الكتاب: علم اللغة المؤلف: علي عبد الواحد وافي - رحمه الله - الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- علم اللغة علي عبد الواحد وافي الكتاب: علم اللغة المؤلف: علي عبد الواحد وافي - رحمه الله - الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمات إطراء مجمع اللغة العربية لكتابي علم اللغة وفقه اللغة ... إطراء مجمع اللغة العربية لكتابَيّ: "علم اللغة" و"فقه اللغة": مجمع فؤاد الأول للغة العربية في 18/ 6/ 1945 حضرة الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي عرض على لجنة الأدب في المجمع كتابكم "علم اللغة" وصنوه "فقه اللغة", وقد حمدت لكم اللجنة ما بذلتم من جهد في البحث والدرس والاستخلاص؛ فقد حوى هذان الكتابان من مختلف مسائل اللغة, وعالجا من مشكلاتها ما تمس إليه حاجة الباحث المتطلع, وقد انتهجتم في التأليف طريقةً علمية حقيقةً بالتقدير، وبسطتم من المعلومات ما يدل على غزارة مادةٍ وحسن إحاطةٍ، وكان لما أيدتم أو فندتم من وجهات النظر المتباينة مظهر من استقلال الرأي. وإننا إذ نشكر لكم هذا المجهود في التأليف، نرجو لكم المزيد من التوفيق, وتقبلوا أطيب تحياتي. 18/ 6/ 1945 رئيس المجمع أحمد لطفي السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى 1: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. وبعد, فمنذ عهد بعيد، وخاصةً منذ أن كُشِفَت اللغة السنسكريتية، لم تنفك موضوعات علم اللغة موضع عناية عدد كبير من أعلام الباحثين في أمم الغرب، وقد بُذِلَت في هذا السبيل جهودٌ قيمةٌ مشكورةٌ بلغ بفضلها هذا العلم درجةً راقيةً من النضج والكمال، فوضحت حدوده ومناهجه، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، وتميزت فروعه بعضها من بعض، واختص في كل فرع منها عدد كبير من العلماء، فتوفروا على دراسته، وقتلوا مسائله بحثًا, ومن ثَمَّ أصبحت مراجع هذا العلم من أكثر مراجع العلوم عددًا، وأوسعها نطاقًا، وأدقها بحثًا، وأجلها قيمةً. وعلى الرغم من ذلك، لم يكتب فيه باللغة العربية -على ما أعلم- مؤلف يعتد به، اللهم إلّا بعض كتب قديمة تمثل هذه البحوث في أدوار طفولتها الأولى، بل في أدوارها السابقة للطفولة، ولا تكاد اليوم -وقد أيفع هذا العلم- تنقع من صدًى ولا تسمن من جوع. حيال هذا، رأيت أن الواجب يحتِّمُ عليَّ -وقد وقفت قسطًا من جهودي على هذا العلم، وقمت بتدريسه مدة طويلة- أن أقول بأول   1 ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب حوالي سنة 1940. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 محاولةٍ في هذا السبيل، فكتبت هذه العجالة، معتمدًا فيها على طائفة كبيرة من أوثق المصادر العربية والإفرنجية التي يرى القارئ بعضها مشارًا إليه في ثنايا تعليقاتنا, وبعضها مدونًا في ثبت المراجع في آخر الكتاب. ولم آل جهدًا أن أوفق بين غرضين، ليس من اليسير التوفيق بينهما: أحدهما ألَّا أغادر ناحية من النواحي البارزة في هذا العلم إلّا عرضت لها, مناقشًا أهم ما قيل فيها, ومدليًا بما يصح الركون إليه في صددها؛ والآخر مراعاة الإيجاز في علاج الموضوعات حتى لا أتجاوز النطاق الذي رسمته لهذه العجالة, والذي ينبغي أن تكون عليه أول محاولة. والله أسأل أن يتيح متابعة ما بدأته وتنقيحه وتكملته, وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا. دكتور: علي عبد الواحد وافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تمهيد في التعريف بعلم اللغة 1- البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة : ترجع أهم البحوث اللغوية إلى الموضوعات التالية: 1- البحوث المتعلقة بنشأة اللغة الإنسانية، والأشكال الأولى التي ظهر فيها التعبير، والأدوار التي اجتازها حتى وصل إلى مرحلة الأصوات ذات الدلالات الوضعية، والأسس التي سار عليها الإنسان، والنماذج التي احتذاها في وضع الكلمات وفي تعيين مدلولاتها، ونشأة مراكز اللغة في النوع الإنساني ... وما إلى ذلك من البحوث التي تعالج اللغة في أدوار نشأتها الأولى. ويطلقون على هذا الفرع من البحوث اللغوية اسم "أصل اللغة" أو "نشأة اللغة" "Origine du Langage". وكل ما يذهب إليه الباحثون بهذا الصدد -كما سيظهر في الفصل الأول من هذا الكتاب- يتألف من آراء ظنية تعتمد في بعض نواحيها على الحدس والتخمين, وفي نواحٍ أخرى على حجج ضعيفة لا يطمئن إلى مثلها التحقيق العلمي, وهكذا شأن جميع البحوث التي تعرض لأصول النظم الإنسانية. ولذلك يرى كثير من العلماء إخراج هذا الموضوع من نطاق علم اللغة وإلحاقه بالبحوث الفلسفية الميتافيزيقية؛ لأن منهج البحث فيه لا يتفق في شيء مع ما ينبغي أن تكون عليه مناهج البحث في العلوم -وهذا الرأي هو السائد الآن، ولذلك لا يكاد المحدثون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 علماء اللغة يعرضون لهذا الموضوع، وإن عرضوا له تناولوه على أنه دخيل على مادتهم, ومثال من البحوث اللغوية في أدوراها الأولى. 2- البحوث المتعلقة بحياة اللغة وما يطرأ عليها من غنًى وفقرٍ، وسعة وضيق، وعظمة وضعة، وما تتعرض له من انقسامها إلى لهجات، واستحالة هذه اللهجات مع الزمن إلى لغات مستقلة، وتعدد مظاهرها تبعًا لتعدد فنونها ووجوه استخدامها، وما تقوم به من صراع مع غيرها، وما ينجم عن هذا الصراع من انتصار أو هزيمة، واحتلالها مناطق جديدة, أو تخليها عما كانت تملكه، وما يؤول إليه أمرها من شيخوخة وهرم وفناء، وما تتمثل فيه ظواهر انحلالها؛ من اختفاء من عالم المحادثة والكتابة ودروس آثارها، أو اختفاء من المحادثة وحدها، أو اختفاء من المحادثة والكتابة مع بقائها في المعجمات والمؤلفات، وعوامل كل ظاهرة من هذه الظواهر ونتائجها والقوانين الخاضعة لها. ويطلق على هذا البحث اسم "حياة اللغة" "Vie du Langage". ومن أهم فروع هذا البحث وأوسعها نطاقًا فرع يُسَمَّى: "الدياليكتولوي" "Dialectologie" أي: علم اللهجات ... وموضوعه: دراسة الظواهر المتعلقة بانقسام اللغة إلى لهجاتٍ تختلف باختلاف البلاد أو باختلاف الجماعات الناطقة بها ... وما إلى ذلك. 3- دراسة الأصوات التي تتألف منها اللغة, وبيان أقسامها وفصائلها, وخواص كل قسم ومخارجه، وما تعتمد عليه من أعضاء النطق، وطريقة إحساس السامع بها، واختلاف النطق بالحروف, واختلاف الأصوات التي تتألف منها الكلمة في لغةٍ ما باختلاف عصورها والأمم الناطقة بها، والعوامل التي تنجم عنها هذه الظواهر، والنتائج اللغوية التي تترتب على كلٍّ منها، والقوانين التي تخضع لها ... وما إلى ذلك. ويطلقون على هذا البحث اسم: "الفونيتيك" "Phonétique", أي: "علم الصوت". 4- دراسة اللغة من حيث دلالتها، أي: من حيث أنها أداة للتعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 عما يجول بالخاطر, ويطلق على هذا البحث اسم "السيمنتيك"1 "Sémantique" أي: "علم الدلالة", ومن "الفونيتيك" و"السيمنتيك" "علم الصوت وعلم الدلالة" يتألف أهم فروع علم اللغة وأدقها وأكثرها نضجًا. وينتظم علم الدلالة بحوثًا كثيرة، استقلَّ الآن كل منها عما عداه, وأصبح موضوع شعبة دراسية قائمة بذاتها. وأهم هذه البحوث ما يلي: "أ" البحث في معاني الكلمات، ومصادر هذه المعاني، واختلافها في لغة ما باختلاف عصورها, والأمم الناطقة بها، وموت بعض معاني الكلمة ونشأة معانٍ جديدة، والعوامل المختلفة التي ترجع إليها هذه الظواهر، والنتائج اللغوية التي تترتب على كلٍّ منها، والقوانين التي تخضع لها في سيرها.. وما إلى ذلك, ويطلق على هذا البحث اسم "ليكسيكولوجيا" "Lexicologie" أي: "علم المفردات". "ب" البحث في القواعد المتصلة باشتقاق الكلمات وتصريفها, وتغير أبنيتها بتغير المعنى, وما يتصل بذلك. ويطلقون على هذا البحث اسم "المورفولوجيا" "Morphologie" أي: "علم البنية" وهو ثلاثة أنواع: "الموفولوجيا التعليمي" أي: "علم البنية التعليمي", وهو الذي يدرس القواعد السابق ذكرها في لغة ما؛ لمجرد جمعها وترتيبها وتنسيقها حتى يسهل تعلمها وتعليمها, ومراعاتها في الحديث والكتابة, ومن هذا النوع علم الصرف في اللغة العربية. "الموفولوجيا التاريخي" أي: "علم البنية التاريخي"، وهو الذي يدرس هذه القواعد في لغةٍ ما دراسةً تاريخيةً تحليليةً، فيدرس   1 يرجع الفضل في وضع هذا الاسم إلى العلامة بريال "M. Bréal". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الأشكال التي كانت عليها في أقدم مراحل هذه اللغة، وما طرأ عليها من تغير في مختلف العصور والأمم، وعوامل تطورها ونتائجه، والقوانين التي تسير عليها في مختلف مظاهرها ... وما إلى ذلك. "الموفولوجيا المقارن" أي: "علم البنية المقارنة", وهو الذي يدرس القواعد السابقة دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة في فصيلة من اللغات الإنسانية أو في جميع اللغات؛ فهو يمتاز عن الشعبة السابقة بالموازنة التي يجريها بين اللغات فيما يتعلق بقواعد البنية في كلٍّ منها. هذا، والقسمان الأخيران هما اللذان يدخلان في نطاق علم اللغة, أما القسم الأول وهو "المورفولوجيا التعليمي" فليس من بحوث علم اللغة، بل من بحوث القواعد التعليمية. "ج" البحث في أقسام الكلمات "تقسيم إلى اسم وفعل وحرف ... إلخ" وأنواع كل قسم ووظيفته في الدلالة، وأجزاء الجملة وترتيبها, وأثر كل جزء منها في الآخر -من ذلك مثلًا تأنيث كلمة أو تذكيرها أو جمعها أو تثنيتها ... تبعا لحالة كلمة أخرى في الجملة، وعلاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض وطريقة ربطها، وتقسيم العبارة إلى جمل, وترتيب هذه الجمل, وطريقة وصلها أو فصلها ... وما يتصل بذلك, ويطلق على هذا البحث اسم "السنتكس" "Syntaxe" أي: "علم التنظيم", وينقسم الأقسام الثلاثة نفسها التي انقسم إليها "المورفولوجيا" أو "علم البنية"، أي: إلى تعليمي وتاريخي ومقارن: "فالسنتكس التعليمي" أي: علم التنظيم التعليمي، هو الذي يدرس قواعد التنظيم في لغةٍ ما؛ لمجرد جمعها وترتيبها وتنسيقها حتى يسهل تعلمها وتعليمها واحتذاؤها في الحديث والكتابة -ومن هذه الشعبة بعض أبواب النحو والمعاني في اللغة العربية. "والسنتكس التاريخي" أي: علم التنظيم التاريخي، هو الذي يدرس قواعد التنظيم في لغة ما دراسة تاريخية تحليلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 "والسنتكس المقارن" أي: علم التنظيم المقارن، هو الذي يدرس قواعد التنظيم دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة في فصيلة من اللغات أو في جميع اللغات. والقسمان الأخيران هما اللذان يعدان من فروع علم اللغة، أما "السنتكس التعليمي" فليس من بحوث هذا العلم. هذا، ومن "المورفولوجيا" و"السنتكس" أي: علم البنية وعلم التنظيم، يتألف ما يسمونه "الجرامير" "Grammaire" أي: القواعد, ومما تقدَّمَ يتبين لك أن دراسة الجرامير بفرعيها, تكون تارةً تعليميةً وتارةً تاريخية وتارةً مقارنة، وأن القسمين الأخيرين وحدهما هما اللذان يدخلان في علم اللغة. "د" البحث في أساليب اللغة واختلافها باختلاف فنونها "الشعر، والنثر، الخطابة، المحادثة، الكتابة، المسرح ... إلخ" وباختلاف العصور والأمم الناطقة بها، والطرق التي تسلكها الأساليب في تطورها, والقوانين الخاضعة لها ... وما يتصل بذلك. -ويطلق على هذا البحث اسم "الستيليستيك" "Stylistique" أي: "علم الأساليب". وهذا البحث يمكن أن يُدْرَسَ على الوجوه الثلاثة نقسها التي أشرنا إليها في البحثين السابقين. فإذا درس على الوجة الأول، بأن كان الغرض منه مجرد جمع القواعد المتعلقة بأساليب لغة ما وتنسيقها وترتيبها ليسهل تعلمها وتعليمها واحتذارها في المحادثة والكتابة، أطلق عليه اسم "الستيليستيك التعليمي" أي: "علم الأساليب التعليمي". -ومن هذا النوع بعض أبواب المعاني والبيان والبديع في اللغة العربية. وإذا درس على الوجة الثاني، بأن كان الغرض منه دراسة الأساليب في لغة ما دراسة تاريخية, وتعقبها في مختلف مراحل هذه اللغة, وفي مختلف الأمم الناطقة بها, وشرح تطورها والقوانين الخاضعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لها بهذا الصدد، أطلق عليه اسم "الستيليستيك التاريخي" أي: علم الأساليب التاريخي. وإذا دُرِسَ على الوجه الثالث، بأن كان الغرض منه دراسة الأساليب في عدة لغات دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة، أطلق عليه اسم "الستيليستيك المقارن" أي: علم الأساليب المقارن. والنوعان الأخيران هما اللذان يدخلان في نطاق علم اللغة، أما دراسة الأساليب على الوجه الأول فليست من بحوث هذا العلم, بل من بحوث "علم البلاغة". 5- البحث في الأصول التي جاءت منها الكلمات في لغة ما، بأن نبحث مثلًا عن الأصول الإغريقية واللاتينية.. وغيرها التي انحدرت منها كل كلمة من الكلمات الفرنسية, ويطلق على هذا البحث اسم "الإيتيمولوجيا" "Etymologie" أي: "أصول الكلمات". ويختلف هذا البحث عن البحثين الأخيرين -علم الصوت وعلم الدلالة, أو الفونيتيك والسيمنتيك- في أنهما يدرسان أمورًا كليةً, ويرميان إلى كشف القوانين العامة الخاضعة لها ظواهر الصوت أو ظواهر الدلالة، على حين أن هذا البحث يدرس أمورًا جزئيةً, وليس من أغراضه ولا من شأن دراسته الوصول إلى قوانين، فهو يبحث عن الأصول التي جاءت منها كل كلمة من كلمات اللغة على حدتها. ولكن الصلة وثيقة -على الرغم من ذلك- بينه وبين البحثين السابقين؛ فدراسته تفيدهما كثيرًا، كما ينتفع هو كثيرًا بدراستهما, وذلك أن معرفة أصول الكلمات -موضوع هذا البحث- يساعد كثيرًا على الوقوف على تطور الأصوات وتطور الدلالات, وعلى كشف القوانين الخاضع لها هذا التطور في مظهريه، أي: يعين البحثين السابقين -الفونبتيك والسيمنتك- على الوصول إلى أغراضهما؛ كما أن الوقوف على القوانين التي يخضع لها كل من الصوت والدلالة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 تطورهما -وهو موضوع البحثين السابقين- يساعد على معرفة أصول الكلمات، أي: يساعد هذا البحث على الوصول إلى أغراضه. هذا، ومن أهم شعب الإيتيمولوجيا شعبة تسمى "الأونوماستيك" "Onomastique" وموضوعها: البحث عن أصول الأعلام بمختلف أقسامها: أعلام الأشخاص والقبائل والعشائر والجبال والأنهار والأمصار.. وما إلى ذلك, ومن أهم فرع "الأونوماستيك" فرع يسمى "التوبونوماستيك" "Toponomastique"، وموضعه البحث عن أصول أسماء الأمكنة على اختلاف أنواعها. 6- بحوث إجتماعية ترمي إلى بيان العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية وأثر المجتمع وحضارته ونظمه وتاريخه وتركيبه وبيئته الجغرافية في مختلف الظواهر اللغوية. وإلى هذه البحوث تحتاج معظم الفروع السابقة؛ لأن نشأة اللغة الإنسانية والأشكال الأولى التي ظهر فيها التعبير, والأدوار التي اجتازها حتى وصل إلى مرحلة الأصوات ذات الدلالات الوضعية -موضوع الفرع الأول؛ وحياة كل لغة, وما يطرأ عليها من غنًى وفقرٍ, وقوة وضعف, وسعة وضيق، وانقسامها إلى فنون وإلى لهجات, وتفرع لغات عامة منها، وما تقوم به من صراع مع غيرها, وما ينجم عن هذا الصراع، وما يؤول إليه أمرها من شيخوخة وهرم وفناء -موضوع الفرع الثاني؛ وما يتعلق بأصواتها ودلالاتها وأصول مفرداتها ... -موضوع الفروع الثالث والرابع والخامس- ... كل أولئك, وما إليه ترجع أهم عوامله إلى ظواهر اجتماعية. فموضوعات البحث الذي نحن بصدده تمتزج بموضوعات الفروع السابقة جميعًا وتفسر ظواهرها, ولذلك لا يكاد يخلو منها مبحث من مباحث علم اللغة. غير أن علماء الإجتماع قد أخذوا على القدامى من علماء اللغة بهذا الصدد مآخذ كثيرة، ترجع إلى تقصيرهم في بيان العلاقة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية، وانحرافهم أحيانًا عن جادَّة الصواب في هذه السبيل، وتفسيرهم لبعض الظواهر اللغوية تفسيرًا خاطئًا يبعد بها عن المجتمع وشئونه؛ ولذلك أنشئوا فرعًا خاصًّا في علمهم سموه "علم الاجتماع اللغوي" "Sociologie Linguistique", وعالجوا فيه الظواهر اللغوية بطريقةٍ تكشف عن العلاقات التي تربطها بمختلف الظواهر الاجتماعية، وتكفل سد ما في البحوث القديمة من نقص وإصلاح ما بها من أخطاء, وقد أوغل بعضهم في هذا السبيل حتى كاد ينكر أن لغير العوامل الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة. ومهما يكن نصيب نظرياتهم من الصواب، فهي قد أعطت هذه البحوث شخصية متميزة، وجعلتها موضوع فرع مستقل، وجعلت كثيرًا من علماء اللغة أنفسهم ينزلها هذه المنزلة, ويفرد لها دراسة خاصة, ولذلك سنوجِّه إليها قسطًا كبيرًا من عنايتنا في معظم فصول هذا الكتاب. 7- بحوث نفسية تدرس العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر النفسية بمختلف أنواعها؛ من تفكير وخيال وتذكر ووجدان ونزوع.. إلخ، وتبين أثر كل طائفة منها في الأخرى، وتشرح ما تؤديه اللغة من وظائف معتمدة في أدائها على ظواهر نفسية كالإيحاء والتأثير، وتعرض لما يعتمد عليه كسب الطفل للغة من قوى نفسية ... وهلم جرّا. ولا تقل أهمية هذه البحوث في دراسة اللغة عن أهمية البحوث الاجتماعية السابقة, وذلك أن أهم العوامل التي تؤثر في الظواهر اللغوية لا تخرج عن طائفتين: ظواهر اجتماعية عامة؛ وظواهر نفسية فردية1. فموضوعات البحث الذي نحن بصدده تمتزج بموضوعات الفروع   1 تتأثر الظواهر اللغوية كذلك بالظواهر البيولوجية والفيزيولوجية والجغرافية, كما سنذكر ذلك بتفصيل عند كلامنا على علاقة علم اللغة بما عداه "انظر صفحة 30 وتوابعها". ولكن أهمية هذه العوامل أقل كثيرًا من أهمية الظواهر الاجتماعية والنفسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 السابقة جميعًا, وتحتاج إليها هذه الفروع في تفسير ظواهرها وتعليلها، ولذلك لا يكاد يخلو منها مبحث من مباحث اللغة. غير أن علماء النفس قد وجهوا لهذه البحوث قسطًا كبيرًا من عنايتهم، وجعلوها موضوع فرع مستقل من علمهم سموه "علم النفس اللغوي" "Paychologie du Langage" وتوفر على دراسته عدد كبير من أعلامهم، فبلغوا به درجة راقية من النضج والكمال, وقد تأثر بهم عدد كبير من علماء اللغة أنفسهم، فأفردوا لهذه الموضوعات دراسة خاصة. بقي من البحوث اللغوية ما يسمونه "الفيلولوجيا" "Philologie" وهو بحث غير محدد النطاق ولا متميز الحدود؛ وذلك أن مدلول هذه الكلمة قد اختلف كثيرًا باختلاف العصور وباختلاف الأمم, ولا يزال العلماء يختلفون في فهمها وإطلاقها. فأحيانًا تطلق ويراد بها ما يشمل معظم البحوث السابقة. -ويكاد يتعين هذا المعنى إذا وصفت بما يدل على عموم بحوثها؛ فقيل مثلًا: "فيلولوجيا قارنة" "Phiologie comparee". وأحيانًا تطلق ويراد بها دراسة لغة أو لغات؛ من حيث قواعدها وتاريخ أدبها ونقد نصوصها1. وأحيانًا تطلق ويراد بها دراسة الحياة العقلية ومنتجاتها على العموم في أمة ما أو في طائفة من الأمم. وهي بمعنييها الأخيرين ترادف ما نسميه أدب اللغة وتاريخ أدبها.   1 كانت إذا أطلقت في عصر إحياء العلوم لا تنصرف إلّا إلى دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية دراسة قواعد وأدب, ولكن الآن لا تفيد هذا المعنى إلّا إذا قيدت؛ فقيل: "فيلولوجيا كلاسيكية". "Phil. Classique". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ويطلق على جميع البحوث السابقة -ما عدا الفيلولوجيا بمعنييها الأخيرين, وما عدا المورفولوجيا التعليمي, والسنتكس التعليمي, والستيليستيك التعليمي- اسم "علم اللغة"1. "Linguistiques ou "Science du Langage" وقد اخترنا هذا الاسم لكتابنا؛ لأن موضوعاته ستكون شاملة لجميع البحوث التي تدخل تحت "علم اللغة". هذا، وقد وضع المؤلفون من العرب أسماء لبحوث تشبه بعض البحوث السابقة: فوضعوا اسم "الصرف" لبحوث من فصيلة "المورفولوجيا التعليمي"، واسم "النحو" لبحوث من فصيلة "السنتكس التعليمي"، واسم "البلاغة" لبحوث من "الستيليستيك التعليمي", واسم "أدب اللغة وتاريخ أدب اللغة" لبحوث من نوع "الفيلولوجيا" بمعنييها الأخيرين. غير أنهم لم يطلقوا هذه الأسماء إلّا على ما يتعلق من البحوث السابقة باللغة العربية وحدها. ومهما يكن من شيء, فقد علمت أن "المورفولوجيا التعليمي" و"السنتكس التعليمي" و"الستيليستيك التعليمي" و"الفيلولوجيا" بمعنييها الأخيرين، ليست من علم اللغة في شيء. أما بحوث علم اللغة نفسه فقد درس المؤلفون من العرب بعضها تحت أسماء مختلفة، أشهرها اسم "فقه اللغة"2. وهذه التسمية هي خير ما يوضع لهذه البحوث، فإن فقه الشيء   1 يخرج كذلك بعض المؤلفين من نطاق علم اللغة البحث الخاص بنشأة اللغة، وقد أشرنا فيما سبق لمذهبهم هذا وذكرنا وجهة نظرهم "انظر ص6، 7". 2 سيأتي تفصيل ذلك في الفقرة الخاصة بتاريخ البحوث اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 هو كل ما يتصل بفلسفته وفهمه, والوقوف على ما يسير عليه من قوانين؛ فقد قال صاحب المصباح: "الفقه فهم الشيء", وقال ابن فارس: "كل علم لشيء فهو فقه". وقد كنا نود أن نسمي كتابنا هذا باسم "فقه اللغة" لولا أن هذا الاسم قد خصص مدلوله في الاستعمال المألوف، فأصبح لا يفهم منه إلّا البحوث المتعلقة بفقه اللغة العربية وحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 2- أغراض علم اللغة : يرمي هذا العلم من وراء دراسته للظواهر اللغوية السابق بيانها إلى أغراضٍ وصفيةٍ تحليليةٍ يرجع أهمها إلى الأمور الآتية: 1- الوقوف على حقيقة الظواهر اللغوية، والعناصر التي تتألف منها, والأسس القائمة عليها. 2- الوقوف على الوظائف التي تؤديها في مختلف مظاهرها, وفي شتَّى المجتمعات الإنسانية. 3- الوقوف على العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، والعلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر: كالظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية والجغرافية والطبيعية والفيزيولوجية والأنتروبولوجية ... وهلم جرَّا. 4- الوقوف على أساليب تطورها واختلافها باختلاف الأمم والعصور. 5- كشف القوانين التي تخضع لها في جميع نواحيها, والتي تسير عليها في مختلف مظاهرها -القوانين التي تسير عليها في تكونها ونشأتها وأدائها لوظائفها, وعلاقاتها المتبادلة, وعلاقاتها بغيرها, وتطورها.. وما إلى ذلك. وهذا الغرض الأخير هو الأساسي لبحوث علم اللغة، بل يكاد يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 غرضها الفذ، وذلك أن الأغراض السابقة ليست في الواقع إلّا وسائل للوصول إليه؛ فعلم اللغة لا يعرض لحقيقة الظواهر اللغوية والوظائف التي تؤديها, والعلاقات التي تربطها بعض ببعض, والتي تربطها بغيرها, والتطورات التي تعتريها ... لا يعرض لهذا كله لمجرد الوصف وسرد الحقائق التاريخية، ولكن ليصل في ضوئه إلى كشف القوانين الخاضعة لها هذه الظواهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 3- قوانين العلوم : وبهذه المناسبة لا نرى مندوحةً عن ذكر كلمة عن قوانين علم اللغة التي قررنا أنها الغرض الأساسي في دراساته. -وسنمهد لهذا بالكلام على قوانين العلوم على العموم فنقول: تطلق كلمة القوانين في العرف العلمي على الأصول العامة التي تبين ارتباط الأسباب بمسبباتها, والمقدمات بنتائجها اللازمة، أو بعبارة أخرى: التي تنبئ بحدوث نتائج معينة لازمة إذا حدثت أسباب خاصة, وترجع النتائج الحادثة إلى أسبابها1. فما يقرره علماء الرياضيات والطبيعيات والاقتصاد وغيرهم من القواعد التي تبين علاقة السببية بين أمرين أو أكثر, يصدق عليه اسم قوانين؛ وذلك كقوانين ضرب عدد في عدد2, وقوانين الربح3, وقوانين تساوي المثلثين4, في الرياضيات   1 يعرفها منتسكيو بأنها: "العلاقات الضرورية التي تنشأ من طبيعة الأشياء". 2 مثال ذلك: إذا ضربت أربع وحدات في خمس وحدات, كان الحاصل عشرين وحدة. 3 مثال ذلك: ربح مبلغ ما يساوي حاصل ضرب رأس المال في الزمن في السعر مقسومًا على مائة. 4 مثال ذلك: ينطبق المثلثان كلٌّ على الآخر تمام الانطباق إذا ساوى في كل ضلعان والزاوية المحصورة بينهما نظائرها في الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقانون الجذب العام، وقانون أرشميدس1, وقانون بويل2 في الطبيعيات، وقوانين العرض والطلب3, وقانون جريشام4 في الاقتصاديات ... وهلمّ جرّا. هذا، وقد فطن الإنسان منذ عصور سحيقة في القدم إلى خضوع الكواكب والنجوم في سيرها وبزوغها وأفولها لقوانين ثابتة مطردة، هدته إلى ذلك مشاهداته اليومية, وملاحظته لإطراد النظام الذي تسير عليه هذه الأجرام, وعلى هذه المشاهدات أُسِّسَ علمٌ من أقدم العلوم الإنسانية؛ وهو علم الفلك. ومع ارتقاء الفكر الإنساني أخذ الاعتقاد بخضوع الظواهر لقوانين ثابتة, يتسع نطاقها قليلًا قليلًا حتى شمل كل نواحي الطبيعة وكل مظاهر الحياة، وحفز الباحثين على إنشاء علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا والبيولوجيا والتاريخ الطبيعي ... وما إلى ذلك من البحوث التي لم تغادر ظاهرة من ظواهر الطبيعية, ولا ناحية من نواحي النمو إلّا كشفت عما يسيطر عليها من قوانين, وبذلك تكونت مجموعة من العلوم هي العلوم الطبيعية. ولم يمض على ذلك أمد طويل حتى تمكّن العلماء من الوقوف على القوانين الطبيعية الخاضعة لها الرياح والعواصف والأمواج.. وما إلى ذلك من الظواهر التي كانت مضرب الأمثال في التقلب وعدم الاستقرار, والتي كان الشعراء يجعلونها رمزًا للتحرر من ربقة القواعد   1 كل جسم مغمور في سائل يكون مدفوعًا من أسفل إلى أعلى بقوة تساوي وزن السائل الذي يحل محله. 2 في درجة الحرارة الواحدة تكون حجوم مقدار معين من غاز مناسبة للضغوط الواقعة عليه تناسبًا عكسيًّا. 3 يرتفع الثمن كلما زاد الطلب أو قلَّ العرض, وينخفض الثمن كلما قلَّ الطلب أو زاد العرض، كلما ارتفع الثمن قلَّ الطلب وزاد العرض, وكلما انخفض الثمن زاد الطلب وقلَّ العرض. 4 إذا اجتمع نقدان في التعامل أحدهما رديء والآخر جيد, فإن الرديء يتغلب على الجيد ويطرده من السوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والقوانين، فأنشئوا "الميتورولوجيا" -علم الأحوال الجوية, و"الأسيونوجرافيا" -علم أحوال المحيطات، وتمكنوا في بحوثهم الجغرافية وغيرها من الكشف عن القوانين الخاضعة لها التيارات البحرية والزلازل والبراكين. وفي أثناء ذلك، بل من قبل ذلك، فطن الإنسان إلى القوانين التي يخضع لها الكم من حيث أنه مقيس أو معدود, وعلى هذا الأساس أنشئت علوم الرياضة. واستطاع العلماء كذلك أن يقفوا على القوانين التي تخضع لها الظواهر النفسية الفردية؛ من إدراك ووجدان ونزوع, ومن هذه البحوث تألف "علم النفس" أو "السيكولوجيا". وقد كان لزامًا بعد هذا كله أن تتجه الأفكار شطر المجتمع الإنساني، وأن يتساءل الباحثون عما إذا كانت الأعمال الاجتماعية خاضعة لقوانين شبيهة بالقوانين الخاضعة لها ظواهر الطبيعة, غير أنهم قد طال تساؤلهم وترددوا كثيرًا بهذا الصدد, وذلك أن الظواهر الاجتماعية تبدو حرة طليقة غير خاضعة لما نسميه بالقوانين؛ فارتفاع ثمن سلعةٍ ما أو انخفاضه، واختلاف مدلول كلمةٍ ما, أو اختلاف حروفها وأصواتها في جيلين متعاقبين، وتغير الأوضاع السياسية في أمة ما ... هذه الأمور وما إليها من الظواهر الاجتماعية تظهر للنظرة الأولى أنها حرة طليقة، ويصعب بداءة ذي بدء الاعتقاد بخضوعها لقوانين ثابتة مطردة كالقوانين الخاضع لها القمر في تزايده وتناقصه, أو النهار والليل في اختلافهما باختلاف الفصول. لمثل هذه الشبهات لم ينفك الباحثون يقدمون في هذه السبيل رِجْلًا ويؤخرون أخرى، حتى ظهر في القرن الرابع عشر العلامة ابن خلدون, وألف مقدمته الشهيرة التي أثبت فيها بالأدلة القاطعة أن أعمال المجتمع وظواهر العمران خاضعة في مختلف نواحيها لقوانين لا تقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 في صرامتها واطرادها عن القوانين الخاضعة لها الظواهر الطبيعية1. غير أن آراءه وبحوثه في هذه الناحية لم يتح لها ما كانت أهلًا له من الذيوع والانتشار, وما كان يعوزها من التنقيح والتهذيب إلّا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ فقد ظهر في هذين القرنين في مختلف بلدان أوروبا, وبخاصة فرنسا, طائفة من قادة الفكر لم تدع مؤلفاتهم أيّ مجال للريب في خضوع الظواهر الاجتماعية بمختلف أنواعها لقوانين يمكن استنباطها من ملاحظة هذه الظواهر في مختلف أحوالها, وفي شتى الأمم والعصور, ومن ذلك الحين أخذ المشتغلون بدراسة الظواهر الاجتماعية يوجهون كل عنايتهم إلى كشف القوانين الخاضعة لها، وأخذت العلوم الاجتماعية تظهر شيئًا فشيئًا, وينمو عددها قليلًا قليلًا, وتتكون من فروعها مجموعة حديثة, بجانب المجموعات الثلاث السابق ذكرها, وأعني بها: العلوم الرياضية والطبيعية وعلم النفس.   1 انظر الباب الثاني من كتابنا: "ابن خلدون، منشئ علم الاجتماع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 4- قوانين علم اللغة : على هذا الأساس قام علم اللغة، كما قام غيره من العلوم الاجتماعية، واتجهت عناية الباحثين فيه إلى كشف القوانين الخاضعة لها الظواهر اللغوية في مختلف أشكالها ومناحيها, وقد اهتدوا إلى طائفة كبيرة من هذه القوانين: منها ما يتعلق بالأصوات, وما يتعلق بالدلالات, ومنها ما يتعلق بحياة اللغة، ومنها ما يتعلق بوظائفها ... ؛ بعضها خاصٌّ يصدق على لغة معينة، وبعضها عامٌّ ينطبق على فصيلة من اللغات، وبعضها أعم يصدق على جميع اللغات. وسيمر بك في كل فصل من فصول هذا الكتاب أمثلة كثيرة من هذه القوانين، وسترى على ضوئها أن الظواهر اللغوية لا تسير وفقًا لإرادة الأفراد والمجتمعات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أو تبعًا للأهواء والمصادفات، وإنما تسير وفقًا لنواميس لا تقل في ثباتها وصرامتها واطرادها وعدم قابليتها للتخلف عن النواميس الخاضعة لها ظواهر الفلك والطبيعة. فقد يكون في استطاعة الفرد أو في استطاعة الجماعة اختراع لفظ أو تركيب، ولكن بمجرد أن يقذف بهذا اللفظ أو بهذا التركيب في التداول اللغوي وتتناقله الألسنة يفلت من إرادة مخترعة ويخضع في سيره وتطوره وحياته ... لقوانين ثابتة صارمة لا يستطيع الفرد ولا الجماعة إلى تعويقها أو تغييرها سبيلًا؛ فالكلمة الجديدة أو التركيب الجديد أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف من جهة معينة بقوة خاصة، فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره على تعطيلها أو وقف آثارها. ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد والجماعات أن يقفوا تطور لغة ما، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص، أو يحولوا دون تطورها على الطريقة التي ترسمها قوانين علم اللغة؛ فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها, وضبط قواعدها وأصواتها وكتابتها، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءةً وكتابةً ونطقًا, وفي وضع طرق ثابتة سليمة، يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لحنٍ وخطأ وتحريف ... ، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل التي تريدها على السير فيها سنن التطور والارتقاء التي ترسمها قوانين علم اللغة. ومن ثَمَّ يظهر كذلك خطأ مَنْ يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية "اسبرانتو Espernato" يتحدث بها الناس من مختلف الأمم والشعوب, وذلك أن هذه اللغة الصناعية، على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها1، لا تلبث بعد تداولها على   1 هذه الأمنية، وإن كانت ممكنة نظريًّا، يحول دون تحقيقها عمليًّا صعوبات جمة, سنعرض لها في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الباب الثاني. ومع ذلك لا يزال المتعصبون لفكرة الاسبرانتو كثيرين في مختلف الأمم، ولا يزالون = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الألسنة أن تخضع أصواتها ومدلولاتها وحياتها وتطورها لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية, والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان؛ فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلا بد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وتراكيبها باختلاف العصور, وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتختلف أقاسمها باختلاف فنونها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلًا قليلًا حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالًا تامًّا, وتصبح غير مفهومة إلّا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لن يمضي زمن قصير أو طويل حتى تتولد من هذا العلاج المشكلة نفسها التي حاولنا القضاء عليها: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً   = دائبين على نشر مشروعهم والدعاية له وعقد مؤتمرات دولية لدراسته وإذاعته, وقد جاء في هذا الصدد بجريدة الأهرام الصادرة في 4/ 8/ 1948 ما يلي: "افتتح يوم السب الماضي المؤتمر الثالث والثلاثون للاسبرانتو في مدينة مالمو بالسويد، وقد تولَّى رياسته الفخرية المسيو: تاجي أرلاند, رئيس الحكومة السويدية, وحضر جلساته مندوبن عن اثنتين وثلاثين دولة، ومثل جمعية الاسبرانتو المصرية فيه الأستاذ نصيف أسعد، ولهذه المناسبة تلقينا من الأستاذ سعيد صالح سكرتير الجمعية كلمةً نوَّه فيها بما يمتاز به هذا المؤتمر عن المؤتمرات الأخرى, فقال: إن المشتركين فيه يتحدثون، رغم اختلافهم في الجنسيات واللغات، بلغة واحدة هي لغة الاسبرانتو، التي ألفها الطبيب البولندي الدكتور: زامنهوف "zamenhof" في عام 1887، ثم أخذت تنتشر حتى اعترفت بمزاياها دول كثيرة, وراحت تدرسها في معاهدها التعليمية المختلفة, وتستعملها للدعاية عن نفسها واجتذاب السائحين إليها من شتّى بلاد العالم. -وبعد أن ذكر أن كثيرًا من محطات الإذاعة؛ كمحطات باريس وفارسوفيا وفينا تخصص جزءًا من برامجها بلغة الاسبرانتو, وأن البنوك والشركات التجارية الكبرى أصبحت تستخدم هذه اللغة، رجا أن تولى مصلحة الدعاية والسياحة المصرية الاسبرانتو ما تستحقه من عناية؛ إذ أن بلادنا في حاجة إلى مختلف وسائل الدعاية". وورد في جريدة المصري الصادرة في 11/ 7/ 1949 ما يأتي: "سيغادر مصر هذا الإسبوع الأستاذ تاردرس مجلي, المندوب الرئيسي لجمعية الاسبرانتو العالمية في القطر المصري لحضور مؤتمر الاسبرانتو العالمي الرابع والثلاثين الذي سيعقده في أوائل أغسطس, وسيزور أيضًا السويد والدانيمرك بدعوة من مكتب الصحافة السويدي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ، {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} 1.   1 بكسر اللام على رواية حفظ عن عاصم، أي العارفين المتأملين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5- قوانين "الفونيتيك" وقوانين "السيمنتيك": غير أن علماء اللغة لم يصلوا بعد إلى استنباط قوانين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إلّا في الشعبة الخاصة بدراسة الأصوات "الفونيتيك". أما في الشعبة الخاصة بالدلالة "السيمنتك" فكثير مما كشفوه لم يصل بعد في دقته وضبطه وعمومه إلى المستوى الذي يستحق فيه اسم "القوانين". والسبب في ذلك راجع إلى أن الظواهر الصوتية في مختلف أشكالها ترجع أهم عواملها إلى أعضاء النطق وطريقة أدائها لوظائفها, وتأثرها بالظواهر الجغرافية, وأساليب انتقالها بطريق الوراثة من الأصول إلى الفروع وما إلى ذلك. وعوامل هذه طبيعتها من الممكن تحديد آثارها وتحديد العلاقات التي توجد بينها وبين مختلف الظواهر اللغوية؛ فطبيعة الظواهر التي تدرسها هذه الشعبة تسمح باستنباط قوانين دقيقة مضبوطة. وليس الأمر كذلك في الظواهر اللغوية المتعلقة بالدلالة "موضوع السيمنتك". وذلك أن العوامل التي تؤثر في معاني الكلمات وفي قواعد اللغة وأساليبها؛ فتؤدي إلى اختلافها وتطورها ... وما إلى ذلك"، يرجع أهمها إلى ظواهر اجتماعية وتاريخية وسياسية وثقافية ... وهلم جرّا. وعوامل هذا شأنها ليس من اليسير تحديد آثار كل منها, وتحديد العلاقات التي تربطه بالظواهر اللغوية. -فلا ينبغي أن ننتظر من علم اللغة أن يصل في هذه الناحية إلى قوانين ثابتة صارمة عامة, إلّا بعد زمن طويل ومجهود كبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 6- الشعبة التي ينتمي إليها علم اللغة : تمهيد في تعريف العلم والفن, وأمثلتها, وأقسام كل منهما: ترجع أهم شعب البحوث إلى قسمين: بحوث علمية؛ وبحوث فنية. ويطلق العلم "Science" اصطلاحًا على كل بحث موضوعه دراسة طائفة معينة من الظواهر لبيان حقيقتها وعناصرها, ونشأتها وتطورها, ووظائفها والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض, والتي تربطها بغيرها, وكشف القوانين الخاضعة لها في مختلف نواحيها. ويطلق الفن "Art" اصطلاحًا على كل بحثٍ موضوعه: بيان الوسائل التي ينبغي الالتجاء إليها للوصول إلى طائفةٍ معينة من الغايات العملية؛ فالبحث في جسم الإنسان مثلًا يختلف الحكم عليه باختلاف ما يرمي إليه من أغراض, فإن كان الغرض منه شرح أعضائه وأجهزته وبيان العناصر التي تتألف منها، ومعرفة الوظائف التي تقوم بها، والوقوف على تطورها ونموها، وتوضيح العلاقات التي تربطها بعضها ببعض, والتي تربطها بغيرها، وكشف القوانين التي تخضع لها في تكونها ونشوئها وتطورها وأدائها لوظائفها ... صدق عليها أنه "علم". وإن كان الغرض منه بيان الوسائل التي ينبغي الالتجاء إليها لشفاء الجسم مثلًا مما عسى أن ينتابه من مرض واختلال، صدق عليه أنه "فن". -ومن ثَمَّ يعدون "الفيزيولوجيا" علمًا؛ لأنها تدرس جسم الإنسان من وجهة النظر الأولى، على حين أنهم يعتبرون "الطب" من طائفة الفنون؛ لأنه يدرس جسم الإنسان من وجهة النظر الثانية. وكذلك البحث في القوى العقلية: فالحكم عليه يختلف باختلاف الطريق التي يسير فيها, والغرض الذي يرمي إليه. فإذا كان موضوعه وصف هذه القوى وشرحها ببيان حقيقتها, والعناصر التي تتألف منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والوظائف التي تؤديها، والمراحل التي تجتازها في نموها، والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض, والتي تربطها بغيرها، والقوانين الخاضعة لها في مختلف نواحيها ... كان جديرًا باسم "العلم", وإن كان الغرض منه بيان الوسائل التي ينبغي الالتجاء إليها للتأثير في هذه القوى وتربيتها وتهذيبها.. صدق عليه أنه "فن", ومن ثَمَّ كانت بحوث "السيكولوجيا" -علم النفس- من طوائف العلوم، وكانت "البيداجوجيا العامة" -التربية العامة- شعبة من شعب الفنون. ومن هذا يتبين أن أهم فارق بين العلوم والفنون, أن الأولى نظرية وصفية تحليلية ترمي إلى شرح ما هو كائن، على حين أن الأخرى عملية تطبيقية يهمها بيان ما ينبغي أن يكون1. هذا وتنقسم الفنون قسمين رئيسيين: 1- فنون يقينة "Arts rationnels"، وهي ما كانت بحوثها الفنية مؤسسة على بحوث علمية ومستمدة منها، وذلك كفن الطب الحديث, فإنه مؤسس على علم "الفيزيولوجيا"، وكفنون التربية الحديثة، فإن الخطط التي ترسمها للتأثير في جسم الطفل وعقله وخلقه مؤسسة على بحوث علم النفس وعلم وظائف الأعضاء وما إليهما. 2- فنون غير يقينية "Arts irrationnels"، وهي ما كانت بحوثها   1 وبحانب هاتين الطائفتين توجد طائفة ثالثة من البحوث, ترمي إلى تكوين مثل عليا, وبيان قيم الأشياء, وما يجب أن تكون عليه حتى تتفق مع هذه المثل, وتسمى هذه الطائفة بالبحوث المعيارية أو التقويمية, وهي ليست من البحوث العلمية في شيء. ولا صحة لما ذهب إليه فونت "vundt" من أن العلوم تنقسم قسمين: وصفية موضوعها: الوصف والتحليل، ومعيارية "Normatives" موضوعها: بيان ما يجب عمله؛ لأن في تقسيمه هذا خلط بين العلوم والبحوث المعيارية؛ ولأن البحوث التي سماها علومًا معيارية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن العلوم. هذا وقد كفانا العلامة "ليفي برول "Levy Bruhl" مئونة الإطالة في الرد على هذه النظرية بما كتبه عنها في مؤلفة الجليل "الأخلاق وعلم الاجتماع الخلقي" "La Morale et La Science des Moeurs". وبحانب هذه الطوائف الثلاث من البحوث, توجد طائفة رابعة هي البحوث التاريخية الخالصة, التي ترمي إلى مجرد وصف الأشياء والحوادث على ما هي عليه, أو على ما كانت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الفنية غير مؤسسة على بحوث علمية, وذلك كفنون السحر والشعوذة والطب القديم, وما إلى ذلك من الفنون التي تعتمد فيما تقرره على العقائد, أو الأساطير والخرافات, أو على محض التجارب. أما العلوم: فتنقسم باعتبار الظواهر التي تدرسها إلى ثلاث طوائف رئيسية: 1- العلوم الرياضية: وهي العلوم التي تدرس خواص الكمِّ من حيث أنه معدود أو مقيس، كالحساب والجبر والهندسة وما إليها. 2- العلوم الطبيعية: وهي التي تدرس ظواهر الكون، سماوية كانت أم أرضية، عضوية كانت أم غير عضوية، كالفلك والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية وعلم الحيوان وعلم النبات والطبيعة والكيمياء ... وما إليها. 3- العلوم الإنسانية، وهي التي تبحث في الإنسان, أو في المجتمع الإنساني، وهي لذلك تنقسم قسمين: أحدهما: علوم فردية، وهي التي تدرس الإنسان من حيث أنه فرد؛ كالأنتربولوجيا -علم الإنسان, والفيزيولوجيا الإنسانية -علم وظائف الأعضاء الإنسانية, والسيكولوجيا -علم النفس. والآخر: علوم اجتماعية, وهي التي تدرس الإنسان من حيث أنه عضو في مجتمع، أو بعبارة أخرى: تدرس العلاقات التي تتكون بين أفراد بضمهم مجتمع. ولتعدد هذه العلاقات تعددت علوم هذه الطائفة: فمنها ما يدرس العلاقات السياسية, ويبحث في نشأة الأمم وتطورها, ونظم الحكم فيها وعلاقاتها بعضها ببعض ... إلخ، ويسمى "علم السياسة"؛ ومنها ما يدرس النظم القضائية وتطورها والأسس المبنية عليها ... وما يتصل بذلك، ويسمى "علم الحقوق"؛ ومنها ما يدرس النظم الدينية ويبحث في أصولها وتطورها وآثارها، ويسمى "علم الأديان"؛ ومنها ما يبحث في النظم الاقتصادية المتعلقة بإنتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الثروة واستبدالها وتوزيعها واستهلاكها, ويشرح حقيقتها ونشأتها وتطورها, والأسس القائمة عليها, ووظائفها, والقوانين الخاضعة لها ... ويسمى "علم الاقتصاد السياسي"؛ ومنها ما يبحث في النظم الخلقية ويسمى "علم الأخلاق" ... وهلمَّ جرَّا. وتمتاز هذه الطائفة الأخيرة، وهي طائفة العلوم الإجتماعية، عن بقية طوائف العلوم بشدة الصلة التي تربط فروعها بعضها ببعض؛ فبحوث علم الأخلاق تمت بصلة وثيقة إلى بحوث علم الأديان، وبحوث علم السياسة شديدة الارتباط ببحوث علمي الأخلاق والحقوق ... وهلم جرَّا. والسبب في هذا راجع إلى أن فروع هذه الطائفة متحدة في موضوعها الرئيسي, وهو الإنسان من حيث أنه عضو في مجتمع، وإلى أن النظم الاجتماعية التي تدرسها متداخل بعضها في بعض, ومتأثر بعضها ببعض, لدرجة تجعل تقسيمها إلى فروع ضربًا من الاصطلاح, ومجرد وسيلة لتسهيل الدراسة. وهذا ما حدا بأوجيست كونت "Auguste Comte" على أن يجمعها كلها تحت لواء علم واحد سماه علم الاجتماع أو "السوسيولوجيا" "Sociologie". وعلى العكس من ذلك العلوم الطبيعية، فإن موضوعات كل فرعٍ منها متميزة تمام التمييز عن موضوعات ما عداه؛ فموضوعات الجيولوجيا مثلًا لا يمكن أن تلتبس بموضوعات علم الفلك؛ إذ أن الأول يدرس طبقات الأرض, على حين أن الثاني يبحث في أفلاك السماء. الشعبة التي تنتمي إليها بحوث علم اللغة: فإذا عرفت هذا ورجعت إلى ما قلناه في الفقرات السابقة عن بحوث علم اللغة وموضوعاتها وأغراضها وقوانينها، ظهر لك أن هذه البحوث من طائفة العلوم لا الفنون, وأنها من فصيلة العلوم الاجتماعية, أما أنها من طائفة العلوم؛ فذلك لأنها ترمي من وراء دراستها للظواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 اللغوية إلى أغراض وصفية تحليلية ترجع إلى الوقوف على حقيقتها والعناصر التي تتألف منها، والوظائف التي تؤديها، والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض, والتي تربطها بما عداها، وأساليب تطورها، والقوانين التي تخضع لها في مختلف نواحيها، وبالجملة تدرس الظواهر اللغوية لشرح ما هو كائن لا لبيان ما ينبغي أن يكون. وقد تقدَّم أن كل بحث هذا شأنه يسمى علمًا. وأما أنها من فصيلة العلوم الاجتماعية، فذلك لأن موضوع العلوم الاجتماعية، كما تقدم، هو دراسة العلاقات التي تتكون بين أفراد يضمهم مجتمع. ومن الواضح أن الظواهر اللغوية التي تدرسها بحوث علم اللغة ليست إلّا شعبةً من شعب هذه العلاقات؛ فالنظم التي يسير عليها أفراد أمة ما في تفاهمهم والتعبير عما يجول بخواطرهم, لا تختلف في هذه الناحية عن النظم الاقتصادية التي يسيرون عليها في مبادلاتهم، والنظم الدينية التي يتبعونها في عباداتهم وعقائدهم وفهمهم لما وراء الطبيعة، والنظم الخلقية التي يأخذون بها في تمييزهم بين الخير والشر, والفضيلة والرذيلة، والنظم العائلية التي يخضعون لها في الزواج والطلاق والتوريث, وتحديد درجة القرابة، والنظم السياسية التي يحتذونها فيما يتعلق بشكل الحكومة ونظام الحكم, وتوزيع السلطات, وحقوق كل سلطة وواجباتها، والنظم القضائية التي يطبقونها في الجرائم والعقوبات والمسئولية والعقود والالتزامات. فكما أن كلًّا من النظم الاقتصادية والدينية والخلقية والعائلية والسياسية والقضائية تنظم ناحية من العلاقات الاجتماعية، كذلك النظم اللغوية تنظم ناحيةً هامةً من هذه العلاقات, وهي الناحية المتصلة بالتفاهم بين الأفراد والتعبير عما يجول بالخواطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العلمية ... 7- الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العملية: غير أنه من الممكن الانتفاع بحقائق هذا العلم من الناحية العملية، أي: الاهتداء على ضوئه إلى ما ينبغي عمله في ظواهر اللغة، شأنه في ذلك شأن غيره من العلوم؛ فكما أن بحوث الفيزيولوجيا التي تدرس وظائف الأعضاء دراسة علمية، أي: دراسة وصف وتحليل، قد أقيم على أسسها فن الطب الذي يشرح الوسائل التي ينبغي الالتجاء إليها للوصول إلى طائفة معينة من الغايات العملية المتصلة بجسم الإنسان؛ وكما أن بحوث السيكولوجيا -علم النفس- التي تدرس القوى النفسية لمجرد وصفها وتحليلها, وكشف القوانين الخاضعة لها، قد أقيم على أسسها فن "البيداجوجيا" الذي يشرح الوسائل التي ينبغي اتخاذها لتربية قوى الطفل النفسية وتعليتها وتهذيبها, وإعدادها إعدادًا صالحًا للحياة المستقبلية؛ كذلك من الممكن أن يقام على القواعد التي يكشفها علم اللغة بحوث فنية ترشدنا إلى ما ينبغي عمله في مختلف الشئون اللغوية، فترشدنا مثلًا إلى خير الوسائل التي ينبغي اتخاذها في تعليم اللغات الحية وغيرها، وفي وضع كتب القواعد والأدب وطرق تدريسها، وفي إصلاح قواعد الإملاء والشكل والترقيم، وفي تدوين معجمات اللغة وضبط مفرداتها وتحديد دلالاتها، وفي النهوض باللغة, ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن أو تحريف، وفي تهذيب مصطلحاتها, وتوسيع نطاقها, وترقية لهجاتها العامية, وإدخال مفردات جديدة على مفرداتها، وفي إحلال لغة أخرى محلها، وفي إنشاء لغة عالمية يتحدث بها جميع أفراد النوع الإنساني ... وما إلى ذلك من الشئون اللغوية التي تستأثر الآن بقسط كبير من نشاط الباحثين والمصلحين, والتي من أجلها تنشأ المجامع اللغوية و"الأكاديميات", وينظم عدد كبير من المؤتمرات المحلية والدولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وفي الحق أن كثيرًا من المصلحين والمفكرين قد أخذوا الآن يولون وجوههم في حلِّ هذه المشاكل شطر علم اللغة, ويستمدون منه المعونة, ويقيمون إصلاحاتهم على الأسس التي تقررها قوانينه وتطمئن إليها قواعده، بعد أن كانوا من قبل أن يصدرون عن آراء فردية فقيرة, وتسيرهم آمال ورغبات لا سند لها من العلم الصحيح. ومن ثَمَّ اضطروا إلى تغيير كثير من الخطط الفاسدة التي كانوا يسيرون عليها من قبل، وأخذوا ينصرفون عن كثير من المشروعات التي شغلتهم زمنًا غير قصير، بعد أن تبين لهم من قوانين علم اللغة استحالة تنفيذها، كمشروع إنشاء لغة عالمية1. فإذا هذبت هذه البحوث الفنية, وربطت في مختلف نواحيها ببحوث علم اللغة، ونسقت موضوعاتها، ونظمت مسائلها، وجمعت نتائجها، وفصلت عما عداها من البحوث، ودونت في مؤلفات مستقلة، لا تلبث أن يتكون منها فن يقينيّ شبيه بالفنون التي تكونت على أسس الفيزيولوجيا والسيكولوجيا؛ كالطب والتربية العامة وما إليهما. ويظهر للمتأمل في هذه البحوث أنها سائرة إلى هذه الغاية بخطًى حثيثة، وأن اليوم الذي يتم فيه تكوين هذا الفن على الوجه الذي وصفناه ليس ببعيد.   