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَمَا أَفْتَيْتُ حَتَّى سَأَلْتُ رَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، فَأَمَرَانِي بِذَلِكَ، وَلَوْ نَهَيَانِي انْتَهَيْتُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصْعُبُ عَلَيْهِمْ الْمَسَائِلُ، وَلَا يُجِيبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ حَتَّى يَأْخُذَ رَأْيَ صَاحِبِهِ مَعَ مَا رُزِقُوا مِنْ السَّدَادِ وَالتَّوْفِيقِ وَالطَّهَارَةِ، فَكَيْفَ بِنَا الَّذِينَ غَطَّتْ الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا قُلُوبَنَا؟ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَكَأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَكَلَّمُ وَإِنَّهُ لَيَرْعَدُ. وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّ الْبِلَادِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَسْوَاقُهَا» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا فَقَدْ عَرَّضَهَا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ قَوْلِكَ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 أَدْرِي وَأَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَسْتَحِي حِينَ قَالُوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَعَلَّمْ لَا أَدْرِي فَإِنَّكَ إنْ قُلْتَ لَا أَدْرِي عَلَّمُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ، وَإِنْ قُلْتُ: أَدْرِي سَأَلُوكَ حَتَّى لَا تَدْرِيَ. وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَكَانَ كَثِيرًا مَا يُسْأَلُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلَا يَقُولُ شَيْئًا إلَّا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي. وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَسَكَتَ، فَقِيلَ: أَلَا تُجِيبُ؟ فَقَالَ: حَتَّى أَدْرِيَ الْفَضْلُ فِي سُكُوتِي أَوْ فِي الْجَوَابِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ لَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ. وَسُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: إنِّي لَا أُحْسِنُهُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إنِّي جِئْتُكَ لَا أَعْرِفُ غَيْرَكَ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: لَا تَنْظُرُ إلَى طُولِ لِحْيَتِي وَكَثْرَةِ النَّاسِ حَوْلِي، وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُهُ، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَالِسٌ إلَى جَنْبِهِ: يَا ابْنَ أَخِي الْزَمْهَا، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَاكَ فِي مَجْلِسٍ أَنْبَلَ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ الْقَاسِمُ: وَاَللَّهِ لَأَنْ يُقْطَعَ لِسَانِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّم بِمَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ. وَكَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُؤَاخَاةٌ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قَعَدْتَ طَبِيبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مُتَطَبِّبًا أَوْ تَقْتُلَ مُسْلِمًا، فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: رَدُّوهُمَا عَلَيَّ، مُتَطَبِّبٌ وَاَللَّهِ، أَعِيدَا عَلَيَّ قَضِيَّتَكُمَا. [حُكْمُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ] [حُكْمُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: (إذَا نَزَلَتْ بِالْعَامِّيِّ نَازِلَةٌ وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ) عَنْ حُكْمِهَا فَفِيهِ طَرِيقَانِ لِلنَّاسِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ حُكْمَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ، عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُرْشِدِ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْمُرْشِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يَعْمَلُ بِالْأَخَفِّ أَوْ بِالْأَشَدِّ أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَّ بِجَهْدِهِ وَمَعْرِفَةِ مِثْلِهِ، وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِّ أَمَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يُسَوِّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَبَيْنَ مَا يَسْخَطُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ؛ مَائِلَةً إلَى الْحَقِّ، مُؤْثِرَةً لَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ لَهَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ الْمُرَجِّحَةِ وَلَوْ بِمَنَامٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، فَإِنْ قُدِّرَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَعَدِمَتْ فِي حَقِّهِ جَمِيعُ الْأَمَارَاتِ فَهُنَا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ عَنْهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَيَصِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 كَانَ مُكَلَّفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ؛ فَأَحْكَامُ التَّكْلِيفِ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا وَمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ] [مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا وَمَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الْفُتْيَا أَوْسَعُ مِنْ الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَجُوزُ فُتْيَا الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأُمِّيِّ وَالْقَارِئِ، وَالْأَخْرَسِ بِكِتَابَتِهِ وَالنَّاطِقِ، وَالْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فُتْيَا الْعَدُوِّ وَلَا مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالشَّهَادَةِ، وَالْوَجْهَانِ فِي الْفُتْيَا كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْحَاكِمِ أَشْهَرَ، وَأَمَّا فُتْيَا الْفَاسِقِ فَإِنْ أَفْتَى غَيْرَهُ لَمْ تُقْبَلْ فَتْوَاهُ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ غَيْرَهُ، وَفِي جَوَازِ اسْتِفْتَاءِ مَسْتُورِ الْحَالِ وَجْهَانِ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ اسْتِفْتَائِهِ وَإِفْتَائِهِ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ دَاعِيًا إلَى بِدْعَتِهِ، فَحُكْمُ اسْتِفْتَائِهِ حُكْمُ إمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ؛ فَالْوَاجِبُ شَيْءٌ وَالْوَاقِعُ شَيْءٌ وَالْفَقِيهُ مِنْ يُطَبِّقُ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْوَاجِبِ وَيُنَفِّذُ الْوَاجِبَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، لَا مَنْ يَلْقَى الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْوَاقِعِ، فَلِكُلِّ زَمَانٍ حُكْمٌ، وَالنَّاسُ بِزَمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَإِذَا عَمَّ الْفُسُوقُ وَغَلَبَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَوْ مُنِعَتْ إمَامَةُ الْفُسَّاقِ وَشَهَادَاتُهُمْ وَأَحْكَامُهُمْ وَفَتَاوِيهِمْ وَوِلَايَاتُهُمْ لَعُطِّلَتْ الْأَحْكَامُ، وَفَسَدَ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الْحُقُوقِ، وَمَعَ هَذَا فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ، وَهَذَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْغَلَبَةِ بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَ إلَّا الِاصْطِبَارُ، وَالْقِيَامُ بِأَضْعَفِ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ. [هَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ] [هَلْ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ؟] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: (لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فِي جَوَازِ الْإِفْتَاءِ بِمَا تَجُوزُ الْفُتْيَا بِهِ) ، وَوُجُوبُهَا إذَا تَعَيَّنَتْ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْصِبَ الْفُتْيَا دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَنْصِبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاَلَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ قَضَاءَ الْجَاهِلِ فَالْقَاضِي مُفْتٍ وَمُثَبِّتٌ وَمُنَفِّذٌ لِمَا أَفْتَى بِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، دُونَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ فُتْيَاهُ تَصِيرُ كَالْحُكْمِ مِنْهُ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَقْتَ الْمُحَاكَمَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ وَقْتَ الْحُكُومَةِ أَوْ تَظْهَرُ لَهُ قَرَائِنُ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى فُتْيَاهُ وَالْحُكْمِ بِمُوجِبِهَا حُكِمَ بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وَإِنْ حُكِمَ بِخِلَافِهَا طَرَقَ الْخَصْمُ إلَى تُهْمَتِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ وَيُفْتِي بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ: أَنَا أَقْضِي لَكُمْ وَلَا أُفْتِي، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَ كَرَاهِيَةَ الْفَتْوَى فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: لِأَصْحَابِنَا فِي فَتْوَاهُ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ جَوَابَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّ لِكَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ مَجَالًا وَلِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ مَقَالًا، وَالثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لَهُ. [فُتْيَا الْحَاكِمِ وَحُكْمُهَا] [فُتْيَا الْحَاكِمِ وَحُكْمُهَا] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: (فُتْيَا الْحَاكِمِ لَيْسَتْ حُكْمًا مِنْهُ) ، وَلَوْ حَكَمَ غَيْرُهُ بِخِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ، وَلَا هِيَ كَالْحُكْمِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ وَمَنْ يَجُوزُ حُكْمُهُ لَهُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَدِيثِ هِنْدٍ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَفْتَاهَا فَتْوَى مُجَرَّدَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ، وَكَانَتْ مُرَاسَلَتُهُ وَإِحْضَارُهُ مُمْكِنَةً، وَلَا طَلَبَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ. [فَتَوَى الْمُفْتِي عَمَّا لَمْ يَقَعْ] [هَلْ يُجِيبُ الْمُفْتِي عَمَّا لَمْ يَقَعْ؟] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ تَقَعْ، فَهَلْ تُسْتَحَبُّ إجَابَتُهُ أَوْ تُكْرَهُ أَوْ تَخَيَّرَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا سَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَكَلَّفَ لَهُ الْجَوَابَ، وَإِلَّا قَالَ: دَعْنَا فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيهَا إمَامٌ. وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُكْرَهْ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةَ الْوُقُوعِ أَوْ مُقَدَّرَةً لَا تَقَعُ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهَا غَيْرَ نَادِرٍ وَلَا مُسْتَبْعَدٍ، وَغَرَضُ السَّائِلِ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهَا لِيَكُونَ مِنْهَا عَلَى بَصِيرَةٍ إذَا وَقَعَتْ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْجَوَابُ بِمَا يَعْلَمُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ السَّائِلُ يَتَفَقَّهُ بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُ بِهَا نَظَائِرَهَا، وَيَقْرَعُ عَلَيْهَا، فَحَيْثُ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْجَوَابِ رَاجِحَةً كَانَ هُوَ الْأَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَلِ] [لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَلِ] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ، فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ، وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ، فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَلْ اُسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً. «وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا إلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا آخَرَ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا» فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنْ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُ الْحِيَلِ مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ، أَوْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ النَّوْعَيْنِ مَا لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِجُمْلَتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [رُجُوع الْمُفْتِي عَنْ فَتْوَاهُ] [حُكْمُ رُجُوعِ الْمُفْتِي عَنْ فَتْوَاهُ] الْفَائِدَةُ الْأَرْبَعُونَ: فِي حُكْمِ رُجُوعِ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ، إذَا أَفْتَى الْمُفْتِي بِشَيْءٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَإِنْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتِي بِرُجُوعِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ فَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَعِنْدِي فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِمُجَرَّدِ رُجُوعِ الْمُفْتِي، بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَإِنْ أَفْتَاهُ بِمُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ أَفْتَاهُ بِمُوَافَقَةِ الثَّانِي، وَلَمْ يُفْتِهِ أَحَدٌ بِخِلَافِهِ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ سَأَلَهُ عَنْ رُجُوعِهِ عَمَّا أَفْتَاهُ بِهِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى اخْتِيَارٍ خِلَافَهُ مَعَ تَسْوِيغِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ لِخَطَأٍ بَانَ لَهُ وَأَنَّ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ صَوَابًا حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، هَذَا إذَا كَانَ رُجُوعُهُ لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ لِمُجَرَّدِ مَا بَانَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ مَذْهَبِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُسْتَفْتِي مَا أَفْتَاهُ بِهِ أَوَّلًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً. فَلَوْ تَزَوَّجَ بِفَتْوَاهُ وَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ الْمُفْتِي لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ إمْسَاكُ امْرَأَتِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا بِمُجَرَّدِ رُجُوعِهِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ إنَّمَا رَجَعَ لِكَوْنِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ مَذْهَبِهِ وَإِنْ وَافَقَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وُجُوبَ مُفَارَقَتِهَا عَلَيْهِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ، وَرَجَّحُوا وُجُوبَ الْمُفَارَقَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ فِي الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ. فَيُقَالُ لَهُمْ: الْمُسْتَفْتِي قَدْ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ دُخُولًا صَحِيحًا سَائِغًا، وَلَمْ يَفْهَمْ مَا يُوجِبُ مُفَارَقَتَهُ لَهَا مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا بِمُجَرَّدِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي، وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِنْ الَّذِينَ شَرَكَ بَيْنَهُمْ أَوَّلًا، وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مَا فَعَلَهُ الْمَأْمُومُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَيَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. بَلْ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَيُصَلِّي الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: " إذَا كَانَ الْمُفْتِي إنَّمَا يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا رَجَعَ لِكَوْنِهِ بَانَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ خَالَفَ فِي فَتْوَاهُ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي حَقِّهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي حَقِّ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ " فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَا تَقْتَضِيهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ نَصُّ إمَامِهِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الشَّارِعِ لَحَرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مُخَالَفَتُهُ وَفَسَقَ بِخِلَافِهِ. وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَقْضَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَا إبْطَالَ فَتْوَى الْمُفْتِي بِكَوْنِهِ خِلَافَ قَوْلِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ سَوَّغَ النَّقْضَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِهِ مَا خَالَفَ قَوْلَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، وَيُنْقَضُ مِنْ فَتْوَى الْمُفْتِي مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَكَيْف يَسُوغُ نَقْضُ أَحْكَامِ الْحُكَّامِ وَفَتَاوَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا خَالَفَتْ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؟ وَلَا سِيَّمَا إذَا وَافَقَتْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ يَسُوغُ نَقْضُهَا لِمُخَالَفَةِ قَوْلِ فُلَانٍ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ فَقِيهٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ خِلَافُهُ. فَإِذَا بَانَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ وَوَافَقَ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ وَيَخْرَبَ بَيْتَهُ وَيُشَتِّتَ شَمْلَهُ وَشَمْلَ أَوْلَادِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُفْتِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ نَصِّ إمَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " فَارِقْ أَهْلَكَ " بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الثَّلَاثَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَتَكَلَّفَ بَيَانَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي؟ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ، فَإِنَّهُ عَمِلَ أَوَّلًا بِمَا يَسُوغُ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ اسْتِمْرَارِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ قَدْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ، وَبَانَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِين أَفْتَى رَجُلًا بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ سَافَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، فَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ، وَطَلَبَ هَذَا الرَّجُلَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَكَمَا جَرَى لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْرِفْ الَّذِي أَفْتَاهُ بِهِ، فَاسْتَأْجَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ اُسْتُفْتِيَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ فَمَنْ كَانَ أَفْتَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ بِشَيْءٍ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ، ثُمَّ لَبِثَ أَيَّامًا لَا يُفْتِي حَتَّى جَاءَ صَاحِبُ الْفَتْوَى فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ مَا أَفْتَاهُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِفَايَتِهِ: مَنْ أَفْتَى بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا أَعْلَمَهُ. وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَطْعًا لِكَوْنِهِ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا أَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ فَعَلَيْهِ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ خَالَفَ مُجَرَّدَ مَذْهَبِهِ أَوْ نَصَّ إمَامِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ قِصَّةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا نَاظَرَ الصَّحَابَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، بَيَّنُوا لَهُ أَنَّ صَرِيحَ الْكِتَابِ يُحَرِّمُهَا لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَبْهَمَهَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَظَنَّ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى أُمَّهَاتِ الرَّبَائِبِ خَاصَّةً، فَعَرَفَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِحِلِّهَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [هَلْ يَضْمَنُ الْمُفْتِي الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ فِيمَا بَانَ خَطَؤُهُ] [هَلْ يَضْمَنُ الْمُفْتِي الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ؟] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (إذَا عَمِلَ الْمُسْتَفْتِي بِفُتْيَا مُفْتٍ فِي إتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ بَانَ خَطَؤُهُ) . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: يَضْمَنُ الْمُفْتِي إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى وَخَالَفَ الْقَاطِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ فِي اسْتِفْتَائِهِ وَتَقْلِيدِهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ فِي كِتَابِ: آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي " لَهُ، وَلَمْ أَعْرِفْ هَذَا لِأَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ حَكَى وَجْهًا آخَرَ فِي تَضْمِينِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ قَالَ: لِأَنَّهُ تَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ وَغَرَّ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بِتَصَدِّيهِ لِذَلِكَ. قُلْتُ: خَطَأُ الْمُفْتِي كَخَطَأِ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي خَطَأِ الْحَاكِمِ فِي النَّفْسِ أَوْ الطَّرَفِ، فَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ مِنْهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَلَوْ حَمَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ لَكَانَ ذَلِكَ إضْرَارًا عَظِيمًا بِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْخَطَأُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْمَالِ فَإِذَا حَكَمَ بِحَقٍّ ثُمَّ بَانَ كُفْرُ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقُهُمْ نَقَضَ حُكْمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِبَدَلِ الْمَالِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بِقَوَدٍ رَجَعَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِبَدَلِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الْحُكْمُ بِحَقِّ اللَّهِ بِإِتْلَافٍ مُبَاشِرٍ أَوْ بِالسِّرَايَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا وَجَبَ بِتَزْكِيَتِهِمْ، وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَثَبَّتْ، بَلْ فَرَّطَ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْحُكْمِ وَتَرَكَ الْبَحْثَ وَالسُّؤَالَ، وَالثَّالِثُ: أَنْ لِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْجَئُوا الْحَاكِمَ إلَى الْحُكْمِ، فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَزْكِيَةٌ فَعَلَى الْحَاكِمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِفِسْقِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ. وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَفْتَى الْإِمَامُ أَوْ الْوَالِي مُفْتِيًا فَأَفْتَاهُ ثُمَّ بَانَ لَهُ خَطَؤُهُ فَحُكْمُ الْمُفْتِي مَعَ الْإِمَامِ حُكْمُ الْمُزَكِّينَ مَعَ الْحَاكِمِ، وَإِنْ عَمِلَ الْمُسْتَفْتِي بِفَتْوَاهُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ وَلَا إمَامٍ فَأَتْلَفَ نَفْسًا أَوْ مَالًا: فَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي أَهْلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا عُرِفَ مِنْهُ طِبٌّ وَأَخْطَأَ لَمْ يَضْمَنْ، وَالْمُفْتِي أَوْلَى بِعَدَمِ الضَّمَانِ مِنْ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَبُولِ فَتْوَاهُ وَرَدِّهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا يَلْزَمُ، بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ، وَأَمَّا خَطَأُ الشَّاهِدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا شُهُودًا بِمَالٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ قَوَدٍ، فَإِنْ بَانَ خَطَؤُهُمْ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَقَبْلَ اسْتِيفَائِهِ لَمْ يُسْتَوْفَ قَطْعًا، وَإِنْ بَانَ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ مَا تَلِفَ، وَيَتَقَسَّطُ الْغُرْمُ عَلَى عَدَدِهِمْ وَإِنْ بَانَ خَطَؤُهُمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْمَالِ لَغَتْ شَهَادَتُهُمْ وَلَمْ يَضْمَنُوا، وَإِنْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ نَقْضُ حُكْمِهِ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِمَوْتِ رَجُلٍ بِاسْتِفَاضَةٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِقَسْمِ مِيرَاثِهِ ثُمَّ بَانَتْ حَيَاتُهُ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ، وَإِنْ بَانَ خَطَؤُهُمْ فِي شَهَادَةِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِمْ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ طَلَّقَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَظَهَرَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ مَحْبُوسًا لَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا لَوْ بَانَ كُفْرُهُمْ أَوْ فِسْقُهُمْ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ إلَى الزَّوْجِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالُوا: " رَجَعْنَا عَنْ الشَّهَادَةِ " فَإِنَّ رُجُوعَهُمْ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنُوا نِصْفَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُمْ قَرَّرُوهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَعُودُ إلَيْهِ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِالْفُرْقَةِ، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَغْرَمُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِالدُّخُولِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عِوَضُهَا، وَالثَّانِيَةُ: يَغْرَمُونَ الْمُسَمَّى كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَيْهِ الْبُضْعَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَأَصْلُهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ هَلْ هُوَ مُتَقَوِّمٌ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا شُهُودُ الْعِتْقِ فَإِنْ بَانَ خَطَؤُهُمْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا عِتْقَ، وَإِنْ قَالُوا: رَجَعْنَا غَرِمُوا لِلسَّيِّدِ قِيمَةَ الْعَبْدِ. [أَحْوَالٌ لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا] [أَحْوَالٌ لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْفَتْوَى فِي حَالِ غَضَبٍ شَدِيدٍ أَوْ جُوعٍ مُفْرِطٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 أَوْ هَمٍّ مُقْلِقٍ أَوْ خَوْفٍ مُزْعِجٍ أَوْ نُعَاسٍ غَالِبٍ أَوْ شُغْلِ قَلْبٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ أَوْ حَالِ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، بَلْ مَتَى أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حَالِ اعْتِدَالِهِ وَكَمَالِ تَثَبُّتِهِ وَتَبَيُّنِهِ أَمْسَكَ عَنْ الْفَتْوَى، فَإِنْ أَفْتَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالصَّوَابِ صَحَّتْ فُتْيَاهُ. وَلَوْ حَكَمَ فِي مِثَالِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَوْ لَا يَنْفُذُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: النُّفُوذُ، وَعَدَمُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ الْغَضَبُ بَعْدَ فَهْمِ الْحُكُومَةِ فَيَنْفُذَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى فَهْمِ الْحُكُومَةِ فَلَا يَنْفُذَ، وَالثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. [عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْعُرْفِ فِي مَسَائِلَ] [عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْعُرْفِ فِي مَسَائِلَ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَيْمَانِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ بِمَا اعْتَادَهُ هُوَ مِنْ فَهْمِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ عُرْفَ أَهْلِهَا وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا فَيَحْمِلَهَا عَلَى مَا اعْتَادُوهُ وَعَرَفُوهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِحَقَائِقِهَا الْأَصْلِيَّةِ، فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ضَلَّ وَأَضَلَّ؛ فَلَفْظُ الدِّينَارِ عِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشْرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ عِنْدَ غَالِبِ الْبِلَادِ الْيَوْمَ اسْمٌ لِلْمَغْشُوشِ، فَإِذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ إيَّاهَا أَوْ أَصْدَقَهَا امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُفْتِي وَلَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالْخَالِصَةِ، فَلَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ إنَّمَا يَعْرِفُونَ الْخَالِصَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْمَغْشُوشَةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَلَوْ جَرَى عُرْفُ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ طَائِفَةٍ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لَفْظَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعِفَّةِ دُونَ الْعِتْقِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَمْلُوكِهِ: " إنَّهُ حُرٌّ " أَوْ عَنْ جَارِيَتِهِ: " إنَّهَا حُرَّةٌ "، وَعَادَتُهُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي الْعِفَّةِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهَا لَمْ يُعْتَقْ بِذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا عِنْدَ مَنْ أَلِفَ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ إذَا جَرَى عُرْفُ طَائِفَةٍ فِي الطَّلَاقِ بِلَفْظِ التَّسْمِيحِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُونَ لِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرَهُ، فَإِذَا قَالَتْ: " اسْمَحْ لِي " فَقَالَ: " سَمَحْتُ لَكَ " فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُشَبَّعًا وَأَنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقْبَلَ تَفْسِيرُ مَنْ قَالَ: " لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ جَلِيلٌ، أَوْ عَظِيمٌ " بِدَانَقٍ أَوْ دِرْهَمٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ الْمُكْثِرِينَ أَوْ الْمُلُوكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِقَوْسٍ فِي مَحَلَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا أَقْوَاسَ الْبُنْدُقِ أَوْ الْأَقْوَاسَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ أَقْوَاسَ الرَّجُلِ، أَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ الرَّيْحَانَ فِي مَحَلٍّ لَا يَعْرِفُونَ الرَّيْحَانَ إلَّا هَذَا الْفَارِسِيَّ، أَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فِي مَوْضِعِ عُرْفِهِمْ بِلَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارِ أَوْ الْفَرَسِ، أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ ثَمَرًا فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي الثِّمَارِ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي الثِّيَابِ الْقُمُصُ وَحْدَهَا دُونَ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ وَالْجِبَابِ وَنَحْوِهَا، تَقَيَّدَتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَاخْتَصَّتْ بِعُرْفِهِ دُونَ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ لُغَةً أَوْ فِي عُرْفِ غَيْرِهِ، بَلْ لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا الَّذِي لَا يَعْرِفُ التَّكَلُّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 يَفْهَمُهَا: " قُلْ لِي: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا "، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْضُوعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَقَالَ لَهَا، لَمْ تَطْلُقُ قَطْعًا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: " أَنَا عَبْدُكَ وَمَمْلُوكُكَ " عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ النَّاسُ لَمْ يَسْتَبِحْ مِلْكَ رَقَبَتِهِ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ الْعُرْفَ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ بَيْعُ هَذَا الْقَائِلِ وَمِلْكُ رَقَبَتِهِ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ. [لَا يُعِينُ الْمُفْتِي عَلَى التَّحَايُلِ وَلَا عَلَى الْمَكْرِ] [لَا يُعِينُ الْمُفْتِي عَلَى التَّحَايُلِ وَلَا عَلَى الْمَكْرِ] وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ يَقَعُ فِيهِ الْمُفْتِي الْجَاهِلُ، فَيَغُرُّ النَّاسَ، وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُغَيِّرُ دِينَهُ، وَيُحَرِّمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَيُوجِبُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَتْهُ مَسْأَلَةٌ فِيهَا تَحَيُّلٌ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَوْ تَحْلِيلُ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرٌ أَوْ خِدَاعٌ أَنْ يُعِينَ الْمُسْتَفْتِيَ فِيهَا) ، وَيُرْشِدَهُ إلَى مَطْلُوبِهِ، أَوْ يُفْتِيَهُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودِهِ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ، بَلْ يَكُونُ حَذِرًا فَطِنًا فَقِيهًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَأُمُورِهِمْ، يُوَازِرُهُ فِقْهُهُ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأَزَاغَ، وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ ظَاهِرُهَا ظَاهِرٌ جَمِيلٌ، وَبَاطِنُهَا مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَظُلْمٌ؟ فَالْغِرُّ يَنْظُرُ إلَى ظَاهِرِهَا وَيَقْضِي بِجَوَازِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يَنْقُدُ مَقْصِدَهَا وَبَاطِنَهَا؛ فَالْأَوَّلُ يُرَوِّجُ عَلَيْهِ زَغْلُ الْمَسَائِلِ كَمَا يُرَوِّجُ عَلَى الْجَاهِلِ بِالنَّقْدِ زَغْلُ الدَّرَاهِمِ، وَالثَّانِي يُخْرِجُ زَيْفَهَا كَمَا يُخْرِجُ النَّاقِدُ زَيْفَ النُّقُودِ. وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ وَإِبْرَازِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ؟ وَكَمْ مِنْ حَقٍّ يُخْرِجُهُ بِتَهْجِينِهِ وَسُوءِ تَعْبِيرِهِ فِي صُورَةِ بَاطِلٍ؟ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى فِطْنَةٍ وَخِبْرَةٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِكَثْرَتِهِ وَشُهْرَتِهِ يُسْتَغْنَى عَنْ الْأَمْثِلَةِ. بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةَ وَالْبِدَعَ كُلَّهَا وَجَدَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُهَا فِي قَوَالِبَ مُسْتَحْسَنَةٍ وَكَسَوْهَا أَلْفَاظًا بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهَا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: تَقُولُ هَذَا جَنَاءُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا ... وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ وَرَأَى بَعْضُ الْمُلُوكِ كَأَنَّ أَسْنَانَهُ قَدْ سَقَطَتْ، فَعَبَّرَهَا لَهُ مُعَبِّرٌ بِمَوْتِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، فَأَقْصَاهُ وَطَرَدَهُ، وَاسْتَدْعَى آخَرَ فَقَالَ لَهُ: لَا عَلَيْكَ، تَكُونُ أَطْوَلَ أَهْلِكَ عُمْرًا، فَأَعْطَاهُ وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، فَاسْتَوْفَى الْمَعْنَى، وَغَيَّرَ لَهُ الْعِبَارَةَ، وَأَخْرَجَ الْمَعْنَى فِي قَالِبٍ حَسَنٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَا يُعِينُ عَلَيْهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ فَيُضَادُّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَرْبَابِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» وَقَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهَ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَقَالَ: «الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ، طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ، طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ؟ وَفِي لَفْظٍ: خَلَعْتُكِ رَاجَعْتُكِ خَلَعْتُكِ رَاجَعْتُكِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ الْمَكْرُ وَالْبَغْيُ وَالنَّكْثُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعَهَا هَؤُلَاءِ، عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ فَاحْتَالُوا فِي نَقْضِهَا أَتَوْا إلَى الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ فَاحْتَالُوا فِيهِ حَتَّى حَلَّلُوهُ، وَقَالَ: مَا أَخْبَثَهُمْ، - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ - يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ. وَقَالَ: إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهَا فَقَدْ صَارَ إلَى الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 [حُكْمُ أَخْذِ الْمُفْتِي أُجْرَةً أَوْ هَدِيَّةً] ً] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالرِّزْقِ عَلَى الْفَتْوَى، فِيهِ ثَلَاثُ صُوَرٍ مُخْتَلِفَةُ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ. فَأَمَّا أَخْذُهُ الْأُجْرَةَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفُتْيَا مَنْصِبُ تَبْلِيغٍ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَا أُعَلِّمُكَ الْإِسْلَامَ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الصَّلَاةَ إلَّا بِأُجْرَةٍ، أَوْ سُئِلَ عَنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: لَا أُجِيبُكَ عَنْهُ إلَّا بِأُجْرَةٍ، فَهَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْعِوَضِ، وَلَا يَمْلِكُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ أَجَابَ بِالْخَطِّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ: لَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ خَطِّي إلَّا بِأُجْرَةٍ، وَلَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةِ النَّاسِخِ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ عَلَى خَطِّهِ، وَلَا عَلَى جَوَابِهِ، وَخَطُّهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى جَوَابِهِ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ مَجَّانًا لِلَّهِ بِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْوَرَقُ وَلَا الْحِبْرُ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْفَتْوَى كَمَنْ عَادَتُهُ يُهَادِيهِ أَوْ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مُفْتٍ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُكَافِئَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الْفَتْوَى، فَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا إلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُهْدِي لَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ عِنْدَهُ فِي الْفُتْيَا، بَلْ يُفْتِيهِ بِمَا يُفْتِي بِهِ النَّاسُ، كَرِهَ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْإِفْتَاءِ. وَأَمَّا أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا فَرْعٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ عَامِلِ الزَّكَاةِ وَعَامِلِ الْيَتِيمِ، فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِعَامِلِ الزَّكَاةِ قَالَ: النَّفْعُ فِيهِ عَامٌّ، فَلَهُ الْأَخْذُ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِعَامِلِ الْيَتِيمِ مَنَعَهُ مِنْ الْأَخْذِ، وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُفْتِي، بَلْ الْقَاضِي أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَا يَصْنَعُ الْمُفْتِي إذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ مُسْتَنَدَهَا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ اجْتِهَادِهِ أَفْتَى بِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اجْتِهَادٍ، وَإِنْ ذَكَرَهَا وَنَسِيَ مُسْتَنِدَهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا دُونَ تَجْدِيدِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْزَمَهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَظُهُورِ مَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَا يُغَيِّرُ اجْتِهَادَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُهُ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُهُ مَعَ نَفْسِهِ فَادِحًا فِي عِلْمِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا خَرَجَ عَنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَأَكْثَرُ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حَضَرْتُ عَقْدَ مَجْلِسٍ عِنْدَ نَائِبِ السُّلْطَانِ فِي وَقْفٍ أَفْتَى فِيهِ قَاضِي الْبَلَدِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَقَرَأَ جَوَابَهُ الْمُوَافِقَ لِلْحَقِّ، فَأَخْرَجَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: هَذَا جَوَابُكَ بِضِدِّ هَذَا فَكَيْفَ تَكْتُبُ جَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَوَجَمَ الْحَاكِمُ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، أَفْتَى أَوَّلًا بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَرَجَعَ إلَيْهِ، كَمَا يُفْتِي إمَامُهُ بِقَوْلٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ وَلَا دِينِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ، فُسِّرَ بِذَلِكَ وَسُرِّيَ عَنْهُ. [كُلُّ الْأَئِمَّةِ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَدِيثِ وَمَتَى صَحَّ فَهُوَ مَذْهَبُهُمْ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَوُا مَا قُلْتُهُ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْتُ أَنَا قَوْلًا فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْ قَوْلِي وَقَائِلٌ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ " وَقَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَقَوْلُهُ: " إذَا رَوَيْتُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ أَذْهَبْ إلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرِيحٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَأَنَّ مَذْهَبَهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، لَا قَوْلَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مَا خَالَفَ الْحَدِيثَ وَيُقَالُ: " هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا الْحُكْمُ بِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَتْبَاعِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلْقَارِئِ إذَا قَرَأَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً مِنْ كَلَامِهِ: قَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِخِلَافِهَا، اضْرِبْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَيْسَتْ مَذْهَبَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا نَصَّ عَلَيْهِ وَأَبْدَى فِيهِ وَأَعَادَ وَصَرَّحَ فِيهِ بِأَلْفَاظٍ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي مَدْلُولِهَا؟ فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ وَقَوْلَهُ الَّذِي لَا قَوْلَ لَهُ سَوَاءٌ مَا وَافَقَ الْحَدِيثَ، دُونَ مَا خَالَفَهُ وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَهُ فَقَدْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَ مَذْهَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَهُ لِضَعْفٍ فِي سَنَدِهِ أَوْ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْحَدِيثِ سَنَدٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَصَحَّحَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ تَبْلُغْهُ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ عَالِمٌ وَلَا يُمَارِي فِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ قَطْعًا، وَهَذَا كَمَسْأَلَةِ الْجَوَائِحِ؛ فَإِنَّهُ عَلَّلَ حَدِيثَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 صَحَّ الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ سُفْيَانَ صِحَّةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا وَلَا عِلَّةَ وَلَا شُبْهَةَ بِوَجْهٍ؛ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَضْعُ الْجَوَائِحِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَأَنَّ أَكْلَ لُحُومِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ، وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إذَا صَلَّى إمَامُهُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ، وَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَذْهَبِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ رَوَاهُ وَعَرَفَ صِحَّتَهُ، وَلَكِنْ خَالَفَهُ، لِاعْتِقَادِهِ نَسْخَهُ. وَهَذَا شَيْءٌ وَذَاكَ شَيْءٌ، فَفِي هَذَا الْقِسْمِ يَقَعُ النَّظَرُ فِي النَّسْخِ وَعَدَمِهِ، وَفِي الْأَوَّلِ يَقَعُ النَّظَرُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَثِقَةِ السَّنَدِ، فَاعْرِفْهُ. [هَلْ تَجُوزُ الْفُتْيَا لِمَنْ عِنْدَهُ كُتُبُ الْحَدِيثِ] [هَلْ تَجُوزُ الْفُتْيَا لِمَنْ عِنْدَهُ كُتُبُ الْحَدِيثِ؟] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ الصَّحِيحَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِتَابٌ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْثُوقٌ بِمَا فِيهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يَجِدُهُ فِيهِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون مَنْسُوخًا، أَوْ لَهُ مُعَارِضٌ، أَوْ يَفْهَمُ مِنْ دَلَالَتِهِ خِلَافَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ أَمْرَ نَدْبٍ فَيَفْهَمُ مِنْهُ الْإِيجَابَ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا لَهُ مُخَصِّصٌ، أَوْ مُطْلَقًا لَهُ مُقَيِّدٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ وَلَا الْفُتْيَا بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَيُفْتِيَ بِهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ، إذَا بَلَغَهُمْ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَادَرُوا إلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضٍ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ: هَلْ عَمِلَ بِهَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ لَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ بِحَالِ الْقَوْمِ وَسِيرَتِهِمْ، وَطُولُ الْعَهْدِ بِالسُّنَّةِ وَبُعْدُ الزَّمَانِ وَعِتْقُهَا لَا يُسَوِّغُ تَرْكَ الْأَخْذِ بِهَا وَالْعَمَلَ بِغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا حَتَّى يَعْمَلَ بِهَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ لَكَانَ قَوْلُ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ عِيَارًا عَلَى السُّنَنِ، وَمُزَكِّيًا لَهَا، وَشَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَّةَ بِرَسُولِهِ دُونَ آحَادِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ سُنَّتِهِ، وَدَعَا لِمَنْ بَلَّغَهَا؛ فَلَوْ كَانَ مَنْ بَلَغَتْهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا حَتَّى يَعْمَلَ بِهَا الْإِمَامُ فُلَانٌ، وَالْإِمَامُ فُلَانٌ لَمْ يَكُنْ فِي تَبْلِيغِهَا فَائِدَةٌ، وَحَصَلَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. قَالُوا: وَالنَّسْخُ الْوَاقِعُ فِي الْأَحَادِيثِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ لَا يَبْلُغُ عَشْرَةَ أَحَادِيثَ أَلْبَتَّةَ بَلْ وَلَا شَطْرَهَا؛ فَتَقْدِيرُ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَنْسُوخِ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِي تَقْلِيدِ مَنْ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَقُولُ الْقَوْلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وَيَرْجِعُ عَنْهُ، وَيَحْكِي عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ، وَوُقُوعُ الْخَطَأِ فِي فَهْمِ كَلَامِ الْمَعْصُومِ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِي فَهْمِ كَلَامِ الْفَقِيهِ الْمُعَيَّنِ؛ فَلَا يُفْرَضُ احْتِمَالُ خَطَأٍ لِمَنْ عَمِلَ بِالْحَدِيثِ وَأَفْتَى بِهِ إلَّا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ حَاصِلٌ لِمَنْ أَفْتَى بِتَقْلِيدِ مَنْ لَا يُعْلَمُ خَطَؤُهُ مِنْ صَوَابِهِ. وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ؛ فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ ظَاهِرَةً بَيِّنَةً لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُرَادِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، وَيُفْتِيَ بِهِ، وَلَا يُطْلَبُ لَهُ التَّزْكِيَةُ مِنْ قَوْلِ فَقِيهٍ أَوْ إمَامٍ، بَلْ الْحُجَّةُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ خَفِيَّةً لَا يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ، وَلَا يُفْتِيَ بِمَا يَتَوَهَّمُهُ مُرَادًا حَتَّى يَسْأَلَ وَيَطْلُبَ بَيَانَ الْحَدِيثِ وَوَجْهَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً كَالْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ، وَالْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالنَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ فَهَلْ لَهُ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى بِهِ؟ يَخْرُجُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالظَّوَاهِرِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: الْجَوَازُ، وَالْمَنْعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِّ [وَالْخَاصِّ] فَلَا يُعْمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَيُعْمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ ثَمَّ نَوْعُ أَهْلِيَّةٍ وَلَكِنَّهُ قَاصِرٌ فِي مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ وَقَوَاعِدِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ أَهْلِيَّةٌ قَطُّ فَفَرْضُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» وَإِذَا جَازَ اعْتِمَادُ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْمُفْتِي مِنْ كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِ شَيْخِهِ وَإِنْ عَلَا وَصَعِدَ فَمِنْ كَلَامِ إمَامِهِ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ اعْتِمَادُ الرَّجُلِ عَلَى مَا كَتَبَهُ الثِّقَاتُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ الْحَدِيثَ كَمَا لَوْ لَمْ يَفْهَمْ فَتْوَى الْمُفْتِي فَيَسْأَلُ مَنْ يُعَرِّفُهُ مَعْنَاهُ، كَمَا يَسْأَلُ مَنْ يُعَرِّفُهُ مَعْنَى جَوَابِ الْمُفْتِي، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَتَوَى الْمُفْتِي الْمُقَلَّد بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ] [هَلْ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ؟] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (هَلْ لِلْمُنْتَسِبِ إلَى تَقْلِيدِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ) ؟ لَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ فَقَطْ فَيُقَالَ لَهُ: مَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا فِي كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ يُسْأَلَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ؛ فَإِنْ سُئِلَ عَنْ مَذْهَبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِغَيْرِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ السَّائِلُ قَوْلَ فَقِيهٍ مُعَيَّنٍ؛ فَهَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ بِمَا هُوَ رَاجِحٌ عِنْدَهُ وَأَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفَهُ، لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 يَتَمَكَّنْ مِنْهُ وَخَافَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى تَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ؛ فَكَيْفَ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ؟ وَلَا يَسَعُ الْحَاكِمَ وَالْمُفْتِيَ غَيْرُ هَذَا أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمَا عَنْ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، لَا عَنْ الْإِمَامِ الْمُعَيَّنِ وَمَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ وَيَوْمَ مَعَادِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَيُقَالُ لَهُ فِي قَبْرِهِ: مَا كُنْتُ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] وَلَا يُسْأَلُ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ إمَامٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مَتْبُوعٍ غَيْرِهِ، بَلْ يُسْأَلُ عَمَّنْ اتَّبَعَهُ وَائْتَمَّ بِهِ غَيْرُهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يُجِيبُ؟ وَلْيُعِدَّ لِلْجَوَابِ صَوَابًا. وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: جَاءَنِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: أَسْتَشِيرُكَ فِي أَمْرٍ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَنْتَقِلَ عَنْ مَذْهَبِي، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنِّي أَرَى الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ كَثِيرًا تُخَالِفُهُ، وَاسْتَشَرْتُ فِي هَذَا بَعْضَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لِي: لَوْ رَجَعَتْ عَنْ مَذْهَبِكَ لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْمَذَاهِبُ، وَرُجُوعُكَ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَأَشَارَ عَلَيَّ بَعْضُ مَشَايِخِ التَّصَوُّفِ بِالِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ وَسُؤَالِ الْهِدَايَةِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَمَاذَا تُشِيرُ بِهِ أَنْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: اجْعَلْ الْمَذْهَبَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ الْحَقُّ فِيهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاقْضِ بِهِ وَأَفْتِ بِهِ طَيِّبَ النَّفْسِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ، وَقِسْمٌ مَرْجُوحٌ وَمُخَالِفُهُ مَعَهُ الدَّلِيلُ فَلَا تُفْتِ بِهِ وَلَا تَحْكُمْ بِهِ وَادْفَعْهُ عَنْكَ، وَقِسْمٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي الْأَدِلَّةُ فِيهَا مُتَجَاذِبَةٌ؛ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُفْتِيَ بِهِ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْكَ، فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ -: مَنْ وَجَدَ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَإِنْ كَمُلَتْ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ آلَتُهُ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عِنْدَهُ جَوَابًا شَافِيًا فَلْيَنْظُرْ: هَلْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِهِ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَتَوَى الْمُفْتِي بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا تَرَجَّحَ فِي نَظَّرَهُ] [إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُفْتِي مَذْهَبٌ غَيْرُ مَذْهَبِ إمَامِهِ، فَهَلْ يُفْتِي بِهِ؟] الْفَائِدَةُ الْخَمْسُونَ: (هَلْ لِلْمُفْتِي الْمُنْتَسِبِ إلَى مَذْهَبِ إمَامِ بِعَيْنِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ) ؟ فَإِنْ كَانَ سَالِكًا سَبِيلَ ذَلِكَ الْإِمَامِ فِي الِاجْتِهَادِ وَمُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ - وَهَذَا هُوَ الْمُتَّبَعُ لِلْإِمَامِ حَقِيقَةً - فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 مُتَقَيِّدًا بِأَقْوَالِ ذَلِكَ الْإِمَامِ لَا يَعْدُوهَا إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ قَوْلِ إمَامِهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ حَكَاهُ عَنْ قَائِلِهِ حِكَايَةً مَحْضَةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَوْلُ غَيْرِ إمَامِهِ بِدَلِيلٍ رَاجِحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَمَتَى قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا مَرْجُوحًا فَأُصُولُهُ تَرُدُّهُ وَتَقْتَضِي الْقَوْلَ الرَّاجِحَ، فَكُلُّ قَوْلٍ صَحِيحٍ فَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى قَوَاعِدِ الْأَئِمَّةِ بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِذَا تَبَيَّنَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ وَصِحَّةُ مَأْخَذِهِ خَرَجَ عَلَى قَوَاعِدِ إمَامِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ أَدَّى اجْتِهَادِي إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْتُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَا، لَكِنِّي أَقُولُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ إنَّمَا يَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ أُعَرِّفَهُ أَنَّ الَّذِي أَفْتَيْتُهُ بِهِ غَيْرُ مَذْهَبِهِ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَكْثَرُ الْمُسْتَفْتِينَ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ عَنْ حُكْمِهَا وَمَا يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا، فَلَا يَسَعُ الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا يَعْتَقِدُ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ. [إذَا تَسَاوَى عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ فَمَاذَا يَصْنَعُ] [إذَا تَسَاوَى عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ فَمَاذَا يَصْنَعُ؟] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: (إذَا اعْتَدَلَ عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ لَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ) ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: بَلْ يُخَيِّرُ الْمُسْتَفْتِيَ فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفْتِي بِمَا يَرَاهُ، وَاَلَّذِي يَرَاهُ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَقِيلَ: بَلْ يُفْتِيهِ بِالْأَحْوَطِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ، وَلَا يُفْتِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ الطَّبِيبِ فِي أَمْرِ الْمَرِيضِ أَمْرَانِ خَطَأٌ وَصَوَابٌ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يُخَيِّرَهُ، وَكَمَا لَوْ اسْتَشَارَهُ فِي أَمْرٍ فَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشِيرَ بِأَحَدِهِمَا وَلَا يُخَيِّرَهُ، وَكَمَا لَوْ تَعَارَضَ عِنْدَهُ طَرِيقَانِ مُهْلِكَةٌ وَمُوَصِّلَةٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ طَرِيقُ الصَّوَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِقْدَامُ وَلَا التَّخْيِيرُ، فَمَسَائِلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْلَى بِالتَّوَقُّفِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [هَلْ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْقَوْلِ الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ إمَامُهُ] [هَلْ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْقَوْلِ الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ إمَامُهُ؟] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: (أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ يُفْتُونَ كَثِيرًا بِأَقْوَالِهِمْ الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعُوا عَنْهَا) ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ؛ فَالْحَنَفِيَّةُ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الْمَنْذُورَاتِ الَّتِي مَخْرَجُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 مَخْرَجُ الْيَمِينِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ حَكَوْا هُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَى التَّكْفِيرِ، وَالْحَنَابِلَةُ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ إلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُفْتُونَ بِالْقَوْلِ الْقَدِيمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ، وَامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَمَسْأَلَةِ التَّبَاعُدِ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَعَدَمِ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ مَسْأَلَةً، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ مَذْهَبًا لَهُ، فَإِذَا أَفْتَى الْمُفْتِي بِهِ مَعَ نَصِّهِ عَلَى خِلَافِهِ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبِهِ، فَمَا الَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ: الْأَوَّلُ قَدْ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ مَرَّةً، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ قَطُّ. قِيلَ: هَذَا فَرْقٌ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ؛ إذْ مَا قَالَ بِهِ وَصَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ بِمَنْزِلِهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ الَّذِي يَهْجُرُونَ لِأَجْلِهِ قَوْلَ كُلِّ مَنْ خَالَفَ مَنْ قَلَّدُوهُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ذَمِيمَةٌ وَخَيْمَةٌ، حَادِثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، مُسْتَلْزِمَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَطَأِ، وَمُخَالِفَةٌ الصَّوَابَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَتَوَى الْمُفْتِي بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ] [لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ: (يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِضِدِّ لَفْظِ النَّصِّ، وَإِنْ وَافَقَ مَذْهَبَهُ) . وَمِثَالُهُ: أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، هَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَيَقُولَ: لَا يُتِمُّهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّنْ مَاتَ عَلَيْهِ صِيَامٌ: هَلْ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ؟ فَيَقُولَ: لَا يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، هَلْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ؟ فَيَقُولَ: لَيْسَ أَحَقَّ بِهِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، هَلْ يُتِمُّ صَوْمَهُ؟ فَيَقُولَ: لَا يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ فَيَقُولَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الرَّجُلِ: هَلْ لَهُ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ غَرْزِ خَشَبَةٍ فِي جِدَارِهِ؟ فَيَقُولَ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ " لَا يَمْنَعُهُ ". وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ تَجْزِي صَلَاةُ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ؟ فَيَقُولَ: تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» . أَوْ يُسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ: هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ؟ وَهَلْ هُوَ جَوْرٌ [أَمْ لَا؟] فَيَقُولَ: يَصِحُّ، وَلَيْسَ بِجَوْرٍ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: " إنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ " وَيَقُولُ: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْوَاهِبِ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ [أَنْ يَرْجِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا أَوْ قَرَابَةً فَلَا يَرْجِعُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ: هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ قَبْلَ إعْلَامِ شَرِيكِهِ بِالْبَيْعِ وَعَرْضُهَا عَلَيْهِ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ إعْلَامِهِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَيَقُولَ: نَعَمْ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَهَلْ الزَّرْعُ لَهُ أَمْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؟ فَيَقُولَ: الزَّرْعُ لَهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ؟ فَيَقُولَ: لَا يَصِحُّ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ يَحِلُّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؟ فَيَقُولُ: لَا يَجُوزُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ «قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى: هَلْ هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَمْ لَا؟ فَيَقُولُ: لَيْسَتْ الْعَصْرَ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: هَلْ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ أَمْ لَا؟ فَيَقُولَ: لَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَيَقُولَ: لَا يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا خَشِيَتْ الصُّبْحَ فَأُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ: هَلْ يُسْجَدُ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فَيَقُولَ: لَا يُسْجَدُ فِيهِمَا، وَقَدْ سَجَدَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَهَا مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ، فَيَقُولَ: لَهُ دِيَتُهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا دِيَةَ لَهُ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ فَخَذَفَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ: هَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةُ عَيْنِهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً، فَهَلْ لَهُ رَدُّهَا وَرَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ مَعَهَا أَمْ لَا؟ فَيَقُولَ: لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا وَرَدُّ الصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ مَعَهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الزَّانِي الْبِكْرِ: هَلْ عَلَيْهِ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبٌ؟ فَيَقُولَ: لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ: هَلْ فِيهَا زَكَاةٌ؟ فَيَقُولَ: يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ» . أَوْ يُسْأَلَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ: هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَيَقُولَ: نِكَاحُهَا صَحِيحٌ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «فَنِكَاحُهَا، بَاطِلٌ، بَاطِلٌ، بَاطِلٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ: هَلْ يَسْتَحِقَّانِ اللَّعْنَةَ؟ فَيَقُولَ: لَا يَسْتَحِقَّانِ اللَّعْنَةَ، «وَقَدْ لَعَنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ وَجْهٍ» . أَوْ يُسْأَلَ: هَلْ يَجُوزُ إكْمَالُ شَعْبَانِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلَةَ الْإِغْمَاءِ، فَيَقُولَ: لَا يَجُوزُ إكْمَالُهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ الْمَبْتُوتَةِ: هَلْ لَهَا نَفَقَةٌ وَسُكْنَى؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى» . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْإِمَامِ: هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَتَيْنِ؟ فَيَقُولَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَقَدْ رَوَى خَمْسَةَ عَشْرَ نَفْسًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . أَوْ يُسْأَلَ عَمَّنْ رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ عَنْهُ: هَلْ صَلَاتُهُ مَكْرُوهَةٌ أَوْ [هِيَ] نَاقِصَةٌ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ تُكْرَهُ صَلَاتُهُ أَوْ هِيَ نَاقِصَةٌ، وَرُبَّمَا غَلَا فَقَالَ: بَاطِلَةٌ، وَقَدْ رَوَى بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، عِنْدَ الِافْتِتَاحِ، وَعِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ» بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا. أَوْ يُسْأَلَ عَنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ: هَلْ يَجْزِي فِيهِ الرَّشُّ [أَمْ يَجِبُ الْغُسْلُ] ؟ فَيَقُولَ: لَا يَجْزِي [فِيهِ الرَّشُّ] وَصَاحِبُ الشَّرْعِ «يَقُولُ: يُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» وَرَشُّهُ [هُوَ] بِنَفْسِهِ. أَوْ يُسْأَلَ عَنْ التَّيَمُّمِ: هَلْ يَكْفِي بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ إلَى الْكُوعَيْنِ، فَيَقُولَ: لَا يَكْفِي وَلَا يُجْزِئُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي نَصًّا صَحِيحًا لَا مَدْفَعَ لَهُ. أَوْ يُسْأَلَ عَنْ بَيْعِ الرَّطْبِ بِالتَّمْرِ: هَلْ يَجُوزُ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ [يَجُوزُ] ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُسْأَلَ عَنْهُ فَيَقُولُ: «لَا آذَنُ» . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَعْتَقَ سِتَّةَ عَبِيدٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ: هَلْ تَكْمُلُ الْحُرِّيَّةُ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهُ؟ فَيَقُولَ: لَا تَكْمُلُ الْحُرِّيَّةُ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، «وَقَدْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَمَّلَ الْحُرِّيَّةَ فِي اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً.» أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْقُرْعَةِ: هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ بَاطِلَةٌ؟ فَيَقُولَ: لَا، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَ بِالْقُرْعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ: هَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَمْ لَا [صَلَاةَ] لَهُ؟ وَهَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ لَهُ صَلَاةٌ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ: «لَا صَلَاةَ لَهُ» وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ. أَوْ يُسْأَلَ: هَلْ لِلرَّجُلِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟ فَيَقُولَ: نَعَمْ لَهُ رُخْصَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَسَلَفَ رَجُلًا مَالَهُ وَبَاعَهُ سِلْعَةً: هَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ؟ فَيَقُولَ نَعَمْ يَحِلُّ ذَلِكَ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ» . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَلَا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وَأَمْثَالُهَا، فَدُفِعْنَا إلَى زَمَانٍ إذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ " ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا " يَقُولُ: مَنْ قَالَ بِهَذَا؟ وَيَجْعَلُ هَذَا دَفْعًا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، أَوْ يَجْعَلُ جَهْلَهُ بِالْقَائِلِ [بِهِ] حُجَّةً لَهُ فِي مُخَالَفَتِهِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي جَهْلِهِ؛ إذْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ تِلْكَ السُّنَّةِ، وَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إذْ يَنْسُبُهُمْ إلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي دَعْوَى هَذَا الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ جَهْلُهُ وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِمَنْ قَالَ بِالْحَدِيثِ، فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى تَقْدِيمِ جَهْلِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَا يُعْرَفُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ قَالَ: لَا نَعْمَلُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَعْرِفَ مَنْ عَمِلَ بِهِ، فَإِنْ جَهِلَ مَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 [إخْرَاجُ النُّصُوصِ عَنْ ظَاهِرِهَا لِتُوَافِقَ مَذْهَبَ الْمُفْتِي] لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ النُّصُوصِ عَنْ ظَاهِرِهَا لِتُوَافِقَ مَذْهَبَ الْمُفْتِي] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِوُجُوهِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ لِمُوَافَقَةِ نِحْلَتِهِ وَهَوَاهُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ مِنْ الْإِفْتَاءِ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: الْأَصْلُ قُرْآنٌ أَوْ سَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّ الْإِسْنَادُ بِهِ فَهُوَ الْمُنْتَهَى وَالْإِجْمَاعُ أَكْبَرُ مِنْ الْخَبَرِ الْفَرْدِ، وَالْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَعَانِيَ فَمَا أَشْبَهَ مِنْهَا ظَاهِرَهُ أَوْلَاهَا بِهِ، فَإِذَا تَكَافَأَتْ الْأَحَادِيثُ فَأَصَحُّهَا إسْنَادًا أَوْلَاهَا، وَلَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ، مَا عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ وَلَا يُقَالُ لِأَصْلٍ: لِمَ؟ وَكَيْفَ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْفَرْعِ: لِمَ؟ فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَصْلِ صَحَّ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، رَوَاهُ الْأَصَمُّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ فِي الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ ": ذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ التَّأْوِيلِ، وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدَ اتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَالْأَوْلَى الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا، وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُسْتَقِلُّونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مَسُوغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنْ التَّأْوِيلِ، كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ، فَحَقٌّ عَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنْزِيهَ الْبَارِي عَنْ صِفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إلَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَعِنْدَ إمَامِ الْقُرَّاءِ وَسَيِّدِهِمْ الْوُقُوفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] مِنْ الْعَزَائِمِ ثُمَّ الِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] . وَمِمَّا اُسْتُحْسِنَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، فَلْتُجْرَ آيَةُ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَقَوْلُهُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَقَوْلُهُ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: الصَّوَابُ لِلْخَلَفِ سُلُوكُ مَسْلَكِ السَّلَفِ فِي الْإِيمَانِ الْمُرْسَلِ وَالتَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ، وَمَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بِلَا بَحْثٍ وَتَفْتِيشٍ. وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةِ: الْحَقُّ الِاتِّبَاعُ وَالْكَفُّ عَنْ تَغْيِيرِ الظَّاهِرِ رَأْسًا، وَالْحَذَرُ عَنْ اتِّبَاعِ تَأْوِيلَاتٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا الصَّحَابَةُ، وَحَسْمُ بَابِ السُّؤَالِ رَأْسًا، وَالزَّجْرُ عَنْ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ وَالْبَحْثِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ إلَى التَّأْوِيلِ ظَنًّا لَا قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ فَتْحُ هَذَا الْبَابِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى تَشْوِيشِ قُلُوبِ الْعَوَامّ بُدِّعَ صَاحِبُهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ السَّلَفِ ذِكْرُهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ الْمُهِمَّةِ فَيَجِبُ تَكْفِيرُ مَنْ يُغَيِّرُ الظَّوَاهِرَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ قَاطِعٍ. وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّأْوِيلَ فِي نَفْسِهِ وَتَوَاتَرَ نَقْلُهُ وَلَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَقُومَ عَلَى خِلَافِهِ بُرْهَانٌ فَمُخَالَفَتُهُ تَكْذِيبٌ مَحْضٌ، وَمَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالُ تَأْوِيلٍ وَلَوْ بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ كَانَ بُرْهَانُهُ قَاطِعًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبُرْهَانُ يُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا وَلَا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ بِدْعَةٌ، وَإِنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ كُفْرٌ. قَالَ: وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ، بَلْ شَدَّدُوا الْقَوْلَ عَلَى مَنْ يَخُوضُ فِي الْكَلَامِ، وَيَشْتَغِلُ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: الْإِيمَانُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْكَلَامِ ضَعِيفٌ، وَالْإِيمَانُ الرَّاسِخُ إيمَانُ الْعَوَامّ الْحَاصِلُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي الصِّبَا بِتَوَاتُرِ السَّمَاعِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ بِقَرَائِنَ يَتَعَذَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا. قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْمَعَالِي: يَحْرِصُ الْإِمَامُ مَا أَمْكَنَهُ عَلَى جَمْعِ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ فِيهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُضْرَبُونَ وَيُطَافُ بِهِمْ فِي قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ: لَقَدْ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا كُنْتُ أَظُنُّهُ، وَقَالَ: لَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 بِكُلِّ شَيْءٍ نُهِيَ عَنْهُ غَيْرَ الْكُفْرِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ، وَقَالَ لِحَفْصٍ الْفَرْدِ: أَنَا أُخَالِفُكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَنَا أَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَاَلَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَأَنْتَ تَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ فَقَالَ: أَنَا مُخَالِفٌ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لَسْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ، أَنَا أَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَذَاكَ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كَلَامًا أَسْمَعَهُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَالَ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ رِسَالَتِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ الْوَاصِفُونَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ - تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَتَعَالَى وَيَتَنَزَّهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السِّجْزِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: مَا التَّوْحِيدُ؟ فَقَالَ: تَوْحِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْخَوْضُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنْكَارِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَيْف لَا يَخْشَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْ يَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْمَجَازَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ الَّتِي هِيَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَوْلَى مِنْهَا بِالْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ؟ وَهَلْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ وَاَللَّهِ لِكُلِّ وَاصِفٍ كَذِبًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ يَأْمَنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هِيَ لِكُلِّ مُفْتَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ نَزَّهَ - سُبْحَانَهُ - نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ إلَّا الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَصِفُونَهُ بِمَا أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَصِفُوهُ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] وَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159 - 160] وَيَكْفِي الْمُتَأَوِّلِينَ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي لَمْ يُرِدْهَا، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِرَأْيِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَقَدَّمُوا آرَاءَهُمْ عَلَى نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَجَعَلُوهَا عِيَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَيَّ بَابِ شَرٍّ فَتَحُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 عَلَى الْأُمَّةِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَأَيَّ بِنَاءٍ لِلْإِسْلَامِ هَدَمُوا بِهَا، وَأَيَّ مَعَاقِلَ وَحُصُونٍ اسْتَبَاحُوهَا لَكَانَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ صَاحِبِ بَاطِلٍ قَدْ جَعَلَ مَا تَأَوَّلَهُ الْمُتَأَوِّلُونَ عُذْرًا لَهُ فِيمَا تَأَوَّلَهُ هُوَ، وَقَالَ: مَا الَّذِي حَرَّمَ عَلَيَّ التَّأْوِيلَ وَأَبَاحَهُ لَكُمْ؟ فَتَأَوَّلَتْ الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ لِلْمَعَادِ نُصُوصَ الْمَعَادِ، وَكَانَ تَأْوِيلُهُمْ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ مُنْكِرِي الصِّفَاتِ، بَلْ أَقْوَى مِنْهُ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ يَعْرِفُهَا مَنْ وَازَنَ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَحْنُ نُعَاقِبُ عَلَى تَأْوِيلِنَا وَتُؤْجَرُونَ أَنْتُمْ عَلَى تَأْوِيلِكُمْ؟ قَالُوا: وَنُصُوصُ الْوَحْيِ بِالصِّفَاتِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ نُصُوصِهِ بِالْمَعَادِ، وَدَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَيْهَا أَبْيَنُ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَأْوِيلُهَا بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَلَا يَسُوغُ لَنَا تَأْوِيلُ نُصُوصِ الْمَعَادِ؟ وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ الرَّافِضَةُ فِي أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ فِي نُصُوصِ الْقَدَرِ، وَكَذَلِكَ الْحَرُورِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْخَوَارِجِ فِي النُّصُوصِ الَّتِي تُخَالِفُ مَذَاهِبَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ طَرَدَتْ الْبَابَ، وَطَمَّثَ الْوَادِي عَلَى الْقَرِيِّ، وَتَأَوَّلَتْ الدِّينَ كُلَّهُ، فَأَصْلُ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَلَامِهِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ وَقَعَتْ فِي الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ فَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ إلَيْهَا، وَهَلْ أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ [الْأَدْيَانُ السَّابِقَةُ إنَّمَا فَسَدَتْ بِالتَّأْوِيلِ] وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ، بَلْ سَائِرُ أَدْيَانِ الرُّسُلِ لَمْ تَزَلْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ حَتَّى دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْبِشَارَاتُ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنْ سَلَّطُوا عَلَيْهَا التَّأْوِيلَاتِ فَأَفْسَدُوهَا، كَمَا أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - عَنْهُمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ، فَالتَّحْرِيفُ تَحْرِيفُ الْمَعَانِي بِالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي لَمْ يُرِدْهَا الْمُتَكَلِّمُ بِهَا، وَالتَّبْدِيلُ تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَالْكِتْمَانُ جَحْدُهُ. وَهَذِهِ الْأَدْوَاءُ الثَّلَاثَةُ مِنْهَا غُيِّرَتْ الْأَدْيَانُ وَالْمِلَلُ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ دِينَ الْمَسِيحِ وَجَدْتَ النَّصَارَى إنَّمَا تَطَرَّقُوا إلَى إفْسَادِهِ بِالتَّأْوِيلِ بِمَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ قَطُّ مِثْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْيَانِ، وَدَخَلُوا إلَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ. وَكَذَلِكَ زَنَادِقَةُ الْأُمَمِ جَمِيعُهُمْ إنَّمَا تَطَرَّقُوا إلَى إفْسَادِ دِيَانَاتِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْوِيلِ، وَمِنْ بَابِهِ دَخَلُوا، وَعَلَى أَسَاسِهِ بَنَوْا، وَعَلَى نُقَطِهِ خَطُّوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 دَوَاعِي التَّأْوِيلِ] وَالْمُتَأَوِّلُونَ أَصْنَافٌ عَدِيدَةٌ، بِحَسَبِ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى التَّأْوِيلِ، وَبِحَسَبِ قُصُورِ أَفْهَامِهِمْ وَوُفُورِهَا، وَأَعْظَمُهُمْ تَوَغُّلًا فِي التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ مَنْ فَسَدَ قَصْدُهُ وَفَهْمُهُ، فَكُلَّمَا سَاءَ قَصْدُهُ وَقَصُرَ فَهْمُهُ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَشَدَّ انْحِرَافًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ هَوًى مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ أَخْفَتْ عَلَيْهِ الْحَقَّ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ هُدًى مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْحَقِّ] وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ الْهَوَى فِي الْقَصْدِ وَالشُّبْهَةُ فِي الْعِلْمِ. [بَعْضُ آثَارِ التَّأْوِيلِ] وَبِالْجُمْلَةِ فَافْتِرَاقُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً إنَّمَا أَوْجَبَهُ التَّأْوِيلُ، وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهَلُمَّ جَرًّا بِالتَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، فَمَا اُمْتُحِنَ الْإِسْلَامُ بِمِحْنَةٍ قَطُّ إلَّا وَسَبَبُهَا التَّأْوِيلُ؛ فَإِنَّ مِحْنَتَهُ إمَّا مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبُوا مِنْ التَّأْوِيلِ وَخَالَفُوا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ وَتَعَلَّلُوا بِالْأَبَاطِيلِ، فَمَا الَّذِي أَرَاقَ دِمَاءَ بَنِي جَذِيمَةَ وَقَدْ أَسْلَمُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ حَتَّى رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ وَتَبَرَّأَ إلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَأَوِّلِ بِقَتْلِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ؟ وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ تَأَخُّرَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ مُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ التَّأْوِيلِ حَتَّى اشْتَدَّ غَضَبُهُ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ حَتَّى رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَوْقَعَ الْأُمَّةَ فِيمَا أَوْقَعَهَا فِيهِ حَتَّى الْآنَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِهِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاءُ الْعَرَبِ فِي فِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي جَرَّدَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بَيْن الْعِقَابَيْنِ وَضُرِبَ السِّيَاطَ حَتَّى عَجَّتْ الْخَلِيقَةُ إلَى رَبِّهَا تَعَالَى غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي قَتَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ وَخَلَّدَ خَلْقًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي السُّجُونِ حَتَّى مَاتُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي سَلَّطَ سُيُوفَ التَّتَارِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى رَدُّوا أَهْلَهَا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ دَخَلَتْ طَائِفَةُ الْإِلْحَادِ مِنْ أَهْلِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ إلَّا مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ فُتِحَ بَابُ التَّأْوِيلِ إلَّا مُضَادَّةً وَمُنَاقَضَةً لِحُكْمِ اللَّهِ فِي تَعْلِيمِهِ عِبَادَهُ الْبَيَانَ الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْإِنْسَان بِتَعْلِيمِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 إيَّاهُ؛ فَالتَّأْوِيلُ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي وَالْأُغْلُوطَاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ، وَهَلْ فَرَّقَ بَيْنَ دَفْعِ حَقَائِقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَأَمَرَتْ بِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا رَدُّ جُحُودٍ وَمُعَانِدَةٍ، وَذَاكَ رَدُّ خِدَاعٍ وَمُصَانَعَةٍ. قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ عَنْ مَنَاهِجِ الْأَدِلَّةِ " وَقَدْ ذَكَرَ التَّأْوِيلَ وَجِنَايَتَهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ، وَأَشَدُّ مَا عَرَضَ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا كَثِيرًا مِمَّا ظَنُّوهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي صُورَةِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ وَاخْتِبَارًا لَهُمْ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزِ إنَّمَا جَاءَ مُعْجِزًا مِنْ جِهَةِ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ، فَمَا أَبْعَدُ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ مَنْ قَالَ فِيمَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ: إنَّهُ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ بِزَعْمِهِ، وَقَالَ لِجَمِيعِ النَّاسِ: إنَّ فَرْضَكُمْ هُوَ اعْتِقَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ، مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِي آيَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَالُوا: إنَّ ظَاهِرَهُ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي زَعَمَ الْقَائِلُونَ بِهَا أَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّرْعِ إذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ لَيْسَ يَقُومُ عَلَيْهَا بُرْهَانٌ. [مَثَلُ الْمُتَأَوِّلِينَ] إلَى أَنْ قَالَ: وَمِثَالُ مَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا أَوَّلَهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ الشَّرْعُ مِثَالُ مَنْ أَتَى إلَى دَوَاءٍ قَدْ رَكَّبَهُ طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِيَحْفَظَ صِحَّةَ جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فَجَاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يُلَائِمْهُ ذَلِكَ الدَّوَاءُ الْأَعْظَمُ لِرَدَاءَةِ مِزَاجٍ كَانَ بِهِ لَيْسَ يَعْرِضُ إلَّا لِلْأَقَلِّ مِنْ النَّاسِ، فَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِاسْمِهَا الطَّبِيبُ الْأَوَّلُ فِي ذَلِكَ الدَّوَاءِ الْعَامِّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْعَامَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ فِي اللِّسَانِ أَنْ يُدَلُّ بِذَلِكَ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَوَاءً آخَرَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُدَلُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِاسْتِعَارَةٍ بَعِيدَةٍ، فَأَزَالَ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْأَوَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْأَعْظَمِ، وَجَعَلَ فِيهِ بَدَلَهُ الدَّوَاءَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ قَصَدَهُ الطَّبِيبُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: هَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ الطَّبِيبُ الْأَوَّلُ، فَاسْتَعْمَلَ النَّاسُ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْمُرَكَّبَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ، فَفَسَدَتْ أَمْزِجَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ آخَرُونَ فَشَعَرُوا بِفَسَادِ أَمْزِجَةِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ، فَرَامُوا إصْلَاحَهُ بِأَنْ بَدَّلُوا بَعْضَ أَدْوِيَتِهِ بِدَوَاءٍ آخَرَ غَيْرِ الدَّوَاءِ الْأَوَّلِ؛ فَعَرَضَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ نَوْعٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَجَاءَ ثَالِثٌ فَتَأَوَّلَ مِنْ أَدْوِيَةِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ غَيْرَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَعَرَضَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرُ النَّوْعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَجَاءَ مُتَأَوِّلٌ رَابِعٌ فَتَأَوَّلَ دَوَاءً آخَرَ غَيْرَ الْأَدْوِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَعَرَضَ مِنْهُ لِلنَّاسِ نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرُ الْأَمْرَاضِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ بِهَذَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ الْأَعْظَمِ، وَسَلَّطَ النَّاسُ التَّأْوِيلَ عَلَى أَدْوِيَتِهِ، وَغَيَّرُوهَا وَبَدَّلُوهَا عَرَضَ مِنْهُ لِلنَّاسِ أَمْرَاضٌ شَتَّى، حَتَّى فَسَدَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ بِذَلِكَ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَهَذِهِ هِيَ حَالَةِ الْفِرَقِ الْحَادِثَةِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تَأَوَّلَتْ غَيْرَ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَتْهُ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ حَتَّى تَمَزَّقَ الشَّرْعُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَبَعُدَ جِدًّا عَنْ مَوْضُوعِ الْأَوَّلِ، وَلَمَّا عَلِمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَعْرِضُ، وَلَا بُدَّ فِي شَرِيعَتِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً» يَعْنِي بِالْوَاحِدَةِ الَّتِي سَلَكَتْ ظَاهِرَ الشَّرْعِ وَلَمْ تُؤَوِّلْهُ. وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ مَا عَرَضَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَارِضِ فِيهَا مِنْ قِبَلِ التَّأْوِيلِ تَبَيَّنْتَ أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ صَحِيحٌ. وَأَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ هَذَا الدَّوَاءَ الْأَعْظَمَ هُمْ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الْأَشْعَرِيَّةُ، ثُمَّ الصُّوفِيَّةُ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو حَامِدٍ فَطَمَّ الْوَادِي عَلَى الْقُرَى، هَذَا كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَسْتَوْعِبُ مَا جَنَاهُ التَّأْوِيلُ عَلَى الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَمَا نَالَ الْأُمَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِسَبَبِهِ مِنْ الْفَسَادِ لَاسْتَدْعَى ذَلِكَ عِدَّةَ أَسْفَارٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [لَا يُعْمَلُ بِالْفَتْوَى حَتَّى يَطْمَئِنَّ لَهَا قَلْبُ الْمُسْتَفْتِي] [لَا يُعْمَلُ بِالْفَتْوَى حَتَّى يَطْمَئِنَّ لَهَا قَلْبُ الْمُسْتَفْتِي] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذَا لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ مِنْ قَبُولِهِ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَلَا تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي مِنْ اللَّهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَلَ عَنْهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ فِي الْبَاطِنِ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ جَهْلَ الْمُفْتِي أَوْ مُحَابَاتِهِ فِي فَتْوَاهُ أَوْ عَدَمَ تَقْيِيدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا؛ فَإِنْ كَانَ عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِأَجْلِ الْمُفْتِي يَسْأَلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا يُكَلِّفْ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مُفْتِيَانِ أَحَدُهُمَا أَعْلَمُ مِنْ الْآخَرِ فَهَلْ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ الْمَفْضُولِ مَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وُجُودِ الْفَاضِلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ فَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ رَأَى أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، فَوُجُودُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ كَالشَّاهِدِ، وَمَنْ مَنَعَ اسْتِفْتَاءَهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ حُصُولُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْإِصَابَةُ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ بِفَتْوَى الْأَعْلَمِ أَقْوَى فَيَتَعَيَّنُ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بِأَنَّ الْمَفْضُولَ إنْ تَرَجَّحَ بِدِيَانَةٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ تَحَرٍّ لِلصَّوَابِ، وَعُدِمَ ذَلِكَ الْفَاضِلُ فَاسْتِفْتَاءُ الْمَفْضُولِ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَاسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [التُّرْجُمَانُ عِنْدَ الْمُفْتِي] [التُّرْجُمَانُ عِنْدَ الْمُفْتِي] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُفْتِي لِسَانَ السَّائِلِ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُسْتَفْتِي لِسَانَ الْمُفْتِي أَجْزَأَ تَرْجَمَةُ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِوَاحِدٍ كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ [وَالطِّبِّ] وَطَرْدُ هَذَا الِاكْتِفَاءِ بِتَرْجَمَةِ الْوَاحِدِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالدَّعْوَى، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ، وَالتَّعْرِيفِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ إجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْخَبَرِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يُقْبَلُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ، إجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَسُلُوكًا بِهَا سَبِيلَهَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْإِقْرَارَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَتُثْبِتُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ وَجَرْحَهُمْ، فَافْتَقَرَتْ إلَى الْعَدَدِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَرْجَمَةِ الْفَتْوَى وَالسُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ، فَافْتَرَقَا. [مَا يَصْنَعُ الْمُفْتِي فِي جَوَابِ سُؤَالٍ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ صُوَرٍ] [مَا يَصْنَعُ الْمُفْتِي فِي جَوَابِ سُؤَالٍ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ صُوَرٍ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا كَانَ السُّؤَالُ مُحْتَمِلًا لِصُوَرٍ عَدِيدَةٍ؛ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُفْتِي الصُّورَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا لَمْ يُجِبْ عَنْ صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ عَلِمَ الصُّورَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا فَلَهُ أَنْ يَخُصَّهَا بِالْجَوَابِ، وَلَكِنْ يُقَيَّدُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ غَيْرِهَا فَيَقُولَ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا؛ فَالْجَوَابُ كَذَا وَكَذَا، وَلَهُ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ صُورَةٍ بِجَوَابٍ؛ فَيُفَصِّلُ الْأَقْسَامَ الْمُحْتَمَلَةَ، وَيَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ قِسْمٍ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعْلِيمِ الْحِيَلِ، وَفَتْحُ بَابٍ لِدُخُولِ الْمُسْتَفْتِي وَخُرُوجِهِ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، الثَّانِي: أَنَّهُ سَبَبٌ لِازْدِحَامِ أَحْكَامِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ عَلَى فَهْمِ الْعَامِّيِّ فَيَضِيعُ مَقْصُودُهُ. وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ؛ فَيُكْرَهُ حَيْثُ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ، وَلَا يُكْرَهُ - بَلْ يُسْتَحَبُّ - إذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ إيضَاحٍ وَبَيَانٍ وَإِزَالَةُ لَبْسٍ، «وَقَدْ فَصَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ كَذَا فَالْأَمْرُ كَذَا، كَقَوْلِهِ فِي الَّذِي وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ: إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَعَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا» : وَهَذَا كَثِيرٌ فِي فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] . [يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ حَذِرًا]] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: وَهِيَ مِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ: إنْ رَأَى الْمُفْتِي خِلَالَ السُّطُورِ بَيَاضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا يُفْسِدُ الْجَوَابَ فَلْيَحْتَرِزْ مِنْهُ، فَرُبَّمَا دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْوَرَقَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَخُطَّ عَلَى الْبَيَاضِ أَوْ يَشْغَلَهُ بِشَيْءٍ، كَمَا يَحْتَرِزُ مِنْهُ كُتَّابُ الْوَثَائِقِ وَالْمَكَاتِيبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلْيَكُنْ حَذِرًا فَطِنًا، وَلَا يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِكُلِّ أَحَدٍ، وَهَذَا الَّذِي حَمَلَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُقَيِّدُ السُّؤَالَ عِنْدَهُ فِي وَرَقَةٍ ثُمَّ يُجِيبُ فِي وَرَقَةِ السَّائِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ السُّؤَالَ فِي وَرَقَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ الْجَوَابَ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالْعَادَةِ. [وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَثِقُ بِهِ] الْفَائِدَةُ السِّتُّونَ: إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، وَلَا يَسْتَقِلَّ بِالْجَوَابِ، ذَهَابًا بِنَفْسِهِ وَارْتِفَاعًا بِهَا، أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى الْفَتَاوَى بِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهَذَا مِنْ الْجَهْلِ، فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وَقَدْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ تَنْزِلُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَيَسْتَشِيرُ لَهَا مَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَرُبَّمَا جَمَعَهُمْ وَشَاوَرَهُمْ، حَتَّى كَانَ يُشَاوِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ إذْ ذَاكَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنًّا، وَكَانَ يُشَاوِرُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهَ وَجْهَهُ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَغَيْرَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَلَا سِيَّمَا إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ تَمْرِينَ أَصْحَابِهِ وَتَعْلِيمَهُمْ، وَشَحْذَ أَذْهَانِهِمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " بَابُ إلْقَاءِ الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ " وَأَوْلَى مَا أَلْقَى عَلَيْهِمْ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا، هَذَا مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ مِنْ إفْشَاءِ سِرِّ السَّائِلِ أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلْأَذَى، أَوْ مَفْسَدَةٌ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْتَكِبَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي عَابِرِ الرُّؤْيَا، فَالْمُفْتِي وَالْمُعَبِّرُ وَالطَّيِّبِ يَطَّلِعُونَ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ؛ فَعَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ السَّتْرِ فِيمَا لَا يَحْسُنُ إظْهَارُهُ. [يَجْمُلُ بِالْمُفْتِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ بِالتَّوْفِيقِ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ: حَقِيقٌ بِالْمُفْتِي أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَكَانَ شَيْخُنَا كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ، وَكَانَ إذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ يَقُولُ " يَا مُعَلِّمَ إبْرَاهِيمَ عَلِّمْنِي " وَيُكْثِرُ الِاسْتِعَانَةَ بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ رَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَا كُنْتُ أُصِيبُهَا مِنْكَ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أَتَعَلَّمُهُمَا مِنْكَ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانَهُمَا، مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا، اُطْلُبْ الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ: عِنْدَ عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَذَكَرَ الرَّابِعَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ فَسَائِرُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَنْهُ أَعْجَزُ، فَعَلَيْكَ بِمُعَلِّمِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ مَكْحُولٌ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 26] {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ وَفِّقْنِي وَاهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ الصَّوَابِ وَالثَّوَابِ وَأَعِذْنِي مِنْ الْخَطَأِ وَالْحِرْمَانِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ، وَجَرَّبْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فَرَأَيْنَاهُ أَقْوَى أَسْبَابِ الْإِصَابَةِ. وَالْمُعَوِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ، وَخُلُوصِ الْقَصْدِ، وَصِدْقِ التَّوَجُّهِ فِي الِاسْتِمْدَادِ مِنْ الْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ مُعَلَّمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ مَنْ صَدَقَ فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهِ لِتَبْلِيغِ دِينِهِ وَإِرْشَادِ عَبِيدِهِ وَنَصِيحَتِهِمْ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَرَغْبَتُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرًا إنْ فَاتَهُ أَجْرَانِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقِيلَ لَهُ: رُبَّمَا اشْتَدَّ عَلَيْنَا الْأَمْرُ مِنْ جِهَتِكَ، فَلِمَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: سَلُوا عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ. وَاقْتَدَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ؛ فَإِنَّهُمْ تُجْلَى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ قُلُوبِهِمْ مِنْ اللَّهِ، وَكُلَّمَا قَرُبَ الْقَلْبُ مِنْ اللَّهِ زَالَتْ عَنْهُ مُعَارَضَاتُ السُّوءِ، وَكَانَ نُورُ كَشْفِهِ لِلْحَقِّ أَتَمَّ وَأَقْوَى، وَكُلَّمَا بَعُدَ عَنْ اللَّهِ كَثُرَتْ عَلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 الْمُعَارَضَاتُ، وَضَعُفَ نُورُ كَشْفِهِ لِلصَّوَابِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ. وَقَالَ مَالِكٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أَوَّلِ مَا لَقِيَهُ: إنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] وَمِنْ الْفُرْقَانِ النُّورُ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ أَقْرَبَ إلَى اللَّهِ كَانَ فُرْقَانُهُ أَتَمَّ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [لَا يَسَعُ الْمُفْتِيَ أَنْ يَجْعَلَ غَرَضَ السَّائِلِ سَائِقَ حُكْمِهِ] [لَا يَسَعُ الْمُفْتِيَ أَنْ يَجْعَلَ غَرَضَ السَّائِلِ سَائِقَ حُكْمِهِ] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ: قَدْ تَكَرَّرَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْإِفْتَاءِ الْإِمْسَاكُ عَمَّا يُفْتُونَ بِهَا مِمَّا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ إذَا خَالَفَ غَرَضَ السَّائِلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْأَلُهُ عَنْ غَرَضِهِ، فَإِنْ صَادَفَهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ، وَإِلَّا دَلَّهُ عَلَى مُفْتٍ أَوْ مَذْهَبٍ يَكُونُ غَرَضُهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّاتِ الَّتِي فِيهَا نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسَعْ الْمُفْتِيَ تَرْكُهُ إلَى غَرَضِ السَّائِلِ، بَلْ لَا يَسَعُهُ تَوَقُّفُهُ فِي الْإِفْتَاءِ بِهِ عَلَى غَرَضِ السَّائِلِ، بَلْ ذَلِكَ إثْمٌ عَظِيمٌ، وَكَيْفَ يَسَعُهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُقَدِّمَ غَرَضَ السَّائِلِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي يَتَجَاذَبُ أَعِنَّتَهَا الْأَقْوَالُ وَالْأَقْيِسَةُ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ لَهُ قَوْلٌ مِنْهَا لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَتَرَجَّحَ لِغَرَضِ السَّائِلِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ لَهُ قَوْلٌ مِنْهَا وَظَنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ فَأَوْلَى بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ السَّائِلَ إنَّمَا يَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ وَيَسَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ عَرَّفَهُ الْمُفْتِي أَفْتَاهُ بِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا عَلِمَ أَنَّ السَّائِلَ يَدُورُ عَلَى مَنْ يُفْتِيهِ بِغَرَضِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَيَجْعَلُ اسْتِفْتَاءَهُ تَنْفِيذًا لِغَرَضِهِ، لَا تَعَبُّدًا لِلَّهِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى غَرَضِهِ أَيْنَ كَانَ، بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَفْتُونَ دِيَانَةً، وَإِنَّمَا يَسْتَفْتُونَ تَوَصُّلًا إلَى حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ اتَّفَقَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي مُسَاعَدَتَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ الْحَقَّ، بَلْ يُرِيدُونَ أَغْرَاضَهُمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ وَافَقَ، وَلِهَذَا إذَا وَجَدُوا أَغْرَاضَهُمْ فِي أَيِّ مَذْهَبٍ اتَّفَقَ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَتَمَذْهَبُوا بِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَرْبَابُ الْخُصُومَاتِ بِالدَّعَاوَى عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَلَا يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ حَاكِمًا بِعَيْنِهِ، بَلْ أَيُّ حَاكِمٍ نَفَذَ غَرَضُهُ عِنْدَهُ صَارَ إلَيْهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّةً: أَنَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ إفْتَاءِ هَؤُلَاءِ وَتَرْكِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَفْتُونَ لِلدِّينِ، بَلْ لِوُصُولِهِمْ إلَى أَغْرَاضِهِمْ حَيْثُ كَانَتْ، وَلَوْ وَجَدُوهَا عِنْدَ غَيْرِي لَمْ يَجِيئُوا إلَيَّ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 بِخِلَافِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ مَنْ جَاءَهُ يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ لِأَجْلِ غَرَضِهِ لَا لِالْتِزَامِهِ لِدِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] فَهَؤُلَاءِ لَمَّا لَمْ يَلْتَزِمُوا دِينَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [ذِكْرُ المفتى الْفَتْوَى مَعَ دَلِيلِهَا] [ذِكْرُ الْفَتْوَى مَعَ دَلِيلِهَا أَوْلَى] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ: عَابَ بَعْضُ النَّاسِ ذِكْرَ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْفَتْوَى، وَهَذَا الْعَيْبُ أَوْلَى بِالْعَيْبِ، بَلْ جَمَالُ الْفَتْوَى وَرُوحُهَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَيْبًا؟ وَهَلْ ذِكْرُ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا طِرَازُ الْفَتَاوَى؟ وَقَوْلُ الْمُفْتِي لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْأَخْذِ بِهِ، فَإِذَا ذُكِرَ الدَّلِيلُ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُخَالِفَهُ، وَبَرِئَ هُوَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَضْرِبُ لَهَا الْأَمْثَالَ وَيُشَبِّهُهَا بِنَظَائِرِهَا، هَذَا وَقَوْلُهُ وَحْدَهُ حُجَّةٌ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ بِحُجَّةٍ وَلَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ؟ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ وَأَعْلَاهَا أَنْ يَسُوغَ لَهُ قَبُولَ قَوْلِهِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَسُوغَ بِلَا حُجَّةٍ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَفْتَى بِالْحُجَّةِ نَفْسِهَا، فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ كَذَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، أَوْ فَعَلَ كَذَا، فَيَشْفِي السَّائِلَ، وَيَبْلُغُ الْقَائِلُ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي فَتَاوِيهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، ثُمَّ جَاءَ التَّابِعُونَ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ ثُمَّ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ، وَعِلْمُهُ يَأْبَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ، وَالسَّائِلُ يَأْبَى قَبُولَ قَوْلِهِ بِلَا دَلِيلٍ. ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ وَبَعُدَ الْعَهْدُ بِالْعِلْمِ، وَتَقَاصَرَتْ الْهِمَمُ إلَى أَنْ صَارَ بَعْضُهُمْ يُجِيبُ بِنَعَمْ أَوْ لَا فَقَطْ، وَلَا يَذْكُرُ لِلْجَوَابِ دَلِيلًا وَلَا مَأْخَذًا، وَيَعْتَرِفُ بِقُصُورِهِ وَفَضْلِ مَنْ يُفْتِي بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ نَزَلْنَا دَرَجَةً أُخْرَى إلَى أَنْ وَصَلَتْ الْفَتْوَى إلَى عَيْبِ مَنْ يُفْتِي بِالدَّلِيلِ وَذَمِّهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لِلنَّاسِ طَبَقَةً أُخْرَى لَا يُدْرَى مَا حَالُهُمْ فِي الْفَتَاوَى، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [هَلْ يُقَلِّد الْمُفْتِي الْمَيِّتَ إذًا عَلِمَ عَدَالَتَهُ] [هَلْ يُقَلِّدُ الْمُفْتِي الْمَيِّتَ إذًا عَلِمَ عَدَالَتَهُ؟] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَقْلِيدَ الْمَيِّتِ إذَا عَلِمَ عَدَالَتَهُ وَأَنَّهُ مَاتَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَ الْحَيَّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا، وَلَوْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِمْ لَبَطَلَ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْفِقْهِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ، وَلَمْ يَسُغْ لَهُمْ تَقْلِيدُهُمْ وَالْعَمَلُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَأَيْضًا لَوْ بَطَلَتْ أَقْوَالُهُمْ بِمَوْتِهِمْ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا، وَكَذَلِكَ الرَّاوِي لَا تَبْطُلُ رِوَايَتُهُ بِمَوْتِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْتِي لَا تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ، وَمَنْ قَالَ: تَبْطُلُ فَتْوَاهُ بِمَوْتِهِ قَالَ: أَهْلِيَّتُهُ زَالَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَوْ عَاشَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُفْتِي أَبُو الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنْ مَاتَ الْمُفْتِي قَبْلَ عَمَلِ الْمُسْتَفْتِي فَلَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا يَعْمَلُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ فَهَلْ يَسْتَفْتِي مِنْ جَدِيدٍ] [إذَا تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ فَهَلْ يَسْتَفْتِي مِنْ جَدِيدٍ؟] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ: إذَا اسْتَفْتَاهُ عَنْ حُكْمِ حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِتِلْكَ الْفَتْوَى الْأُولَى أَمْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِفْتَاءُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ قَالَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى وَإِنْ أَمْكَنَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ وَقْتِ الْإِفْتَاءِ وَإِنْ جَازَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بَقَاءِ الْمُفْتِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيَكُونَ الْمُسْتَفْتِي قَدْ عَمِلَ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ مَنْ اسْتَفْتَاهُ، وَلِهَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ عَلَى قَوْلِ الْحَيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلِيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ [هَلْ يَلْزَمُ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ إذَا تعدد الْمَفْتُون] [هَلْ يَلْزَمُ اسْتِفْتَاءُ الْأَعْلَمِ؟] الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ: هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وَيَسْأَلَ الْأَعْلَمَ وَالْأَدْيَنَ أَمْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ كَمَا سَبَقَ، وَبَيَّنَّا مَأْخَذَهُمَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَأْمُورِ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ أَحَدُهُمَا أَوَرَعُ، وَالْآخَرُ أَعْلَمُ فَأَيُّهُمَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبُ سَبَقَ تَوْجِيهُهَا. [هَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَة أُمّ لَا] وَهَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ أَمْ لَا؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ: [هَلْ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ؟] أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ دِينَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ مُبَرَّأَةً مُبَرَّأَ أَهْلِهَا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ، بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ؛ فَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسْبِهِ، أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ: أَنَا شَافِعِيٌّ، أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 حَنْبَلِيٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا فَقِيهٌ، أَوْ نَحْوِيٌّ، أَوْ كَاتِبٌ، لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إنَّهُ شَافِعِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِذَلِكَ الْإِمَامِ، سَالِكٌ طَرِيقَهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَهُ إذَا سَلَكَ سَبِيلَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَأَمَّا مَعَ جَهْلِهِ وَبُعْدِهِ جِدًّا عَنْ سِيرَةِ الْإِمَامِ وَعِلْمِهِ وَطَرِيقِهِ فَكَيْف يَصِحُّ لَهُ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا بِالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ وَالْقَوْلِ الْفَارِغِ مِنْ كُلِّ مَعْنًى؟ وَالْعَامِّيُّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَذْهَبٌ، وَلَوْ تَصَوَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا قَطُّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ حَدَثَتْ فِي الْأُمَّةِ، لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ أَعْلَى رُتْبَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَنْ يُلْزِمُوا النَّاسَ بِذَلِكَ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ عَالِمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، مَاتَتْ مَذَاهِبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَذَاهِبُ التَّابِعِينَ وَتَابِعَيْهِمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَطَلَتْ جُمْلَةٌ إلَّا مَذَاهِبَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ فَقَطْ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَلْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ دَعَا إلَيْهِ أَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ؟ وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَيْفِيَّتُهُ أَوْ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ فَذَلِكَ أَيْضًا تَابِعٌ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ صَحَّحَ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبًا قَالَ: هُوَ قَدْ اعْتَقَدَ أَنْ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَوْ صَحَّ لَلَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ اسْتِفْتَاءِ أَهْلِ غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ، وَتَحْرِيمُ تَمَذْهُبِهِ بِمَذْهَبِ نَظِيرِ إمَامِهِ أَوْ أَرْجَحَ مِنْهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي يَدُلُّ فَسَادُهَا عَلَى فَسَادِ مَلْزُومَاتِهَا، بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا رَأَى نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلَ خُلَفَائِهِ الْأَرْبَعَةَ مَعَ غَيْرِ إمَامِهِ أَنْ يَتْرُكَ النَّصَّ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهَا قَوْلَ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِحَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ، بَلْ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ حِجَازِيًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 كَانَ أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ شَامِيًّا أَوْ مِصْرِيًّا أَوْ يَمَنِيًّا، وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ التَّقَيُّدُ بِقِرَاءَةِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ إذَا وَافَقَتْ الْقِرَاءَةُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَصَحَّتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَصَحَّ سَنَدُهَا جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ بِهَا اتِّفَاقًا، بَلْ لَوْ قَرَأَ بِقِرَاءَةٍ تَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا وَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ بِهَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَالثَّانِي تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا، وَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالثَّالِثُ: إنْ قَرَأَ بِهَا فِي رُكْنٍ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِفَرْضِهِ، وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تَكُنْ مُبْطِلَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِتْيَانُ بِالرُّكْنِ فِي الْأَوَّلِ وَلَا الْإِتْيَانُ بِالْمُبْطِلِ فِي الثَّانِي، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ وَأَخْذَ غَرَضِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ وَجَدَهُ فِيهِ، بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. [مَا الْحُكْمِ إذَا اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ: فَإِنْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ فَأَكْثَرُ، فَهَلْ يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْأَقْوَالِ، أَوْ بِأَخَفِّهَا، أَوْ يَتَخَيَّرُ، أَوْ يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ أَوْ الْأَوْرَعِ، أَوْ يَعْدِلُ إلَى مُفْتٍ آخَرَ، فَيَنْظُرُ مَنْ يُوَافِقُ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ فَيَعْمَلُ بِالْفَتْوَى الَّتِي يُوَقِّعُ عَلَيْهَا، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَبْحَثَ عَنْ الرَّاجِحِ بِحَسَبِهِ؟ فِيهِ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ، أَرْجَحُهَا السَّابِعُ؛ فَيَعْمَلُ كَمَا يَعْمَلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ الطَّبِيبَيْنِ أَوْ الْمُشِيرَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي] [هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي؟] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ: إذَا اسْتَفْتَى فَأَفْتَاهُ الْمُفْتِي، فَهَلْ تَصِيرُ فَتْوَاهُ مُوجِبَةً عَلَى الْمُسْتَفْتِي الْعَمَلَ بِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ عَاصِيًا إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَوْ لَا يُوجَبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَهُ هُوَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ؛ فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ التَّرْكُ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِحَّةُ فَتْوَاهُ وَأَنَّهَا حَقٌّ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مُفْتِيًا آخَرَ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِفُتْيَاهُ؛ فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّقْلِيدُ وَتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَطَاعُ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ مُفْتِيًا آخَرَ فَإِنْ وَافَقَ الْأَوَّلَ فَأَبْلَغُ فِي لُزُومِ الْعَمَلِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَإِنْ اسْتَبَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الصَّوَابُ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ، أَوْ يَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ، أَوْ يَأْخُذُ بِالْأَسْهَلِ؛ فِيهِ وُجُوهٌ تَقَدَّمَتْ. [الْعَمَلُ بِخَطِّ الْمُفْتِي وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ] [الْعَمَلُ بِخَطِّ الْمُفْتِي وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ] الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالسِّتُّونَ: يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِخَطِّ الْمُفْتِي وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْفَتْوَى مِنْ لَفْظِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ أَوْ أَعْلَمَهُ بِهِ مَنْ يَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُ قَوْلِ الرَّسُولِ إنَّ هَذَا خَطُّهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ فَاسِقًا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ وَالْعُرْفِ، وَكَذَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الرَّجُلِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ كِتَابَةِ الْوَقْفِ عَلَى كِتَابٍ أَوْ رِبَاطٍ، أَوْ خَانٍ أَوْ نَحْوَهُ فَيَدْخُلُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يَجِدُهُ بِخَطِّ أَبِيهِ فِي بَرْنَامَجِهِ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، فَيَحْلِفُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَطِّ الزَّوْجِ أَنَّهُ أَبَانَهَا فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَاءً عَلَى الْخَطِّ، وَكَذَا الْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ يَعْتَمِدُ عَلَى خَطِّ الْمُوصِي فَيُنَفِّذُ مَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ، وَكَذَا إذَا كَتَبَ الرَّاوِي إلَى غَيْرِهِ حَدِيثًا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ وَيَعْمَلَ بِهِ، وَيَرْوِيَهُ بِنَاءً عَلَى الْخَطِّ إذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ، هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ عَهْدِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى الْآنَ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَبَالَغَ فِي إنْكَارِهِ، لَيْسَ مَعَهُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ إلَّا مُجَرَّدُ كِتَابٍ قِيلَ: إنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ، فَهُوَ يَقْضِي بِهِ وَيُفْتِي وَيُحِلُّ وَيُحَرِّمُ، وَيَقُولُ: هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ كُتُبَهُ إلَى الْمُلُوكِ وَإِلَى الْأُمَمِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَقُومُ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِكِتَابِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ] [مَا الْعَمَلُ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ] الْفَائِدَةُ السَّبْعُونَ: إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا بِالْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمُ أَمْ لَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ فَتَاوَى الْأَئِمَّةِ وَأَجْوِبَتُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسْأَلُونَ عَنْ حَوَادِثَ لَمْ تَقَعْ قَبْلَهُمْ فَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَهَذَا يَعُمُّ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ مِمَّا لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَبْلَهُ وَمَا عَرَفَ فِيهِ أَقْوَالًا وَاجْتَهَدَ فِي الصَّوَابِ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ وَاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ، وَمَنْ لَهُ مُبَاشَرَةٌ لِفَتَاوَى النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْقُولَ، وَإِنْ اتَّسَعَ غَايَةَ الِاتِّسَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَفِي بِوَقَائِعِ الْعَالَمِ جَمِيعًا، وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ الْوَقَائِعَ رَأَيْتَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً وَاقِعَةً وَهِيَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهَا كَلَامٌ لِأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ، وَلَا لِأَتْبَاعِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْتَاءُ، وَلَا الْحُكْمُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْفَرَ فِيهَا بِقَائِلٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ، أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَمَلِ، وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَسُهُولَةِ خَطَرِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ. وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ - بَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَجِبُ - عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، فَإِنْ عُدِمَ الْأَمْرَانِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ احْتَمَلَ الْجَوَازَ، وَالْمَنْعَ، وَالتَّفْصِيلَ، فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ دُونَ عَدَمِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصَلِّ مِنْ فَتَاوَى إمَامِ الْمُفْتِينَ] [فَصْلٌ: فَتَاوَى فِي مَسَائِلَ مِنْ الْعَقِيدَةِ] فَصْلٌ: وَلْنَخْتِمْ الْكِتَابَ بِذِكْرِ فُصُولٍ يَسِيرٍ قَدْرُهَا، عَظِيمٍ أَمْرُهَا، مِنْ فَتَاوَى إمَامِ الْمُفْتِينَ، وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَكُونُ رُوحًا لِهَذَا الْكِتَابِ، وَرَقْمًا عَلَى جُلَّةِ هَذَا التَّأْلِيفِ. [فَتَاوَى فِي مَسَائِلَ مِنْ الْعَقِيدَةِ] فَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ صَحْوًا فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ: كَيْفَ نَرَاهُ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَاحِدٌ؟ فَقَالَ أُنَبِّئُكُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا، وَلَعَمْرُ إلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ، وَمَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ، أَمْرٌ قَدْ قُضِيَ وَفُرِغَ مِنْهُ أَمْ أَمْرٌ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ بَلْ أَمْرٌ قَدْ قُضِيَ وَفُرِغَ مِنْهُ فَسُئِلَ حِينَئِذٍ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَكْتُمُهُ النَّاسُ فِي ضَمَائِرِهِمْ، هَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى السَّائِلِ، وَقَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَبْدَأِ تَخْلِيقِ هَذَا الْعَالَمِ، فَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ: كَانَ وَاَللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَصَحَّ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ؟ فَقَالَ عَلَى الصِّرَاطِ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ، فَسُئِلَ: مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إجَازَةً، فَقَالَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فَإِنَّ الظُّلْمَةَ أَوَّلُ الصِّرَاطِ؛ فَهُنَاكَ مَبْدَأُ التَّبْدِيلِ، وَتَمَامُهُ وَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فَقَالَ ذَلِكَ الْعَرْضُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَوَّلِ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: زِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى أَثَرِهِ؟ فَقَالَ يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ فِيهَا؟ فَقَالَ مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ رَأَيْت رَبَّك؟ فَقَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، فَذَكَرَ الْجَوَازَ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَانِعِ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي هُوَ حِجَابُ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَوْ كَشَفَهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَجْمَعُنَا رَبُّنَا بَعْدَمَا تُمَزِّقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبِلَى وَالسِّبَاعُ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ، الْأَرْضُ أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ مَدَرَةٌ بَالِيَةٌ فَقَالَتْ: لَا تُحْيِي أَبَدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ رَبُّكَ عَلَيْهَا السَّمَاءَ فَلَمْ تَلْبَثْ عَلَيْكَ إلَّا أَيَّامًا، ثُمَّ أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ شَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَعَمْرُ إلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ مِنْ الْمَاءِ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ نَبَاتَ الْأَرْضِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إذَا لَقِينَاهُ؟ فَقَالَ تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْكُمْ، فَيَأْخُذُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قَلْبَكُمْ، فَلَعَمْرُ إلَهِكَ مَا يُخْطِي وَجْهَ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتُحَطِّمُهُ بِمِثْلِ الْحَمِيمِ الْأَسْوَدِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمَ نُبْصِرُ وَقَدْ حَبَسَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتَكَ هَذِهِ» وَذَلِكَ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمٍ أَشْرَقَتْ فِيهِ الْأَرْضُ ثُمَّ وَاجَهَتْهُ الْجِبَالُ «فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمَ نُجْزَى مِنْ حَسَنَاتِنَا وَسَيِّئَاتِنَا؟ فَقَالَ الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 يَعْفُو» . «فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَاءٍ يَطْلُعُ مِنْ الْجَنَّةِ، فَقَالَ عَلَى أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ كَأْسٍ مَا بِهَا مِنْ صُدَاعٍ وَلَا نَدَامَةٍ، وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ لَعَمْرُ إلَهِكَ مِمَّا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ مَعَهُ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ» «فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَنَا فِيهَا أَزْوَاجٌ؟ فَقَالَ الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ، تَلَذُّونَهُنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَلَذُّونَكُمْ، غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَيْفِيَّةِ إتْيَانِ الْوَحْيِ إلَيْهِ، فَقَالَ يَأْتِينِي أَحْيَانًا مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شِبْهِ الْوَلَدِ بِأَبِيهِ تَارَةً وَبِأُمِّهِ تَارَةً، فَقَالَ إذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ فَالشَّبَهُ لَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ قَالَ «إذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَ الرَّجُلُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَ بِإِذْنِ اللَّهِ» فَكَانَ شَيْخُنَا يَتَوَقَّفُ فِي كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ مَحْفُوظًا، وَيَقُولُ: الْمَحْفُوظُ هُوَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ. وَالْإِذْكَارُ وَالْإِينَاثُ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ طَبِيعِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ الرَّبِّ تَبَارَكَ - وَتَعَالَى - لِلْمَلِكِ أَنْ يَخْلُقَهُ كَمَا يَشَاءُ، وَلِهَذَا جُعِلَ مَعَ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَحْفُوظًا فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ سَبْقُ الْمَاءِ سَبَبًا لِلشَّبَهِ وَعُلْوُهُ عَلَى مَاءِ الْآخَرِ سَبَبًا لِلْإِذْكَارِ وَالْإِينَاثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَبِيتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقَالَ هُمْ مِنْهُمْ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِمْ مِنْهُمْ التَّبَعِيَّةُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَعَدَمُ الضَّمَانِ، لَا التَّبَعِيَّةُ فِي عِقَابِ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى تُؤَدُّوا إلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاَللَّهِ إنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِهِ؟» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَذْكُرُونَ أَهَالِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي ثَلَاثِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا، حَيْثُ يُوضَعُ الْمِيزَانُ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَثْقُلُ مِيزَانُهُ أَمْ يَخِفُّ، وَحَيْثُ يَتَطَايَرُ الْكُتُبُ حَتَّى يَعْلَمَ كِتَابَهُ مِنْ يَمِينِهِ أَوْ مِنْ شِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَحَيْثُ يُوضَعُ الصِّرَاطُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، عَلَى حَافَّتَيْهِ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ، يَحْبِسُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَنْجُو أَمْ لَا يَنْجُو» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ؟ فَقَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَوْثَرِ، فَقَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا لَنَاعِمَةٌ، قَالَ: أُكُلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» . «وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: الْأَجْوَفَانِ الْفَمُ وَالْفَرْجُ وَعَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، مَعَ مَنْ تَكُونُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: تُخَيَّرُ فَتَكُونُ مَعَ أَحْسَنِهِمْ خُلُقًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَكَ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا وَفِي لَفْظٍ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] وَبَيْنَ عِيسَى وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ، وَبِالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ» . وَهَذِهِ إحْدَى مَسَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الثَّلَاثِ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَالثَّالِثَةُ سَبَبُ شَبَهِ الْوَلَدِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ فَوَلَّدَهَا الْكَاذِبُونَ، وَجَعَلُوهَا كِتَابًا مُسْتَقِلًّا سَمَّوْهُ مَسَائِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَهِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِحْسَانِ، فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خُلِقَ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَ النَّارَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ: بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامّ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَدْوِيَةِ وَالرُّقَى، هَلْ تَرُدُّ مِنْ الْقَدَرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ الْقَدَرِ» «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِالتَّوَقُّفِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ، وَلَا قَوْلًا بِمُجَازَاةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَامِلُوهُ لَوْ كَانُوا عَاشُوا، بَلْ هُوَ جَوَابُ فَصْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُوهُ وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَعْلُومِهِ فِيهِمْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبَأٍ: هَلْ هُوَ أَرْضٌ أَمْ امْرَأَةٌ، فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ؛ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدِ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجُ وَأَنْمَارُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارُ؟ فَقَالَ الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ» . «وَسُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» . «وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ، يَعْنِي فِي الْعِتْقِ، فَقَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُرِيقَ دَمُهُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلَ الْغِنَى» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ وَفِي لَفْظٍ: مَتَى كُنْت نَبِيًّا؟ فَقَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» هَذَا هُوَ اللَّفْظُ الصَّحِيحُ، وَالْعَوَامُّ يَرْوُونَهُ " بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ " قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ مَرْتَبَةٌ، وَاللَّفْظُ الْمَعْرُوفُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْهِجْرَةِ إلَيْكَ أَيْنَمَا كُنْتَ أَمْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً أَمْ إلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ أَمْ إذَا مِتَّ انْقَطَعَتْ؟ فَسَأَلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: هَا هُوَ ذَا حَاضِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مِتَّ فِي الْحَضَرِ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَتَخْلُقُ خَلْقًا أُمّ تُنْسَجُ نَسْجًا؟ قَالَ: فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَضْحَكُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا؟ فَاسْتَلْبَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: هَا هُوَ ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَا، بَلْ تَنْشَقُّ عَنْهَا ثِمَارُ الْجَنَّةِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنُفْضِي إلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: هَلْ نَصِلُ إلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ إي وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الرَّجُلَ لِيُفْضِيَ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ إلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ» قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 «وَسُئِلَ: أَنَطَأُ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، دَحْمًا دَحْمًا، فَإِذَا قَامَ عَنْهَا رَجَعَتْ مُطَهَّرَةً بِكْرًا» وَرِجَالُ إسْنَادِهِ عَلَى شَرْطِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ. وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ «أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَتَنَاكَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ بِذَكَرٍ لَا يَمِيلُ، وَشَهْوَةٍ لَا تَنْقَطِعُ، دَحْمًا دَحْمًا» . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّحْمُ: الدَّفْعُ الشَّدِيدُ. وَفِيهِ أَيْضًا «أَنَّهُ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُجَامِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ دَحْمًا دَحْمًا وَلَكِنْ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ فِي الْجَنَّةِ خَيْلٌ؟ فَقَالَ إنْ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ أُتِيَتْ بِفَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ لَهُ جَنَاحَانِ فَحُمِلْتَ عَلَيْهِ فَطَارَ بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ فِي الْجَنَّةِ إبِلٌ؟ فَلَمْ يَقُلْ لِلسَّائِلِ مِثْلَ مَا قَالَ لِلْأَوَّلِ، بَلْ قَالَ إنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَقَرَّتْ عَيْنُكَ» . وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] قَالَ حُورٌ: بِيضٌ، عِينٌ: ضِخَامُ الْعُيُونِ، شَعْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] فَقَالَ صَفَاؤُهُنَّ صَفَاءُ الدُّرِّ الَّذِي فِي الْأَصْدَافِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] قَالَ: خَيْرَاتُ الْأَخْلَاقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] قَالَ رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتِ فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ مِمَّا يَلِي الْقِشْرَةَ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] قَالَ هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَجَائِزَ رُمْصًا شُمْطًا، خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ فَجَعَلَهُنَّ اللَّهُ عَذَارَى، عُرُبًا مُتَعَشَّقَاتٍ مُتَحَبِّبَاتٍ، أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمْ الْحُورُ الْعِينُ؟ قَالَ بَلْ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَبِمَ ذَاكَ؟ قَالَ بِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ وَعِبَادَتِهِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَلْبَسَ اللَّهُ وُجُوهَهُنَّ النُّورَ وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضَ الْأَلْوَانِ، خُضْرَ الثِّيَابِ، صُفْرَ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَانَ لَنَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ مِنَّا تَتَزَوَّجُ الزَّوْجَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجُهَا؟ قَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ إنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ إنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَهُمْ مَعِي خُلُقًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أَيْنَ النَّاسُ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ» . «وَسُئِلَ عَنْ الْإِيمَانِ، فَقَالَ إذَا سَرَّتْكَ حَسَنَاتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَاتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ» . «وَسُئِلَ عَنْ الْإِثْمِ، فَقَالَ إذَا حَاكَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ» . «وَسُئِلَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ» . «وَسَأَلَهُ عُمَرُ: هَلْ نَعْمَلُ فِي شَيْءٍ نَسْتَأْنِفُهُ أَمْ فِي شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ قَالَ بَلْ فِي شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ يَا عُمَرُ لَا يُدْرَكُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَمَلِ قَالَ: إذًا نَجْتَهِدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَكَذَلِكَ «سَأَلَهُ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ أَمْرِنَا كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إلَيْهِ، أَبِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ بِمَا يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ لَا، بَلْ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا؟ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ قَالَ سُرَاقَةُ: فَلَا أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ مِنِّي الْآنَ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالطَّهَارَةِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالطَّهَارَةِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتُهُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، - وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَالنَّتِنُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ -، فَقَالَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» . «وَسَأَلَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ: إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ؟ فَقَالَ إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا، وَاشْرَبُوا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: «لَا تَأْكُلُوا فِيهَا إلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا» . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ: أَفْتِنَا فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إذَا اُضْطُرِرْنَا إلَيْهَا، فَقَالَ «إذَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهَا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ، وَاطْبُخُوا فِيهَا» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ «سُئِلَ عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ أَنْقُوهَا غَسْلًا، وَاطْبُخُوا فِيهَا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَذْيِ، قَالَ يُجْزِئُ مِنْهُ الْوُضُوءُ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَكَيْفَ بِمَا أَصَابَ ثَوْبِي مِنْهُ؟ فَقَالَ يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَعَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ، فَقَالَ ذَاكَ الْمَذْيُ وَكُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ» . «وَسَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضَةٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكَ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» . «وَسُئِلَ عَنْهَا أَيْضًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ، وَتُصَلِّي» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ فَقَالَ إنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَقَالَ نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ نَعَمْ صَلُّوا فِيهَا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ، فَقَالَ لَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً لَا يَعْرِفُهَا، فَلَيْسَ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ امْرَأَتِهِ شَيْءٌ إلَّا قَدْ أَتَاهُ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ فَقَالَ مُعَاذٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ قَالَ بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً» . «وَسَأَلَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟» وَفِي لَفْظٍ «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ» . وَفِي الْمُسْنَدِ «أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ حَتَّى تُنْزِلَ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ حَتَّى يُنْزِلَ» . «وَسَأَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ الْمَذْيِ، فَقَالَ مِنْ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَمِنْ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» وَفِي لَفْظٍ «إذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَتَوَضَّأْ، وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ نَضْحَ الْمَاءِ فَاغْتَسِلْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا فَقَالَ: يَغْتَسِلُ وَعَنْ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدْ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ الْبَلَلَ، فَقَالَ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يَكْسَلُ، وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي، أَفَأُنْقِضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: لَا، إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد: «اغْمِزِي قُرُونَكِ عِنْدَ كُلِّ حَفْنَةٍ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا طَرِيقًا إلَى الْمَسْجِدِ مُنْتِنَةً، فَكَيْفَ نَفْعَلُ إذَا مُطِرْنَا؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ بَعْدُ طَرِيقٌ هِيَ أَطْيَبُ مِنْهَا قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَذِهِ بِهَذِهِ» وَفِي لَفْظٍ: «أَلَيْسَ بَعْدُهُ مَا هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا يُذْهِبُ بِذَاكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: إنَّا نُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَنَطَأُ الطَّرِيقَ النَّجِسَةَ، فَقَالَ: الْأَرْضُ يُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقَالَ: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تُقْرِضُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةُ عَنْ شَاةٍ مَاتَتْ فَأَلْقُوا إهَابَهَا، فَقَالَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا: إنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَرْسَلْتُ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ، فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: ذَكَاؤُهَا دِبَاغُهَا» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ: أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ حَجَرَانِ لِلصَّفْحَتَيْنِ وَحَجَرٌ لِلْمَسْرُبَةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَنْ مَالِكٍ مُرْسَلًا «أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ» وَلَمْ يَزِدْ. «وَسَأَلَهُ سُرَاقَةُ عَنْ التَّغَوُّطِ؛ فَأَمَرَ أَنْ يَتَنَكَّبَ الْقِبْلَةَ، وَلَا يَسْتَقْبِلَهَا، وَلَا يَسْتَدْبِرَهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلَ الرِّيحَ، وَأَنْ يَسْتَنْجِيَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَعْوَادٍ، أَوْ بِثَلَاثِ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ، فَقَالَ: أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ فَقَالَ: كَيْفَ الْوُضُوءُ؟ قَالَ: أَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّكَ إذَا تَوَضَّأَتْ فَغَسَلْتُ كَفَّيْكَ فَأَنْقَيْتَهُمَا خَرَجَتْ خَطَايَاكَ مِنْ بَيْنِ أَظْفَارِكَ وَأَنَامِلِكَ، فَإِذَا تَمَضْمَضْتَ وَاسْتَنْشَقْتَ وَغَسَلْتَ وَجْهَكَ وَيَدَيْكَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمَسَحْتَ رَأْسَكَ وَغَسَلْتَ رِجْلَيْكَ اغْتَسَلْتَ مِنْ عَامَّةِ خَطَايَاكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ عَنْ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 «وَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ مِنَّا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مِنْهُ الرُّوَيْحَةُ، وَيَكُونُ فِي الْمَاءِ قِلَّةٌ، فَقَالَ: إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ عُمَارَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ وَيَوْمَيْنِ قَالَ: وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَ نَعَمْ وَمَا شِئْتَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخَذَتْ بِظَاهِرِهِ وَجَوَّزُوا الْمَسْحَ بِلَا تَوْقِيتٍ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا مُطْلَقٌ وَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ مُقَيَّدَةٌ، وَالْمُقَيَّدُ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَكُونُ فِي الرَّمَلِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَيَكُونُ فِينَا النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ عَلَيْكَ بِالتُّرَابِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ: إنِّي أَغْرُبُ عَنْ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي، فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ، فَقَالَ إنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ، فَإِذَا وَجَدْتُ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ بَشَرَتَكَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ: انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَقَالَ ثَوْبَانُ: اسْتَفْتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: أَمَّا الرَّجُلُ فَلْيَنْشُرْ رَأْسَهُ فَلْيَغْسِلْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ الشَّعْرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا عَلَيْهَا أَنْ لَا تَنْقُضَهُ، لِتَغْرِفْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ تَكْفِيهَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي اغْتَسَلْتُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَصَلَّيْتُ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَرَأَيْت قَدْرَ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ مَاءٌ فَقَالَ لَوْ كُنْتَ مَسَحْتَ عَلَيْهِ بِيَدِكَ أَجْزَأَكَ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ عَنْ الْحَيْضِ، فَقَالَ: تَأْخُذُ إحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا فَتَطْهُرُ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُئُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذَ فُرْصَةً مُمْسِكَةً فَتَطْهُرُ بِهَا» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَقَالَ تَأْخُذُ مَاءً فَتَطْهُرُ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ حَتَّى يَبْلُغَ شُئُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ الْمَاءَ عَلَيْهَا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: مَا يَحِلُّ لِي مِنْ امْرَأَتِي، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: تَشُدُّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُكَ بِأَعْلَاهَا» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْحَائِضِ، فَقَالَ وَاكِلْهَا» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمْ تَجْلِسُ النُّفَسَاءُ؟ فَقَالَ تَجْلِسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. [فَصَلِّ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَأَرْكَانِهَا] [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَأَرْكَانِهَا] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَوْبَانُ عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: أَيُّمَا أَفْضَلُ، الصَّلَاةُ فِي بَيْتِي أَوْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَى إلَى بَيْتِي مَا أَقْرَبَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ؟ فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: نَوِّرُوا بُيُوتَكُمْ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَتَى يُصَلِّي الصَّبِيُّ؟ فَقَالَ: إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُخَنَّثٍ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَقَالَ إنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: وَقْتُ صَلَاتِكُمْ مَا رَأَيْتُمْ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْ الْأُخْرَى؟ قَالَ نَعَمْ، أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْعَبْدِ جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.» «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَاعَةٌ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا؟ فَقَالَ نَعَمْ إذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَدَعْ الصَّلَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، ثُمَّ صَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، حَتَّى تَسْتَوِيَ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِكَ كَالرُّمْحِ، فَدَعْ الصَّلَاةَ فَإِنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ وَتُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُهَا، حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ عَنْ حَاجِبِكَ الْأَيْمَنِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَالصَّلَاةُ مَحْضُورَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعْ الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِفِعْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ لَا بِوَقْتِهَا. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي، فَقَالَ قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ، فَمَا لِي؟ فَقَالَ قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافَنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَقَبَضَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - وَكَانَ بِهِ بَوَاسِيرُ - عَنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أُنْصِتُ؟ قَالَ: بَلْ أَنْصِتْ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِطَّانُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَا نَزَالُ سَفْرًا فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ رُكُوعًا، وَثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ سُجُودًا» ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنَ صَلَاتِي وَبَيْنَ قِرَاءَتِي يُلَبِّسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أُصَلِّي فِي ثَوْبِي الَّذِي آتِي فِيهِ أَهْلِي؟ قَالَ نَعَمْ، إلَّا أَنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا فَتَغْسِلَهُ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ، قَالَ إنْ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ قَالَ: قُلْتُ: فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا، قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، قَالَ أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ فَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: فَازْرُرْهُ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إلَّا شَوْكَةً» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ: «إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصَلِّي فِي الْفِرَاءِ؟ قَالَ فَأَيْنَ الدِّبَاغُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْقَوْسِ وَالْقَرَنِ، فَقَالَ اطْرَحْ الْقَرَنَ وَصَلِّ فِي الْقَوْسِ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالْقَرَنُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْجَعْبَةُ «وَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ: هَلْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ؟ فَقَالَ إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِلًا يُغَطِّي ظَهْرَ قَدَمَيْهَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَقَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَالَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، حَيْثُ أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ فَقَالَ " صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ ". «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَابِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاحِدَةً، وَلَأَنْ تُمْسِكَ عَنْهَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا سُودُ الْحَدَقِ» فَقُلْتُ: الْمَسْجِدُ كَانَ مَفْرُوشًا بِالْحَصْبَاءِ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَمْسَحُهُ بِيَدَيْهِ لِمَوْضِعِ سُجُودِهِ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ فِي مَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَدَبَهُمْ إلَى تَرْكِهَا، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يُصَلِّي أَحَدُنَا فِي مَنْزِلِهِ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُمْ؟ فَقَالَ لَكَ سَهْمُ جَمْعٍ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ عَنْ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ دُونَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ، فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي صَلَّيْت فَلَمْ أَدْرِ أَشَفَعْتُ أَوْ أَوْتَرْتُ، فَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاكُمْ أَنْ يَتَلَعَّبَ بِكُمْ الشَّيْطَانُ فِي صَلَاتِكُمْ، مَنْ صَلَّى فَلَمْ يَدْرِ أَشْفَعَ أَمْ أَوْتَرَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا تَمَامُ صَلَاتِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِأَيِّ شَيْءٍ فَضَّلْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ لِأَنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ، وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اُسْتُجِيبَ لَهُ» ، «. وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ، فَقَالَ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا» وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَتْ آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَالسَّاعَةُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَاةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ، وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا بِتَنَقُّلِهَا، فَتَأَمَّلْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ؟ فَقَالَ: فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: فِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ أُهْبِطَ آدَم إلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ إثْمًا أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَمَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا حَجَرٍ إلَّا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ أَبُو أُمَامَةَ: بِكَمْ أُوتِرُ؟ قَالَ: بِوَاحِدَةٍ قَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ ثَلَاثٍ ثُمَّ قَالَ بِخَمْسٍ ثُمَّ قَالَ بِسَبْعٍ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ، فَقَالَ هِيَ الصَّلَاةُ بَعْضُهَا شَفْعٌ وَبَعْضُهَا وِتْرٌ» . وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ الْوِتْرِ، فَقَالَ افْصِلْ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالِاثْنَتَيْنِ بِالسَّلَامِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ طُولُ الْقُنُوتِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْقِيَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْ الْأُخْرَى؟ قَالَ نَعَمْ جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَوْسَطُ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 [فَصْلٌ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ وَبِالْمَوْتَى] فَصْلٌ: [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ وَبِالْمَوْتَى] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوْتِ الْفُجَاءَةِ، فَقَالَ: رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْفَاجِرِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا؛ وَرُوِيَ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِجِدَارٍ أَوْ حَائِطٍ مَائِلٍ، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إنِّي أَكْرَهُ مَوْتَ الْفَوَاتِ» وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ. «وَسُئِلَ: تَمُرُّ بِنَا جِنَازَةُ الْكَافِرِ، أَفَنَقُومُ لَهَا؟ قَالَ نَعَمْ، إنَّكُمْ لَسْتُمْ تَقُومُونَ لَهَا، إنَّمَا تَقُومُونَ إعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، «وَقَامَ لِجِنَازَةِ يَهُودِيَّةٍ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ جِنَازَةً فَقُومُوا» «وَسُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ أَوْصَتْ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهَا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، فَدَعَا بِالرَّقَبَةِ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ، قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ تُرَدُّ إلَيْنَا عُقُولُنَا فِي الْقَبْرِ وَقْتَ السُّؤَالِ؟ فَقَالَ نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمْ الْيَوْمَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَدَقَةِ الْإِبِلِ، قَالَ مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا - وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا - إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَقَرِ، فَقَالَ وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَصْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَيْلِ فَقَالَ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ، هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَلِرَجُلٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ لَهُ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ سَتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحُمُرِ؛ فَقَالَ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] » ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: إنِّي أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ قَالَ مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّي زَكَاتَهُ فَزَكِّي فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ؟ قَالَ نَعَمْ، ثُمَّ قَرَأَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] » ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ لِي حُلِيًّا، وَإِنَّ زَوْجِي خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ لِي ابْنَ أَخٍ، أَفَيُجْزِئُ عَنًّ أَنْ أَجْعَلَ زَكَاةَ الْحُلِيِّ فِيهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ» . وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ لِي نَخْلًا، فَقَالَ أَدِّ الْعُشْرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي، فَحَمَاهَا لِي» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَبَّاسُ عَنْ تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَقَالَ هِيَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ أَقِطٍ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ فَقَالُوا: إنَّ أَصْحَابَ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ قَالَ لَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ؟ وَكَيْفَ أَمْنَعُ؟ فَقَالَ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ بِهَا رَحِمَكَ وَأَقَارِبَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْلِلْ فِي، قَالَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 حَسْبِي، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ نَعَمْ، إذَا أَدَّيْتَهَا إلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا، وَلَكَ أَجْرُهَا، وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَبِي رَافِعٍ مَوْلَاهُ، فَقَالَ إنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ عَنْ أَرْضِهِ بِخَيْبَرَ، وَاسْتَفْتَاهُ مَا يَصْنَعُ فِيهَا وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهَا إلَى اللَّهِ، فَقَالَ إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَفَعَلَ» . «وَتَصَدَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ بِحَائِطٍ لَهُ، فَأَتَاهُ أَبَوَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ قَيِّمَ وُجُوهِنَا، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ، وَرُدَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ فَتَوَارَثَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْمَنِيحَةُ، أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ الدِّرْهَمَ أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ أَوْ لَبَنَ الْبَقَرَةِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً أُخْرَى عَنْهَا، فَقَالَ: أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى» . «وَسُئِلَ مَرَّةً أُخْرَى عَنْهَا فَقَالَ: سَقْيُ الْمَاءِ» . وَسُئِلَ مَرَّةً أُخْرَى عَنْهَا، فَقَالَ «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضَهُ: هَلْ لَهُ مِنْ أَجْرٍ فِي سَقْيِهَا؟ فَقَالَ نَعَمْ، فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَانِ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، فَقَالَ: لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «أَتَجْزِيءُ عَنِّي مِنْ النَّفَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَاءُ فَقَالَتْ: مَا لِي مَالٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرِ، أَفَأَتَصَدَّقُ؟ فَقَالَ تَصَدَّقِي وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَمْلُوكٌ: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوْلَايَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ شِرَاءِ فَرَسٍ تَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَعْرُوفِ، فَقَالَ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ طَلْقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ فِي الْأَرْضِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. فَلِلَّهِ مَا أَجَلَّ هَذِهِ الْفَتَاوَى، وَمَا أَحْلَاهَا، وَمَا أَنْفَعَهَا، وَمَا أَجْمَعَهَا لِكُلِّ خَيْرٍ، فَوَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ صَرَفُوا هِمَمَهُمْ إلَيْهَا لَأَغْنَتْهُمْ عَنْ فَتَاوَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِعَبْدٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ وَجَبَتْ صَدَقَتُكَ، وَهُوَ لَكَ بِمِيرَاثِكَ» ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ آخَرُ فَقَالَ: إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: إنَّ أَبُو مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، أَفَيَنْفَعُهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمُورٌ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ابْنِ جُدْعَانَ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ فَقَالَ لَا يَنْفَعُهُ؛ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْغَنِيِّ الَّذِي يُحْرَمُ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا جَوَابَهُ لِلْآخَرِ «مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ» فَإِنَّ هَذَا غَنَاءُ الْيَوْمِ، وَذَاكَ غَنَاءُ الْعَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ ذَلِكَ السَّائِلِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِعَطَاءٍ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ خَيْرًا لِأَحَدِنَا أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَكَهُ اللَّهُ فَقَالَ عُمَرُ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَأْتِينِي شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إلَّا أَخَذْتُهُ» . ذَكَرَهُ مَالِكٌ. [فَصْلٌ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ قِيلَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ صَدَقَةُ رَمَضَانَ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . قَالَ شَيْخُنَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِشَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ الْعَامِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَخَلْتَ عَلَيَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، ثُمَّ أَكَلْت حَيْسًا، فَقَالَ نَعَمْ، إنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَوْ قَضَى رَمَضَانَ فِي التَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَةً مِنْ مَالِهِ فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْضَاهُ، وَبَخِلَ بِمَا شَاءَ فَأَمْسَكَهُ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَدَخَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمِّ هَانِئٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ صَنَعَ طَعَامًا، فَدَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ لَكَ أَخُوكَ طَعَامًا وَتَكَلَّفَ لَكَ أَخُوكَ، أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ» وَذَكَرَ أَحْمَدُ «أَنَّ حَفْصَةَ أُهْدِيَتْ لَهَا شَاةٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا هِيَ وَعَائِشَةُ، وَكَانَتَا صَائِمَتَيْنِ، فَسَأَلَتَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبْدِلَا يَوْمًا مَكَانَهُ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: قَدْ اشْتَكَيْتُ عَيْنِي، أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ نَعَمْ» ذَكَرَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّهُ سُئِلَ أَفَرِيضَةٌ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ؟ فَقَالَ لَا، لَوْ كَانَ فَرِيضَةً لَوَجَدْتَهُ فِي الْقُرْآنِ» ، وَفِي إسْنَادِ الْحَدِيثَيْنِ مَقَالٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلْ هَذِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ0 فَسَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا، فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا، وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَتُهُ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَوَجَدَتْ عِنْدَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَتْ: قَدْ أَخْبَرْتُهَا، فَذَهَبَتْ إلَى زَوْجِهَا فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ» ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَذَكَرَ أَحْمَدُ «أَنَّ شَابًّا سَأَلَهُ فَقَالَ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: لَا وَسَأَلَهُ شَيْخٌ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ قَالَ إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْت وَشَرِبْتُ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِيهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَتِمَّ صَوْمَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْكَ وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ أَكَلَتْ مَعَهُ فَأَمْسَكَتْ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ صَائِمَةً فَنَسِيتُ، فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: الْآنَ بَعْدَ مَا شَبِعْتِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَمِّي صَوْمَكِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْكِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَنَهَاهُمْ عَنْ الْوِصَالِ وَوَاصَلَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتَ صُمْتَ وَإنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ» «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إنِّي أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَةُ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ذَكَرَهُمَا مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: ذَلِكَ إلَيْكَ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ قَضَى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، أَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً؟ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَعَنْ أَبِي دَاوُد «أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتْ الْبَحْرَ، فَنَذَرَتْ إنْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَجَّاهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَنَجَّاهَا اللَّهُ، فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ، فَجَاءَتْ ابْنَتُهَا أَوْ أُخْتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةُ فَقَالَتْ: إنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ» فَإِنَّ الْقَضَاءَ أَفْضَلُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ، وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اجْلِسْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْفَرْقُ: الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: إنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ رَمَضَانَ فَصُمْ الْمُحَرَّمَ؛ فَإِنَّهُ شَهْرٌ فِيهِ تَابَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ، وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نَرَكَ تَصُومُ فِي شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ فِي شَعْبَانَ؟ فَقَالَ: ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ تُفْطِرُ، وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ تَصُومُ، إلَّا يَوْمَيْنِ إنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ، وَإِلَّا صُمْتَهُمَا، قَالَ: أَيُّ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الْخَمِيسِ، قَالَ: ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ فَقَالَ: إنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا مُهْتَجِرَيْنِ، يَقُولُ حَتَّى يَصْطَلِحَا» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ؟ قَالَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ قَالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ قَالَ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: ذَاكَ صَوْمُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي طَوَّقْتُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ هَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ» «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَصُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا أُكَلِّمُ أَحَدًا؟ فَقَالَ: لَا تَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا فِي أَيَّامٍ هُوَ أَحَدُهَا أَوْ فِي شَهْرٍ، وَأَمَّا أَنْ لَا تُكَلِّمَ أَحَدًا فَلَعَمْرِي أَنْ تُكَلِّمَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَنْهَى عَنْ مُنْكِرٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْكُتَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَيْفَ تَرَى؟ فَقَالَ اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ يَوْمًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: بَلْ فِي رَمَضَانَ فَقِيلَ: تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ: فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، أَوْ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ فَقِيلَ: فِي أَيِّ الْعِشْرِينَ؟ قَالَ: ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لِمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلَنَّ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَالسَّائِلُ أَبُو ذَرٍّ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: فِي كُلِّ رَمَضَانَ» . «وَسُئِلَ عَنْهَا أَيْضًا فَقَالَ: كَمْ اللَّيْلَةُ؟ فَقَالَ السَّائِلُ: اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ، فَقَالَ: هِيَ اللَّيْلَةُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَوْ الْقَابِلَةُ يُرِيدُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: مَتَى نَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ؟ فَقَالَ: الْتَمِسُوهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَذَلِكَ مَسَاءُ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنْ وَافَقْتُهَا فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. [فَصْلٌ فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ] «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ حَجٌّ مَبْرُورٌ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ أَحْمَدُ «لَكِنْ هُوَ جِهَادٌ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ: مَا يَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ، فَقَالَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ مَعْقِلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ حَجَّةً، وَإِنَّ لِأَبِي مَعْقِلٍ بَكْرًا، فَقَالَ أَبُو مَعْقِلٍ: صَدَقَتْ قَدْ جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَعْطَاهَا الْبَكْرَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ قَدْ كَبِرَتْ سِنِي وَسَقِمْتُ، فَهَلْ مِنْ عَمَلٍ يُجْزِئُ عَنِّي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُ عَنْ حَجَّةٍ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أَكْرِي فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَكَ حَجٌّ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَكَ حَجٌّ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ فَقِيلَ: مَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ قَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ لَا، وَإِنْ تَعْتَمِرْ فَهُوَ أَفْضَلُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 صَحِيحٌ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَحُجَّ عَنْهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، فَقَالَ لَهُ حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَلَمْ يَحُجَّ، قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ أَيُقْبَلُ مِنْكَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ» وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ إنَّمَا كَانَا عَنْ الْقَبُولِ وَالصِّحَّةِ، لَا عَنْ الْوُجُوبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا سَمِعَهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَرِيبٌ لَهُ، فَقَالَ أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. «وَسَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَنْ صَبِيٍّ رَفَعَتْهُ إلَيْهِ فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فِي إحْرَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى، فَقَالَ انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ «وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو قَتَادَةَ عَنْ الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ وَهُوَ حَلَالٌ فَأَكَلَ أَصْحَابُهُ مِنْهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، فَقَالَ هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَنَاوَلَهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ، فَقَالَ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْفُوَيْسِقَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالسَّبْعَ الْعَادِيَ» زَادَ أَحْمَدُ «وَيَرْمِي بِالْغُرَابِ وَلَا يَقْتُلُ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ فَقَالَتْ: إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، «وَاسْتَفْتَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِي الْحَجِّ وَقَالَتْ: إنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَدْخُلُ الْبَيْتَ، فَقَالَ اُدْخُلِي الْحِجْرَ فَإِنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ» . «وَاسْتَفْتَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ، أَذْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ - يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ - وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَاسْتَفْتَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَقَالَ الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ تَمَّ حَجُّهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلًا خَلْفَهُ يُنَادِي بِهِنَّ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ «فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ أَوْ يَجْهَلُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى بَعْضٍ وَأَشْبَاهِهَا إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» وَفِي لَفْظٍ: «حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ قَالَ: حَلَقْتُ وَلَمْ أَرْمِ، قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ» وَفِي لَفْظٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ وَقَالَ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، وَأَخَّرْتُ شَيْئًا وَقَدَّمْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ لَا حَرَجَ إلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرِجَ وَهَلَكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِأَذَى الْقَمْلِ: أَنْ يُنْسِكَ بِشَاةٍ، أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً أَنْ يَرْكَبَهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاجِيَةُ الْخُزَاعِيُّ: مَا يَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ؟ فَقَالَ انْحَرْهَا، وَاغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، وَاضْرِبْ بِهِ صَفَحَاتِهَا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَأْكُلُوهَا، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ» . «وَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: إنِّي أَهْدَيْتُ نَجِيبًا، فَأُعْطِيت بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَبِيعُهَا فَأَشْتَرِي بِهَا بُدْنًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، انْحَرْهَا إيَّاهَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ فَقَالَ سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ: فَمَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصُّوفُ؟ قَالَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ يَوْمُ النَّحْرِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا، فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] وَإِنَّمَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ يَوْمَ النَّحْرِ» ؛ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ» وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِجَوَازِ فَسْخِهِمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَفْتَاهُمْ بِاسْتِحْبَابِهِ، ثُمَّ أَفْتَاهُمْ بِفِعْلِهِ حَتْمًا، وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةً لَا شَكَّ فِيهَا «أَنَّهُ قَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمَنْ كَانَ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ هُوَ فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا» . رَوَاهُ عَنْهُ سِتَّةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ الْقِرَانَ، وَأَمَرَ بِفِعْلِهِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَأَمَرَ بِفَسْخِهِ إلَى التَّمَتُّعِ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا مَنِيحَةَ أُنْثَى، أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ خُذْ مِنْ شَعْرِكَ وَأَظْفَارِكَ، وَقُصَّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، وَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. وَالْمَنِيحَةُ: الشَّاةُ الَّتِي أَعْطَاهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا، فَمُنِعَتْ مِنْ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَنَحَهَا هُوَ غَيْرَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَزِمَ الْوَفَاءُ لَهُ بِذَلِكَ فَلَا يُضَحِّي بِهَا أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 «وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا مَعَهُ فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا فَاشْتَرَوْا أُضْحِيَّةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَغْلَيْنَا بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَفْضَلَ الضَّحَايَا أَغْلَاهَا وَأَسْمَنُهَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ رَجُلٌ بِرِجْلٍ، وَرَجُلٌ بِرِجْلٍ، وَرَجُلٌ بِيَدٍ، وَرَجُلٌ بِيَدٍ، وَرَجُلٌ بِقَرْنٍ، وَرَجُلٌ بِقَرْنٍ، وَذَبَحَهَا السَّابِعُ، وَكَبَّرُوا عَلَيْهَا جَمِيعًا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، نَزَلَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ فِي إجْزَاءِ الشَّاةِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رُفْقَةً وَاحِدَةً. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَلَيَّ بَدَنَةً وَأَنَا مُؤْثِرٌ بِهَا وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيهَا، فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحَهُنَّ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ جَذَعٍ مِنْ الْمُعِزِّ، فَقَالَ ضَحِّ بِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ عَنْ شَاةٍ ذَبَحَهَا يَوْمَ الْعِيدِ فَقَالَ أَقَبْلَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ قَالَ: عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مُسِنَّةٍ، قَالَ تُجْزِئُ عَنْكَ، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الذَّبْحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا يُجْزِئُ، سَوَاءٌ دَخَلَ وَقْتُهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَهَذَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ قَطْعًا، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» وَلَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ كَبْشًا أُضَحِّي بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ أَلْيَتَهُ، فَقَالَ ضَحِّ بِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَّةَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ صَلِّ هَهُنَا ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ شَأْنُكَ إذًا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قَالَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ عَامًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا يُرِيدُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «وَفِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي بَيَانِ فَضْلِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي بَيَانِ فَضْلِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ] «وَسُئِلَ: أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: ضَرَبْت خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا إنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ صَحِيحٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأهُ {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} [الزلزلة: 1] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ مَرَّتَيْنِ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ سُورَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَقَالَ: حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» . «وَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: اقْرَأْ سُورَةَ هُودٍ وَسُورَةَ يُوسُفَ؟ فَقَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] » ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. [فَتَاوَى فِي بَيَانِ فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ] [فَتَاوَى فِي بَيَانِ فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ] وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ» وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ خَتْمِ الْقُرْآنِ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّهُ حَلَّ بِالْفَرَاغِ وَارْتَحَلَ بِالشُّرُوعِ، وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي كُلَّمَا حَلَّ مِنْ غُزَاةٍ ارْتَحَلَ فِي أُخْرَى، أَوْ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ عَمَلٍ ارْتَحَلَ إلَى غَيْرِهِ تَكْمِيلًا لَهُ كَمَا كَمَّلَ الْأَوَّلَ، وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ فَلَيْسَ مُرَادَ الْحَدِيثِ قَطْعًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ أَنْ يَضْرِبَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِهِ، كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ، وَهَذَا لَهُ مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ سُورَةٍ أَوْ جُزْءٍ ارْتَحَلَ فِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُلَّمَا حَلَّ مِنْ خَتْمَةٍ ارْتَحَلَ فِي أُخْرَى. «وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ اللَّهِ: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ فِي شَهْرٍ فَقَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي عِشْرِينَ فَقَالَ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَالَ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فِي عَشْرَةٍ فَقَالَ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي خَمْسٍ قَالَ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ لَا يَفْقَهُ الْقُرْآنَ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَاخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي آيَةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا أَخَذَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ قِيلَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُفْرِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ السَّبْقِ، فَقَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» وَفِي لَفْظٍ «الْمُشْتَهِرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ عَنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ حِلَقُ الذِّكْرِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ الْكَرَمِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ مَنْ أَهْلُ الْكَرَمِ، فَقَالَ هُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ فِي الْمَسَاجِدِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ عَنْ غَنِيمَةِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، فَقَالَ غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْجَنَّةُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْمٍ غَزَوْا فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا أَفْضَلَ غَنِيمَةً وَلَا أَسْرَعَ رَجْعَةً مِنْهُمْ، فَقَالَ أَدُلُّكُمْ عَلَى قَوْمٍ أَفْضَلَ غَنِيمَةً مِنْهُمْ، وَأَسْرَعَ رَجْعَةً، قَوْمٌ شَهِدُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَأُولَئِكَ أَسْرَعُ رَجْعَةً وَأَفْضَلُ غَنِيمَةً» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَقَالَ الَّذِينَ إذَا رَأَوْا ذِكْرَ اللَّهِ ذَكَرُوا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَرْفَعْهَا فِي الدَّرَجَاتِ، فَقَالَ ذِكْرُ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ فَقَالَ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَقَالَ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ قَالُوا: فَمَاذَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِأَيِّ شَيْءٍ يُخْتَمُ الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ: بِآمِينَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنْ النَّارِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَمَامَ نِعْمَتِهِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاسْتِعْجَالِ الْمَانِعِ مِنْ إجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَقَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ «يَقُولُ قَدْ سَأَلْتُ، قَدْ سَأَلْتُ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَقَالَ التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فَقَالَ: هَذَا لِرَبِّي فَمَا لِي؟ فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافَنِي؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ الْمَسَاجِدُ، فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّتْعِ فِيهَا، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَاسْتَفْتَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي، قَالَ قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ، فَمَا لِي؟ قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافَنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ وَقَبَضَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَهُ مِنْ الْخَيْرِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَمَرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسُ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ يُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَالَ لَهُ لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ حِينَ أَمْسَى: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّهُ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَنْ يُعَلِّمَهُ تَعَوُّذًا يَتَعَوَّذُ بِهِ، فَقَالَ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ هَنِّي، يَعْنِي الْفَرْجَ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتُ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتُ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ، رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: «دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتَهُ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ، قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبْعِدُنِي مِنْ النَّارِ، فَقَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ قَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ قَالَ لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا، وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 الرَّحِمِ الظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْهِجْرَةُ قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الْجِهَادُ قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إذَا لَقِيتَهُمْ قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ، ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا، حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ، وَتُبْغِضَ لِلَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ السَّائِلُ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ» . «وَاخْتَلَفَ نَفَرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِقَايَةُ الْحَاجِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَجُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاسْتَفْتَى عُمَرُ فِي ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] » «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي، وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا وَنَصَبَ أَصَابِعَهُ مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَتُقْرِئَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتُ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: إنِّي إذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ قَالَ: أَنْبِئْنِي عَنْ أَمْرٍ إذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمْ الطَّعَامَ، وَصِلْ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: إذَا أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقِيَامِ قِيلَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَتَصَدَّقُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ؟ قَالَ: إنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ فِي حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقِيّكَ إلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ مِنْ جِمَاعِكَ لِزَوْجَتِكَ أَجْرٌ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكَيْفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ وَرَجَوْتَ أَجْرَهُ فَمَاتَ أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ خَلَقْتَهُ؟ قُلْتُ: بَلْ اللَّهُ خَلَقَهُ، قَالَ: فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟ قُلْتُ: بَلْ اللَّهُ هَدَاهُ، قَالَ: فَأَنْتَ كُنْتَ رَزَقْتَهُ؟ قُلْتُ: بَلْ اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ، قَالَ: فَكَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَاتَهُ، فَلَكَ أَجْرٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ يَوْمًا: مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: مَنْ اتَّبَعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا اجْتَمَعْنَ فِي رَجُلٍ إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسْتُرُهُ فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ يَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ، وَتَصْدِيقٌ بِهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ لَا تَتَّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى فِي شَيْءٍ قُضِيَ لَكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةُ عَنْ فَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إذَا أَحْسَنْتُ أَنِّي قَدْ أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ أَنِّي قَدْ أَسَأْتُ؟ فَقَالَ إذَا قَالَ جِيرَانُكَ: إنَّكَ قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا قَالُوا: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «إذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْكَسْبِ وَالْأَمْوَالِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْكَسْبِ وَالْأَمْوَالِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ؟ قَالَ عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِيًّ، قَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوهُ هَنِيئًا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَزْوَاجِنَا، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ الرَّطْبُ تَأْكُلِينَهُ وَتُهْدِينَهُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ عُقْبَةُ: الرَّطْبُ يَعْنِي بِهِ مَا يَفْسُدُ إذَا بَقِيَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ الرُّقْيَةِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ، فَقَالَ مَا أَتَاكَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ فَكُلْهُ وَتَمَوَّلْهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ فَقَالَ أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: إنَّا نُطْرِقُ الْفَحْلَ فَنُكْرَمُ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي الْكَرَامَةِ» ، حَدِيثٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. [إرْشَادَاتٌ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ] [إرْشَادَاتٌ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ] «وَنَهَى عَنْ الْقُسَامَةِ بِضَمِّ الْقَافِ، فَسُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَى الْفِئَامِ مِنْ النَّاسِ فَيَأْخُذُ مِنْ حَظِّ هَذَا وَحَظِّ هَذَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ سَقْيُ الْمَاءِ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، قَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي» فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا وَأَظْلَمَ، فَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ» . «وَقَالَ: فِي الْإِنْسَانِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ مَفْصِلٍ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مِفْصَلٍ صَدَقَةً، فَسَأَلُوهُ مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ النُّخَاعَةُ تَرَاهَا فِي الْمَسْجِدِ فَتَدْفِنُهَا، أَوْ الشَّيْءَ فَتُنَحِّيهِ عَنْ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى يَجْزِيَانِكَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ قَاعِدًا، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» . قُلْتُ: وَهَذَا لَهُ مَحْمَلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهَا مُضْطَجِعًا، وَالثَّانِي: عَلَى الْمَعْذُورِ؛ فَيَكُونُ لَهُ بِالْفِعْلِ النِّصْفُ وَالتَّكْمِيلُ بِالنِّيَّةِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ إلَّا خَشْيَةَ أَنْ لَا أَقُومَ بِهِ، فَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 تَعَلَّمْ الْقُرْآنَ وَاقْرَأْهُ وَارْقُدْ، فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَالَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ عَلَى كُلِّ مَكَان، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ وُكِيَ عَلَى مِسْكٍ» . «وَقَالَ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ مِنْ أَصْحَابِهِ لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ فَسُئِلَ: لِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إلَى مُنْقَطِعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» ذَكَرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَبُو حَاتِمٍ [وَ] ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ دَاءٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرُّقَى وَالْأَدْوِيَةِ: هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» . «وَسَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ طَعَنَ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَرْبِ، فَقَالَ: خُذْهَا، وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ، فَقَالَ لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ، يُحْمَدُ وَيُؤْجَرُ» ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَنْفَعُهُ، فَقَالَ لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَخِيلَةِ، وَلَا يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُ لَكَ، وَوَبَالُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لِمَنْ شَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا: كَيْفَ يُصْنَعُ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ صَلِّ مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّهُ يَضْرِبُنِي إذَا صَلَّيْت، وَيُفْطِرُنِي إذَا صُمْت، وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَتْ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إذَا صَلَّيْتُ فَإِنَّهَا تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ وَقَدْ نَهَيْتُهَا عَنْهُمَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كَانَتْ سُورَةً وَاحِدَةً لَكَفَتْ النَّاسَ وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفْطِرُنِي إذَا صُمْتُ فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ فَتَصُومُ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ وَلَا أَصْبِرُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمئِذٍ لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهَا لَا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَكَادُ أَنْ نَسْتَيْقِظَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَالَ صَلِّ إذَا اسْتَيْقَظْتَ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 قُلْتُ: وَلِهَذَا صَادَفَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ " وَاَللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ " فَإِنَّهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْشِفْ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الْوَزَغِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى الْكَعْبَةِ، فَجَعَلَ يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ» . «وَاسْتَفْتَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فِي جَارٍ لَهُ يُؤْذِيهِ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ: اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ فَفَعَلَ، فَجَعَلَ النَّاسَ يَمُرُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: مَا لَهُ؟ وَيَقُولُ: آذَاهُ جَارُهُ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَعَنَهُ اللَّهُ، فَجَاءَهُ جَارُهُ فَقَالَ: رُدَّ مَتَاعَكَ، وَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ أَبَدًا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا كَبِيرًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَلَكَ وَالِدَانِ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ فَلَكَ خَالَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَبِرَّهَا» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا. أَوْجَبَ: أَيْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِذَنْبٍ عَظِيمٍ ارْتَكَبَهُ. «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، إنَّ أَبَوَيَّ قَدْ هَلَكَا، فَهَلْ بَقِيَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عُقُودِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ رَحِمِهِمَا الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا قَالَ الرَّجُلُ: مَا أَلَذَّ هَذَا وَأَطْيَبَهُ، قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ شَدَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَقَالَ: إنَّمَا قَالَهُ تَعَوُّذًا مِنْ السَّيْفِ، فَقَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا فَقَالَ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: مَا الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ؟ فَقَالَ الْإِسْلَامُ فَقَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، أَخَوَانِ نَصِيرَانِ، لَا يُقْبَلُ مِنْ عَبْدٍ تَوْبَةٌ أَشْرَكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقْتُلْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ قَطَعَ إحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لَا تَقْتُلْهُ؛ فَإِنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَلَمْ يُضِفْنِي وَلَمْ يَقِرْنِي، أَفَأَحْتَكِمُ؟ قَالَ: بَلْ أَقِرْهُ» ذَكَرَهُمَا ابْنُ حِبَّانَ، وَقَوْلُهُ: أَحْتَكِمُ أَيْ أُعَامِلُهُ إذَا مَرَّ بِي بِمِثْلِ مَا عَامَلَنِي بِهِ «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِهِمْ، قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ، فَقَالُوا: أَفْتِنَا فِي كَذَا، أَفْتِنَا فِي كَذَا، أَفْتِنَا فِي كَذَا، أَفْتِنَا فِي كَذَا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ الْحَرَجَ، إلَّا مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ فَذَلِكَ الَّذِي حَرَجَ وَهَلَكَ قَالُوا: أَفَنَتَدَاوَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ قَالُوا: فَأَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَحَبُّ النَّاسِ إلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ: إنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، فَقَالَ إنَّ أَبَاكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ يَعْنِي الذِّكْرَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ طَعَامٍ لَا أَدَعُهُ إلَّا تَحَرُّجًا، قَالَ لَا تَدَعْ شَيْئًا ضَارَعَ النَّصْرَانِيَّةُ فِيهِ قَالَ: قُلْتُ: إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي الْمُعَلَّمَ فَيَأْخُذُ صَيْدًا فَلَا أَجِدُ مَا أَذْبَحُ بِهِ إلَّا الْمَرْوَةَ وَالْعَصَا، أَهْرِقْ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ عَنْ ابْنِ جُدْعَانَ وَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَقِرَى الضَّيْفِ، هَلْ يَنْفَعُهُ؟ فَقَالَ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَهُ، فَقَالَ قُلْ آمَنْتُ بِاَللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ قَالُوا: لَسْنَا عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي، خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْتُ إنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ، فَقَالَ إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَافْعَلِي، وَإِلَّا فَلَا قَالَتْ: إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ، فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَرَبَتْ بِالدُّفِّ» ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَبَاحَ لَهَا الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ الْمُبَاحِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا وَجَبْرًا وَتَأْلِيفًا لَهَا فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَفَرَحِهَا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّذْرُ قُرْبَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا عَلَى أَعْدَائِهِ قَدْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، وَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ، فَأُمِرَتْ بِالْوَفَاءِ بِهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَا أَجْرَ لَهُ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَعِدْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفْهِمْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَا أَجْرَ لَهُ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَقَالُوا: أَعِدْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَعَادَ، فَقَالَ لَا أَجْرَ لَهُ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: قُلْ لِي قَوْلًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، فَقَالَ لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ لَا تَغْضَبْ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ اسْتَكْثَرْتُ مِنْ زَوْجِي بِمَا لَا يُعْطِينِي؟ فَقَالَ: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّحِيحِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَوْصِنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ. «وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: لَيْسَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مَعَكَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: ثُلُثُ الْقُرْآنِ قَالَ أَلَيْسَ مَعَكَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبْعُ الْقُرْآنِ قَالَ أَلَيْسَ مَعَكَ {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} [الزلزلة: 1] ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبْعُ الْقُرْآنِ قَالَ أَلَيْسَ مَعَكَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبْعُ الْقُرْآنِ، أَلَيْسَ مَعَكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رُبْعُ الْقُرْآنِ قَالَ: تَزَوَّجْ، تَزَوَّجْ، تَزَوَّجْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِكَ وَلَا يَأْخُذُونَ بِأَمْرِكَ، فَمَا تَأْمُرُنَا فِي أَمْرِهِمْ؟ قَالَ: لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعْ اللَّهَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَسٌ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ، فَقَالَ إنِّي فَاعِلٌ قَالَ: فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ اُطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ فَأَنَا عَلَى الْمِيزَانِ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ، قَالَ فَأَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ، لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَوَاطِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ، فَقَالَ: إنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ، فَأَنَا فِي حِلٍّ إنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ قَائِلُهُ مَعْنَاهُ إمَّا لِعَدَمِ قَصْدِهِ لَهُ، أَوْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ بِكَلَامِهِ، وَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ الْمُكْرَهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ الْكُفْرَ وَلَمْ يَلْزَمْ زَائِلَ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْحَجَّاجَ بْنَ عِلَاطٍ حُكْمُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فَالْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا كَسَبَهُ الْقَلْبُ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ، وَأَرَادَهُ مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَعْنِي فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 النَّوْحِ، أَفَأُسَاعِدُهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا جَلَبَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَالْإِسْعَادُ: إسْعَادُ الْمَرْأَةِ فِي مُصِيبَتِهَا بِالنَّوْحِ. وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ بِنْتَهُ. وَالْعَقْرُ: الذَّبْحُ عَلَى قُبُورِ الْمَوْتَى. وَالْجَلَبُ: الصِّيَاحُ عَلَى الْفَرَسِ فِي السِّبَاقِ. وَالْجَنَبُ: أَنْ يَجْنَبَ فَرَسًا فَإِذَا أَعْيَتْ فَرَسُهُ انْتَقَلَ إلَى تِلْكَ فِي الْمُسَابَقَةِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: قَدْ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نَسِيرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ قَدْ اُسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعْنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَقَامُوا، فَدَخَلَ الْحَائِطَ، وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَتِهِ، فَمَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ، فَقَالَ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ، تَسْجُدُ لَكَ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ، فَقَالَ لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلُحَ بَشَرٌ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ يَتَنَجَّسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسُهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ مَعَ مُرِيدِيهِمْ بِسُجُودِ الْجَمَلِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكُوا قَوْلَهُ «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ» وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَحْتَفُونَ وَلَا يَنْتَعِلُونَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ فَاحْتَفُوا وَانْتَعِلُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ، فَقَالَ قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَرَرْتُ بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ فَيَقُوتَنِي مَا فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَأُصِيبَ مَا حَوْلَهُ مِنْ الْبَقْلِ وَأَتَخَلَّى عَنْ الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ] «وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، فَسَأَلُوهُ، وَقَالُوا: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . وَفِي قَوْلِهِ «هُوَ حَرَامٌ» قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ حَرَامٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَشْتَرِيهِ لِذَلِكَ، وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مِنْهُمْ هَلْ وَقَعَ عَنْ الْبَيْعِ لِهَذَا الِانْتِفَاعِ الْمَذْكُورِ أَوْ وَقَعَ عَنْ الِانْتِفَاعِ الْمَذْكُورِ؟ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ هَذَا الِانْتِفَاعِ حَتَّى يَذْكُرُوا لَهُ حَاجَتَهُمْ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ عَنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يَبْتَاعُونَهُ لِهَذَا الِانْتِفَاعِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِانْتِفَاعِ الْمَذْكُورِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ جَوَازِ الْبَيْعِ وَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو طَلْحَةَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ لَا» حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي لَفْظٍ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لِأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، فَقَالَ أَهْرِقْ الْخَمْرَ وَاكْسِرْ الدِّنَانَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ: الرَّجُلُ يَأْتِينِي وَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ وَلَيْسَ عِنْدِي مَا يَطْلُبُ، أَفَأَبِيعُ مِنْهُ ثُمَّ أَبْتَاعُ مِنْ السُّوقِ؟ قَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا فَقَالَ: إنِّي أَبْتَاعُ هَذِهِ الْبُيُوعَ، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ مِنْهَا؟ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي لَا تَبِيعَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَقْبِضَهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ: «ابْتَعْتُ طَعَامًا مِنْ طَعَامِ الصَّدَقَةِ فَرَبِحْتُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاحِ الَّذِي إذَا وُجِدَ جَازَ بَيْعُ الثِّمَارِ، فَقَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمَاءُ قَالَ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمِلْحُ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ النَّارُ ثُمَّ سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 «وَسُئِلَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى رَجُلٍ يُغْبَنُ فِي الْبَيْعِ لِضَعْفٍ فِي عُقْدَتِهِ، فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهُ، فَقَالَ إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَأَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ ابْتَاعَ غُلَامًا فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ اسْتَغَلَّ غُلَامِي، فَقَالَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أَبِيعُ وَأَشْتَرِي، فَإِذَا أَرَدْت أَنْ أَبْتَاعَ الشَّيْءَ سُمْت بِهِ أَقَلَّ مِمَّا أُرِيدُ ثُمَّ زِدْت حَتَّى أَبْلُغَ الَّذِي أُرِيدُ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ أَبِيعَ الشَّيْءَ سُمْت بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي أُرِيدُ ثُمَّ وَضَعْتُ حَتَّى أَبْلُغَ الَّذِي أُرِيدُ، فَقَالَ لَا تَفْعَلِي، إذَا أَرَدْتِ أَنْ تَبْتَاعِي شَيْئًا فَاسْتَامِي بِهِ الَّذِي تُرِيدِينَ أُعْطِيت أَوْ مُنِعْتِ، وَإِذَا أَرَدْتِ أَنْ تَبِيعِي شَيْئًا فَاسْتَامِي بِهِ الَّذِي تُرِيدِيهِ أُعْطِيت أَوْ مُنِعْتِ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالٌ عَنْ تَمْرٍ رَدِيءٍ بَاعَ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ جَيِّدٍ، فَقَالَ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بَيْعًا آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِالثَّمَنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ أَمَّا مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَذَرُوهُ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ عَنْ «الْبَرَاءِ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ الصَّرْفِ، فَقَالَ إنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئَةً فَلَا يَصْلُحُ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ قِلَادَةٍ اشْتَرَاهَا يَوْمَ خَيْبَرَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَقَالَ لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ مُدِّ عَجْوَةٍ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ مَا فِي الْآخَرِ وَزِيَادَةٌ؛ فَإِنَّهُ صَرِيحُ الرِّبَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَنْعَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ الصُّوَرِ «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ وَالنَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ: أَشْتَرِي الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ؟ ، فَقَالَ: إذَا أَخَذْتَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلَا يُفَارِقُكَ صَاحِبُكَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ» وَفِي لَفْظٍ: «كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ، وَكُنْتُ آخُذُ الذَّهَبَ مِنْ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالدَّنَانِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّنَانِيرِ، فَسَأَلْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إذَا أَخَذْتَ أَحَدَهُمَا، وَأَعْطَيْتَ الْآخَرَ فَلَا يُفَارِقُكَ صَاحِبُكَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا فِي اللَّفْظِ الَّذِي عِنْدَ أَبِي دَاوُد عَنْهُ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ أَسْلَفَ فِي نَخْلٍ فَلَمْ يُخْرِجْ تِلْكَ السَّنَةَ، فَقَالَ اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَالَهُ ثُمَّ قَالَ لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» وَفِي لَفْظٍ «أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي حَدِيقَةِ نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ النَّخْلُ، فَلَمْ يُطْلِعْ النَّخْلُ شَيْئًا ذَلِكَ الْعَامَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ لِي حَتَّى يُطْلِعَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: إنَّمَا بِعْتُكَ النَّخْلَ هَذِهِ السَّنَةَ، فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِلْبَائِعِ آخُذُ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟ اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَالَهُ ثُمَّ قَالَ لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» . وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ السَّلَمَ إلَّا فِي مَوْجُودِ الْجِنْسِ حَالَ الْعَقْدِ، كَمَا يَقُولُهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْلَمُوا، لِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ جَاعُوا، فَأَخَاف أَنْ يَرْتَدُّوا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا، لِشَيْءٍ سَمَّاهُ أَرَاهُ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ] « وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى شَيْءٍ أَعِيشُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا حَمْزَةُ نَفْسٌ تُحْيِيهَا أَحَبُّ إلَيْكَ أَمْ نَفْسٌ تُمِيتُهَا؟ فَقَالَ: نَفْسٌ أُحْيِيهَا، قَالَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ " الصِّدْقُ، فَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا عَمَلُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ الْكَذِبُ، إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؟ فَقَالَ الصَّلَاةُ قِيلَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الصَّلَاةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّ لِي وَالِدَيْنِ، قَالَ آمُرُكَ بِالْوَالِدَيْنِ خَيْرًا قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَأُجَاهِدَنَّ وَلْأَتْرُكْهُمَا، فَقَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ» ذَكَرُهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْغُرَفِ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، لِمَنْ هِيَ؟ قَالَ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إنْ جَاهَدْتُ بِنَفْسِي وَمَالِي فَقُتِلْتُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ إلَّا إنْ مِتَّ وَعَلَيْكَ دَيْنٌ، وَلَيْسَ عِنْدَكَ وَفَاؤُهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِتَشْدِيدٍ أُنْزِلَ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ الدَّيْنُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ» ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَنْ أَخِيهِ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ هُوَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ، فَاقْضِ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَدَّيْتُ عَنْهُ إلَّا دِينَارَيْنِ ادَّعَتْهُمَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ لَهَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ أَعْطِهَا فَإِنَّهَا مُحِقَّةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا عَلِمَ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ لَهُ وَفَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ. «وَسَأَلُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَعِّرَ لَهُمْ، فَقَالَ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يَطْلُبنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهَا إيَّاهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. فَصْلٌ: «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَرْضِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ وَلَا قِسْمَةٌ إلَّا الْجَارُ، فَقَالَ الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَالصَّوَابُ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْفَتْوَى إذَا اشْتَرَكَا فِي طَرِيقٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الظُّلْمِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: ذِرَاعٌ مِنْ الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، وَلَيْسَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 حَصَاةٌ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهَا إلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى قَعْرِ الْأَرْضِ، وَلَا يَعْلَمُ قَعْرَهَا إلَّا الَّذِي خَلَقَهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَاةٍ ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَقُدِّمَتْ إلَيْهِ أَنْ تُطْعَمُ الْأُسَارَى» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ] فَتَاوَى فِي الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ] «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ ظَهْرَ الرَّهْنِ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنَ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى، وَهُوَ الصَّوَابُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَغْلَقُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» ، حَدِيثٌ حَسَنٌ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَجُلٍ أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَأَمَرَ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُوفِ ذَلِكَ دَيْنَهُ، فَقَالَ لِلْغُرَمَاءِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ تَصَدَّقُ الْمَرْأَة] فَصْلٌ: [الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ] «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ عَنْ حُلِيٍّ لَهَا تَصَدَّقَتْ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ فِي مَالِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَفِي لَفْظٍ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّ خَيْرَةَ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَتَتْهُ بِحُلِيٍّ فَقَالَتْ: تَصَدَّقْتُ بِهَذَا، فَقَالَ هَلْ اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ إلَى كَعْبٍ، فَقَالَ: هَلْ أَذِنْتَ لِخَيْرَةَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . [مَالُ الْيَتِيمِ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ، وَلِي يَتِيمٌ، فَقَالَ: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُبَذِّرٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ أَوْ قَالَ تَفْدِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ» . وَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] عَزَلُوا أَمْوَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الْيَتَامَى، حَتَّى جَعَلَ الطَّعَامُ يَفْسُدُ وَاللَّحْمُ يَنْتُنُ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَزَلَتْ {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. [اللُّقَطَةُ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: اعْرَفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً؛ فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا وَلِتَكُنَّ وَدِيعَةً عِنْدَكَ؛ فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إلَيْهِ» . «فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» . «فَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشَّاةِ، فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ الذِّئْبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ لِمُسْلِمٍ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «ثُمَّ كُلْهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ» . وَقَالَ «أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهَا الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: اعْرَفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا فَاسْتَمْتَعْتُ بِهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الْإِبِلِ، قَالَ: مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَتَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا قَالَ: الضَّالَّةُ مِنْ الْغَنَمِ، قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، تَجْمَعُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا قَالَ: الْحَرِيسَةُ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا، قَالَ فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أَخَذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أَخَذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا، قَالَ مَا أَخَذَ بِفَمِهِ فَلَمْ يَتَّخِذْ خَبِيئَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَا احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أَخَذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاللُّقَطَةُ يَجِدُهَا فِي سَبِيلِ الْعَامِرَةِ، قَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَإِنْ وَجَدَتْ بَاغِيَهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ قَالَ: مَا يُوجَدُ فِي الْحَرْبِ الْعَادِي، قَالَ فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. وَالْإِفْتَاءُ بِمَا فِيهِ مُتَعَيَّنٌ، وَإِنْ خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُوجِبُ تَرْكَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وَأَفْتَى بِأَنَّ مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ؛ فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ جَلَسَ لِحَاجَتِهِ فَأَخْرَجَ جُرَذُ مِنْ جُحْرٍ دِينَارًا، ثُمَّ أَخْرَجَ آخَرَ، ثُمَّ أَخْرَجَ آخَرَ، حَتَّى أَخْرَجَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا، ثُمَّ أَخْرَجَ طَرَفَ خِرْقَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَتَى بِهَا السَّائِلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، وَقَالَ: خُذْ صَدَقَتَهَا، قَالَ ارْجِعْ بِهَا، لَا صَدَقَةَ فِيهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ أَهْوَيْتَ بِيَدِكَ فِي الْجُحْرِ قُلْتُ: لَا، وَاَلَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ، فَلَمْ يُفْنِ آخِرَهَا حَتَّى مَاتَ» . وَقَوْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " لَعَلَّكَ أَهْوَيْتَ بِيَدِكَ فِي الْجُحْرِ " إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ [ذَلِكَ] فِي حُكْمِ الرِّكَازِ، وَإِنَّمَا سَاقَ اللَّهُ هَذَا الْمَالَ إلَيْهِ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ، أَخْرَجَتْهُ لَهُ الْأَرْضُ، بِمَنْزِلَةِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَجْعَلْهُ لُقَطَةً؛ إذْ لَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ دَفْنِ الْكُفَّارِ. [فَصْلٌ الْهَدِيَّةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا] فَصْلٌ: [الْهَدِيَّةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا] «وَأَهْدَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيَاضُ بْنُ حَمَّادٍ إبِلًا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ إنَّا لَا نَقْبَلُ زَبْدَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: قُلْتُ وَمَا زَبْدُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: رِفْدُهُمْ وَهَدِيَّتُهُمْ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَبُولَهُ هَدِيَّةَ أُكَيْدِرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَقَبِلَ هَدِيَّتَهُمْ وَلَمْ يَقْبَلْ هَدِيَّةَ الْمُشْرِكِينَ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَقَالَ: رَجُلٌ أَهْدَى إلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ إنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» . وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» فِي قِصَّةِ الرُّقْيَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ جَعَالَةٌ عَلَى الطِّبِّ؛ فَطَبَّهُ بِالْقُرْآنِ، فَأَخَذَ الْأُجْرَةَ عَلَى الطِّبِّ، لَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَهَهُنَا مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 21] فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَبْلِيغِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو النُّعْمَانِ بْنُ بَشِيرٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى غُلَامٍ نَحَلَهُ لِابْنِهِ، فَلَمْ يَشْهَدْ، وَقَالَ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 تُشْهِدنِي عَلَى جَوْرٍ وَفِي لَفْظٍ إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ وَفِي لَفْظٍ: أَكَلَ وَلَدُكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ وَفِي لَفْظٍ فَارْجِعْهُ وَفِي لَفْظٍ أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ قَطْعًا لَا أَمْرُ إبَاحَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جَوْرًا وَخِلَافُ الْعَدْلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَأَمَرَهُ بِرَدِّهِ، وَمُحَالٌ مَعَ هَذَا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى مَا هَذَا شَأْنُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا رَجُلٌ ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ لَا قُلْتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لَا قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقْ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتُ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةٍ. أَفَأَعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْمَوَارِيثِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْمَوَارِيثِ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ، فَمَا لِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ فَقَالَ لَكَ السُّدُسُ فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ لَكَ سُدُسٌ آخَرُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ وَقَالَ إنَّ السُّدُسَ الْآخَرَ طُعْمَةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصَّيْفِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَابِرٌ: كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي وَلَا يَرِثُنِي إلَّا كَلَالَةٌ؟ فَنَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] » ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمِيمٌ الدَّارِيِّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: كُنْتُ تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِوَلِيدَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الْوَلِيدَةَ، قَالَ قَدْ وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إلَيْكِ فِي الْمِيرَاثِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي الْقَوْلِ بِالرَّدِّ، فَتَأَمَّلْهُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَلَالَةِ قَالَ مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ» ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي أَحْكَامِهِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةُ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ، قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَابْنُ عَمِّهِمَا أَخَذَ جَمِيعَ مَا تَرَكَ أَبُوهُمَا، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ إلَّا عَلَى مَالِهَا، فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ أَعْطِ بِنْتَيْ سَعْدٍ ثُلُثَيْ مِيرَاثِهِ، وَأَعْطِ امْرَأَتَهُ الثُّمْنَ، وَخُذْ أَنْتَ مَا بَقِيَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَسُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنْ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلِلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: عِنْدِي مِيرَاثُ رَجُلٍ مِنْ الْأَزْدِ، وَلَسْتُ أَجِدُ أَزْدِيًّا أَدْفَعُهُ إلَيْهِ، فَقَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ أَزْدِيًّا حَوْلًا فَأَتَاهُ بَعْدَ الْحَوْلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَجِدْ أَزْدِيًّا أَدْفَعُهُ إلَيْهِ، قَالَ فَانْطَلِقْ فَانْظُرْ أَوَّلَ خُزَاعِيٍّ تَلْقَاهُ فَادْفَعْهُ إلَيْهِ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ اُنْظُرْ أَكْبَرَ خُزَاعَةَ فَادْفَعْهُ إلَيْهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لَهُ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا، إلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أَعْتَقَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لَهُ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَبِهَذِهِ الْفَتْوَى نَأْخُذُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقُهَا، وَلَقِيطُهَا، وَوَلَدُهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَمَالِهِ، وَهُوَ يَرِثُ مِنْ دِيَتِهَا وَمَالِهَا، مَا لَمْ يَقْتُلْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَمْ يَرِثْ مِنْ دِيَتِهِ وَمَالِهِ شَيْئًا، وَإِنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَطَأً وَرِثَ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْ دِيَتِهِ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَبِهِ نَأْخُذُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ أَيُّمَا رَجُلٌ عَاهَرَ بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَالْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا، لَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ» ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي وَلَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ يَرِثُ أُمَّهُ وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَمَنْ قَذَفَهَا جُلِدَ ثَمَانِينَ، وَمَنْ دَعَاهُ وَلَدَ زِنًا جُلِدَ ثَمَانِينَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «وَجُعِلَ مِيرَاثُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا» . [فَتَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالْعِتْقِ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْد، فَقَالَ: إنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ تَعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نُوبِيَّةٌ، أَفَأُعْتِقُهَا عَنْهَا؟ فَقَالَ ائْتِ بِهَا، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَأَتَاهُ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ أَعْجَمِيَّةٍ، فَقَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ بِأُصْبُعِهَا السَّبَّابَةِ، فَقَالَ لَهَا مَنْ أَنَا فَأَشَارَتْ بِأُصْبُعِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَإِلَى السَّمَاءِ، أَيْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَعْتِقْهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ نَجْدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْتُ: أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ فَقَالَ: ائْتِنِي بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا وَصَفْتِ الْإِيمَانَ وَأَنَّ رَبَّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ، قَالَ " أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ " فَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَيْنَ اللَّهُ ". وَسَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، فَرَضِيَ جَوَابَهُ، وَعَلِمَ بِهِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ لِرَبِّهِ، وَأَجَابَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ " سَأَلَهُ أَيْنَ اللَّهُ "، وَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا السُّؤَالَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْجَهْمِيِّ أَنَّ السُّؤَالَ بِأَيْنَ اللَّهُ كَالسُّؤَالِ بِمَا لَوْنُهُ وَمَا طَعْمُهُ وَمَا جِنْسُهُ وَمَا أَصْلُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْمُحَالَةِ الْبَاطِلَةِ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: أَشَعُرْتَ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ صَاحِبٍ لَهُمْ قَدْ أَوْجَبَ، يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: كَمْ أَعْفُو عَنْ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنْ الْخَادِمِ؟ قَالَ اُعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَلَدِ الزِّنَا، فَقَالَ لَا خَيْرَ فِيهِ، نَعْلَانِ أُجَاهِدُ فِيهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ الزِّنَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، أَفَيَجْزِي عَنْهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ قَالَ أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ: «إنَّ أُمِّي هَلَكَتْ فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ نَعَمْ» . «وَاسْتَفْتَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَتْ: إنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَأَعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكَهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا، فَقَالَ لَا يَمْنَعُكَ ذَلِكَ، إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَصِحُّ الشَّرْطُ وَالْعَقْدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، وَإِنَّمَا صَحَّ عَقْدُ عَائِشَةَ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ، وَلَا أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا، وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ كَالْمُقَارَنِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ إضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ أَوْ لَا تَشْتَرِطِيهِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ اشْتَرِطِي عَلَيْهِمْ الْوَلَاءَ؛ فَإِنَّكِ أَنْتِ الَّتِي تَعْتِقِينَ، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ تَكَلُّفًا مِمَّا تَقَدَّمَ فَفِيهِ إلْغَاءُ الِاشْتِرَاطِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَشْتَرِطْ لَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ هِيَ مِنْ قَوْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: بَلْ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ تَصْحِيحًا لِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَا إبَاحَةً لَهُ، وَلَكِنْ عُقُوبَةً لِمُشْتَرِطِهِ؛ إذْ أَبَى أَنْ يَبِيعَ جَارِيَةً لِلْمُعْتِقِ إلَّا بِاشْتِرَاطِ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْعَهُ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ شَرْطِهِمْ الْبَاطِلِ لِيُظْهِرَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ الْبَاطِلَةَ لَا تُغَيِّرُ شَرْعَهُ، وَإِنَّ مَنْ شَرَطَ مَا يُخَالِفُ دِينَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ، وَإِنَّ مَنْ عَرَفَ فَسَادَ الشَّرْطِ وَشَرَطَهُ أُلْغِيَ اشْتِرَاطُهُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ، فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ الطُّرُقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 [فَصْلٌ فَتَاوِي فِي الزَّوَاجِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الزَّوَاجِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ الَّتِي تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْمَالِ يَتَّخِذُ؟ فَقَالَ لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ لَا ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَإِنِّي أَخَافُ الْفِتْنَةُ، وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، أَفَلَا أَخْتَصِي؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ زِدْ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أَنْ أَخْتَصِيَ، قَالَ خِصَاءُ أُمَّتِي الصِّيَامُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ، إنَّ كُلَّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلَّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلَّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلَّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ امْرَأَةٍ خَطَبَهَا، قَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا فَأَتَى أَبَوَيْهَا فَأَخْبَرَهُمَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، فَسَمِعَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ فِي خِدْرِهَا فَقَالَتْ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَنْشُدَكَ، كَأَنَّهَا عَظَّمَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إلَيْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا، فَذَكَرَ مِنْ مُوَافَقَتِهَا لَهُ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرِيرٌ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ، فَقَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ، فَقَالَ إنْ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قِيلَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا، قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصْدِقَهَا شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ: تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَاسْتَأْذَنَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ سَلَمَةَ فِي الْحِجَامَةِ، فَأَمَرَ أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا، قَالَ: حَسِبَتْ أَنَّهُ كَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَوْ غُلَامًا لَمْ يَحْتَلِمْ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ سَلَمَةَ وَمَيْمُونَةَ أَنْ يَحْتَجِبَا مِنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَتَا: أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ قَالَ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟» ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَأَخَذَتْ طَائِفَةٌ بِهَذِهِ الْفَتْوَى، وَحَرَّمَتْ عَلَى الْمَرْأَةِ نَظَرَهَا إلَى الرَّجُلِ، وَعَارَضَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى هَذَا الْحَدِيثَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهَا كَانَتْ تَنْظُرُ إلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ» ، وَفِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ نَظَرٌ؛ إذْ لَعَلَّ قِصَّةَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَخَصَّتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ذَلِكَ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أَهْلُهَا، أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ نَعَمْ تُسْتَأْمَرُ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَاكَ إذْنُهَا إذَا هِيَ سَكَتَتْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَبِهَذِهِ الْفَتْوَى نَأْخُذُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْمَارِ الْبِكْرِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَفِي لَفْظِ وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا: وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ أَنْ تَسْكُتَ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارِيَةٌ بِكْرٌ، فَقَالَتْ: إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَدْ أَمَرَ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ، وَنَهَى عَنْ إنْكَاحِهَا بِدُونِ إذْنِهَا، وَخَيَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نُكِحَتْ، وَلَمْ تُسْتَأْذَنْ» ، فَكَيْفَ بِالْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُخَالَفَتِهِ بِمُجَرَّدِ مَفْهُومِ قَوْلِهِ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ؟ كَيْفَ وَمَنْطُوقُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ الَّذِي فَهِمَهُ مَنْ قَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 تُنْكَحُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا غَيْرُ مُرَادٍ؟ فَإِنْ قَالَ عَقِيبَهُ " وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا " بَلْ هَذَا احْتِرَازٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْهُومِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي خِطَابِهِ كَقَوْلِهِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ أَوْهَمَ ذَلِكَ إهْدَارَ دَمِ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَرَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» وَلَمَّا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: " وَلَا ذُو عَهْدٍ " يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إذَا ثَبَتَ لَهُ الْعَهْدُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ رُفِعَ هَذَا الْوَهْمُ بِقَوْلِهِ " فِي عَهْدِهِ " وَجُعِلَ ذَلِكَ قَيْدًا لِعِصْمَةِ الْعَهْدِ فِيهِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، كَقَوْلِهِ «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» فَإِنَّ نَهْيَهُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ رُبَّمَا يُوهِمُ التَّعْظِيمَ الْمَحْذُورَ رَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: " وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا " وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَمْرَهُ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَنَهْيَهُ عَنْ نِكَاحِهَا بِدُونِ إذْنِهَا وَتَخْيِيرِهَا حَيْثُ لَمْ تُسْتَأْذَنْ لَا مُعَارِضَ لَهُ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَقَالَ هُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُوهُمْ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَعِنْدَهُ مَرْفُوعًا «أَنْكِحُوا الْيَتَامَى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي مِنْ ابْنِ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ إلَيْهَا، فَقَالَتْ: قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ يَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. «وَلَمَّا هَلَكَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ تَرَكَ ابْنَةً لَهُ، فَزَوَّجَهَا عَمُّهَا قُدَامَةُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا؛ فَكَرِهَتْ نِكَاحَهُ، وَأَحَبَّتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ؛ فَنَزَعَهَا مِنْ ابْنِ عُمَرَ وَزَوَّجَهَا الْمُغِيرَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ وَلَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْثَدٌ الْغَنَوِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عِنَاقًا، وَكَانَتْ بَغِيًّا بِمَكَّةَ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] وَقَالَ لَا تَنْكِحْهَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ آخَرُ عَنْ نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ كَانَتْ تُسَافِحُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الزَّانِيَ الْمَجْلُودَ لَا يَنْكِحُ إلَّا مِثْلَهُ» ، فَأَخَذَ بِهَذِهِ الْفَتَاوَى الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهِيَ مِنْ مَحَاسِنِ مَذْهَبِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ زَوْجَ قَحْبَةٍ، وَيُعَضِّدُ مَذْهَبَهُ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ دَلِيلًا قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 «وَأَسْلَمَ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» . «وَأَسْلَمَ غَيْلَانُ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» ، ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ، وَهُمَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْخِيرَةَ إلَيْهِ بَيْنَ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ. وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ فَقَالَ: «أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُصْرَةُ بْنُ أَكْتَمَ؛ فَقَالَ: نَكَحْتُ امْرَأَةً بِكْرًا فِي سِتْرِهَا، فَدَخَلْت عَلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ حُبْلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْوَلَدُ عَبْدٌ لَكَ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَاجْلِدُوهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُشْكِلُ مِنْ هَذِهِ الْفَتْوَى إلَّا مِثْلُ عُبُودِيَّةِ الْوَلَدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَزَوَّجَتْ، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمْتُ بِإِسْلَامِي؛ فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ، وَرَدَّهَا إلَى الْأَوَّلِ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا حَتَّى مَاتَ، فَقَضَى لَهَا عَلَى صَدَاقِ نِسَائِهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذِهِ فَتْوَى لَا مُعَارِضَ لَهَا، فَلَا سَبِيلَ إلَى الْعُدُولِ عَنْهَا. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ وَمَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهُ، فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعَزْلِ، قَالَ أَوَ إنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ «أَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا سَتَكُونُ» . « وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا عَنْ الْعَزْلِ فَقَالَ مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ. » «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْءُودَةٌ صُغْرَى، فَقَالَ كَذَبَتْ الْيَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: عِنْدِي جَارِيَةٌ وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا، إذَا أَرَادَ اللَّهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 حَمَلَتْ، فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا: «إنَّ لِي جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَاقِيَتُنَا وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْتَ فَإِنَّهُ سَيُؤْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَمَلَتْ، فَقَالَ قَدْ أَخْبَرَتْكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «لَوْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ أَهَرَقْتَهُ عَلَى صَخْرَةٍ لَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَيَخْلُقَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسًا هُوَ خَالِقُهَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: إنِّي أَعْزِلُ عَنْ امْرَأَتِي، فَقَالَ: لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إنِّي أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وَفِي لَفْظٍ إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا، مَا ضَرَّ ذَلِكَ فَارِسَ وَالرُّومَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. فَصْلٌ: «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ التَّجْبِيَةِ، وَهِيَ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي قُبُلِهَا مِنْ نَاحِيَةِ دُبُرِهَا، فَتَلَا عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] صِمَامًا وَاحِدًا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى رَسُولِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقُوا الْحَيْضَةَ وَالدُّبُرَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْوَطْءُ مِنْ الدُّبُرِ لَا فِي الدُّبُرِ، وَقَدْ قَالَ «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» وَقَالَ «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» وَقَالَ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ» وَقَالَ «فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا: هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ جَمِيعُهَا ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ أَنْ يُطْعِمَهَا إذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلَا يُقَبِّحَ، وَلَا يَهْجُرَ إلَّا فِي الْبَيْتِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي أَحْكَامِ الرَّضَاعِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي أَحْكَامِ الرَّضَاعِ] «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ؛ إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ، وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ أَرْضَعَتْنِي، فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ إنَّهُ عَمُّكِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: إنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى، فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتِي الْحَدْثَاءَ رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَتْهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: إنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَقَلَ مَا عَقِلُوا، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَالَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبُ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: إنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. فَأَخَذَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى مِنْهُمْ عَائِشَةُ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدَّمُوا عَلَيْهَا أَحَادِيثَ تَوْقِيتِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ بِمَا قَبْلَ الْفِطَامِ وَبِالصِّغَرِ وَبِالْحَوْلَيْنِ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: كَثْرَتُهَا وَانْفِرَادُ حَدِيثِ سَالِمٍ، الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - فِي شِقِّ الْمَنْعِ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَحْوَطُ، الرَّابِعُ: أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْمًا وَلَا يَنْشُرُ عَظْمًا، فَلَا تَحْصُلُ بِهِ الْبَعْضِيَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ، الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِسَالِمٍ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ ذَلِكَ إلَّا فِي قِصَّتِهِ، السَّادِسُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ، فَقَالَتْ: إنَّهُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ؛ فَإِنَّ سَالِمًا كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ وَرَبَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ بُدٌّ، فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَعَلَّ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَى الْمَسَالِكِ، وَإِلَيْهِ كَانَ شَيْخُنَا يَجْنَحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْكِحَ ابْنَةَ حَمْزَةَ، فَقَالَ لَا تَحِلُّ لِي؛ إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: تَزَوَّجَتْ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ؛ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ: إنَّهَا كَاذِبَةٌ، فَقَالَ كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ بِأَنَّهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ فَفَارَقَهَا وَأُنْكِحَتْ غَيْرَهُ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ «دَعْهَا عَنْكَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذِمَّةَ الرَّضَاعِ؟ فَقَالَ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالْمَذِمَّةُ - بِكَسْرِ الذَّالِ - مِنْ الذِّمَامِ، لَا مِنْ الذَّمِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَدْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لِلْمُرْضِعَةِ عَلَى الْمُرْضَعِ حَقًّا وَذِمَامًا فَيُذْهِبُهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَيُعْطِيهَا إيَّاهُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الَّذِي يَجُوزُ مِنْ الشُّهُودِ فِي الرَّضَاعِ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الطَّلَاقِ] فَصْلٌ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّلَاقِ [فَتَاوَى فِي الطَّلَاقِ] ثَبَتَ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ طَلَاقِ ابْنِهِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدُ فَلْيُطَلِّقْ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي، وَذَكَرَ مِنْ بَذَائِهَا، فَقَالَ طَلِّقْهَا فَقَالَ: إنَّ لَهَا صُحْبَةً وَوَلَدًا، قَالَ مُرْهَا وَقُلْ لَهَا، فَإِنْ يَكُنْ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلُ، وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أَمَتَكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ: غَيِّرْهَا إنْ شِئْتَ وَفِي لَفْظٍ طَلِّقْهَا قَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . فَعُورِضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَشَابِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُحْكَمَةُ الصَّرِيحَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَزْوِيجِ الْبَغَايَا، وَاخْتَلَفَتْ مَسَالِكُ الْمُحَرِّمِينَ لِذَلِكَ فِيهِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِاللَّامِسِ مُلْتَمِسُ الصَّدَقَةِ، لَا مُلْتَمِسُ الْفَاحِشَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هَذَا فِي الدَّوَامِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى زَانِيَةٍ؛ فَهَذَا هُوَ الْحَرَامُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هَذَا مِنْ الْتِزَامِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهَا خَافَ أَنْ لَا يَصْبِرَ عَنْهَا فَيُوَاقِعَهَا حَرَامًا؛ فَأَمَرَهُ حِينَئِذٍ بِإِمْسَاكِهَا؛ إذْ مُوَاقَعَتُهَا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ مُوَاقَعَتِهَا بِالسِّفَاحِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ لَمَسَهَا أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَهِيَ تُعْطِي اللِّيَانَ لِذَلِكَ، وَلَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 يَلْزَمُ أَنْ تُعْطِيَهُ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ إجَابَتُهَا لِدَاعِي الْفَاحِشَةِ، فَأَمْرُهُ بِفِرَاقِهَا تَرْكًا لِمَا يَرِيبُهُ إلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ نَفْسَهُ تَتْبَعُهَا وَأَنَّهُ لَا صَبْرَ لَهُ عَنْهَا رَأَى مَصْلَحَةَ إمْسَاكِهَا أَرْجَحَ مِنْ مُفَارَقَتِهَا لِمَا يُكْرَهُ مِنْ عَدَمِ انْقِبَاضِهَا عَمَّنْ يَلْمِسُهَا، فَأَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهَا، وَهَذَا لَعَلَّهُ أَرْجَحُ الْمَسَالِكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، يَعْنِي، ثَلَاثًا، وَإِنِّي تَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَقَدْ دَخَلَ بِي، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِي إلَّا بِهَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يَصِلْ مِنِّي إلَى شَيْءٍ، أَفَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا عَنْ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَيَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ فَيُغْلِقُ الْبَابَ وَيُرْخِي السِّتْرَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، قَالَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يُجَامِعَهَا الْآخَرُ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ فَقَالَ هُوَ الْمُحَلِّلُ ثُمَّ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ عَنْ كُفْرِ الْمُنَعَّمِينَ، فَقَالَ لَعَلَّ إحْدَاكُنَّ أَنْ تَطُولَ أَيْمَتُهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبَوَيْهَا تَعْنُسَ فَيَرْزُقَهَا اللَّهُ زَوْجًا وَيَرْزُقَهَا مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَتَغْضَبَ الْغَضْبَةَ، فَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ يَوْمًا خَيْرًا قَطُّ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ طَلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ أَيَلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَطَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ طَلَّقْتُهَا؟ فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ إنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْتَ قَالَ: فَرَاجَعَهَا» ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ، ذَكَرَ أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ وَأَحْمَدُ يُصَحِّحُ هَذَا الْإِسْنَادَ، وَيَحْتَجُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ أُمَّ رُكَانَةَ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ، لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا، فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَخَذَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّتُهُ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ، وَفُلَانًا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ يَزِيدَ: طَلِّقْهَا، فَفَعَلَ، فَقَالَ: رَاجِعْ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتَهُ؛ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا وَتَلَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] » . قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَذَكَرَهُ، فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى مُتَابِعَةٌ لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَاَلَّذِي يُخَافُ مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ التَّدْلِيسُ، وَقَدْ قَالَ " حَدَّثَنِي " وَهَذَا مَذْهَبُهُ، وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ، وَصَحَّ عَنْهُ إمْضَاءُ الثَّلَاثِ مُوَافَقَةً لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي عَهْدِهِ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ مَعَ بُعْدِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَالْمُسْتَحِيلِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ الصِّدِّيقِ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَفْتَى هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، فَهَذِهِ فَتْوَاهُ وَعَمَلُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْيَدِ، وَلَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ، وَرَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى إنْفَاذِ الثَّلَاثِ عُقُوبَةً وَزَجْرًا لَهُمْ لِئَلَّا يُرْسِلُوهَا جُمْلَةً، وَهَذَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغًا لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا، وَلَا يُوجِبُ تَرْكَ مَا أَفْتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فِي عَهْدِهِ وَعَهْدِ خَلِيفَتِهِ؛ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْحَقَائِقُ فَلْيَقُلْ امْرُؤٌ مَا شَاءَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَقَالَ تَزَوَّجَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ» ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدٌ فَقَالَ: إنَّ مُولَاتِي زَوَّجَتْنِي، وَتُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُزَوِّجُونَ عَبِيدَهُمْ إمَاءَهُمْ، ثُمَّ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ، أَلَا إنَّمَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. [الْخُلْعُ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ مَالِ امْرَأَتِهِ وَيُفَارِقَهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَصْدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ وَهُمَا بِيَدِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذْهُمَا وَفَارِقْهَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَكَانَتْ قَدْ شَكَتْهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُحِبُّ فِرَاقَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «إنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادَ» ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَاهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً» . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ» . «وَأَفْتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ طَلَاقَ زَوْجِهَا، فَجَاءَتْ عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ عَدْلٍ اسْتَحْلَفَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وَإِنْ نَكَلَ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، وَجَازَ طَلَاقُهُ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. [فَصْلٌ الظِّهَارُ وَاللِّعَانُ] فَصْلٌ: [الظِّهَارُ وَاللِّعَانُ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، فَقَالَ اللَّهُمَّ افْتَحْ وَجَعَلَ يَدْعُو، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، فَابْتُلِيَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، فَجَاءَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَاعَنَا» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ عَلَى فِرَاشِي غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَمْ يَكُنْ فِينَا أَسْوَدُ قَطُّ، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ» ، " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحُكِمَ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَأَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا، وَأَخْذِ الْمَرْأَةِ صَدَاقَهَا، وَانْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِلْحَاقِهِ بِأُمِّهِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ أَوْ قَذَفَ أُمَّهُ، وَسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الزَّوْجِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ وَلَا كِسْوَةٌ وَلَا سُكْنَى بَعْدَ الْفُرْقَةِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ فَقَالَ: ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَبَيْنَمَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إذْ انْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ نَزَوْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 عَلَيْهَا، فَقَالَ أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةُ فَقُلْت: أَنَا بِذَاكَ فَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاحْكُمْ فِي بِمَا أَرَاك اللَّهُ، قَالَ حَرِّرْ رَقَبَةً قُلْتُ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا، وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي، قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قُلْتُ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ بِتْنَا وَحْشِيَّيْنِ مَا لَنَا مِنْ طَعَامٍ، قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ، فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالَكَ بَقِيَّتَهَا فَرَجَعْتُ إلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: وَجَدَتْ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْي، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْيِ، وَأَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوْلَةُ بِنْتُ مَالِكٍ، فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجَهَا أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْهَا، وَشَكَتْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَادِلُهَا فِيهِ بِقَوْلِهِ اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكَ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] الْآيَاتُ، فَقَالَ يَعْتِقُ رَقَبَةً قَالَتْ: لَا يَجِدُ، قَالَ، فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَتْ: إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَأَتَى سَاعَتَهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: «قَالَتْ فِي وَاَللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْمًا، فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَنْ نَفْسِي، قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَا وَاَلَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَخْلُصُ إلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمٍ، قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، فَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي، ثُمَّ خَرَجْتُ إلَى بَعْضِ جَارَاتِي، فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إلَيْهِ مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ؛ يَا خُوَيْلَةُ ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ، قَالَتْ: فَوَاَللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] إلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً» وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إذَا كَبِرَ سِنِي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إنِّي أَشْكُو إلَيْكَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْعِدَدِ] فَصْلٌ فِي فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِدَدِ: [فَتَاوَى فِي مَسَائِلِ الْعِدَدِ] ثَبَتَ «أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ سَأَلَتْهُ، وَقَدْ مَاتَ زَوْجُهَا وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، قَالَتْ: فَأَفْتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي» . وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ «أَنَّهَا سُئِلَتْ، كَيْفَ أَفْتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: أَفْتَانِي إذَا وَضَعْتُ أَنْ أُنْكِحَ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ عِنْدَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَقَالَتْ لَهُ، وَهِيَ حَامِلٌ: طَيِّبْ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ فَرَجَعَ وَقَدْ وَضَعَتْ فَقَالَ لَهَا: خَدَعْتِينِي خَدَعَكِ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَبَقَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، اُخْطُبْهَا إلَى نَفْسِهَا» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ، فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقُدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ، وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ - أَوْ فِي الْمَسْجِدِ - نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ، فَقَالَ كَيْفَ قُلْتِ فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيَّ، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ، وَقَضَى بِهِ» ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ وَجَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لَمَّا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْتَدَّ حَيْضَةً» . وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ «الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - أَوْ أُمِرَتْ - أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ - وَاللَّفْظُ لَهُ - عَنْ الرُّبَيِّعِ قَالَتْ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ، فَسَأَلْتُ: مَاذَا عَلَيَّ مِنْ الْعِدَّةِ؟ فَقَالَ: " لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِكِ فَتَمْكُثِينَ عِنْدَهُ حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً " قَالَتْ: وَإِنَّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرْيَمَ الْمُغَالِيَةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ [فَصْلٌ ثُبُوتُ النَّسَبِ] فَصْلٌ: [ثُبُوتُ النَّسَبِ] «وَاخْتَصَمَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي الْغُلَامِ، فَقَالَ سَعْدٌ: هُوَ ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ أَخِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ» . وَعِنْدَ النَّسَائِيّ: «وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَيْسَ لَكِ بِأَخٍ» . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ، وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ» فَحَكَمَ وَأَفْتَى بِالْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ عَمَلًا بِمُوجَبِ الْفِرَاشِ، وَأَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ عَمَلًا بِشَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ» لِلشُّبْهَةِ، وَجَعَلَهُ أَخًا فِي الْمِيرَاثِ، فَتَضَمَّنَتْ فَتْوَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَمَةَ فِرَاشٌ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَبَعَّضُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَمَلًا بِالِاشْتِبَاهِ كَمَا تَتَبَعَّضُ فِي الرَّضَاعَةِ، وَثُبُوتُهَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُرْمَةُ وَالْمَحْرَمِيَّةُ دُونَ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ، وَكَمَا فِي وَلَدِ الزِّنَا، هُوَ وَلَدٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ وَلَدًا فِي الْمِيرَاثِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْإِحْدَادُ عَلَى الْمَيِّتِ] [الْإِحْدَادُ عَلَى الْمَيِّتِ] «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَنُكَحِّلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَمَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْأَةَ أَنْ تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجِ فَإِنَّهَا تَحِدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرًا، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تُطَيِّبُ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَرَخَّصَ لَهَا فِي طُهْرِهَا إذَا اغْتَسَلَتْ فِي نَبْذَةٍ مِنْ قِسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «وَلَا تَخْتَضِبُ» . وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «وَلَا تَمْتَشِطُ» . وَعِنْدَ أَحْمَدَ «لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلَا الشُّقَّةَ الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا الْحُلِيَّ، لَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ» . «وَجَعَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى عَيْنَيْهَا صَبْرًا لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ: إنَّمَا هُوَ صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ إنَّهُ يَشِبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ قُلْتُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكَ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «فَلَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ وَتَنْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ طَلُقَتْ: هَلْ تَخْرُجُ تَجُدُّ نَخْلَهَا؟ فَقَالَ: فَجُدِّي نَخْلَكِ؛ فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَتَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَكُسْوَتِهَا] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَكُسْوَتِهَا] فِي فَتْوَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَكُسْوَتِهَا. ثَبَتَ أَنَّ «فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَلْبَتَّةَ، فَخَاصَمَتْهُ فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» ، وَفِي السُّنَنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَا بِنْتَ آلِ قَيْسٍ، إنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا «إنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهَا: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّ «أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ خَرَجَ مَعَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ بِتَطْلِيقَةٍ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَأَمَرَ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ أَنْ يُنْفِقَا عَلَيْهَا، فَقَالَا: وَاَللَّهِ مَا لَهَا نَفَقَةٌ، إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَتْ لَهُ قَوْلَهُمَا، فَقَالَ لَا نَفَقَةَ لَكِ فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَيْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ أَعْمَى، تَضَعُ ثِيَابَهَا عِنْدَهُ وَلَا يَرَاهَا، فَلَمَّا مَضَتْ عِدَّتُهَا أَنْكَحَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» ، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنُ ذُؤَيْبٍ يَسْأَلُهَا عَنْ الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَتْهُ، فَقَالَ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مِنْ امْرَأَةٍ، سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ، قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ . «وَأَفْتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ رِزْقَهُنَّ وَكُسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَقُولُ فِي نِسَاءَنَا؟ فَقَالَ أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَكْسُوهُنَّ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تَضْرِبُوهُنَّ، وَلَا تُقَبِّحُوهُنَّ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذَتْ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، قَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكَ وَوَلَدَكَ بِالْمَعْرُوفِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْفَتْوَى أُمُورًا، أَحَدُهَا: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، بَلْ الْمَعْرُوفُ يَنْفِي تَقْدِيرَهَا، وَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيرُهَا مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ كِلَاهُمَا بِالْمَعْرُوفِ. الثَّالِثُ: انْفِرَادُ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الزَّوْجَ أَوْ الْأَبَ إذَا لَمْ يَبْذُلْ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ فَلِلزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ أَنْ يَأْخُذُوا قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَدَرَتْ عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا إلَى الْفَسْخِ سَبِيلٌ. السَّادِسُ: أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ. السَّابِعُ: إنَّ ذَمَّ الشَّاكِي لِخَصْمِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ حَالَ الشِّكَايَةِ لَا يَكُونُ غَيْبَةً، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ هُوَ وَلَا سَامِعُهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ. الثَّامِنُ: أَنَّ مَنْ مَنَعَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا فَلِمُسْتَحِقِّهِ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا أَفْتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِنْدًا، وَأَفْتَى بِهِ الضَّيْفَ إذَا لَمْ يُقِرَّهُ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْحَقِّ خَفِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا أَفْتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبُوكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ مُسْلِمٌ «ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبِرِّ، وَقَالَ أَيْضًا: الطَّاعَةُ لِلْأَبِ، وَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبِرِّ، وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ «ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ» . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ، حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 [فَصْلٌ فِي الْحَضَانَةِ] [فَتَاوَى فِي الْحَضَانَةِ وَفِي مُسْتَحِقِّهَا] قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا خَمْسَ قَضَايَا. إحْدَاهَا: «قَضَى بِابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَضَاءُ أَنَّ الْخَالَةَ مَقَامُ الْأُمِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّ تَزَوُّجَهَا لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا إذَا كَانَتْ جَارِيَةً. الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَأُمُّهُ، وَلَمْ تُسْلِمْ الْأُمُّ، فَأَجْلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَبَ هَهُنَا وَأَجْلَسَ الْأُمَّ هَهُنَا، ثُمَّ خَيَّرَ الصَّبِيَّ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ فَذَهَبَ إلَى أُمِّهِ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الْقَضِيَّةُ الثَّالِثَةُ: «أَنَّ رَافِعَ بْنَ سِنَانٍ أَسْلَمَ، وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: ابْنَتِي فَطِيمٌ أَوْ شِبْهُهُ، وَقَالَ رَافِعٌ: ابْنَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُقْعُدْ نَاحِيَةً وَقَالَ لَهَا: اُقْعُدِي نَاحِيَةً فَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: اُدْعُوَاهَا فَمَالَتْ إلَى أُمِّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ اهْدِهَا فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا، فَأَخَذَهَا» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الْقَضِيَّةُ الرَّابِعَةُ: «جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عُتْبَةَ، وَقَدْ دَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَهِمَا عَلَيْهِ فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا أَبُوكَ وَهَذَا أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. الْقَضِيَّةُ الْخَامِسَةُ: «جَاءَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. [وَعَلَى هَذِهِ الْقَضَايَا الْخَمْسِ تَدُورُ الْحَضَانَةُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ] . [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي جُرْمِ الْقَاتِلِ وَجَزَائِهِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي جُرْمِ الْقَاتِلِ وَجَزَائِهِ] وَمِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَابِ الدِّمَاءِ وَالْجِنَايَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْآمِرِ وَالْقَاتِلِ، فَقَالَ قُسِّمَتْ النَّارُ سَبْعِينَ جُزْءًا فَلِلْآمِرِ تِسْعٌ وَسِتُّونَ، وَلِلْقَاتِلِ جُزْءٌ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي، قَالَ اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ كَمَا قَتَلَ أَخَاكَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اتَّقِ اللَّهَ وَاعْفُ عَنِّي فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَخَيْرٌ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَخَلَّى عَنْهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَمَا إنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا هُوَ صَانِعٌ بِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَ أَخِي» . «وَجَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ بِآخَرَ قَدْ ضَرَبَ سَاعِدَهُ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مِفْصَلٍ، فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: أُرِيدُ الْقِصَاصَ، فَقَالَ خُذْ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَرُفِعَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيٌّ قَدْ رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلَ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ يَسْقُطُ مِنْ الضَّرْبَةِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ: أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُقْتَلَ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ» ؛ ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْقِلَ الْمَرْأَةَ عَصْبَتُهَا مَنْ كَانُوا وَلَا يَرِثُونَ عَنْهَا، إلَّا مَا فَضُلَ عَنْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا، فَهُمْ يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحَامِلَ إذَا قَتَلَتْ عَمْدًا لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا، وَإِنْ زَنَتْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ - وَالْخَبْلُ: الْجِرَاحُ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ: أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَادَ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا أَبَدًا فِيهِ» ، يَعْنِي قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِهِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ الْجَانِي. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. [فَتَاوَى فِي الدِّيَاتِ] [فَتَاوَى فِي الدِّيَاتِ] «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَنْفِ إذَا أَوْعَبَ جَدْعًا بِالدِّيَةِ، وَإِذَا جُدِعَتْ أَرْنَبَتُهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ» . «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ عَدْلِهَا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا، أَوْ مِائَةِ بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفِ شَاةٍ، وَفِي الرِّجْلِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَفِي الْيَدِ نِصْفُ الْعَقْلِ؛ وَالْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْأَسْنَانُ خُمْسُ خَمْسٍ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَسْنَانَ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِعُشْرِ عَشَرٍ» ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ إذَا قُطِعَتْ ثُلُثُ دِيَتِهَا» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللِّسَانِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الذَّكَرِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الصُّلْبِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ بِالدِّيَةِ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَعَشَرَةُ ابْنِ لَبُونٍ» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد: «عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرٍ» . «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ» ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ بِمِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ» ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَقْلَ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ» ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ» ، حَدِيثٌ [حَسَنٌ] يُصَحِّحُ مِثْلَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَفَعَ دِيَةَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنْ الدِّيَةِ» . «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ ضَرَبَتْهَا أُخْرَى بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَتَيْنِ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجٌ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ، وَمِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا، فَقَالَ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَجَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدٌ صَارِخٌ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: سَيِّدِي رَآنِي أُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ، فَجَبَّ مَذَاكِيرِي، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ قَالَ: عَلَى مَنْ نَصَرَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، أَوْ مُسْلِمٍ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبْطَالِ دِيَةِ الْعَاضِّ لَمَّا انْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَأَسْقَطَ ثَنِيَّتَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَخَذَفُوهُ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ بِأَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ» . «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلَا الْجَائِفَةِ وَلَا الْمُنَقِّلَةِ» ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَجَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ: كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 كُنْتُ أَنَا، وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: مَا لِي إلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي، قَالَ: فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ دُونَكَ صَاحِبَكَ، فَانْطَلَقَ بِهِ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، وَأَخَذْتَهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَلَى، فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ، وَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ " لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَسْتَوِي هُوَ وَالْوَلِيُّ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَإِنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ، وَأَمَّا هُوَ فَلِكَوْنِهِ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " تَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ " فَإِثْمُ الْوَلِيِّ مَظْلِمَتُهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ، وَإِثْمُ الْمَقْتُولِ إرَاقَةُ دَمِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْمِلُ خَطَايَاكَ وَخَطَايَا أَخِيكَ، وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَهَذِهِ غَيْرُ قِصَّةِ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ وَقَدْ قَتَلَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَقَالَ: «أَمَا إنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَقَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّارَ» فَخَلَّاهُ الرَّجُلُ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْقِصَّةَ فَتَكُونُ هَذِهِ عِلَّةَ كَوْنِهِ إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْقَسَامَةِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْقَسَامَةِ] «وَأَقَرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَضَى بِهَا بَيْنَ نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ مُحَيِّصَةُ بِأَنْ يُقْسِمَ خَمْسُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ بِهِ، فَيُدْفَعَ بِرُمَّتِهِ إلَيْهِ، فَأَبَوْا، فَقَالَ تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ فَأَبَوْا، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ «بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» . وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا» . «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: لَا تَجْنِي نَفْسٌ عَلَى أُخْرَى، وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ» وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ: مَنْ قَتَلَ فِي عِمِّيًّا أَوْ رِمِّيًّا لِكَوْنِهِ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ سَوْطٍ فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ، وَمَنْ قَتَلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدَيْهِ، فَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ: الْمَعْدِنَ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءَ جُبَارٌ، وَالْبِئْرَ جُبَارٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: «الْمَعْدِنَ جُبَارٌ» قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحْفِرُ لَهُ مَعْدِنًا فَسَقَطَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ جُبَارٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: «الْبِئْرَ جُبَارٌ وَالْعَجْمَاءَ جُبَارٌ» وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ اقْتِرَانُهُ بِقَوْلِهِ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ، فَأَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَجْمُوعٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا تَعَبٍ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ وَتَعَبٍ فِي اسْتِخْرَاجِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي حَدِّ الزِّنَا] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي حَدِّ الزِّنَا] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَنْ زَنَى، وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَقَضَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الثَّيِّبَ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ الرَّجْمُ، وَالْبِكْرَ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَجَاءَهُ الْيَهُودُ فَقَالُوا: إنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا؛ فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا بَعْدَهَا وَمَا قَبْلَهَا، فَقَالَ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالُوا: اذْهَبُوا بِهِ إلَى هَذَا النَّبِيِّ؛ فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا مِنْهُ، وَاحْتَجَبْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقُلْنَا: إنَّهَا فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ؛ فَأَتَوْهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّحَابَةِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إذْ أُحْصِنَ؟ قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ، وَالتَّجْبِيهُ: أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ، وَتُقَابَلَ أَقْفِيَتُهُمَا، وَيُطَافَ بِهِمَا، فَسَكَتَ شَابٌّ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ نَظَرَ إلَيْهِ وَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إذْ أَنْشَدْتَنَا فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمَا أَوَّلُ مَا ارْتَخَصْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ قَالَ: زَنَى ذُو قَرَابَةِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِنَا فَأُخِّرَ عَنْهُ الرَّجْمُ؛ ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ فِي أُسْرَةٍ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ رَجْمَهُ فَحَالَ قَوْمُهُ دُونَهُ؛ وَقَالُوا: لَا يُرْجَمُ صَاحِبُنَا حَتَّى تَجِيءَ بِصَاحِبِكَ فَتَرْجُمَهُ فَاصْطَلَحُوا عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَةِ بَيْنَهُمْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا» . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد أَيْضًا «أَنَّهُ دَعَا بِالشُّهُودِ، فَجَاءَهُ أَرْبَعَةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ أَنْ يُطَهِّرَهُ، وَقَالَ: إنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟ قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إلَّا أَوْفَى الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نَرَى، فَأَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ فِي الْخَامِسَةِ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ رَجُلًا فَاسْتَنْكَهَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَلَمْ يَحْفِرْ لَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةَ فَرَّ يَشْتَدُّ حَتَّى مَرَّ بِرَجُلٍ مَعَهُ لَحْيُ جَمَلٍ فَضَرَبَهُ وَضَرَبَهُ النَّاسُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ» . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . وَفِي بَعْضِهَا: «فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وَفِي بَعْضِ طُرُقِهَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَلَمْ تَرَ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدْعُهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ فَقَالَا: نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: انْزِلَا وَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ أَكْلًا مِنْهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا» . وَفِي بَعْضِ طُرُقِهَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ رَأَيْتَ فِي مَنَامِكَ، لَعَلَّكَ اُسْتُكْرِهَتْ» ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَحِيحَةٌ. وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّهُ أَمَرَ فَحُفِرَتْ لَهُ حُفَيْرَة» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْ رِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمٌ قَدْ رَوَى لَهُ فِي الصَّحِيحِ فَالثِّقَةُ قَدْ يَغْلَطُ عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ وَأَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ قَدْ تَكَلَّمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْوَهْمُ مِنْ حُفْرَةِ الْغَامِدِيَّةِ، فَسَرَى إلَى مَاعِزٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَجَاءَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَتْ إنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّدَهَا، فَقَالَتْ: تُرَدِّدُنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزًا فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، فَقَالَ: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، فَقَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، فَقَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِهِ، وَفِي يَدِهِ كِسْرَةٌ مِنْ خُبْزٍ؛ فَقَالَتْ: هَذَا قَدْ فَطَمْتُهُ وَأَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ» ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَجَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِي كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ - أَوْ قَالَ - حَدَّكَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَقَرَّ بِحَدٍّ لَمْ يُسَمِّهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ اسْتِفْسَارُهُ، وَلَوْ سَمَّاهُ لَحَدَّهُ كَمَا حَدَّ مَاعِزًا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِتَوْبَتِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَصَبْتُ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَنَزَلَتْ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: إلَيَّ هَذِهِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ إسْقَاطَهُ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، فَتَأَمَّلْهُ. «وَخَرَجَتْ امْرَأَةٌ تُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَتَجَلَّلَهَا رَجُلٌ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَصَاحَتْ وَفَرَّ، وَمَرَّ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَأَخَذُوهُ؛ فَظَنَّتْ أَنَّهُ هُوَ وَقَالَتْ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ بِي، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ؛ فَقَامَ صَاحِبُهَا الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبِي فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكِ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ قَوْلًا حَسَنًا، فَقَالُوا: أَلَا تَرْجُمُ صَاحِبَهَا؟ فَقَالَ لَا، لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَلَا فَتْوَى وَلَا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمَرَ بِرَجْمِ الْبَرِيءِ؟ قِيلَ: لَوْ أَنْكَرَ لَمْ يَرْجُمْهُ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أُخِذَ وَقَالَتْ: هُوَ هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْ، وَلَمْ يَحْتَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَاتَّفَقَ مَجِيءُ الْقَوْمِ بِهِ فِي صُورَةِ الْمُرِيبِ، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ هَذَا هُوَ، وَسُكُوتُهُ سُكُوتَ الْمُرِيبِ، وَهَذِهِ الْقَرَائِنُ أَقْوَى مِنْ قَرَائِنِ حَدِّ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِ الرَّجُلِ وَسُكُوتِهَا، فَتَأَمَّلْهُ. [أَثَرُ اللَّوَثِ فِي التَّشْرِيعِ] [أَثَرُ اللَّوَثِ فِي التَّشْرِيعِ] وَلِلَّوْثِ تَأْثِيرٌ فِي الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَالْأَمْوَالِ: أَمَّا الدِّمَاءُ فَفِي الْقَسَامَةِ، وَأَمَّا الْحُدُودُ فَفِي اللِّعَانِ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَفِي قِصَّةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ إنْ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْوَصِيَّيْنِ ظَلَمَا وَغَدَرَا أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا، وَيَقْضِيَ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي لَا حُكْمَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّ اللَّوَثَ إذَا أَثَّرَ فِي إرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَإِزْهَاقِ النُّفُوسِ وَفِي الْحُدُودِ فَلَأَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي الْمَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد فِي النَّسَبِ مَعَ اعْتِرَافِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَلَدِهَا، بَلْ هُوَ وَلَدُ الْأُخْرَى، فَقَالَ لَهَا: " هُوَ ابْنُكِ " وَمِنْ تَرَاجِمِ النَّسَائِيّ عَلَى قِصَّتِهِ: " التَّوْسِعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ أَفْعَلُ كَذَا لِيَسْتَبِينَ بِهِ الْحَقَّ " ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرَى فَقَالَ: " الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ " وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ اسْتِنْبَاطًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وَدَلِيلًا، ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً ثَالِثَةً فَقَالَ: " نَقْضُ الْحَاكِمِ مَا حَكَمَ بِهِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَجَّلَ مِنْهُ ". قُلْتُ: وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَهُمَا، إجْرَاءٌ لِلنَّسَبِ مَجْرَى الْمَالِ، وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُزِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَفِيهِ نَوْعٌ لَطِيفٌ شَرِيفٌ عَجِيبٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِقَدَرِ اللَّهِ عَلَى شَرْعِهِ؛ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَدَلَّ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ فِي قَلْبِ الصُّغْرَى مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ بِحَيْثُ أَبَتْ أَنْ يُشَقَّ الْوَلَدُ، عَلَى أَنَّهُ ابْنُهَا، وَقَوَّى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ رِضَا الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَقَّ الْوَلَدُ، وَقَالَتْ: نَعَمْ شُقَّهُ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ مِنْ أُمٍّ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ حَاسِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَسَّى بِصَاحِبِ النِّعْمَةِ فِي زَوَالِهَا عَنْهُ كَمَا زَالَتْ عَنْهُ هُوَ، وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَهَذَا الْفَهْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا فِي الْحَاكِمِ أَضَاعَ حُقُوقَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ طَافِحَةٌ بِذَلِكَ. [الْعَمَلُ بِالسِّيَاسَةِ] [الْعَمَلُ بِالسِّيَاسَةِ] وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ وَبَيْنَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْعَمَلُ بِالسِّيَاسَةِ هُوَ الْحَزْمُ، وَلَا يَخْلُو مِنْهُ إمَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: السِّيَاسَةُ مَا كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ بِحَيْثُ يَكُونُ النَّاسُ مَعَهُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يُشَرِّعْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ؛ فَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ " لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ " أَيْ لَمْ يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ فَغَلَطٌ وَتَغْلِيطٌ لِلصَّحَابَةِ؛ فَقَدْ جَرَى مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالْمَثْلِ مَا لَا يَجْحَدُهُ عَالِمٌ بِالسِّيَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تَحْرِيقُ الْمَصَاحِفِ كَانَ رَأْيًا اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى مَصْلَحَةٍ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيقُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الزَّنَادِقَةَ فِي الْأَخَادِيدِ، وَنَفْيُ عُمَرُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ. قُلْتُ: هَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ، وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ فِي مُعْتَرَكٍ صَعْبٍ، فَرَّطَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّؤُا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَسَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْمُحِقُّ مِنْ الْمُبْطِلِ، وَعَطَّلُوهَا مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ النَّاسِ بِهَا أَنَّهَا أَدِلَّةُ حَقٍّ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ نَوْعُ تَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّطْبِيقِ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَهَا، فَلَمَّا رَأَى وُلَاةُ الْأَمْرِ ذَلِكَ وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ إلَّا بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَأَحْدَثُوا لَهُمْ قَوَانِينَ سِيَاسِيَّةً يَنْتَظِمُ بِهَا مَصَالِحُ الْعَالَمِ؛ فَتَوَلَّدَ مِنْ تَقْصِيرِ أُولَئِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِحْدَاثِ هَؤُلَاءِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَوْضَاعِ سِيَاسَتِهِمْ شَرٌّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 طَوِيلٌ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَأَفْرَطَ فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى فَسَوَّغَتْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَقِّ، وَقَامَتْ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ، وَأَسْفَرَ صُبْحُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ؛ فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ وَرِضَاهُ وَأَمْرُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْصُرْ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَدِلَّتَهُ وَأَمَارَاتِهِ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ وَأَبْطَلَ غَيْرَهُ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَدَلُّ وَأَظْهَرُ، بَلْ بَيَّنَ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَقِيَامُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْحَقُّ وَمَعْرِفَةُ الْعَدْلِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَالطُّرُقُ أَسْبَابٌ وَوَسَائِلُ لَا تُرَادُ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ غَايَاتُهَا الَّتِي هِيَ الْمَقَاصِدُ، وَلَكِنْ نَبَّهَ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَلَنْ تَجِدَ طَرِيقًا مِنْ الطُّرُقِ الْمُثْبِتَةِ لِلْحَقِّ إلَّا وَهِيَ شِرْعَةٌ وَسَبِيلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَهَلْ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ خِلَافُ ذَلِكَ؟ وَلَا نَقُولُ: إنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَسْمِيَتُهَا سِيَاسَةً أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَتْ عَدْلًا فَهِيَ مِنْ الشَّرْعِ، فَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تُهْمَةٍ، وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ لَمَّا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرِّيبَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ؛ فَمَنْ أَطْلَقَ كُلًّا مِنْهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُ أَوْ حَلَّفَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِاشْتِهَارِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَنَقْبِ الدُّورِ وَتَوَاتُرِ السَّرِقَاتِ - وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَسْرُوقِ مَعَهُ - وَقَالَ: لَا آخُذُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ أَوْ إقْرَارِ اخْتِيَارٍ وَطَوْعٍ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَالَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ سَهْمَهُ، وَتَحْرِيقُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَتَاعَهُ، وَمَنْعُ الْمُسِيءِ عَلَى أَمِينٍ سَلَبَ قَتِيلَهُ، وَأَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَإِضْعَافُهُ الْغُرْمَ عَلَى سَارِقٍ مَالًا قَطْعٌ فِيهِ، وَعُقُوبَتُهُ بِالْجَلْدِ، وَإِضْعَافُهُ الْغُرْمَ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ، وَتَحْرِيقُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَانُوتَ الْخَمَّارِ، وَتَحْرِيقُهُ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَتَحْرِيقُهُ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَحَلْقُهُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفْيُهُ، وَضَرْبُهُ صَبِيغًا بِالدُّرَّةِ لَمَّا تَتَبَّعَ الْمُتَشَابِهَ فَسَأَلَ عَنْهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّيَاسَةِ الَّتِي سَاسَ بِهَا الْأُمَّةَ فَسَارَتْ سُنَّةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا مَنْ خَالَفَهَا. وَلَقَدْ حَدَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الزِّنَا بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَفِي الْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْقَيْءِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَبَلِ عَلَى الشُّرْبِ وَالزِّنَا أَوْلَى مِنْ الْبَيِّنَةِ قَطْعًا؛ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ إلْغَاءُ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ الصِّدِّيقِ اللُّوطِيَّ، وَإِلْقَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَهُ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ عُثْمَانَ الْمَصَاحِفَ الْمُخَالِفَةَ لِلْمُصْحَفِ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 الصِّدِّيقِ الْفُجَاءَةَ السُّلَمِيُّ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلنَّاسِ إفْرَادَ الْحَجِّ وَأَنْ يَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَزَالُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ مَعْمُورًا بِالْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّاسَ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ بَاعُوهُنَّ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إلْزَامُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لِمَنْ أَوْقَعَهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا صَرَّحَ هُوَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَتِهِ هُوَ يُجْعَلُ وَاحِدَةً، إلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْعَادِلَةِ الَّتِي سَاسُوا بِهَا الْأُمَّةَ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا. وَتَقْسِيمُ بَعْضِهِمْ طُرُقَ الْحُكْمِ إلَى شَرِيعَةٍ وَسِيَاسَةٍ كَتَقْسِيمِ غَيْرِهِمْ الدِّينَ إلَى شَرِيعَةٍ وَحَقِيقَةٍ، وَكَتَقْسِيمِ آخَرِينَ الدِّينَ إلَى عَقْلٍ وَنَقْلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ، بَلْ السِّيَاسَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْعَقْلُ كُلُّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ؛ فَالصَّحِيحُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ لَا قَسِيمٌ لَهَا، وَالْبَاطِلُ ضِدُّهَا وَمُنَافِيهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ مِنْ أَهَمِّ الْأُصُولِ وَأَنْفَعِهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عُمُومُ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعِبَادُ فِي مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْوِجْ أُمَّتَهُ إلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إلَى مَنْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ بِهِ، فَلِرِسَالَتِهِ عُمُومَانِ مَحْفُوظَانِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا تَخْصِيصٌ: عُمُومٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ، وَعُمُومٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ بُعِثَ إلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ؛ فَرِسَالَتُهُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ عَامَّةٌ، لَا تُحْوِجُ إلَى سِوَاهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ عُمُومِ رِسَالَتِهِ فِي هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ رِسَالَتِهِ، وَلَا يَخْرُجُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَقِّ الَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي عُلُومِهَا وَأَعْمَالِهَا عَمَّا جَاءَ بِهِ. [بَيَّنَ الرَّسُولُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ] وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لِلْأُمَّةِ مِنْهُ عِلْمًا، وَعَلَّمَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى آدَابَ التَّخَلِّي وَآدَابَ الْجِمَاعِ وَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ، وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ، وَالصَّمْتِ وَالْكَلَامِ، وَالْعُزْلَةِ وَالْخُلْطَةِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَجَمِيعِ أَحْكَامِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَوَصَفَ لَهُمْ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالنَّارَ وَالْجَنَّةَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، وَعَرَّفَهُمْ مَعْبُودَهُمْ وَإِلَهَهُمْ أَتَمَّ تَعْرِيفٍ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ وَيُشَاهِدُونَهُ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعَرَّفَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ وَأُمَمَهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مَعَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ كَانُوا بَيْنَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا مَا لَمْ يُعَرِّفْهُ نَبِيٌّ لِأُمَّتِهِ قَبْلَهُ، وَعَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 أَحْوَالِ الْمَوْتِ وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ فِي الْبَرْزَخِ وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ مَا لَمْ يُعَرِّفْ بِهِ نَبِيٌّ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ فِرَقِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا لَيْسَ لِمَنْ عَرَفَهُ حَاجَةٌ مِنْ بَعْدِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا إلَى مَنْ يُبَلِّغُهُ إيَّاهُ وَيُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُ مِنْهُ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَايِدِ الْحُرُوبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَطُرُقِ النَّصْرِ وَالظُّفْرِ مَا لَوْ عَلِمُوهُ وَعَقَلُوهُ وَرَعَوْهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ عَدُوٌّ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَايِدِ إبْلِيسَ وَطُرُقِهِ الَّتِي يَأْتِيهِمْ مِنْهَا وَمَا يَتَحَرَّزُونَ بِهِ مِنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَمَا يَدْفَعُونَ بِهِ شَرَّهُ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحْوَالِ نُفُوسِهِمْ وَأَوْصَافِهَا وَدَسَائِسِهَا وَكَمَائِنِهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ مَعَهُ إلَى سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ عَرَّفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُمُورِ مَعَايِشِهِمْ مَا لَوْ عَلِمُوهُ وَعَمِلُوهُ لَاسْتَقَامَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ أَعْظَمَ اسْتِقَامَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَجَاءَهُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِرُمَّتِهِ، وَلَمْ يُحْوِجْهُمْ اللَّهُ إلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ شَرِيعَتَهُ الْكَامِلَةَ الَّتِي مَا طَرَقَ الْعَالَمَ شَرِيعَةٌ أَكْمَلُ مِنْهَا نَاقِصَةٌ تَحْتَاجُ إلَى سِيَاسَةٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا تُكَمِّلُهَا، أَوْ إلَى قِيَاسٍ أَوْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَعْقُولٍ خَارِجٍ عَنْهَا؟ وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ خَفَاءُ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ وَقِلَّةُ نَصِيبِهِ مِنْ الْفَهْمِ الَّذِي وَفَّقَ اللَّهُ لَهُ أَصْحَابَ نَبِيِّهِ الَّذِينَ اكْتَفَوْا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَمَّا مَا سِوَاهُ، وَفَتَحُوا بِهِ الْقُلُوبَ وَالْبِلَادَ، وَقَالُوا: هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا، وَهُوَ عَهْدُنَا إلَيْكُمْ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْنَعُ مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشْيَةَ أَنْ يَشْتَغِلَ النَّاسُ بِهِ عَنْ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى اشْتِغَالَ النَّاسِ بِآرَائِهِمْ وَزَبَدِ أَفْكَارِهِمْ وَزُبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ؟ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وَكَيْفَ يَشْفِي مَا فِي الصُّدُورِ كِتَابٌ لَا يَفِي هُوَ وَمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ؟ أَمْ كَيْفَ يَشْفِي مَا فِي الصُّدُورِ كِتَابُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؟ أَوْ عَامَّتُهَا ظَوَاهِرُ لَفْظِيَّةٍ دَلَالَتُهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ عَشَرَةِ أُمُورٍ لَا يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ قَبْلَ وَضْعِ هَذِهِ الْقَوَانِينِ الَّتِي أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَقَبْلَ اسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْآرَاءِ وَالْمَقَايِيسِ وَالْأَوْضَاعِ؟ أَهَلْ كَانُوا مُهْتَدِينَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 مُكْتَفِينَ بِالنُّصُوصِ أَمْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؟ حَتَّى جَاءَ الْمُتَأَخِّرُونَ فَكَانُوا أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَهْدَى وَأَضْبَطَ لِلشَّرِيعَةِ مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَ [مَا] يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ؟ فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ [عَبْدُهُ] بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الْإِشْرَاكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ. فَصْلٌ: [كَلَامُ أَحْمَدَ فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ] وَهَذِهِ نَبْذَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ مَنْصُورٍ: وَالْمُخَنَّثُ يُنْفَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا الْفَسَادُ وَالتَّعَرُّضُ لَهُ، وَلِلْإِمَامِ نَفْيُهُ إلَى بَلَدٍ يَأْمَنُ فَسَادَ أَهْلِهِ، وَإِنْ خَافَ بِهِ عَلَيْهِمْ حَبَسَهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِيمَنْ شَرِبَ خَمْرًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ أَتَى شَيْئًا نَحْوَ هَذَا: أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَغُلِّظَ عَلَيْهِ مِثْلَ الَّذِي يَقْتُلُ فِي الْحَرَمِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تُعَاقَبَانِ وَتُؤَدَّبَانِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ بِالنَّارِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا، فَقَالَ: إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ اللَّهَ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرِّقُوهُ بِالنَّارِ، فَأَجْمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُحَرِّقُوهُ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِأَنْ يُحَرِّقُوا، فَحَرَّقَهُمْ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ حَرَّقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ عُقُوبَتُهُ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، بَلْ يُعَاقِبَهُ وَيَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا أَعَادَ الْعُقُوبَةَ. وَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ النِّسَاءَ إذَا خِيفَ عَلَيْهِنَّ الْمُسَاحَقَةَ حَرُمَ خَلْوَةُ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى اخْتِيَارِ إحْدَاهُمَا، فَإِنْ أَبَى ضُرِبَ حَتَّى يَخْتَارَ. قَالُوا: وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وَأَمَّا كَلَامُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ فَمَشْهُورٌ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. مِنْهَا جَوَازُ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَشْهَدْ عَدْلَانِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ. وَمِنْهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ الَّتِي يُوصِلُهَا إلَيْهِ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ، وَجَوَازُ أَكْلِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَدْلَانِ أَنَّ فُلَانًا أَهْدَى لَكَ كَذَا، بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَلَفُّظُهُ وَلَا تَلَفُّظُ الرَّسُولِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ. وَمِنْهَا جَوَازُ تَصَرُّفِهِ فِي بَابِهِ بِقَرْعِ حَلَقَتِهِ وَدَقِّهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهَا اسْتِدْعَاءُ الْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّارِ وَالْبُسْتَانِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَضُيُوفِهِ وَإِنْزَالُهُمْ عِنْدَهُ مُدَّةً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ نُطْقًا، وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَصَرُّفَهُمْ فِي مَنْفَعَةِ الدَّارِ وَإِشْغَالَهُمْ الْكَنِيفَ وَإِضْعَافَهُمْ السُّلَّمَ وَنَحْوَهُ. وَمِنْهَا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّعَامِ إذَا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالْإِذْنِ لَفْظًا. وَمِنْهَا جَوَازُ شُرْبِهِ مِنْ الْإِنَاءِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ إلَيْهِ وَلَا يَسْتَأْذِنْهُ. وَمِنْهَا جَوَازُ قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي كَنِيفِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ. وَمِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِنَادِ إلَى وِسَادَتِهِ. وَمِنْهَا أَخْذُ مَا يَنْبِذُهُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَمْلِيكِهِ لَهُ. وَمِنْهَا انْتِفَاعُهُ بِفِرَاشِ زَوْجَتِهِ وَلِحَافِهَا وَوِسَادَتِهَا وَآنِيَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا نُطْقًا، إلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ. وَهَلْ السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَهِيَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَرَائِنِ الَّتِي تُفِيدُ الْقَطْعَ تَارَةً وَالظَّنَّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ ظَنِّ الشُّهُودِ بِكَثِيرٍ تَارَةً؟ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْأَطْعِمَةِ] فَصْلٌ: فَلْنَرْجِعْ إلَى فَتَاوَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ فَتَاوِيهِ فِي الْأَطْعِمَةِ. [فَتَاوَى فِي الْأَطْعِمَةِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثُّومِ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو أَيُّوبَ: هَلْ يَحِلُّ لَنَا الْبَصَلُ؟ فَقَالَ بَلَى، وَلَكِنِّي يَغْشَانِي مَا لَا يَغْشَاكُمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الضَّبِّ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفَرَا، فَقَالَ الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الضَّبُعِ، فَقَالَ أَوَيَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الذِّئْبِ، فَقَالَ أَوَ يَأْكُلُ الذِّئْبَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ؟» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الضَّبُعِ؟ قَالَ: وَمَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ؟» وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي إبَاحَةِ الضَّبُعِ فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْئًا، كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ أَكْلِهِ تَقَذُّرًا أَوْ تَنَزُّهًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ ، فَقَالَ سَمَّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَأْكُلُ مَا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] » إلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَأَنَّ الَّذِي سَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ هُمْ الْيَهُودُ، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ الَّذِينَ أَوْرَدُوا هَذَا السُّؤَالَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَوْنُ السُّورَةِ مَكِّيَّةً، وَكَوْنُ الْيَهُودِ يُحَرِّمُونَ الْمَيْتَةَ كَمَا يُحَرِّمَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَكَيْفَ يُورِدُونَ هَذَا السُّؤَالَ وَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] فَهَذَا سُؤَالُ مُجَادِلٍ فِي ذَلِكَ، وَالْيَهُودُ لَمْ تَكُنْ تُجَادِلُ فِي هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ سَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ، وَلَفْظُهُ «أَتَى نَاسٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَأْكُلُ مِمَّا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] » وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ هُمْ الَّذِينَ أَوْرَدُوا هَذَا السُّؤَالَ؛ فَسَأَلَ عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَحْسَبُ قَوْلَهُ «إنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ» إلَّا وَهْمًا مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي إذَا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي، فَحَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} [المائدة: 88] » ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ أَهْلِ كِتَابٍ، وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا وَاطْبُخُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا لَحْمَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ يُبْطِلَانِ [قَوْلَ] مَنْ تَأَوَّلَ نَهْيَهُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ بِأَنَّهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ؛ فَإِنَّهُ تَأَمُّلٌ فَاسِدٌ قَطْعًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ فَقَالَ: لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: هَذَا ذَكَاةُ الْمُتَرَدِّي، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: هَذَا لِلضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجَنِينِ يَكُونُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَهَذَا يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ أَنَّهُ يُذَكَّى كَمَا تُذَكَّى أُمُّهُ ثُمَّ يُؤْكَلُ؛ فَإِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُفْرِدَ بِذَبْحٍ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ: إنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، أَفَتُذَكَّى بِاللِّيطَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ، فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ، وَالظُّفْرَ مُدَى الْحَبَشَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللِّيطَةُ: الْفِلْقَةُ مِنْ الْقَصَبِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: إنَّ أَحَدَنَا لَيُصِيبُ الصَّيْدَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ، أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشَقَّةِ الْعَصَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرِرْ الدَّمَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَاةٍ حَلَّ بِهَا الْمَوْتُ، فَأَخَذَتْ جَارِيَةٌ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهَا» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَاةٍ نَيَّبَ فِيهَا الذِّئْبُ، فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْحُوتِ الَّذِي جَزَرَ الْبَحْرُ عَنْهُ، فَقَالَ: كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، وَأَطْعِمُونَا إنْ كَانَ مَعَكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، فَقَالَ: إنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ فَقَالَ مَا صِدْتُ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتُ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ لِحِلِّ الصَّيْدِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْرَحُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ: إنِّي أُرْسِلُ كِلَابِي الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَقَالَ: إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا قُلْتُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، فَقَالَ: إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: «إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ» . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «إذَا أَرْسَلَتْ كَلْبَكَ الْمُكَلَّبَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ؛ فَإِنْ أَخَذَ الْكَلْبُ ذَكَاتَهُ» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» وَفِيهِ «فَإِنْ غَابَ عَنْكَ الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ لَكَ كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَتْ عَلَيْكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكِيٌّ أَوْ غَيْرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَالَ: كُلْ مَا أَمْسَكَتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ قَالَ: ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ مَا لَمْ يَصِلْ يَعْنِي يَتَغَيَّرُ أَوْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ أَثَرِ سَهْمِكَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ» فَإِنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ فِيمَا أَكَلَ مِنْهُ حَالَ صَيْدِهِ؛ إذْ يَكُونُ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِيمَا أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَحْرُمُ كَمَا لَوْ أَكَلَ مِمَّا ذَكَّاهُ صَاحِبُهُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: كُلْهُ مَا لَمْ يَنْتُنْ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلُ بَيْتٍ كَانُوا فِي الْحَرَّةِ مُحْتَاجِينَ مَاتَتْ عِنْدَهُمْ نَاقَةٌ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا فَعَصَمَتْهُمْ بَقِيَّةَ شِتَائِهِمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِالْحَرَّةِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّ لِي نَاقَةً قَدْ ضَلَّتْ؛ فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا فَوَجَدَهَا فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا، فَمَرِضَتْ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا، فَأَبَى، فَنَفَقَتْ، فَقَالَتْ: اُسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا نَأْكُلَهُ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ مَا يُغْنِيكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَكُلُوهُ قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا، قَالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إمْسَاكِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: مِنْ الطَّعَامِ طَعَامٌ نَتَحَرَّجُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - النَّهْيُ عَمَّا شَابَهَ طَعَامَ النَّصَارَى، يَقُولُ: لَا تَشُكَّنَّ فِيهِ، بَلْ دَعْهُ، فَأَجَابَهُ بِجَوَابٍ عَامٍّ، وَخَصَّ النَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى لَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ، [بَلْ] يُبِيحُونَ مَا دَبَّ وَدَرَجَ مِنْ الْفِيلِ إلَى الْبَعُوضِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: إنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، «إنَّا نَمُرُّ بِقَوْمٍ فَلَا يُضَيِّفُونَنَا، وَلَا يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقِّ، وَلَا نَحْنُ نَأْخُذُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: إنْ أَبَوْا إلَّا أَنْ تَأْخُذُوا قِرًى فَخُذُوهُ» ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «لَيْلَةُ الضِّيقِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ، إنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ» ، وَعِنْده أَيْضًا «مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ» . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ، وَعَلَى أَخْذِ الْإِنْسَانِ نَظِيرَ حَقِّهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إذَا أَبَى دَفْعَهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الظُّفْرِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِظُهُورِ سَبَبِ الْحَقِّ هَهُنَا، فَلَا يُتَّهَمُ الْآخِذُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هِنْدَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ فَلَا يَقْرِينِي وَلَا يُضَيِّفُنِي، ثُمَّ يَمُرُّ بِي أَفَأَجْزِيهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَقْرِهِ قَالَ: وَرَآنِي - يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَثَّ الثِّيَابِ، فَقَالَ هَلْ لَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 مِنْ مَالٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، قَالَ فَلْيُرَ عَلَيْكَ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جَائِزَةِ الضَّيْفِ، فَقَالَ يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْعَقِيقَةِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْعَقِيقَةِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعَقِيقَةِ، وَكَانَ كَرِهَ الِاسْمَ، وَقَالَ مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعَقِيقَةِ، فَقَالَ «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ كَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا نَسْأَلُكَ عَنْ أَحَدِنَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، قَالَ مَنْ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَنْسُكْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْأَشْرِبَةِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْأَشْرِبَةِ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: لَا أَرْوَى مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ: فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ، ثُمَّ تَنَفَّسَ قَالَ: فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ قَالَ: فَأَهْرِقْهَا» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ، قَالَ: أَهْرِقْهَا قَالَ إنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذَنْ عَنْ فِيكَ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِتْعِ، فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو مُوسَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يَنْبِذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَارِقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ الْيَمَنِ عَنْ شَرَابٍ بِأَرْضِهِمْ يُقَالَ لَهُ الْمِزْرُ قَالَ: أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَإِنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي شَرَابٍ نَصْنَعُهُ فِي أَرْضِنَا مِنْ ثِمَارِنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى سَأَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: لَا تَشْرَبْهُ، وَلَا تَسْقِهِ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ وَاَلَّذِي يُحْلَفُ بِهِ - لَا يَشْرَبُهُ رَجُلٌ ابْتِغَاءَ لَذَّةِ سُكْرٍ فَيَسْقِيهِ اللَّهُ الْخَمْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، قَالَ: لَا» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو طَلْحَةَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: أَهْرِقْهَا قَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ يَتِيمًا كَانَ فِي حِجْرِ أَبِي طَلْحَةَ، فَاشْتَرَى لَهُ خَمْرًا، فَلَمَّا حُرِّمْتُ الْخَمْرُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيَتَّخِذُهَا خَلًّا؟ قَالَ: لَا» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمٌ، فَقَالُوا: إنَّا نَنْتَبِذُ نَبِيذًا نَشْرَبُهُ عَلَى غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى طَعَامِنَا، فَقَالَ: اشْرَبُوا وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ وَكَثِيرِهِ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَيْرُوزِ الدَّيْلَمِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَقَالَ: إنَّا أَصْحَابُ أَعْنَابٍ وَكَرْمٍ، وَقَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَمَا نَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ تَتَّخِذُونَهُ زَبِيبًا قَالَ: نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ مَاذَا؟ قَالَ: تَنْقَعُونَهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَتَشْرَبُونَهُ عَلَى عَشَائِكُمْ، وَتَنْقَعُونَهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَتَشْرَبُونَهُ عَلَى غَدَائِكُمْ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَحْنُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتَ، وَنَحْنُ بَيْنَ ظَهْرَانِي مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَمَنْ وَلِيُّنَا، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» . [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْأَيْمَانِ وَفِي النُّذُورِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْأَيْمَانِ وَفِي النُّذُورِ] فِي طَرَفٍ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ. «وَسَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَفَتْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَإِنَّ الْعَهْدَ كَانَ قَرِيبًا، فَقَالَ: قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثَلَاثًا، ثُمَّ اُنْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَعَوَّذْ، وَلَا تَعُدْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ سَأَلُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 «وَأَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قَدْ نَامُوا، فَأَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامٍ، فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ، مِنْ أَجْلِ الصِّبْيَةِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَكَلَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالِكُ بْنُ فَضَالَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَصِلُنِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَيَّ فَيَأْتِينِي فَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ، قَالَ: فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» . «وَخَرَجَ سُوَيْد بْنُ حَنْظَلَةَ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٌ يُرِيدَانِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِمَا، فَأَخَذَ وَائِلًا عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّهُ أَخُوهُمْ، وَحَلَفَ سُوَيْد أَنَّهُ أَخُوهُ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ، وَيَصُومَ وَلَا يُفْطِرَ بِنَهَارِهِ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي النَّذْرِ، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً صَحَّ النَّذْرُ فِي الْقُرْبَةِ وَبَطَلَ فِي غَيْرِ الْقُرْبَةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْوَقْفِ سَوَاءٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوْفِ بِنَذْرِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الِاعْتِكَافِ عَنْ غَيْرِ صَوْمٍ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّوْمِ إذْ الِاعْتِكَافُ الْمَشْرُوعُ إنَّمَا هُوَ اعْتِكَافُ الصَّائِمِ، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمَشْرُوعِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْكَبَ وَتَخْتَمِرَ وَتَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، وَأَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِ أُخْتِكَ، فَلْتَرْكَبْ وَلِتُهْدِ بَدَنَةً» . «وَنَظَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ إلَى أَعْرَابِيٍّ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: نَذَرَتْ أَنْ لَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 أَزَالَ فِي الشَّمْسِ حَتَّى يَفْرُغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ هَذَا نَذْرًا، إنَّمَا النَّذْرُ فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْخًا يُهَادِي بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَنَظَرَ إلَى رَجُلَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ يَمْشِيَانِ إلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: مَا بَالُ الْقِرَانِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَذَرْنَا أَنْ نَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ مُقْتَرِنَيْنِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا نَذْرًا، إنَّمَا النَّذْرُ فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرُ صِيَامٍ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ: لِيَصُمْ عَنْهَا الْوَلِيُّ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ [النِّيَابَةُ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ] وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . فَطَائِفَةٌ حَمَلَتْ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ، وَقَالَتْ: يُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ وَالْفَرْضُ وَأَبَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: لَا يُصَامُ عَنْهُ نَذْرٌ وَلَا فَرْضٌ. وَفَصَّلَتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: يُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ دُونَ الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ جَارٍ مَجْرَى الصَّلَاةِ، فَكَمَا لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُسْلِمُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَهُوَ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدِّينِ، فَيُقْبَلُ قَضَاءُ الْوَلِيِّ لَهُ كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ، وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ عَنْهُ، وَلَا يُزَكِّي عَنْهُ إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا بِالتَّأْخِيرِ، كَمَا يُطْعِمُ الْوَلِيُّ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا الْمُفَرِّطُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَصْلًا فَلَا يَنْفَعُهُ أَدَاءُ غَيْرِهِ عَنْهُ لِفَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، وَكَانَ هُوَ الْمَأْمُورَ بِهَا ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا دُونَ الْوَلِيِّ، فَلَا تَنْفَعُ تَوْبَةُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا إسْلَامُهُ عَنْهُ، وَلَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ عَنْهُ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ، فَقَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ قَالَتْ: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا مَكَانٌ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: لِصَنَمٍ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: لِوَثَنٍ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ فِيهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الْجِهَادِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الْجِهَادِ] فِي طَرَفٍ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ. «سُئِلَ عَنْ قِتَالِ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ، فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَقَالَ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تَبْغَضُونَهُمْ وَيَبْغَضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ قَالُوا: أَفَلَا نُنَابَذُهُمْ؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعْنَ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ لَا، مَا صَلَّوْا» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ أَحْمَدُ «مَا صَلَّوْا الْخَمْسَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَمْنَعُونَنَا حَقَّنَا وَيَسْأَلُونَنَا حَقَّهُمْ، قَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ «إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: لَا أَجِدُهُ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: رَجُلٌ فِي شُعَبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَا صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَرَدَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 عَلَيْهِ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَكَيْفَ قُلْتَ؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْضًا، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ سَارَّنِي بِذَلِكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ فِي الصَّفِّ لَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَنْطَلِقُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنْ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إلَيْهِمْ رَبُّكَ تَعَالَى، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حِمْيَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَيُقَاتِلُ لِيُحْمَدَ، وَيُقَاتِلُ لِيَغْنَمَ، وَيُقَاتِلُ لِيَرَى مَكَانَهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ وَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّكَ لَمْ تُفْهِمْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «أَنَّهُ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا شَيْءَ لَهُ. فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ وَابْتَغَى بِهِ وَجْهَهُ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] الْآيَةُ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الطِّبِّ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الطِّبِّ] فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطِّبِّ. «سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ نَعَمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَفِي السُّنَنِ «أَنَّ الْأَعْرَابَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ دَوَاءً، إلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ رُقًى تَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ يُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مِنْ دَاءٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نُرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى، قَالَ اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ قَالَ: فَعَرَضُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا، مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَاسْتَفْتَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَشَكَا إلَيْهِ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، الرَّجُلُ يُبْتَلَى عَلَى حَسْبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ اُبْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَلْبَ الدِّينِ اُبْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ، فَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» ذَكَره أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إلَّا الْعَبَاءَةَ تَحْوِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالْعَافِيَةِ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنْ قَلَّتْ؛ قَالَ وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا فَدَعَا أَبُو سَعِيدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ، وَأَنْ لَا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ وَلَا عَنْ عُمْرَةٍ وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَا مَسَّهُ إنْسَانٌ إلَّا وَجَدَ حَرَّةً حَتَّى مَاتَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ أُسَامَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «شَهِدْتُ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ أَعْلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ إلَّا مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا؛ فَذَلِكَ هُوَ الْحَرَجُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَيْنَا مِنْ جُنَاحٍ أَنْ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إلَّا الْهَرَمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ؟ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرُّقَى، فَقَالَ اعْرِضُوا عَلَيَّ مِنْ رُقَاكُمْ ثُمَّ قَالَ: لَا بَأْسَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَبِيبٌ عَنْ ضُفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا» ذَكَرَهُ أَهْلُ السُّنَنِ. «وَشَكَا إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْقَمْلَ، فَأَفْتَاهُمْ بِلُبْسِ قَمِيصِ الْحَرِيرِ» ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. «وَأَفْتَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ طَبِيبًا وَأَخْطَأَ فِي تَطْبِيبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» . «وَشَكَا إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشَاةُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ تَعَبَهُمْ وَضَعْفَهُمْ عَنْ الْمَشْيِ، فَقَالَ لَهُمْ: اسْتَعِينُوا بِالنَّسْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَنْكُمْ الْأَرْضَ وَتَخِفُّونَ لَهُ قَالُوا: فَفَعَلْنَا فَخَفَّفْنَا لَهُ، وَالنَّسْلُ: الْعَدْوُ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا» ، ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ [أَنَّ] هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 تُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْعَيْنُ، أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِحَاضِنَتِهِمَا: مَا لِي أَرَاهُمَا ضَارِعَيْنِ فَقَالَتْ: إنَّهُ لَتُسْرِعُ إلَيْهِمَا الْعَيْنُ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نَسْتَرْقِيَ لَهُمَا إلَّا أَنَّا لَا نَدْرِي مَا يُوَافِقُكَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَ شَيْءُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّشْرَةِ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّشْرَةُ: حَلُّ السِّحْرِ عَنْ الْمَسْحُورِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: حَلُّ سِحْرٍ بِسِحْرٍ مِثْلَهُ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّ السَّحَرَ مِنْ عَمَلٍ فَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ بِمَا يُحِبُّ، فَيُبْطِلُ عَمَلَهُ عَنْ الْمَسْحُورِ، وَالثَّانِي: النَّشْرَةُ بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمُبَاحَةِ، فَهَذَا جَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، وَعَلَى النَّوْعِ الْمَذْمُومِ يُحْمَلُ قَوْلُ الْحَسَنِ " لَا يَحِلُّ السِّحْرَ إلَّا سَاحِرٌ ". [فَصْلٌ فَتَاوَى فِي الطِّيَرَةِ وَفِي الْفَأْلِ وَفِي الِاسْتِصْلَاحِ] فَصْلٌ: [فَتَاوَى فِي الطِّيَرَةِ وَفِي الْفَأْلِ وَفِي الِاسْتِصْلَاحِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ: عَذَابًا كَانَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ وَيَكُونُ فِيهِ فَيَمْكُثُ لَا يَخْرُجُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا أَبْيَنُ، وَهِيَ رِيفُنَا وَمِيرَتُنَا، وَهِيَ وَبِئَةٌ، أَوْ قَالَ: وَبَاهَا شَدِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْهَا عَنْكَ، فَإِنَّ مِنْ الْقَرَفِ التَّلَفَ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَوْعٍ شَرِيفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّبِّ؛ وَهُوَ اسْتِصْلَاحُ التُّرْبَةِ وَالْهَوَاءِ كَمَا يَنْبَغِي اسْتِصْلَاحُ الْمَاءِ، وَالْغِذَاءِ، فَإِنَّ بِصَلَاحِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ يَكُونُ صَلَاحُ الْبَدَنِ وَاعْتِدَالُهُ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبنِي الْفَأْلَ قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 وَلَمَّا قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ الْبَعِيرَ يَكُونُ بِهِ الْجَرَبُ فَتُجْرِبُ الْإِبِلَ، قَالَ: ذَاكَ الْقَدَرُ، فَمَنْ أَجْرَبَ الْأَوَّلَ؟» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لِمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ، بَلْ فِيهِ إثْبَاتُ الْقَدَرِ، وَرَدُّ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا إلَى الْفَاعِلِ الْأَوَّلِ؛ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ سَبَبٍ مُسْتَنِدًا إلَى سَبَبٍ قَبْلَهُ لَا إلَى غَايَةٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْأَسْبَابِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ؛ فَقَطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّسَلْسُلَ بِقَوْلِهِ: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " إذْ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ جَرِبَ بِالْعَدْوَى وَاَلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ لَا إلَى غَايَةٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ الْمُمْتَنَعُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَارٌ سَكَنَّاهَا وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ وَالْمَالُ وَافِرٌ، فَقَلَّ الْعَدَدُ وَذَهَبَ الْمَالُ، فَقَالَ: دَعُوهَا ذَمِيمَةً» ذَكَرَهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْفَرَسِ، وَفِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ» وَهُوَ إثْبَاتٌ لِنَوْعٍ خَفِيٍّ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ مُسَبَّبِهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُعْلَمُ سَبَبِيَّتُهُ قَبْلَ وُقُوعِ مُسَبَّبِهِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْلَمُ سَبَبِيَّتُهُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ مُسَبَّبِهِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الْخَفِيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ " فُلَانٌ مَشْئُومُ الطَّلْعَةِ، وَمُدَوَّرُ الْكَعْبِ " وَنَحْوُهُ؛ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إلَى هَذَا النَّوْعِ، وَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَقَوْلُهُ: «إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ فِي ثَلَاثَةٍ» تَحْقِيقٌ لِحُصُولِ الشُّؤْمِ فِيهَا، وَلَيْسَ نَفْيًا لِحُصُولِهِ مِنْ غَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ تَتَدَاوُونَ بِهِ شِفَاءً فَفِي شَرْطِهِ مَحْجَمٌ، أَوْ شَرْبَةُ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٌ بِنَارٍ، وَلَا أُحِبُّ الْكَيَّ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. [فَصْلٌ فُصُولٌ مِنْ فَتَاوِيهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ] [التَّوْبَةُ] ذِكْرُ فُصُولٍ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ: [التَّوْبَةُ] «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: إنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِرَّهَا» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ: سَلُوا لِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَجَاءَ قَوْمُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89] فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَسْلَمَ» ذَكَرَهُ النَّسَائِيّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ أَوْجَبَ فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَقَوْلُهُ: " أَوْجَبَ " أَيْ فَعَلَ مَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ. [حَقُّ الطَّرِيقِ] [حَقُّ الطَّرِيقِ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] قَالَ: كَانُوا يَخْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. [الْكَذِبُ] {الْكَذِبُ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالُوا: أَيَكُونُ كَذَّابًا؟ قَالَ: لَا» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «أَقُولُ إنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي مَا لَمْ يُعْطِنِي» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ أَكْذِبُ عَلَى امْرَأَتِي؟ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا، وَأَقُولُ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا جُنَاحَ» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. [الشِّرْكُ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ] «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: هُمْ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا إلَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَلَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] » . «وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ؟ قَالَ: أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيُزَيِّنَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ آخَرَ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. [طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ] [طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ] «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ طَاعَةِ الْأَمِيرِ الَّذِي أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَضْرَمُوهُ نَارًا، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» وَفِي لَفْظٍ «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ» . فَهَذِهِ فَتْوَى عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلَا تَخْصِيصَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ. [مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ] وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَكْبَر ِ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ سَأَلُوهُ: كَيْفَ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ «إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قِيلَ: وَمَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ» . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اعْتِبَارِ الذَّرَائِعِ، وَطَلَبِ الشَّرْعِ لِسَدِّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. [حسن الْجِوَارُ] [الْجِوَارُ] «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا قَالُوا: حَرَامٌ، فَقَالَ: لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَامٌ، قَالَ: لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. [الْغِيبَةُ] [الْغِيبَةُ] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 يَكْرَهُ قِيلَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْغِيبَةُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَذْكُرَ مِنْ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إذَا قُلْتَ بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» . [الْكَبَائِرُ] [الْكَبَائِرُ] «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ، وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مِنْهُ، وَالزِّنَا بِحَلِيلَةِ جَارِهِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ» وَهَذَا مَجْمُوعٌ مِنْ أَحَادِيثَ. فَصْلٌ: [تَعْدَادُ الْكَبَائِرِ] وَمِنْ الْكَبَائِرِ: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَتَرْكُ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَاللِّوَاطُ، وَالْحُكْمُ بِخِلَافِ الْحَقِّ، وَأَخْذُ الرِّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ، وَالْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَجُحُودُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ كَلَامَهُ وَكَلَامَ رَسُولِهِ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ يَقِينٌ أَصْلًا، وَأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ بَلْ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ وَضَلَالٌ، وَتَرْكُ مَا جَاءَ بِهِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِ غَيْرِهِ، وَتَقْدِيمُ الْخَيَّالِ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ وَالسِّيَاسَةِ الظَّالِمَةِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَالْإِدْرَاكَاتِ وَالْكُشُوفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوَضْعُ الْمُكُوسِ، وَظُلْمُ الرَّعَايَا، وَالِاسْتِئْثَارُ بِالْفَيْءِ، وَالْكِبْرِ، وَالْفَخْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَتَقْدِيمُ خَوْفِ الْخَلْقِ عَلَى خَوْفِ الْخَالِقِ، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ الْخَالِقِ، وَرَجَائِهِ عَلَى رَجَائِهِ، وَإِرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ، وَمِسَبَّةُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَإِقْرَارُ الرَّجُلِ الْفَاحِشَةَ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَالْمَشْيُ بِالنَّمِيمَةِ، وَتَرْكُ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَتَخَنُّثُ الرَّجُلِ وَتَرَجُّلُ الْمَرْأَةِ، وَوَصْلُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَطَلَبُهَا ذَلِكَ، وَطَلَبُ الْوَصْلِ كَبِيرَةٌ، وَفِعْلُهُ كَبِيرَةٌ، وَالْوَشْمُ وَالِاسْتِيشَامُ، وَالْوَشْرُ وَالِاسْتِيشَارُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وَالنَّمْصُ وَالتَّنْمِيصُ، وَالطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَبَرَاءَةُ الرَّجُلِ مِنْ أَبِيهِ، وَبَرَاءَةُ الْأَبِ مِنْ ابْنِهِ، وَإِدْخَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَالنِّيَاحَةُ، وَلَطْمُ الْخُدُودِ، وَشَقُّ الثِّيَابِ، وَحَلْقُ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ، وَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَعْلَامُهَا، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْجَوْرُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَحِرْمَانُ الْوَارِثِ حَقَّهُ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالتَّحْلِيلُ، وَاسْتِحْلَالُ الْمُطَلَّقَةِ بِهِ، وَالتَّحَيُّلُ عَلَى إسْقَاطِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ. وَتَحْلِيلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ مَحَارِمِهِ وَإِسْقَاطُ فَرَائِضِهِ بِالْحِيَلِ، وَبَيْعُ الْحُرِّ [ائْرَ] ، وَإِبَاقُ الْمَمْلُوكِ مِنْ سَيِّدِهِ، وَنُشُوزُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَكِتْمَانُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِهِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ لِلدُّنْيَا وَالْمُبَاهَاةِ وَالْجَاهِ وَالْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ، وَالْغَدْرُ، وَالْفُجُورُ فِي الْخِصَامِ، وَإِتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا وَفِي مَحِيضِهَا، وَالْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ. وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، وَاتِّهَامُهُ فِي أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَالتَّكْذِيبُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرِجَ بِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ رَفَعَ الْمَسِيحِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ يَصْعَدُ إلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَأَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَأَنَّهُ نَادَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَنَادَى مُوسَى وَيُنَادِي نَبِيَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَأَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَصْلٌ وَمِنْهَا الِاسْتِمَاعُ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ لَا يُحِبُّونَ اسْتِمَاعَهُ، وَتَخْبِيثُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَالْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَتَصْوِيرُ صُوَرِ الْحَيَوَانِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا ظِلٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ تَرَيَاهُ، وَأَخْذُ الرِّبَا وَإِعْطَاؤُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَكِتَابَتُهُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَعَصْرُهَا وَاعْتِصَارُهَا وَحَمْلُهَا وَبَيْعُهَا وَأَكْلُ ثَمَنِهَا، وَلَعْنُ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ، وَإِتْيَانُ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالْعَرَّافِينَ وَالسَّحَرَةِ وَتَصْدِيقُهُمْ وَالْعَمَلُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَالسُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَقَدْ قَصَّرَ مَا شَاءَ أَنْ يُقَصِّرَ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَجْعَلُهُ شِرْكًا، فَرُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ الْكَبَائِرِ، وَاِتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَجَعْلُهَا أَوْثَانًا وَأَعْيَادًا يَسْجُدُونَ لَهَا تَارَةً وَيُصَلُّونَ إلَيْهَا تَارَةً وَيَطُوفُونَ بِهَا تَارَةً وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَ أَنْ يُدْعَى فِيهَا وَيُعْبَدَ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وَمِنْهَا مُعَادَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِسْبَالُ الثِّيَابِ مِنْ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْعِمَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَطَاعَةُ الْهَوَى وَطَاعَةُ الشُّحِّ وَالْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ، وَإِضَاعَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَنَفَقَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَزَوْجَتِهِ وَرَقِيقِهِ وَمَمَالِيكِهِ، وَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهَجْرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَنَةً كَمَا فِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَقَتْلِهِ» ، وَأَمَّا هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُونَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الشَّفَاعَةُ فِي إسْقَاطِ حُدُودِ اللَّهِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَمِنْهَا تَكَلَّمُ الرَّجُلِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ إلَى بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ أَوْ تَرْكِ سُنَّةٍ، بَلْ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مُضَادَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ بِمُسْلِمٍ أَكْلَةً أَطْعَمَهُ اللَّهُ بِهَا أَكْلَةً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ قَامَ بِمُسْلِمٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ أَقَامَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، وَمَنْ اكْتَسَى بِمُسْلِمٍ ثَوْبًا كَسَاهُ اللَّهُ ثَوْبًا مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ وَتَوَسَّلَ إلَيْهِ بِأَذَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَذِبٍ عَلَيْهِ أَوْ سُخْرِيَةٍ أَوْ هُمَزَةٍ أَوْ لُمَزَةٍ أَوْ غِيبَةٍ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ وَالِازْدِرَاءِ بِهِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزُّورِ وَالنَّيْلِ مِنْ عِرْضِهِ عِنْدَ عَدُوِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَأَوْقَعَ فِي وَسَطِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنْهَا التَّبَجُّحُ وَالِافْتِخَارُ بِالْمَعْصِيَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَأَشْكَالِهِ، وَهُوَ الْإِجْهَارُ الَّذِي لَا يُعَافِي اللَّهُ صَاحِبَهُ، وَإِنْ عَافَاهُ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهَانِ وَلِسَانَانِ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ بِوَجْهٍ وَلِسَانٍ، وَيَأْتِي غَيْرَهُمْ بِوَجْهٍ وَلِسَانٍ آخَرَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيًّا يَتْرُكُهُ النَّاسُ وَيَحْذَرُونَهُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. وَمِنْهَا مُخَاصَمَةُ الرَّجُلِ فِي بَاطِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَدَعْوَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ مِنْهُمْ، أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وَلَيْسَ بِابْنِهِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» وَفِيهِمَا أَيْضًا «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ» وَفِيهِمَا أَيْضًا «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ اُدُّعِيَ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا وَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ» . فَمِنْ الْكَبَائِرِ تَكْفِيرُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ وَدِينُهُمْ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ، فَكَيْفَ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَمُخَالَفَةِ آرَاءِ الرِّجَالِ لَهَا وَتَحْكِيمِهَا وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهَا؟ وَمِنْهَا أَنْ يُحَدِّثَ حَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ يُؤْوِيَ مُحْدِثًا وَيَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَمِنْ أَعْظَمِ الْحَدَثِ تَعْطِيلُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِحْدَاثُ مَا خَالَفَهُمَا، وَنَصْرُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ وَالذَّبُّ عَنْهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ دَعَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا إحْلَالُ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ فِي حَرَمِ اللَّهِ. وَمِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِلرِّجَالِ، وَاسْتِعْمَالُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنْ يَكُونَ دُونَهَا. وَمِنْهَا الْغُلُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا غِشُّ الْإِمَامِ وَالْوَالِي لِرَعِيَّتِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، أَوْ يَقَعُ عَلَى بَهِيمَةٍ. وَمِنْهَا الْمَكْرُ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَمُخَادَعَتُهُ وَمُضَارَّتُهُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلْعُونٌ مَنْ مَكَرَ بِمُسْلِمٍ أَوْ ضَارَّ بِهِ» . وَمِنْهَا الِاسْتِهَانَةُ بِالْمُصْحَفِ وَإِهْدَارُ حُرْمَتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ وَطِئَهُ بِرِجْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يُضِلَّ أَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَقَدْ لَعَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَضَلَّ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ أَوْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وَمِنْهَا أَنْ يَسِمَ إنْسَانًا أَوْ دَابَّةً فِي وَجْهِهَا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَفْعَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وَمِنْهَا الْجِدَالُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَدِينِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَمِنْهَا إسَاءَةُ الْمَلِكَةِ بِرَقِيقِهِ فِي الْحَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ» . وَمِنْهَا أَنْ يَمْنَعَ الْمُحْتَاجَ فَضْلَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاهُ. وَمِنْهَا الْقِمَارُ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِتَشِبِّيهِ لَاعِبِهِ بِمَنْ صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا أَكَلَ الْمَالَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ التَّشْبِيهُ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّعِبَ بِمَنْزِلَةِ غَمْسِ الْيَدِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَمِنْهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِيُحَرِّقَ مُرْتَكِبَ صَغِيرَةٍ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَهَذَا فَوْقَ الْكَبِيرَةِ. وَمِنْهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونَنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ» وَفِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» . وَمِنْهَا أَنْ يَقْطَعَ مِيرَاثَ وَارِثِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَوْ يَدُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعَلِّمَهُ مِنْ الْحِيَلِ مَا يُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَمِنْهَا الْغُلُوُّ فِي الْمَخْلُوقِ حَتَّى يَتَعَدَّى بِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَهَذَا قَدْ يَرْتَقِي مِنْ الْكَبِيرَةِ إلَى الشِّرْكِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ» . وَمِنْهَا الْحَسَدُ، وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. وَمِنْهَا الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَلَوْ كَانَ صَغِيرَةً لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِتَالِ فَاعِلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ وُقُوفَهُ عَنْ حَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا خَيْرًا لَهُ مِنْ مُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 [فَصْل عَوْدٌ إلَى فَتَاوَى الرَّسُولِ] فَصْلٌ [عَوْدٌ إلَى فَتَاوَى الرَّسُولِ] مُسْتَطْرَدٌ مِنْ فَتَاوِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَارْجِعْ إلَيْهَا. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: إذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مِتَّ بِالْحَضْرَمَةِ يَعْنِي أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ» ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوَالَةَ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ بِلَادًا يَسْكُنَهَا، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَوَكَّلُ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. «وَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ جَدُّ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَأْمُرنِي؟ قَالَ هَهُنَا وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ» ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودُ عَنْ الرَّعْدِ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُهُ بِهِ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ؟ قَالَ: زَجْرُهُ السَّحَابَ حَتَّى تَنْتَهِيَ حَيْثُ أُمِرَتْ قَالُوا: صَدَقْتَ، ثُمَّ قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَمَّا حَرَّمَ إسْرَائِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ: اشْتَكَى عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إلَّا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ قَالُوا: صَدَقْتَ» ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: أَهِيَ مِنْ نَسْلِ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَلْعَنْ قَوْمًا قَطُّ فَمَسَخَهُمْ فَكَانَ لَهُمْ نَسْلٌ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ، وَلَكِنَّ هَذَا خَلْقٌ كَانَ، فَلَمَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ مَسْخَهُمْ جَعَلَهُمْ مِثْلَهُمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَقَالَ: فِيكُمْ الْمُغْرِبُونَ فَقَالَ عَائِشَةُ: وَمَا الْمُغْرِبُونَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمْ الْجِنُّ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيَاطِينِ لِلْإِنْسِ فِي الْأَوْلَادِ، وَسُمُّوا مُغْرِبِينَ لِبُعْدِ أَنْسَابِهِمْ وَانْقِطَاعِهِمْ عَنْ أُصُولِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ " عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ ". «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ أَتَّزِرُ؟ فَأَشَارَ إلَى عَظْمِ سَاقِهِ، وَقَالَ هَهُنَا اتَّزِرْ قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُ؟ قَالَ: فَهَهُنَا أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَهَهُنَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ، فَقَالَ: إنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: «مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ: إذًا تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ يُرْخِينَ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَامَّزَقَ شَعْرُهَا، أَفَأَصِلُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إتْيَانِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَا تَأْتِهِمْ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطِّيَرَةِ، قَالَ ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَرُدُّنَّهُمْ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَطِّ، فَقَالَ كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكُهَّانِ أَيْضًا، فَقَالَ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فَقَالَ السَّائِلُ: إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانَا بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ، فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ مِنْ الْإِنْسِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] فَقَالَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَقَالَتْ: إنَّهُ كَانَ صَدَّقَكَ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسَهُ ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ فَاشْتَدَّ فِي أَثَرِهِ. فَقَالَ لَا تُحَدِّثْ النَّاسَ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمُّ الْعَلَاءِ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَيْنًا تَجْرِي، يَعْنِي بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ ذَاكَ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ» . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد «أَنَّ مُعَاذًا سَأَلَهُ فَقَالَ: بِمَ أَقْضِي؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْ؟ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْ؟ قَالَ اسْتَدْنِ الدُّنْيَا، وَعَظِّمْ فِي عَيْنَيْكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَاجْتَهِدْ رَأْيكَ فَسَيُسَدِّدُكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ» ، وَقَوْلُهُ " اسْتَدْنِ الدُّنْيَا " أَيْ: اسْتَصْغِرْهَا وَاحْتَقِرْهَا. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَقَالَ: أَلَا أَحْمِلُ لَكَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ فَتُنْتِجَ لَكَ بَغْلًا فَتَرْكَبَهَا؟ فَقَالَ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَلَمَّا نَزَلَ التَّشْدِيدُ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ عَزَلُوا طَعَامَهُمْ عَنْ طَعَامِ الْأَيْتَامِ وَشَرَابِهِمْ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 شَرَابِهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] فَقَالَ إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] فَقَالَ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ «أَنَّهُ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] كَمْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ؟ قَالَ عَشَرَةُ آلَافٍ» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ثَعْلَبَةَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الْآيَةُ، فَقَالَ: ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْتَهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ فَقَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟ فَقَالَ: دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي، رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْت مِنْ النُّبُوَّةِ؟ قَالَ إنِّي لَفِي الصَّحْرَاءِ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وَإِذَا بِرَجُلٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أَهُوَ هُوَ؟ فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِأَحَدٍ قَطُّ، وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا لِخَلْقٍ قَطُّ، وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى خَلْقٍ قَطُّ، فَأَقْبَلَا يَمْشِيَانِ حَتَّى أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِعَضُدِي لَا أَجِدُ لِأَخْذِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَضْجِعْهُ، فَأَضْجَعَانِي بِلَا قَصْرٍ وَلَا هَصْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: افْلِقْ صَدْرَهُ، فَحَوَى أَحَدُهُمَا صَدْرِي فَفَلَقَهُ فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجْ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ، فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْخِلْ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَإِذَا مِثْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الَّذِي أَخْرَجَ شِبْهُ الْفِضَّةِ، ثُمَّ هَزَّ إبْهَامَ رِجْلِي الْيُمْنَى، فَقَالَ: اُغْدُ سَلِيمًا، فَرَجَعَتْ بِهَا رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ وَرَحْمَةً عَلَى الْكَبِيرِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَحَبِّ النِّسَاءِ إلَيْهِ، فَقَالَ عَائِشَةُ فَقِيلَ: وَمِنْ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ أَبُوهَا فَقِيلَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ: أَيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ قَالَا: مَا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكَ؟ قَالَ أَحَبُّ أَهْلِي إلَيَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلْتَ عَمَّكَ آخِرَهُمْ، قَالَ إنَّ عَلِيًّا سَبَقَكَ بِالْهِجْرَةِ» ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ: أَيُّ أَهْلِ بَيْتَكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ امْرَأَةٍ كَثِيرَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، فَقَالَ هِيَ فِي النَّارِ فَقِيلَ: إنَّ فُلَانَةَ، فَذَكَرَ قِلَّةَ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، فَقَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسَأَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةُ فَقَالَتْ: إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَنَهَاهُمْ عَنْ الْجُلُوسِ بِالطُّرُقَاتِ إلَّا بِحَقِّهَا، فَسُئِلَ عَنْ حَقِّ الطَّرِيقِ، فَقَالَ «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» . «سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا، وَإِنَّ أَبِي اجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، فَقَالَ أَلَكَ وَالِدَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَرُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا؛ فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونِي وَأَعْفُو عَنْهُمْ وَيَظْلِمُونِي، أَفَأُكَافِئهُمْ؟ قَالَ: لَا، إذًا تَكُونُوا جَمِيعًا، وَلَكِنْ خُذْ الْفَضْلَ وَصِلْهُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يُزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» . «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ قَالَ يُطْعِمُهَا إذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوهَا إذَا لَبِسَ، وَلَا يَضْرِبُ لَهَا وَجْهًا، وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا يَهْجُرُ إلَّا فِي الْبَيْتِ» ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد. «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ: إنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا فَقَالَ: إنِّي خَادِمُهَا، قَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» ذَكَرَهُ مَالِكٌ. «وَسُئِلَ عَنْ الِاسْتِئْنَاسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قَالَ: يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِتَسْبِيحَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ وَيَتَنَحْنَحُ وَيُؤْذِنُ أَهْلُ الْبَيْتِ» ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. «وَعَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ قُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا نَقُولُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ قُولُوا لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ: مَا أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ قُلْ لَهُمْ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314