1 انظر ما ذكرناه في هذا الصدد بصفحتي 21، 22، وما سنذكره بشأنه كذلك في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الباب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 8- علاقة علم اللغة بما عداه من البحوث : تقدَّم أن علم اللغة من العلوم الاجتماعية، وأن طائفة العلوم الاجتماعية تمتاز عن بقية طوائف العلوم بشدة الصلة التي تربط فروعها بعضها ببعض1. فعلم اللغة متصل إذن اتصالًا وثيقًا ببقية أفراد فصيلته, ونعني بها: العلوم الاجتماعية, وذلك أن للظواهر الاجتماعية   1 انظر آخر صفحة 26 وصفحتي 28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بمختلف أنواعها آثارًا بليغة في مختلف شئون اللغة، فنشأة اللغة، وانقسامها إلى فصائل، وحياتها وانتشارها، وما يطرأ عليها من قوة وضعف, وسعة وضيق, وعظمة وضعة، وصراعها مع غيرها, وانتصارها أو هزيمتها, واحتلالها مناطق كانت تابعة لغيرها, أو تخليها لغيرها عن جميع مناطقها أو عن بعضها، وتعدد مظاهرها تبعًا لتعدد فنونها، وانقسامها إلى لهجات, وتفرع لغات عامية منها، والتطورات التي تحدث في أصواتها, ومدلولاتها وأساليبها وقواعدها ... كل أولئك وما إليه لا يمكن فهمه والوقوف على أصوله وأسبابه إلّا في ضوء الظواهر الاجتماعية الأخرى من سياسية ودينية واقتصادية ... وهلم جرَّا. فلا غرابة إذن أن تكون الصلة وثيقةً بين العلم الذي يدرس الظواهر اللغوية -علم اللغة- والعلوم التي تدرس الظواهر الاجتماعية الأخرى؛ كعلوم السياسة والأديان والاقتصاد والتاريخ ... وما إلى ذلك. وليس علم اللغة مرتبطًا بالعلوم الاجتماعية فحسب، بل أن بحوثه متصلة كذلك ببحوث علم النفس؛ فكثير من المسائل التي يعرض لها يتوقف شرحها وفهمها وبيان أصولها وأسبابها على الرجوع إلى ما ترتبط بها من الظواهر النفسية, وإلى ما يقوله علم النفس في صددها. فتكوين المتكلم لعباراته وفق أفكاره، وإدراك السامع الحديث وفهمه له، وصوغ العبارات وتدوينها كتابةً، وفهم القارئ لنقوش الكتابة، وكسب الطفل للغته، وأداء اللغة لوظائفها الدلالية والإيحائية والتأثيرية، وانحطاط لغة في عصر ما, أو عند بعض الشعوب الناطقة بها, وارتقاؤها في عصر آخر, أو عند شعوب أخرى، وتعدد فروع اللغة تبعًا لتعدد نواحي التفكير، وتطور اللغة في مدلولات كلماتها وأساليبها ... كل هذه الظواهر وما إليها تعتمد اعتمادًا جوهريًّا على ظواهر عقلية؛ كالإدراك الحسيّ, والتفكير, وإدراك المعاني الكلية, والحكم والاستدلال, وخيال الحركة, والخيال النظري, والحافظة, والذاكرة, وتداعي المعاني, والحالات الوجدانية, والانتباه, والعادة, ومظاهر النزوع والإرادة, والأمزجة, ووراثة الصفات النفسية.. وهلم جرَّا. ومن الواضح أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 هذه الظواهر هي موضوع علم النفس، ولا يمكن فهمها وتحديد صلتها باللغة وأثرها فيها إلّا بالرجوع إليه. ويتصل علم اللغة كذلك بالبحوث التاريخية والجغرافية؛ فكثير من الظواهر اللغوية التي يعرض لها ترجع عواملها وأصولها إلى ظواهر جغرافية وتاريخية؛ فانتشار اللغة وصراعها مع غيرها, وانتصارها أو هزيمتها, واحتلالها مناطق كانت تابعة لغيرها, أو تخليها لغيرها عن جميع مناطق نفوذها أو عن بعضها، وانقسامها إلى لهجات وتفرع لغات عامية منها, وانتشار الدخيل بين ألفاظها، واستعارتها كلمات من غيرها، وتأثرها بقواعد غيرها من اللغات أو بأساليبها، وما يطرأ عليها في أثناء حياتها من قوة وضعف, وسعة وضيق، والتطورات التي تحدث في أصواتها ومدلولاتها وأساليبها ... كل ذلك وما إليه ترجع طائفة من أسبابه إلى ظواهر تاريخية وجغرافية: كالغزو، وتغلب أمة على أخرى، والهجرة، واندماج أمم بعضها في بعض، واتصال أمة بما عداها، واعتناقها دينًا غير دينها الأصليّ, وكالموقع الجغرافي للبلد، وحالة الجو، وطبيعة الأرض، وما تشتمل عليه من تضاريس وجبال وفجوات وخلجان، والحدود الطبيعية التي تفصل أجزاء الأمة الواحدة, أو تفصل المناطق الناطقة بلغة واحدة بعضها عن بعض.. وهلمَّ جرَّا. ويتصل علم اللغة كذلك بعلوم الطبيعة ووظائف الأعضاء والتشريح والبيولوجيا والأنتروبولوجيا؛ فهو يستعين ببحوث علم الطبيعة في تحليل الصوت, والوقوف على خواصه وقوته ومدته وموجاته وذبذبته وانتشاره وما يتصل بذلك, ويستعين بالتشريح والفيزيولوجيا الإنسانية -وظائف أعضاء الإنسان- في الوقوف على مخارج الحروف, وتحليل أعضاء النطق والسمع، والوقوف على وظائفها، وكيفية قيامها بهذه الوظائف، واختلافها باختلاف الأفراد، واختلافها في الفرد الواحد باختلاف سنه، واختلافها باختلاف الأمم، واختلافها في الأمة الواحدة باختلاف عصورها، وبيان أثر هذه الظواهر جميعها, وما إليها في اللغة نشأتها وتطورها. ويستعين بالبيولوجيا -علم الحياة- والأنتروبولوجيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 -علم الإنسان- في الوقوف على نشأة الفصيلة الإنسانية، ونشأة مراكز اللغة عند الإنسان, ونشأة أجهزة السمع والنطق، والتطورات التي اجتازتها الفصيلة الإنسانية فيما يتعلق بالتكوين الجسمي, وعلى الأخص تكوين أعضاء السمع والنطق، وفي الوقوف على قوانين الوراثة, وانتقال الصفات الجسمية من الأصول إلى الفروع، وبيان أثر هذه الظواهر كلها, وما إليها في اللغة الإنسانية نشأتها وانتشارها وتطورها1. وحماديّ القول: إن علم اللغة يتصل بكل طوائف العلوم؛ غير أن صلته بأفراد فصيلته، ونعني بها: العلوم الاجتماعية، أشد من صلته بالطوائف الأخرى, على أن ما يصدق على علم اللغة بهذا الصدد، يصدق على ما عداه من العلوم؛ فالمعارف الإنسانية كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا. هذا، وتشتد حاجة علم اللة إلى الطبيعة والفييولوجيا والتشريح واالأنتروبولوجيا في بحوثه الخاصة بالأصوات -شعبة الفونيتيك2، على حين أن حاجته إلى الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا تشتد في بحوثه المتعلقة بالدلالة -شعبة السيمنتيك3, والمتعلقة بحياة اللغة4.. وما إلى ذلك.   1 لم يفكر علماء اللغة في الاستعانة بعلوم الطبيعة والفيزيولوجيا والتشريح والبيولوجيا والأنتروبولوجيا إلّا منذ عهد قريب. 2 انظر موضوع هذه الشعبة بصفحة 7, رقم 3. 3 انظر موضوع هذه الشعبة بصفحة 7, رقم 4, والصفحات التالية لها. 4 انظر موضوع هذه البحوث في صفحة 7, رقم2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 9- مناهج البحث في علم اللغة : يراد بمناهج البحث الطرق التي يسير عليها العلماء في علاج المسائل, والتي يصلون بفضلها إلى ما يرمون إليه من أغراض, وقد تقدم لك أن العلوم تتفق جميعها في اتجاهاتها الأساسية وفي وجهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 نظرها إلى الظواهر التي تعالجها, وفي الأغراض العامة التي ترمي إليها من وراء دراستها, وقد كان لزامًا، وهي متفقة في هذه الأمور، أن تتحد فيها بعض مناهج البحث, ولذلك كان من بين مناهج البحث بعض طرق تستخدم في مختلف فروع العلوم, ويطلقون على هذه الطرق اسم "الطرق العامة", أو "مناهج البحث المشتركة". ولكن لكل فرع منها موضوعات معينة, وأغراضًا يمتاز بها عما عداه من الفروع, وقد نجم عن هذا أن استخدم كل علم منها في دراسته -زيادة على الطرق العامة التي سبق ذكرها- طرقًا خاصةً به تتفق مع طبيعة موضوعاته, وتدعو إليها مميزات ظواهره, وما يرمى إليه من أغراض خاصة به. ولكل شعبة من شعب العلم الواحد مسائل متميزة تختلف في بعض خواصها ومظاهرها عن مسائل الشعب الأخرى, ولذلك نرى أن العلم الواحد قد يستخدم في دراسته لموضوع من موضوعاته طرقًا لا يستخدمها، ولا ينبغي استخدامها، في موضوع آخر من العلم نفسه. وعلى هذا السَّنَنِ سار علم اللغة في دراساته: فاستخدم طرقًا عامة يشترك فيها مع غيره من البحوث العلمية، واستخدم كذلك طرقًا خاصة به تقتضيها طبيعة الظواهر التي يعرض لدراستها ولا تتلاءم مع غيرها، وامتازت كل شعبة من شعبه عما عداها ببعض طرق دراسية تواتي طبيعة مسائلها, وتحقق أغراضها من أقرب سبيل. وسنعرض بإيجاز فيما يلي لأهم هذه الطرق, معلقين على كلٍّ منها بما يوضح نوعها ونواحي استخدامها, ويبين منشأها وما بها من محاسن وعيوب. الطريقة الأولى: طريقة الملاحظة المباشرة: أي: التي لا يلتجأ فيها إلى التجارب, ولا تستخدم فيها الأجهزة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بل يقتصر فيها على ملاحظة الظواهر اللغوية في حالاتها العادية، ولا يستعين فيها الباحث بغير حواسه وقواه العقلية. وفي هذه الطريقة يشترك علم اللغة مع عدد كبير من العلوم الأخرى, وبخاصة العلوم الطبيعية, وهي أقدم طريقة استخدمها الباحثون في علم اللغة، ولا تزال إلى الآن من أهم طرقهم، وإليها يرجع الفضل في معظم ما وصلوا إليه. فعلى ضوء الملاظة استطاعوا أن يقسموا الظواهر اللغوية إلى أقسام متميزة, ويرجعوها إلى طوائف محددة, ويردوا الفروع إلى أصولها، فنظمت بذلك موضوعات العلم, ونسقت فروعه, وسهلت دارسته. وبفضل هذه الطريقة كذلك كشف العلماء عن كثير من الحقائق المتصلة بنشأة اللغة وحياتها وتطورها ووظائفها, والعلاقات التي تربط ظواهرها بعضها ببعض, والتي تربطها بما عداها, والقوانين الخاضعة لها في مختلف نواحيها. وتنقسم الملاحظة أقسامًا كثيرة باعتبارات مختلفة: فتنقسم باعبتار نوع الظواهر اللغوية التي تعالجها إلى قسمين: ملاحظة صوتية Phonetique, وهي ملاحظة الظواهر اللغوية المتعلقة بالصوت، وملاحظة دلالية semantique, وهي ملاحظة الظواهر اللغوية المتعلقة بالدلالة. وتنقسم باعتبار نوع اللغات التي يتناولها البحث إلى قسمين: ملاحظة اللغات الحية، وملاحظة اللغات الميتة، أما ملاحظة اللغات الحية فسبيلها واضحة، وأما ملاحظة اللغات الميتة فتتحقق بالرجوع إلى ما وصل إلينا عنها في المؤلفات والوثائق والآثار ... وما إلى ذلك, وملاحظة اللغات الميتة كبيرة الأهمية في الدراسات اللغوية على العموم, وفي دراسة نشأة اللغات وتطورها على الخصوص؛ فلو اقتصر علماء اللغة على ملاحظة اللغات الحية لما وصلوا إلى شيء يعتدّ به بصدد التطور اللغوي، ولتعرضت بحوثهم وآراؤهم بهذا الصدد للزلل والاضطراب، وما كان يتاح لعلمهم في هذا الأمد القصير أن يصل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ما وصل إليه من حقائق وقوانين تنتظم جميع الظواهر اللغوية, وذلك أن ارتقاء اللغات وتطورها لا تظهر آثارهما جليّةً واضحةً إلا بملاحظة مرحلة طويلة من مراحل التاريخ الإنساني، وهذا لا يتاح إلّا بدراسة اللغات الميتة من بطون الكتب والآثار. وقد بدأ علم اللغة بداءةً حسنة بهذا الصدد، فقد وجَّه الباحثون فيه منذ نشأته عناية كبيرة إلى دراسة اللغات الميتة القديمة، بل إن عناية القدامى منهم بملاحظة اللهجات الحية واللغات الحاضرة لم تكن شيئًا مذكورًا بجانب عنايتهم بدراسة ما دثر من اللغات1. وتنقسم الملاحظة كذلك باعتبار تعلقها بشخص الملاحِظ -بكسر الحياء- أو بغيره إلى قسمين: أحدهما: الملاحظة الذاتية Subjective, وهي أن يلاحظ الباحث ما يصدر عنه هو من ظواهر لغوية, ويدون ملاحظاته ويحللها؛ ليصل على ضوئها إلى تحقيق ما يرمي إليه، أو أن يكلف شخصًا آخر أن يلاحظ ما يصدر عنه -عن ذلك الشخص الآخر- من ظواهر لغوية, ويطلب إليه أن يصفها له، فيدون هذا الوصف ويحلله ويوازنه بملاحظات أخرى, ويستخدمه في علاج ما تعنيه دراسته. وثانيهما: الملاحظة الخارجية Objectif, وهي ملاحظة الباحث لما يصدر عن شخص آخر من ظواهر لغوية, بدون أن يكون لهذا الشخص الآخر أي دخل في الملاحظة, وهذا القسم الأخير ينقسم هو نفسه قسمين: ملاحظة خارجية سلبية Passive، وملاحظة خارجية إيجابية Positeve؛ فالسلبية: هي ما يترك فيها الملاحَظ -بفتح الحاء- على حالته الطبيعية، بأن يقتصر الباحث على الاستماع إليه, وهو يتحدث حديثًا عاديًّا, والإيجابية: هي ما يعمل فيها الباحث على توجيه الشخص الذي تُجْرَى عليه الملاحظة وجهةً معينة، بأن يُلْقِي عليه أسئلة خاصة في الموضوعات التي يهمه بحثها؛ ليصل على ضوء إجاباته إلى الوقوف على ما يعنيه الوقوف عليه.   1 سنتكلم عن هذا بتفصيل في أثناء كلامنا عن تاريخ البحوث اللغوية "انظر الفقرة التالية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقد أخذ علماء اللغة على طريقة الملاحظة بمختلف أنواعها مآخذ كثيرة، وتبين لهم نقصها في كثير من الشئون. فكثير من العلماء لا يثقون بالملاحظة الذاتية -ملاحظة الباحث لما يصدر عنه هو من ظواهر لغوية- ويرتابون في كل ما يصل عن طريقها من حقائق, وذلك أنهم يرون أن قوى العقل في أثناء ملاحظة الإنسان لما يصدر عنه ويقوم به من ظواهر لغوية تكون موزعة مشتتة؛ فهي تشرف على إصدار الظواهر اللغوية, وتلاحظ في الوقت نفسه ما تصدره من هذه الظواهر, وتكون النتيجة أن كلا الأمرين -الاصدار والملاحظة- يكون ناقصًا غير طبيعيّ، لعدم تفرغ القوى العقلية له, ولاشتغالها بشيء آخر في أثناء قيامها به, هذا إذا لاحظ الباحث نفسه في أثناء قيامها بالظاهرة اللغوية، فإن ملاحظته في هذه الحالة تكون منصبَّةً على ما تستعيده ذاكرته من عناصر الظاهرة التي فرغ منها. وملاحظة كهذه لا يوثق بها؛ لأنه من المتعذر أن يتذكر الإنسان كل ما أصدره أو قام به تذكرًا صحيحًا لا نقض فيه ولا زيادة ولا تغيير ولا تبديل. هذا إلى أن عزم الشخص على ملاحظة ما يصدر عنه من ظواهر لغوية، سواء أراد أن تجرى هذه الملاحظة في أثناء قيامه بالعمل, أو بعد فراغه منه، يحمله على توجيه قسط من انتباهه للعمل في أثناء صدوره, وتوجيه الانتباه لعمل من الأعمال العادية في أثناء صدوره يشوهه, ويجعله يصدر في صورة غير طبيعية. ألا ترى أنك لو حاولت أن تعرف مثلًا كيف تكتب أو كيف تمشي؛ لاعتراك اضطراب في أعصابك فتتشوه كتابتك وتتعثر في مشيتك؟ وكثيرًا ما يكون علماء اللغة متأثرين في أثناء ملاحظتهم لما يصدر عنهم من ظواهر لغوية ببعض مبادئ ونظريات، فمهما حاولوا الدقة في الملاحظة, فإن هذه المبادئ والنظريات تفسد عليهم أحكامهم, وتبعدها عن الحقيقة من حيث لا يشعرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وكثيرًا ما تغري الملاحظة الذاتية الباحثين بالتسرع في أحكامهم؛ فقد يكون بعض ما يصدر عنهم من ظواهر لغوية خاصًّا بهم, لا يشترك معهم فيه غيرهم من الأفراد؛ فالاقتصار على الملاحظة الذاتية في حالات كهذه يغرر بالباحثين, ويجعلهم ينظرون إلى أمور فردية نظرتهم إلى ظواهر عامة. هذا إلى أن الفرد لا يمكن أن يمثل في حياته الفردية إلّا ناحية يسيرة من ظواهر لغته, فالاقتصار على الملاحظة الذاتية يجعل دائرة البحث ضيقة كل الضيق. على أن ثَمَّ ظواهر لغوية كثيرة لا تمكن فيها مطلقًا الملاحظة الذاتية, ومن ذلك: الظواهر اللغوية في أدوار الطفولة الأولى, وذلك لأن الطفل لا يشعر بما يصدر عنه, وما يقوم به من ظواهر لغوية شعورًا دقيقًا, ولا يستطيع أن يصفه وصفًا يعتد به. وقد دلت التجارب على خطأ الملاحظة الذاتية حتى في الظواهر اللغوية الداخلية التي لا يدركها بشكل مباشر إلّا المتكلم نفسه؛ كحركات اللسان مثلًا في أثناء النطق بصوت ما, فقد ظهر للباحثين بعد أن استخدموا الأجهزة الدقيقة في دراسة هذه الطائفة من الظواهر فساد كثير من النظريات القديمة التي كان مصدرها الملاحظة الذاتية. وكثير من العلماء لا يطمئن كذلك إلى الملاحظة الخارجية في شكليها السلبي والإيجابي, أما شكلها السلبي فلبطئه وضآلة محصوله, فإذا اقتصر الباحث على ملاحظة الناس في حالاتهم العادية فقد ينقضي عمره قبل أن يتم له تحقيق مسألة لغوية واحدة, وأما شكلها الإيجابي فلأنه عرضة للزلل وخطأ التأويل. فقد لا يفهم الملاحظ -بفتح الحاء- حق الفهم ما يُلْقَى عليه من أسئلة فيجيب إجابات مضللة. هذا إلى أن شعوره بأن لغته موضوع ملاحظة يغير من اتجاهها, ويخرج بها عن حالاتها الطبيعية. ووجهت كذلك اعتراضات كثيرة إلى الملاحظة الصوتية -ملاحظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الظواهر اللغوية المتعلقة بالصوت. فقد أخذ كثير من العلماء على هذه الملاحظة أنها تعتمد على الأذن الإنسانية، وأن هذه الحاسة غير دقيقة في تمييز أنواع الصوت, وإدراك خصائصه. ويزيد من فساد إدراكاتها ثلاثة أمور: أحدها: تأثر السامع بالشكل الكتابي للكلمة، فلا يسمعها على الوجه الذي لفظت به، بل على الوجه الذي يتفق مع رسمها؛ فكثيرًا منا ينطق مثلًا بالعبارات الآتية على هذا النحو: "ضار لْعلوم", "مسألَ صعبَ جدًّا", "جر تلمصري", "صؤت جميل",ولكن يخيل لمن يسمعها إذا كان ملمًّا بالقراءة والكتابة أنه يسمعها على النحو الآتي: "دار العلوم", "مسالة صعبة جدًّا", "جريدة المصري", "صوته جميل". وذلك لتأثره في سماعها بالشكل الذي ترسم به. وثانيها: أن السامع يوجه قسطًا كبيرًا من انتباهه في أثناء السماع إلى مدلول الكلمات والعبارات, ولا يعنى كثيرًا بإدراك الأصوات, وهذا الاتجاه الذي لا يستطيع أي سامع أن يتحرر منه تمام التحرر, يجعل إدراكه السمعي عرضة للزلل, فهو بمجرد أن يدرك معنى الكلمة، وذلك يتحقق بسماع بعض حروفها، وبمجرد أن يدرك معنى الجملة، وذلك يتحقق بإدراك بعض كلماتها، ينصرف عن سماع الباقي, فلا يدركه إدراكًا سمعيًّا صحيحًا. تعمد مثلًا تحريف بعض كلمات في جملة, وناقش السامع فيما سمعه، تر أنه لم يتبين هذا التحريف, قُلْ مثلًا لزائرٍ "ازًّيْ صِحَّتَ", فإنه يسمعها "ازاي صحتك", ولا يتبين حذفك لكاف الخطاب، وقل مثلًا في أثناء التحسر على شخص: "بسكين الراجل ده"، فإن المخاطب يسمعها "مسكين", ولا يفطن لاستبدال الباء بالميم. وثالثها: أن غرابة الصوت على الأذن، أي: عدم إيلافها سماعه من قبل، يجعلها تدركه إدراكًا خاطئًا, ويظهر هذا من سماعك لكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لغة أجنبية لا تعرفها، فإنك لاتكاد تتبين الأصوات التي سمعتها, ولاتستطيع إعادتها صحيحةً لأول مرة. ولكن على الرغم من جميع هذه المآخذ، لا تزال طريقة الملاحظة المباشرة من أهم الطرق المستخدمة في علم اللغة, ومن أعمها نفعًا وأكثرها إنتاجًا, ولا يمكن لأية شعبة من شعبه الاستغناء عنها، بل إن بعض الشعب لا يواتيها في بحوثها إلّا هذه الطريقة1. غير أن هذه الاعتراضات ترشدنا إلى اتخاذ احتياطات كثيرة بهذا الصدد؛ فمن ذلك: 1- أن الاقتصار على شكل واحد من أشكال الملاحظة المباشرة يعرض الباحث للزلل وخطل الرأي, فينبغي أن تتضافر جميع أشكال هذه الطريقة, ويدعم بعضها بعضًا ليسد ما في كلٍّ منها من نقص, ويصلح ما به من فساد, وذلك بأن نجمع بين الملاحظة الذاتية والملاحظة الخارجية السلبية والملاحظة الخارجية الإيجابية، ونتخذ في كلٍّ منها من وسائل الحيطة ما يكفل بعده عن مظانِّ الخطأ والريبة التي أشرنا إليها في الاعتراضات السابقة. 2- وأنه من الخطأ الاقتصار على طريقة الملاحظة المباشرة في دراسة "الفونيتيك" -دراسة المظهر الصوتي في اللغة، بل الواجب أن تضم إليها طرق أخرى أدق منها في علاج هذه الظواهر، كطريقة الأجهزة والمقاييس التي سيأتي الكلام عنها. 3- وأن استخدام هذه الطريقة في "الفونيتيك", يتطلب من الباحث أن يكون دقيق الاحساس مرهف السمع. وذلك لا يتحقق إلّا إذا عني بتربية هذه الحاسة, وأخذها في كل شئونها بالدقة, وعودها الضبط وقوة التمييز. فقد تستطيع حينئذ أن تقوم بما يعجز عن القيام   1 فشعبة "السيمنتيك" مثلًا تعتمد في أهم بحوثها على طريقة الملاحظة المباشرة ولا يواتيها غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 به أدق الأجهزة على أنها في حالاتها العادية قد بلغت في بعض إدراكاتها درجة من الدقة لم يبلغ مثلها بعد أي جهاز صناعي؛ فهي تدرك إحساسات سمعية كثيرة في آنٍ واحد وتميز بينها، وتستطيع أن تحس فروقًا لغوية دقيقة لا يقوى على تسجيلها أحدث جهاز, فقد يبلغ الشخص في إجادة لغة أجنبية درجة لا يستطيع معها أدق الأجهزة أن يسجل فرقًا بين نطقة ونطق أبنائها، ولكنه بمجرد أن يلفظ أمام أحدهم كلمات منها يدرك السامع من فوره أن المتكلم أجنبي, ويحس ما في أصواته من غرابة ومخالفة للمألوف. والقرى المتقاربة قد تتقارب لغات أهلها لدرجةٍ لا يقوى معها أيّ جهاز على تسجيل فرق بينها، ولكن بمجرد أن ينطق أحدهم أمام آخر ببعض كلمات, يستطيع السامع أن يدرك إن كان المتكلم من أهل قريته أو غيرها. وخير طريقة تسهل عل الأذن القيام بوظائفها وتعودها الدقة في إدراكاتها، أن يأخذ نفسه بما يسمونه "الكتابة السمعية"، وذلك بأن يعنى بتدوين الكلمات عقب سماعه لها مباشرةً بالشكل الذي يتفق مع الأصوات التي لفظت بها, وبدون أن يدع لرسمها العادي أي أثر على نفسه في أثناء ذلك, ويتطلب هذا النوع من الكتابة حروف هجاء أكثر من حروف الهجاء المصطلح عليها, وذلك أنه في هجائنا العاديّ لا يوجد لكل صوت إلّا حرف واحد، مع أن هذا الصوت يختلف اختلافًا كبيرًا في شكله ونبرته وقوته ومدة النطق به ... باختلاف الكلمات والجمل, وباختلاف موقعه في الكلمة أو العبارة، ويختلف النطق به في كل حالة من هذه الحالات باختلاف الأفراد والمناطق ... وهلمّ جرَّا. وإليك مثلًا: اللام في الله: فإنها تارة ترقق "بالله مثلًا" وتارةً تفخم" والله وتالله مثلًا"، وأحيانًا لا يقف اللسان عندها, وأحيانا يتسمر صوتها مدة طويلة -إذا أراد السامع التأكيد في قسم مثلًا". ولا ينطق بها في قسم كما ينطق بها في غير القسم -فنطقك باللام في "والله" إذا كانت الواو عاطفة, ليس كنطقك بها إذا كانت واو قسم-. فينبغي في "الكتابة السمعية" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أن يكون لكلّ شكل من أشكال اللام حرف خاص يرمز إليه, وإليك مثلًا آخر حرف الجيم: فإن النطق به يختلف اختلافًا كبيرًا باختلاف المناطق والأفراد, وباختلاف الكلمات؛ ففي العالم العربيّ وحده يوجد عدد كبير من أصوات الجيم, فالجيم المنقلبة عن قاف عربية يختلف النطق بها عن الجيم الأصلية، وكلتا الجيمين يختلف النطق بها باختلاف المناطق، فلكلٍّ من سكان الصعيد وسكان الدلتا والحجازيين واليمنيين والسوريين والبنانيين والعراقيين والمغاربة؛ فينطق كل جيم منها أسلوب صوتي خاصّ, يختلف عن أسلوب من عداهم، بل إن بلاد المنطقة الواحدة لتختلف أحيانًا بهذا الصدد فيما بينها اختلافًا غير يسير؛ فينبغي في "الكتابة السمعية" أن يكون لكلِّ شكل من أشكال الجيم حرف خاص يرمز إليه, وما قلناه في اللام والجيم يصدق على ما عداهما من الحروف. الطريقة الثانية: طريقة الأجهزة في دراسة الفونيتيك "علم الأصوات" إن عدم دقة الأذن الإنسانية في تمييز أنواع الصوت وخصائصه وإدراك نبراته وقياس قوته ومدته، والعوامل الكثيرة المحيطة بها والتي تجعل مدركاتها عرضة للزلل.. كل أولئك قد حمل علماء الفونيتيك -دراسة أصوات اللغة- على البحث عن وسيلة أخرى تبرأ من كل هذه العيوب، فاهتدوا إلى طريقة الأجهزة, وهي آلات تدار بطرق خاصة فلا تغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بالصوت إلّا أحصتها وسجلتها بشكل تقاس باليد وتحسها العين، وتغني الباحث عن استخدام أذنه, وتقيه شر أخطائها، وتجعل بحوثه مبنية على أسس متينة صادقة لا يتطرق إليها الشك ولا يأتيها الباطل. وترجع الحقائق التي ترشدنا إليها هذه الأجهزة إلى طائفتين مختلفتين: أحدهما تتعلق بطبيعة الأصوات، والأخرى تتعلق بمخارجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فبألتامل فيما تسجله هذه الأجهزة من العلامات الممثلة لنبرات الصوت وقوته ومدته, وما إلى ذلك نستطيع أن نقف على طبيعته، وبالتأمل فيما ينطبع فيها بصدد الأعضاء التي تلفظه, نستطيع أن نقف على مخارجه. ومن ثَمَّ انقسمت طرقهم بهذا الصدد إلى طريقتين, لكلٍّ طريقة منهما أجهزة خاصة: أحداهما يسمونها طريقة "التدوين المباشر" Inscription diricti, وهي التي نقف بفضلها على مخارج الحروف، والأخرى يسمونها "طريقة العلامات" Methode Graphique, وهي التي نقف بفضلها على طبيعة الصوت. أما طريقة "التدوين المباشر" فترمي إلى الوقوف على الأعضاء التي تشترك في لفظ صوت ما, وانتقالات كل عضو منها في أثناء لفظه، عن طريق أجهزة تترك فيها هذه الأعضاء وهذه الانتقالات أثرًا مباشرًا, وهذه الأجهزة كثيرة متنوعة؛ فمنها: "السقف الصناعي" وهو آلة على شكل سقف الحلق, يغطى ظاهرها بطبقة من الحكك أو ما شاكله, وتركب في الفم بحيث يكون باطنها ملصقًا بسقف الحلق، ويطلب إلى الشخص النطق بحرف من الحروف التي يشترك في لفظها اللسان وسقف الحلق, فعندما يتصل لسانه بسقف حلقه يترك في المادة الجيرية أثرًا. ومن هذا الأثر وموضعه من الجهاز يتبين للباحث، في صورة واضحة، المكان الذي يلتقي فيه اللسان بسقف الحلق في أثناء النطق بهذا الحرف. وأما طريقة العلامات فهي أهم كثيرًا من الطريقة الأولى وأعظم منها فائدة, وأكبر أثرًا في تقدم هذا العلم، وهي ترمي إلى الوقوف على طبيعة الصوت, أي: على خواصه ومميزاته؛ من حيث نبرته وقوته ومدته ... وما إلى ذلك، عن طريق أجهزة تحس هذه الخواص وتسجلها بعلامات وخطوط دقيقة الدلالة بهذا الصدد. وذلك أنه بالتأمل في هذه الخطوط وقياسها, والنظر في اتجاهاتها, نستطيع أن نقف بطريقة مضبوطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 على مختلف الخواص المميزة للصوت الذي نختبره, وعلى مبلغ كل خاصة منها ودرجتها, وكل جهاز من هذه الأجهزة يشتمل على ثلاثة أجزاء: 1- الكاشف Explorateur، ويوضع على العضو الذي يراد دراسة حركته في أثناء النطق للوقوف على خاصة من خواص الصوت, ويختلف شكل الكاشف وتركيبه باختلاف الأعضاء التي يوضع عليها, وهو موضوع بطريقة تجعله يحسُّ إحساسًا دقيقًا كل ما يقوم به العضو من حركة مهما كانت ضئيلة. 2- المدون Inscripteur, وهو على شكل قلم متصل بالكاشف، يتحرك حركات معينة تبعًا لحركات العضو التي يحسها الكاشف، ويخطّ في أثناء تحركه خطوطًا تمثل، في اتجاهاتها وأطوالها وأشكالها، حركات العضو. 3- المسجل Enregistreur, وهي أسطوانة تدور حول محورها, يخط عليها المدون الخطوط السابق ذكرها، والغرض من دورانها أن تقع الخطوط منفصلة بعضها عن بعض. ولكل جهاز من هذا النوع نظام خاص في سيره وتركيبه وحلّ رموزه، ويستخدم عدد كبير من هذه الأجهزة في وقت واحد في أثناء النطق، فيوضع جهاز على الرئة, وآخر على القلب, وثالث على القصبة الهوائية, ورابع على الحنجرة, وخامس على الأنف, وسادس على الفم ... وهلمَّ جرَّا. فعلى ضوء الخطوط التي تظهر في سجلات هذه الأجهزة نستطيع -بعد قياسها وحلّ رموزها- أن نقف على مختلف خواص الصوت الذي نجري عليه الاختبار, وأن نصفه وصفًا دقيقًا لا لبس فيه ولا إبهام. هذا، وقد شاع تسمية البحوث القائمة على طريقة الأجهزة باسم "الفونيتيك التجريبي" Phonetique Experimentale, أي: دراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الصوت دراسة تجريبية، ولكن هذه التسمية غير صحيحة؛ لأننا لسنا بصدد تجارب أي تغيير الظروف العادية المحيطة بالظاهرة أو بالشخص الملاحظ، بل بصدد ملاحظة في ظروف طبيعية عادية، ولكن عن طريق أجهزة ومسجلات آلية لا عن طريق الأذن والحواس الإنسانية, حقًّا أن الباحث قد يلجأ أحيانًا إلى التجربة, أي: إلى تغيير الظروف المحيطة بالظاهرة أو بالشخص الملاحَظِ، ولكن هذا لم يحدث إلّا في حالات نادرة, لم نحصل منها على نتائج ذات بالٍ, ومهما يكن من شيءٍ, فلم تكن التجارب هي الغرض الأساسيّ الذي دعا إلى اختراع الأجهزة, وليست هي الغرض الأساسيّ الذي يدعو إلى استخدامها، وإنما أهم ما قصد من اختراعها وما يقصد من استعماله هو: ملاحظة الظواهر عن طريق آلة دقيقة، لا عن طريق الأذن التي كثيرًا ما تضلل الباحثين. وقد مهَّد لهذا الأسلوب من البحوث العلامة ماري Marey باستخدامه أجهزة من هذا القبيل في "الفيزيولوجيا" -علم وظائف الأعضاء. ولكن أول من استخدمه في الظواهر اللغوية هو العلامة روسلو Rousselot، وكان ذلك عام 1890, وهو الذي أطلق على البحوث القائمة على هذه الطريقة اسم "الفونيتيك التجريبي", أي: "علم الصوت التجريبي", ويلتمس له العذر في إطلاق هذا الاسم الخاطئ؛ ففي عصره كانت تطلق كلمة "التجريبي" على كل ما تستعمل فيه الأجهزة, ولو لم يكن للتجارب حظّ فيه. الطريقة الثالثة: الطريقة التجريبية: تقوم هذه الطريقة -كما أشير إلى ذلك فيما سبق- على تغيير الظروف العادية المحيطة بظاهرة لغوية ما, أو المحيطة بالشخص الذي تجرى عليه الملاحظة، بحيث يمكننا الوقوف من طريق سهل مختصر مأمون العواقب، على ما يتعذر الوقوف عليه في الظروف العادية, أو على ما يقتضينا الوقوف عليه في الظروف العادية إسرافًا في الوقت والمجهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وعلى هذه الطريقة تعتمد طائفة كبرة من العلوم الطبيعية؛ كالطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي, وما إلى ذلك, فأهم ما كشفه الباحثون في هذه العلوم يرجع الفضل فيه إلى الطريقة التجريبية, ولو أنهم اقتصروا على ملاحظة الظواهر في حالاتها العادية لما وصلوا إلى عشر معشار ما وصلوا إليه؛ فعالم الطبيعة مثلًا لا يكتفي فيما يتعلق بالجذب والكهربائية والمغناطيسية والضغط الجوي ... وما إلى ذلك, بملاحظة ظواهرها في حالاتها العادية، ولا ينتظر حتى تحدث الظاهرة التي يريد دراستها، بل يخلقها خلقًا في معمله, ويغير من الظروف المحيطة بها, ويختبر النتائج التي تنجم عن تجاربه، وعلى ضوء هذا كله يصل إلى كشف القوانين الخاضعة لها في مختلف أحوالها وأوضاعها. أما العلوم الإنسانية، فلم تنتشر فيها هذه الطريقة انتشارًا كبيرًا, ولم يتجاوز استخدامها فيها دائرة ضيقة, وذلك أن معظم الظواهر التي تدرسها العلوم الإنسانية لا تواتيها طريقة التجارب, فليس في طاقة الباحث أن يخلق مثلًا نظامًا من النظم الاجتماعية, ويحوّر فيه وفي الظروف المحيطة به, وينظر إلى النتائج التي تنجم عن كل حالة من حالاته, كما يفعل هذا حيال ظاهرة جذب, أو حيال نبات, أو حيوان. ولكن هذا لم يُثْنِ الباحثين في العلوم الإنسانية عن الانتفاع بهذه الطريقة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. فاستخدمت أولًا في علم النفس، وشاع استخدامها فيه حتى أصبحت الآن معظم الظواهر النفسية، من حفظ وذكر وانتباه وتداعي معان ... وما إلى ذلك، تدرس على النحو التجريبي الذي تدرس به الظواهر الطبيعية, ثم أخذ استخدامها منذ عهد قريب ينتشر في العلوم الاجتماعية, وخاصة علم اللغة. وقد صادفت ميدانًا فسيحًا في شعبة "الفونيتيك", فلم يكتف الباحثون في هذه الشعبة بملاحظة الظواهر اللغوية في ظروفها العادية، بل لجئوا في مواطن كثيرة إلى التجارب، أي: إلى خلق الظواهر وإثارتها وتغيير أوضاعها والظروف المحيطة بها, والأشخاص الذين تجرى عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الملاحظة, ووصلوا بفضل هذه الطريقة -على الرغم من قرب العهد بها- إلى كثير من النتائج بصدد العلاقة بين اللفظ والسمع، وأخطاء الأذن، والفرق بين الأصوات الغنائية والأصوات الكلامية، واختلاف النطق بالحروف باختلاف الأمم والمناطق وباختلاف السن، وتعلم اللغات الأجنبية، وكسب الطفل للغته، وتعليم الصم الكلام ... وهلمّ جرَّا. وينتظر أن يتسع نطاق هذه الطريقة في المستقبل, وأن يصل الباحثون على ضوئها إلى حلّ كثيرٍ من المشكلات الصوتية التي لا تزال قائمة إلى الآن. وقد يصحب التجربة في هذه الشعبة استخدام الأجهزة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ولكن هذا ليس ضروريًّا؛ فالطريقة التجريبية تتحقق في كل حالة يحاول فيها الباحث تكوين ظاهرة لغوية أو إثارتها, ولو لم يستخدم في ذلك أيّ جهاز صناعي، كأن يطلب إلى الشخص الذي تُجْرَى عليه الملاحظة أن ينطق بكلمة ما، أو يغيّر من أوضاع حروفها, ويطلب إليه النطق بها, أو ينطق بها أمامه, ويطلب إليه تكرار ما سمعه.. وهلم جرا. واستخدمت هذه الطريقة كذلك في الظواهر اللغوية المتعلقة بالدلالة "السيمنتيك"، ووصل بفضلها العلماء إلى نتائج ذات بالٍ, وبخاصة في دراسة اللهجات واللغات العامية "الدياليكتولوجي", فلم يكتف الباحثون في هذه الناحية بملاحظة الأشخاص وهم يتحدثون في حالاتهم العادية، بل لجئوا كذلك إلى التجارب, أي: إثارة الظواهر اللغوية وتوجييها في النواحي التي تتيح لهم الوقوف على حقيقة أو استنباط قانون. ومن الواضح أن تجارب هذه الشعبة لا مجال فيها لاستخدام الأجهزة, فمادة التجارب فيها لا تتجاوز الأسئلة والأجوبة، ووسائل إصدار الظواهر وتسجيلها وملاحظتها لا تتجاوز أعضاء الجسم والقوى العقلية, وذلك بأن يطلب الباحث مثلًا إلى الشخص الذي تُجْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 عليه الملاحظة أن يعبِّرَ عن معنًى, أو يصف مظهرًا, أو يذكر له كلمة, ويطلب إليه ذكر مترادفاتها, أو يريه شيئًا ويطلب إليه بيان اسمه, أو أسمائه في لغته، أو يعمل عملًا ويطلب إليه التعبير عما يدل عليه, أو ينطق أمامه بجملة صحيحة, ويطلب إليه تفسيرها بلغته العامية، أو بجملة خاطئة, ويطلب إليه أن يرشده إلى ما فيها من نقص بصدد الدلالة ... وهلمَّ جرَّا. هذا، ولم يتح للطريقة التجريبية من ظروف النجاح والانتشار في علم اللغة ما أتيح لغيرها, فهي لا تزال تسير فيه بخطًى بطيئة، بل لا يزال بعض علمائه ينظرون إليها بعين الريبة, ولا يثقون كل الثقة بما تصل إليه من نتائج, وذلك أنهم يرون أن تغيير الظروف العادية المحيطة بظاهرة لغوية قد يخرج بها عن طبيعتها, ويصورها في غير صورتها الحقيقية، فيتعرض الباحث للخطأ في الحكم؛ إذ يلتبس عليه الطبيعي بالمتصنع. ورأيهم هذا على ما فيه من مبالة في الشك، يرشدنا إلى ما يحف بهذ الطريقة من أخطار, والي وجوب استخدامها بقصد وحرص واتخاذ أقصى مايمكن اتخاذه من وسائل الحيطة لاتقاء الزلل واللبس؛ وللتمييز بين الطبيعي والمتصنع من أعمال الأفراد الذين تُجْرَى عليهم التجارب. الطريقة الرابعة: طريقة قياس الغابر على الحاضر ترشدنا الملاحظة إلى كثير من التطورات التي اعترت اللغات القديمة في مختلف مظاهرها؛ فقد اختلفت كل واحدة منها في أصواتها ودلالتها وقواعدها وأساليبها باختلاف عصورها, وباختلاف الأمم الناطقة بها, ومن الواضح أن عالم اللغة لا يقنع بتسجيل هذه التطورات ووصفها وصف المؤرخ الأمين، بل يبحث كذلك عن أسبابها, ويعمل على كشف العوامل التي أدت إليها. ولما كان من الصعب الاهتداء بشكل مباشر إلى هذه الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والعوامل, لتعلقها بظواهر قد تقادم عليها العهد، استخدم العلماء للوصول إليها طرقًا غير مباشرة, ومن هذه الطرق "طريقة قياس الغابر على الحاضر". فللوقوف على أسباب مظهر من مظاهر التطور في لغة قديمة يبحثون عن تطور مشابه له في اللغات الحديثة, ويردسون أسبابه -وأسباب التطورات الحديثة لا يحتاج كشفها إلى كبير عناء لوضوح أثرها وقرب العد بها، ثم ينظرون إلى أيّ مدى يمكن أن تكون أسباب التطور القديم مشبهة لهذه الأسباب. واستخدام هذه الطريقة في تطورات الدلالة "السيمنتيك" محفوف بالأخطار وعرضة للزلل, وذلك أن العوامل التي تؤدي إلى تطور اللغة في معاني كلماتها وقواعدها وأساليبها.. قلما تتحد في عصرين أو في لغتين؛ لأن معظمها يرجع إلى ظواهر اجتماعية وتاريخية وسياسية وجغرافية وثقافية.. وهلم جرا.. ومن الواضح أن هذه الطائفة من العوالم لا يمكن أن تتكرر بشكل واحد, ولا أن تتحد نتائجها في عصرين ولا في أمتين, فمن المجازفة إذن أن نعزو تطورًا دلاليًّا حدث في لغة قديمةٍ إلى عوامل مماثلة للعوامل التي أحدثت تطورًا يشبهه في لغة حديثة. أما فيما يتعلق بالناحية الصوتية من اللغة "الفونيتيك", فلا ضير من استخدام هذه الطريقة، وذلك أن التطورات الصوتية يرجع معظمها إلى أمور تتعلق بأعضاء النطق، وطريقة أدائها لوظائفها، وتأثرها بالظواهر الجغرافية، وأساليب انتقالها بطريق الوراثة من الأصل إلى الفروع, وما إلى ذلك. وعوامل هذه طبيعتها قلما تختلف آثارها باختلاف العصور والأمم, فعلى ضوء العوامل التي أدت إلى تطور صوتي في لغة حديثة، نستطيع أن نصل إلى كشف العوالم التي أدت إلى تطور مشبه له في لغة قديمة. الطريقة الخامسة: طريقة الوازنة Methode Comparative: تقوم هذه الطريقة على الموازنة بين الظواهر اللغوية في طائفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 من اللغات لاستنباط خواصها المشتركة، وللوقوف على وجوه الاتفاق والخلاف في عواملها ونتائجها، وللوصول من وراء هذا كله إلى كشف القوانين العامة الخاضعة لها في مختلف مظاهرها. ومع أهمية هذه الطريقة في دراسة علم اللغة، ومع أن العلماء قد وصلوا بفضلها إلى معظم ما وصلوا إليه من حقائقه، فإنها كثيرًا ما تكون عرضة للزلل والانحراف عن جادة الصواب, غير أن معظم الأخطاء بهذا الصدد لا يرجع في الحقيقة إلى الطريقة ذاتها، وإنما يرجع إلى سوء اسخدامها، وخاصة إلى نقص الاستقراء والتسرع في صوغ القوانين العامة؛ فقد يلاحظ الباحث مثلًا بصدد ظاهرة لغوية أنها قد حدثت في طائفة من اللغات على أثر بعض أمور، فيتعجل بوضع قانون عام يقرر فيه أن هذه الظاهرة نتيجة لازمة لهذ الأمور وحدها، مع أن الواقع قد يكون غير ذلك, فقد لا يكون بين هذه الظاهرة وتلك الأمور علاقة سبب بمسبب، وقد يظهر له إذا اتسع نطاق استقرائه أن الأمر بينهما لا يعدو مصاحبة اتفق حدوثها في بعض اللغات، وأن هذه الأمور قد حدثت في لغات أخرى بدون أن تحدث هذه الظاهرة، أو أن الظاهرة قد حدثت أحيانًا بدون أن تسبقها هذه الأمور, وقد يبدو له مثلًا تشابه في بعض الكلمات في لغتين؛ فيتسرع في الحكم عليهما بأنهما من فصيلة واحدة، مع أن الواقع قد يكون غير ذلك، فقد يكون سبب الاتفاق أن أحداهما قد اقتبست هذه الكلمات اقتباسًا من الأخرى, مع انتمائهما إلى فصيلتين مختلفتين، كما اقتبست السريانية عددًا كبيرًا من الكلمات الإغريقية، مع أن السريانية من فصيلة اللغات السامية, والإغريقية من فصلة اللغات الهندية -الأوربية، وكما اقتبست الفارسية الحديثة كلمات كثيرة من العربية، مع أن أولاهما من اللغات الآرية, وثانيتهما من اللغات السامية، وكما اقتبست التركية قسمًا كبيرًا من متن لغتها من العربية والفارسية، مع أنها من فصيلة غير فصيلتي العربية والفارسية، وهي الفصيلة التترية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الطريقة السادسة: الطريقة الاستنباطية Methode dlnductiln تستخدم هذه الطريقة للوقوف على علل الظواهر ونتائجها اللازمة, ولكشف علاقة السببية بين ظاهرتين أو أكثر. وقد قسَّمها ستورت ميل أربع طرق؛ سماها طرق الاستنباط، ووضع لكل منها ضابطًا أو قانونًا خاصًّا بها، وهي: طريقة التلامز في الوقوع: Methode de concordance, وهي التي يحكم بمقتضاها على ظاهرةٍ بأنها علةٌ لظاهرة أخرى إذا ثبت بالمشاهدة أنه كلما وقعت الأولى وقعت الثانية. وطريقة التلازم في التخلف: Methode de differecce, وهي التي يحكم بمقتضاها على ظاهرة بأنها علة لظاهرة أخرى إذا ثبت بالملاحظة أنه إذا لم تقع أحداهما لم تقع الأخرى. وطريقة التلازم في التغير: Methode des Vatriations Concomittavtes, وهي التي يحكم بمقتضاها على ظاهرة بأنها علةٌ لظاهرة أخرى, إذا ثبت بالملاحظة أنه كلما حصل تغير في إحداهما صحبه تغير في الأخرى بنفس النسبة والقدر. وطريقة البواقي: Methode des Residus, وهي التي يحكم بمقتضاها على حادثة من مجموعة حوادث بأنها علة لناحية من ظاهرة ما, إذا ثبت علميًّا التلازم بين مجموعة الحوادث وجميع نواحي الظاهرة, وثبت كذلك أن ما عدا هذه الحادية من المجموعة علةٌ لما عدا هذه الناحية من الظاهرة. ولا يدخل في نطاق بحثنا شرح هذه الطرق ومناقشتها وبيان مدى صحة كل منها، فهذا كله موضعه كتب المنطق, والذي يهمنا تقريره هو أنه على الرغم من شيوع استخدام هذه الطرق في العلوم الطبيعية للوقوف على علل الظواهر ونتائجها اللازمة, ولكشف العلاقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 التي تربط بين ظاهرتين أو أكثر، فإن علماء اللغة لم يستخدموها لهذه الأغراض إلّا في حالات قليلة, وذلك أنه قد تبين لهم أن الطرق الثلاثة الأخيرة ليست مطردة في الظواهر اللغوية1, فاقتصروا على استخدام الطريقة الأولى وهي: "طريقة التلازم في الوقوع". فعند محاولتهم الوقوف -عن طريق الاستنباط- على العلاقة بين ظاهرتين لغويتين، أو ظاهرة لغوية من جهة وظاهرة اجتماعية أو نفسية أو فيزيولوجية ... من جهة أخرى، لا ينظرون إلّا إلى مبلغ التلازم في وقوعهما، فيستقرئون الحالات التي تبدو فيها كلتا الظاهرتين، فإذا تبين لهم أنه في كل حالة تبدو فيها إحداهما تظهر الأخرى, حكموا على اللاحقة منهما بأنها نتيجة للسابقة.   1 يرجع هذا إلى أسباب كثيرة لا يتسع المقام لتفصيلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 10- تاريخ البحوث اللغوية : عرضنا في الفقرات السابقة لعلم اللغة في وضعه الأخير، وسنتكلم بإيجاز في هذه الفقرة عن المراحل التي اجتازتها البحوث اللغوية حتى وصلت إلى هذا الوضع، مقسمين موضوعنا قسمين: أحدهما: خاص بتاريخ هذه البحوث في الغرب، وثانيهما: خاصٌّ بتاريخها في اللغة العربية. تاريخ البحوث اللغوية في الغرب: ظلت البحوث اللغوية عند أمم أوروبا، حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي محصورة في دائرة ضيقة لا تعدو كثيرًا مسائل علوم البنية والتنظيم والأسلوب -المورفولوجيا والسنتيكس والستيليستيك- في أشكالها التعليمية1.   1 انظر صفحات 8-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فلم يكن معظم العلماء ليعرضوا لغير هذه البحوث الثلاثة إلّا استطرادًا, وفي صورة ناقصة, وبطريقة تبعد كثيرًا عن مناهج البحث العلمي؛ فمن ذلك: بعض نظرات في أصوات اللغة -الفونيتيك- وردت في مؤلف لكورديموا Cordemoy ظهر في سنة 1668، وبعض ملاحظات وتجارب على الصوت, قامت بها المدارس المنشأة في القرن الثامن لتعليم الصم البكم، وبعض آراء لسانت أوجيستان Saint Augustin بصدد تطور اللغة، وبعض آراء في أصول الكلمات الفرنسية والإيطالية والأسبانية -ايتيمولوجيا-1 لكلود فوشيه Claud Fauchetوبيريون Joachen Perion وهنري إتيان Henre Estienne وميناج Menage -الذي ألف سنة 1650 معجمًا في أصول الكلمات الفرنسية, أودان Oudinوابنه، وبعض بحوث لغوية عامة خاصة قامت بها "الأكاديميات", "المجامع اللغوية" التي أنشئت في صدر العصور الحديثة؛ كالأكاديمية الفرنسية, والأكاديمية الأسبانية, وأكاديمية فلورنسا -أكاديمية كروسكا Crusca, وغيرها, وقام بها مؤلفو المعجمات الكبيرة ودوائر المعارف في هذا العصر. وثَمَّ مظهر آخر لضيق البحوث اللغوية في هذه المرحلة، وذلك أنها كانت مقصورة على اللغتين الإغريقية واللاتينية, وبعض اللغات الأوربية الفصحى, فلم يكن للهجات الشعبية ولا لغير اللغات الأوربية في هذه المرحلة الطويلة حظ يعتد به من الدراسة2. وفي أواخر القرن الثامن عشر حدث بهذا الصدد نهضة كبيرة يرجع معظم الفضل فيها إلى كشف اللغة السنسكريتية Sanscrit وحل رموزها, فقد أزاح هذا الكشف الستار عما بين اللغات الهندية والإيرانية من   1 انظرمعنى هذه الكلمة بصفحة 11 رقم 5. 2 بل إن هذه اللهجات كانت محاربة, ومعدودة من مصادر الخطر على الأدب, وقد بلغ العداء لهذه اللغات مبلغًا كبيرًا في فرنسا، حتى لقد عهدت الجمعية الوطنية Convention Nationale التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية إلى الأب جريجوار -أحد أعضائها- عام 1794 أن يقدم تقريرًا عما ينبغي اتخاذه للقضاء على اللهجات الشعبية الفرنسية, وتعميم اللغة الفصحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 جهة, واللغات الإغريقية واللاتينية والجرمانية من جهة أخرى؛ من تشابه وصلات قرابة وروابط وثيقة, ومهد السبيل لإنشاء علوم القواعد التاريخية والمقارنة1، ووسَّع بذلك نطاق الدراسات اللغوية. وكان من أشهر من افتتح هذه السبيل العلامة الألماني شليجيل Schlegel, فقد نبَّه أذهان العلماء إلى صلات التشابه الكثيرة التي تربط اللغات الأوربية والهندية الآرية بعضها ببعض؛ تلك اللغات التي رجعها العلماء من بعده إلى فصيلة واحدة سموها: "الفصيلة الهندية _ الأوربية" كما سيأتي بيان ذلك2. ومن ذلك الحين أخذ العلماء يدرسون هذه الفصيلة دراسة علمية عميقة, ويكشفون عما بين أفرادها من تشابه في أصول الكلمات, وفي قواعد الصرف والاشتقاق والتنظيم، فبلغوا بعلم "القواعد المقارن" شأوًا راقيًا. وكان من أنبه أفراد هذه الحلية ذكرًا وأجلهم أثرًا في هذه النهضة عالمان ألمانيان هما: بوب3 Franz Bopp, وجريم4 Jacques Louis Crimm. وقد مهدت بحوث "علم القواعد المقارن" السبيل إلى بحوث "علم القواعد التاريخي"؛ فانتقل العلماء من الموازنة بين اللغات الهندية الأوربية إلى الموازنة بين مظاهر كل لغة منها في مراحلها المختلفة، ومن البحث في تفرع هذه اللغات بعضها من بعض, وتفرعها عن أصل واحد, إلى البحث في الطريقة التي تسلكها كل لغة منها على حدتها في تطورها وارتقائها من جميع نواحيها, وبخاصة من ناحية قواعدها, وكان مِن أشهر مَن افتتح هذا السبيل جاك لويس جريم   1 انظر صفحات 8، 9، 10. 2 انظر الفصل الثاني من الباب الثاني. 3 ولد بماينس Mayence عام 1791، وتوفي عام 1867, ومن أشهر مؤلفاته كتاب "القواعد المقارنة الهندية - الأوربية". 4 هو أول من كتب في الفيلوجيا الجرمانية, ولد عام 1785, وتوفي عام 1863. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 السابق ذكره, ودييز1 Friedrich, وبراشيه2 Auguste Brachet, وقد استمدت هذه الدراسات اللغوية بعض موادها من بحوث في آداب اللغات الأوربية بالعصور الوسطى, قام بها قبيل ذلك العصر وفي أثنائه جماعة من مؤرخي الأدب، ومن أشهرهم: بولان باريس3 Paulan Paris, وربنو آر4 Francois Reynouar. ثم انتقل البحث من هذه الدائرة المقصورة على اللغات الهندية -الأوربية إلى دائرة عامة ترمي إلى كشف القوانين التي تخضع لها كل لغة إنسانية في تطورها وارتقائها؛ من حيث أصواتها وقواعد تصريفها.. وما إلى ذلك, وق افتتح هذه الحلبة العلامة الألماني ماكس مولر5 Max Muller, وتبعه كثيرون, من أشهرهم: العلامة الإنجليزي سيس6 Archibald-Henry Sayce.   1 فردريك دييز من أشهر علماء الفيلولوجيا الألمان، ولد عام 1794, وتوفي عام 1879, ومن أشهر مؤلفاته "معجم في أصول مفردات اللغات الرومانية" و"قواعد اللغات الرومانية" و"اللغات الرومانية Langues Romanes هي اللغات المتفرعة من اللاتينية". 2 ولد بتور من أعمال فرنسا سنة 1844, وتوفي بها سنة 1898, وكان أستاذًا للفيلولوجيا بمعهد الدراسات العليا بفرنسا, ومن أشهر مؤلفاته: "بحث في القواعد التاريخية للغة الفرنسية", "معجم في أصول كلمات اللغة الفرنسية". 3 ولد عام 1800، وتوفي عام 1881، وله مؤلفات قيمة في آداب اللغة الفرنسية بالعصور الوسطى. 4 ولد عام 1761, وتوفي عام 1836، وله بحوث قيمة في آداب اللغة الفرنسية بالعصور الوسطى. 5 ولد ببلدة ديسو Dessau من أعمال المانيا عام 1823, وتوفي بأكسفورد عام 1900, وهو ابن الشاعر غليوم مولر، تخرج من جامعتي لببزج وبرلين، ثم رحل إلى باريس حيث حضر دروس الأستاد برنوف Burnouf في اللغة السنسيكريتية, ثم ذهب إلى إنجلترا واستقر بأكسفورد؛ حيث عُيِّنَ أستاذًا بجامعاتها للآدب واللغات الحديثة, ثم أستاذًا للقواعد المقارنة, ومن أشهر مؤلفاته "دروس في علم اللغة" ظهر عام 1861, و"دروس حديثة في علم اللغة" ظهر عام 1864, وكان لهذين الكتابين شأن كبير في القرن السابق, وله كذلك مؤلفات كثيرة في الأديان وتاريخها. 6 ولد ببلدة شيريهمتون SHIRIHEMPTON, بجوار مدينة بريستول Pristol عام 1846, وقد خلف ماكس مولر في تدريس القواعد المقارنة بجامعة أكسفورد, وله نظريات ومؤلفات كثيرة في هذا العلم من أشهرها: "أصول الفيلولوجيا المقارنة" و"مقدمة في علم اللغة", وقد كان كذلك من شهيري المستشرقين، وله عدة مؤلفات في كثير من اللغات السامية, وبخاصة اللغة الآشورية القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد كان لزامًا أن يصل العلماء في تعقبهم لأصول اللغات ومراحل ارتقائها إلى أقدم مرحلة للتعبير الإنساني، وأن يحاولوا الكشف عن منشأ اللغة في الفصيلة الإنسانية, وعن الأسس الأولى التي قام عليها التخاطب بالأصوات ذات الدلالات الوضعية, وقد استأثرت هذه المشكلة بقسط كبير من نشاطهم في منتصف القرن التاسع عشر، وانقسموا بصددها إلى فرق كثيرة -سيأتي الكلام عنها في الباب الأول من هذا الكتاب, ومن أشهر من عرض لهذا الموضوع: الفيكونت دوبونالد1 Viconte de Bonald وماكس مولر، وسيس، ورينان2 Renan. وفي أواخر القرن التاسع عشر, ظهر عند المشتغلين بالبحوث اللغوية اتجاهان هامَّان, كان لكل منهما أثر كبير في النهوض بهذا العلم. الاتجاه الأول: يتمثل في جعل البحوث اللغوية بحوثًا علمية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، وذلك بإخضاعها لمناهج البحث العلمي، وتوجيهها إلى الأغراض نفسها التي ترمي إليها العلوم، وجعل غايتها الأساسية الوصول إلى كشف القوانين الخاضعة لها الظواهر اللغوية 3   1 اسمه لويس جبرائيل امبرواز Loues-Gabriel-Ambroise, ولد في مدينة ميو Millauمن أعمال فرنسا عام 1754, وتوفي بها عام 1840, وله مؤلفات كثيرة في السياسة والفلسفة، وكان من أشهر المتعصبين لنظام الحكومة الملكية الخاضعة للنفوذ الديني الكاثوليكي. 2 آرنست رينان Ernest Renan, من أشهر المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللغة الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ولد ببلدة تريجييه Treguier عام 1823, وتوفي بباريس عام 1890, درس اللاهوت واللغات الشرقية والعلوم, ومختلف فروع الفلسفة والآداب، وتولى تدريس اللاهوت واللغة العبرية والتاريخ والفلسفة في كثير من المعاهد, وعُيِّنَ عضوًا بالأكاديمية الفرنسية, ومديرًا للكوليج دوفرانس College de France, وله نحو خمسين مؤلفًا كبيرًا في التاريخ العام, وتاريخ الديانات, وفي اللغات والأخلاق والفلسفة واللاهوت والسياسة وغيرها, وقد كان لمؤلفاته أكبر أثر في الثقافة الفرنسية في القرن التاسع عشر, ومن أشهر كتبه في المؤلفات: "تاريخ اللغات السامية" و"نشأة اللغة". 3 انظر صفحات 17-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وتخليصها من جميع المسائل الفلسفية التي لا يتفق منهج البحث فيها مع ما ينبغي أن تكون عليه مناهج البحث فثي العلوم, والتي لا يمكن الوصول فيها إلّا إلى فروض وآراء ظنية لا تسمو إلى درجة اليقين, ولا يطمئن إلى مثلها التحقيق العلمي. وقد كان لهذا الاتجاه آثار جليلة في مختلف فروع هذا العلم؛ فبفضله وضحت حدود كل فرع منها ومناهجه، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، واجتذب إليه عددًا كبيرًا من أعلام الباحثين، فكثر الإنتاج ورقي نوعه, وكان من آثاره كذلك أن انصرف العلماء عن البحث في موضوع نشأة اللغة, وتركوا دراسته للفلاسفة والميتافيزيقيين -الباحثين فيما وراء الطبيعة1. ويرجع الفض في توكيد هذا الاتجاه إلى مدرسة ألمانية الأصل, أطلق على أفرادها اسم: "المحدثين من علماء القواعد" Neo-Grammairiens, فقد ذهبت هذه المدرسة إلى جبرية الظواهر اللغوية، فقررت أن هذه الظواهر لا تسير وفقًا لإرادة الأفراد, أو تبعًا للأهواء والمصادفات، وإنما تسير وفقًا لقوانين لا يستطيع الفرد إلى تعويقها أو تغييرها سبيلًا، ولا تقل في ثباتها وصرامتها واطرادها وعدم قابليتها للتخلف عن النواميس الخاضعة لها ظواهر الفلك والطبيعة2، وأن واجب الباحث في هذه الظواهر ينبغي أن ينحصر في تحليلها لكشف القوانين الخاضعة لها, ومن أشهر أفراد هذه الدراسة: ليسكين Leskien, وبروجمان Brugmann, وأستوف Ostof, وهرمان بول Hermann Paul, ودلبروك Belbruck. وقد لقي مذهبهم هذا في مبدأ أمره مقاومة كبيرة من طوائف كثيرة, وبخاصة من ثلاث طوائف:   1 انظر صفحة 6. 2 انظر توضيح ذلك بصفحات 20-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إحداها: "المدرسة الإيطالية" التي كان العلامة أسكولي Ascoli من أبرز أعضائها, فقد ذهبت هذه المدرسة في تعليل كثير من الظواهر اللغوية مذهبًا يختلف عن آراء المحدثين من علماء القواعد، ولا يتفق في بعض مظاهره مع القول بجبرية الظواهر اللغوية. وثانيتها: "المدرسة الإنجليزية" التي كان الأستاذان سيس Sayce وسويت Sweet الإنجليزيان, والعلامة جيسبرسن Jespersen الدانيمركي من أظهر ممثليها, فقد أنكرت هذه المدرسة جبرية الظواهر اللغوية, وذهبت إلى أن جميع هذه الظواهر بما في ذلك التطورات الصوتية نفسها, ترجع أهم أسبابها إلى أمور يقوم بها الأفراد, وتنتشر عن طريق التقليد1, ولعل هذه المدرسة قد تأثرت فيما ذهبت إليه بنظرية العلامة الفرنسي جبرائيل تارد Tarde, الذي يذهب إلى أن جميع الظواهر الاجتماعية فردية المنشأة وتصبح اجتماعية عن طريق التقليد2. وثالثتها: طائفة يمثلها العلامة الفرنسي بريال Breal, فقد سلمت هذ الطائفة، مع شيء من التحفظ، بمذهب الجبرية فيما يتعلق بظواهر الصوت "موضوع الفونيتيك"، ولكنها خالفت هذا المذهب فيما يتعلق بظواهر الدلالة "موضوع السيمنتيك"، فذهبت إلى أن كل التغيرات التي تحدث في مدلولات اللغة عبارة عن إصلاحات مقصودة أو شبه مقصودة, تعتمد على جهود يقوم به الناطقون بهذه اللغة, وتسير بها دائمًا إلى حيث الكمال، وأن من أهم هذه الجهود   1 انظر كتاب الأستاد سيس Sayce "أصول الفيلولوجيا المقارنة" Principles of Comparative philology, وكتابي سويت Sweet "تاريخ أصوات اللغة الإنجليزية History of English Sounds و"الدراسة العملية للغة" The Practical Study of Languge, وكتابي جيسبرسن Jespersen: "تطور اللغة" The Progress of Language و"الغة طبيعتها وتطورها ومنشئوها". Language Its nature devlopment and origen. 2 انظر كتابه "قوانين التقليد" Lois de l lmitation. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ما يبذله الأدباء والكُتَّاب في كل عصر للنهوض باللغة1. والاتجاه الثاني: يتمثل في التخصص في دراسة فرع واحد أو بعض مسائل من فرع من بحوث اللغة, ولذلك انصرف المحدثون من علماء اللغة عما كان يحاوله القدامى من معالجة جميع المسائل، وآثر كلٌّ منهم التفرع لناحية من البحوث اللغوية, وكان لهذا الاتجاه فضل كبير في النهوض بمختلف شعب هذا العلم. ومن بين هذه الشعب, خمس شعب اتسع نطاق البحث فيها اتساعًا كبيرًا في هذا العصر، وتخصص في دراستها كثير من العلماء, واستأثرت بقسطٍ وافر من نشاطهم، فوصلت إلى شأو عظيم في النضج والكمال بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا في المراحل السابقة، وهي: الفونيتيك" Phonetique, أو دراسة اللهجات العامية3، و"السيكولوجيا اللغوية" Psychologie Linguistique, أو علم النفس اللغوي، وهو دراسة العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر النفسية بمختلف أنواعها, وبيان أثر كل منها في الآخر4، "والسيمنتيك" Semantique, أو دراسة اللغة من ناحية الدلالة5، و"السوسيولوجيا اللغوية" Sociologie Linguistique, أو علم الاجتماع اللغوي، وهو دراسة العلاقة بين اللغة والظواهر الاجتماعية, وبيان أثر المجتمع ونظمه وتاريخه وتركيبه وبنيته ... في مختلف الظواهر اللغوية6.   1 انظر كتاب الأستاذ بريال "بحث في السيمنتيك", وبريال هو أول من سَمَّى هذه الشعبة باسم: "السيمنتيك", وسننقد هذه النظريات جميعها في مواطنها. 2 انظر صفحات 7 رقم3، 23 رقم 5, آخر 38-42, وسنقف فصلًا خاصًّا على دراسة هذه الشعبة "الفصل الخامس من الباب الثاني". 3 انظر صفحات 7 رقم 2، وآخر 47, وأول 48, وسنعرض لهذا الموضوع بتفصيل في الفصل الخاص بتفرع اللغة "الفصل الأول من الباب الثاني". 4 انظر ص13 رقم7، 14، 31. 5 انظر آخر 7-11، 23، 47. 6 انظر صفحات 12 رقم 6، 13، 26، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 1- أما شعبة "الفونيتيك", فيرجع الفضل في النهوض بها إلى طائفة كبيرة من العلماء في أواخر القرن التاسع عشر, وأوائل القرن العشرين, وخاصة مدرسة "المحدثين من علماء القواعد Neo-Grammairiens, التي سبقت الإشارة إليها1. فقد وجد أعضاء هذه المدرسة في مسائل "الفونيتيك"، ما يؤيد مذهبهم في "جبرية الظواهر اللغوية2"، فخصّوا هذه الشعبة بعنايتهم, ووجهوا نحوها قسطًا كبيرًا من جهودهم، فبلغوا بها شأوًا راقيًا, وكشفوا عن الأسباب الصحيحة التي يرجع إليها تطور الأصوات اللغوية, ومن أشهر المبرزين في هذه الحلبة من أعضاء هذه المدرسة وغيرهم: ليسكين Leskien, وبروجمان Brugmann, وأستوف Ostoff, وهرمان -بول Hermann-Paul. وأربعتهم من أقدم الأعضاء الألمان لمدرسة "المحدثين من علماء القواعد", وإلى رابعهم يرجع النصيب الأكبر من الفضل في توجيه الأنظار إلى أثر التغيرات الجسمية الخاصة بأعضاء النطق في تطور اللغة من ناحيتها الصوتية, وقد مهَّد بذلك السبيل إلى علم الفونيتيك التجريبي, الذي أشرنا إليه فيما سبق3. وحاستون باريس Caston Paris, وهو أول فرنسي فكَّر في إنشاء معمل للتجارب المتعلقة بدراسة الأصوات, وقد أنشأه بالكوليج دو فرانس College de France, وإلى جهوده العظيمة في دراسة تطور الأصوات في اللغات الرومانية -وهي اللغات المتفرعة من اللاتينية- يرجع أكبر قسط من الفضل في النهوض بهذه الشعبة, وفي تأييد نظرية "المحدثين من علماء القواعد". وبول باسي Paul Passy, الذي تُعَدُّ بحوثه في التطورات الصوتية وعواملها من أجل ما ألف في هذه الشعبة4.   1 انظر صفحات 57 وتوابعها. 2 انظر صفحات 20-23، 57، 58. 3 انظر صفحات 42-45. 4 من أشهر مؤلفاته في ذلك بحث في "دراسة التطورات الصوتية في اللغة" Etudes sur les changements Phonetiques, وقد ظهر هذا الكتاب عام 1890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وروسلو Rousselot، وهو أول من استخدم الآلات في دراسة الصوت، وأنشأ بذلك الشعبة الشهيرة التي سماها: "الفونيتيك التجريبي"1, ويرجع الفضل في توجيه روسلو هذا الاتجاه الجديد إلى الأساتذة ماري Marey, وهرمان بول Hermann Paul, وجاستون باريس Gaston Paris, كما سبقت الإشارة إلى ذلك2. 2- وأما الدياليكتولوجيا، أو دراسة اللهجات الشعبية واللغات العامية، فقد كان مهملًا كل الإهمال قبل أواخر القرن التاسع عشر لأسباب كثيرة؛ منها أن العلماء كانوا يحاربون اللغات العامية, ويرون فيها مصدر خطر على الأدب, كما سبقت الإشارة إلى ذلك3، ومنها أنهم وجدوا في اللغات الفصيحة وفي اللغات القديمة مجالًا واسعًا للبحث استأثر بكل نشاطهم، ومنها أن دراسة اللغات الشعبية والعامية كانت تتطلب الأسفار والرحلات والاختلاط بسكان الريف، وعلماء اللغة في ذلك العصر كانوا يؤثرون الدراسة الهادئة في المكاتب والتنقيب في بطون المؤلفات. ولم تبد العناية بهذه الشعبة إلّا منذ عهد قريب، ولكنها خطَّت في هذا الأمد الوجيز خطوات واسعة حتى كادت تلحق الفروع الأخرى بل سبقت بعضها, ويرجع الفضل في النهوض بها إلى طائفة من أعلام الباحثين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ من أشهرهم: "جاستون باريس": الذي سبقت الإشارة إليه بين المبرزين من علماء الفونيتيك, وهو أول فرنسيّ نادى بوجوب دراسة اللهجات الشعبية واللغات العامية, وقد أنشأ بمعهد الدراسات العالية بفرنسا   1 انظر صفحات 42-45. 2 انظر صفحتي 45، 60، هذا، ومن أشهر مؤلفات روسلو كتابه في "التغييرات الصوتية في اللغة" Les Modifications Phonetiques du Langage, الذي كان له أكبر أثر في النهوض بهذه الشعبة. 3 انظر صفحة 53 والتعليق الثاني من تعليقاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 Ecole Pratique des Hautes Etudes قسمًا خاصًّا لهذه الشعبة، وإليه يرجع الفضل في تمهيد الطريق لدراسة كثير من اللغات الشعبية الفرنسية. والإيطاليان "كورنو" و"أسكولي" Cornu et Ascoli, اللذان تعد مؤلفاتهما في هذه الشعبة من أجَلِّ البحوث. والأساتذة الفرنسيون: "تورتولون" Tourtoulon, و"برنجييه" Bringuiet, و"أنطوان توماس" Antoine Tomas, و"ألبرت دوزا" Albert Dauzat, الذين كان لجهودهم المشكورة في دراسة اللغات الشعبية الأوربية، وبخاصة اللغات الرومانية -وهي المتفرقة من اللاتينية- واللهجات الفرنسية، أثر كبير في النهوض بهذه الشعبة1. وأشهر من هؤلاء جميعًا عالمان اقتسما بينهما دراسة "الدياليكتولوجيا"؛ فعني أحدهما بناحيتها الصوتية "الفونيتيكة", وهو الأب روسلو, الذي سبقت الإشارة إليه أكثر من مرة، وعني الآخر بناحيتها الدلالية "السيمنتيكية", وهو العلامة جيليرون Gillieron. ثم انتشر الاشتغال بهذه الشعبة بين جميع علماء "الفونيتيك" وجميع علماء "السيمنتيك", وذلك لما تبين لهم من أهمتيها في دراستهم, وقد أصبح الآن من المتعذر أن يدرس أيّ موضوع لغوي بدون الاستعانة بهذه الشعبة. 3- وأما علم النفس اللغوي Psychologie Lingistique, فقد تضافر على النهوض به عوامل كثيرة، من أهمها اتساع البحوث المتعلقة بكسب الطفل للغة, وارتقاء الدراسات الخاصة بأمراض اللغة "الأفازيا Aphasie".   1 من أشهر مؤلفات "أنطوان توماس": بحث في الفيلولوجيا الفرنسية Essais de philologie Francaise "وبحوث في الإيتيمولوجيا" "أصول الكلمات" الفرنسية Melanges Etymols Framcaise, ظهر أو لهما عام 1897, وثانيهما عام 1902, ومن أشهر مؤلفات العلامة "دوزا" في هذه الشعبة كتابه "اللغات العامية أو الريفية، Les Patois وكتابه "دراسات لغوية للهجات أوفيرني السفلى" في أربعة أجزاء Etudes linguistiques sur la Basse-Auvergne, أما الأستاذان "تورتولون" و"برنجييه" فقد قضيا شطرًا كبيرًا من حياتهما في دراسة بعض اللهجات الفرنسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فقد كثرت الإصابات بهذه الأمراض في أثناء الحرب العالمية الأولى بين الجنود وغيرهم، فأتاح هذا فرصًا واسعة للبحوث والتجارب في هذه السبيل, وقد ظهر للعلماء على ضوء هذه الدراسات قوة الصلة التي تربط مظاهر اللغة بمختلف المظاهر العقلية، وتبين لهم أن كل دراسة لغوية لا تقوم على دراسة القوى النفسية, وكل دراسة نفسية لا تقوم على دراسة اللغة تكون ناقصة مبتورة، قليلة الجدوى، فاسدة النتائج؛ فعكف علماء النفس وعلماء اللغة على دراسة "علم النفس اللغوي"، وجعله كل فريق منهم شعبة مستقلة من بحوث علمه، وتوفر على دراسته عدد كبير من أعلامهم؛ فبلغوا به شأوًا راقيًا في النضج والكمال, ومن أشهر من برز فيه الأساتذة: ريبو1 Ribo, وبالي2 Bally, وبولان3 Paulgan, وبوردون4 Bourdon, وبرونو5 Brunot, وجويوم6 Guillaume, وفان جينيكين7 Van Ginnken, وباولو فيتش8 Pavlovitch, وبياجيه9 piaget, وسان -بول10 Saint-Paule, وسيجلاس Segla11, والعلامة فرديك جارلاندا12 Frederic Garlanda, وأستاذي المأسوف عليه العلامة هنري دولاكروا Henri Delacroix, عميد كلية الآداب بجامعة السربون, وأستاذ علم النفس بها سابقًا؛ فقد وقف قسطًا كبيرًا من جهوده   1 انظر على الأخص الفصل الثاني من كتابه تطور المعاني الكلية Evolutin des ldees Gebnerales, وكتابه "أمراض الذاكرة" Les Maladies de la Memoire. 2 انظر على الأخص كتابيه بالفرنسية: اللغة والحياة" و"بحث في علم الأسلوب" 3 انظر على الأخص كتابه بالفرنسية: "الوطنية المزدوجة للغة".Double Fonction du Langage 4 انظر كتابه بالفرنسية: "التعبير الطبيعي عن الانفعال واتجاهات اللغة. 5 من أشهر مؤلفاته بهذا الصدرد كتابه بالفرنسية: "اللغة والتفكير". 6 انظر كتابه بالفرنسية: "التقليد عند الطفل", وعلى الأخص القسم الثاني الذي وقفه على التقليد في اللغة. 7 انظر كتابه بالفرنسية: أصول علم اللغة النفسي". 8 انظر كتابه بالفرنسية: "لغة الطفل". 9 انظر كتابه بالفرنسية: "التفكير واللغة عند الطفل". 10 انظر كتابه بالفرنسية: "الكلام النفسي". 11 انظر كتابه بالفرنسية: "أمراض اللغة". 12 انظر كتابه بالإيطالية: "فلسفة اللغة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 العلمية على هذه الشعبة, وقام فيها ببحوث قيّمة، ألقى بعضها علينا في جامعة السربون، ونشر بعضها في كثير من المجلات النفسية والفلسفية، وضمن كثيرًا منها كتابه الشهير: "اللغة والتفكير"1 Le Lengage et La Pensee. 4- وأما "السيمنتيك" أي: "دراسة اللغة من ناحية الدلالة" فقد كان لنهضة الشعب الثلاث السابقة أثر كبير في الارتقاء به من ناحيتي الطريقة والمادة, فقد تهذبت طريقته تحت تأثير "الفونيتيك"، واتسعت مادته وكثر إنتاجه بفضل دراسات "الدياليكتولوجيا" "علم اللهجات" و"علم النفس اللغوي". وذلك أن علماءه قد أعجبوا بالاتجاه العلمي الذي نحا إليه زملاؤهم علماء "الفونيتيك", والذي أشرنا إليه فيما سبق2, فأخذوا يسيرون على غرارهم, ويختطون لأنفسهم في علاج مسائل الدلالة خططًا جديدةً أدنى إلى الكمال, وأقرب إلى مناهج البحث العلمي، فأهملوا جميع الطرق التي يسيطر عليها النظر الفلسفي ولا تؤدي إلى نتائج يقينية، واستخدموا زيادة على طريق الملاحظة التي كان يقتصر عليها كثير من القدامى، طرقًا حديثة أخرى؛ كطريقة التجارب وقياس الغابر على الحاضر, والموازنة, والاستنباط3، واتخذوا في جميع هذه الطرق من وسائل الحيطة ما يكفل عصمتها من الزلل, ويبعد بها عن مظانِّ الانحراف؛ فأتيح بذلك لمناهج البحث السيمنتيكي ما أتيح لمناهج البحث الفونيتيكي من وسائل الرقي والتهذيب. وكما ارتقت طريقة الدراسة في هذه الشعبة، اتسعت مادتها وكثر إنتاجها، وكان ذلك بفضل بحوث "الدياليكتولوجيا" -دراسة اللهجات العامية, وبحوث "علم النفس اللغوي", فقد قدمت "الدياليكتولوجيا" مادة وفيرة لعلماء السيمنتيك, وكشفت لهم عن   1 انظر كذلك ما كتبه في الجزء الثاني من كتاب علم النفس. Traite de Psychologie Par Dumas et collabolateurs. 2 انظر صفحات 56-59. 3 انظر صفحات 45-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 آفاق واسعة كانت مجهولة من قبل، وحلّت لهم كثيرًا من المشكلات التي استعصى حلها عن القدامى منهم, وقد تبين لهم على ضوء "علم النفس اللغوي" أن أهم العوامل التي تتأثر بها اللغة من ناحية الدلالة ترجع إلى أمور نفسية، وأن كشف القوانين الخاضعة لها ظواهر شعبتهم يتوقف على الإلمام بمختلف العلاقات التي تربط الظواهر اللغوية بظواهر علم النفس، فاتجهوا إلى هذا العلم يستمدون منه المعونة من جهة, ويعملون على تهذيبه وتكملته وربط مسائله ببحوث شعبتهم من جهة أخرى، فأفاد من جهوهم أيَّمَا فائدة، وأصابت شعبتهم بفضله حظًّا كبيرًا من النهوض والكمال. هذا، ومن أظهر علماء السيمنتيك أثرًا في هذه النهضة: من الإنجليز: العلامة "وتنى"1 Withney، ومن الفرنسيين: "دار مستيتير" Arsene Darmesteter2 , و"بريال"3 Michel Breal, وألبير دوزا1 Albert Dauzat، ومن الإيطاليين: "كروس" Croce، ومن الألمان: فونت Wundt, وثام Thumb, ومارب Marbe. 5- وأما "علم الاجتماع اللغوي" Sociologie Linguistique, فقد تضافر على النهوض به "أعضاء المدرسة الاجتماعية الفرنسية Ecoles Sociologiques Francaise, التي أنشأها العلامة دوركايم Durkheim, في أوائل القرن الحاضر5, وطائفة من أئمة علماء   1 من أشهر مؤلفاته: "حياة اللغة" ظهر عام 1875, و"اللغة ودراستها" ظهر سنة 1867. 2 من أشهر مؤلفاته: "حياة الكلمات" La Vie die des mots 3 سبقت الإشارة إلى العلامة بريال وكتبه ومذهبه في السيمنتيك بآخر صفحة 58 وأول 59. 4 سبقت الإشارة إلى العلامة دوزا في صفحة 62 وتعليقها، ومن أشهر مؤلفاته التي عرض فيها للسيمنتيك كتاباه: "فلسفة اللغة" و"حياة اللغة". 5 من أشهر أعضاء هذه المدرسة الأساتذة: ليفي برول Levy Bruhl, وموس Mauss, وبوجليه Bougle, وفوكونيه Fauconnet, أستاذ الاجتماع بالسربون سابقًا, وهلفاكس Halbwachs, ودافي Davy, وقد كان لي شرف التلمذة على الأربعة الأول من هؤلاء بجامعة السربون وبالكوليج دوفرانس, وشرف الاشتراك مع المرحوم فوكونيه في طائفة من البحوث الاجتماعية، وبعض مؤلفاتي باللغة الفرنسية مصدَّر بمقدمة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 اللغة انضمت إلى هذه الدراسة واعتنقت مذهبها، ومن أشهرهم: الأساتذة دوسوسور De Saussure, ومييه Meillet, وفندريس Vendryes. وترمي هذه البحوث كما تقدّم1 إلى بيان العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية, وأثر المجتمع وحضارته ونظمه وتاريخه وتركيبه وبنيته في مختلف الظواهر اللغوية. وإلى هذه الشعبة تحتاج جميع الشعب الأخرى من علم اللغة, وذلك أن نشأة اللغة الإنسانية والأدوار التي اجتازتها، وحياة كل لغة, وما يطرأ عليها من غنًى وفقر، وقوة وضعف، وسعة وضيق، وانقسامها إلى فنون وإلى لهجات، وما تقوم به من صراع مع غيرها، وما ينجم عن هذا الصراع، والتطورات التي تحدث في أصواتها ومعانيها وأساليبها وقواعدها ... كل أولئك وما إليه ترجع أهم عوامله إلى ظواهر اجتماعية؛ فموضوعات البحوث التي نحن بصددها تمتزج بجميع فروع علم اللغة وتفسر ظواهرها. غير أن علماء الاجتماع الذين أشرنا إليهم, ومن نهج نهجهم, قد أخذوا على قدامى الباحثين من علماء اللغة, وعلى أعضاء مدرسة "المحدثين من علماء القواعد"2 تقصيرهم في بيان العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية، وانحرافهم أحيانًا عن جادة الصواب في هذه السبيل، وتفسيره لكثير من ظواهر اللغة، وخاصة الظواهر الصوتية تفسيرًا خاطئًا يبعد بها عن المجتمع وشئونه, فعملوا على سد هذا النقص وإصلاح هذه الأخطاء، فأنشئوا فرعًا خاصًّا سموه: "علم الاجتماع اللغوي", أو "السوسيولوجيا اللغوية" Sociologie Linguistique, توفروا فيه على كشف العلاقات التي تربط بين الظواهر اللغوية ومختلف الظواهر الاجتماعية؛ فنهضوا بالدراسات اللغوية نهضة مشكورة, وقد زادهم قوة انضمام عدد كبير من أئمة علماء اللغة إليهم   1 انظر صفحة 12 رقم 6, وصفحة 13. 2 انظر الفقرة الأخيرة من صفحة 57 وتوابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 "كفرديناند دوسوسور" Ferdivnand De Saussure, الذي وقف قسطًا كبيرًا من جهوده العلمية على هذه البحوث1, والأستاذ فندريس Vendryes, الذي نشر رسائل قيمة في هذا الفرع في كثير من المجلات العلمية, وعرج في مؤلفاته على كثير من مسائله2، والعلامة "مييه" Meillet, الذي تعد مؤلفاته من أهم مراجع علم اللغة في العصر الحاضر, ومن أوسعها نطاقًا, وأدقها بحثًا3, وقد جرت العاة أن يطلق على هذه الطائفة من اللغويين اسم: "علماء اللغة المحدثين" Neo-Linguistes. وقد أوغل بعض أفراد هذه الطائفة، كالعلامة دوسوسور، في الانتصار لنظريتهم, حتى كاد ينكر أن لغير العوامل الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة، فانبرى للرد عليهم طائفة من الباحثين في "علم النفس اللغوي", على رأسها المأسوف عليه دولاكروا4 Delacroix.   1 جمع تلاميذ العلامة دوسوسور بعد وفاته طائفة من بحوثه القيمة في كتاب سموه "دروس في علم اللغة" Cours de Linguistique Generale، طبع بلوزان عام 1916. 2 من أشهر مؤلفاته: "اللغة" Le Langage و"مقتطفات من بحوث مييه" Melange Meillet, ومن رسائله: بحث نشر بصحيفة علم النفس Journal de Psychologie, عنوانه: "اللغات وصفاتها الاجتماعية ومذهب دوسوسور". 3 العلامة مييه من تلاميذ فرديناند دوسوسور, وهو أستاذ في الكوليج دوفرانس, ومدير معهد الدراسات العليا بباريس, ورئيس "جمعية علم اللغة" بباريس, وهو من أكثر علماء اللغة مؤلفات وأوسعهم إنتاجًا, وقد كتب أكثر من عشرين مجلدًا ضخمًا في مختلف بحوث هذا العلم، منها: "علم اللغة التاريخي, وعلم اللغة العام" و"اللغات الهندية-الأوربية", و"اتاريخ اللغة اليونانية", و"الصفات العامة للغات الجرمانية", و"اللغات في أوربا الحديثة", و"لغات العالم", وهذا الكتاب كان بالاشتراك مع الأستاذ مرسل كوهين Marcel Cohen وآخرين, وقد اشترك مع العلامة دوركايم Durkheim وأعضاء المدرسة الاجتماعية الفرنسية في إصدار "التقويم الاجتماعي Annee Sociologique, الذي يعد أهم مجلة أوربية في علم الاجتماع في العصر الحاضر. وللأستاذ مييه في معظم أجزاء هذا التقويم بحوث قيمة في علم اللغة، من أهمها بحث ظهر في المجلد التاسع عام 1906، تحت عنوان: "كيف تتغير معاني الكلمات". 4 انظر الفصل الثاني من الكتاب الأول من مؤلفه "اللغة والفكر"؛ فقد وقف هذا الفصل جميعه على نقد نظرية دوسوسور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وطائفة من "علماء اللغة", على رأسها العلامة دوزا1 Dauzat، فعادت هذه المناقشات على علم اللغة بأحسن النتائج وأطيب الثمرات2. تاريخ البحوث اللغوية في الثقافة العربية: ترجع أهم البحوث اللغوية في الثقافة العربية إلى الفروع الآتية: 1- النحو والصرف: أما النحو فكان الغرض الأساسي منه في مبدأ الأمر ضبط القواعد التي يسير عليها إعراب المفردات؛ ليسهل تعلمها وتعليمها, واحتذاؤها في الحديث والكتابة، ولتعصم الناس من اللحن الذي أخذ يتفشى منذ صدر الإسلام, من جرّاء تطور اللغة واختلاط العرب بالعجم, ثم أخذ نطاق هذ العلم يتسع قليلًا قليلًا, وأخذ علماؤه يعرضون لكثير من الموضوعات المتصلة بأجزاء الجملة وترتيبها، وأثر كل جزء منها في الآخر، وعلاقة هذه الأجزاء بعضها ببعض، وطريقة ربطها، وأنواع الجمل، وعلاقة الجمل التي تتألف منها العبارة بعضها ببعض، وأقسام الكلمة، وأنواع كل قسم منها، ووظيفته في الدلالة، حتى شمل جميع البحوث التي يطلق الفرنجة على مثلها اسم "السنتكس التعليمي"، أي: "علم التنظيم التعليمي"3. وأما الصرف فموضوعه ضبط القواعد المتصلة بأوزان الكلمات العربية واشتقاقها وتصريفها, وتغير أبنيتها بتغير المعنى, وما يتصل بذلك من البحوث التي يطلق الفرنجة على مثلها اسم "المورفولوجيا التعليمية", أي: "علم البنية التعليمي4. وقد كانت العناية في المبدأ مقصورة على البحوث النحوية، وظل الأمر كذلك حتى أواخر القرن الأول الهجري, ثم أخذ العلماء يعالجون   1 انظر صفحات 182-195 من كتابه "فلسفة اللغة". 2 سنعالج هذا الموضوع من جميع وجوهه في الفصل الرابع من الباب الثاني. 3 انظر صفحة 9 رقم جـ, وصفحة 10. 4 انظر صفحة 8 رقم ب, وص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بعض مسائل الصرف استطرادًا, وفي خلال دراستهم لمسائل النحو, ثم أخذت مسائل الصرف تنفصل شيئًا فشيئًا عن مسائل النحو، وتدرس على حدة، حتى تَكَوَّنَ منها علم متميز, غير أن هذا العلم لم يستقل تمام الاستقلال عن النحو, فلا تزال طائفة كبيرة من مسائله ممتزجة بالنحو, ولم ينفك الباحثون إلى عهد قريب ينظرون إلى الشعبتين نظرتهم إلى علم واحد, ويعالجون مسائلهما في مؤلفات واحدة1. ويرجع الفضل في النهوض بهاتين الشعبتين إلى عدد كبير من أعلام الباحثين بالبصرة والكوفة وبغداد ومصر وغيرها في العصرين الأموي والعباسي، ومن أشهرهم: أبو الأسود الدؤلي -واضع النحو بإرشاد الإمام علي بن أبي طالب, وعنبسة الفيل، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وميمون الأقرن، وعبد الله ابن إسحاق الحضرمي، والأخفش الأكبر، وأبو عمرو بن العلاء, وجميع هؤلاء من قدامى الباحثين من البصريين، ولم يصل إلينا شيء يعتد به من مؤلفاتهم, وعيسى بن عمر الثقفي, وكان على رأس جماعة يرجع إليه الفضل في نقل هذا العلم إلى الكوفة، ويقال: إنه ألف في نحو البصريين أكثر من سبعين مجلدًا منها كتابا "الجامع" و"الإكمال", ولكن لم يصل إلينا شيء يعتد به من مؤلفاته, وأبو جعفر الرؤاسي, صاحب كتاب "الفيصل" في نحو الكوفيين، وأبو مسلم معاذ الهراء, وكلاهما من قدامى الباحثين من الكوفيين, والخليل بن أحمد الذي يرجع إلى جهوده القيمة, ومؤلفاته الجليلة, وعبقريته النادرة, أكبر قسط من الفضل في النهوض بهاتين الشعبتين وغيرهما من شعب البحوث اللسانية, وأعضاء مدرسة المحدثين من البصريين الذي كان على رأسهم سيبويه -أشهر أئمة النحو وصاحب "الكتاب"، الذي صار إمامًا لكل الباحثين من بعده، ثم الأخفش الأوسط -شارح "كتاب" سيبويه.   1 ولكن جرت عادة معظمهم أن يفرد لكل منهما أبوابًا على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثم أبو علي الفارسي, وأبو القاسم الزجاج, وقد كتب كلاهما كتبًا مختصرة للمتعلمين يحذو فيها حذو سيبويه، ثم المازني والسجستاني ثم المبرد, ومدرسة المحدثين من الكوفيين الذين كان على رأسهم الكسائي ثم الفراء, صاحب كتاب "الحدود"، ثم ابن السكيت وابن سلام، ثم ثعلب, وقد حدث بين هذه المدرسة ومدرسة المحدثين من البصريين خلاف في طائفة كبيرة من المسائل, وفي إعراب كثير من آي القرآن، ونشأت بينهما مساجلات طريفة, فاضت بها كتب الأخبار, وابن خالويه صاحب "كتاب ليس" و"رسالة في إعراب ثلاثين سورة من القرآن"، وابن جني "صاحب كتب "سر الصناعة" في النحو, و"شرح تصريف المازني" و"اللمع" في النحو, و"المحتسب" في إعراب الشواذ، و"علل التثنية".. وغيرها, وجماعة المتأخرين الذين جاءوا بمذهبهم في الاختصار والاستيعاب لجميع أبواب العلم، فوضعوا أهم كتب النحو والصرف, وأكملها وأدقها وأكثرها تهذيبًا وتنقيحًا، ومن أشهرهم: الزمخشري "صاحب "المفصل" في النحو, وابن الحاجب "صاحب "الكافية" و"الشافية" في النحو والصرف، وابن معطي "صاحب ألفية في النحو"، وابن مالك "صاحب كتاب "التسهيل" و"الكافية الشافية" و"الألفية" الشهيرة"، وعز الدين الزنجاني, صاحب كتاب "تصريف العزى"، والسكاكي "صاحب كتاب "مفتاح العلوم" في النحو والصرف والبلاغة والعروض، وابن هشام, صاحب كتب "القطر" و"التوضيح" و"الشذور" و"المغني" ... وغيرها, وهو أكثر المتأخرين مؤلفات وأدقهم بحثًا1. 3- علوم البلاغة، التي تشمل ثلاثة بحوث: المعاني, وموضوعه: بيان ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب العربي ليطابق مقتضى الحال   1 وقد شهد بذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته؛ إذ يقول بصدد كتابه المغني: "استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة, وتكلم عن الحروف والمفردات والجمل, وحذف ما في الصناعة من المنكر في أكثر أبوابها، وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها ... فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلوّ قدره في هذه الصناعة, ووفور بضاعته منها ... وقوة ملكته واطلاعه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وليعبر عن المراد أبلغ، والبيان, وموضوعه: شرح المناهج التي يسلكها الأسلوب العربي في استخدام التشبيه والمجاز والكناية، والبديع, وموضوعه: دراسة المحسنات المعنوية واللفظية التي يحتملها الأسلوب العربي؛ فموضوعات البحوث الثلاثة ترجع إلى ما يسميه المحدثون من علماء الفرنجة "الستيليستيك التعليمي"1 أي "علم الأسلوب التعليمي". وقد كتب المتقدمون بعض بحوث في هذه العلوم؛ فمن ذلك "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، و"إعجاز القرآن" للجاحظ، و"البديع" لابن المعتز2, وبعض آراء للمبرد في الأغراض البلاغية لتوكيد الكلام، وبعض بحوث لقدامة بن جعفر, عَقَّبَ بها على بديع ابن المعتز, وحاول فيها تكملته, ولكن أول من تصدى لاستيعاب هذه البحوث الثلاثة في مؤلف مستقل, هو أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين", ثم جاء من بعده عبد القاهر الجرجاني فميز بحوث المعاني من بحوث البيان، وردَّ مسائل كل منهما إلى قواعد مضبوطة سهلة المأخذ، فكان بذلك المنشئ الحقيقي لهذين العلمين3, ثم خلف من بعده خلف من الأعاجم كتبوا في هذه العلوم بأساليب ركيكة أساءت إلى البلاغة أكثر مما أحسنت إليها, ومن هؤلاء السكاكي الذي وقف قسمًا كبيرًا من كتابه "مفتاح العلوم" على المعاني والبيان البديع، والخطيب القزويني الذي لخص هذا القسم في كتابه "تلخيص المفتاح". 3- علوم القراءات، وموضوعها: بيان الوجوه التي قرئت بها آي الذكر الحكيم, وقد ظلت موضوعات هذه البحوث يأخذها الناس عن القراء عن طريق التلقين، حتى جاء العصر العباسي، فعكف العلماء   1 انظر صفحتي 10 رقم د, و11. 2 جمع ابن المعتز نحو سبعة عشر نوعًا من المحسنات سماها: البديع, ولم تكن جميعها في الواقع من المحسنات البديعية، بل كان من بينها بعض مسائل البيان؛ كالاستعارة والكناية. 3 كتب عبد القاهر كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة", وقد وقف معظم فصول الأول على المعاني, ومعظم فصول الثاني على البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 على تدوينها، وضبط قواعدها، ونقد أسانيدها, فقطعوا بها شوطًا كبيرًا في سبيل الكمال, وأهمية هذه البحوث من الناحية اللغوية ترجع إلى الأمرين الآتيين: أولًا: أنها توقفنا على كثير من نواحي اللهجات العربية في صدر الإسلام, وذلك أن اختلاف القراءات يرجع بعض أسبابه إلى اختلاف العرب في لهجاتها, وإلى أن الرسول -عليه السلام- كان يقرأ القرآن لكل قبيلة، بوحي من الله تعالى، بالطريقة التي تتفق مع لهجتها. ثانيًا: أن معظم المؤلفات في القراءات قد اشتملت على بحوث دقيقة قيمة في أصوات اللغة العربية وطبيعتها وصفاتها وأنواعها ومخارجها، والمد وأحكامه ومدته، والغن وضروبه، وتأثر أصوات الكلمة أو الكلمات المتجاورة بعضها ببعض, وما إلى ذلك من مسائل "الفونيتيك"1 الخاصة باللغة العربية1. 4- أدب اللغة وتاريخ الأدب والنقد الأدبي, نهضت هذه الفروع نهضة كبيرة في العصر العباسي، ولم تنفك منذ ذلك العهد إلى الآن، موضع عناية الباحثين من العرب وغيرهم، حتى أصبحت المكتبة العربية من أغنى مكتبات العالم في هذه الناحية، وأصبحت مراجع هذه الفروع من أكبر المراجع عددًا، وأوسعها نطاقًا، وأجلها قيمة3. 5- متن اللغة، وتنقسم مؤلفاته ثلاثة أقسام: أ- معجمات ترمي إلى شرح المفردات، فترتب الكلمات ترتيبًا خاصًّا ليسهِّلَ على مَن يريد الوقوف على معنى أي كلمة الرجوع إليها   1 انظر معنى هذه الكلمة بصفحة 7, رقم 3. 2 انظر تفصيل الكلام في موضوع القراءات بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة بصفحتي 122، 123. 3 لضعف العلاقة التي تربط هذه البحوث بموضوعنا لم نر كبير حاجة للكلام عن تاريخها وأشهر المؤلفين فيها كما فعلنا في الفروع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 في موطنها, وأول من عمل على تدوين معجم شامل من هذا القبيل هو الخليل بن أحمد؛ فقد وضع كتابه "العين"، ورتب كلماته حسب ترتيبها في مخارج أول حروفها, متبدئًا بأقصى الحلق -ولذلك بدأه بحرف العين الذي سمي الكتاب باسمه- ومنتهيًا بالشفتين, غير أنه يظهر أن المنون قد عاجلته قبل إتمامه، فأكمله جماعة بعد وفاته بأكثر من نصف قرن, وظهر بعد ذلك معجم "الجمهرة" لابن دريد، وقد جمع مواده من كتاب العين ومن كتب أخرى للأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، ورتَّبَ مفرداته حسب ترتيب حروف الهجاء من الهمزة إلى الياء, وألَّف الأزهريّ أبو منصور محمد بن أحمد معجمه "التهذيب", على ترتيب الخليل لكتابه العين في عشر مجلدات, وألف الصاحب بن عباد معجمه "المحيط" في سبعة مجلدات، وأحمد بن فارس "المجمل"، والجوهري "الصحاح" الذي جمع فيه أربعين ألف مادة، والفيروزابادي "القاموس المحيط", والزمخشري "أساس البلاغة"، والصغاني "تكملة الصحاح" و"العباب", ثم جمعها في كتاب واحد سماه "مجمع البحرين", وابن منظور المصري "لسان العرب" الذي ضمنه معظم ما كتب قبله في هذا الباب، والمقري "المصباح المنير"، والرازي "مختار الصحاح" الذي اختصر فيه صحاح الجوهري ... وغير ذلك كثير1. وهذا النوع من المعجمات قليل الفائدة للباحث في علم اللغة, وذلك أن مؤلفيها قد وجهوا كل عنايتهم إلى ذكر معاني الكلمات, والاستشهاد أحيانًا بالقرآن والحديث والمأثور من كلام العرب, ولكنهم أغفلوا إغفالًا تامًّا تعقب معاني كل كلمة في مراحل حياتها، وشرح تطورها في مختلف العصور، وبيان الأصول التي انحدرت منها،.. وما إلى ذلك من مسائل "الليكسيولوجيا" والإيتيمولوجيا"2   1 انظر تفصيل الكلام في هذا النوع من المعجمات بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة صفحات 282-294. 2 انظر صفحة 8, رقم أ, وصفحة 11, رقم5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 التي تشغل الآن أكبر حيز في المعجمات الإفرنجية الحديثة، وتهم كثيرًا طوائف الباحثين في علم اللغة, هذا إلى أن معظم هذه المعجمات العربية لم يتبع نظامًا معينًا في ترتيب معاني الكلمة، فخلط بين الحقيقي منها والمجازي، والقديم والحديث، كما خلط بين المعاني في مختلف لهجات العرب، فأصبح البحث فيها شاقًّا، وجاءت مضللة في مواطن كثيرة1. ب- معجمات ترمي إلى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني؛ فترتب المعاني بطريقة خاصة, وتذكر الألفاظ التي تقال للتعبير عن كل معنًى منها, فنجد أبوابها مرتبة على مثل هذا الوضع: خلق الإنسان، الحمل والولادة، الرضاع والفطام، الغذاء السيء للولد، أسنان الأولاد وتسميتها في المراحل المختلفة، شخص الإنسان وقامته وصورته، صفات الرأس، قلة الشعر, وتفرقه في الرأس ... وهلم جرَّا. وتذكر في كل باب المفردات التي تعبر عن موضوعه، مرتبة ترتيبًا خاصًّا، ومبينة مدلولاتها ومواطن استعمال كل منها. فالقسم الأول من المعجمات يحتاج إليه من يعرف اللفظ ويرغب في الوقوف على معناه، على حين أن هذ القسم يحتاج إليه من يعرف المعنى, ويرغب في الوقوف على الألفاظ الموضوعة له. ومن أشهر ما ألف من معجمات هذا القسم خمسة كتب: أولها: "كتاب الألفاظ" لابن السكيت, وهو أقدم ما ألف من هذا النوع2،   1 يستثنى من ذلك بعض معجمات قديمة حرصت نوعًا ما على التفرقة بين الحقيقة والمجاز "أساس الزمخشري مثلًا", وبعض معجمات حديثة سارت من بعض الوجوه على غرار المعجمات الأوربية في تنظيم الكلمات، وترتيب معانيها, وما إلى ذلك, ومن هذه الطائفة "محيط المحيط" لبطرس البستاني، ,"أقرب الموارد" للشرتوني، و"البستان" لعبد الله البستاني. 2 هو العلامة أبو يوسف يعقوب بن إسحق السكيت، توفي عام 243 أو 246 هـ في خلافة المتوكل, وقد راجع "كتاب الألفاظ" ونقَّحَه وشرح شواهده وكملها, وعلَّقَ عليه الخطيب التبريزي شارح ديوان الحماسة، وضمَّنَ هذا كله كتابًا سماه: "كنز الحفاظ في تهذيب الألفاظ" أي: في تهذيب "كتاب الألفاظ" لابن السكيت، وقد عثر بمكتبة ليدن على نسخة خطية من هذا الكتاب الأخير، فأشرف على طبعها بالمطبعة الكاثوليكية ببيروت جماعة من الآباء اليسوعيين, على رأسهم الأب لويس شيخو، بعد أن أضافوا إليها كثيرًا من التعليقات اللغوية الهامة, وذيلوها بشروح وإصلاحات وفوائد وفهارس كبيرة القيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وثانيها: "الألفاظ الكتابية" للهمذاني, المتوفى سنة 227هـ، وثالثها: "مبادئ اللغة" للإسكافي, المتوفى سنة 421هـ؛ ورابعها: "فقه اللغة" للثعالبي, في مجلد واحد صغير1، وخامسها: "المخصص" لابن سيده2, في سبعة عشر جزءًا، وهو أدقها دراسة، وأحسنها تنسيقًا، وأكثرها استيعابًا لمسائل البحث. وقد تناول كلا الكتابين الأخيرين، في أثناء دراسته لمسائله الأساسية، بعض بحوث من فصيلة أخرى سنعرض لها عند كلامنا عن بحوث فقه اللغة3. جـ- رسائل في طوائف خاصة من الألفاظ أو المعاني؛ ككتاب أبي حنيفة في الأنواء والنبات، وكتب يعقوب في النبات والأصوات والفرق، وكتب أبي حاتم في الأزمنة والحشرات والطير، وكتب الأصمعي في السلاح والإبل والخيل، وكتب أبي زيد في المطر واللبأ واللبن والعزائز والجرائم4، وشرح غريب الحديث للجزري، وكتاب الأضداد في اللغة للأنباري5، وكتاب نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد6. ومن هذا النوع كذلك المعجمات الفلسفية   1 هو أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي, ولد في نيسابور عام 350هـ, وتوفي عام 429هـ، وله مؤلفات كثيرة قيمة في مختلف فروع العلوم اللسانية, وفي تسمية كتابه هذا بفقه اللغة شيء كثير من التجوز، وذلك أنه ليس فيه ما يصح تسميته فقه اللغة بالمعنى الذي شرحناه في الفقرة الأولى من هذا التمهيد, إلّا نحو خمس عشرة صفحة "الباب التاسع والعشرون". أما ما عدا ذلك فمتن لغة مرتب حسب فصائل المعاني. 2 هو أبو الحسن عليّ بن إسماعيل المتوفى عام 458هـ. 3 ص76-78. 4 ذكر هذه الكتب صاحب المخصص من بين الكتب التي رجع إليها في مؤلفه -انظر الجزء الأول من المخصص صفحتي 11، 12. 5 هو محمد بن القاسم محمد بن بشار الأنباري، جمع في كتابه هذا طائفة كبيرة من الألفاظ التي يطلق كل منها على المعنى وضده, وشرحها شرحًا وافيًا مستشهدًا بما ورد بصدها في كلام العرب شعره ونثره. 6 كتاب حديث للشيخ إبراهيم اليازجي اللبناني، ضمنه طائفة من الألفاظ المترادفة في مختلف الشئون, وطبع بمطبعة المعارف عام 1904. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والعلمية وما إليها، ككشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، والتعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء ... وهلم جرا1. وهذا النوع من المعجمات كان أسبق في الظهور من النوعين السابقين؛ فقد ظهر بعض كتب منه في صدر العصر العباسي. 6- بحوث في "فقه اللغة العربية" وبعض مسائل من "علم اللغة العام"2: فمن ذلك دراسة الأصمعي للاشتقاق في اللغة العربية. ومعظم البحوث التي ضمنها ابن فارس3 كتابه "الصاحبي: في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها"، كبحثه في: نشأة اللغة العربية4، وخصائص اللسان العربي، واختلاف لغات العرب، ولغات العامة من العرب، والقياس والاشتقاق في اللغة العربية، وآثار الإسلام في اللغة العربية، وأسماء الأشخاص ومأخذها, والمترادف، وحروف الهجاء العربية، وحروف المعنى، وسنن العرب في حقائق الكلام والمجاز والنحت والاشتراك ... وهلم جرا. والبحوث التي ضمنها ابن جني5 كتابه "الخصائص": كبحثه   1 انظر أمثلة أخرى من هذا النوع من المعجمات في كتابنا "فقه اللغة", الطبعة السابعة صفحات 279-281. 2 انظر المعنى الذي نقصده من "فقه اللغة العرية", و"علم اللغة الام", بصفحتي 15، 16. 3 هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، من أشهر أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري. 4 درس ابن فارس هذا الموضوع من وجهة نظر ضيقة، فتساءل: هل اللغة العربية توقيف أم اصطلاح، وذهب إلى أنها توقيف بدليل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} , وهو بذلك يظن أن اللغة العربية نشأت مع الإنسان الأول, وجميع من عرضوا لهذا الموضوع من مؤلفي العرب لم يتجاوز بحثهم هذا النطاق الساذج ما عدا ابن جني ومن نهج نهجة كما سنذكر ذلك. 5 هو أبو الفتح عثمان بن جني, ولد عام 330, وتوفي عام 392هـ, وهو من أشهر علماء النحو واللغة وأدقهم بحثًا وأكثرهم إنتاجًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 في أصل اللغة, وهل هي إلهام أم إصلاح1، والقول في هذه اللغة أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط، والاطراد والشذوذ، ومقاييس العربية، والألفاظ والمعاني في اللغة العربية، وتعليل ظواهر اللغة, ومدى قصد العرب لهذه العلل، والقياس في كلام العرب، وتركيب اللغات، واختلاف اللهجات، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، والاشتقاق الأكبر، وتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني، وأساس الألفاظ أشباه المعاني2 ... وهلم جرا. وبعض البحوث التي عرض لها ابن سيده في مقدمة كتابه المخصص؛ كالبحث في نشأة اللغة العربية3، والتي عرض لها في الأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب؛ كالبحوث المتعلقة بالتضاد، والترادف، والاشتراك، والاشتقاق، والتعريب والمجاز، والممدود والمقصور، والتذكير والتأنيث، وإبدال الحروف بعضها من بعض ... وهلم جرا. وبعض بحوث قليلة ضمنها الثعالبي كتابه "فقه اللغة"؛ كالبحث فيما يجري مجرى الموازنة بين العربية والفارسية "أسماء فارسيتها ميتة, وعربيتها محكية مستعملة، أسماء عربية يتعذر وجود فارسية أكثرها، أسماء قائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد، أسماء تفردت بها الفرس دون العرب, فاضطرت إلى تعريبها أو تركها كما هي، ما نسبه بعض الأئمة إلى اللغة الرومية"4. والبحوث التي ضمنها أبو منصور الجواليقي5 كتابه "المعرب   1 عرض ابن جني مختلف الآراء بهذا الصدد, ومنها آراء ذهب إلى مثلها كثير من علماء الفرنجة في العصور الحديثة, وناقشتها مناقشة متزنة حكيمة تشهد بسعة اطلاعه وقوة تفكيره. 2 عرض ابن جني في الأبواب الثلاثة الأخيرة من الجزء الأول من كتابه لموضوعات هامة في فقه اللغة, وهي دلالة الحروف في لفظ ما على أصل معنوي كيفما اختلف ترتيبها، والعلاقة بين أصوات الكلمة ومعانيها. 3 انظر الجزء الأول بصفحات 3-6. 4 تشغل هذه البحوث نحو خمس عشرة صفحة فقط من الباب التاسع والعشرين, كما سبقت الإشارة إلى ذلك بالتعليق الأول بصفحة 75. 5 من علماء القرن السادس الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من الكلام الأعجمي, ودرس فيها نشأة التعريب وشروطه، وذكر معظم الألفاظ المعربة مرتبة على حسب حروف الهجاء. والبحوث القيمة التي ضمنها السيوطي1 كتابه "المزهر"، كالبحث في: نشأة اللغات، والمصنوع والفصيح، والحوشي والغرائب والشوارد والنوادر، والمستعمل والمهمل، وتداخل اللغات، وتوافق اللغات، والمعرب، والمولد, وخصائص اللغة، والاشتقاق، والمشترك والترادف، والتضاد، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والإبدال، والقلب، والنحت، وما اختلفت فيه لغة الحجاز ولغة تميم، والتصحيف، والتحريف، والأسماء والكنى والألقاب ... وهلم جرا. والبحوث التي ضمنها شهاب الدين الخفاجي2 كتابه "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل". والبحوث التي ضمنها أحمد فارس الشدياق3 كتابه "سر الليال في القلب والإبدال"، وخاصة ما ورد فيه بصدد العلاقة بين أصوات الكلمة ومعانيها، ودلالة الحروف في لفظ ما على أصل معنوي كيفما اختلف ترتيبها، ورجع الكلمات إلى أصولها ... وما إلى ذلك. والبحوث الحديثة التي قام بها طائفة من المستشرقين وغيرهم بهذا الصدد؛ كبحوث اليازجي في كتابه "اللغة والعصر" ومباحث الكرملي, والبحوث التي كتبها أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر في مجلة المجمع.   1 جلال الدين السيوطي أسمى من أن يعرف به، فهو من أشهر مؤلفي العرب في جميع العلوم، ولد عام 849هـ, وكتابه المزهر من أجَلِّ ما ألف في فقه اللغة العربية, وهو في جزءين كبيرين. 2 من علماء القرن الحادي عشر الهجري. 3 من علماء القرن الثالث عشر الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 11- موضوعات هذا الكتاب : سنعالج في كتابنا هذا موضوعين تتمثل فيهما أهم مشكلات اللغات, وتنطوي دراستهما على أهم ما تتناوله البحوث في علم اللغة، وهما: نشأة اللغة، وحياتها. وسنعقد لكلٍّ منهما بابًا على حدة. ولما كان للغة نشأتان: نشأة عند الإنسان، ونشأة عن الطفل؛ لذلك انقسم الباب الأول إلى فصلين يعالج كل منها نشأة خاصة من هاتين النشأتين. ولماكان ما يعتور اللغة في حياتها، وهو موضوع الباب الثاني، يتمثل في أمور كثيرة من أهمها: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات، ونشأة فصائل وشعب لغوية من جراء هذا التفرع، وصراع اللغة مع لغة أو لغات أخرى، وتطور اللغة العام، وتطورها من ناحية أصواتها، وتطورها من ناحية الدلالة؛ لذلك انقسم الباب الثاني إلى ستة فصول, يعالج كل فصل منها موضوعًا من هذه الموضوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الباب الأول: نشأة اللغة مدخل ... الباب الأول: نشأة اللغة للغة نشأتان: نشأة حينما أخذ الإنسان يلفظ أصواتًا مركبةً ذات مقاطع وكلمات متميزة للتعبير عما يجول بخاطره من معانٍ, وما يحسه من مدركات، ونشأةً حينما يشرع الطفل يقلد أبويه والمحيطين به فيما يلفظونه من مفردات وعبارات، فتنتقل إليه لغتهم عن هذا الطريق. فعلى أية صورة حدثت النشأة الأولى؟ وكيف تتم النشأة الأخرى؟ هذان هما السؤالان اللذان سنجيب عليهما في هذا الباب, وسنعقد لكلٍّ منهما فصلًا على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الفصل الأول: نشأة اللغة عند الإنسان 1- أنواع التعبير الإنساني : للتعبير الإنساني طرق كثيرة يرجع أهمها إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: التعبير الطبيعي عن الانفعالات: ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة؛ كالصراخ، والضحك، والبكاء، وانبساط الأسارير وانقباضها، واتساع الحدقة، وإغماض العينين، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف شعر الرأس، وارتعاد الجسم ... وما إلى ذلك من الظواهر الفطرية التي تبدو بشكل غير إراديّ في حالات الفرح والحزن والألم والخوف والخجل والاشمئزاز ... وما إليها، والتي تعبر عن قيام حالة وجدانية خاصة بالشخص الصادرة عنه. وتنقسم هذه التعبيرات من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها إلى نوعين: 1- تعبييرات بصرية: أي تصل عن طريق حاسة النظر، كالحمرة والصفرة والرعشة وانقباض الأسارير وانبساطها واتساع الحدقة وإغماض العين ووقوف شعر الرأس والعدو ... وما إلى ذلك من الظواهر الجسيمة التي تصحب مختلف الانفعالات. 2- تعبيرات سمعية: أي تصل عن طريق حاسة السمع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كالضحك والبكاء والصراخ ..... وما إلى ذلك من الظواهر الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن والسرور ... وهلم جرا. ويتألف هذا النوع في الغالب من أصوات مبهمة -تشبه أصوات الحيوان وأصوات مظاهر الطبيعة, وأصوات لين -حروف مد- مختلطة أحيانًا ببعض أصوات ذات مقاطع -حروف ساكنة. وقد تكفلت بحوث علم النفس بدراسة هذا القسم بنوعين وشرح مظاهره، ومنشأ كل منها، والقوانين التي تشرف عليه ويخضع لها في مختلف نواحيه، ووسائل إدراكه، وفهم ما يعبر عنه ... وهلم جرا1 والقسم الثاني: التعبير الوضعي الإرادي: ويشمل جميع الوسائل الإرادية التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن المعاني التي يود وقوف غيره عليها. وتنقسم هذه الوسائل من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها إلى نوعين مشبهين لنوعي القسم الأول: أحدهما: التعبيرات الإرادية البصرية، وثانيهما: التعبيرات الإرادية السمعية: 1- أما التعبيرات الإرادية البصرية، فهي التي تصل عن طريق حاسة النظر، وتشمل جميع الإشارات الحسية التي تستخدم بقصد الدلالة, وهي على ضربين: أحدهما: إشارات مساعدة ونائبة: أي: تساعد لغة الكلام وتنوب عنها في حالات خاصة, أو لضرورة ما؛ فمن هذه الطائفة الإشارات البحرية وهي التي يستخدمها عن بعد بحارة سفينة مع بحارة سفينة أخرى2؛ ومنها إشارات الصيد وهي التي يستخدمها الصيادون   1 انظر مؤلفات علم النفس، وبخاصة البحث الجليل الذي كتبه أستاذنا العلامة دوما Dumas في الجزء الأول من كتاب "علم النفس" Traite de psychologie الطبعة الأولى صفحات 606-733. 2 هذه الإشارات دولية معروفة لجميع البحارة، وتدرس في مدارس البحرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بعضهم مع بعض عن بعد, حتى لا يسمع صوتهم الحيوان المطارد، ومنها الحركات اليدوية والجسمية التي يستخدمها الصم للتعبير عما يجول بخواطرهم، ومنها الإشارات التي يلجأ إليها الفرد أحيانًا للتعبير إذا كان المخاطب لا يفهم لغته، والتي جرت العاة في بعض الأمم البدائية أن يستخدمها أفراد العشائر المختلفة اللهجات بعضهم مع بعض1، ومنها الإشارات التي تستخدم في بعض الشعوب في حالات الصيام الديني عن الكلام2، ومنها الحركات التي يستعين بها في أثناء حديثهم أهل اللغات الساذجة الناقصة؛ لتكملة ما ينقص تعبيرهم, وما يعوزه من دلالة3، ومنها الحركات التي تصحب حديثنا نحن لتوكيد المعاني, أو لتمثيل الحقائق, أو الزيادة التوضيح، والتي نستخدمها وحدها للدلالة على   1 عثر علماء الأتنوجرافيا على هذه الظاهرة عند كثير من قبائل السكان الأصليين لأمريكا واستراليا، وعند بعض العشائر الإفريقية. وقد روى الأستاذ كوهل Kohl أنه إذا التقى أحد الهنود الحمر -السكان الأصليين لأمريكا الشمالية- بآخر من غير عشيرته، مختلف عنه في لغته، فإنهما يلجآن في تعبيرهما إلى لغة الإشارات التي تعتبر عند هذه العشائر بمثابة لغة دولية, وقد مهر الهنود الحمر في هذه اللغة إيَّمَا مهارة، ففي إمكان المتخاطبين أن يظلَّا يومًا كاملًا يتحدثان عن طريق الإشارات باليد والأصابع والرجلين، وأن يقص كل منهما على الآخر كل ما يود قصه عليه, انظر ليفي برول "الوظائف العقلية في الأمم الأولية" 178 وتوابعها. Levy Bruhl: Fonctions mentales etc 2 يوجد الصيام الديني عن الكلام عند كثير من الأمم البدائية, وبخاصة عند سكان استراليا وأمريكا, فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين في كتابهما عن سكان استراليا الوسطى حالات كثيرة من هذا القبيل، منها: أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحيانًا عامًا كاملًا, صائمة عن الكلام, ويظهر أن شيئًا من هذا كان موجودًا في ديانة اليهود، بدليل قوله تعالى حاكيًا كلام عيسى وهو في المهد لمريم: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ... } , {فَأَشَارَتْ إِلَيْه ... } إلخ". وقد عرف العرب أنفسهم في الجاهلية هذا النوع من الصيام ومارسوه, وكان يطلق عليه عندهم اسم "الضرس" -بفتح الضاد. وتقول المعجمات العربية في شرح هذه الكلمة: أنه صمت يوم إلى الليل, وقد أزال أبو بكر الصديق وهو خليفةٌ ما بقي من أثر لهذا النوع الغريب من الصوم -انظر كتابنا "الصوم والأضحية" ومقالًا لنا عن الصوم في مجلة "لواء الإسلام" عدد ديسمبر 1972". 3 لوحظ هذا في كثير من الأمم البدائية؛ فقد رُوِيَ عن البوشيمان Boschimans عشائر بدائية تسكن أفريقيا الجنوبية" إنه إذا أرادوا المحادثة ليلًا يضطرون إلى إشعال النار ليتمكنوا من رؤية الإشارات اليدوية التي تصحب كلامهم فتكمل ناقصه وتحدد مدلولاته. انظر ريبو "تطور المعاني الكلية" ص78, وتوابعها. Ribot Evolution des les etc. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الإيجاب والنفي والاستحسان وما إلى ذلك، كالإيماء بالرأس للتعبير عن القبول، وتحريك السبابة حركة مستعرضة للتعبير عن الرفض أو النفي, ومد الشفتين ووضع السبابة عليهما للأمر بالسكوت ... وهلم جرَّا. وثانيهما: إشارات أصيلة عامة، وهي التي تتكون منها لغة كاملة مستقلة, تستخدم وحدها في جميع الشئون والظروف, وقد استخدم هذا النوع من اللغات عند بعض الجماعات الإنسانية, ولا يزال مستعملًَا في بعض العشائر, فقد عُثِرَ في الأمم البدائية على جماعات كثيرة لا تكاد تستخدم في تعبيرها غير الإشارات اليدوية والجسمية, ومن هؤلاء بعض قبائل السكان الأصليين لأمريكا وأستراليا وبعض العشائر بأفريقيا الوسطى. ويطلق على هذا الضرب من التعبير اسم "لغة الإشارات" أو "الإشارات التحليلية"1 Gestes Analytiqu وقد عُنِيَ بدراسته عدد كبير من علماء الأتنوجرافيا والاجتماع, من أشهرهم: الكولونل مولري2 Mallery, وتيلور3 Taylor, ورمان4 Rommanes4, وليبوك5 Lybock، وسبنسر وجيلين6 Spencer and Gillen, وليفي برول7 Levy Bruhl، وريبو   1 صاحب هذه التمسية هوالعلامة ريبو Ribot, انظر كتابه: "تطور المعاني الكلية". 2 انظر بحثه بالإنجليزية: "لغة الإشارات بين هنود أمريكا الشمالية". وقد ظهر في تقرير مكتب الأتنولوجيا بواشطن عام 1881. Sign- Language among the North America lndians 3 انظر كتابه بالإنجليزية: "تاريخ النوع الإنساني في عصوره الأولى". Early History of Mankind. 4 انظر كتابه بالإنجليزية: "التطور العقلي في الفصيلة الإنسانية". 5 انظر كتابه بالإنجليزية: "أصول المدنية The Origin of Civilization. 6 انظر كتابيهما بالإنجليزية: "العشائر الأصلية باستراليا الوسطى" و"العشائر الشمالية باستراليا الوسطى". 7 انظر كتابه بالفرنسية: "الوظائف العقلية عند الأمم البدائية" صفحات 175-204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 Robot1، والدكتور فيشر الألماني2 Fischer, وروث 3.Roth وقد صور الدكتور فيشر هذا النوع من اللغات وقربه إلى الأذهان إذ يقول: إذا التقيت بأحد الهنود الحمر وأردت أن أخاطبه بلغة الإشارات لأسأله: هل رأى ست عربات تجرها ثيران ويصحبها ستة سائقين؛ منهم ثلاثة مكسيكيون, وثلاثة أمريكيون, ويسير معهم واحد ممتط صهوة جواده؟ فإنني أشير إلى شخصه بيدي للدلالة على كلمة "أنت"، ثم أشير إلى عينيه للدلالة على فعل "الرؤية", ثم أبسط أصابع يدي اليمنى وسبابة يدي اليسرى للدلالة على عدد "ستة"، ثم أكوّن صورة دائرة بإلصاق نهايتي السبابتين والإبهامين؛ إحداهما بالأخرى, وأمد يدي إلى الأمام وأحركهما كما تتحرك عجلات العربة وهي تسير للدلالة على "العربة"، ثم أضع الكفين ممدودتين بجانبي الجبهة ممثلًا قرن حيوان, للدلالة على "الثور"، ثم أمد ثلاثة أصابع من يدي اليسرى, وأضع يدي اليمنى تحت شفتي السفلى, وأنحدر بها إلى صري ممثلًا اللحية, وأمسح جبهتي بيدي من اليمين إلى الشمال ممثلًا وجهًا شاحبًا؛ للدلالة على "ثلاثة أمريكيين"، ثم أرفع إصبعًا واحدًا, وأضع بعد ذلك سبابة اليسرى بين سبابة اليمنى ووسطها, ممثلًا الراكب للدلالة على "رجل واحد راكب حصانًا", وأضاف إلى ذلك أن الوقت الذي يقضيه أحد المتكلمين بهذه اللغة في أداء هذه الحركات لا يزيد كثيرًا عن الوقت الذي يستغرقه تعبيرنا نحن باللغة الكلامية عن هذا المعنى. وقرر تيلور، بصدد هذه اللغة؛ لأن لها قواعد إشارية لربط   1 انظر كتابه بالفرنسية: "تطور المعان الكلية" صفحات58-64. 2 عُنِيَ الدكتور فيشر في بحوث كثيرة بدراسة هذا النوع من اللغات عند عشائر أفريقيا الوسطى، وعند السكان الأصليين لأمريكا. 3 انظر كتابها بالإنجليزية، "دراست أثنولوجية للسكان الأصليين بالقسم الشمالي الغربي بكوينسلندا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أجزاء العبارة بعضها ببعض وترتيب عناصرها، وأنها في مجموعها تكاد تكون متحدة عند جميع الشعوب التي تستخدمها، فهي من هذه الناحية أشبه شيء بلغة دولية، وأنه يمكن أحيانًا التعبير بها عن حقائق دقيقة؛ كعظات وضرب أمثال وقص حكايات، وأنها في جملتها ومعظم تفاصيلها تشبه لغة الصم - البكم, فقد جمع الكولونيل مولري بين رجل أصم - أبكم, يقص عليهم بالإشارات قصة طويلة تتعلق بحادث سرقة، وعقب على هذه القضية بتعليقات من عنده، فلم يفتهم فهم أي حركة من حركاته، لاتحادها مع حركاتهم اللغوية. وذهب العلامة ريبو إلى أنها قابلة للإصلاح والتهذيب، وأنه لو طال استخدام الشعوب الإنسانية لها لسارت في سبيل الارتقاء، ولأصابها كثير من أسباب التنقيح تحت تأثير الرقي العقلي، ومطالب الحي الاجتماعية، واتساع حاجات الإنسان، وأعمال المخترعين والعلماء ... وما إلى ذلك. غير أنه مهما ينلها من التهذيب فلن تخلو من مثالبها الذاتية؛ فهي تستأثر باليد، فتحول دون القيام بأي عمل آخر في أثناء التعبير, ويتوقف إدراكها على النظر، فلا يمكن التعبير بها عن بعد ولا في الظلام, وهي قائمة على تقليد الأشياء المحسة، فلا تكاد تقوى على التعبير عن المعاني الكلية أو وصف المشاعر والوجدان. هذا إلى أنها عارية عن الدقة في كثير من مظاهرها, وأنها تقتضي إسرافًا كبيرًا في الوقت والمجهود. 2- وأما التعبيرات الإرادية السمعية: فهي التي تصل إلى طريق حاسة السمع, وهي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات. وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة "اللغة" إذا أطلقت, وهو وحده الذي يهمنا في بحثنا, وإنما ذكرنا الأنواع الأخرى لاستيفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مظاهر التعبير من جهة، ولأننا قد نحتاج إليها من جهة أخرى في بيان نشأة هذا النوع، أو في ضرب الأمثال أو الموازنة، أو مناقشة النظريات وتوضيحها. ويمتاز هذا النوع بأربع خصائص: فهو مُكْتَسَبٌ لا فطريّ، وهو إرادي, أي: يصدر عن قصد لا عن طريق آلي، وهو يتمثل في أصوات مركبة ذات مقاطع تتألف منها كلمات وجمل لا في أصوات مبهمة، وهو يعبر عن معان في الذهن لا عن انفعالات تتلبس بها النفس أو يتلبس بها الجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 2- اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها : تشترك معظم فصائل الحيوان مع الإنسان في القسم الأول من قسمي التعبير السابق ذكرهما, وهو التعبير الطبيعي عن الانفعالات، سواء في ذلك التعبير الطبيعي البصري والتعبير الطببيعي السمعي, فانفعالات الحيوان جسميها ونفسيها، كالجوع والعطش والسرور والفرح والخوف والاطمئنان والحزن والاشمئزاز والغضب ... وما إلى ذلك، يثير كل منها لدى المتلبس به طائفة خاصة من الحركات الفطرية غير المقصودة, وهذه الحركات: بعضها بصري، أي: يصل عن طريق حاسة النظر، كاتساع الحدقة وضيقها، وبسط الأذنين وخفضهما، والتكشير عن الناب، ووقوف الشعر، وانتفاخ الجسم والأوداج، والهرب، والاختفاء, وما إلى ذلك، وبعضها سمعي، أي: يتمثل في صوت يصل عن طريق الأذن، كرغاء الناقة وبغامها، وصهيل الفرس، وقبعة1 عند نفوره من شيء، وحمحمته عند الجوع أو الاستئناس، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، وخوار البقر، وثغاء الغنم، وزئير الأسد، وعواء الذئب وتضوره, وتلعلعه عند جوعه، ونباح الكلب   1 صوت يردده الفرس من منخره إلى حلقه عند نفوره من شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وضغاؤه إذا جاع، ووقوقته إذا خاف، وهريره إذا أنكر شيئًا أو كرهه، وضباح الثعلب، ومواء الهرة، وضحك القردة، وصرصرة البازي، وقعقعة الصقر، وهدير الحمام، وسجع القمري، وزقزقة العصفور، ونعيق الغراب، وفحيح الحيات وكشيشها وحفيفها عند تحرش بعضها ببعض إذا انسابت، ونقيق الضفدع ... وهلم جرا1. وتشترك كذلك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري، وهو التعبير بالإشارة, ويبدو هذا على الأخص لدى الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل والنمل والقردة والبقر والغنم والوعول وما إليها , فقد ثبت أن كثيرًا من هذه الفصائل وغيرها تستخدم أحيانًا بعض إشارات جسمية للتعبير بها بشكل مقصود عن بعضه شئونها؛ ففحل الأوعال "الأيل" يستخدم في أثناء قيادة قطيعة بعض إشارات برأسه وقرونه للوقوف, فيقف جميع أفراد القطيع، وبعض إشارات للسير فيسير جميع القطيع، ويستحث المتخلفات بأن ينطح كلًّا منها نطحًا خفيفًا. ويستخدم الأذكياء من الكلاب مع أفراد فصيلتها ومع الآدميين بعض إشارات بالرأس وغيرها للتعبير بطريق إرادي عن أمور خاص، كأن تمر بأظافرها على الباب ليفطن أصحابها إلى وجودها فيفتحوا لها، أو تدفع إناء طعامها برأسها للتعبير عن حاجتها إلى الغذء ... وهلم جرا. وتستخدم كذلك فصائل القردة، وبخاصةٍ الفصائل العليا منها -الغوريلا، الشمبنزية، الجيبون، الأورانج, أوتانج- وفصائل النحل والنمل بعض إشارات من هذا القبيل؛ فقد كشف العلامة كوهلر Kohler عن ظواهر كثيرة من هذا النوع عند فصائل القردة العليا، منها ما يعمله الشمبنزية حينما يريد أن يرافقه آخر في طريقه، أو يرغب أن يعطيه أحد زملائه شيئًا مما في يده، أو يطلب نداءه عن بعد؛ فإنه في الحالة الأولى يحتك به بخفة ويجذبه من ذراعه محدقًا فيه ومتقدمًا بعض خطوات في الطريق   1 انظر في هذه الأصوات وغيرها "فقه اللغة" للثعالبي 209-212 طبعة بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 التي يود أن يسلكها معًا، وفي الحالة الثانية يمد يده إلى زميله مد الاستجداء، وفي الحالة الثالثة يمد يده ويقبض كفه ويبسطها كما نفعل نحن في مثل هذه المناسبة1. وقرر الأساتذة كيربي وسبنسر وبورميستر وهوبير وفرانكليز Kirby, Spencer, Burmeister, Huber, Franklin, أن كثيرًا من طوائف النحل والنمل يستخدم أفرادها، بعضها مع بعض، إشارات مقصودة للتعبير بها عن بعض شئونها، وأن هذه الإشارات تتمثل في احتكاك بعض أعضاء المتكلم أو أطرافه أو ذؤاباته بجزء من جسم المخاطب بطريقة خاصة. وقام العلامة لوبوك Lubock بهذا الصدد بطائفة كبيرة من التجارب, فتبين له صدق ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون2. وقد نشر الأستاذ "ألن ديفو" في مجلة "نيتشر مجازين" مقالًا تحت عنوان: "لغة الحيوان في الغاب" يتضمن حالات كثيرة من هذا النوع, وفيما يلي بعض مقتطفات من هذا المقال الطريف3: "إذا وجدت النحلة العاملة زهرة حافلة بالرحيق، عادت طائرة إلى الخلية، ثم تشرع ترقص محومة في الفضاء رقصًا غريبًا خاصًّا يدل دلالة واضحة على معنى رسالتها المستعجلة, فيفهم سائر النحل فحوى هذا العمل، فإذا به ينضم إليها واحدة في أثر واحدة، ثم لا يلبث الجمع أن يندفع كله قاصدًا ينبوع هذا الرحيق, وإذا أراد الحجل أن ينذر قومه بالخطر طار مسرعًا مسافة قصيرة متنقلًا من شجرة إلى شجرة، وهو يصفق بجناحية تصفيقًا شديدًا, وأنثى الدببة إذا أرادت أن يسرع إليها ولدها نازلًا من أعلى شجرة تسلقها ضربت بكفها جذع   1 انظر كوهلر: "ذكاء الفصائل العليا من القردة" صفحة 294 وتوابعها: Kohler: lntelligence des Singes Superieurs 2 انظر ريبو: "تطور المعاني الكلية" صفحتي 66، 67, وانظر كذلك لوبوك: النمل والنحل والزنابير" Lubbock "Ants Bees and Wasps. وانظر كذلك رومان "الذكاء الحيواني"Romanes: 'Animal lnteligence". 3 نقلًا عن مجلة "المختار" الصادرة في شهر أكتوبر سنة 1947، وقد لخصت هذه المجلة المشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الشجرة. وأنثى الظباء إذا أرادت أن تقول لحشفها: "اتبعني"، شالت بذيلها الكث رمة واحدة حتى يرى بياضه الباطن. ومن أعجب أساليب التفاهم بين الحيوان هو أسلوب الحديث بين الطائر الذي يسمى "الهادي إلى العسل" والحيوان المعروف باسم "أبو كعب" أو آكل العسل, فهذا الطائر يحب أكل يرقات النحل حين تكون كالدود، وآكل العسل منهوم بحب العسل, والطائر الهادي إلى العسل لا قبل له بالتغلب على جماعات النحل الساخطة، أما آكل العسل فهو قصير الرجلين، فلا يستطيع أن يقطع المسافات الطويلة بحثًا عن خلايا النحل, فنرى الهادي إلى العسل يطير مطوفًا في أنحاء الغابة باحثًا عن شجرة فيها خلية نحل، ثم يرتد مسرعًا إلى ذلك القابع الصابر فيحوم فوق رأسه، وهو يقول له بصوت رفيع عالٍ: "شر، شر" ويدلف آكل العسل متثاقل الخطو على أثر الطائر المرفرف بجناحيه, ولما كان هذا الحيوان في وقاء من جلده الكثيف الشعر فلا يضره لسع النحل، فهو يهجم على الخلية ويمزقها إربًا إربًا, ثم يجتمع هو والطائر على المائدة الشهية. ونحل الشجر في المناطق الاستوائية يتكلم, فينتقل كلامه من شجرة إلى شجرة، وذلك بأن يدق دقًّا شديدًا على لحاء الشجر وورقه، حتى يسمع لدقه صوت كأنه صوت انهمار رذاذ من مطر. أما أسراب الفيلة فلا تكف لحظة عن غمغمة تسمع من حديث أو إشارة، وهي لغة أداتها الإشارة بالآذان والخراطيم". وذكر الفنان والت ديزني أن الجماعتين من الآيائل الأمريكية المتشعبة القرون, تتبادل الإشارات وهي على البعد، وتستخدم في هذا الغرض ذيولها البيضاء، وأنه إلى جانب هذه الإشارات تذيع كل جماعة رسالة إلى الجماعة الأخرى، ولا تلبث كلٌّ منهما أن تتحقق أن الجماعة الأخرى من بني جلدتها1.   1 انظر جريدة الأهرام في 7/ 11/ 64. هذا، وقد أنكر بعض العلماء وجود الإشارات ذات الدلالة المقصودة عند الحيوانات, ومن هؤلاء العلامة واسمان Wasmann, الذي يرى أن كل الإشارات الحيوانية التي يخيل إلى الإنسان أنها من هذا النوع هي في الحقيقة فطرية, وأنها لا تدل المخاطب على شيء= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وأما النوع الأخير من أنواع التعبير التي ذكرناها في الفقرة   = معين, بل تقتصر على إثارة نشاطه في ناحية يحددها العمل الذي سيتلو الإشارة. وتابعه في هذا أستاذي العلامة دولا كروا, انظر دولا كروا "اللغة والفكر" صفحة 75 وتوابعها. هذا، وقد كشف بعض الباحثين أنواعًا أخرى غريبة من التفاهم بين الحيوان؛ فمن ذلك ما يمكن تسميته التفاهم بالرائحة؛ فقد ذكرعلماء الحيوان أن الذئب إذا زاد طعامه عن حاجته دفن جزءًا منه في التراب, وخلَّف هناك شيئَا من رائحته عالقًا بالمكان، فيفهم سائر الذئاب فحوى رسالته حق الفهم، والذئب يفصح عن نفسه مرةً بعد أخرى بأن يخلف رائحته حيث يريد, فتفهما الذئاب أجود الفهم، كما يفهم الرحالة من الناس إذا قرأ مذكرات كتبها رجل سبقه إلى هذه الرحلة. والذئاب والثعالب، وهي في الحقيقة من فصيلة الكلاب، تعيش في عالم لا تعد أرضه أرضًا فحسب, بل هي أرض مفعمة بالرائحة المعبرة. ويقول الأستاذ ف. بايتندجك الهولندي, الذي تولى التجارب الشهيرة في دراسة نفسية الكلاب: "إن الكلب مشغول أبدًا بحديثٍ لا ينقطع بينه وبين سائر الكلاب التي في ناحيته عن طريق الشم". "مجلة المختار، عدد أكتوبر سنة 1947". وأغرب أنواع التفاهم بين الحيوان, هو ما يكون بغير صوت ولا رائحة ولا إشارة ولا أية حركة أخرى, وفي هذا النوع يقول الأستاذ ألن ديفو: "وقد ذهب بعض علماء الحيوان إلى أنه ضرب من الاستشفاف "تليباثي". وذهب آخرون إلى أنه ليس إلّا ضربًا من الحواس اللطيفة التي بلغ لطفها مبلغًا تعجز عن إدراكه حواس الإنسان، وينكر آخرون ذلك كله إنكارًا باتًّا, وأستطيع أنا أن أروي غير متحيز إلى فئة خبر هرتين عندي, هما "سيم" و"سام" بينهما علاقة لا تنفصم من الأخوة والود، وهما لا يختلفان ولا يفترقان إلّا في شيء واحد: فإن "سيم" يحب الخروج إلى الصيد، أما "سام" فيحب الكسل، فيقضي الساعات قابعًا في البيت, ولكن بعد الشقة بيهما حين يفترقان, لا يمنع فيما يظهر أن يظل بينهما ضرب من التفاهم والاتصال, فقد يخرج "سيم" أحيانًا يتصيد، فيغيب نصف يوم، وإذا بي أرى "سام" يهب من مضجعه على مكتبي يقظان فزعًا, ويرفع أذنيه متلهفًا، ويمل برأسه كالمنصف المصغي، وما هو إلّا أن يعدو نحو الباب، فإذا فتحت له الباب انطلق كأنه سهم مقذوف إلى الحقول تارةً, وإلى الغابة تارةً أخرى. لو بدا لي أن أخرج في أثره لما خامرني ريب فيما سوف أجد؛ فهذا الصياد "سيم" قد ولى وجهه شطر البيت ومعه صيد صاده لساعته, فعرف "سام" خبر صاحبه، وإن كنت لا أدري كيف عرف, قد تقول إنه عجب لا يصدق, نعم ربما كان كما تقول! ولكن ما أكثر ما نجهل مما يدور في طوايا حواس الحيوانات ونفوسها، حتى لنرى أن أكثر العلماء علمًا وتجربة لا يصر إصرار العنيد على إنكار اللغة الصامة التي يتفاهم بها حيوان الغاب، أيًّا كانت طبيعة تلك اللغة. "مجلة المختار عدد أكتوبر 1947-ص48". ومن هذا الننع كذلك ما دونه الأستاذ ألن ديفو عن الثعالب؛ إذا يقول: "وقفت مستترًا ببعض الشجر أرقب ثلاثة من صغار الثعالب تلعب, وأمهن على الوجار تتبعهن البصر راضية مطمئنة، فإذا بصغير يعدو موغلًا في المرج، وكان أصغر من أن يباح له أن يخرج وحيدًا يطوف في أرجاء هذا العالم. فاستوت الأم قائمة، وسددت أنفها إلى الناحية التي ذهب فيها، وبقيت على هذه الهيئة ساكنة صامتة لا تتزحزج، ولم يند عنها صوت يسمح، ولكن لم ألبث قليلًا حتى رأيت الصغير عائدًا أدراجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 السابقة، وهو اللغة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، أي: الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات، فيظهر أن الإنسان قد اختص بها من سائر الفصائل الحيوانية, حقًّا إن بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير, ولكن بالتأمل في هذه الأصوات يتبين أنها عارية عن خصائص اللغة في صورتها الصحيحة، وأنها ترجع إلى فصيلة أخرى من فصائل الأصوات, وسنعرض فيما يلي لأهم ما يبدو عند الحيوان من هذا القبيل، معقبين على كل مظهر منها بما يبين وجوه الفرق بينه وبين اللغة الصوتية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. يرجع أهم ما يلفظه الحيوان من هذه الأصوات إلى ثلاثة طوائف: الطائفة الأولى: أصوات فطرية الأصل, يستخدمها الحيوان قاصدًا بها التعبير عن بعض شئونه؛ كالحمحمة التي يرددها الفرس بشكل إرادي عند رؤية صاحبه للتعبير عن حاجته إلى العلف، والمواء الذي يلجأ إليه الهر لينبئ به عن جوعه، والنباح الذي يلفظه الكلب قاصدًا به إيقاظ أهل المنزل, أو إرشادهم إلى أن شخصًا يحوم حوال البيت ... وهلم جرا. وهذه الطائفة ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء، وأن أشبهتها في ظاهرها ووظيفتها, وذلك أنها أصوات مبهمة عارية عن المقاطع والكلمات, وغير متميزة العناصر, ومن أهم خصائص الكلام كما لا يخفى اشتماله على مقاطع وكلمات وتميز عناصره بعضها من بعض. هذا إلى أنها في الأصل أصوات فطرية تصحب الانفعالات، وأن كل ما يعمله الحيوان حيالها في هذه الحالة هو أن يرددها هي نفسها بشكل إرادي للدلالة على الانفعالات نفسها التي تعبر عنها في شكلها الفطري, أو للدلالة على أمور انفعالية قريبة منها "الجوع، العطش، الخوف ... إلخ". وأصوات هذا شأنها لا يصح عدها   فتلفت يمنه ويسرة، ثم سدد بصره إلى أمه, فلم تحول بصرها عنه، وإذا بالصغير يسرع إلى وجاره كأنما كانت تجذبه بخيط لا تراه العين". "مجلة لمختار عدد أكتوبر سنة 1947ص45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 كلامًا؛ لأن أهم خصائص الكلام أنه أصوات موضوعة للدلالة, وأنه يعبر به عن معانٍ لا عن انفعالات1. الطائفة الثانية: أصوات متنوعة تلفظها القردة في اجتماعاتها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها وسائل تعبير إرادي، وأن أفراد القردة تتجاذب بها الحديث بعضها مع بعض. وتبدو هذه الظاهرة بشكل واضح في الفصائل العليا مع القردة, وبخاصة طائفة "الجيبون"2. وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء, وأن أشبهتها في ظاهرها ومناسبات استخدامها. فقد ظهر بالبحث فيها أن بعضها تعبير طبيعي عن الانفعال، وبعضها مجرد ترديد إرادي لهذا التعبير3، وبعضها من ظواهر التداعي الآلي4 أو العدوى الصوتية5, أو تقليد الحيوان بطريق فطري غير إرادي لأصوات نفسه أو أصوات غيره6.-هذا إلى أنها- على الرغم من تنوعها، وعلى الرغم من تشابه أعضاء النطق عند فصائل القردة وأعضاء النطق الإنسانية- أصوات مبهمة بسيطة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر.   1 يبدو كذلك هذا النوع من الأصوات عند الطفل الإنساني في شهوره الأولى, كما سنذكر ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب, وقد رأينا تسمية هذا النوع عند الطفل "الأصوات الوجدانية الإرادية". وقد يلجأ الكبار أنفسهم أحيانًا لهذا النوع من التعبير فيضحكون مثلًا متكفلين الضحك للتعبير عن السرور. 2 ولهذه الأمور وما شاكلها, ذهب بعض العلماء إلى أن للقردة لغة تتألف من اثنتين وثلاثين كلمة, ويذهب الدكتور أرثر جرينهول, المدير العام لحدائق الحيوان في ديترويت إلى أن الحيوانات الوحيدة التي تصدر عنها أصوات تشبه اللغة هي الشمبانزي "انظر جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 8/ 12/ 48". 3 أي: من الأصوات التي سبق ذكرها في الطائفة الأولى. 4 وذلك أن يرتبط الصوت بشيء آخر بطريقة تجعله يظهر بشكل غير إرادي كلما ظهر هذ الشيء, وسيأتي بيان ذلك بتفصيل في الطائفة الثالثة. 5 تبدو ظاهرة العدوى الصوتية عند كثير من أنواع الحيوانات، وتبدو كذلك عند الأطفال إذا صمم مكان واحد: يصوت الوليد منهم فيثير صوته أصوات الآخرين, ويبكي أحدهم فيبكي لبكائه الباقون "انظر تفصيل هذا بكتابي "عوامل التربية" صفحة 184 وتوابعها. 6 سيأتي شرح هذا في الطائفة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقد تقدَّم1 أن من أهم خصائص الكلام اشتماله على مقاطع وكلمات, وتميز عناصره بعضها من بعض2. الطائفة الثالثة: أصوات مركبة ذات مقاطع تلفظها بعض الطيور؛ كالببغاء, وما إليها من الفصائل التي امتازت أعضاء صوتها بخصائص طبيعية تتيح لها إخراج هذا النوع. وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء, وإن أشبهتها في الظاهر. وذلك أن الطائر لا يقصد بهذه الأصوات التعبير، فهي تصدر عنه في ثلاث حالات كلها فطرية آلية عارية بتاتًا عن هذا القصد: الحالة الأولى: حينما يكون الطائر متلبسًا بانفعال جسمي أو نفسي, وهي في هذه الحالة من نوع التعبير الطبيعي عن الانفعالات, تصدر عن غير قصد، ويثيرها بشكل آلي الانفعال المتلبس به الطائر, وإثارتها مؤسسة على الروابط الطبيعية الفطرية التي تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك وحدها بشكل آلي أو منعكس, وتلفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع عند وجود حالة من الحالات الجسمية أو النفسية المرتبطة بها؛ فهي حينئذ من قبيل الضحك والبكاء, وما إليها من مظاهر "التعبير السمعي". وكل ما هنالك أن التعبير الطبيعي السمعي يبدو عند الحيوانات الأخرى في صورة أصوات بسيطة مبهمة، ويبدو عند هذه الطيور أحيانًا في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع. والحالية الثانية: حينما تكون محاكاة لصوت إنساني سمعه   1 انظر آخر ص86 وأول 87. 2 انظر في هذا الموضوع بحوث الأستاذ Pfungst الذي درس أكثر من مائتي قرد في حديقة الحيوان ببرلين، وبحوث Bouton الذي لاحظ في أثناء خمس سنوات نمو قرد من فصيلة الجيبون، وبحوث كوهلر الذي كتب كثيرًا في القردة, وبخاصة القردة العليا, التي ألف فيها كتابه الشهير "ذكاء القردة العليا", وانظر ما كتبه أستاذي العلامة دولا كروا بهذا الصدد في كتابه "اللغة والتفكير" ص77 وتوابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الطائر، وهي في هذه الحالة كذلك تصدر بشكل آلي عارٍ عن قصد التعبير, بل عن قصد المحاكاة نفسها. وذلك أن هذه الفصائل مزودة بروابط طبيعية, تربط جهاز سمعها بجهاز صوتها, بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك أحيانًا وحدها, وتلفظ بشكل آلي الأصوات نفسها التي يحسها الجهاز الأول؛ فكلما وصل صوت إلى سمعها في ظروف خاصة انبعث صداه من أفواهها1. والحالة الثالثة: قد تسمع الببغاء أحيانًا كلمات أو أصواتًا في مناسبة ما, فتكررها كلما حدثت هذه المناسبة أو مناسبة أخرى تشبهها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها قد تقصد بها التعبير عن أمر معين؛ فقد تسمع مثلًا أصحابها ينادون طفلًا باسمه، فتكرر هذا الاسم كلما رأت الطفل أو رأت دميته أو متاعًا من أمتعته2. وهذه الأصوات كذلك ليست من اللغة في شيء وإن التبست بها في بادئ النظر, وذلك أن الطائر لا يقصد بها في الواقع التعبير عن أمر ما، وإنما تصدر منه بشكل غير إرادي على الصورة التي تصدر فيها ظواهر "التداعي الآلي". فمن كثرة تكرار الكلمة أمام الطائرة بحضرة الشخص أو الشيء الذي تدل عليه، يرتبط صوتها بصوت مدلولها، فينبعث الصوت من الطائر بشكل آلي كلما ظهر أمامه المدلول أو ما يتصل به3. هذا، ولا يمتاز الإنسان بهذا الصدد عن بقية فصائل الحيوان باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك بطائفة من المراكز المخية التي شرف على مختلف مظاهر هذه اللغة "مركز إصدار الألفاظ،   1 انظر تفصيل هذا الموضوع بمؤلفي: "عوامل التربية" صفحتي 181، 182. 2 من أهم الملاحظات بهذا الصدد ما دونه الدكتور ولكس, عضو الجمعية الملكية بصحيفة العلوم العقلية, عدد يولية سنة 1879Dr Wilks Journal of Mental Science. 3 انظر في هذا الموضوع كتابي الأستاذ رومان: "الذكاء الحيواني"، و"الارتقاء العقلي للإنسان". وانظر بحثًا بهذا الصدد للعلامة ولكس في المجلة الفلسفية لسنة 1880 Reve Philosphique. وانظر كذلك ما كتبه أستاذي العلامة دولا كروا في كتابه "اللغة والفكر" ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 مركز حفظ الكلمات المسموعة.. وهلم جرا" فقد ثبت أن هذه المراكز لا يوجد لها نظير في مخ أي فصيلة حيوانية أخرى, حتى الفصائل العليا من القردة نفسها. فالبحث في نشأة اللغة عند الإنسان يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة اللغة في الفصيلة الإنسانية، وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني. وسنعقد لكلٍّ منهما فقرة خاصة، ثم نكمل بحوث هذا الفصل بفقرة ثالثة في المراحل الأولى التي اجتازتها لغة الإنسان بعد نشأتها، وما انتابها من تطور في هذ المراحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 3- نشأة الكلام : لا شك أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى المجتمع نفسه, وإلى الحياة الاجتماعية. فلولا اجتماع الأفراد بعضهم مع بعض, وحاجتهم إلى التعاون والتفاهم وتبادل الأفكار, والتعبير عما يجول بالخواطر من معانٍ ومدركات, ما وجدت لغة ولا تعبير إرادي. ولا شك كذلك أن اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ كما ينشأ غيرها من الظواهر الاجتماعية، فتخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجميعة, وما تقتضيه هذه الحياة من شئون1. فليست المشكلة إذن في البحث عن الأسباب التي دعت إلى نشأة اللغة, ولا في البحث عمن أنشاها, وإنما المشكلة في البحث عن العوامل التي دعت إلى ظهورها في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع متميزة الكلمات، والكشف عن الصورة الأولى التي ظهرت بها هذه الأصوات، أي: الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في   1 انظر في ذلك كتابي في "اللغة والمجتمع" الطبعة الثالثة, وخاصة صفحات 3-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، وتوضيح الأسباب التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره. وعلى ضوء هذه الحقائق سنناقش النظريات التي قيلت في نشأة اللغة، فنرفض كل نظرية تذهب في ذلك مذهبًا لا يتفق مع هذه الحقائق المقررة، أو تغفل المشكلة الرئيسية التي نحاول حلها. هذا، وأهم ما قيل بهذا الصدد يرجع إلى أربع نظريات: النظرية الأولى: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى الهام إلهيٍّ هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء، وقد ذهب إلى هذ الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت1 Heraclite، وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في فقه اللغة العربية كابن فارس في كتابه الصاحبي2، وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي Lami في كتابه "فن الكلام" LArt de parler, والفيلسوف دوبونالد De Bonald في كتابه التشريع القديم4 Legislation primitive. ولا يكاد أصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم دليلًا عقليًّا يعتد به5. أما أدلتهم النقلية فبعضها يحتمل التأويل, وبعضها يكاد يكون دليلًا عليهم لا لهم. فالمؤيدون لهذا الرأي من باحثي   1 فيلسوف إغريقي من المدرسة اليونانية, ولد بإيفيزيا عام 576, وتوفي عام 480ق. م, ونسبة هذا الرأي له ليست يقينية. 2 انظر الصاحبي صفحات 507, وقد مال إلى هذا الرأي كذلك ابن جني في كتابه الخصائص, انظر الجزء الأول ص45، وإن كان قد رد في أول الفصل على ما يعتمد عليه القائلون به ذاهبًا إلى أنه لا ينهض دليلًا لهم. 3 هو دوم فرانسوا لامي Dom Franccis Lami, ولد بمنتيرو Montircau, من أعمال فرنسا سنة 1636, وتوفي بسان ديني Saint Denis سنة 1711, وقد قام بتدريس الفلسفة في كثير من المعاهد الدينية, وإليه يرجع الفضل في نشر آراء الفيلسوف ديكارت في هذه المعاهد. 4 انظر ترجمة دوبانالد في التعليق الأول بصفحة 56. 5 سنبين فساد الأدلة العقلية التي ذكرها بعض المتعصبين لهذه النظرية عند مناقشتنا للنظرية الثالثة التي لا تختلف كثيرًا في جوهرها عن هذه النظرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 العرب يعتمدون على قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 وهذا النص كماترى، ليس صريحًا كما يدعون؛ إذ يحتمل أن يكون معناه -كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص, وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين: إن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ. أما القائلون بهذه النظرية من الفرنجة، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين؛ إذ يقول: "والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها, وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان, فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول"2: وهذا النص، كما ترى، لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية، بل يكاد يكون دليلًَا عليهم. وفضلًا عن هذا كله, فإن هذه النظرية تغفل إغفالًَا تامًّا المشكلة الرئيسية التي تهمنا, وحدُّها في هذا البحث, والتي حددناها تحديدًا دقيقًا في صدر هذه الفقرة. النظرية الثانية: تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالًا, وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلوسف اليوناني ديموكريت Democrite -من فلاسفة القرن الخامس ق م- وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث Adem Smith, وريد Reid, ودجلد ستيوارث Dugald Stewart. وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي, بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية, فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية   1 سورة البقرة، آية 31. 2 انظر الفقرتين 19، 20 م الإصحاح الثاني من سفر التكوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون1, فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل2. وفضلًا عن هذا كله, فإن هذه النظرية تغفل المشكلة الرئيسية التي تهمنا وحدها في هذا البحث, والتي وضحناها في صدر هذه الفقرة. فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه, وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة, تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول؛ وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد: "إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة, وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا, فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء, فيضعوا لكل منها سمة ولفظًا يدل عليه ويغني عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلًا على شخص, ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان، فتصحب هذه الكلمة اسمًا له، وإن أرادوا سمة عينة أو يده أو رأسه أو قدمه أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم ... ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها3, وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلًا, ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة "مرد" بدل إنسان وكلمة "سر" بدل رأس ... وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية ... "4. النظرية الثالثة: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة, زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وأن هذه   1 سيأتي توضيح هذا في النظرية الثالثة. 2 انظر كذلك في الرد على هذه النظرية، رينان "أصل اللغة" صفحة 76 وتوابعها Renan L origin 3 لم يبين القائلون بهذه النظرية بوضوح كيف أمكن التواضع على الكلمات الدالة على الأفعال والحروف والمعاني الكلية، مع أن هذه الأمور ليس لها في الخارج مدلول حتى يشير إليه المتواضعون. 4 نقلًا عن ابن جني بتصرف, الجزء الأول، صفحتي 42، 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة "التعبير الطبيعي عن الانفعالات" تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة "انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء ... إلخ" كلما قامت به حالات انفعالية معينة "الغضب، الخوف، الحزن، السرور ... إلخ"، وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها ووظائفها وما يصدر عنها، وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات, وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى، فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم، وأنه بعد نشأة اللغة الإنساينة الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة, فأخذت تنقرض شيئًا فشيئًا حتى تلاشت, كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر1 Max Muller، والعلامة الفرنسي رينان Rena 2. وقد اعتمد مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية3؛ فقد ظهر له أن مفردات هذه اللغات جميعها ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك، وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معانٍ كلية، وأنه لا تشابه مطلقًا بين أصواها, وما تدل عليه من فعل أو حالة. ففي دلالتها على معانٍ كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها؛ لأن التواضع فضلًا عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو   1 انظر ترجمته في التعليق الخامس بصفحة 55. 2 انظر ترجمته في التعليق الثاني بصفحة 56. 3 هي إحدى الفصائل التي ترجع إليها اللغات الإنسانية, كما سيأتي الكلام على ذلك بتفصيل في الفصل الثاني من الباب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون, وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية؛ لأن المفروض أن المتواضَعَ عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة, ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة؛ لأننا بصدد ألفاظ تدل على معانٍ كلية, أي: على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها. وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه, برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية -أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات- وأصوات الحيوانات والأشياء، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريبًا. وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع، وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة لأصوات الإنسان الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره, وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل؛ للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة1. وهذه النطرية -على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث- فاسدة من عدة وجوه: 1- فهي لا تحل شيئًا من المشكلة التي نحن بصددها, بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضًا, وهي مشكلة "الغريزة الكلامية". 2- هذا إلى أن ما تقرره يعتبر -من بعض الوجوه- من قبيل   1 Max Muller Science du Langage 9e Lecon. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 تفسير الشيء بنفسه, فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية: "إن الإنسان قد لفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة؛ لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات". وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى. 3- على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث؛ لأنه من المقرر أن الإنسان مزود بأعضاء نطق تسمح له بلفظ هذا النوع من الأصوات، بل إن هذا مشترك بين الإنسان وبعض الطيور -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك, وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني، أي: البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره. 4- ولكن أكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- تمثل اللغة الإنسانية الأولى, فهذه الأصول -كما تقدم- تدل على معانٍ كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية, لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية, وها هي ذي الأمم البدائية التي تُعَدُّ أصدق ممثل للإنساية الأولى تؤيد ما نقول؛ فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا وأستراليا وإفريقيا وغيرها, على ضعف عقلياتها بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدًى كبير في لغاتها، فلا نكاد نجد في كثير منها لفظ يدل على معنًى كلي؛ ففي لغة الهنود الحمر مثلًا, يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء, وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء ... وهكذا، ولكن لا يوجد أيَّ لفظ للدلالة على شجرة البلوط، ومن باب أولى لا يوجد أيًّ لفظ للدلالة على الشجرة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 العموم1, وفي لغة الهورونيين Hurons "من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية" يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها، ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه, فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز, وهكذا، ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة على الأكل على العموم, أو الأكل في زمن ما2. ولغة السكان الأصليين لجزيرة تسمانيا Tasmenis "بقرب أستراليا" لا يوجد من بين مفرداتها لفظ يدل على الصفة، فإذا أرادوا وصف شيء لجئوا إلى تشبيه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة، فيقولون مثلًا "فلان كشجرة كذا" إذا أرادوا وصفه بالطول3. ولذلك يرى المحدثون من علماء اللغة أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- لا تمثل في شيء اللغة الإنسانية الأولى كما يذهب إلى ذلك مكس مولر، بل إنها بقايا لغة حديثة قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل الرقي والكمال, ولم تصل إليها الأمم الإنسانية إلّا بعد أن ارتقت عقلياتها ونهض تفكيرها, ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا, فيقرر أنها مجرد أصول نظرية, وأنها لم تكن يومًا ما موضوع لغة إنسانية4. النظرية الرابعة: تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية "التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة، الأصوات التي تحدثها الأفعال عند وقوعها؛ كصوت الضرب والقطع والكسر ... إلخ" وسارت في سبيل الرقيّ شيئًا فشيئًا تبعًا لارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة واتساع نطاق الحياة   1 Ribot Evolutiln des ldees Generales p 110 2 Ribot op cit 173 174 3 Ribot op cit 204 et suiv 4 هذا هو رأي الأستاذين سيس وبريال Sayce Breal, انظر في ذلك Ribot op cit 81-82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الاجتماعية وتعدد حاجات الإنسان ... وما إلى ذلك, وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المحدثين من علماء اللغة, وعلى رأسهم العلامة وتنى1 Whitey, وذهب إلى مثله من قبل هؤلاء كثير من فلاسفة العصور القديمة, ومن مؤلفي العرب بالعصور الوسطى؛ فقد تحدث عنه ابن جني, المتوفى عام 392هـ, أي: من نحو ألف سنة, في كتابه الخصائص في أسلوب يدل على قدمه وكثرة القائلين به من قبله2. فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات؛ كأصوات الفرح والحزن والرعب وما إليها, ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء؛ كدوي الريح وحنين الرعد, وخرير الماء, وحفيف الشجر, وجعجعة الرحى, وقعقعة الشنان, وصرير الباب, وصوت القطع والضرب ... وهلم جرَّا. وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكى ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع, وكانت لغته في مبدأ أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها, قاصرة عن الدلالة على المقصود, ولذلك كان لابد لها من ساعد يصحبها؛ فيوضح مدلولاتها, ويعين على إدراك ما ترمي إليه, وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات، فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات, ثم توسع الإنسان في   1 انظر بعض مظاهر نشاطه العلمي ومؤلفاته، بصفحة 65 والتعليق الأول من تعليقاتها. 2 انظر الجزء الأول من الخصائص صفحتي 44، 45: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة؛ كدوي الريح, وحنين الرعد, وخرير الماء, وشحيج البغل, ونهيق الحمار, ونعيق الغراب, وصهيل الفرس, ونزيب الظبي، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد, وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 استخدامه؛ فحاكى به أشكال الأشياء وحجومها وصفاتها, وما إلى ذلك، فازدادت أهميته في الحديث، وسد فراغًَا كبيرًا في اللغة الصوتية، ثم أخذت هذه اللغة يتسع نطاقها تبعًا لارتقاء التفكير, واتساع حاجات الإنسان ومظاهر حضارته، وتستغني شيئًا فشيئًا عن مساعدة الإشارات, وتبعد عن أصولها تأثير عوامل كثيرة؛ كالتطورات الطبيعية التي تعتور الصوت وأعضاء النطق الإنساني, وكعلاقات المجاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات ... وما إلى ذلك من الأمور التي سنعرض لها بتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب. وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة، وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقًا مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة الاجتماعية, وهي إلى هذا وذاك تفسر المشكلة التي نحن بصددها, وهي الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة, والعوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره, ولم يقم أيّ دليل يقيني على خطئها, ولكن لم يقم كذلك أيَّ دليل يقيني على صحتها, وكل ما يذكر لتأييدها لا يقطع بصحتها, وإنما يقرب تصورها ويرجح الأخذ بها. ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل؛ فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية "أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة والأشياء.." فيحاكي الصوت قاصدًا التعبير عن مصدره, أو عن أمر يتصل به, وثبت كذلك أنه في هذه المرحلة وفي مبدأ مرحلة الكلام يعتمد اعتمادًا جوهريًّا في توضيح تعبيره الصوتي على الإشارات اليدوية والجسمية, ومن المقرر أن المراحل التي يختارها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر1. ومن أدلتها كذلك ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية؛ ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها أصوات ما تدل عليه, ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها, وعدم كفايتها للتعبير, لا يجد المتكلمون بها مناصًا من الاستعانة بالإشارات اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم؛ لتكملة ما يفتقر إليه من عناصر وما يعوزه من دلالة2, ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن تيارات الحضارة, وبقائها بمعزل عن أسباب النهضة الاجتماعية، تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.   1 يطلق على هذه النظرية اسم نظرية "هيكل Haeckel، أو "نظرية التلخيص العام" وقد تكلمنا عليها بتفصيل في كتابنا: "عوامل التربية" صفحات 123-129. هذا، وسندرس بتفصيل في الفصل الثاني نشأة اللغة عند الطفل وتطورها, ومبلغ تمثيلها لمراحل اللغة الإنسانية. 2 انظر صفحة 83 والتعليق الثالث من تعليقاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 4- نشاة مراكز اللغة: تقدَّمَ أن الإنسان لا يمتاز عن الفصائل الحيوانية الأخرى باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك باشتمال مخه على مراكز تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة "مركز الكلام، مركز حفظ الأصوات، مركز الكلمات المرئية ... إلخ"1. وقد اختلف الباحثون اختلافًا كبيرًا في نشأة هذه المراكز في الفصيلة الإنسانية.   1 انظر آخر ص95 وأول ص96, هذا ولا يتسع المقام للكلام عن هذه المراكز ووظائفها وطريقة آدائها لها، على أن هذا من بحوث علم النفس والفيزيولوجيا لا عن بحوث علم اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزودًا بهذه المراكز, كما خلق مزودًا بخصائصه الأخرى؛ كاعتدال القامة, وإدراك المعاني الكلية ... وما إلى ذلك, ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة، ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى شأوٍ كبير في الدقة والنضج، على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزج كثيرًا عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها, ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة؛ منها كثرة استخدامها في وظائفها, وما تمرن عليه من عادات مكتسبة, واتساع الحضارة الإنسانية, وارتقاء التفكير ... وهلم جرا. فمراكز اللغة شأنها في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني، تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية, فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها, أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى. وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته, وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته, وبخاصة ما يتصل منها بشئون دفاعه عن نفسه, وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها, وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار، ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض حيث تعرض لإغارة الحيوانات القوية وسطوها عليه, فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل, وكما تفعل أفراد فصيلته, ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته للخطر, فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الاصطدام به، وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعًا من حجارة أو خشب أو معدن, أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه, أو يضربه بطرفها الآخر, وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان: أحدهما: أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه, ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئًا فشيئًا حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت "وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقًا لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة المراحل نفسها التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة". وثانيهما: وهو الذي يهمنا في موضوعنا, أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه، فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها، ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم، وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه، وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ؛ فزاد حجمه, ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها. ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني Anthony بتجربة على عدد من الجراء "الكلاب الصغيرة" وذلك بأن استأصل جزءًا من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية، فتبين له أنها أخذن تتسع أكثر من المعتاد. وقد تصدى كثير من العلماء المحدثين للتحري عن هذه الحقائق، فثبت لهم فسادها من نواحٍ كثيرة, لا يهمنا منها الآن إلّا الناحية المتعلقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بنشأة مراكز اللغة؛ فقد ظهر لهم بهذا الصدد أن تعطيل الفك والأسنان وإن نجم عنه اتساع في الجمجة, لا يترتب عليه مطلقًا اتساع في المخ, أواختلاف في تعاريجه وشكل تكونه, والتجربة التي قام بها أنتوني تدل هي نفسها على صحة ذلك, فقد ظهر له أن جماجم الجراء قد انحصرت عن أمخاخها، بدليل أن الآثار التي تنطبع عليها من ملاصقتها للمخ قد انمحت؛ فاتساع الجمجمة الناجم عن تقلص عضلات الصدغ وعظامه لا يتبعه أذن اتساع في حجم المخ, أو نشأة مراكز جديدة كما يزعم دارون. وكثيرًا ما تتسع الجمجمة عند بعض الناس اتساعًا غير عاديّ لسبب آخر غير تقلص عضلات الصدغ وعظامه، ولكن لم يحدث مطلقًا في حالة من حالات هذا الاتساع أن زاد حجم المخ أو تغيرت صورته. وعلى العكس من ذلك نمو المخ نفسه؛ فإنه يرغم الجمجمة على الاتساع, ويشكلها بالشكل الذي يتفق مع نموه, فإن قاومته، بأن كان عظم اليافوخ1 قد اشتد قبل أوانه، تغلب على مقاومتها وشق لنفسه طريقًا على أي وجه, فأحيانًا يدفعها إلى الأمام فينشأ الشخص بارز الجبهة، وأحيانًا يدفعها إلى الخلف فينشأ الشخص أحدب الرأس، وأحيانًا يدفعها إلى أعلى فينشأ مسنم الرأس، وأحيانًا يدفعها من ناحيتين أو أكثر فينشأ مدنخ الرأس2 ... وهكذا, فالطريق الطبيعي للارتقاء، إن كان ثَمَّ ارتقاء، هو أن يتسع المخ أولًا وتوجد فيه مراكز لم تكن موجودة من قبل, ويتبع ذلك اتساع في الجمجمة، لا أن تتسع الجمجمة أولًا ويتبعها اتساع المخ كما يقول دارون ومن نحا نحوه. على أن الارتقائيين لم يكونوا في حاجة إلى هذه الفروض التعسفية لتعليل نشأة مراكز اللغة بطريقة تتفق مع مبادئهم؛ فقد كان   1 حيث يلتقي عظم مقدم الرأس بعظم مؤخرة وهو الذي يكون لينًا في الصبي. 2 "رجل مدنخ الرأس: في رأسه ارتفاع وانخفاض", "المخصص لابن سيده جزء أول ص62". "والمدنخ كمحدث -بتشديد الدال المكسورة: من في رأسه ارتفاع أو انخفاض, "القاموس المحيط", والعامة تقول شخص برأسين، أو برءوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في إمكانهم أن يذهبوا إلى أن هذه المراكز لم تنشأ من العدم، بل كانت نتيجة تطور لمراكز قديمة أو لأجزاء من مراكز قديمة, كان في أماكنهم مثلًا أن يذهبوا إلى أن جزءًا من مراكز الحركة الخاصة بعضلات الوجه Centres des mouvements des muscles de la face قد تخصص في حركة أعضاء النطق. ومع تقادم الزمن وكثرة مزاولته لهذه الوظيفة تشكل بالشكل الذي يتفق معها, واستقل عن غيره, وأخذ يسير في سبيل الارتقاء حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن. كان في إمكانهم أن يقولوا: هذا بصدد مراكز الكلام, ويقولوا مثله بصدد المراكز اللغوية الأخرى؛ فيتقوا معظم ما وجه إلى فروضهم السابقة من اعتراضات, ويكون مذهبهم أدنى إلى القبول وأكثر اتفاقًا مع حقائق الأمور, وذلك أنه بالموازنة بين مخ الإنسان وأمخاخ الحيوانات القريبة منه، يظهر أن مراكزه اللغوية -على فرض أنها لم تكن موجودة في أصل خلقه- كانت نتيجة تشكيل جديد لبعض المراكز الموجودة في أمخاخ هذه الحيوانات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 5- المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية : تقدَّم أن اللغة الإنسانية قد نشأت ناقصة ساذجة مبهمة في نواحي أصواتها ومدلولاتها وقواعدها، ثم سارت بالتدريج في سبيل الارتقاء1. وقد اختلف الباحثون اختلافًا كبيرًا في بيان المراحل الأولى التي اجتازتها في هذا السبيل. فبعضهم نظر إلى الموضوع من الناحية الصوتية؛ فحاول أن يشكف   1 انظر صفحات 103-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عما كانت عليه أصوات اللغة الإنسانية في مبدأ نشأتها, وعن مراحل ارتقائها, وقد ذهب معظم هؤلاء إلى أن اللغة قد سارت بهذا الصدد في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة الصراخ Le Cri: وفي هذه المرحلة لم يكن في أصوات اللغة الإنسانية أصوات مد -وهي الأصوات التي نرمز إليها بحروف اللين, ولا أصوات ساكنة -وهي الأصوات التي نرمز إليها بالحروف الساكنة، وإنما كانت مؤلفة من أصوات مبهمة تشبه أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعال؛ كالضحك والبكاء والصراخ، وأصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء؛ كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وحفيف الشجر وجعجعة الرحى وصوت القطع والضرب ... وهلم جرا. والمرحلة الثانية: مرحلة المد Vocalisation: وفيها ظهرت أصوات اللين في اللغة الإنسانية. والمرحلة الثالثة: مرحلة المقاطع Articulation: وفيها ظهرت الأصوات الساكنة في اللغة الإنسانية "الباء، التاء، الثاء .... إلخ". ويعتمد أصحاب هذه النظرية في تأييدها على أمور مستمدة من لغة الطفل ولغات الأمم البدائية: أما فيما يتعلق بالطفل؛ فقد ظهر أن أصواته تجتاز المراحل نفسها التي ذكرها أصحاب هذه النظرية, فأصواته في المبدأ يتألف معظمها من الصراخ والأصوات المبهمة المشبهة لأصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة، ثم تكثر لديه في المرحلة التالية أصوات المد، وفي آخر مرحلة يجتازها قبل أن يظهر لديه التقليد اللغوي، وهي المرحلة التي يسميها علماء النفس بمرحلة: "التمرينات النطقية"، تكثر في نطقه الأصوات الساكنة1.   1 سنتكلم عن هذا الموضوع بتفصيل في الفصل الثاني من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقد أشرنا فيما سبق إلى أن كثيرًا من العلماء يرى أن المراحل التي يجتازها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر1. وأما فيما يتعلق بلغات الأمم البدائية: فقد لوحظ في كثير منها, أن الأصوات المبهمة وأصوات المد تفوق كثيرًا الأصوات الساكنة في كميتها وأهميتها في الدلالة2, وقد تقدَّم أن هذه الأمم -لبعدها عن تيارات الحضارة وبقائها بمعزل عن أسباب النهضات الاجتماعية- تمثل إلى حد كبير الأساليب الإنسانية في عهودها الأولى3. وليس من بين هذه الأدلة ما يمكن عده برهانًا قاطعًا على صحة هذه النظرية, بل إن معظم المحدثين من علماء اللغة يقطعون بفسادها, وحجتهم في ذلك أنه لا يوجد من بين اللغات الإنسانية المعروفة -سواء في ذلك اللغات الحية والميتة، الراقية والساذجة- لغة خالية من أصوات اللين أو من الأصوات الساكنة, وأنه من المتعذر تصور لغة إنسانية عارية عن أحد هذين النوعين, هذا إلى أن ظهور الأصوات ذات المقاطع "الأصوات الساكنة" في لغة الإنسان, لم يكن ليتوقف على ارتقاء في لغته, أو على تطور صوتي, أو على مراحل يجتازها في هذا السبيل, كما يزعم أصحاب هذه النظرية؛ لأن الأصوات ذات المقاطع توجد عند كثير من فصائل الحيوانات نفسها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك4. وبعضهم نظر إلى الموضوع من ناحية مفردات اللغة ودلالة بعضها   1 انظر أول صفحة 106 وتعليقها الأول. 2 ففي لغات القيجيين والهوتنتوت ولغات بعض قبائل من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية تكثر الأصوات المبهمة المشبهة لأصوات الحيوانات ومظاهر الطبيعة, وفي لغات السياميين والصينيين مثلًَا نرى أن معظم ظواهر الدلالة تتصل بحروف المد، فكلمة "ها" مثلًا معناها: البحث في لغة السياميين, فإذا مدت ألفها قليلًا وفتح الفم في نطقها a أصبح معناها الوباء، وإذا مدت قليلًا بدون فتح الفم أصبح معناها خمسة. V Ribot on cit p 78. 3 انظر صفحة 106. 4 انظر صفحة 94 وتوابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 على معانٍ جزئية, وبعضها الآخر على معانٍ كلية، وحاول أن يبين أيّ القسمين كان أسبق ظهورًا من الآخر. وقد اختلف هؤلاء فيما بينهم, وانقسموا إلى فريقين: الفريق الأول: -وعلى رأسه مكس مولر- يرى أن اللغة الإنسانية قد بدأت بألفاظ دالة على معانٍ كلية، ثم انشعبت عن هذه الألفاظ الكلمات الدالة على المعاني الجزئية, ودليلهم على هذا أن الأصول المشتركة التي ترجع إليها المفردات في جميع اللغات الهندية - الأوربية, والتي تمثل في نظرهم اللغة الإنسانية في أقدم عصورها، تدل على معانٍ كلية, كما سبقت الإشارة إلى ذلك1. وقد ناقشنا هذه النظرية فيما تقدم فتبين فسادها، وظهر أن هذه الأصوات لا تمثل اللغة الإنسانية في عهودها الأولى، وأنها بقايا من لغة راقية لم تصل إليها الأمم الإنسانية إلّا بعد أن اجتازت في حياتها اللغوية مراحل طويلة، وأن بعض الباحثين يذهب إلى أبعد من هذا, فيقرر أننا بصدد أصول نظرية لم تكن يومًا ما لغة كلام2. وبعضهم يبحث في هذا التطور من ناحية ثالثةٍ قريبة من بعض الوجوه من الناحية السابقة، فيتساءل عن المراحل التي ظهر فيها كل من الاسم والصفة والفعل والحرف في الكلام الإنساني, وأشهر نظرية بهذا الصدد هي نظرية العلامة ريبو Ribot, التي تقرر أن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية، ثم تلتها أسماء المعاني وأسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال, وبظهور الأفعال دخلت اللغة الإنسانية في أهم مرحلة من مراحل رقيها، فلا يخفى أهمية الأفعال في الحديث وكثرة وظائفها في الدلالة، ثم اختتمت مراحل الارتقاء بظهور الحروف3.   1 انظر صفحة 100. 2 انظر صفحتي 102، 103. 3 انظر Ribot op cip pp 88-96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقد اعتمد في تأييد نظريته هذه على أدلة كثيرة, بعضها يرجع إلى لغة الطفل ولغات الأمم البدائية، وبعضها إلى بحوث إيتيمولوجية "دراسة أصول الكلمات" أو نفسية, فمن ذلك أن الأصول الهندية الأوربية التي كشفها "مكس مولر", يتألف معظمها من كلمات دالة على الصفات، وفي هذا دليل على أن الصفات كانت أسبق الكلمات ظهورًا في اللغة الإنسانية، وأن معظم أسماء المعاني وأسماء الذوات مشتقة في كثير من اللغات من كلمات دالة على صفات، وفي هذا دليل على أن الأسماء لم تظهر في اللغة الإنسانية إلّا بعد ظهور الصفات، وأن معظم الأفعال في اللغات الهندية الأوروبية مأخوذة من كلمات دالة على صفات أو أسماء, مضاف إليها بعض أصوات من ضمائر، وفي هذا دليل على أن الأفعال قد ظهرت بعد ظهور الصفات والأسماء، وأن كثيرًا من لغات الأمم البدائية مجردة من الحروف1، وأن لغة الطفل لا تظهر فيها الحروف إلّا في آخر مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأولى ينطق الطفل بأجزاء الجملة عارية عن الحروف وعن علامات الربط2، وفي خلو اللغات البدائية ولغة الطفل في مراحلها الأولى من الكلمات الدالة على الحروف دليل على أنها كانت آخر ما ظهر في اللغات الإنسانية. وليس من بين هذه الأدلة ما ينهض برهانًا قاطعًا على صحة هذه النظرية، بل إنها ظاهرة الخطأ في بعض نواحيها، وخاصة إذ تقرر أن الصفات كانت أسبق ظهورًا في اللغة الإنسانية من أسماء الذوات, ففي هذه الناحية توجه إليها المآخذ نفسها التي وجهناها إلى نظرية مكس مولر3.   1 سيأتي الكلام عن ذلك في اللغات غير المتصرفة "انظر صفحتي 117، 118". 2 سيأتي الكلام على ذلك بتفصيل في الفصل الثاني من هذ الباب. 3 انظر صفحتي 102، 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وبعضهم يبحث في هذا التطور من ناحية رابعة تتعلق بقواعد الصرف والتنظيم "المورفولوجيا والسنتكس1". وأشهر نظرية بهذا الصدد, هي النظرية التي قال بها العلامة شليجل Schlegel, وتابعه فيها جمهرة كبيرة من علماء اللغة, وهي تقسم اللغات الإنسانية في هذه الناحية إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: اللغات المتصرفة Flexionnelles ou a Flexion, أو التحليلة Analytiquew: ويمتاز هذ االقسم من ناحية "المورفولوجيا" بأن كلماته تتغير معانيها بتغير أبنيتها، ومن ناحية "السنتكس" بأن أجزاء الجملة يتصل بعضها ببعض بروابط مستقلة2 تدل على مختلف العلاقات, وذلك كاللغة العربية؛ فإن كلماتها تتغير معانيها بتغير بنيتها؛ فتقول عِلْم للدلالة على المصدر، وعَلِمَ للدلالة على الفعل الماضي، وعَلَّمَ للدلالة على تعدي الفعل، واعْلَمْ للدلالة على الأمر، والعلوم للدلالة على جمع العلم، والمعلوم للدلالة على ما وقع عليه العلم، والعلَّامة للدلالة على وسيلة العلم ... وهلم جرا. هذا من ناحية الصرف, وأما من ناحية التنظيم: فإن عناصر جملها يتصل بعضها ببعض عن طريق روابط مستقلة تشير إلى مختلف العلاقات؛ فتقول مثلًا: ذهب محمد وعلي من المنزل إلى الجامعة, فتأتي بواو قصيرة ونون زائدتين بعد دال محمد للدلالة على أنه أحدث الحدث، وتأتي بالواو العاطفة بين محمد وعلي للدلالة على عطف عنصر من عناصر الجملة على آخر، وبمن للدلالة على الابتداء، وبإلي للدلالة على الانتهاء, وما قيل في اللغة العربية يقال مثله في بقية اللغات السامية, وفي اللغات الهندية - الأوروبية.   1 انظر صفحات 8-10. 2 نقصد باستقلال الروابط زيادتها عن أصوات الكلمة؛ فالواو القصيرة "الضمة" والنون الساكنة الملحقتان بكلمة "محمد" في: جاء محمد "محمدن" تعتبران من الروابط المستقلة، وهما تشيران في هذا التركيب إلى أن مدلول محمد هو الذي أحدث الحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وسميت هذه الطائفة من اللغات "بالمتصرفة" لتغير أبنيتها بتغير المعاني، و"بالتحليلية" لما تتخذه حيال الجملة من تحليل أجزائها وربطها بعضها ببعض بروابط تدل على العلاقات. القسم الثاني: اللغات اللصقية أو الوصلية: Agglutinantes ou Agglomerrantes ou Synthetiques: ويمتاز هذا القسم من ناحيتي المورفولوجيا والسنتكس, بأن تغير معنى الأصل وعلاقته بما عداه من أجزاء الجملة يشار إليهما بحروف تلصق به, وتوضع هذه الحروف أحيانًا قبل الأصل, فتسمى: "سابقة Prefixes"، وأحيانًا بعده فتسمى "لاحقة1 Suffixes", وبعض هذه الحروف ليس له دلالة مستقلة، ولكن معظمها كان في الأصل كلمات ذات دلالة, ثم فقدت معانيها وأصبحت لا تستخدم إلّا مساعدة للدلالة على تغير معنى الأصل الذي تلصق به, أو للإشارة إلى علاقته بما عداه من أجزاء الجملة, ومن أشهر لغات هذه الفصيلة اللغة اليابانية واللغة التركية, وبعض لغات الأمم البدائية؛ كلغة الأيروكويين2 lroquois, والبنتوين3 Bantous. وسميت هذه اللغات "باللصقية" أو "الوصلية" للطريقة التي تتبعها   1 يختلف هذا الأسلوب باختلاف اللغات, فبعض اللغات اللصقية تستخدم الحروف "السابقة" كاللغة البنتوية، وبعضها يستخدم الحروف "اللاحقة" كالتركية, فمنزل في التركية مثلًا يقال له: أو Ew، فإذا أردت أن تقول خارج المنزل ألصقت بآخره دالًا مكسورة, ونونًا للدلالة على المجاوزة؛ فتقول: أودن Ewden، وإذا أردت جمعه ألصقت بآخره لامًا مكسورة وراء, فتقول: أولر Ewler، وإذا أردت أن تقول: خارج المنازل, ألصقت بالجمع الدال والنون الدالتين على المجاورة, فتقول أولردن Ewlerden. وقد تجتمع الطريقتان في لغة واحدة, فتستخدم أحيانًا الحروف السابقة, وأحيانًا الحروف اللاحقة. 2 عشائر من الهنود الحمر "السكان الأصليين لأمريكا الشمالية", وقد يلحق بالأصل الواحد في لغتهم عدد كبير من هذه الحروف للدلالة على كثير من العلاقات والمعاني، فتصبح الكلمة الواحدة كثيرة الأصوات كبيرة المدلول؛ فقد روى العلامة ريبو, أنه توجد في لغتهم كلمة واحدة تدل على ما يأتي: "اطلب نقودًا من هؤلاء الذين جاءوا ليشتروا مني الأقمشة, ويكثر كذلك هذا النوع من الكلمات الطويلة بلغة الإسكيمو V Ribot op cit 89. 3 يطلق هذا الاسم على سكان القسم الجنوبي بأفريقيا الاستوائية "ما عدا قبيلتي الهوتانتوت والبوشيمان Hottentots Bochimaans, وترجع لغاتهم إلى فصيلة واحدة على الرغم من اختلاف أصولهم الشعبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 حيال الأصل؛ إذ تلصق به حروفًا زائدة عن حروفه, لتوضيح المعنى المقصود منه, أو للإشارة إلى علاقته بما عداه من أجزاء الجملة. القسم الثالث: اللغات غير المتصرفة Mono-syllabiques, أو "العازلة" lsolantes: ويمتاز هذا القسم من ناحية "المورفولوجيا"، بأن كلماته غير قابلة للتصرف, لا عن طريق تغيير البنية ولا عن طريق لصق حروف بالأصل، فكل كلمة تلازم صورة واحدة وتدل عل معنى ثابت لا يتغير, ويمتاز من ناحية "السنتكس" بعدم وجود روابط بين أجزاء الجملة للدلالة على وظيفة كل منها وعلاقته بما عداه، بل توضع هذه الأجزاء بعضها بجانب بعض، وتستفاد وظائفها وعلاقاتها من ترتيبها أو من سياق الكلام, ويدخل في هذا القسم اللغة الصينية وكثير من لغات الأمم البدائية. وسميت هذه اللغات بغير المتصرفة؛ لأن كلماتها لا تتصرف ولا يتغير معناها "بالعازلة"؛ لأنها تعزل أجزاء الجملة بعضها عن بعض, ولا تصرح بما يربطها من علاقات. ويرى أصحاب هذه النظرية أن اللغة الإنسانية في مبدأ نشأتها كانت من النوع الثالث "اللغات غير المتصرفة"، ثم ارتقت إلى النوع الثاني "اللغات اللصقية"، ولم تصل إلى حالة النوع الأول "اللغات المتصرفة" إلّا في آخر مرحلة قطعتها في هذا السبيل, غير أن بعض اللغات الإنسانية قد وقفت في نموها فلم تتجاوز المرحلة الأولى كاللغة الصينية، أو لم تتجاوز المرحلة الثانية كاليابانية والتركية. ويستدل على صحة هذه النظرية بأدلة مستمدة من لغة الطفل ولغات الأمم البدائية, على النحو الذي تقدَّم شرحه في النظريات السابقة. ولكن ليس من بين أدلتها ما ينهض برهانًا قاطعًا على صحتها, بل قامت أدلة كثيرة على خطئها, فمن ذلك أن الأساليب الثلاثة التي تعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لها "التصرف واللصق والعزل" توجد مجتمعة في كل لغة إنسانية، وأنه من المتعذر أن نعثر على لغة عارية عن أسلوب منها. فاللغة العربية، كما يوجد بها مظاهر من أسلوب التصرف والتحليل كما تقدم، يوجد بها مظاهر كثيرة من الأسلوبين الآخرين؛ فهي تسير على طريقة اللصق بالحروف "اللاحقة" و"السابقة" في حالات كثيرة؛ كجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم والتعدي بالهمزة "قائم قائمون, زينب زينبات, قام على، وأقام على الصلاة" ... وهلم جرا. وتسير كذلك على طريقة العزل في كثير من التراكيب؛ فبعض الجمل الاسمية والجمل الفعلية لا ترتبط عناصرها بعضها ببعض بأي رابطة ملفوظ، وإنما تفهم العلاقة بينها من ترتيبها أو من السياق مثل "ضرب موسى عيسى"، وجميع الجمل على هذا النحو في اللغات العامية المتشعبة عن العربية، فقد تجردت جميعها من علامات الإعراب الدالة على وظائف الكلمات, وعلاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض. وكذلك جميع اللغات الهندية - الأوربية. فالإنجليزية والفرنسية مثلًَا تسيران أحيانًا على طريقة التصريف والتحليل. Je vois, je voyais, je vis, nous voyons, la vue, vous voyez que la Linguistique est une science sociale. l see, l saw, l have seen, to see, the sight, you see that the Science of Languages is a social one وتسيران أحيانًا على طريقة اللصق: j a joute, Jajouterai - tigre, tigresse l care, l cared - cariful, carefulness وتسيران أحيانًا على طريقة العزل: Tom beats Dick- pierre bat Paul "ففي هذه الجملة لا يميز الفاعل من المفعول إلّا مجرد ترتيبه". ومثل هذا يقال في جميع اللغات الإنسانية, فلسنا إذن بصدد فصائل لغوية متميزة، بل بصدد أساليب مستخدمة في جميع اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الثاني: نشأة اللغة عند الطفل 1- أنواع الأصوات في الطفولة, وأساس كل منها: يرجع أهم ما يلفظه الطفل من أصوات إلى الأنواع الآتية: 1- "الأصوات الوجدانية" أو"أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات": وهي الأصوات الفطرية التي تصدر من الطفل في أثناء تلبسه بحالة انفعالية، كالأصوات التي تصدر منه في حالات الخوف والألم والجوع والفرح والغضب والسرور والدهشة، كالبكاء والضحك, ومختلف أنواع الصراخ الوجداني. وهذا النوع فطري عند الطفل، يصدر منه بشكل غير إرادي, وبدون سابق تجربة ولا تعليم ولا تقليد1، وتثيره الحالات الجسمية والنفسية أليمها وسارها, وهذه الإثارة قائمة على روابط طبيعية تربط أعضاء الصوت بالحالات الجسمية والنفسية بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك بشكل آلي, وتلفظ أصواتًا معينة عند وجود حالة من هذه الحالات؛ فالطفل إذ يلفظ هذه الأصوات تحت تأثير هذه الحالة الجسمية أو النفسية أشبه شيء بساعة الحائط إذ تدق أجراسها بصوت آلي حينما تصل مشيراتها -عقاربها- إلى نقطة خاصة، وتختلف دقاتها نوعًا وكمية باختلاف هذه النقط.   1 ليس أدل على أن هذا النوع فطري, وعلى عدم توقفه على المحاكاة, أنه يظهر حتى عند الطفل الذي يولد أصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ويتألف هذا النوع من أصوات مبهمة "تشبه أصوات الحيوان وأصوات مظاهر الطبيعة" وأصوات لين "وهي التي نرمز إليها بحروف المد" مختلطة أحيانًا ببعض أصوات ذات مقاطع "وهي التي نرمز إليها بالحروف الساكنة". وقد حاول العلامة شترن Stern، على ضوء ما قام به في هذا الصدد من ملاحظات وتجارب أن يعيِّنَ نوع الصوت الذي يظهر في كل حالة من الحالات الانفعالية المشار إليها، فانتهى بحثه إلى نتائج كثيرة، منها أن حروف اللين مكررة تعبر عن السرور والحزن، وأن الميم والنون تعبران عن كل ما له علاقة بالأمور الداخلية "الجوع, الرغبة ... إلخ", وأن الباء والدال والتاء تعبر عن كل ما له علاقة بالعالم الخارجي, غير أن التحقق من صحة هذه النتائج يحتاج إلى استقراء كبير يتعذر إجراؤه, هذا إلى أن كل ما يقال بهذا الشأن تقريبي؛ لأن الأصوات التي نحن بصدد الكلام عليها يتألف معظمها -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- من أصوات مبهمة يصعب تحديد ما يشبهها من أصوات اللغة. هذا، ويصحب انفعالات الطفل كذلك طائفة من المظاهر الجسمية المرئية؛ كصفرة الوجه وحمرته, ووقوف شعر الرأس, وضيق الحدقة واتساعها, وفتح الفم, وانقباض عضلات الوجه وانبساطها, وتفتح الأسارير وانكماشها ... وهلم جرا. وهذه المظاهر قائمة على الأسس الطبيعية نفسها القائمة عليها الأصوات الوجدانية, وتصدر دائمًا مصاحبة لهذه الأصوات, فهي فطرية غريزية تصدر من الطفل بدون سابق تجربة ولا تعليم, ويثيرها بطريقة آلية ما يتلبس به الطفل من انفعال. 2- الأصوات الوجدانية الإرادية: وهي أصوات النوع السابق حينما يستعملها الطفل استعمالًا إراديًّا, وذلك أن الأصوات الوجدانية الفطرية التي تقدمت الإشارة إليها يدرك المحيطون بالطفل مصادرها ومثيراتها, فيعملون على وقفها بتحقيق ما يعوز الطفل وقضاء ما يحتاج إليه, ومن تكرار سلوكهم هذا، يدرك الطفل أن هذه الأصوات من شأنها أن ترغم الكبار على تحقيق رغباته، فيلفظها أحيانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بشكل إرادي قاصدًا بها التعبير عن حالة قائمة به, أو عن مطلب من مطالبه، فتراه مثلًا يتعمد البكاء أو الصراخ، أو يتمادى فيهما بشكل إرادي حتى تحمله مربيته أو ترضعه أو تبعد عنه هنة لا يريدها ... وهلم جرا. وتسمى حينئذ هذه الأصوات "الأصوات الوجدانية الإرادية". وما يتخذه حيال الأصوات يتخذه أحيانًا حيال الحركات الجسمية المعبرة عن الانفعالات؛ فقد يقوم ببعض هذه الحركات بشكل إرادي, قاصدًا بها التعبير عما يساوره من انفعال, أو يبغي تحقيقه من رغبة, فقد يتعمد مثلًا تقطيب وجهه, أو تحريك يديه حركات عنيفة للتعبير بشكل إرادي عن غضبه، وقد يتعمد قبض عضلات الوجه للتعبير عن كراهيته لشيء, أو اشمئزازه منه ... وهلم جرا. وهو في الحالين "حالة الصوت الإرادي, وحالة الحركات الإدارية" يحاكي نفسه في حالتها الفطرية، فيمثل بشكل إرادي ما يصدر عنه عادة بشكل آلي فطري. 3- أصوات الإثارة السمعية: وهي أصوات فطرية غير تقليدية, تصدر من الطفل في شهوره الأولى حينما يسمع بعض الأصوات؛ ففي هذه المرحلة نرى أن سماع الطفل لبعض الأصوات "وبخاصة الأصوات المرتفعة" يثير أعضاء صوته ويجعلها تلفظ بشكل آلي أصواتًا غير تقليدية "أي: لا تحاكي الأصوات المسموعة" شبيهة بأصواته الوجدانية التي أشرنا إليها فيما سبق, ويحدث هذا عند سماعه أحد المحيطين به يناغيه أو يتحدث بصوت مرتفع، أو عند سماعه صوت حيوان أو آلة موسيقية ... وهلم جرا. ويظهر هذا النوع من الأصوات لدى الطفل في سن مبكرة, فقد لاحظ الأستاذ "جويوم Guillaume" أن "بول" ولما يتجاوز الشهر الثاني، تصدر منه هذه الأصوات عندما تكلمه أمه, أو يكلمه هو بعبارات طويلة، وأنه عندما بلغ الشهر الثالث كان صوت "البيانو" يثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أعضاء نطقه, فتلفظ أصواتًا مبهمة لا تحاكي في شيء النغم الموسيقي الذي يسمعه، وأن بنته "لويز" وسنها شهران ونصف، كانت الأصوات التي تلفظها في أثناء مناغاته لها أشبه شيء بإجابات على حديثه، فكانت تلفظ هذه الأصوات كلما توقف هو عن الحديث, أو انتهت عبارة من عباراته، وأن حالتهما كانت شبيهة بحالة شخصين يتحدثان محادثة منظمة, وقد لاحظ هذه الظاهرة نفسها على ابنتي عفاف في سن مبكرة؛ ففي اليوم الثاني من شهره الثالث "27/3/ 34" أثارت مناغاتي لها أعضاء نطقها, فأخذت تلفظ أصواتًا مبهمة مصحوبة بالابتسام وحركات الأطراف. ومن هذا النوع من الأصوات ما يسمونه: "العدوى الصوتية", التي تبدو عند الأطفال إذا ضمهم مكان واحد، والتي تلازمهم في معظم مراحل طفولتهم؛ يصوت الوليد منهم فيثير صوته أصوات زملائه، ويبكي فيبكي لبكائه الآخرون1. ويتألف هذا النوع، كما يتألف النوعان السابقان، من أصوات مبهمة "تشبه أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة" وأصوات لين "وهي التي نرمز إليها بحروف المد" مختلطة أحيانًا ببعض أصوات ذات مقاطع "وهي التي نرمز إليها بالحروف الساكنة". وقد ثبت أن هذه الأصوات ليست إرادية ولا تقليدية، بل فطرية آلية تصدر بدون تدخل إرادة الطفل ولا تتجه إلى محاكاة أمر ما, وهي قائمة على أسس طبيعية شبيهة بالأسس القائمة عليها الأصوات الوجدانية. فكما أن تلبس الطفل بحالة انفعالية يثير أعضاء صوته، فتتحرك بشكل آلي وتلفظ الأصوات الوجدانية السابق ذكرها، كذلك سماع الطفل في هذه المرحلة لبعض الأصوات، فإنه يثير أعضاء نقطه فتتحرك بشكل آلي وتلفظ الأصوات التي نحن بصدد الكلام عنها. فكلا   1 وقد لاحظ الأستاذ بلانتون أن هذه العدوى الصوتية لا تظهر قبل نهاية الشهر الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 النوعين فطري آلي قائم على روابط طبيعية, وكل ما بينهما من فرق ينحصر في أن الأول مؤسس على روابط طبيعية تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك بشكل آلي وتلفظ أصواتًا خاصة عند وجود حالة من هذه الحالات، على حين أن الثاني قائم على روابط طبيعية تربط جهاز السمع بجهاز الصوت بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك بشكل آلي, وتلفظ أصواتًا مبهمة عند وصول أصوات إلى الجهاز الأول. 4- أصوات التمرينات النطقية Exercices vocaux, أو "اللعب اللفظي" Jeu vocal أو "اللغط" Babillage: يظهر لدى الطفل -حوالي الشهر الخامس- ميل فطري إلى اللعب بالأصوات وتمرين أعضاء النطق, فيقضي فترات طويلة من وقته في إخراج أصوات مركبة متنوعة, عارية عن الدلالة, وعن قصد التعبير, وقد سمى الباحثون هذا النوع من الأصوات بالتمرينات النطقية أو اللعب اللفظي أو اللغط1. وينتظم هذا النوع جميع الأصوات المدية والمقطعية "حروف اللين والحروف الساكنة", التي يمكن أن تلفظها أعضاء النطق الإنساني, ولذلك كثيرًا ما نجد من بينها أصواتًا غريبة عن اللغة التي ينطق بها آباء الطفل, فكثيرًا ما يرد فيما يلفظه أطفالنا المصريون من هذا النوع أصوات لا وجود لها في لغتنا، كالأصوات التي يرمز إليها في الفرنسية بهذه الحروف V, P, eu وقد لاحظ الأساتذة: رونجات وميرينجير وجوتمان Ronjat, Maringer, Gutzman أن من بين الأصوات التي يلفظها أطفال الأوروبيين في هذه المرحلة أصواتًا لا يوجد لها نظير إلّا في لغات   1 قد يظهر النوع من الأصوات عند بعض الأطفال قبل الشهر الخامس، فقد لاحظته عند ابنتي عفاف في أوائل الشهر الثالث -ابتداء ظهوره لديها يوم 27-3-34، وظهر عند ابني إقدام, في أوائل الرابع "ابتدأ ظهوره لديه يوم 7-12-40، وقد ولد يوم 27 أغسطس سنة 1940". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الصين، أو اليابان، أو في رطانات زنوج أفريقيا، أو في لهجات السكان الأصليين لأمريكا وأستراليا, ومن لم يظهر فساد ما ذهب إليه فونت وبرييرومور Wundt Preyer Moor؛ إذ زعموا أن أصوات هذه المرحلة تختلف باختلاف الشعوب، وأن أطفال كل أمة لا يلفظون في أثنائها إلّا الأصوات الخاصة بلغة بلادهم، أي: التي يستخدمونها في المرحلة التالية، فكأنهم بذلك يدربون أعضاء نطقهم على ما ستواجهه في المستقبل من مشكلات لغوية خاصة بأمتهم. ويلاحظ أن الطفل في هذه المرحلة يولع بتكرار الصوت الذي يلفظه من هذا النوع عدة مرات: با بابا -تا تا تا أتيتا..إلخ. ويرجع هذا إلى أسباب كثيرة؛ منها: أن النشاط الحركي يتجه دائمًا إلى الأشكال المتماثلة والأوضاع المتشابهة, ومنها: أن وقف الحركة فجأة يتطلب مجهودًا أكبر من المجهود الذي يتطلبه استمرارها، فالطفل بتكراره هذا يميل أكبر بفطرته إلى أخف المجهودين "وإلى هذا يرجع السبب في حدوث هذه الظاهرة نفسها عند الكبار أحيانًا, وخاصة حينما يسرعون في كلامهم", ومنها: أن الطفل عندما يلفظ صوتًا ما يحدث لديه هذا الصوت إحساسًا سمعيًّا يرتاح إليه ويتلذذ بوقعه، فيكرر الصوت ليتكرر إحساسه هذا، كما أن إحساسه صوت طبلة دقها بيده أو صوت هنة رماها يدعوه إلى تكرار الدق والرمي ليتكرر الصوت نفسه. وهذا مظهر من المظاهر التي أطلق عليها العلامة بلدوين "تقليد الطفل لنفسه" أو "التفاعل الدائري عند الطفل", وتبقى هذه العادة عند الطفل في أوائل المرحلة التالية كما سنذكر ذلك في موطنه1. ولا يرمي الطفل من وراء هذه الأصوات إلى محاكاة أو تعبير، وإنما تدفعه إليها غرائزه دفعًا كما تدفعه إلى سائر ألعابه, ويجد لذة كبيرة في مجرد لفظها, كما يجد لذة في القيام بألعابه الأخرى.   1 انظر المرحلة الثالثة في الفقرة الثالثة من هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويظهر أن الغرض الذي ترمي إليه الطبيعة من دفع الطفل إلى هذا النوع من الألعاب هو تدريب أعضاء نطقه على القيام بوظائفها العامة, وإعداده إعدادًا تامًّا للمرحلة التالية، وهي المرحلة التي يأخذ فيها اللغة عن طريق محاكاته لما يسمعه من المحيطين به1. غير أنه يظهر كذلك أن بعض الأصوات التي يلفظها الطفل في أواخر هذه المرحلة, والتي تبدو من نوع "التمرينات النطقية", هي في الحقيقة أصوات تقليدية يحاول بها الطفل أن يحاكي ما يسمعه من كلمات؛ فيلفظها لفظًا خاطئًا بعيدًا كل البعد عن الأصل، أو يحاول بها محاكاة النبرات العامة التي تتالف منها الصورة الموسيقية لبعض ما يسمعه من عبارات, ولا أدلَّ على ذلك مما لاحظه الأستاذ جرامون Gramont الفرنسي؛ فقد اختار لابنه مربية إيطالية, ظلت ملازمةً له حتى قبيل انتهاء هذه المرحلة، وبعد شهر تقريبًا من انقطاعها عنه، دخل الطفل في مرحلة التقليد اللغوي، فلاحظ والده حينئذ أنه يلفظ الكلمات الفرنسية بلكنة إيطالية، وأن هذه العادة لم يتخلص منها إلّا بعد أمد طويل, وهذا يدل على أن بعض الأصوات التي كان يلفظها في مرحلة "التمرينات النطقية"؛ إذ كانت مربيته الإيطالية تناغيه بلهجتها، كان يحاول بها تقليد النبرات العامة لحديثها, وأن هذه المحاولات قد مكَّنت أسلوب الصوت الإيطالي من لسانه، وظهرت آثار ذلك في حديثه فيمابعد. 5- الأصوات التي يحاكي بها الطفل أصوات الأشياء، والحيوانات "هزيز الريح، حفيف الشجر، خرير الماء، جعجعة الرحى، صرير الباب، درداب الطبل، طنطنة الأوتار، دقات الساعة، نفير السيارة، صهيل الفرس. نهيق الحمار، خوار البقر، ثغاء الغنم، نباح الكلب، مواء الهر، صياح الديك، هديل الحمام، نعيق الغراب ... وهلم جرا".   1 انظر تفصيل هذا بكتابنا "عوامل التربية" صفحات 185-187, والغرض الذي أشرنا إليه وهو الإعداد للحياة المستقبلة ليس مقصورًا على الألعاب اللفظية, بل مشتركًا في جميع الألعاب الإنسانية. "انظر المرجع السابق صفحات 129-132، 149-150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وتعتمد هذه الأصوات على استعداد فطريٍّ عند الطفل، وهو غريزة المحاكاة. مع ذلك، تصدر بشكل إرادي، ويرمي الطفل من ورائها إلى غايات معينة؛ فهو يرمي أحيانًا، إلى مجرد التلذذ بالمحاكاة، أو إثبات قدرته على التقليد، وأحيانًا إلى التعبير عن أمور تتصل بالشيء أو الحيوان الذي يحاكي صوته؛ كأن يحاكي صوت الكلب للتعبير عن رغبته في رؤيته أو عن قدومه ... وما إلى ذلك, وهو يحاكي أحيانًا هذه الأصوات المبهمة في صورتها الطبيعية، وأحيانًا يحاكيها بوضعها في أصوات ذات مقاطع، فيعبر عن صوت الدجاجة مثلًا بكلمة "كاك", وعن صوت الكلب بكلمة "هَوْ" ... وهلم جرا. 6- الأصوات المركبة ذات المقاطع والدلالات الوضعية التي تتألف منها الكلمات وتتكون منها اللغة: وهذا النوع من الأصوات يأخذه الطفل عن المحيطين به بطريق التقليد، ويندفع إليه تحت تأثير ميله الفطريّ إلى المحاكاة, ولكنه مع ذلك، إرادي في تكونه وفي استخدامه, أما فيما يتعلق بتكونه، فهو لا يصدر من الطفل بشكل آلي كما تصدر أصواته الوجدانية مثلًا، بل يبذل في إصداره وإصلاح خطئه وتكملة نقصه وجعله مطابقًا للصوت الذي يحاكيه مجهودًا إراديًّا، ويشرف على جميع هذه الأمور إشرافًا مقصودًا، وأما فيما يتعلق باستخدامه، فإن الطفل يلفظه مريدًا به التعبير عن المعاني والحقائق التي يدل عليها, وذلك أن هذه الطائفة من الأصوات لا تنتقل إلى الطفل مجردة، بل تنتقل إليه حاملة معها معانيها, فهو يدرك ما تدل عليه من سياق أعمال المتكلمين بها، ومن الحركات اليدوية والجسمية التي تصحبها، ومن الإشارة الحسية إلى مدلولاتها ... وهلم جرا. فيحاكيها متصورًا معانيها تصورًا كاملًا أو ناقصًا تبعًا لمبلغ الدقة في ملاحظته, وكلما اكتسب لفظًا منها عن هذا الطريق, احتفظ به إلى حين الحاجة إليه، فيلفظه كلما أراد التعبير عن مدلوله1.   1 هناك نظريات أخرى كثيرة في الأساس القائم عليه هذا النوع من الأصوات, وسنعرض لها في الفقرة السادسة من هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 2- أنواع التعبير في الطفولة : عرضنا في الفقرة السابقة لجميع أنواع التعبير في الطفولة ما عدا واحدًا لم تدع إلى الكلام عنه مناسبة ما في الموضوع السابق، وهو التعبير الإرادي عن المعاني, عن طريق الإشارات اليدوية والجسمية, وإلى هذا النوع من التعبير يلجأ الطفل في جميع مرحل طفولته، فيستخدمه أحيانًا مستقلًّا عن غيره "كأن يمد يده ويفتح نحو شخص ويقبض أصابعه ويبسطها للتعبير عن رغبته في مجيئه بجانبه، أو يقبض أصابعه ويقربها من شفتيه محاكيًا حركة الشرب للتعبير عن حاجته إلى الماء، أو يهوي بيده بحركة عنيفة للتعبير عن الضرب ... وهلم جرا"، وأحيانًا يستخدمه مع الكلام لتكملة ما ينقص حديثه ويعوزه من دلالة, أو لتوكيد المعاني, وتمثيل الحقائق, وزيادة التوضيح. وبإضافة هذا النوع إلى الأنواع التي عرضنا لها في الفقرة السابقة, يتبين أن مظاهر التعبير في الطفولة ترجع إلى سبعة أقسام: 1- التعبير الطبيعي عن الانفعال عن طريق الأصوات. 2- التعبير الطبيعي عن الانفعال عن طريق الحركات الجسمية. 3- التعبير الإرادي عن الانفعال عن طريق محاكاة النوع الأول. 4- التعبير الإرادي عن الانفعال عن طريق محاكاة النوع الثاني. 5- التعبير عن المعاني عن طريق محاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعية. 6- التعبير عن المعاني عن طريق اللغة -الجمل والكلمات. 7- التعبير عن المعاني عن طريق الإشارات اليدوية والجسمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومجمل هذا أن التعبير في الطفولة لا يخرج عن طائفتين: تعبير عن الانفعالات، وتعبير عن المعاني. أما التعبير عن الانفعالات فيكون أحيانًا طبيعيًّا, وأحيانًا إراديًّا يحاكى فيه التعبير الطبيعي، وكلاهما يكون عن طريق الصوت, أو عن طريق الحركة, فهذه أربعة. أما التعبير عن المعاني فلا يكون إلّا إراديًّا, ويحدث أحيانًا عن طريق الإشارة اليدوية أو الجسمية، وأحيانًا عن طريق محاكاة أصوات الحيوانات والأشياء، وأحيانًا عن طريق اللغة, وهذه ثلاثة أنواع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 3- المراحل التي يجتازها الطفل في أصواته وتعبيراته : يجتاز الطفل في هذه السبيل أربع مراحل, تمتاز كل منها بمميزات خاصة في أصواته وتعبيراته. المرحلة الأولى: من الولادة إلى الشهر الخامس: وفي هذه المرحلة لا يظهر من أنواع الأصوات الستة السابق ذكرها إلّا الأنواع الثلاثة الأولى: "الأصوات الوجدانية"، و"الأصوات الوجدانية الإرادية"، و"أصوات الإثارة السمعية"1. أما تعبيرات الطفل في هذه المرحلة فتنتظم جميع أنواع التعبير السابق ذكرها2 ما عدا النوعين الخامس والسادس "التعبير عن المعاني عن طريق اللغة، والتعبير عن المعاني عن طريق محاكاة أصوات الحيوان والأشياء". فيبدو لديه في هذه المرحلة التعبير الطبيعي عن الانفعال في   1 انظر صفحات 119-122. 2 انظر صفحتي 127، 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 مظهرية الصوتي والحركي "البكاء، الصراخ، الضحك، الابتسام، انقباض الأسارير وانبساطها، إحمرار الوجه، إصفراره، ارتعاش الجسم، وقوف شعر الرأس.. وهلم جرا", وتختلف هذه التعبيرات في موعد ظهورها؛ فأول ما يظهر من أنواعها الصوتية الأصوات الدالة على الألم الجسمي وعلى الجوع, وما إلى ذلك، ثم تظهر بعد ذلك -في أواخر الشهر الثاني تقريبا- الأصوات المعبرة عن الألم النفسي؛ كأصوات الحزن والإخفاق وضيق الصدر ... ، أما الأصوات المعبرة عن الحالات السارة جسميها ونفسيها؛ كالفرح والطمأنينة والارتواء والشبع, فلا تبدو إلّا في منتصف هذه المرحلة أو في أواخرها, وتسير التعبيرات الحركية في مواقيت ظهورها على سنن قريب من التعبيرات الصوتية. وتبدو لدى الطفل كذلك في هذه المرحلة مظاهر "التعبير الوجداني الإرادي"، فكثيرًا ما يتعمد الصبي في شهوره الأولى محكاة تعبيره الطبيعي؛ ليقف المحيطين به على حالة وجدانية متلبس بها، أو ليحملهم على تحقيق رغبة من رغباته "يتعمد مثلًا الصراخ أو البكاء ليقضي له مطلب ما". ويبدو لديه كذلك في أواخر هذه المرحلة بعض مظاهر من التعبير عن المعاني عن طريق الإشارة؛ فكثيرًا ما يلجأ إلى الإشارات اليدوية والجسمية للتعبير عما يهمه التعبير عنه، كأن يمد يده ويضم أصابع كفه للإشارة إلى شخص بالدنو منه، وكأن يدفع شخصًا بيده للتعبير عن رغبته في أن يبعد عنه ... وهلم جرا. المرحلة الثانية: من الشهر الخامس إلى أواخر السنة الأولى وتمتاز هذه المرحلة عن المرحلة السابقة من الناحية الصوتية بظهور نوع جديد من الأصوات, وهي أصوات "التمرينات النطقية", أو "اللعب اللفظي", أو"اللغط" التي تكلمنا فيما سبق عن طبيعتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ووظائفها وأسسها1, ويتألف معظمها في المبدأ من أصوات لينة "حروف مد", ثم تكثر فيها فيما بعد ذلك الأصوات ذات المقاطع "الحروف الساكنة", وقد تظهر لديه في هذه المرحلة بعض أصوات يحاول بها محاكاة ما يسمعه في صورة ما, كما تقدم بيان ذلك2. وأما فيما يتعلق بأنواع التعبير، فلا يظهر منها لدى الطفل في هذه المرحلة أيّ نوع جديد, ولكن ترقى لديه الأنواع القديمة التي تكلمنا عليها في المرحلة السابقة، وبخاصة الإرادي منها، فتكثر محاكاته الإرادية لوسائل التعبير الفطري, وتتهذب طرق تعبيره بالإشارة، ويتسع نطاقه، وتضبط دلالاته. وفي هذه المرحلة، بل من قبل هذه المرحلة، يختزن الطفل في ذاكرته كثيرًا من الكلمات والجمل التي ينطق بها المحيطون به ويفهم مدلولها بدون أن يستطيع محاكاتها, ويساعده على فهمها سياق أعمال المتكلمين وما يصدر عنهم في أثناء النطق بها من حركات يدوية وجسمية وإشارات إلى ما تدل عليه, فإذا كُلِّفَ الطفل في هذه المرحلة أمرًا ما "اقفل الباب، هات الكوب، ضع لعبتك في العربة ... إلخ" أو طلب إليه الإشارة إلى أحد أعضائه، أو أعضاء غيره, أو إلى هنة ما "أين أنفك، أذنك، أبوك، أمك، عمك، سريرك، لعبتك ... " أدى ما كلفه, وأشار إلى ما يطلب إليه تعيينه من أعضاء وأشياء في صورة تدل دلالة قاطعة على فهمه لما سمع. وقد ذكر الأستاذ بريير Preyer, أن النطق الواضح بالكلام لم يبدأ عنه ابنه إلّا في الشهر الثامن عشر، مع أنه، منذ الشهور الأخيرة من السنة الأولى، كان يفهم معظم ما يقال له وما يسمعه.   1 انظر صفحات 123-125, وقد يظهر هذا النوع من الأصوات عند بعض الأطفال قبل الشهر الخامس كما سبقت الإشارة إلى ذلك في التعليق الأول ص123. 2 انظر صفحة 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وذكر الأستاذ جويوم أن ابنته "لويز" كانت تفهم معنى كلمة "بابا" منذ الشهر الثالث، مع أنها لم تستطع النطق بها إلّا في الشهر السابع، وأن ابنه بول كان في شهره الرابع يفهم معاني الكلمات الآتية: "بابا"، "بول" "اسمه"، "ثدي"، وفي شهره الخامس كان يفهم كذلك معاني كلمتي "ماما" و"أخي الأكبر"، مع أنه في هذه المرحلة ما كان يستطيع النطق بآية كلمة من هذه الكلمات، وأن نطاق الفهم عند ولديه هذين قد اتسع اتساعًا كبيرًا في الشهور الأولى من مرحلة "التمرينات النطقية"، فكان الولد منها يلوح بيده تلويح الوداع عندما يقال له Adieu "مع السلامة", كما يلوح الكبار بأيديهم عندما يسمعون هذه الصيغة من مودعيهم، ويحاول أن يلبي ما يطلب إليه أداؤه بالقدر الذي تسمح به قواه الجسمية وقدرته على الحركة عندما يطلب إليه أن يرقص أو يجلس أو يقف أو يجيء ... وهلم جرا، ويلبي تلبية صحيحة ما يؤمر به إذا طلب إليه تقبيل أحد أبويه, أو الأخذ بلحية والده, أو شد شعر رأسه، ويشير إلى الشخص أو الهنة التي يطلب إليه الإشارة إليها إذا قيل له: أين أبوك أو ريموند -أخوه, أو الهرة, أو الدجاجة, أو الثدي, أو المدفأة, أو السرير ... وما إلى ذلك، مع أنهما في هذه المرحلة ما كانا ليستطيعا النطق بآية كلمة ولا عبارة من هذه الكلمات والعبارات. وقد لاحظت على ابنتي عفاف، وهي في أوائل شهرها السادس، أنها كانت تفهم معنى كلمة "بوبول" -اسم كنا نطلقه على هرة بالمنزل، فكانت كلما ذكر أمامها هذا الاسم, صوبت نظرها نحو الأرض وأدراته في نواح كثيرة لتبحث عنها، فإن عثرت عليها حدقت فيها وتابعت حركاتها بنظرها، مع أنها في هذا الدور ما كانت لتستطيع النطق بكلمة ما. هذا وفهم الطفل للكلمات والجمل يظهر على صورة تدريجية, وأول كلمات يفهم مدلولها هي الكلمات الدالة على أكثر الأشخاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ملازمة له وأحبهم إليه "بابا، ماما، ددة ... إلخ" وعلى الأمور الضرورية له "أمبو=الماء، مم=الطعام ... " وعلى الأشياء التي تستأثر بانتباهه لغرابتها مثلًا، فقد كانت كلمة طيارة من الفوج الأول من الكلمات التي لاحظت أن ابني إقدامًا يفهم مدلولها -يظهر فهمه لمدلولها في أوائل شهره العاشر, فقد كنا نجلس به في حديقة المنزل، فتحلق بعض الطائرات فوق رءوسنا محدثة دويًّا مزعجً، فاستأثر هذا بقسط كبير من انتباهه, وتمكن معنى الكلمة في ذهنه، فكنا إذا سألناه في وقت لا طائرة فيه فوق رءوسنا: "فين الطيارة يا ميمي" = "أين يا إقدام" رفع بصره إلى السماء كمن يبحث عنها. المرحلة الثالثة: مرحلة التقليد اللغوي: تبدأ هذه المرحلة عند العاديين من الأطفال في أواخر السنة الأولى أو أوائل الثانية، وتنتهي في الخامسة أو السادسة أو السابعة, وأما غير العاديين من الناحية اللغوية فقد لا تبدأ لديهم إلّا في أواخر الثانية أو أوائل الثالثة، ويتأخر تبعًا لذلك موعد انتهائها, وعند بعض الشواذ من الأطفال لا تبدأ إلّا في سن متأخرة جدًّا، كما سنذكر لك فيما بعد, وقد تبدأ في حالات نادرة في سن مبكرة جدًّا؛ فقد سجَّل سكوبن Scupin بعض شواهد لها حدثت في الشهر الثاني، ولاحظ مثلها جويوم وشترن في الشهر الثالث، ودارون في الشهر الرابع. ولكن ظهورها في مثل هذه السن نادر جدًّا، والشواهد التي تذكر من هذا القبيل غير موثوق بصحتها كل الوثوق, ويمكن تأويلها على وجه آخر. وفي هذه المرحلة يظهر النوعان الخامس والسادس من أنواع الأصوات السابق ذكرها "محاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة بقصد التعبير عن مصادرها أو عن أمور تتصل بها، ومحاكاة الكلمات بقصد التعبير عن مدلولاتها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وبظهور هذين النوعين من الأصوات يظهر نوعان جديدان في تعبير الطفل: التعبير عن المعاني عن طريق محاكاة الأصوات الحيوانية وأصوات الأشياء، والتعبير عن المعاني عن طريق محاكاة الأصوات اللغوية, أي: عن طريق اللغة. وتسير المحاكاة اللغوية في هذه المرحلة على أساليب خاصة بعضها يتعلق بالأصوات وبعضها يتعلق بالدلالة. وسنتكلم عن كل منهما على حدة: أولًا: الأساليب المتعلقة بالأصوات، ومن أهمها ما يلي: 1- أن الطفل يحاكي في مبدأ الأمر الكلمات التي يسمعها محاكاة خاطئة، ولا يزال يصلح من فاسد نطقه شيئًا فشيئًا، مستعينًا بالتكرار ومعتمدًا على مجهوده الإرادي, ومستفيدًا من تجاربه، حتى تستقيم له اللغة. ومظاهر أخطائه في هذه الناحية كثيرة, من أهمها ما يلي: أ- أنه يغيِّر الأصوات فيحل محل الصوت الأصلي صوتًا آخر قريبًا منه في المخرج, أو بعيدًا عنه -ويغلب أن يكون قريبًا منه، فينطق مثلًا الكاف تاء "تتاب=كتاب، الستينة=السكينة ... إلخ"، والشين سينًا "سعر=شعر ... إلخ"، والفاء باء "بيبي=فيفي..إلخ"، والعين أو الخاء همزة "نئناءة=نعناعة، نأم= نعم، أد =خد"، واللام نونًا "نمنة=نملة" ... وهلم جرا. وقد ينال هذا التغيير معظم حروف الكلمة، فلا يكاد يبقى فيها شيء من أصواتها الأصلية "ساساته= شوكولاته"1. ويظل هذا النوع من الخطأ ملازمًا الطفل حتى أواخر هذه المرحلة، فقد لازم ابنتي عفاف حتى أواخر سنتها الخامسة، فظلت في أثناء هذه السنة تجد بعض الصعوبة في النطق بالشين, وتميل إلى قلبها   1 كل هذه الكلمات مأخوذة من لغة ابنتي عفاف في هذا الدور، وفيفي هو الاسم الذي كنا نناديها به في المنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 سينًا -وكان هذا آخر مظهر لديها من مظاهر الخطأ الذي نحن بصدده. وقد بقيت مظاهر كثيرة منه في لغة أولادي إقدام وحزم ونائل ووفاء إلى أواخر السنة السادسة، وبقي بعض مظاهره، وهو قلب الراء لامًا، في لغة ابني إخلاص حتى أواخر السنة العاشرة. غير أن نوع الحروف التي ينالها التغيير وكميتها ... كل ذلك يختلف باختلاف السن. ب- أنه يحرِّفُ أصوات الكلمة عن مواضعها، فيجعل اللاحق منها سابقًا والسابق لاحقًا. ويلازمه هذا النوع من الخطأ مدة طويلة, فلم تتحرر منه ابنتى عفاف إلّا في أواسط السنة الرابعة، ففي الشهر الخامس من سنها الرابعة كانت لا تزال تقول "امسو" بدل اسمو "اسمه"، و"جمزة" بدل جزمة "حذاء"، و"أحبسو" بدل أحسبو "أحسبه" ... وهلم جرا. ولم يتحرر منه ابني إقدام إلّا بعد أن أتَمَّ سنته الرابعة، وكان من مظاهره لديه "امسو" بدل اسمه، "وجمزة" بدل جزمة، و"حمز" بدل حزم "اسم أخته الصغيرة". جـ- لا ينطق بجميع أصوات الكلمة، بل يكتفي بلفظ بعضها "تت=تحت، دي=منديل ... إلخ". وترجع هذه الأخطاء الصوتية جميعها إلى ضعف أعضاء النطق عند الطفل في مبدأ هذه المرحلة، وضعف إدراكه السمعي وذاكراته السمعية، وقلة المرانة، وتأثر عناصر الكلمة بعضها ببعض ... وهلم جرا. وكلما تقدمت به السن, واشتدت أعضاء صوته, ودقت حاسة سمعه, وقويت ذاكرته, حسن نطقه وقلت أخطاؤه, ويعينه في هذا السبيل ما يبذله المحيطون به من جهود لإصلاح نطقه؛ إذ يكررون له الكلمة عدة مرات، أو ينطقونها على مهلٍ متميزة الحروف، أو ينطقونها بصوت مرتفع ... وما إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وإلى الأخطاء السابقة, وما إليها يرجع السبب في صعوبة فهم حديثه على غير المحيطين به, وقد خُيِّلَ إلى بعض الباحثين أن الطفل يخترع اختراعًا بعض كلمات في مبدأ هذا الدور, والحق أن الطفل لا يأتي بجديد من عنده، وأن الكلمات التي يظن أنها من اختراعه يرجع جميعها إلى كلمات تقليدية؛ فبعضها محاكاة محرفة كثرت فيها الأخطاء السابق ذكرها, حتى بعدت عن أصلها بعدًا كبيرًا، وبعضها محاكاة صحيحة لكلمات يتعمد بعض الملازمين للطفل أن ينطقوا بها نطقًا محرفًا يتفق مع طريقة نطقه، فهذه الكلمات الأخيرة هي من اختراع الكبار لا من اختراع الطفل. 2- يولع الطفل في مبدأ هذه المرحلة بما كان مولعًا به في المرحلة السابقة من تكرار المقاطع والكلمات عدة مرات "با با با با با =بابا أي: الوالد، ما ما ما ما = ماما, أي: الأم ... وهكذ معظم الكلمات". وهذا راجع إلى أسباب كثيرة؛ منها: أن الطفل يحاول بذلك أن يثبت الكلمة في ذاكرته, ويمكن لها من أعضاء نطقه حتى يسهل عليه حفظها والنطق بها فيما بعد عند الحاجة إليها, ومنها: أن النشاط الحركي يتجه دائمًا إلى الأشكال المتماثلة والأوضاع المتشابهة, ومنها: أن وقف الحركة فجأة بتكراره هذا يميل بفطرته إلى أخف المجهودين "وإلى هذا يرجع السبب في حدوث هذه الظاهرة نفسها عند الكبار أحيانًا، وخاصة حينما يسرعون في كلامهم". ومنها أن الطفل المبتدئ في الكلام عندما يلفظ كلمة ما، يحدث لديه صوتها إحساسًا سمعيًّا يرتاح إليه ويتلذذ بوقعه، فيكرر الصوت ليتكرر إحساسه هذا، كما أن إحساسه صوت طبلة دقه بيده أو صوت هنة رماها يدعوه إلى تكرار الدق والرمي ليتكرر الصوت نفسه فيتكرر إحساسه به، وهذا مظهر من المظاهر التي أطلق عليها العلامة بلدوين "تقليد الطفل نفسه" أو "التفاعل الدائري عند الطفل". 3- وفي مبدأ هذه المرحلة يضع الطفل في معظم الكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 التي يقلدها، الأصوات نفسها التي كان يغلب عليه تكرارها في مرحلة "التمرينات النطقية", فإذا كان في تمريناته النطقية يغلب عليه تكرار مقطع "با" مثلًا، فإنه يضعه في معظم الكلمات التي يحاول محاكاتها في فاتحة تقليده اللغوي. فيقول مثلًا: "باد" "قاصدًا "أحمد"" و"باب" "قاصدًا "كتاب"", و"باية" قاصدًا "طاقية", و"باسي" قاصدًا "كرسي", و"باويت" قاصدًا "بسكويت", ... وهلم جرَّا. وهذا مظهر من مظاهر ما يسميه علماء النفس "مقاومة القديم للجديد, أو "آثار العادات اللغوية"، ويبدو في صورة أشد وضوحًا عند الكبار؛ إذ يتعلمون لغة أجنبية أو يحاكون ألفاظها، فيستبدلون بما تشتمل عليه هذه اللغة من أصوات لا عهد لهم بها أصواتًا شبيهة بما من أصوات لغتهم. 4- وفي مبدأ هذه المرحلة تكثر في لغة الطفل أصوات اللين "حروف المد" وتقل الأصوات ذات المقاطع "الحروف الساكنة"، فيحذف بعض الأصوات الساكنة من الكلمة، ويقحم عليها أصواتًا غريبة عنها "كاب= كلب، باتي= برنيطة أو قبعة ... إلخ". 5- وفي أوائل هذه المرحلة -في أواخر السنة الثانية تقريبًا- يظهر لدى الطفل ما يصح أن أسميه "بالمحاكاة الموسيقية للعبارات": فيحاكي الطفل أحيانًا بعض العبارات التي يسمعها مجرد محاكاة موسيقية، بأن يلفظ أصواتًا مبهمة تمثل في توقيعها الموسيقي أصوات العبارة التي يريد محاكاتها بدون أن تشتمل على كلماتها، كما تحول قطعة شعرية إلى قطعة موسيقية, وقد لاحظت هذا على أولادي عفاف وإقدام وحزم ونائل ووفاء وإخلاص, ولم أعثر على أحد قد لاحظه من قبلي على ما أعلم. 6- وفي مبدأ هذه المرحلة يسير الطفل ببطء كبير في محاكاته، فقد تمضي أشهر بدون أن يستطيع النطق بأكثر من بضع كلمات، مع أنه يكون فاهمًا لمعظم ما يسمعه وما يقال له -كما سبقت الإشارة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الإشارة إلى ذلك1, ثم تنحل عقدة لسانه مرة واحدة، وحينئذ يسير في هذه السبيل بخطًى حثيثة لدرجة يصعب معها على مَنْ يلاحظه أن يحصي ما يدخل في متن لغته كل يوم من كلمات جديدة, فمن مبدأ هذه المرحلة إلى أوائل الشهر الرابع من السنة الثانية, لم تكن ابنتي عفاف لتستطيع النطق إلّا بكلمة واحدة هي "باب"، ثم زاد متن لغتها كلمتين أخريين هما: "بو"= أمبو "أي: طلب الشرب"، "وكاني" =ثاني "تطلب بذلك تكرار الشيء مرة ثانية", وفي أوائل الشهر الخامس من السنة الثانية زاد متن لغتها, كلمة رابعة وهي "ماما". وفي أوائل السادس زاد كلمتين وهما "كاكا" "كانت تطلقها على الدجاجة والحمامة سواء أكانتا حيتين أم مطهوتين" و"نأ"= لا "علامة النفي", وفي أواخر التاسع زاد كلمتين وهما "ننا" "أي: النوم", و"إث"= إرش "أي: قرش". وفي أواخر العاشر زاد ثلاث كلمات وهي "أنناه= الله" "ما أحسن هذا", و"توتو" "أي: الكلب" و"نمنه"=نملة. ومن أواخر الحادي عشر من السنة نفسها -السنة الثانية- انحلت عقدة لسانها وأصبح من الصعب متابعتها وإحصاء ما يَجِدُّ في متن لغتها من كلمات, وفي أواخر الشهر الحادي عشر لم يكن ابني إقدام ليستطيع النطق إلّا بكلمة واحدة, وهي "بو" =أمبو= الماء أو الشرب, ثم زاد متن لغته كلمة ثانية وهو "بابا"، ثم كلمة ثالثة وهي "تاته" بمعنى المشي -كنا نكرر له هذه الكلمة في أثناء تدريبه على المشي"، ثم كلمة رابعة في الشهر الثاني من سنته الثانية وهي "ماما"، ثم كلمتين أخريين في الشهر السادس من سنته الثانية وهما "مم"= الطعام أو الأكل, و"كخ" "الشيء الردئ الذي لا يصح لمسه أو العمل القبيح الذي لا يصح الإتيان به"، وفي أوائل السنة الثالثة كان متن لغته يتألف من نحو خمس عشرة كلمة   1 انظر صفحات 130-132, وقد ذكر العلامة شترن أن أحد أبنائه، وسمعته خمسة عشر شهرًا، كان عدد الكلمات التي فهمها ثلاثة أضعاف الكلمات التي يستطيع النطق بها، وأنه لما بلغ العشرين شهرًا ما كان يستطيع حصر الكلمات التي يفهمها، على حين أن الكلمات التي كان ينطق بها حينئذ كانت محدودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فقط, ثم انحلت عقدة لسانه مرة واحدة, فأخذت لغته تزيد كل يوم كلمات كثيرة. وكذلك كان شأن ابنتي حزم؛ ففي الشهر الخامس من سنتها الثانية -مارس سنة 1943- كان متن لغتها يتألف من إحدى عشرة كلمة فقط, وقد ظهرت لديها على الترتيب التالي: "تاتا" أي: المشي، "باب" أي: الوالد، "مم" أي: الأكل، "ماما" أي: الوالدة، "نينا" نينة أي: جدتها، "ددا" أي: الحذاء الذي تلبسه وهي تمشي -كانت تسمى المشى نفسه تاتا، "نن" أي: النوم، "أدا" أي: فيفي "وهي أختها عفاف, "دد" أي: تحت -وكانت تقولها عندما تطلب نزولها إلى الدور الأسفل من المنزل أو إلى حديقته، "أما" أي: أحمد الخادم، "أوم" "كانت تلفظها هكذا ome" وتعني بها قم، وتقولها عندما تطلب إلى أحد أن يقوم لغرض ما تريده، ويفهم هذا الغرض من سياق الحال1, وفي أوائل سنتها الثالثة انحلت عقدة لسانها وأخذت لغتها تزيد كل يوم كلمات كثيرة. وقد سار ابني نائل وابنتي وفاء وابني إخلاص على الوتيرة نفسها التي سار عليها أخوتهم, مع اختلاف يسير في المفردات التي كان يتألف منها متن لغتهم في كل مرحلة من المراحل. وفي أواسط هذه المرحلة وأواخرها, تصل قوة التقليد اللغوي عند الطفل، في مهارتها ودقتها ونشاطها وغزارة محصولها, وأهميتها, وسيطرتها على النفس، إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه قوة إنسانية. ففي هذا الدور لا يدع الطفل أيَّ كلمة أو جملة جديدة يسمعها, أو يطلب إليه محاكاتها بدون أن يحاكيها، وإن عاقه طول جملة عن تكرارها جميعها، حاكى ما يعلق بذهنه من كلماتها, وبخاصة آخر كلمات فيها.   1 من الغريب أن ظهرت لديها في هذا الدور المبكر هذه الكلمة التي تدل على فعل الأمر، وفي معظم كلماتها السابقة كانت تقلد أخاها إقدامًا في لغته وفي مخارج حروفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ولا يقتصر على تقليد الكلمات والجمل التي يريده المحيطون به على محاكاتها، بل يحاكي كذلك من تلقاء نفسه كثيرًا من الكلمات التي ترد في محادثات الكبار على مسمع منه, حتى الكلمات الدقيقة منها؛ فقد كنت أتحدث مرة مع أسرة فرنسية في موضوع علمي على مسمع من طفلة صغيرة لهذه الأسرة, ما كانت تتجاوز إذ ذاك الخامسة من عمرها، فلاحظنا بعد حديثنا هذا أن الطفلة تستخدم في عباراتها بعض كلمات من المصطلحات العلمية التي كنا نستخدمها, والتي يندر استخدامها في الحديث العادي. ويحرص الطفل كل الحرص على ما يحصل عليه من مفردات وعبارات، وكثيرًا ما يبلغ به هذا الحرص أن يكرر هذه المفردات والعبارات في خلوته, ويؤلف من شتاتها أغاني وجملًا عارية عن الدلالة, ولكنها كبيرة الأثر في تثبيتها في ذهنه. ولا تظهر مهارة الطفل التقليدية في هذا الدور في محاكاة الكلمات والجمل فحسب، بل تظهر كذلك في محاكاة الأساليب الصوتية التي يلقي بها الكبار الجمل الإخبارية والاستفهامية والطلبية والتعجيبية والزجرية ... وهلم جرا، وفي محاكاة الحركات الجسمية واليدوية التي تصحب حديثهم. ولمهارة الطفل في التقليد اللغوي في أثناء هذه المرحلة ولشدة ميله إليه، يستطيع أن يتعلم بسرعة وسهولة عن طريق المحاكاة أية لغة أجنبية إذا أتيحت له فرصة الاختلاط بالمتكلمين بها، بل يستطيع أن يتعلم بهذه الوسيلة أكثر من لغة أجنبية واحدة, فالأطفال المصريون مثلًا الذي يبعثه بهم آباهم إلى المدارس الأجنبية في هذه الدور يأخذون عن طريق المحاكاة عن معلميهم ومعلماتهم اللغة التي يتكلمون بها، ولا يلبثون بعد أمد قصير أن يجيدوا هذه اللغة لدرجة لا يستطيع معها أكبر خبير في اللغات أن يميزهم من أهلها, والطفل إذا ولد من أبوين مختلفي اللغات أخذ عن كل منهما لغته, فيصبح ثنائي اللغة Bilingue, وإذا أتيح للطفل بصفة دائمة في هذا الدور سماع أكثر من لغتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أخذها جميعها عن طريق المحاكاة بدون أن يشعر أنه يتعلم، ووصل في إجادة كلٍّ منها إلى الدرجة نفسها التي يبلغها في لغته الأصلية، فينشأ متعدد اللغات Poyglotte, ومن أجل هذا تختار بعض الأسرات الموسرة لأولادها في هذا الدور مربيات مختلفات اللغات, حتى تنتقل إليهم بالمحاكاة جميع لغاتهن. ومن الطريف أن الطفل الذي تنتقل إليه عدة لغات عن هذا الطريق يتجه من تلقاء نفسه إلى محادثة كل شخص من المختلفين به باللغة التي أخذها عنه, أو التي يعرف أنها لغته, بدون أن يشعر أنه يتكلم عدة لغات. فقد روى الأستاذ جويوم أن طفلًا أبوه ألمانيّ, وأمه فرنسية, قد أخذ الألمانية عن أبيه, والفرنسية عن أمه، وكان إذا طلب إليه أبوه بالألمانية تبليغ أمر لأمه بلغها ذلك بالفرنسية بدون أن يشعر أنه يترجم إلى لغة أخرى الكلام الذي كلفه أبوه تبليغه. وفي هذا يختلف الكبار عن الصغار اختلافًا كبيرًا, فمهما بذل الكبار في تعلم لغة أجنبية من جهود, ومهما طالت مدة إقامتهم بين أهلها, فلن يصلوا في إجادتها من الناحية الصوتية إلى الدرجة التي يصل إليها الصغار في هذا الدور, والسبب في هذا راجع إلى أن الطفل يلبي في محاكاته داعي غريزته، ويسلك بهذا الصدد طريقًا محببًا إليه، ويسير على أسلوب يتفق مع ألعابه، فيسهل عليه بذل المجهود, ويؤتي مجهوده أكله. على حين أن الكبير يتعلم اللغة الأجنبية لغاية خارجة عنها, فيصعب عليه بذل المجهود في هذا السبيل. هذا إلى أن الكبار قد رسخت لديهم عادات كلامية خاصة, وتشكلت أعضاء نطقهم بالشكل الذي يلائمها، فيصبح من الصعب عليهم مع هذا اكتساب عادات صوتية جديدة مخالفة لعاداتهم الأولى, وليس الأمر كذلك عند الطفل، فأعضاء نطقه في هذا الدور تكون مرنة قابلة للتشكيل بمختلف الأشكال. وهذا مظهر من مظاهر ما يسميه علماء النفس: "مقاومة القديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 للجديد", أو "آثار العادات اللغوية" التي سبق أن أشرنا إليها1، والتي تظهر آثارها حتى عند الطيور, فقد لاحظ "لودانتك" أن صغار الطيور المغنية إذا نشأت مع فصيلة أخرى غير فصيلتها, قلدتها في غنائها، وأنها إذا بقيت مع هذه الفصيلة حتى كبرت ورسخت عندها هذه العادة الغنائية صعب عليها بعدئذ تقليد صوت فصيلتها نفسه. ولمهارة الطفل في التقليد اللغوي في هذه المرحلة، تسري إليه في أمد قصير لهجة المقاطعة التي ينتقل إليها أهله؛ فقد ذكر الأستاذ "شافر Schaffer" أنه قضى شهرين من إجازته الصيفية بفرنكونيا، فلاحظ أن ابنه الذي كان يبلغ حينئذ سنتين وثلاثة أشهر، قد سرت إليه لهجة هذه البلدة، ينطق الكلمات الألمانية وفق لهجتهم في نطقها، وأن هذا الأسلوب قد لازمه بضعة أشهر بعد رجوعه إلى بلده, وذكر الأستاذ "جويوم" أنه قضى مرة إجازته بشرقي فرنسا، فلاحظ أن أولاده، الذين كانوا يزيدون في سنهم عن ابن شافر، ينطقون حرف الراء الفرنسي R, كما ينطق به أهل هذه المقاطعة, وكما ينطق بالراء في اللغة العربية "وهذا يخالف طريقة النطق في منطقة باريس ما إليها، فأهل هذه المنطقة يلفظونه بين الراء والغين", وقد قضيت أنا مرة إجازتي مع أسرة باريسية بقرية من قرى فرنسا تسمى: سان كورنتان Saint Corintin, متاخمة لمقاطعة نورمانديا، فأدهشني كثيرًا أن طفلة صغيرة من هذه الأسرة، كانت حينئذ في الخامسة من عمرها، قد سرت إليها، بعد بضعة أسابيع من إقامتنا، لهجة هذه القرية، مع أن اختلاطنا بأهلها كان قليلًا, فأصبح أسلوب حديثها وتركيبها للجمل, ونطقها بالكلمات مطابقًا لأسلوب حديثهم وتركيبهم ونطقهم, وظهر هذا لديها حتى في مخارج الأصوات نفسها, وطريقة النطق ببعض حروف المد, فقد استحال مثلًا صوت المد الفرنسي oi "وا" في لسانها إلى صوت واو ممدودة بالألف الممالة Wai, كما كان شأنه في لسان   1 انظر أول صفحة 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أهل هذه القرية, "فكلمة Poire مثلًا كانت تنطقها Pwair، وكذلك كل الكلمات المشتملة على صوتoi", وعبثًا حاولنا إصلاح ما أصاب نطقها من لحن وتحريف، فإنها لما شعرت بامتعاضنا من طريقتها وسخريتنا بها, كانت تجتهد في أثناء كلامها معنا أن تكون باريسية اللهجة، فإذا خلت إلى أطفال هذه القرية أو كبارهم عادت إلى طريقتها, وبقيت آثار هذه اللهجة في حديثها بضعة أسابيع بعد عودتنا إلى باريس. 8- ولا يقتصر نشاط الطفل التقليدي في هذه المرحلة على الأصوات اللغوية، بل يمتد كذلك إلى ما عداها من الأصوات؛ كأصوات الحيوان والطيور, ومظاهر الطبيعة, والأصوات الشاذة, وأصوات المصابين بعاهات في النطق, والأصوات التي تحدثها الأفعال؛ كأصوات الضرب والقرع والسقوط, وما إلى ذلك. وهم في هذه الناحية كذلك أمهر كثيرًا من الكبار, فقد لاحظ العلّامة تين Tain, أن الأطفال في هذه المرحلة أدق وأمهر من الكبار في محاكاة أصوات الحيوان في صورتها الطبيعية, وذكر العلامة جوتمان أنه كان يتدرب على "فن التكلم الجوفي Ventrilloquie", "وهو معالجة النطق في صورة تشعر السامع أن الكلام صادر من بطن المتكلم, أو من شخص آخر غيره, وقد مهر فيه كثير من المشعوذين الذين يحاولون إيهام الناس أن الجن تلابسهم وتنطق من جوفهم" فأدهشه أن ابنه الصغير، الذي لم يتجاوز حينئذ الثانية من عمره، قد سبقه كثيرًا في هذا المضمار لمجرد سماعه لمحاولات أبيه. هذا، ويبدو أن اتجاه الطفل لمحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأصوات التي تحدثها الأفعال, يظهر قبل اتجاهه إلى محاكاة الكلمات, فقد كان في استطاعة ابنتي عفاف في الشهر الثالث من سنتها الثانية "9/ 4/ 45" أن تحاكي صوت طائفة كبيرة من الحيوان، مع أنها حينئذ لم تكن لتستطيع النطق إلّا بكلمة واحدة وهي "بابا". وقد كان في استطاعة ابني إقدام في الشهر الثاني من سنته الثانية أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يحاكي أصوات كثير من الحيوانات والأشياء للإشارة إليها "فو" = الطيارة أو السيارة، "آاْ"= الدجاجة، "أأْ آ"= الضرب ... إلخ", مع أنه في هذه المرحلة ما كان يستطيع النطق إلّا بأربع كلمات. ويسلك الطفل في تقليده لهذا النوع طريقتين: أحداهما أن يلفظه في صورته الطبيعية, أي: في أصوات مبهمة، وفي هذه الطريقة على الأخص تظهر مهارة الطفل، وثانيتهما أن يمثله في أصوات ذات مقاطع وأصوت مد ""ماء" لثغاء الخروف، "كاك" لصوت الدجاجة "هَوْ هَوْ" لنباح الكلب ... وهم جرا". ثانيًا: ومن أهم الظواهر المتعلقة بالدلالة في هذه المرحلة الأمور الآتية: 1- على الرغم من أن فهم الطفل لمعاني الكلمات يبدو لديه في المرحلة السابقة لمرحلة التقليد -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك1، فإن درجة فهمه تظل مدة طويلة ضعيفة وغير دقيقة, ويبدو هذا في مظاهر كثيرة من أهمها ما يلي: أ- أنه في أوائل هذه المرحلة يستخدم الكلمات القليلة التي يستطيع النطق بها استخدامًا واسعًا, يدل على عدم دقته في فهم مدلولاتها, فيحمل كلًّا منها من المعاني أكثر مما يحتمله، ويعبر بها عن جميع ما يرتبط بمعناها الأصلي برابطة ما, وقد يتجاوز هذا كله فيعبر بها عن أمور لا صلة لها مطلقًا بمعناها الأصلي؛ فيطلق مثلًا "الكاكا" على الدجاجة، والإناء الذي تقدم فيه، والطاهي الذي يعدها، وغرفة الطهو التي تعد فيها، والسكين الذي تذبح به، والقفص الذي تحبس فيه، والبيضة التي تبيضها ... وقد يتجاوز هذا كله فيطلقها على شيء أجنبي عنها؛ كالمكتب مثلًا, لأدنى ملابسة في ذهنه, أو لاضطراب معناها لديه, وقد لاحظت أن ابنتي عفاف في أوائل سنتها الثالثة تطلق كلمة "ننا" على النوم وما يشتق منه، وعلى جميع الأمور التي تشبهه أو تمت إليه بصلة.   1 انظر صفحتي 130-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فكانت تطلقها على السرير، وعلى الاختفاء فتقول "الكاكاننا" قاصدة التعبير عن اختفاء الدجاجة عن الأنظار، وعلى البعد والإبعاد فتقول "ماماننا" معبرة عن رغبتها في أن تبعد أمها عن مجلسنا، وعلى حفظ الشيء بعد الفراغ من استخدامه فتقول: "فوطة ننا" أي: أن المشوش "الفوطة" قد انتهت الحاجة إليه وحفظ في المكان المعتاد حفظه فيه, وكانت تطلق لفظ أمة =عمة "أي: عمامة" على الشخص الذي يلبسها. وهذا التوسع في الاستعمال لا ترجع أسبابه دائمًا إلى ضعف الفهم وعدم الدقة في إدراك المدلولات، بل ترجع أحيانًا إلى ضآلة محصول الطفل في الكلمات في ذلك العهد وحاجته إلى التعبير على أيِّ وجه، وترجع أحيانًا إلى الأمرين مجتمعين. ب- أنه في أوائل هذه المرحلة يطلق اسم الجنس على غير أفراده لأدنى مشابهة؛ فقد لاحظت أن ابنتي عفاف كانت إلى أواخر السنة الثانية تطلق "كاكا" "ومعناها الأصلي في لغتها الدجاجة" على الدجاج والحمام والأوز والبط ... وما إليها، وكلمة "ماء" "ومعناها الأصلي في لغتها الخروف" على الخروف والحمار.. وما إليها، و"ماما" على جميع السيدات، و"بابا" على جميع الرجال ... وهلم جرا. وكلما تقدمت سن الطفل وكثر محصوله اللغوي، يدق فهمه وتتحدد معاني الكلمات في ذهنه، فتتخلص من المدلولات الأجنبية التي كانت عالقة بها، وتتميز لديه الأجناس بعضها عن بعض، فيطلق على أفراد كل منها اسمها الخاص بها. 2- وفي أوائل هذه المرحلة تبدو لغة الطفل عارية عن الصرف والاشتقاق، فكل كلمة من كلماته تلازم شكلًا واحدًا، وتدل في شكلها هذا على جميع ما يشتق منها ويتصل بها, ومع تقدم الطفل في هذه المرحلة يدرك العلاقة بين تغير بنية الكلمة وتغير معناها أو زمنها، فتظهر حينئذ عناصر الصرف والاشتقاق في لغته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 3- وفي مبدأ ظهور هذه العناصر يميل الطفل إلى القياس والسير على وتيرة واحدة حيال جميع الكلمات, فتراه مثلًا يتبع طريقة واحدة في التأنيث، فيقول: خروف وخروفة, وحصان وحصانة, وأحمر وأحمرة وأبيض وأبيضة وأصفر وأصفرة, كما يقول: قط وقطة, وكبير وكبيرة, وقد ظل ابني إخلاص ينطق بالصفات الدالة على اللون على هذه الطريقة حتى أوائل سنته السادسة. 4- يفتتح الطفل هذه المرحلة بالنطق بكلمات مفردة قاصدًا به التعبير عما نعبر عنه بالجمل, فيقول مثلًا: "باب" قاصدًا افتح الباب، و"شباك" قاصدًا اقفل الشباك، و"عصا" قاصدًا اضرب القط بالعصا ... وهلم جرا، ويفهم غرضه من السياق والظروف المحيطة به, والإشارات اليدوية والجسمية التي تصحب كلامه. ويختار الطفل عادة للتعبير عن الجملة الكلمة التي يجيد النطق بها أو الكلمة التي تسبق غيرها إلى لسانه، ولو لم تكن ذات أهمية في المعنى الذي يريد تقريره, فمن ذلك أن ابنتي عفاف وسنها ثمانية عشر شهرًا وبضعة أيام "2/ 8/ 35" كانت تسير القهقري، فعثرت في إناء كان يوضع فيه اللبن لهرتها وأولادها الصغار، وكاد يختل توازنها، ولما تبين لما السبب في عثرتها قالت "بو" "بو=أمبو= الشرب"، أي: أن السبب في ذلك هو الإناء الذي تشرب فيه الهرة وصغارها لبنها. ثم ترتقي لغة الطفل بهذا الصدد, فتصبح ثنائية الكلمات, عفاف في أوائل السنة الثالثة: "ماء مم" أي الخروف يأكل، "ماما ننا" أي: يجب أن تغادر مام هذا المكان ... " وبعد ذلك بقليل تصبح لغته ثلاثية الكلمات, عفاف في الشهر الرابع من السنة الثالثة: "ماما أوه أنا"= ماما ألم هنا، مشيرة إلى رقبة والدتها، أي: أن برقبة أمها ألمًا أو مرضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أما تركيب الجمل تركيبًا كاملًا فلا يصل إليه الطفل إلّا في أواخر هذه المرحلة. 5- وفي مبدأ ظهور الجمل في لغة الطفل تبدو عارية عن الروابط والحروف، ويبدو تركيبها ساذجًا، وتبدو كلماتها بدون تنسيق ولا ترتيب، فيوضع بعضها بجانب بعض كيفما اتفق, ومن نماذج هذا ما قالته ابنتي عفاف في 30/ 7/ 36: "أنا نونو" "صغيرة" دده "هكذا -وقوست ظهرًا لتمثل الحالة التي كانت عليها وهي صغيرة, "ماما دز "بز، ثدي" ساه "شاي"، أي: حينما كنت صغيرة على هذه الصورة كانت والدتي ترضعني الشاي في الثدي الصناعي. وقد يرتب الطفل أحيانًا كلمات جملته بشكل يتفق مع ما لكل منها من أهمية في نظره، فيبدأ بأكبرها أهمية ويتدرج حتى ينتهي بأقلها شأنًا, فيقول مثلًا: "عصايا بابا ضرب محمد" قاصدًا أن أباه ضرب محمدًا بالعصا. فيقدم "العصا" لأنها أكبر عناصر الجملة أهمية في نظره، فانتباهه قد تعلق بها أكثر من تعلقه بما عداها، ولأن بيان آلة الضرب هو أهم ما يرمي إليه من جملته، ثم يتبعها بالكلمة الدالة على الشخص الذي استصل بها اتصالًا مباشرًا وقام بتحريكها، وهو "بابا"، ثم يأتي بالكلمة الدالة على أثر تحريك أبيه العصا, وهي "ضرب"، ويختم جملته بكلمة "محمد" الذي لم يقم بعمل إيجابي في الحادث الذي يريد الطفل التعبير عنه. 6- وفي قسم كبير من هذه المرحلة يتأثر الطفل في مفردات لغته وتراكيبها وقواعدها بأكثر مخالطة له وأحبهم إليه؛ كأمه ومربيته وأخيه الأكبر وأخته الكبيرة، فتغلب في لغته مظاهر التقليد لهؤلاء، حتى إنها لا تكاد تختلف في معظم هذه المرحلة عن لغتهم, وعن هذا الطريق ينتقل إلى لغة الطفل ويعلق بها بعض أخطاء في المفردات والقواعد والأساليب، حتى الأخطاء التي تكون ناشئة عن خلل في أعضاء النطق للشخص الذي تغلب عليه محاكاته، وتظل هذه الأخطاء ملازمة للطفل أمدًا طويلًا, ومن غريب ما لاحظته بهذا الصدد أن ابنتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "حزم" كانت تعبر عن نفسها بصيغة المذكر، فتقول مثلًا: "أنا نازل، أنا طالع، أنا خارج ... إلخ" بدلًا من "أنا نازلة، أنا طالعة، أنا خارجة ... إلخ", وهي في ذلك كانت تحاكي أخاها "إقدامًا" في تعبيره عن نفسه, ومع أننا لم نأل جهدًا في إصلاح طريقتها هذه, وإبداء السخرية بها، فقد ظلت عالقة بلسانها إلى ما بعد الخامسة من عمرها, وقد ظل ابني نائل حتى أوائل السادسة من عمره يعبر عن نفسه في بعض الأحوال بصيغة المؤنث، فيقول مثلًا: أنا عارفة, أنا عايزة، بدلًا من "أنا عارف، أنا عايز -أريد, ولكنه في ذلك، على ما يظهر لي، لا يقلد إحدى أخواته، وإنما يقلد والدته في تعبيرها عن نفسها لشدة ملازمته لها. 7- وأول كلمات تبدو عند معظم الأطفال هي أسماء الذوات، وتظهر بعدها بعدها الأفعال1, ثم الصفات2, ثم الضمائر, ولعدم وجود الضمائر في لغة الطفل في مبدأ هذ المرحلة نراه يعبر عن نفسه   1 لاحظت أن أول نوع من الأفعال ظهر في لغة ابنتي عفاف كان فعل الأمر, ففي أوائل السنة الثالثة -ابتداء من 4/ 3/ 36- نطقت بفعل "تاني" =تعال -أمر بالمجئ, و"استنى" -أمر بالانتظار، وكانت تستعمل هذين الفعلين مسندين للمذكر دائمًا, ولو كان المخاطب مؤنثًا، و"أدى"= خدي -أمر بالأخذ, و"آتي"= هاتي -أمر بالإعطاء, وكانت تستعملها مسندين للمؤنث دائمًا, ولو كان المخاطب مذكرًا, ولم يظهر المضارع والماضي في لغتها إلّا في مرحلة لاحقة لهذه المرحلة, ومثل هذا لاحظته على أولادي إقدام وحزم ونائل ووفاء وإخلاص. وقد ظهر فعل من أفعال الأمر وهو "أوم=قم" عند ابنتي حزم في سن مبكرة -في الشهر الخامس من سنتها الثانية, كما سبقت الإشارة إلى ذلك بصفحة 138 وتعليقها. 2 قد تظهر الصفات عند بعض الأطفال في مرحلة سابقة لمرحلة ظهور الأفعال، بل لاحظ العلامة بريير preyer, أن أول كلمة نطق بها ابنه كانت صفة, والذي لاحظته على ابنتي عفاف أن الصفات والأفعال قد ظهرا لديها في وقت واحد, ولكنهما ظهرا متأخرين عن أسماء الذوات؛ ففي الوقت الذي كانت تنطق فيه بأفعال الأمر التي تقدمت الإشارة إليها في التعليق السابق, كانت تنطق ببعض صفات: فمن ذلك "دح" بمعنى جميل "4/ 3/ 36", و"أحمح" بمعنى آحمر, "وكانت تستعمله في صيغة المذكر دائمًا ولو كان الموصوف مؤنثًَا" و"بيده" أي: بيضاء "وكانت تستعلمها في صيغة المؤنث دائمًا ولو كان الموصوف مذكرًا" وقد ظهرا لديها في 11/ 7/ 36, ومثل هذا لاحظته على أولادي إقدام وحزم ونائل ووفاء وإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 باسمه العلم, فيقول مثلًا: "فيفي مم" أي: فيفي تريد أن تأكل1"، ولا تظهر الحروف وما يشبهها من الظروف وأسماء الشرط إلّا في منتصف هذه المرحلة أو أواخرها2, ولذلك تظهر جمل الطفل في المبدأ عارية عن الروابط والحروف -كما سبقت الإشارة إلى ذلك3. والسبب في هذا راجع إلى أن الطفل يسير في ارتقائه اللغوي وفقًا لارتقاء فهمه، فدرجة نموه الفكري في مبدأ هذه المرحلة لا تتيح له أكثر من فهم الكلمات الدالة على أمور حسية يمكن أن يشار إليها، ولذلك اقتصر متن لغته في هذا الدور على أسماء الذوات, فإذا نما تفكيره أمكنه أن يدرك مدلولات الكلمات المعبرة عن أمور معنوية، وحينئذ تظهر في لغته الأفعال الدالة على الحدث والزمان, والصفات الدالة على معنًى كلي تتلبس به الذوات بشكل عارض, وما إليهما, ولما كانت الحروف والروابط أدق أنواع الكلمات مدلولًا، لم يتح له فهمها إلّا في أواسط هذه المرحلة أو أواخرها, فتأخر ظهورها تبعًا لذلك.   1 غير أني لاحظت على ابنتي عفاف أن ضمير المتكلم المنفصل "أنا" قد ظهر في لغتها يوم 19/ 1/ 36, أي: قبيل ظهور الصفات والأفعال, ولاحظت كذلك أنها تستخدمه استخدامًا صحيحًا, فلا تعامله معاملة الأعلام كما يفعل بعض الأطفال في هذه المرحلة, بل تستعمله حينما تريد الإشارة إلى نفسها. 2 لم تظهر الحروف وما إليها في صورة واضحة عند ابنتي عفاف إلّا في أوائل الشهر الرابع من سنتها الثالثة, ففي 11/ 5/ 36 ظهرت "إنا" بكسر الهمزة بمعنى هنا "ماما أوه أنا= ماما تشكو ألما هنا, مشيرة إلى رقبتها". وفي 11/ 7/ 36 ظهر في لغتها "بنيد" بمعنى بعيد, و"إيه ده" أي: ما هذا, و"يا، النداء", "أيه ده يا بابا= ما هذا يا بابا". أما قبل هذا العهد فما كان يوجد في لغتها من هذه الفصيلة إلّا كلمتان ظهرتا مبكرتين قبل أوانهما؛ أحداهما "نأ" بنون مفتوحو فهمزة ساكنة، بمعنى لا "أداة النفي, وقد ظهرت في الشهر التاسع من سنتها الثانية، وثانيتهما "نام" بنون مفتوحو فهمزة مفتوحة فميم, بمعنى نعم -أداة الإيجاب, وقد ظهرت يوم 20/ 12/ 35 ومن غريب ما لاحظته على ابنتي عفاف بهذا الصدد أن واو العطف مع كثرة تكرارها في الكلام, ومع فهمها لمدلولها قد تأخر ظهورها كثيرًا في لغتها، فقد طلب إليها يوم 26/ 7/ 36 أن تقول للخادمة: "أنت كخ وعبيطة" فقالت لها: "أنت كخ أنت أبيطة" فكررت الضمير بدلًا من واو العطف، ومن الواضح أن تكرارها للضمير دليل على فهمها لمدلول واو العطف. 3 انظر صفحة 146 رقم 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقد قسَّم العلامة شترن Stern, هذا الطريق إلى ثلاث مراحل، سمى أولها "مرحلة المادة" Stade de la substance, وهي المرحلة التي تظهر فيها أسماء الذوات، وسمى ثانيتها "مرحلة العمل" Stade de l a ction, وهي المرحلة التي تظهر فيه الأفعال، وسمى الثالثة "مرحلة العلاقات" Stade des relations, وهي المرحلة التي تظهر فيها الحروف والروابط1. 8- يكثر في لغة الطفل في أوائل هذه المرحلة الكلمات المأخوذة عن أصوات الحيوان والأشياء, والتي يقصد بها التعبير عن مصادرها, أو عن أمور تتصل بها "ماء للخروف، كاكا للدجاجة، أأ للضرب، مم للأكل ... وهلم جرا", وقد ثبت أن بعض هذه الكلمات يصل إليها الطفل بنفسه بدون تلقين الكبار. 9- يعتمد الطفل في معظم هذه المرحلة اعتمادًا كبيرًا على لغة الإشارة، فيمزجها بلغته الصوتية لتحديد مدلولها, وتوضيح مبهمها, وتكملة نقصها, وتمثيل حقائقها2, وقد يستخدمها وحدها في التعبير عما يود التعبير عنه, ويكثر هذا لديه قبل ظهور اللغة، أي: قبل دخوله مرحلة التقليد، وفي أوائل هذه المرحلة؛ ففي أوائل السنة الثانية كانت ابنتي عفاف تقتصر في التعبير عن كثير من حاجاتها على الإشارة اليدوية والجسمية. فمن ذلك أنها في تعبيرها عن الفيل كانت تقبض أصابعها ما عدا السبابة وتضع كفها بهذا الشكل تحت شفتيها, وتحرك السبابة كما يحركها المصلي في تشهده, ممثلة بذلك خرطوم الفيل وحركته, وكانت تستخدم هذه الحركات كلما طلبت الذهاب إلى حديقة الحيوان، أو سئلت عما رأته بها، أو طلب إليها بيان ما تمثله صورة فيل.. وهلم جرا.   1 V Delacroix Langage et Pensee 394 395. 2 من أوضح النماذج بهذا الصدد ما صدر عن ابنتي عفاف "يوم 13/ 3/ 36"؛ إذ أشرت في كتاب فرنسي إلى صورة غزال يرعى الكلأ, وطلبت إليها أن تذكر ما تمثله هذه الصورة فقالت: "ماء مم" "أي: حيوان يأكل"، وعززت هذا بأن مثلت هيئة حيوان وحركت فكيها وشفتيها كما تحركها في أثناء الأكل. انظر مثالًا آخر بصفحة 146 رقم 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد تبلغ لغة الإشارة عند بعض الأطفال شأوًا كبيرًا، فيستطيعون التعبير بها عن معانٍ دقيقة وقصص طويلة. فقد أردت مرة في أواخر السنة الثانية لابنتي عفاف "22-11-35" أن أشغلها عن اللعب في سريرها لتتفرغ للنوم، فأخذت أقص عليها بالألفاظ التي تفهمها وبالحركات, قصة طويلة تتعلق بأسد كان يأكل قطعة لحم فسقط عليه غراب وضربه بمنقاره, واختطف منه قطعة اللحم, وطار بها حتى نزل على شجرة, وأخذ يأكلها. فاستأثرت هذه القصة بانتباهها, وكانت كلما فرغت من مرحلة من مراحلها تشير إلى إشارة الفاهم المتتبع لحديثي قائلة: "إيه، إيه", وبعد أن فرغت من القصة أخذت أسألها عنها كما يفعل المدرس عقب درس محادثة، فطفقت تمثل بحركات يديها وفهما أعمال الأسد وهو يتناول غذاءه، ثم حركات الغراب إذ ضرب الأسد بمنقاره واختطف منه قطعة اللحم، وإذ طار بها إلى الشجرة ... إلخ، غير مستخدمة في ذلك إلّا بضع ألفاظ، ككلمة "أاْ" التي كانت تعبر بها عن الضرب، وكلمة "مم" التي كانت تعبر عن الأكل. المرحلة الرابعة: مرحلة الاستقرار اللغوي: وهي المرحلة الأخيرة في هذا السبيل، وتبدأ من سن السادسة أو السابعة أو الثامنة تبعًا لاختلاف الأفراد. وبدخول الطفل في هذه المرحلة تستقر لغته, وتتمكن من لسانه أساليبها الصوتية، وترسخ لديه طائفة كبيرة من العادات الكلامية الملائمة لطبيعتها الخاصة. ومن أجل ذلك يشعر الطفل في هذه المرحلة بصعوبة كبيرة في تعلم اللغات الأجنبية, وتبدو هذه الصعوبة أوضح ما يكون في النطق بالكلمات المشتملة على أصوات لا نظير لها في أصوات لغته, فالطفل المصري مثلًا يجد في هذه المرحلة صعوبة كبيرة في النطق بالكلمات الإفرنجية المشتملة على مثل هذه الحروف: v p j u eu etc هذا، ولا ينتهي الأمر بلغة الطفل في هذه المرحلة إلى أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 مطابقة كل المطابقة للغة الجيل الذي أخذها عنه، بل تستقر لديه في صورة تختلف بعض الاختلاف عن لغة آبائه, ويرجع هذا الاختلاف إلى أسباب كثيرة, سنعرض لها في فصول الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 4- عوامل كسب الطفل للغة : يتوقف التقليد اللغوي عند الطفل على عوامل كثيرة, من أهمها ما يلي: 1- وضوح الإحساسات السمعية وتمييزها بعضها عن بعض: يولد الطفل أصم، ويتمد صممه هذا حتى اليوم الرابع أو الخامس، وحينئذ تبدو لديه أمارات السمع, غير أن إحساساته السمعية تظل مبهمة إبهامًا كبيرًا, ويظل عاجزًا عن تحديد مصادرها حتى أواخر الشهر الرابع، ثم ترتقي ارتقاءً بطيئًا حتى أوائل السنة الثانية، ثم تدخل في دور النضج الذي يستغرق أمدًا غير قصير. فالموازنة بين هذه المراحل والمراحل التي تسير فيها لغة الطفل، والتي سبق الكلام عنها في الفقرة السابقة، يتبين أن ظاهرة التقليد اللغوي تتبع في رقيها ظاهرة الإحساس السمعي. أما السبب في ذلك فلا يحتاج إلى بيان؛ فالطفل في تقليده يحاكي ما يصل إليه عن طريق السمع, فمن البديهي أن تتوقف هذه المحاكاة على وجود قدرة السمع لديه, وأن تتأثر في ارتقائها بما ينال هذه الحاسة من دقة وتهذيب. ولذلك نرى أن من يولد أصم ينشأ أبكم, ولو كانت أعضاء نطقه سليمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 2- الحافظة والذاكرة السمعيتان, ونعني بذلك القدرة على حفظ الأصوات المسموعة, وعلى تذكرها واستعادتها عند الحاجة إليها. ولا تبدو هذه القدرة عند الطفل إلّا بعد بضعة أسابيع بعد ولادته1، وتظل ضعيفة حتى أواخر الشهر الرابع، ثم ترتقي ارتقاءً بطيئًا حتى أوائل السنة الثانية، وحينئذ تبدأ مرحلة نضجها. فهذا العامل يقطع في طريق نموه المراحل نفسها التي يقطعها العامل الأول، وتصحبهما في سيرهما ظاهرة التقليد اللغوي؛ تظهر بظهورهما، وتنمو بنموهما. أما وجه توقف التقليد اللغوي على هذه الظاهرة فلا يقل وضوحًا عن توقفه على الظاهرة الأولى، وذلك أن الكلمة التي يحاكيها الطفل لا تصبح جزءًا من لغته إلّا إذا استطاع حفظها واستعادتها عند الحاجة إلى التعبير عما تدل عليه. 3- فهم الطفل لمعاني الكلمات, على الرغم من أن فهم الطفل لمعاني الكلمات يسبق قدرته على النطق بها -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- فإن هذا الفهم شرط ضروري للتقليد اللغوي, وعامل أساسي من عوامل نموه, وقد عرضنا في الفقرة السابقة لأمور كثيرة تدل على توقف التقليد اللغوي على هذا العامل، وتثبت أن كل ارتقاء في تفكير الطفل ودرجة فهمه يتبعه ارتقاء في تقليده ونمو في محصوله اللغوي، وتبين وجوه العلاقة بين الأمرين2, ولا أدل على هذا التوقف وهذا التلازم من أن الطفل الذي يولد مصابًا بجنون يحول بينه وبين فهم معاني الكلمات ينشأ أبكم, ولو كانت أعضاء سمعه ونطقه سليمة. فالعوامل الثلاثة السابقة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا،   1 تظهر متأخرة عن موعد ظهور "الذاكرة البصرية" "ذكر الأشياء المنظورة". 2 انظر مميزات الدلالة في هذا الدور بصفحات 143-150, وخاصة من آخر ص 147 إلى 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والتقليد في اللغة متوقف عليها مجتمعة في نشأته وفي تطوره, فعدم ظهوره قبل الشهر الخامس يرجع سببه إلى عدم وجودها قبل هذه السن، وضعفه في مرحلة "التمرينات النطقية" يرجع سببه إلى ضعفها في هذه المرحلة، وقوته في المرحلة التالية "مرحلة التقليد اللغوي" مدين بها الطفل لقوتها في هذا الدور. غير أنه يحدث عند بعض الأطفال أن يتخلف التقليد عن هذه العوامل الثلاثة, فقد لوحظ أن بعض الأطفال يفهمون في سن مبكرة معظم ما يقال لهم "وفي هذا دليل على توافر العوامل الثلاثة توافرًا كاملًا"، ومع ذلك لا تظهر لديهم بوادر المحاكاة اللغوية إلّا في السنة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. ولوحظ كذلك أن بعض الأطفال يتقدمون كثيرًا في السن ولا يتكلمون إلّا بمعالجة واستخدام وسائل غير طبيعية مع سلامة أعضاء نطقهم وسمعهم وقواهم الفكرية، ومع أن سلوكهم في مرحلة بكمهم هذه يدل على فهمهم لما يوجه إليهم أو يقال حولهم من حديث، ولوحظ أن هذا التأخر اللغوي يتبعه غالبًا تأخر في المشي عند الطفل. ويرجع في الغالب سبب هاتين الظاهرتين معًا "تأخر الكلام وتأخر المشي" إلى خمول محلي في أعضاء النطق والحركة، أو كسل طبيعي عام، أو تراخي الطفل وقلة نشاطه, وضعف رغبته في الاشتراك في الحياة الاجتماعية. ولهذا يجدر أن نضيف إلى هذه العوالم الثلاثة عاملًا رابعًا، وهو نشاط الطفل الحيوي وقوة عزمه وإرادته ورغبته في الاشتراك في حلبة الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 5- أثر النظر في التقليد اللغوي : ترى طائفة من الباحثين -على رأسها الأستاذ Onufrowicz- أن لحاسة النظر دخلًا كبيرًا في التقليد اللغوي، وأن رؤية الطفل لشفتي المتكلم وحركتهما، وعمله على محاكاة هذه الحركة، وإخراجه الصوت الذي يتلاءم معها، كل ذلك يساعده على إجادة عملية التقليد ويذللها له، وأن هذه الرؤية لا تقل أثرًا بهذا الصدد عن العوامل الثلاثة التي ذكرناها في الفصل السابق. وأهم الأدلة الي يقدمها هؤلاء على صحة نظريتهم ترجع إلى ما يلي: 1- أن الطفل في مبدأ هذ المرحلة لا يستطيع محاكاة صوت يصدر من متكلم غير مواجه له, وهذا دليل على توقف التقليد اللغوي، في مراحله الأولى على الأقل، على رؤية شفتي المتكلم وملاحظة حركاتهما. 2- أن الأطفال في مرحلة "التمرينات النطقية1", وهي المرحلة السابقة لمرحلة التقليد اللغوي، يوجهون اهتمامًا كبيرًا إلى ملاحظة شتفي المتكلم, وملاحظة حركاتهما, ويحركون شفاههم في صورة يحاولون بها محاكاة ما رأوه بدون أن يلفظوا صوتًا ما, وهذا يدل على أن محاكاة الطفل للآثار المرئية للصوت تسبق تقليده للصوت نفسه، وتمرنه على هذا التقليد، وتهيئ له عنصرًا هامًّا من عناصره. 3- أن أول كلمات يقلدها الطفل هي الكلمات التي تكثر فيها الحروف الشفوية، وهي الحروف التي تخرج من الشفتين ويقتضي نطقها   1 انظر آخر ص129 وتوابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 تحركهما حركات ظاهرة مرئية تصل إلى الطفل عن طريق حاسة البصر: "بابا", "ماما" ... إلخ. وهذا دليل على أهمية النظر في التقليد اللغوي، وخاصة في المراحل الأولى لهذا التقليد. 4- أن الطفل الأكمه -الذي يولد أعمى- يقضي في كسب اللغة عن طريق التقليد مدة أطول من المدة التي يقضيها في العادة طفل بصير, أو طفل طرأت عليه هذه العاهة بعد أن قطع قسم من مرحلة التقليد اللغوي. فللنظر إذن دخل في سير هذا التقليد وتخفيف أعبائه وتيسير عناصره. 5- أن الأطفال الذين يولدون صمًّا يمكن تعليمهم النطق عن طريق محاكاتهم للحركة المرئية التي تتحرك بها أفواه المتكلمين وشفاهم, فللنظر إذن أهمية كبيرة في عملية التقليد اللغوي، حتى إنها قد تتم أحيانًا بمساعدة النظر وحده, وتستغني استغناءً تامًّا عن السمع. وقبل أن نعرض لقيمة هذه الأدلة، يجدر بنا أن نبين أن النظرية نفسها قائمة على أساس غير سليم. وذلك أن عملية التقليد اللغوي يتوقف نجاحها على مبلغ مطابقتها للأصل الذي تحاكيه، وأن هذه المطابقة لا يصل إليها الطفل لأول وهلة، قد تقتضيه معالجة صوته, والعمل بالتدريج على إصلاح ما عسى أن يكون قد وقع فيه من أخطاء، كما تقدم بيان ذلك1. ويتاح للطفل هذا الإصلاح بفضل إحساسه للصوت الذي يلفظه, والموازنة بينه وبين الصوت الذي سمعه, أو بينه وبين ما يذكره عن هذا الصوت. ولو كان الطفل يعتمد في تقليده اللغوي على محاكاة ما يراه من حركات الشفتين كما تقول هذه النظرية، لما استطاع سبيلًا إلى هذا الإصلاح؛ لأنه لا يمكنه أن يرى كيف تتحرك شفتاه هو، فلا يستطيع أن يعرف أن   1 انظر صفحتي 133-135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 كانت حركاتهما قد جاءت مطابقة للحركات التي رآها أم غير مطابقة لها, ولا يستطيع تبعًا لذلك أن يحدد مواطن الخطأ تحديدًا دقيقًا, ولا أن يصل إلى مطابقة صحيحة. هذا إلى أن معظم الأصوات اللغوية تعتمد في مخارجها على حركات غير مرئية تؤديها أعضاء غير ظاهرة؛ كحركات الجوف والحلق والحنك واللسان, فليس في اللغة العربية مثلًا إلّا أربعة أصوات شفوية "الفاء والباء والميم والواو"، بينما تشتمل على أربعة وعشرين صوتًا من الأنواع الأخرى, فلو كان للنظر دخل ما في التقليد اللغوي لتعذر على الطفل أو صعب عليه محاكاة قسم كبير من أصوات لغته، أو لكانت محاكاته للأصوات الشفوية أدق من محاكاته لما عداها, وكلتا هاتين النتيجتين لا تتفق مع الواقع في شيء. وأما الأدلة التي يعتمد عليها أصحاب هذه النظرية, والتي سبق تلخيص أهمها، فبعضها يتضمن حقائق غير مسلَّم بها أو غير صحيحة، وبعضها لا يدل دلالة قاطعة على ما يذهبون إليه، وبعضها يظهر من تحليله أنه دليل عليهم لا لهم: 1- فأما ادعاؤهم أن الطفل في أول مرحلة التقليد اللغوي لا يستطيع محاكاة صوت يصدر من متكلم غير مواجه له، فلا يتفق مع الواقع في شيء؛ إذ الحقيقة أن الطفل في فاتحة هذه المرحلة كثيرًا ما يحاكي أصواتًا وكلماتٍ لا يرى مصدرها, أو يبعد مصدرها عنه؛ بحيث لا يستطيع أن يرى حركات فمه وشفتيه، ولا تقل محاكاته إياها في جودتها عن محاكاته لما يصدر عن شخص مواجه له. 2- وأما ما يوجهه الطفل في مرحلة "التمرينات النطقية" من اهتمام بملاحظة شفتي الكلام، فليس ذلك ناشئًا عن رغبته في تقليد حركاتهما كما يزعم أصحاب هذه النظرية، وإنما ينشأ عن رغبته في الوقوف على مصدر الصوت, وهذه الرغبة فطرية قائمة على غريزة الاستطلاع عند الطفل، وتبدو حيال جميع الأصوات سواء في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أصوات الأناسي والحيوانات والأشياء، وتظهر أماراتها لديه من الشهر الرابع, أي: في المرحلة نفسها التي تبدأ فيها "التمرينات النطقية". هذا إلى أن الطفل في هذه المرحلة يميل إلى التحديق في كل ما يتحرك أمامه، ويتبعه بنظره ما دام متحركًا، لرغبته في تقليد حركته, بل لمجرد رغبته في رؤية الحركة وتتبعها, وهذا ضرب مما يسميه علماء النفس "ألعاب الحواس" عند الطفل1, وهو قائم كذلك على غريزة حب الاستطلاع؛ فملاحظة الطفل لشفتي المتكلم في أثناء تحريكهما لا تختلف في الباعث عليها عن ملاحظته لأية هنة تتحرك أمامه. 3- وأما ما يعمله الأطفال أحيانًا، عقب ملاحظتهم لشتفي المتكلم، من تحريك لشفاهم في صورة يحاولون بها تقليد ما رأوه بدون أن يلفظوا صوتًا ما، فقد دلَّت الملاحظات على أن هذه الظاهرة لا تبدو لديهم إلّا حوالي الشهر السابع، أي: في مرحلة "التقليد اللغوي" نفسها, أو قبلها بأمد يسير؛ فالتفسير المعقول إذن لهذه الظاهرة: هو أن الطفل في هذه المرحلة المبكرة نوعًا ما يحاول محاكاة الأصوات الجهرية التي يسمعها بأن يلفظها في أصوات خفية غير مسموعة، ومحاولته هذه هي التي تجعل شفتيه تتحركان حركات مطابقة لحركات شفتي المتكلم أو مشبهة لها, فلسنا إذن بصدد محاكاة مقصودة لحركات الشفتين، بل بصدد محاولة لمحاكاة الصوت المسموع محاكاة خفية تصحبها حتمًا حركات الشفتين في صورة غير مقصودة بالذات. 4- وأما زعمهم أن أول كلمات يقلدها الطفل هي الكلمات التي تكثر فيها الحروف الشفوية "وهي الحروف التي تخرج من الشفتين, ويقتضي نطقها تحركهما حركات ظاهرة مرئية تصل عن طريق حاسة النظر" فزعم غير صحيح؛ فقد دلت المشاهدات على أن الفوج الأول من كلمات الطفل يتألف من أصوات متنوعة المخارج والصفات2. 5- وأما ما يظهر لدى الطفل الأكمه من ضعف في التقليد اللغوي   1 انظر كتابنا "اللعب والعمل" ص37. 2 انظر صفحتي 137، 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وطول في المدة التي يقتضيها في كسب لغته بالقياس إلى الطفل البصير، فلا يرجع سببه إلى عدم رؤية الحركات التي تبدو على شفتي المتكلم كما يدعي أصحاب النظرية التي نحن بصددها، وإنما يرجع إلى صعوبة فهمه لمعاني ما يسمعه من كلمات, وذلك أن من وسائل هذا الفهم ما لا يتاح الانتفاع به إلّا للبصير، كإشارة المتكلم في أثناء النطق بالكلمة إلى الشيء الذي تدل عليه، والحركات اليدوية والجسمية التي تصحب الكلام عادة, وتساعد على فهم ما يقصد إليه المتكلمون, وقد تقدَّم أن فهم معاني الكلمات عامل هام من عوامل التقليد اللغوي1, فعدم تمكن الطفل الأكمه من الانتفاع بطائفة من وسائل هذا الفهم، هو الذي يسبب ضعفه في هذا الصدد, ويؤدي إلى تأخره عن البصير. 6- وأما تعليم النطق للأطفال الذين يولدون صمًّا عن طريق أخذهم بمحاكاة الحركات المرئية التي تتحرك بها أفواه المتكلمين وشفاههم, فلا ينهض دليلًًَا على صحة هذه النظرية لأسباب كثيرة: منها: أن تعلمهم النطق عن هذا الطريق لا يتاح إلّا بتربية مقصودة في مدارس خاصة، وبمعالجة طويلة شاقة، واستخدام وسائل صناعية كثيرة, فلو ترك الطفل الأصم منذ الولادة وشأنه لنشأ أبكم، ولو لم يكن به أي عطب في أعضاء نطقه2, وفي هذا دليل على أن الطفل بطبعه لا يعتمد على نظره في التقليد اللغوي، ولا يحاول الانتفاع به إلّا إذا أخذ بذلك أخذًا، ووجه إليه توجيهًا مقصودًا، ودُرِّبَ عليه بوسائل صناعية, ومعالجة طويلة, وغنيٌّ عن البيان أن في هذا دليلًا على أصحاب هذه النظرية لا دليلًا لهم. ومنها: أن تعليم الأصم الكلام عن هذا الطريق لا يمكن الشروع فيه قبل سن الثامنة أو التاسعة, أي: بعد انتهاء مرحلة "التقليد اللغوي"، أما قبل ذلك فكل مجهود يبذل في هذا السبيل يذهب   1 انظر صفحات 147-149، 152. 2 وكذلك الطفل الذي يصاب بالصمم قبل أن يبلغ الرابعة، أي: قبل أن يقارب مرحلة الاستقرار اللغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أدراج الرياح, وفي هذا دليل على أن الطفل لا يتجه مطلقًا، في أثناء مرحلة التقليد اللغوي، إلى الانتفاع بنظره في المحاكاة اللفظية، حتى إنه ليتعذر حمله على هذا الانتفاع مهما بذلنا معه من مجهود, وفي هذا أقطع دليل على فساد النظرية التي نحن بصددها. ومنها: أن طائفة كبيرة من الأصوات اللغوية تعتمد في مخارجها على حركات غير مرئية, تؤديها أعضاء غير ظاهرة؛ كحركات الجوف والحلق والحنك واللسان, ولذلك لا يعتمد معلمو الصم على الإحساسات البصرية وحدها، بل يلجئون كذلك إلى وسائل أخرى كثيرة، فيحاولون مثلًا أن يحس تلاميذهم كمية الهواء الخارجة من فم المتكلم، أو يطلبون إليهم أن يضعوا أيديهم على حلقومه أو صدره أو طرف أنفه أو قمة رأسه ... حتى يتاح لهم عن طريق حواس أخرى غير النظر، الذي ظهر عدم كفايته في هذا السبيل، إدراك الذبذبات الخاصة التي يحدثها كل حرف في أثناء لفظه, والتي تساعد على تمييزه والنطق به. وحتى الحروف الشفوية نفسها لا يمكن للصم محاكاتها بمجرد نظرهم لما تؤديه في أثناء النطق بها شفاه أساتذتهم من حركات, وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى كيف تتحرك شفته هو، فلا يمكنه أن يعرف أن كانت حركتها قد جاءت مطابقة للحركات التي يحاول تقليدها أم غير مطابقة لها، ولا أن يحدد مواطن الخطأ تحديدًا دقيقًا، فيتعذر عليه الوصول إلى مطابقة صحيحة, ولذلك يلجأ معلمو الصم إلى وضع مرآة أمام تلاميذهم ليتمكنوا من رؤية الحركات التي تؤديها شفاهم، ومن إصلاح ما عسى أن يكون بها من أخطاء بالقياس إلى الأصل الذي يأخذونهم بمحاكاته. ومنها: أن تعليم الصمِّ الكلامَ لا يكلل بنجاحٍ ما إلّا مع النابهين الذين يمتازون بفرط النشاط وحدة الذكاء وصفاء الذهن وشدة الانتباه وقوة الإرادة، وتحفزهم إلى ذلك رغبة ملحة في الكلام، وحتى هؤلاء أنفسهم ينتهي تعليمهم بنتائج ضئيلة، ويخرجون بلغة ناقصة مشوهة, أما من عدا هؤلاء فلا يؤتى تعليمهم هذا آية ثمرة يعتد بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ولا يمكن للمعلمين -مهما بذلوا من جهد- أن يحولوا بينهم وبين لغة الإشارة المحببة إلى طائفتهم. ومنها: أن النتائج التي تتحقق في تعليم الصُّمِّ الكلام يرجع قسط كبير من الفضل في تحققها إلى مايسمونه: "الأنقاض السمعية"، وهي إحساسات سمعية ضئيلة توجد لدى عدد كبير ممن يظن أن صممهم كامل, وقد تبين لمعلمي الصم أهمية هذه "الأنقاض", فوجهوا معظم جهودهم إلى استغلالها والانتفاع بها في تعليم الصم الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 6- أساس التقليد اللغوي عند الطفل : يتبين مما ذكرناه في الفصول السابقة أن التقليد اللغوي في الطفولة يعتمد على ميلٍ فطريٍّ مزود به الطفل، وأن أعمال المحاكاة التي يتجه إليها الطفل بدافع من هذا الميل تنبعث عن قصد وإرادة، وتشرف قواه الفكرية على أدائها وتنظيمها، وإصلاح فاسدها، وجعلها مطابقة للأصل, وفهم مدلولها، وحفظها، واستخدامها فيما وضعت له1؛ فأعمال التقليد اللغوي عند الطفل لا تختلف في أساسها عن ألعابه الراقية؛ كألعاب الاستطلاع والحل والتركيب والتصوير والمقاتلة والصيد والألعاب العائلية والاجتماعية والصناعية والزراعية.. وهلم جرا2. فكلاهما يعتمد على ميل فطري مزود به الطفل, ويتجه إليه بدافع من هذا الميل، ولكن كليهما كذلك ينبعث عن قصد وإرادة, وتشرف قوى الفكر على أدائه وتنظيم عناصره. غير أن طائفة من الباحثين -على رأسها العلامة لودانتك La Dantec- قد ذهبت في هذا الصدد مذهبًا آخر، فزعمت أن التقليد اللغوي عند الطفل عملية آلية مجردة عن القصد والإرادة وعمل الفكر، ولا تعتمد إلى على أمور جسمية خالصة.   1 انظر صفحات 133-149. 2 انظر هذه الألعاب في كتابنا "اللعب والعمل", صفحات 38-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وذلك أنهم يرون أن هناك رابطة طبيعية تربط أعضاء السمع عند الطفل في هذه المرحلة بأعضاء نطقه في صورة تجعل الأعضاء الأخيرة تلفظ بشكل منعكس الأصوات نفسها التي تحسها الأعضاء الأولى؛ فالطفل يردد ما يسمعه بعملية آلية لا دخل فيها لإرادة ولا قصد ولا تفكير, وبحركات تنبعث من تلقاء نفسها عند حدوث ما يثيرها كما تنبعث الأعمال المنعكسة. وقد أوغل لودانتك في هذا السبيل, حتى زعم أن أعضاء النطق وأعضاء السمع يؤلفان عند الطفل في هذه المرحلة جهازًا واحدًا ترسل ناحية منه ما تستقبله الناحية الأخرى؛ فهما أشبه شيء بجهاز المذياع -الراديو- الذي ينبعث من بعض أجزائه ما تلتقطه أجزاؤه الأخرى من أصوات, وطبيعة تركيبهما عند الطفل في هذه المرحلة مطابقة كل المطابقة -كما يقول لودانتك نفسه- لطبيعة تركيبهما عند الببغاء, وما إليها من الطيور1. ومن ثَمَّ يرى لودانتك أن أصوات التقليد اللغوي عند الطفل لا تختلف في أساسها عن أصوات "التعبير الطبيعي عن الأطفال" التي تكلمنا عليها في أول هذا الباب2؛ كلاهما في نظره فطريّ آليّ بحت, لا دخل فيه لإرادة ولا قصد ولا تفكير، وكلاهما ينبعث عن مثير خاصٍّ, وعن مجرد وجود هذا المثير. فأصوات التعبير الطبيعي عن الانفعال يثيرها مجرد تلبس الجسم أو النفس بحالة انفعالية ما، وأصوات التقليد اللغوي يثيرها مجرد التلبس بإدراكٍ سمعيٍّ خاصٍّ, وكلاهما قائم على روابط طبيعية فطرية؛ فأولهما قائم على روابط طبيعية تربط أعضاء النطق بحالات الانفعال في صورةٍ تجعل تلك الأعضاء تتحرك من تلقاء نفسها, وتلفظ أصواتًا خاصة كلما وجدت حالة من هذه   1 انظر الأساس الذي تعتمد عليه المحاكاة عند هذه الفصيلة, في آخر ص94 وأول ص95. 2 انظر صفحتي 119، 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الحالات، وثانيهما قائم على روابط طبيعية تربط أعضاء السمع بأعضاء النطق في صورة تجعل الأعضاء الأخيرة تردد من تلقاء نفسها ما يصل من أصوات لغوية إلى الأعضاء الأولى. هذا، وبحسبنا في الدلالة على فساد هذه النظرية أن نواجهها ببعض ما ذكرنا فيما سبق من حقائق: فقد ظهر لنا فيما سبق أن الطفل لا يردد الكلمة عند سماعه إياها كما تردد الببغاء ما تسمعه من أصوات، بل يرددها فاهمًا معناها فهمًا كاملًا أوناقصًا من سياق الحديث وملابسات الأحوال1, وبعد أن يتم له حفظها, وتستقر في متن لغته يلفظها وحده كلما أراد التعبير عما تدل عليه, وغنيٌّ عن البيان أن ظاهرة هذا شأنها ليست من الأعمال الآلية أوالمنعكسة في شيء؛ إذ لا يمكن أن يتم مثلها بدون تدخل الإرادة والتفكير. وقد ظهر لنا فيما سبق أن الطفل لا يكتسب في هذه المرحلة عن طريق المحاكاة مفردات لغته فحسب، وإنما يكتسب كذلك قواعدها المتعلقة بربط عناصر الجملة، وترتيب أجزائها، وتنظيم العبارات، وتصريف المشتقات، ومراعاة أزمنة الأفعال وإسنادها للضمائر, والأسماء الظاهرة، والتذكير والتأنيث, والإفراد والجمع.. وهم جرَّا2. ومن الواضح أن كسب الطفل لقواعد اللغة يقتضي عمليات فكرية وإرادية دقيقة، ولا يمكن أن يتم شيء منه عن طريق آلي أو منعكس. وقد ظهر لنا كذلك أن أول كلمات تبدو عند معظم الأطفال هي أسماء الذوات، وتظهر بعده الأفعال، ثم الصفات، ثم الضمائر، ثم الحروف والروابط، وأن السبب في هذا يرجع إلى أن الطفل يسير في ارتقائه اللغوي وفقًا لارتقاء فهمه؛ فدرجة نموه الفكري في مبدأ هذه المرحلة لا تتيح له أكثر من فهم الكلمات الدالة على أمور حسية   1 انظر صفحات 143-149. 2 انظر صفحات 144-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يمكن أن يشار إليها, ولذلك اقتصر متن لغته في هذا الدور على أسماء الذوات, فإذا نما تفكيره أمكنه أن يدرك مدلولات الكلمات المعبرة عن أمور معنوية, وحينئذ تظهر في لغته الأفعال "الدالة على الحدث والزمان" والصفات "الدالة على معنى تتلبس به الذوات بشكل عارض" وما إليها. ولما كانت الحروف والروابط أدق أنواع الكلمات مدلولًا لهم, لم يتم له فهمها إلّا في أواسط هذه المرحلة أو أواخرها، فتأخر ظهورها تبعًا لذلك1. وفي هذا أقطع دليل على تدخل التفكير والفهم في عملية التقليد اللغوي, وعلى فساد ما يذهب إليه لودانتك؛ إذ لو كانت هذه العملية آلية, أو منعكسة قائمة على مجرد الارتباط بين جهازي النطق والسمع كما يزعم لودانت, لردد الطفل جميع ما يصل إلى سمعه من مفردات، ولظهرت جميع أنواع الكلمة في لغة الطفل مرة واحدة. وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل الذي يُولَدُ مصابًا بجنون يحول بينه وبين فهم معاني الكلمات ينشأ أبكم, ولو كانت أعضاء سمعه ونطقه سليمة2, ولو كانت عملية التقليد آلية أو منعكسة على الوجه الذي يزعمه لودانتك, لما حال الجنون دون تحققها؛ إذ الجنون لا يحول دون تحقق هذا النوع من الأعمال. وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل في مبدأ هذه المرحلة يلفظ الكلمات التي يحاكيها لفظًا خاطئًا بعيدًا كل البعد عن الأصل الذي يحاكيه، وأنه لا ينفك يصلح من فساد نطقه شيئًا فشيئًا حتى يستقيم له الكلام3. ولا شك أن ظاهرةً هذا شأنها في التطور, تقتضي تدخل الإرادة والتفكير، ولا يعقل أن تكون قائمة على الأساس الآلي الذي يزعمه لودانتك. وقد ظهر لنا كذلك أن الطفل الذي يسوده الخمول، وتعوزه قوة العزم والإرادة، وتضعف رغبته في الاشتراك في حلبة الحياة، يتأخر   1 انظر من آخر ص147 إلى 149. 2 انظر صفحة 152. 3 انظر صفحات 123-146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 كثيرًا في التقليد اللغوي, وفي كسب لغته عن الأطفال العاديين1, ولو كانت عملية التقليد عملية آلية أو منعكسة على الوجه الذي يراه لودانتك, ما حال هذا الخمول دون تحققها، ولظهرت كلما وجد مثيرها السمعي بدون توقف على عزم ولا إرادة ولا نشاط حيوي.   1 انظر ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة الغة الإنسانية وتطورها ... 7- مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة اللغة الإنسانية وتطورها: يذهب كثير من العلماء إلى أن المراحل التي يجتازها الطفل في أي فرع من فروع حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا الفرع Lُontogenese reproduit la phylogenese. ويطلق على هذه النظرية اسم نظرية التلخيص أو نظرية هيكل 1Hacekel. وعلى هذه النظرية اعتمد كثير من علماء اللغة في تأييد آرائهم بصدد نشأة اللغة الإنسانية وتطورها. وقد تكلمنا بتفصيل في الباب الأول عن أهم هذه الآراء وناقشناها2, فحسبنا هنا أن نشير إليها مبينين وجه اعتمادها على الظواهر المتعلقة بتطور اللغة عن الطفل. 1- تقدَّم أن معظم العلماء يذهبون إلى أن اللغة الإنسانية قد نشأت من أنواع التعبير الطبيعي، وأن الإنسان قد افتتح هذا السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية "أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعال" وأصوات الحيوان والأشياء3.   1 يرجع الفصل في نشرها وتكملتها إلى هيكيل الألماني, ولذلك نسبت إليه، وإن كان قد قال بها من قبله العلامة Serres. V ,Traite` de Psychologie, par Dumas et collaborateurs p. 32 2 انظر صفحات 103-106، 110-118. 3 انظر صفحات 103-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ومن أهم الأدلة التي يعتمدون عليها في تأييد هذه النظرية, أن الطريق الذي ترسمه لنشأة الإنسانية يتفق مع الطريق الذي يسكله الطفل في تعبيره. فقد ظهر مما تقدَّم أن أول ما يظهر من أنواع التعبير المقصود عند الطفل محاكاة التعبير عن الانفعال، ثم تظهر بعده محاكاة أصوات الحيوان والأشياء, للدلالة على مصادرها أو على أمور تتعلق بها, ثم تظهر بعدهما محاكاة الكلمات1. 2- تقدَّم أن معظم علماء اللغة يذهبون إلى أن الكلام الإنساني كان يعتمد في المبدأ اعتمادًا كبيرًا على الإشارات اليدوية والجسمية التي كانت تصحبه فتكمل ناقصه وتوضح مدلوله وتمثل حقائقه، ثم أخذ يستغني شيئًا فشيئًا عن هذا المساعد, حتى كاد يستقل بالتعبير3. ومن أهم الأدلة التي يعتمدون عليها في تأييد هذه النظرية أن المراحل التي ترسمها تتفق مع المراحل التي تسير فيه لغة الطفل، فقد ظهر مما تقدم أن الطفل، في مبدأ مرحلته الكلامية، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على لغة الإشارات؛ فيمزجها بلغته الصوتية لتحديد مدلولاتها, وتوضيح مبهمها, وتكلمة نقصها, وتمثيل حقائقها3. 3- تقدَّم أن بعض العلماء يذهبون إلى أن اللغة الإنسانية اجتازت فيما يتعلق بتطور أصواتها، ثلاث مراحل: "مرحلة الصراخ" التي كانت فيها أصوات اللغة شبيهة بأصوات الحيوان والأشياء ومظاهر الطبيعية، ثم "مرحلة المد" وفيها ظهرت أصوات اللين في اللغة الإنسانية, ثم "مرحلة المقاطع" وفيها ظهرت الأصوات الساكنة4. ومن أهم الأدلة التي يعتمدون عليها في تأييد هذه النظرية أن   1 انظر صفحات 129، 132, وأول ص143. 2 انظر صفحة 104، 105. 3 انظر صفحتي 149، 150. 4 انظر صفحتي 111، 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المراحل التي تذهب إليها بصدد التطور الصوتي في اللغة الإنسانية تتفق مع المراحل التي يجتازها الطفل في هذه السبيل؛ فقد ظهر مما تقدم أن أول أصوات تظهر لدى الطفل هي الأصوات المبهمة، ثم تتلوها أصوات اللين، وأن الأصوات ذات المقاطع لا تكثر في لغته إلّا في "مرحلة التمرينات النطقية"1. 4- تقدَّم أن معظم العلماء يذهبون إلى أن اللغة الإنسانية قد بدأت بألفاظ دالة على معانٍ جزئية، وأن الألفاظ الدالة على المعاني الكلية لم تظهر إلّا بعد ارتقاء اللغة ونهضة التفكير الإنساني2. ومن أهم الأدلة التي يعتمدون في تأييد نظريتهم أنها تتفق مع مراحل التطور اللغوي عند الطفل, فقد تبين مما تقدَّم أن أول كلمات تظهر عند الطفل هي أسماء الذوات الحسية، ثم تظهر بعدها الكلمات الدالة على معانٍ كلية3. 5- تقدَّم أن بعض علماء اللغة يذهبون إلى أن الصفة هي أول ما ظهر في الكلام الإنساني، ثم ظهرت أسماء الذوات, ثم الأفعال، واختتمت مراحل الارتقاء بظهور الحروف4. ومما يعتمد عليه هؤلاء العلماء في تأييد نظريتهم, موضوع التطور اللغوي عند الطفل, غير أن هذا التطور لا يؤيدهم فيما يتعلق بأسبقية الصفات على أسماء الذوات، فقد ظهر مما تقدم أن أسماء الذوات هي أول ما يظهر في لغة الطفل, ثم تتلوها الأفعال والصفات5. ولذلك يعتمدون في هذه النقطة على أمور تتعلق بأصول الكلمات   1 انظر ص129، وما تحيل عليه، وانظر كذلك الخاصة الرابعة من خواص الأصوات اللغوية للطفل في مرحلة التقليد بصفحة 136. 2 انظر آخر ص112, وأول 113, وما تحيل عليه التعليقات. 3 انظر آخر صفحة 147-149. 4 انظر آخر صفحة 113, وصفحة 114. 5 انظر آخر صفحة 147-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 في اللغات الهندية-الأوربية, كما سبقت الإشارة إلى ذلك1. ويرون من جهة أخرى أن أسبقية الأسماء على الصفات في الطفولة ليست عامة عند جميع الأطفال، بل إن بعضهم ليفتتح نطقه بكلمات دالة على صفات، ولا تظهر لديه الأسماء إلّا فيما بعد, وفي ذلك يقول العلامة بريبر Preyer: "ليس صحيحًا ما يذهب إليه كثير من الباحثين من أن ظهور الأسماء سابق لظهور الصفات عند جميع الأطفال, فقد لاحظت أن أول كلمة لفظها ابني -وكانت سنه إذا ذاك ثلاثة وعشرين شهرًا- كانت صفة، فقد قال chaud=Hess أي: ساخن -للتعبير عن أن لبنه ساخن لا يستطيع شربه، ثم ظهرت لديه الأسماء بعد ذلك", وقد لاحظ العلامة تين Taine وآخرون بعض ظواهر من هذا القبيل2. 6- تقدَّم أن العلامة شليجيل وأعضاء مدرسته, يذهبون إلى أن اللغات الإنسانية الأولى كانت "عازلة" أي: لا تتصرف فيها الكلمات, ولا ترتبط فيها عناصر الجملة بعضها ببعض بروابط ملفوظة3. ومن الأدلة التي يعتمدون عليها في تأييد نظريتهم تطور اللغة عند الطفل؛ فقد ظهر مما تقدم أن لغة الطفل تبدو في أوائل مرحلة التقليد عارية من الصرف والاشتقاق والتنظيم وربط عناصر الجملة بعضها ببعض4.   1 انظر صفحة 114. 2 V. Ridot, op. cit., 84, 85 3 انظر صفحات 115-118. 4 انظر صفحة 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الباب الثاني: حياة اللغة مدخل ... الباب الثاني: حياة اللغة: يرجع أهم ما يعتور اللغة في حياتها إلى الأمور الآتية: تفرعها إلى لهجات ولغات، ونشأة فصائل وشعب لغوية من جراء هذا التفرع، وصراع اللغة مع لغة أو لغات أخرى، وتطور اللغة العام، وتطورها من ناحية الأصوات، وتطورها من ناحية الدلالة. وسنعقد لكل موضوع من هذه الموضوعات الستة فصلًا على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الفصل الأول: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات 1 1- انتشار اللغة وأسبابه : تختلف اللغات الإنسانية في مبلغ انتشارها اختلافًا كبيرًا؛ فمنها ما تتاح لها فرص مواتية، فتنتشر في مناطق واسعة من الأرض، ويتكلم بها عدد كبير من الأمم الإنسانية، كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى، وللإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والفرنسية والألمانية والتركية في العصور الحديثة, ومنها ما تسد أمامه المسالك، فيقضى عليه أن يظل حبيسًا في منطقة ضيقة من الأرض, وفئة قليلة من الناس، كما حدث للأينو2 والسكينة3 والليتونية4, ومنها ما يكون حاله وسطًا بين هذا وذاك, فلا تتسع مناطقه كل السعة, ولا تضيق كل الضيق، كما هو شأن الحبشية والفارسية. هذا ولانتشار اللغة أسباب كثيرة يرجع أهمها إلى ما يلي:   1 يطلق على هذا المبحث, أو على بعض نواحيه اسم: الدياليكتولوجيا Dialectologie, وقد تقدَّم الكلام على موضوعه وأهميته ومبلغ عناية العلماء به في صفحات 7، 61، 62. 2 يتكلم بها سكان جزر هوكادو وسخالين وشكوتان "انظر الفصل الثاني من هذا الباب، الفصيلة الثالثة، رقم 3". 3 يتكلم بها الباسكيون الذين يقطنون جبال البرانس الغربية في العدوتين الفرنسية والأسبانية "انظر رقم 12 من الفصيلة المشار إليها في آخر التعليق السابق". 4 يتكلم بها سكان ليتونيا أو لاتفيا, الذين يبلغ عددهم نحو مليونين "انظر الفصل الثاني من هذا الباب، الفصيلة الأولى رقم 8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 1- أن تشتبك اللغة في صراعٍ مع لغة أو لغات أخرى، وتقضي نواميس الصراع اللغوي التي سنتكلم عليها في الفصل الثالث من هذا الباب، أن يكتب لها النصر، فتحتل مناطق اللغة أو اللغات المقهورة، فيتسع بذلك مدى انتشارها، وتدخل أمم جديدة في عداد الناطقين بها؛ كما حدث للاتينية في العصور القديمة؛ إذ تغلبت على اللغات الأصلية لإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وبلاد الجول Le Gaule "فرنسا وما إليها" والألب الوسطى والأليريا1 Illyrie، فأصبحت لغة الحديث والكتابة في منطقة واسعة في القسم الجنوبي الغربي من أوروبا، بعد أن كانت قديمًا مقصورة على منطقة ضيقة وسط إيطاليا، هي منطقة اللاتيوم Latium، وكما حدث للغة العربية؛ إذ تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية، والبربرية، والكوشتة، حتى بلغ الآن عدد الناطقين بها نحو مائة مليون ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة، بعد أن كانوا قديمًا لا يتجاوزون بضعة آلاف يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب، وكما حدث للألمانية؛ إذ طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوربا الوسطى بألمانيا، وسويسرا، وتشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، والنمسا ... إلخ، وقضت على لهجاتها الأولى، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 100 مليون من سكان أوربا, بعد أن كانت قديمًا مقصورة على بعض المقاطعات الألمانية، وكما حدث للفرنسية؛ إذ انتشرت في قسم من سويسرا وبلجيا، وللإيطالية؛ إذ انتشرت في قسم من سويسرا2. 2- أن ينتشر أفراد شعب ما -على أثر هجرة أو استعمار- في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، وتتكون من سلالتهم بهذه المناطق أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى انتشار لغتهم، وتتعدد الجماعات الناطقة بها ويكثر أفرادها, والأمثلة على ذلك كثيرة في العصور الحديثة, فقد نجم عن استعمار الإنجليز   1 هذا هو الاسم القديم لألبانيا, هذا ولم تتغلب اللاتينية إلا على بعض أطراف من البلاد الألبانية؛ إذ لا تزال ألبانيا محتفظة بلغتها ومميزاتها. 2 انظر الفصل الثالث من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 السكسون لأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا1, أن انتشرت الإنجليزية في هذه المناطق الشاسعة، فبلغ عدد الناطقين بها نحو ثلثمائة مليون, موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديمًا محصورة في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية, ونجم عن الاستعمار الأسباني في الدنيا الجديدة, أن أصبحت الأسبانية لغة بلاد المكسيك وجزر الفلبين وجميع دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية2, ما عدا البرازيل، فبلغ عدد الناطقين بها نحو مائة وخمسين مليونًا ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من أوربا, ونجم عن الاستعمار البرتغالي في الدنيا الجديدة وأفريقيا والأوقيانوسية, أن أصبحت البرتغالية لغة سكان البرازيل بأمريكا الجنوبية، وسكان المستعمرات البرتغالية بأفريقيا, وجزر المحيط الهندي، فبلغ عدد الناطقين بها نحو مائة مليون ينتمون إلى عدة أمم، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة من بلاد البرتغال نفسها, وقد نجم عن هجرة الفرنسيين إلى قسم من كندا أن أصبحت الفرنسية لغة لهذا القسم. 3- أن يتاح لجماعة ما أسباب مواتية للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية نفسها، فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة المطردة،   1 يتكلم كذلك في جنوب أفريقيا بلغة تسمى الأفريكانية، وهي منحدرة من الهولندية التي كان يتكلم بها الهولنديون -وقد كانوا أول من أقام في مستعمرة الكاب- ومن اللغة الفرنسية التي كان يتحدث بها المهاجرون "الهوجنوت" الذين قدموا فيما بعد إلى الكاب, وتعد الأفريكانية إحدى اللغتين الرسميتين في الاتحاد، أما الثانية فهي اللغة الإنجليزية, ويتخاطب بالأفريكانية معظم أهل جنوب أفريقيا بطلاقة, ويتكلم كذلك بعض قبائل من السكان الأصليين لجنوب أفريقيا اللغة البنطوية "انظر رقم 28 من الفصيلة الثالثة في الفصل الثاني من هذا الباب". 2 يتكلم كذلك في بعض جمهوريات أمريكا الجنوبية بلهجات منحدرة من لغات السكان الأصليين, ويبدو هذا على الأخص في بارجواي, فإن 95% من أهلها لا يزالون إلى الآن يتكلمون لغة "جاراني", وهي لهجة شعوب جاراني إحدى شعوب السكان الأصليين لهذه القارة، على الرغم من أن اللغة الرسمية هناك هي الأسبانية, وقد أقامت شعوب جاراني قبل قدوم الأوربيين إمبراطورية كبيرة اسمها: "توبي جاراني" في المنطقة التي تضم الآن بارجواي والبرازيل وأجزاء من الأرجنتين. "انظر في ذلك تحقيقًا منشورًا بجريدة الأهرام, عدد 19/ 4/ 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى، وتتعدد الأقاليم والمناطق، فيتسع تبعًا لذلك نطاق لغتها ومدى انتشارها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية؛ فبفضل هذا العامل بلغ عدد الناطقين باليابانية ما يزيد على 70 مليونًا1، وبفضله كذلك مع مساعدة العاملين السابقين، بلغ عدد الناطقين بالفرنسية نحو 70 مليونًا2، وبالإيطالية نحو 45 مليونًا3، وبفضل هذا العامل مع مساعدة العامل الثاني من العوامل السابقة, بلغ عدد الناطقين بالتركية نحو سبعين مليونًا4.   1 يدل آخر تعداد رسمي قبل الحرب الأخيرة على أن عدد الشعب الياباني بلغ 308، 114، 73، أما عدد سكان الإمبراطورية اليابانية فكان يبلغ 101، 126، 105. 2 منهم بفرنسا نحو 45 مليونًا, والباقي ببلجيكا وسويسرا وكندا والمستعمرات الفرنسية. 3 معظمهم بإيطاليا نفسها, والباقي بسويسرا والمستعمرات الإيطالية. 4 نحو عشرين في أذربيجان, وثلاثة ملايين قبائل التركمان وأربك Orbak في أفغانستان، ومليونين في قزن، ومليون ونصف في إيدل-أورال، ومائتي ألف قبيلة قاشقاي بإيران, وثمانين ألفًا في القرم, فمنطقة اللغة التركية تمتد من جبال الطاي إلى الأناضول, وجميع أجزاء هذه المنطقة جمهوريات شيوعية ما عدا تركيا والقسم الجنوبي من أذربيجان وهو تابع لإيران, وقبيلة قاشقاي في إيران, وقبائل التركمان وأربك في أفغانستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 2- تفرع اللغة إلى لهجات ولغات نتيجة لازمة لسعة انتشارها : متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض تحت تأثير عامل أو أكثر من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد, وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمدًا طويلًا, فلا تلبث أن تنشعب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطورها منهجًا يختلف عن منهج غيرها, ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها وبين أخواتها حتى تصبح لغة متميزة مستقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 غير مفهومة إلّا لأهلها, وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى؛ إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثارًا تنطق بما بينها من صلات قرابة ولحمة نسب لغوي, وكثيرًا ما يبقى الأصل الأول مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه، ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد ن يكتمل نمو هذه اللغات. ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر الحاضر. فاللغة "الهندية-الأوربية" الأولى قد انشعبت في ضحى الإنسانية إلى مجموعات كثيرة، وكل مجموعة منها تفرعت إلى عدة طوائف، وكل طائفة منها انقسمت إلى شعب، وكل شعبة إلى لغات ... وهكذا دواليك1. ومثل هذا حدث للغة "السامية-الحامية" الأولى2, ولجميع الفصائل اللغوية الأخرى3. وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيرًا هذا القانون؛ فاللغة اللاتينية، وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي المنشعب من الهندية-الأوربية، قد أخذت هي نفسها، في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى، تنشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجًا يختلف عن منهج أخواتها, حتى انفصلت عنها انفصالًا تامًّا، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلّا لأهلها, وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها "الفرنسية، الإيطالية، الأسبانية، والبرتغالية، لغة رومانيا ... "، ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات.   1 انظر الفصيلة الأولى, في الفصل الثاني من هذا الباب. 2 النظر الفصيلة الثانية, في الفصل الثاني من هذا الباب. 3 انظر الفصيلة الثالثة, في الفصل الثاني من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والعصر الحاضر نفسه يشهد كثيرًا من آثار هذا القانون؛ فلانتشار اللغة الأسبانية في مناطق واسعة من الأرض، ولاختلاف الطوائف المتكلمة بها، أخذت تفقد وحدتها، فانشعبت عنها في أمريكا الجنوبية لهجات كثيرة تختلف كل منه عن الأسبانية الأصلية اختلافًا غير يسير في كلماتها وأصواتها، بل إن بعض هذه الهجات أخذ يختلف عن الأسبانية الأصلية في القواعد نفسها1, ومثل هذا حدث بين البرتغالية في البرتغال والبرتغالية في البرازيل، فقد وصل الخلاف بينهما إلى القواعد نفسها, بل إلى شكل كذلك2, وهذا هو ما يحدث الآن للإنجليزية والألمانية, فقد أخذت إنجليزية الولايات المتحدة بأمريكا تختلف عن إنجليزية الجزر البريطانية في كثير من المفردات وأساليب النطق3, وأخذت ألمانية سويسرا تبتعد عن أصلها, ويزداد تأثرها بجارتها الفرنسية حتى توشك أن تكون لهجة متميزة عن ألمانية الألمان, وقد اتسعت مسافة الخلف بين اللهجات المنشعبة عن العربية حتى أصبح بعضها شبه غريب عن بعض؛ فلهجة العراق ولهجات شمال إفريقيا في العصر الحاضر مثلًا يجد المصري بعض الصعوبة في فهمها, غير أنه قد خفف   1 وقد ألف بعض العلماء كتبًا مستقلة في قواعد بعض هذه اللهجات؛ ككتاب الأستاذ لنز Lenze في قواعد لهجة شيلي. 2 جاء بجريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 29/ 3/ 1044 بصدد اتفاق هجائي لغوي بين البرتغال والبرازيل ما يلي: "تلقت وزارة الخارجية من معالي محمود فخري باشا, وزير مصر المفوض في أسبانيا والبرتغال تقريرًا عن اتفاق هجائي لغوي عُقِدَ أخيرًا بين الحكومتين البرتغالية والبرازيلية, الغرض الأساسي منه تنظيم اللغة البرتغالية وتنقيحها، وذلك بتوحيد شكلها الهجائي ونطق كلماتها ... وكان الوصول إلى وضع هذا الاتفاق بفضل مساعي كبار الكتاب في البلدين, وهذا أول اتفاق من نوعه يعزز الفكرة التي ترمي إلى توحيد الشعوب التي تتكلم لغة واحدة, وختم الوزير المفوض تقريره بالإعراب عن أمنية, هي أن تعمل البلاد العربية على تنظيم لغتنا وتوحيد اصطلاحاتها, وتعميم نطقها الصحيح بين مختلف الشعوب الناطقة بالضاد". 3 حتى إن الإنجليز ليسخرون من اللهجة الأمريكية، كما يسخر الأمريكان من لهجة الإنجليز، ولا يكتم كل منهم سخريته هذه حتى في أحرج الأوقات وأدعاها إلى نسيان الفروق, يدل على ذلك ما جاء في نشرة وزعتها القيادة الأمريكية على قواتها الموجودة في بريطانيا في أثناء الحرب الأخيرة؛ إذ تقول مخاطبة أفراد هذه القوات: "ولا تسخر باللهجة البريطانية؛ لأن لهجتك قد تكون مثار سخرهم, ولكنهم أكثر أدبًا من أن يظهروا لك ذلك", جريدة الأهرام, عدد 13-7-1942. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين. والعامل الرئيسي في تفرع اللغة إلى لهجات ولغات هو سعة انتشارها, غير أن هذا العامل لا يؤدي إلى ذلك بشكل مباشر، بل يتيح الفرصة لظهور عوامل أخرى تؤدي إلى هذه النتيجة, وباستقراء هذه العوامل في الماضي والحاضر يظهر أن أهمها يرجع إلى الطوائف الآتية: 1- عوامل اجتماعية سياسية: تتعلق باستقلال المناطق التي انتشرت فيها اللغة بعضها عن بعض, وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات, وذلك أن اتساع الدولة، وكثرة المناطق التابعة لها، واختلاف الشعوب الخاضعة لنفوذها ... كل ذلك يؤدي غالبًا إلى ضعف سلطانها المركزي، وتفككها من الناحية الساسية، وانقسامها إلى دويلات أو دول مستقل بعضها عن بعض, وغنيٌّ عن البيان أن انفصام الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام الوحدة الفكرية واللغوية. 2- عوامل اجتماعية نفسية أدبية: تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان, فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير. 3- عوامل جغرافية: تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة؛ من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها ... وما إلى ذلك، وفيما يفصل كل منطقة عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات ... وهلم جرا. فلا يخفى أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي، عاجلًا أو آجلًا، إلى فروق وفواصل في اللغات. 4- عوامل شعبية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها, والأصول التي انحدروا منها, فمن الواضح أن لهذه الفروق آثارًا بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات. 5- عوامل جسمية فيزيولوجية: تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق1, فمن المحال مع فروق كهذه، أن تظل اللغة محتفظة بوحدتها الأولى أمدًا طويلًا. فانقسام المتكلمين باللغة الواحدة تحت تأثير هذه العوامل إلى جماعات متميزة، واختلاف هذه الجماعات بعضها عن بعض في شئونها السياسية والاجتماعية، وفي خواصها الشعبية والجسمية والنفسية، وفيما يحيط بها من ظروف طبيعية وجغرافية، كل ذلك وما إليه, يوجه اللغة عند كل جماعة منها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها، ويرسم لتطورها في الواحي الصوتية والدلالية وغيرها منهجًا يختلف عن منهج أخواتها، فتتعدد مناهج التطور اللغوي حسب تعدد الجماعات، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بين اللهجات الناشئة عن هذا التعدد، حتى تصبح كل لهجة مها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلّا لأهلها. ويبدأ الخلاف بين هذه اللهجات من ناحيتين: إحداهما الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الأصوات "الحروف" التي تتألف منها الكلمة الواحدة، وتختلف طريقة النطق بها تبعًا لاختلاف اللهجات، والأخرى الناحية المتعلقة بدلالة المفردات، فتختلف معاني بعض الكلمات باختلاف الجماعات الناطقة بها. أما القواعد La Grammaire سواء في ذلك ما يتعلق منها بالبنية   1 ترجع هذه الفروق إلى عوامل كثيرة, منها: العاملان الجغرافي والشعبي, المشار إليهما آنفًا تحت رقمي 3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 "المورفولوجيا"1, أو ما يتعلق بالتنظيم "السنتكس"2، فلا ينالها في المبدأ كثير من التغيير, وإليك مثلًا اللهجات العامية التي انشعبت عن العربية بالعراق والشام والحجاز واليمن وبلاد المغرب ومصر والسودان، فإنه لا يوجد بينها إلّا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجملة وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق، والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير ... وما إلى ذلك، على حين أن مسافة الخلف بينها في الناحيتين الصوتية والدلالية قد بلغت حدًّا جعل بعضها شبه غريب على بعض, كما سبقت الإشارة إلى ذلك3. ولكن هذه الواحدة في القواعد لا تقوى فى مقاومة عوامل التفريق إلّا لأجل معلوم، ثم تهن قواها وتستسلم لهذه العوامل فيصيبها منها ما أصاب الصوت والدلالة من قبل, وحينئذ تقوى وجوه الخلاف بين اللهجات، وتبدأ مرحلة تحولها إلى لغات مستقلة، ولا تنفك تذهب حثيثًا في هذا الطريق حتى تبلغ غايته. غير أنه ييقى بها -على الرغم من هذا كله- وجوه شبه قريبة أو بعيدة في أصول المفردات وبعض مظاهر القواعد العامة, وإليك مثلًا طوائف اللغات الهندية-الأوربية، فعلى الرغم من استحكام ما بينها من حلقات الخلاف، فإن الأصل الأول قد ترك في كل منها آثارًا تنطق بما بينها من صلات قرابة وتشهد بتفرعها عن أرومة واحدة. ومن هذا يتبين أن اللغة لا تموت حتف أنفها, فما لم تصرعها لغة أخرى على الوجوه التي سيأتي شرحها في الفصل الثالث، لا يتطرق إليها الفناء, وخلودها هذا يبدو في أحد مظهرين: فأحيانا تحتفظ بوحدتها، وذلك إذا ظلت حبيسة على منطقة ضيقة وفئة قليلة، وأحيانًا   1 انظر ص8 رقم ب. 2 انظر ص9 رقم جـ. 3 انظر آخر 174 وأول 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تنشعب إلى لهجات ولغات، ولذلك إذا انتشرت في مساحات شاسعة من الأرض وتكلم بها طوائف مختلفات من الناس. ومن ثَمَّ يظهر كذلك خطأ من يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية "اسبرانتو Esperanto" يتحدث بها الناس من مختلف الأمم والعصور, وذلك أن هذه اللغة الصناعية على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها1، لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية, والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان؛ فمادام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في أصولهم الشعبية, وفي التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية, ومادامت سنة الطبيعة تقتضي أن يختلف كل جيل على الجيل السابق له في كل هذه الأمور, فلا بد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وقواعدها.. باختلاف العصور, وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتنقسم إلى لهجات تختلف كل واحدة منها عما عداها، وتتفرع مها لهجات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلًَا قليلًا حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالًا تامًّا, وتصبح غير مفهومة إلّا لأهلها, شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات, وهكذا لا يمضي زمن قصير أو طويل حتى تتولد من هذا العلاج المشكلة نفسها التي يحاولون القضاء عليها: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ, إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... } ، و {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِين} 2.   1 هذه الأمنية، وإن كانت ممكنة نظريًّا، يحول دون تحقيقها عمليًّا صعوبات جمة. 2 بكسر اللام على رواية حفص عن عاصم، أي: العارفين المتأملين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 3- اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض 1: يترتب على القانون السابق أن تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعًا لاختلاف أقاليمها, وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف, وما يمتاز به أهله من خصائص, وقد جرت عادة علماء اللغة أن يطلقوا على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات المحلية Dialectes Locaux, وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا في المساحة التي يشغلها كل منها؛ فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة، ومنها ما تضيق منطقته فلا تشمل إلّا بضع قرى متقاربة، ومنها ما يكون وسطًا بين هذا وذاك. وكثيرًا ما تختلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي؛ فقد تقسم القرى التي تتألف منها منطقة لغوية واحدة بين محافظتين أو أكثر، وقد يجتمع في محافظة واحدة أو مركز واحد عدد كبير من المناطق اللغوية, ولدينا نحن المصريين على ذلك شواهد كثيرة في مختلف أقاليم الصعيد والوجه البحري. وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعًا في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهدًا في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات. أما محاربة عوامل الابتداع في داخل منطقتها, فتتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض, وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم, وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوى الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها، ويشتد بطشها بالمعتدين, فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع قوي كهذا   1 عرضنا هنا لموضوع الصراع بين لهجات اللغة الواحدة لعلاقته الوثيقة بموضوع هذا الفصل وهو التفرع, أما الصراع بين اللغات المختلفة فهو مستقل عن موضوع التفرع، ولذلك سنعقد له فصلًا على حدة "انظر الفصل الثالث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها, وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير. وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها, فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم, وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال, ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات, وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقًّا أن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه, ولكن قلة عدد من يفد من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها, وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى, وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحيانًا ... كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثر لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها, وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم؛ لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلّا إقامة ساعات أو أيام. غير أنه قد يتاح أحيانًا للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى من أخواتها, وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراعٍ أهلي لا يختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 كثيرًا في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بين لغتين مختلفتين, والذي سنعالجه في الفصل الثالث. وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين؛ فأحيانًا لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ، وأحيانًا تتأثر إحداهما بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال, فأحيانًا يكون يسيرًا لا ينال إلّا بعض مظاهر، وأحيانًا يكون عميقًا ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة. فيكون يسيرًا إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان, ويبدو هذا في تأثر لهجة القرية بلهجة المدينة التي تجاورها, أو يكون بها مقر المحافظة أو المراكز، أو في تأثرها بلهجة البلد الذي يتخد مقرًّا لنقطة البوليس أو للعمدية, أو التي يقام فيها السوق الأسبوعي ... وهلم جرا. ففي هذه الحالات وما إليها يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب, وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية ... وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات, فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف, ومن ثَمَّ نرى أن القرى المحيطة بقاعدة محافظة من محافظات مصر, قد تقتبس عن هذه القاعدة كثيرًا من ألفاظها وتراكيبها ومدلولات مفرداتها.. ولكن لهجتها تظل سليمة فيما يتعلق بالأصوات وطريقة النطق بالكلمات؛ فالقرى المصرية التي تقلب في لهجتها القاف العربية جيمًا غير معطشة "جلنا=قلنا" قد تجاوز مدينة تختلف عنها في هذا الأسلوب الصوتي "بأن تقلب فيها مثلًا القاف العربية همزة: ألنا= قلنا"، فتقتبس عنها كثيرًا من مفرداتها وتراكيبها ودلالالتها وأساليبها، ولكن تظل طريقتها الصوتية حيال القاف العربية بمأمن من التأثر بطريقة المدينة، اللهم إلّا في الكلمات التي تقتبسها منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقًا لدرجة تصل أحيانًا إلى القضاء على اللهجة المغلوبة, ويحدث هذا في حالتين: الحالة الأولى: أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى, ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة أن لا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآدابًا, والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث؛ فلهجة باريس، حيث مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس, وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الأسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية، ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات العربية الأخرى ... وهلم جرا1. الحالة الثانية: أن تفوق إحدى المنطقتين الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها, وفي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها, وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى, ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، أي: قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة, وقبل أن تظهر غلبة برلين2، وأخذت التوسكانية Toscan بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي: قبل أن   1 سنضرب بعض هذه الأمثلة في الفصل الثالث بصدد صراع اللغات بعضها مع بعض, وذلك لأنها تصلح أمثلة للأمرين معًا؛ فاللغات العربية مثلًا يصح اعتبار كل منها لغة مستقلة, ويصح النظر إليها على أنها لهجات قد انشعبت عن لغة واحدة, وكذلك لهجة روما قديمًا مع اللهجات الإيطالية ... وهلم جرا. 2 على أن برلين لم تكن مهد السكسونية، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تتكون الدولة الإيطالية الحديثة وقبل أن يظهر سلطان روما1، وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاجٍ أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع. وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعًا لمبلغ قرب اللهجتين أحداهما من الأخرى, ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة, فيطول أمده, ويشتد عنفه, كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين, أو قلَّت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة؛ فلهجة مدريد لم تقوَ بعد على التغلب على كثير من اللهجات الأسبانية الأخرى، ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل، والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات, ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها, وفي القسم الفرنسي اللهجة من سويسرا, لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية "فاليه، فريبورج ... Valais Fribourg"، على حين أنه قد تَمَّ انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية "نيوشاتل، جنيف ... "، وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلمًا من المناطق الكاثوليكية, وأقدم منها عهدًا بالمدارس, ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، وذلك لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقوَ بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا, ولا يزال يلقى بها مقاومة عنيفة، وذلك لكثرة الفروق التي تفصلها عنه. هذا، ويسير تغلب لهجة على أخرى على السنن نفسه الذي يسير عليه تغلب اللغات المختلفة بعضها على بعض, والذي سنتكلم عليه في الفصل الثالث. ففي المرحلة الأولى تقذف اللهجة الغالبة اللهجة الأخرى بطائفة كبيرة من مفرداتها، فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته, ولكن اللهجة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة   1 على أن روما لم تكن مهد الإيطالية الحديثة، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 بمخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهل اللهجة المغلوبة بألفاظهم الأصلية وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقًا لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم, حتى إنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفًا قريبة منها من حروف لهجتهم. وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللهجة المغلوبة أصوات اللهجة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهل اللهجة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من المخارج نفسها, وبالطريقة نفسها التي يسير عليها النطق في اللهجة الغالبة، فيزداد بذلك انحلال اللهجة المغلوبة, ويؤذن نجمها بالأفول, ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية "المورفولوجيا والسنتكس", وفي مقاومة قواعد اللهجة الغالبة، إن كانت تختلف عنها في القواعد1، فيركب أهلها جملهم, ويصرفون كلماتهم, وفق أساليبهم الأولى. وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئًا فشيئًا، فتأخذ قواعد اللهجة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم له الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللهجة المغلوبة, غير أنها كثيرًا ما تترك في ألسنة أهلها بعض آثار من قواعدها القديمة؛ فكثير من سكان جنوب فرنسا لا يزالون يؤلفون عباراتهم في صورة تختلف عن قواعد الفرنسية الفصحى، ولكنها تتفق مع قواعد لهجتهم المندثرة.   1 لا يكون الاختلاف في العادة كبيرًا في القواعد بين اللهجات المنشعبة عن لغة واحدة قبل أن يستقلَّ بعضها عن بعض, وتصبح لغات منفصلة, كما سبقت الإشارة إلى ذلك في آخر ص176, وأول 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 4- نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة : واللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها، أو على معظمها، تصبح عاجلًا أو آجلًا لغة الدولة, أو ما يطلق عليه اسم: "اللغة القومية", أو "اللغة الفصحى", أو "لغة الكتابة", فتعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها، وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف مناحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر, ويجري بها التخاطب في الجيش .... هلم جرا1. فقد ترتَّبَ على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت "لغة الدولة" بفرنسا، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية, وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن بإنجلترا ومدريد بأسبانيا, واللهجة السكسونية بألمانيا, والتوسكانية بإيطاليا، فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطق الآن اسم اللغات الإنجليزية والأسبانية والألمانية والإيطالية. وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقًا خاصًّا تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة، كما سيظهر ذلك في الفقرة التالية, وفي الفصل الرابع, ولذلك نرى أن لغة الكتابة، مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيها بعد أن تختلف عنها في كثير من الشئون, ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما حتى تستقل كل منهما عن الأخرى؛ فلغة الكتابة بفرنسا تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافًا غير يسير، وكذلك الشأن في إنجلترا، فقد بعدت اللهجة الدارجة لأهل لندن بعدًا كبيرًا عن اللغة الفصحى، حتى إن بعض العلماء قد ألف فيها معجمات خاصة2.   1 قد لا يكون للأمة آية لغة قومية مستقلة, كما هو شأن النمسا، فإن لغتها هي الألمانية، وقد يكون للدولة أكثر من لغة رسمية واحدة، كما هو شأن سويسرا، فإن بها ثلاث لغات رسمية: الألمانية والفرنسية والإيطالية. وقد تكون اللغة الرسمية ولغة الكتابة في الأمة هي اللغة القديمة التي انشعبت منها لهجتها، كما كان شأن اللاتينية بفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال ورومانيا، وكما هو شأن اللغة العربية الآن بمصر والسودان وبلاد العرب وشمال إفريقيا. 2 من هؤلاء العلامة بارتروج, أستاذ اللغات الإنجليزية، فقد أخرج منذ سنوات معجمًا للغة الإنجليزية العامية, بحث فيه بحثًا علميًّا اللغة الدارجة لأهل لندن. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 5- اختلاف مناحي الفصحى باختلاف فنون القول : لغة الآداب وخصائصها وأنواعها، الشعر والنثر وظيفتا اللغة: الدلالة والإيحاء: كما تنشعب لغة المحادثة إلى لهجات مختلفة تبعًا لاختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص، تنشعب كذلك لغة الكتابة أو اللغة الفصحى, إلى شعب مختلفة تبعًا لاختلاف فنون القول التي تستخدم فيها، وما يمتاز به كل فن منها: الشعر، النثر الأدبي، الخطابة، القصة، الرسالة، التاريخ، القانون، تدوين العلوم ... إلخ. وذلك أن كل فَنٍّ من هذه الفنون يختلف عما عداه في طبيعته وأغراضه البيانية، ومناهج الاستدلال فيه، ومقدار صلته بكل من الناحيتين الوجدانية والإدراكية، ومدى إقبال الجمهور عليه, وأثره في نفسه, وتلاؤمه مع اتجاهاته وحاجاته، ومبلغ نشاط المشتغلين به وما يخترعونه فيه من اصطلاحات, ويدخلونه من أساليب, ويقتبسونه عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار ... وهلم جرا. وغنيٌّ عن البيان أن الاختلاف في هذه الأمور وما إليها يؤدي حتمًا إلى اختلاف كل فن من الفنون السابق ذكرها عما عداه؛ في مفرداته وأساليبه ومعانيه وأفكاره وطريقة علاجه للحقائق ... وما إلى ذلك. وقد تتسع مسافة الخلف بين هذه الفنون فتصبح لغة كل منها أشبه شيء بلغة مستقلة, وهذا هو المشاهد الآن في كثير من اللغات الراقية؛ فبمجرد سماع عبارة من اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات الراقية, يستطاع بسهولة معرفة الفن الذي تتصل به؛ فعلى ضوء مفرداتها وأسلوبها ونظمها وتراكيبها وطريقة إبانتها عن الحقائق ... يستطاع بسهولة الحكم إن كانت شعرًا أم خطابة أم كتابة رسائل أم مقالًا صحفيًّا أم بحثًا علميًّا ... وهلم جرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ومن أهم شعب اللغة الفصحى ما يسمونه لغة الأدب "Langue Litteraire"، وهي التي تستخدم في الأدب شعره ونثره, وتمتاز هذه الشعبة عن أخواتها بأن ما يتخذه غيرها وسيلة تتخذه هي غاية، أو توجه إليه على الأقل أكبر قسط من العناية؛ ففي جميع الشعب الأخرى "لغة العلوم، لغة الفلسفة، لغة التاريخ ... " يتخذ الكلام مجرد وسيلة للتعبير عن الحقائق, أما في هذه الشعبة فيتخذ البيان نفسه غرضًا في ذاته, ويوجه إلى تجويده أكبر قسط من المجهود, فأهم ما يقام له وزن في لغة الأدب هو جمال القول، ورقة الأسلوب، وحسن البيان، ورصانة اللفظ، وفصاحة الكلام، وبلاغة التعبير ... وهلم جرَّا. وتنقسم لغة الآداب نفسها إلى فنون كثيرة؛ أهمها: الشعر وملحقاته، والنثر الأدبي، والخطابة، والقصة, ويختلف كل فن من هذه الفنون عن أخوته؛ في طبيعته، وموضوعاته، ومواطن استخدامه، ومقدار صلته بالوجدان والإدراك، ومبلغ نشاط المشتغلين به، وما يناله من تطور وتجديد، وما يرمي إليه من أغراض ... إلخ, وقد ترتَّبَ على ذلك أن كان لكل فن منها خصائصه اللغوية, ومميزاته في النظم والوزن، والتأليف الموسيقي، وجرس الألفاظ، وتركيب الجمل، وطريقة الاستدلال، وشرح الحقائق، ومنحى الأسلوب. وأهم ما يمتاز به الشعر عن غيره أنه يتجه أولًا, وبالذات إلى مخاطبة الوجدان والعواطف لا الإدراك والتفكير، وأن غرضه الأساسي هو الإيحاء بالحقائق والإحساسات, لا شرح المسائل وتقريبها إلى الأذهان, ولذلك يظهر فيه تعمد الغموض والميل إلى الإبهام، ويسيطر على أساليبه الخيال، ويكثر في عباراته التشبيه واستخدام الكلمات والعبارات في غير ما وضعت له عن طريق الكناية والمجاز، ويبدو فيه النفور من تحليل الحقائق وكراهة التعمق في الشرح والاستدلال. أما نظم العبارات في أوزان خاصة, فهو مجرد شرط شكلي في الشعر: فإن جنح كلام منظوم إلى الشرح والاستدلال والتعمق في توضيح الحقائق, وتغلبت فيه وجهة الدلالة على وجهة الإيحاء، فإنه يصبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مجرد نظم, ولا يعد شعرًا على الرغم من أوزانه وقوافيه، كما هو الشأن فيما اشتهرت تسميته في اللغة العربية باسم "المتون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 6- اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم : "اللهجات الاجتماعية" Dialectes Sociaux: تنشعب أحيانًا لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعًا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم؛ فيكون ثَمَّ مثلًا لهجة للطبقة الأريستوقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة, ورابعة للرياضيين، وخامسة للبرادين، وسادسة للنجارين ... وهلم جرا. ويطلق المحدثون من علماء اللغة على هذا النوع من اللهجات اسم "اللهجات الاجتماعية" Dialectes Sociaux تمييزًا لها عن "اللهجات المحلية" Dialectes Sociaux, التي كانت موضع حديثنا في الفقرة الثالثة من هذا الفصل1. ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين طبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية، ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة، والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم, وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له, أو قصرها على بعض مدلولاتها؛ للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم. وهلم جرَّا. فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة   1 يرجع الفضل في هاتين التسميتين إلى العلامة بول باسي Paul Passy. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها, فلا تلبث اللهجة العام أن تنشعب إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها؛ في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ ... وما إلى ذلك، وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيدًا في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي انشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخواتها، حتى تكاد تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلّا لأهلها، كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين وبعض طبقات العمال. ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال، واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافًا عن الأصل الذي انشعبت منه، وبعدًا عن المستوى العام لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية, وكذلك الشأن في إنجلترا، حتى لقد ألف في لهجات المجرمين من الإنجليز معجمات خاصة1. ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة، بل تسير في السبيل الارتقائي نفسه الذي تسير فيه اللهجات المحلية، فيتسع نطاقها باتساع شئون الناطقين بها ومبلغ نشاطهم، واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات, ويتواضعون عليه من عبارات, ويقتبسونه من اللغات الأجنبية من   1 أخرج أريك بارتروج، أستاذ اللغة الإنجليزية، معجمًا للغة المجرمين من الإنجليز, قضى في وضعه خمس سنوات, ويقع المعجم في ثمانمائة صفحة, احتوت على جميع المصطلحات التي يستعملها اللصوص وقطاع الطريق والمجرمون الإنجليز من القرن السادس عشر حتى العصر الحاضر, وقد استعان بارتروج في إخراج مؤلفه بالبحث في ملفات القضايا الجنائية من عام 1729 حتى أواخر النصف الأول من القرن الحالي، كما استعان بكثيرين من قسس السجون, وتردد على أمكنة اجتماعات المجرمين. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تراكيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحيطة بالطبقات الناطقة بها؛ فلهجات العمال والمجرمين بفرنسا, تختلف بعد الحرب العظمى الأولى اختلافًا بينًا عما كانت عليه قبل ذلك، وتختلف في القرن العشرين اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه مثلًا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر, ولا أدلَّ على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها بتلك اللهجات في القرن الخامس عشر الشاعر الفرنسي فرانسو فيلون Francois Villon1, لم يستطع بعد في العصر الحاضر حل جميع رموزها وفهم جميع مدلولاتها. وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيرًا كبيرًا، فتستعير منها هذه اللغة كثيرًا من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام, واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أوحرفة, وما إلى ذلك. فلغة المحادثة العايدة بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية, وبخاصة لهجات العمال والمجرمين, وكذلك الشأن في اللغة الإنجليزية2. ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها عن بعض تميزًا واضحًا إلّا في المدن الكبيرة؛ حيث يتكاثف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف، وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات؛ كنيويورك ولندن وباريس في العصر الحاضر، وكبغداد في العصر العباسي.   1 شاعر فرنسي, ولد بباريس سنة 1431, وتوفي سنة 1489, وقد عاش وسط اللصوص والمجرمين، واتهم أكثر من مرة بالسرقة والقتل, ومن أشهر مؤلفاته: "العهد الصغير" و"العهد الكبير" Petit Testament Grand Testament 2 أثبت الأستاذ بارتروج في معجمه المشار إليه في التعليق المدون في الصفحة السابقة أن كثيرًا من الاصطلاحات الحديثة في اللغة الإنجليزية التي يظن الإنجليز أنها مأخوذة من اللغة الأمريكية العامية، مشتقة في الأصل من لغة المجرمين الإنجليز, أو من اللغة الإيرلندية القديمة. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه: "باللهجات الحرفية", وهي اللهجات التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرف المختلفة؛ كالبرادين والنجارين والنقاشين والصيادين والبحارة, وهلمَّ جرَّا. وتتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزًا كبيرًا في المناطق التي يسود فيها "نظام الطوائف" Regime des castes حيث تختص كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفًا على أفرادها, لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها، كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها, كما هو الحال في كثير من بلاد الهند. على حين أنه في الأمم الحديثة التي قُضِيَ فيه على نظام الطوائف, فأصبحت الحرف حظًّا مشاعًا بين جميع أفراد السكان, يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود, ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات1. هذا، وقد خُيِّلَ إلى بعض علماء "الأتنوجرافيا" أن اللهجات   1 للهجات الاجتماعية مظاهر كثيرة في مصر في العصر الحاضر نفسه, ومن أوضح مظاهرها لغة الصيادين وأبناء البحار, فهي تختلف اختلافًا كبيرًا عن اللغة العادية في كثير من مفرداتها وتراكيبها, ومن بين مفرداتها ما هو من أصل عربي, وإن اختلف مدلوله أحيانًا عن مدلوله في الفصحى، ومن ذلك "ينصلح" بمعنى: يهلك، و"القرية" وهي خشبة الشراع الأكبر، و"البومة" وهي الخشبة المربوط فيها القلع، و"الغليتي" وهو الجو الناعس الحنون، و"المريس" وهو الريح من الجنوب، و"اللبش" وهوالريح من الجنوب الشرقي، و"القلفطة" وهي عملية رتق السفنية بالشحم وحبال الكتان، و"الشاغول" و"العويل" و"الإبليس" و"الفاية" وهي أسماء لحبال مختلفة يربط بها الشراع، و"ضرب بلطة" بضم الباء, أي: حاد عن الجادة فانحرف نحو اليمين أو الشمال مع الريح أو ليغير اتجاه السفينة, ومن بين مفرداتها ما هو غير عربي الأصل, ومن ذلك "الأرطمون", من أصل فرنسي ومعناه شراع صغير، و"البانكا", من أصل إيطالي, وهو مقعد المجدفين, و"الهلب", من أصل إنجليزي, ومعناها المرساة، و"الشابورة" "من أصل ألماني, وهي خشبة في مقدمة السفينة"، و"السكارج", من أصل فارسي وهي حلقات الدفة"، و"البروة", من أصل أسباني وهي صدر السفينة. انظر في ذلك مقالًا تحت عنوان: "لغة الغموض والألغاز التي يتفاهم بها الصيادون" نشره في جريدة المصري الصادرة في 25/ 2/ 1950 للأستاذ إبراهيم محمد الفحام. وكثير من الكلمات السابقة قد قمت أنا بتسجيله من لغة البحارة من أهل رشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الاجتماعية لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقًا، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة الواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها ارتجالًا, وقد تابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة، ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم. وليس لهذه النظرية أيَّ سند عقلي أو تاريخي, بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية, فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها, هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشرة بين طبقات فقيرة جاهلة, منحطة المدارك, ضعيفة التفكير, لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين ... وهلم جرا. والحق أن "اللهجات الاجتماعية" لا تختلف في نشأتها عن "اللهجات المحلية" التي تكلمنا عليها في الفقرة الثالثة من هذا الفصل, كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية, ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده، وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث عن مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي لنشأة "اللهجات المحلية" يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف, ويمتاز به أهله من خصائص، على حين أن السبب الرئيسي في نشأة "اللهجات الاجتماعية" يرجع إلى اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد, وما يكتنف كل طبقة منها من شئون, وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة. غير أننا قد نعثر أحيانًا في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقًا في لغة البلد, ولا في اللغات الأجنبية, ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعًا من بعض الأفراد, وانتشرت عن طريق التقليد, ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 على لهجات الطبقات الراقية, ولا تبدو إلّا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد, أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية, غير أن الغالب أن ينالها -مع تقادم الزمن- كثير من التحريف والتغيير، فتبعد بعدًا كبيرًا عن الأصل الذي أخذت منه, وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال, ولعل هذا هو ما حدا بعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع1.   1 يرجع الفضل في دراسة اللهجات الاجتماعية إلى طائفة من علماء اللغة وعلماء الاجتماع، ومن أشهر من عني بدراستها من علماء الاجتماع العلامة فان جينيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 7- اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء : قد يحدث في بعض الشعوب التي يقل فيها اختلاط الرجال بالنساء أو يكون فيها كلا الجنسيين بمعزل عن الجنس الآخر، تحت تأثير نظم دينية أو تقاليد اجتماعية، أن تختلف لهجة الرجال عن لهجة النساء اختلافًا يسيرًا أو كبيرًا. وتكثر مظاهر هذا الاختلاف اللغوي كلما استحكمت حلقات الانفصال بين الجنسين، حتى أنه لينشأ أحيانًا من جراء ذلك لكل منهما لهجة تختلف اختلافًا بينًا عن لهجة الآخر, أو تشتمل لهجة كل منهما على مفردات وجمل كثيرة لا تستخدم في اللهجة الأخرى, وقد لوحظ ذلك في بعض الشعوب البدائية على الأخص1. ويخف هذا الاختلاف اللغوي كلما خفت قيود الاختلاط بين   1 V. Van Gennep: Essai dُ upe theri des Langues Speciales "Revu des Etudes Ethnographiques et Sociologiques juin- juillet l908 V Durkheim "La Prohibition de l lnceste" dans l Annee Sociologue T l p 49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الجنسين، فتقتصر مظاهره على بعض فروق يسيرة في الأصوات والمفردات والجمل والأساليب، كما هو مشاهد في كثير من المناطق المصرية الريفية. وليست هذه اللهجات في الواقع إلّا نوعًا من أنواع "اللهجات الاجتماعية" التي تقدم الكلام عنها في الفقرة السابقة، فمعظم ما قلناه هناك، في نشأة اللهجات الاجتماعية وعواملها وتطورها ... وما إلى ذلك، يصدق على هذا النوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الفصل الثاني: فصائل اللغات وخواص كل فصيلة منها وما بينها من صلات : 1- أشهر الآراء في فصائل اللغات : حاول كثير من علماء اللغة أن يرجع اللغات الإنسانية -بعد أن تَمَّ تفرعها تحت تأثير العوامل السابق ذكرها في الفصل السابق- إلى فصائل عامة, وقد اختلفت وجهات نظرهم بهذا الصدد اختلافًا كبيرًا. فبعضهم نظر إلى الموضوع من ناحية التطور والارتقاء، فقسَّم اللغات الإنسانية إلى ثلاث فصائل تختلف أفراد كلٍّ منها عما عداها في درجة رقيها، وتمثل كل منها مرحلة خاصة من المراحل التي اجتازها الكلام الإنساني في سبيل تطوره. وأشهر نظرية بهذا الصدد هي نظرية شليجيل التي تقسّم اللغات من هذه الناحية إلى ثلاث فصائل: "اللغات غير المتصرفة أو العازلة", "وتشمل الصينية والسامية والبرمانية والتبتية ... إلخ"، و"اللغات اللصقية أو الوصلية" "وتشمل التركية والمنغولية والمنشورية واليابانية ولغات الباسك ... إلخ"، و"اللغات المتصرفة أو التحليلية" "وتشمل الفارسية والهندية واللاتينية والإغريقية والجرمانية والعربية والعبرية ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقد شرحنا في الباب الأول هذه النظرية وناقشناها، فظهر لنا فسادها من عدة وجوه، وتبين أن الأساليب الثلاثة التي تقسّم على أساسها اللغات الإنسانية إلى فصائل: "العزل واللصق والتصرف"، توجد مجتمعة في كل لغة إنسانية، فلا نكاد نعثر على لغة عارية عن أسلوب منها1. وبعضهم قطع النظر عن موضوع التطور والارتقاء، وقسّم اللغات الإنسانية إلى فصائل يجمع أفراد كل فصيلة منها صلات قرابة لغوية؛ فتتفق في أصول الكلمات, وقواعد البنية, وتركيب الجمل ... وما إلى ذلك, ويتكون من الأمم الناطقة بها مجموعة إنسانية متميزة، ترجع إلى أصول شعبية واحدة أو متقاربة, وتؤلف بينها طائفة من الروابط الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. وأشهر نظرية قسمت اللغات على هذه الأسس هي نظرية مكس مولر Max Muler, التي ترجع جميع اللغات الإنسانية إلى ثلاث فصائل: الفصيلة الهندية-الأوربية، والفصيلة السامية-الحامية، والفصيلة الطورانية2 وسنتكلم على كل فصيلة منها على حدة فيما يلي:   1 انظر صفحات 115-118. 2 فطن كثير من العلماء قبل مكس مولر إلى صلات القرابة التي تربط اللغات الهندية والآرية والأوربية بعضها ببعض, وإلى الصفات التي يشترك فيها أفراد الفصيلة الحامية-السامية. كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في فقرة "تاريخ البحوث اللغوية"، وكما أشرنا إليه في كتابنا "فقه اللغة". انظر صفحتي 7، 8 الطبعة السابعة. ولكن يرجع الفضل إلى مكس مولر في تكملة هذه البحوث ونشرها، وفي دراسة الفصيلة الهندية الأوروبية على الأخص دراسة عميقة مستوعبة، وفي إضافة فصيلة ثالثة إلى الفصيلتين السابقتين، وهي فصيلة اللغات الطورانية, وقد اتفق معه في جعل هذه اللغات فصيلة ثالثة العلامة الألمان بونسن Bunesn في كتابه "Outlines of the Philosophy of Universal history, الذي ظهر في نفس العصر الذي ظهر فيه بحث مكس مولر بهذا الصدد Classification of the Turanian Laguages Lerrer on the. ولهذا نسب إلى مكس مولر تقسيم اللغات إلى هذه الفصائل الثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 2- الفصيلة الأولى: الهندية الأوربية angues lndo-Europeennes تشمل هذه الفصيلة ثمان طوائف من اللغات، وهي: 1- "اللغات الهندية-الإيرانية", أو"اللغات الآرية" وتشمل شعبتين: أحداهما شعبة اللغات الهندية "السنسكريتية Sanskrit البراكريتية Prakrit، اللغات الهندية الحديثة Langues Neo-lndoues ... إلخ". والأخرى شعبة اللغات الإيرانية "الفارسية القديمة Vieux perse والأفستية, والزند أفستية Avestique et zend-Avestique, وهي لغة الأسفار المقدسة المسماة الأفستا "الأبستاق", وشروحها المسماة الزند -أفستا، والبهلوية Pehlvi، والفارسية الحديثة Neo-Persan، والكردية Kurde، والأسيتية Ossete، وهي لغة الأسيتيين Ossetes, وهم سكان القوقاز الأوسط، والأفغانية أو البشتو ... وهلم جرا". ولكثرة وجوه الشبه بين هاتين الشعبتين عدهما علماء اللغة طائفة واحدة سموها طائفة "اللغات الهندية -الإيرانية", أو طائفة "اللغات الآرية". وكان القدامى من علماء اللغة يتوسعون في كلمة "اللغات الآرية"؛ فيطلقونها على جميع طوائف الفصيلة الهندية-الأوربية؛ لأن معظم المتكلمين بهذه الفصيلة من اللغات ينتمون إلى الجنس الآري, ولكن المحدثين منهم آثروا العدول عن هذا الاستعمال اتقاءً للخلط واللبس، فأصبحوا لا يطلقون كلمة "اللغات الآرية" إلّا على الطائفة التي نحن بصدد الكلام عليها1.   1 V. Les Langues du Monde p 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 2- "اللغات الأرمنية" Langues Armeniennes 3- "اللغات الإغريقية" "وتشمل اللغات اليونانية القديمة, وأشهر هذه اللغات: "اليونية-الأتيكية، والدورية. وتشمل كذلك اللغات اليونانية التي تكونت في القرون السابقة للميلاد, وقامت على أنقاض اللغات اليونانية القديمة، واشتهرت عند علماء اللغة باسم: "اليونانية الحديثة". وتشمل كذلك اللغات اليونانية في العصر الحاضر". 4- الألبانية. 5- "اللغات الإيطالية" "وتشمل الأسكية Osque، والأمبرية-السمنية Ombrien-Samnite واللاتينية، واللغات الرومانية Langues Romanes, وهي المتفرعة من اللاتينية؛ كالفرنسية والبرتغالية والإيطالية والأسبانية ولغة رومانيا ... إلخ". 6- "اللغات السلتية" أو "الكتية" Langues Celtiques "التي كانت لغات شعوب السلت أو الكلت Les Celtes. وقد طغت عليها الآن اللغات الفرنسية والإنجليزية والأسبانية، ولكن بقي بعض أشكال منها في كثير من اللهجات المحلية بإيرلندا وويلز ومنطقة البريتون Bretagne بغرب فرنسا". 7- "اللغات الجرمانية" Langues Germaniques وتشمل ثلاث شعب: أولاها: شعبة اللغات الجرمانية الشرقية, وهي اللغة الجوتية Gotheque "وهي لغة قبائل الجوث Goths وهو شعب قديم كان يسكن جرمانيا الشرقية". وثانيتها: شعبة اللغات الجرمانية الشمالية، وهي لغات أيسلندا والدانيمرك والسويد والنرويج. وثالثها: شعبة اللغات الجرمانية الغربية، وتشمل الإنجليزية- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 السكسونية، والإنجليزية الحديثة، والهولاندية، واللغات الفلامندية "لغة مقاطعة الفلاندر ببلجيكا, ويتألف من هذه اللغة مع اللغة الهولندية فرغ لغوي واحد يسمى فرع اللغات النئر لاندية"، واللغات الألمانية ... إلخ. 8- "اللغات البلطيقية السلافية" وتشمل شعبتين: إحداهما: شعبة اللغات البلطيقية, وهي الليتوانية Lituanienne "لغة ليتوانيا Lituanie" والليتونية Lette "لغة ليتونيا Lettonie أو لاتقيا Latvia" والبروسية القديمة. والأخرى شعبة اللغات السلافية أو الصقلية, وهي السلاقية القديمة، والروسية، والبولونية، والتشيكية، والسربية -الكرواتية والبلغارية الحديثة1. ومن هذا يظهر أن اللغات الهندية-الأوربية هي أكثر اللغات الإنسانية انتشارًا؛ إذ يتكلم بها الآن جميع سكان أوربا والأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا, ما عدا بعض جماعات قليلة بأوروبا تتكلم البسكية أو الفينية أو المجرية أو التركية ... وما إلى ذلك، وما عدا السكان الأصليين للأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا الذين انقرض معظمهم ولم يبق منهم الآن إلّا عدد يسير آخذ في الانقراض، ويتكلم بها كذلك قسم كبير من سكان آسيا "الهند، فارس، أفغانستان، الكردستان، القوقاز الأوسط، أرمينيا ... إلخ". والشعوب الناطقة بهذه الفصيلة هي أرقى الشعوب حضارة في العصر الحاضر، وأعظمها نشاطًا، وأكبرها شأنًا، وأكثرها إنتاجًا في مختلف فروع الحياة، وأجلَّها أثرًا في الحضارة الإنسانية الحديثة. ويرجع الفضل في انتشار هذه الفصيلة إلى عوامل كثيرة أهمها:   1 أما البلغارية القديمة: قبل أن يتغلب عليها اللسان الصقلبي, فهي من فصيلة اللغات الفينوانية. كما سيأتي بيان ذلك في الفصيلة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الغزو والاستعمار, فعلى أثر غزو الآريين للهند انتشرت لغاتهم في هذه البلاد, وقضت على لغات السكان الأصليين -لم يبق من هذه اللغات إلّا آثار ضئيلة, سنعرض لها في أثناء كلامنا في الفصيلة الثالثة، وعلى أثر استعمار الأوربيين للأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا انتقلت إلى هذه المناطق اللغات الإنجليزية والأسبانية والفرنسية والبرتغالية. أما المواطن الأول لهذه الفصيلة فلا نكاد نعرف شيئًا يقينيًّا عنه، وقد ذهب العلماء بصدده مذاهب كثيرة تعتمد في معظم نواحيها على الحدس والتخمين, وفي نواحٍ أخرى على حجج ضعيفة لا يطمئن إلى مثلها التحقيق العلمي؛ فمن قائلٍ أنها نشأت بأوربا الشرقية بالمناطق الروسية؛ ومن قائلٍ أنها نشأت بمناطق بحر البلطيق. وتمتاز هذه الفصيلة بكثرة شعبها واتساع هوة الخلاف بين أفرادها, فقد انقسمت إلى الطوائف الثمان السابق ذكرها، وانقسمت كل طائفة من هذه الطوائف إلى شعب، وكل شعبة إلى عدد كبير من اللغات، وسلكت كل لغة من هذه اللغات في ارتقائها سبيلًا يختلف عن سبيل غيرها، فكثرت وجوه الخلاف بينها، وتضاءلت وجوه الشبه، حتى أن بعضها ليبدو غريبًا عن بعض، ولا تظهر صلة قرابته به إلّا بعد تأمل عميق. ويرجع السبب في هذا إلى عوامل كثيرة؛ أهمها اختلاف البيئات التي انتشرت فيها هذه الفصيلة, واختلاف الشئون الاجتماعية التي اكتنفت الناطقين بكل شبعه منها. وقد ترتب كذلك على هذه العوامل أن اختلفت كل لغة منها عما عداها في درجة رقيها ومبلغ بعدها عن أصولها الأولى؛ فمنها ما يزال جامدًا على خصائصه القديمة، ومنها ما قطع في زمن يسير مرحلة واسعة في طريق الارتقاء، ومنها ما سار في هذه السبيل بخطًى متئدة بطيئة؛ فانتشار الشعبة الإيرانية مثلًا في مناطق عريقة في الحضارة، وتأثرها باللغات التي كانت سائدة في هذه المناطق ... كل ذلك وما إليه قد ذلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لها وسائل الارتقاء، فسارت في هذه السبيل بخطًى حثيثة, حتى وصلت في أوائل القرن الأول الميلادي إلى شأوٍ لم تبلغ مثله اللغات الأوروبية إلّا حوالي القرن العاشر, على حين أن انتشار اللغة الليتوانية مثلًا في منطقة زراعية ضيقة تغلب على أهلها صفة المحافظة على القديم، وبقاء هذه المنطقة بمعزلٍ عن تيارات الحضارة وعن المؤثرات الخارجية ... كل أولئك قد عاق تقدم هذه اللغة، فظلَّت محتفظة بكثير من الأشكال الأولى لفصيلتها. وسنتكلم بتفصيل على هذه الأمور وما يتصل بها في الفصول التالية من الكتاب1.   1 انظر الفصل الرابع والفصول التالية له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 3- الفصيلة الثانية: الحامية - السامية: Langues Chamitw-Semitiqes وتشمل هذه الفصيلة مجموعتين من اللغات: إحداهما مجموعة اللغات السامية، وثانيتهما مجموعة اللغات الحامية. أما مجموعة اللغات السامية، فتنتظم طائفتين: 1- اللغات السامية الشمالية, وتشمل اللغات الأكادية Accadien, أو الآشورية البابلية2 ssyro-Babyloiennes، واللغات الكنغانية -العبرية والفينيقية-3، واللغات الآرامية4. 2- اللغات السامية الجنوبية وتشمل العربية5 واليمنية   1 نظر تفصيل القول في اللغات الأكاديمية في الفصل الأول من كتابنا "فقة اللغة". 2 نظر تفصيل القول في اللغات الكنعانية في الفصل الثاني من كتابنا "فقه اللغة". 3 نظر تفصيل القول في اللغات الآرامية في الفصل الثالث من كتابنا "فقه اللغة". 4 نظر تفصيل القول في اللغات في اللغة العربية في الفصل السادس من كتابنا "فقه اللغة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 القديمة1, واللغات الحبشية السامية2. وأما مجموعة اللغات الحامية فتنتظم ثلاث طوائف: 1- اللغات المصرية, وتشمل المصرية القديمة والقبطية. 2- اللغات الليبية أو البربرية، وهي لغات السكان الأصليين لشمال أفريقيا -ليبيا وتونس، والجزائر، والمغرب، والصحراء، والجزر المتاخمة لها- فتشمل اللغات القبيلية Kabyles والشاوية Chaouia -اللغات القديمة لسكان الجزائر- والتماشكية Tamachek -وهي اللغات القديمة لقبائل التوارج Touareg وهي قبائل رحالة بصحراء المغرب- واللغات الشلحية أو لغات الشلحا، أو لغات أهل الشلوح chellouh -لغات السكان الأصليين لجنوب المغرب- ولغات زناجة Zenaga -لغات السكان الأصليين لجنوب المغرب- ولغات زناجة Zenaga واللغات الجونشية Guanche -لغات السكان الأصليين لجزر قناريا Canaries بالمحيط الأطلانطيقي، في الشمال الغربي من الصحراء الكبرى- ... وهلم جرا. 3- اللغات الكوشيتية Couchitiques3 وهي لغات السكان الأصليين للقسم الشرقي من أفريقيا المحصور بين درجة العرض الرابعة جنوب خط الاستواء وحدود مصر, ما عدا المناطق الحبشية الناطقة بلغات سامية, والتي تقدَّم ذكرها في المجموعة الأولى, وما عدا بعض المناطق السودانية, وما إليها التي سيأتي ذكر لغاتها في الفصيلة الثالثة، فتشمل اللغات الصومالية، ولغات الجالا، والبدجا، ودنقلة، والأجاو والأفار أو الساهو، والسيداما ... إلخ Somali, Galla, Bedja, Dankali, Agaw, Afar, ou Saho Sidama etc ويتكلم باللغات الكوشية كذلك نحو ثلث سكان الحبشة.   1 انظر تفصيل القول في اللغة اليمنية القديمة في الفصل الرابع من كتابنا "فقه اللغة". 2 انظر تفصيل القول في اللغة الحبشية السامية في الفصل الخامس من كتابنا "فقه اللغة". 3 نسبة إلى كوش Cuch, وهو أحد أولاد حام "انظر سفر التكوين، الإصحاح العاشر، الفقرة السادسة وتوابعها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ومن هذا يظهر أن المنطقة التي تشغلها الفصيلة الحامية-السامية أصغر كثيرًا من المنطقة التي تشغلها الفصيلة الهندية الأوروبية, فبينما الفصيلة الهندية الأوروبية تشغل أوروبا والأمريكتين وأستراليا وجنوب أفريقيا وقسمًا كبيرًا من آسيا، إذ الفصيلة الحامية-السامية لا تشغل إلّا بلاد العرب وشمال أفريقيا وجزءًا من شرقيها, إلى درجة عرض 4 جنوب خط الاستواء, فمنطقتها لا تتجاوز عشرين مليون كيلو مترًا مربعًا، بها قسم كبير صحراوي "ببلاد العرب وشمال أفريقيا"، وعدد الناطقين بها لا يتجاوز مائة وخمسين مليونًا، أي: نحو عشر سكان أوروبا وحدها, ولكنها تمتاز عن الفصيلة الهندية الأوروبية بأن منطقتها متماسكة الأجزاء لا يتخللها أي عنصر أجنبي. ويتألف من الناطقين بها مجموعة شديدة التجانس, تتلاقى شعوبها في أصول واحدة قريبة، وتتفق في أساليب الحياة ونوع الحضارة والنظم الاجتماعية. ويجمع بين اللغات السامية -المجموعة الأولى من هذه الفصيلة- كثير من الصفات المشتركة المتعلقة بأصول الكلمات والأصوات ومخارج الحروف وقواعد الصرف والتنظيم ... وما إلى ذلك, وقد قويت وجوه الشبه بين بعض أفردها حتى ليحسبها الباحث مجرد لهجات للغة واحدة1. أما مجموعة اللغات الحامية -المجموعة الثانية من هذه الفصيلة- فلا يوجد بين طوائفها الثلاث -المصرية، والبربرية، والكوشيتية- من وجوه الشبه والقرابة اللغوية أكثر مما يوجد بين كل طائفة منها ومجموعة اللغات السامية, فاعتبارها مجموعة متميزة هو مجرد اصطلاح لا يتفق في شيء مع حقائق الأمور. ولذلك عدل بعض المحدثين عن تقسيم هذه الفصيلة إلى مجموعتين،   1 انظر تفصيل هذا الموضوع في كتابنا "فقه اللغة" وخاصة في مقدمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وآثر جعلها من بادئ الأمر أربع مجموعات: السامية، والمصرية، والبربرية، والكوشيتية1. وتختلف هذه المجموعات الأربع بعضها عن بعض اختلافًا غير يسير في كثير من الظواهر، ولكن بينها، على الرغم من ذلك، من وجوه الشبه والقرابة اللغوية ما يسمح بجعلها فصيلة واحدة مقابلة للفصيلة الهندية الأوربية. هذا، وقد تغلبت مجموعة اللغات السامية على المجموعات الثلاث الأخرى, واحتلت كثيرًا من مناطقها. فاللغات القبطية والبربرية قد انهزمت أمام اللغة العربية، ولم يبق من البربرية الآن إلّا فلول ضئيلة2, وكذلك كانت نهاية الكوشيتية في صراعها مع اللغات السامية؛ فقد احتلت اللغات السامية معظم مناطقها، ولم يبق الآن من اللغات الكوشيتية إلّا بعض لهجات قليلة في بلاد الصومال، والحبشة وفي المناطق المتاخمة لها. وقد اشتبكت اللغات السامية نفسها في صراع بعضها مع بعض, وأول صراع حدث بينها كان صراع الآرامية مع اللغات الأكادية والكنغانية؛ فقد اشتبكت في صراع مع الأكادية أولًَا وقضت عليها في أوائل القرن الرابع ق. م، ثم صرعت العبرية في أواخر الرابع ق. م، وتغلبت على الفينقية بآسيا في القرن الأول ق. م. والصراع الثاني كان صراع العربية مع أخواتها؛ فقد اشتبكت في صراع مع اللغات اليمنية القديمة, وقضت عليها قبيل الإسلام, ولم يفلت من هذا المصير إلّا بعض مناطق متطرفة نائية ساعد انعزالها وانزواؤها على نجاتها، فظلت محتفظة بلهجتها القديمة حتى العصر الحاضر, ثم اقتحمت العربية على الآرامية معاقلها في   1 وهذا هو ما سار عليه مارسل كوهين Marccl Cohen انظر: Les Langues du Monde pp 81-153 Part 83 2 لا تزال البربرية إلى الوقت الحاضر لغة حديث بين كثير من القبائل المغربية في المغرب والجزائر وتونس وفي بعض الواحات التابعة لليبيا، فإن أهلها من البربر ولا يزالون يتكلمون البربرية إلى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الشرق والغرب وانتزعتها منها معقلًا معقلًا حتى تمَّ لها القضاء عليها حوالي القرن الثامن الميلادي, ولم يفلت من هذا المصير إلّا بعض مناطق منعزلة لا تزال تتكلم اللهجة الآرامية إلى العصر الحاضر1. وامتد أثر العربية إلى الأمم الآرية والطورانية التي اعتنقت الدين الإسلامي -الفرس، الهنود، الأتراك، الأندونيسيين ... إلخ- فاحتلت لديها مكانة مقدسة سامية، وتركت آثارًا عميقة في كثير من لغاتها، فاتسعت بذلك مناطق نفوذها حتى بلغ عدد الناطقين بها والمتأثرين بسلطانها نحو ستمائة مليون من سكان المعمورة2.   1 انظر تفصيل هذه الموضوعات جميعها في كتابنا "فقه اللغة". 2 يبلغ عدد المسلمين في العالم حوالي 530 مليونًا, وتبلغ نسبتهم إلى مجموعة سكان العالم -البالغ عددهم زهاء 3500 مليون- نحو 15%، ومنهم بأفريقيا نحو 85 مليونًا "نحو 40%" من مجموع سكانها، وفي آسيا نحو 425 مليونا "نحو 27% من مجموع سكانها", وفي أوروبا نحو 22 مليونًا "نحو 2% من مجموع سكانها"، وفي الأمريكتين جاليات إسلامية يبلغ عددها زهاء ثلاثة ملايين "واحد وكسور في المائة من مجموع سكانها". هذا ويبلغ سكان العالم الآن -أواخر عام 1972- زهاء 3500 مليون، يعيش نحو 57% منهم في آسيا. و21% منهم في أوروبا والاتحاد السوفيتي, و14% في الأمريكتين، و2% منهم في أفريقيا. ويتزايد سكان العالم بمقدرا 65 مليون سنويًّا في المرحلة الحضارة، وهذه النسبة هي أكبرمن نسبة تزايدهم في أية مرحلة أخرى من مراحل تاريخ إنسان, وإذا استمرت الزيادة بهذه النسبة فسيصل عددهم إلى نحو 4 مليار نسمة قبيل عام 1980 -سيصل إلى ضعفي عددهم الحالي, أي نحو 7000 مليون- بعد نحو خمسين سنة. ويعيش نحو ثلثي سكان العالم في عشر دول, وهي بحسب ترتيبها في عدد السكان: الصين الشعبية "نحو 850 مليونًا, أي نحو 25% من سكان العالم كله", فالهند "نحو 475مليون"، فالاتحاد السوفيتي "نحو 235 مليون"، فالوليات المتحدة "نحو 200مليون", فأندونيسيا "نحو 105مليون"، فباكستان بما فيها بنغال الشرقية "نحو 104مليون"، فاليابان "نحو 100مليون"، فالبرازيل "نحو 80 مليون", فالألمانيا الغربية "نحو 58", فبريطانيا "نحو 55 مليون". وأكثر مناطق العالم في نمو عدد السكان أمريكا الوسطى, ومن بينها منطقة الكاريببي؛ إذ تصل هذه الزيادة إلى نحو 2،9% سنويًّا منذ عام 1958، وتليها أمريكا الجنوبية, وتليها الدول النامية التي تكون مستويات المعيشة فيها منخفضة. "انظر تقارير الأمم المتحدة ومكتب تعداد السكان عن السنين 63، 64، 65, وانظر جريدة الأهرام في 5/ 8/ 64 و5/ 12/ 64". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الفصيلة الثالثة: اللغات الطورانية ... 4- الفصيلة الثانية: اللغات الطورانية Langues Touraniennes أطلق مكس مولر وبونسن Bunsen1 اسم "اللغات الطورانية" على طائفة من اللغات الأسيوية والأوربية التي لا تدخل تحت فصيلة من الفصيلتين السابقتين، كالتركية والتركمانية والمغولية والمنشورية والفينية, وهلم جرا، وتابعهما في ذلك كثير ممن جاء بعدهما. فاللغات الطورانية ليست إذن فصيلة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي: مجموعة ترجع إلى أصول واحدة, ويجمع بين أفرادها صلات تشابه وقرابة, بل هي أمشاج من لغات لا يؤلف بينها إلّا صفة سلبية, وهي عدم دخولها في إحدى الفصيلتين السابقتين, هذا إلى أن القائلين لها لم يدخلوا تحتها جميع اللغات الإنسانية الخارجة عن الفصيلتين المذكورتين، بل قصروها على طائفة منها, وهي بعض اللغات الأسيوية والأوروبية. فهذا قسم غير قائم على أساس, وغير شاملٍ لما بقي من لغات العالم. ولذلك عدل المحدثون من علماء اللغة عن استعمال كلمة "اللغات الطورانية2" وعمدوا إلى ما بقي من اللغات الإنسانية خارجًا عن الفصيلتين السابقتين؛ فقسموه إلى فصائل يجمع بين أفراد كل فصيلة منها صلات تشابه وقرابة لغوية، فتتفق في أصول الكلمات وقواعد البنية وتركيب الجمل، ويتكون من الأمم الناطقة بها مجموعة إنسانية متميزة   1 انظر التعليق الثاني بصفحة 196. 2 ذهب هذا المذهب من القدامى أنفسهم العلامة رينان؛ فعلى الرغم من موافقته مكس مولر -الذي كان معاصرًا له- في كثير من آرائه، فإنه قد رفض الأخذ بنظريته بصدد اللغات الطورانية، ووجه إليها نقدًا لاذعًا في كتابه أصول اللغة. V. Renan:Lُ Origine du Langage, pp. 40 et suiv الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ترجع إلى أصول شعبية واحدة أو متقاربة, ويؤلف بينها طائفة من الروابط الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. وأحدث نظرية بهذا الصدد هي النظرية التي ذهبت إليها "جمعية علم اللغة بباريس" Societe de Linguistique de Paris في موسوعتها "لغات العالم" Les Languesdu Monde إذ قسمت، على الأسس السابق ذكرها، جميع اللغات الإنسانية الخارجة عن الفصيلتين الحامية - السامية، والهندية -الأوربية, إلى تسع عشرة فصيلة, وهي: 1- فصيلة اللغات اليابانية. 2- "فصيلة اللغات الكورية Coreen" "لغات سكان شبه جزيرة كوريا التي كانت تابعة لليابان, والواقعة بين اليابان والبحر الأصفر". 3- لغة الأينو La Langue Ainou , ويتكلم بها الآن نحو ثلاثين ألفًا من سكان جزيرة هوكادو Hokkado, وجزيرة ساخالين Shakhaline, وجزيرة شيكوتان Shikhotan "وكلها كانت تابعة لليابان، والجزيرتان الأخيرتان تابعتان الآن لروسيا، وأما هوكادو فهي واحدة من جزر أربع تعد أكبر الجزر التي تتألف منها اليابان1. ولم تثبت صلة قرابة بين هذه اللغة وأية لغة من اللغات الحية، ولذلك عدت فصيلة على حدتها. 4- فصيلة اللغات الصينية - التبتية: وتشمل اللغات الصينية الأصلية ولهجاتها، والتبتية Tibetain والبرمانية Birman , والسامية Siamois "لغة سيام".   1 والثلاثة الآخر هي: "هوندو" أو "نيبون" وهي الجزيرة الأم، وشيكوكو، وكيوشو. هذا وقد بدأ في شهر نوفمبر سنة 1971 حفر أكبر نفق يصل جزيرة "هوكادو" بجزيرة "هوندو"، أو "نيبون" الجزيرة الأم. وسينتهي العمل في هذا المشروع سنة 1977. ويبلغ طول النفق 54 كيلو مترًا, منها نحو 23 تحت الماء. وسيمر بهذا النفق خطوط السكك الحديدية التي سوف تقلل مدة وصول المسافرين بين الجزيرتين بمقدار 13 ساعة "انظر جريدة الأهرام عدد 15/ 11/ 71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 5- فصيلة اللغات الأسترالية الأسيوية: التي يتكلم بها القسم الأسيوي الجنوبي المنحدر إلى أستراليا، وتطلق على ثلاث شعب؛ شعبة اللغات الأنامية -لغة سكان أنام من الهند الصينية، وشعبة اللغات الموندية Langues Mounda, أو الكولارية kolariens, من أقدم لغات الهند، بل من أقدم اللغات الإنسانية جميعها، ويتكلم بها الآن نحو مليون نسمة من الهنود، ومنطقتها في الجزء الجنوبي من الهند، وشعبة اللغات المونكهمريا Les Mon-khmer "ويدخل فيها المنية Le Mon, والكهمرية Khmer أو الكمبدجية Cambodgien والتشامية Tcham, ويتكلم بهذه اللهجات بمنطقة أسام. Assam وما إليها". 6- فصيلة اللغات الدرافيدية Dravidienne: لغات بعض الشعوب التي كانت تقطن جنوب بلاد الهند قبل أن يهاجر إليها الآريون, وتشمل التامولية Tamoul والكانارية Kanarais وغيرهما. 7، 8- اللغات القوقازية: ولا يطلق هذا الاسم في اصطلاح علماء اللغات على جميع اللغات القوقازية، بل على مجموعة خاصة منها، وهي اللغات القوقازية التي ليست سامية، ولا هندية - أوربية، ولا أورالية- ألتائية"، وتشمل فصيلتين لم تثبت بعد صلات القرابة بينهما بشكل قاطع1, ولذلك عددناهما فصيلتين لا فصيلة واحدة, وهما: فصيلة اللغات القوقازية الشمالية؛ وتشمل السامورية Samourien والأرتسية Artsi والأديغية Adeghe.. وغيرها, وفصيلة اللغات القوقازية الوسطى؛ وتشمل الجيورجية Georgien واللازية Laze.. وغيرها. 9- فصيلة اللغات الأسيوية القديمة: Langues propres de l Asie anterieure ancienne - يطلق هذا الاسم في عرف علماء اللغة   1 V. Langues du Monde pp. 327 et suiv الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 على لغات آسيوية قديمة غير سامية ولا هندية - أوروبية، كان يتكلم ببعضها في مملكة ميزوبوتاميا Mesopotamie -مملكة قديمة كانت تقع بين دجلة والفرات- وببعضها في آسيا الصغرى, وفي المناطق المتصلة من حوض البحر الأبيض المتوسط, وفي بعض أجزاء من إيطاليا1. ومن أهم لغات هذه الفصيلة اللغة السومرية Sumerien، وهي لغة غير سامية ولا هندية - أوروبية، كان يتكلم بها شعب مجهول الأصل, كان يسكن حوض الفرات الأدنى بقرب خليج فارس، أي: في المنطقة التي احتلتها فيما بعد الشعوب السامية الآشورية والبابلية, ونشرت فيها لغاتها الأكادية -شعبة من اللغات السامية، وتسمى كذلك شعبة اللغات الآشورية - البابلية2. ويرجع الفضل في الوقوف على اللغة السومرية إلى ما عثر عليه أخيرًا من آثارها مكتوبًا بالخط المسماري. وتتألف هذه الآثار من وثائق هامة بعضها أدبي - لغوي "شعر، قواعد، بحوث لغوية..إلخ"، وبعضها علمي "فلك، طبيعة ... إلخ" وبعضها اجتماعي -تاريخي "يعرضون للشئون الاقتصادية والقضائية والسياسية والإدارية والدينية والأسطورية والتاريخية ... وهلم جرا". 10- فصلة اللغات التركية والمغولية والمنشورية. 11- فصيلة اللغات الفينية Fiois والأجرية Ougriennes والسامويدية Samoyedes "ويتكلم بهذه اللغات في الحوض الأوسط   1 انتقلت هذه اللهجات إلى إيطاليا على أثر هجرة بعض الشعوب إليها من آسيا الصغرى, وأشهر اللغات الإيطالية القديمة التي تعد من هذه الفصيلة هي اللغة الأتروسكية Etrusque التي يتكلم بها الأتروسكيون Erusques أو الرازينيون Rasennes "وهم سكان المنطقة المسماة قديمًا: اتريريا Etrurie". 2 انظر آخر صفحة 201، وانظر تفصيل الكلام في اللغتين الأكادية والسومرية بالفصل الأول من كتابنا "فقه اللغة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لنهر الفولجا Volga", ويدخل في الفينية اللغات الفنلندية1 والأستونية والبلغارية القديمة2 وغيرها, ويدخل في الأجرية اللغات اللابونية Lapons -لا تزال لهذه اللغات بقايا في السويد والنرويج وغيرهما, واللغات الهنغارية.. وغيرها, وتنشعب السامويدية إلى الأستياكية Ostiak واليوراكية Yourak والتافجوية Tavgui وغيرها. هذا، وقد كان القدامى من علماء اللغة يجمعون معظم أفراد الفصيلة العاشرة والحادية عشرة تحت فصيلة واحدة كانوا يسمونها: الأورالية - الألتائية Ouralo- Altaique أو الطورانية, ولكن ظهر للمحدثين فساد هذا المذهب, وتبين لهم أن كلتا المجموعتين مستقلة عن الأخرى.   1 كانت فنلدنا منذ القرن الثالث عشر حتى عام 1809 جزءًا من السويد، ومن ثَمَّ كانت لغتها الرسمية هي السويدية, ثم انتزعتها روسيا القيصرية بعد ذلك من السويد, فأصبحت لغتها الرسمية هي الروسية, وكما حاول السويديون من قبل محو اللغة الفنلندية كذلك بذل القياصرة الروس أقصى جهودهم لتحويل فنلندا إلى مقاطعة روسية, فصدرت قوانين كثيرة تحرم تدريس اللغة الفنلندية في مدارس فنلندا, وتقضي بإصدار جميع الكتب والصحف بالروسية. وكما بذل الفنلنديون جهودهم للمحافظة على لغتهم منذ القرن الثالث عشر وحمايتها من طغيان السويد، أخذوا بعد ذلك يواصلون جهودهم لصد غزو اللغة الروسية, وفي عام 1863 تكلل كفاحهم عندما أصدر القيصر الروسي ألكسندر الثاني اعترافًا باللغة الفنلندية كلغة رسمية لأهالي فنلندا. وعندما استقلت عن روسيا في عام 1917, كانت دعوة القومية الفنلندية قد بلغت ذروتها؛ فمضت البلاد بعد استقلالها تحارب كل أثر للغتين السويدية والروسية, وسرعان ما اختفت الروسية لعدم تأصلها في البلاد، ولأن استخدامها كلغة رسمية في فنلندا لم يكد يتجاوز نصف قرن, ولكن السويدية التي كان لها جذور ممتدة إلى أعماق الماضي، والتي ظل استخدامها في فنلندا كلغة رسمية زهاء ستة قرون، بقيت لها آثار كثيرة في اللغة الفلندية وفي ألسنة الفنلنديين وفي مكاتباتهم حتى الآن, بل لقد أصبحت اللغة السويدية لغة التخاطب لنحو 300 ألف شخص من سكان فنلندا البالغ عددهم 4 ملايين ونصف مليون. ولكن الفنلنديين أدركوا أخيرًا مزايا تعلم السويدية إلى جانب لغتهم الأصلية، حتى لا يصبحوا في عزلة عن السويد وسائر الدول الأسكندينافية، وأخذت سلطات هلسنكي الآن تشجع نظام تعليم اللغتين في مدارسها. 2 قد انقرضت هذه اللغة وحل محلها لسان صقلبي؛ كما سنذكر ذلك في الفقرة الثانية من الفصل الثالث، انظر على الأخص ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 12- لغة الباسك Basque, أو الأسكارا Euskara, ويتكلم بها الباسكيون، وهو شعب يقطن منطقة جبال البرانس الغربية في العدوتين الأسبانية والفرنسية، بمناطق بيسكاي Biscaye وألافا Alava وجويبوزكوا Guipzcoa ونافار Navare "بأسبانيا"، وبمناطق بيون Bayonne وموليون Mauleon بفرنسا. ويدل الإحصاء الذي عمله لويس - لوسيان بونابرت Louis-Luciec Bonaparte عام 1873 أن عدد المتكلمين بهذه اللغة يبلغ 660 ألفًا في أسبانيا, ونحو 140 ألفًا في فرنسا, ولكن ليس من شكٍّ في أن منطقة اللغة الباسكية، وبخاصة منطقتها الأسبانية، كانت قديمًا أوسع كثيرًا مما يرشد إليه هذا الإحصاء، وقد ضاقت الآن من الناحية الجغرافية عما كانت عليه عام 1873 لتغلب اللغتين الفرنسية والأسبانية على بعض أجزائها، وخاصة في أقليم نافار Navare، وأن كان عدد سكانها -وبخاصة سكان المنطقة الأسبانية- قد زاد كثيرًا عما كان عليه سنة 1873. 1 هذا, وقد هاجر إلى أمريكا عقب كشفها بعض أسرات من الباسكيين فانتشرت لغتهم في المناطق التي حلوا بها, ولا ينفك يتكلم بها الآن بضعة آلاف من أعقابهم، وتصدر بها بعض صحفهم ومجلاتهم العامة. 13- اللغات الهيبيربورية Heperboreennes أو لغات أقصى   1 وقد وصل عددهم في أسبانيا سنة 1971 نحو مليون ونصف مليون, هذا وتواجه حكومة الرئيس فرانكو عدة حركات للمعارضة داخل أسبانيا؛ من أهمها حركة الباسك الانفصالية في مقاطعات شمال شرق أسبانيا على ساحل خليج بيسكاي, وتضم هذه الحركة مئات من الفدائيين الذين قاموا بعدة عمليات تخريب خلال السنوات الماضية من أجل تحقيق مطالب شعب الباسك, وهي الاستقلال الذاتي والاعتراف بلغته وتاريخه, ومطالب الباسك الأسباني بالاستقلال تمتد لمئات من السنين في التاريخ الأسباني الذي تعرضت خلاله للضغط والتشجيع مع تغير نظم الحكم, وكان آخر مرة حصلوا فيها على استقلالهم عام 1931, ولكن الجنرال فرانكو جاء ليفرض عليهم سلطة الدولة, ويمنع استخدام لغة الباسك والاعتراف بقومية خاصة بهم" الأهرام 11/ 5/ 1970". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الشمال، وهي لغات سيبيريا وما إليها من أقاليم المنطقة المتجمدة الشمالية, وتشمل هذه الفصيلة اللغة اليوكاجيرية Youkagir التي يتكلم بها في القسم الغربي من هذه المنطقة، والتشوكتشية Tchouktcho التي يتكلم بها نحو عشرة آلاف يقطنون سيبيريا شمالي نهر أنادير Anadyr، والكورياكية Kotyak التي يتكلم بها في المنطقة المحصورة بين نهر أنادير وشبه جزيرة كمتشاتكا Kamtchatka والكمتشادالية Kamtchadal التي يتكلم بها نحو ألفين يقطنون شبه جزيرة كمتشاتكا وجزر كوريل Kouriles، والجيلياكية Guiliak التي يتكلم بها في شمال جزيرة ساخالين Sakhaline وفي الحوض الأدنى لنهر آمور Amour. 14- اللغات الملايوية - البولينيزية Malayo-Polynesiennes, ويتكلم بهذه الفصيلة في طائفة كبيرة من جزر المحيطين الهندي والهادي, تبدأ شرقًا بجزيرة مدغشقر -40 درجة طول شرقي باريس- وتنتهي غربًا بجزيرة باك Paques "110 درجة طول غربي باريس، وتمتد من درجة عرض 50 جنوب خط الاستواء إلى درجة عرض 30 شمالية؛ فمنطقة هذه الفصيلة تشغل نحو 210 درجات طول وثمانين درجة عرض. وتشمل هذه الفصيلة خمس شعب لغوية وهي: شعبة اللغات الأندونيسية lndonesiennes، وهي التي يتكلم بها بجزر أندونيسيا: جزر الفيليبين، وسيليب، وبرنيو، وجاوة, وسومطرة، ومادورا، ومدغشقر ... إلخ. وشعبة اللغات الميلانيزية Melanesiennes، وهي التي يتكلم بها في جزر ميلانيزيا "جزر سليمان، وسانت كروز، وتوريس، وهابريد الجديدة، ولويالتي، وفيدجي ... إلخ". وشعبة اللغات الميكرونيزية Micronesiennes، وهي التي يتكلم بها في جزر ميكرونيزيا "جزر جلبرت، ومرشال، وكارولين، وماريان ... إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وشعبة اللغات البولينزية Polynesiennes, وهي التي يتكلم بها في جزر بولينزيا "جزر ساموا، وكوك، وتاهيتي أو جزر الشركة، وبوموتي، وتونجا، ومنجاريفا، وباك، وزيلندا الجديدة ... إلخ". وشعبة لغاب البابو Langues Papoues، وهي اللغات التي يتكلم بها في غينا الجديدة Nouvelle Guinee والجزر المجاورة لها. 15- لغات سكان أستراليا الأصليين. 16- اللغات الأمريكية: ويتكلم بها سكان أمريكا الأصليون -الهنود الحمر ومن إليهم- وكان يبلغ عددهم حينما كشفت أمريكا حوالي 40 مليونًا -أي: بنسبة ساكن واحد تقريبًا في كل كيلو متر مربع- ثم أخذ عددهم يتناقص شيئًا فشيئًا حتى هبط في أوائل القرن العشرين إلى حوالي 15.5 مليونًا -أي بنسبة ساكن واحد في كل 2,5 كيلو متر مربع، منهم نحو نصف مليون في الوليات المتحدة وجرونلاند، ونحو 6,5 مليون في المكسيك وأمريكا الوسطى "هوندراس وكوستاريسا، وبنما، ونيكاراجا، وجواتيمالا، وسلفادور"، ونحو 8,5 مليونًا بأمريكا الجنوبية. وقد كان لتخلخل السكان في هذه المنطقة أثر كبير في تعدد لغاتها، فقد بلغت حسب إحصاء العلامة ريفية Rivet 1، 123 شعبة: منها 26 بأمريكا الشمالية، و20 بأمريكا الوسطى، و77 بأمريكا الجنوبية. ومن أشهرها بأمريكا الشمالية: لغات الإيروكويين lroquoisK والألجنكويين Algonkins والإسكيمو Esquimaux، والسيو Siou، وبأمريكا الوسطى: لغات الأموسجو Amosgo، والكويكاتك Kuikatek واللنكا Lenka والمياه Maya والميسكيتو Miskito، وبأمريكا   1 V. Rivet, dans: Les Langues du Monde, pp. 597-713 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الجنوبية: لغات الألاكالوف Alakaluf، والأروكان Aroukan, والأرواواك Arawak, والأتاكاما Atakama, والكاريب Karib, والأيتوناما ltonama. هذا، ولم تظهر بعد بشكل قاطع صلة قرابة لغوية أو صفة مشتركة تربط هذه الشعب بعضها ببعض؛ فالفصيلة التي نحن بصدد الكلام عنها هي إلى الفصيلة الجغرافية أدنى منها إلى الفصيلة اللغوية. 17- لغات السودان وغانة1: وهي لغات غير سامية ولا حامية, تتكلم بها جماعات كثيرة من سكان السودان, وخاصة السودان الجنوبي وسكان غانة, وقد قسمها العلامة موريس ديلافوس Maurice Delafosse إلى 435 لغة, ترجع إلى ست عشرة شعبة2 منها: الشعبة النيلية التشادية Nilo- tchadien "يتكلم بها في المنطقة المحصورة بين أسوان شمالًا وفاشودة جنوبًا، وتشتمل على ثلاثين لغة من أشهرها: لغات النوبة، والباريا، والتوبو، والميمي، والكوناما ... إلخ"، وشعبة اللغات النيلية - الأبيسينية "يتكلم بها في الحوض الأوسط للنيل الأزرق, وفي حوض النيل الأبيض, وبحر الجبل، وتشتمل على خمس عشرة لغة من أشهرها: لغات الشيلوك، والدنكا، والديور، والجاميلا، والدوكو ... إلخ"، وشعبة اللغات النيلية - الاستوائية "يتكلم بها في جنوب المنطقة السابقة، وتشتمل على ست وعشرين لغة، من أشهرها: لغات الباري، واللاتوكا، والليري، والكافيروندو، والتاتور ... إلخ"، وشعبة لغات كردفان "يتكلم بها في منطقة كردوفان ومنطقة جبال النوبة، وتشتمل على عشر لغات, منها: لغات التالوري، واللافوفا، والتومتوم، والكاندرما ... إلخ"، وشعبة اللغات النيلية - الكونغوية، وشعبة اللغات الغينية - الغانية .... وهلم جرَّا.   1 هي الجزء الغربي من أفريقيا, المحصور بين سنغمبيا شمالًا والكنغو جنوبًا, والواقع على سواحل خليج غانة. 2 V. Maurice Delafosse, dans: "Langues du Monde", pp. 465-561 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 18- اللغات البنطوية Langues Bantou, ويتلكم بها سكان القسم الجنوبي من أفريقيا, في منطقة واسعة على شكل مثلث ينطبق رأسه على رأس الرجاء الصالح، ويمتد ضلعه الأيمن على الساحل الشرقي لأفريقيا حتى بلاد الصومال1, وضلعه الأيسر على الساحل الغربي حتى مدينة دوالا Douala ببلاد الكمرون2، وتتجه قاعدته من بلاد الصومال إلى المحيط الأطلانطيقي مارّةً شمال أوغندة والكنغو, وكل الشعوب التي تقطن هذا المثلث تتكلم البنطوية, ما عدا قبائل الهوتنتوت والبوشيمان والنيجريين, التي سيأتي ذكرها في الفصيلة التاسعة عشرة، وما عدا المتكلمين بالإنجليزية وبالأفريكانية من سكان أفريقيا الجنوبية3. وتشتمل هذه الفصيلة على لغات كثيرة؛ من أشهرها: لغات السوتو Sotho، والسواحلي Swahili، والدوالا Douala، والجندا Ganda, والجالوا Galoa, والتونجا Tonga، والزولو Zoulou "وهي التي يتكلم بها قبائل الزولو"4، والهوسا Haoussa "ويتكلم بها قبائل الهوسا". هذا، وقد كان العرب على اتصال بأهل زنجبار منذ عصور سحيقة، ولذلك عنوا بدراسة لغتهم "المسماة السواحلية Swahili" ودونوها بحروف عربية، وعن طريقهم وصلنا كثير من تفاصيل هذه   1 الغاية هنا خارجة، فلغات الصومال من الشعبة الكوشيتية "إحدى شعب الفصيلة السامية الخامية" كما تقدم، انظر آخر ص202. 2 الغاية هنا داخلة, فلغلة دوالا من أهم لغات هذه الفصيلة. 3 انظر ص171 وتعليق رقم 1. 4 ينحدر الزولو من قبيلة الكافر الأفريقية، ولا يتجاوز عددهم في الوقت الراهن 245 ألفًا, يسكنون بقرى الناتال. وتعد مدينة دربان "أنشئت سنة 1824 وسميت باسم السير بنيامين دربان حاكم مستعمرة الكاب في ذلك العهد" عاصمة بلادهم، ويسكنها أكثر من ستين ألفًا منهم, وهم قوم أولو بأس وشدة وشجاعة نادرة في القتال, ولم ينفكوا يقاتلون المستعمرين من البوير والهولنديين والإنجليز ويدافعون عن استقلال بلادهم حتى غلبوا على أمرهم سنة 1883, وضمت بريطانيا بلادهم رسميًّا إلى ممتلكاتها في أفريقيا, "انظر ما نشره في هذا الصدد الأستاذ منصور جاب الله في جريدة الأهرام في 23/ 1/ 1949. - وانظر كذلك Homburger, dans: Les Langues du Monde, p. 583. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 اللهجة, أما اللغات الأخرى من هذه الفصيلة فقد عني بدراستها كثير من أعضاء الإرساليات الدينية في هذه المنطقة، ودونوها بحروف لاتينية مع أعضاء علامات لتمييز الأصوات الخاصة بها1. 19- لغات البوشيمان والهوتنتوت والنيجريين Boschimans Hottentotes Negrilles, وهي من القبائل الأفريقية الجنوبية, تقطن أولاها الغابات الاستوائية والمناطق الصحراوية، ولا يتجاوز عدد أفرادها الآن خمسين ألفًا، وتقطن ثانيتها منطقة محصورة بين خط عرض 24 جنوب خط الاستواء، والحوض الأدنى لنهر الأورانج وبعض أجزاء من مستعمرة الكاب2، ولا يتجاوز عدد أفرادها الآن ربع مليون يتألف معظمهم من عشائر الناما Nama، وتتألف ثالتثها من أقزام يقطنون الغابات الأستوائية. هذا، ولما كانت هذه الفصائل التسع عشرة ممثلة للقسم البدائي أو الذي وقف نموه من لغات بني الإنسان، فأهميتها النسبية أقل كثيرًا من أهمية الفصيلتين السابقتين "الهندية - الأوروبية، والحامية - السامية"، ولما كان المقام من جهة أخرى، لا يتسع في عجالة كهذه الكلام عنها وعن خصائص كل منها3؛ ولأن الباحثين، من جهة ثالثة، لم يصلوا بعد في دراسة معظمها إلى نتائج ذات بالٍ, لهذا كله آثرنا أن نقتصر على ما سبق ذكره بصددها، ونقف الجزء الباقي من هذا الفصل على تكملة البحث في الفصيلتين الهندية - الأوربية, والحامية -السامية.   1 انظر في هذه الفصيلة Homburger, dans: Les Langues du Monde, pp. 561-591 2 كانت عشائر الهوتنتوت تقطن قديمًا منطقة واسعة جنوب نهر زمبيزي، ثم أخذت هذه المنطقة تضيق شيئًا فشيئًا تحت تأثير غارات البنطويين من الشمال, والأوروبيين من الجنوب, حتى انحصرت في الحدود التي وصفناها. 3 حاولت جمعية اللغة بباريس Societe de Lingutique de Paris تحت إشراف الأستاذين ميية Meillet ومارسل كوهن Marcel Cohen أن تعرض في كتابها "لغات العالم" Les Langues du Monde بحثًا موجزًا في هذه الفصائل التسع عشرة, فاستغرق بحثها هذا نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير. "من 153-713". وقد اشترك في تحريره طائفة من أئمة الأخصائيين في هذه اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 5- بعض ما تختلف فيه الفصيلتان السامية, والهندية - الأوربية: تمتاز كلٌّ من هاتين الفصيلتين عن الأخرى بخواص كثيرة, من أهمها ما يلي1: 1- تتألف أصول الكلمات، في اللغات السامية في الغالب من ثلاثة أصوات ساكنة -أحرف ساكنة2- مختلفة؛ ففي اللغة العربية مثلًا ترجع جميع الكلمات التي فيها معنى القتل، إلى أصل ثلاثي مؤلف من ثلاث أصوات ساكنة مختلفة هي قْ تْ لْ. ولا يشذ عن هذه القاعدة إلّا بعض الحروف والضمائر وبعض أسماء الشرط والموصول, وقليل من أسماء الذوات "يد، دم" ومن الأفعال "قال، وعد، تم، رد3". وهذه الأصول لا توجد مستقلة في اللغات السامية؛ فالأصل الدال على معنى القتل في اللغة العربية مثلًا وهو قْ تْ لْ لا يوجد مستقلًّا في هذه اللغة، بل لا يمكن النطق به.   1 وقف العلماء على هذا الموضوع مجلدات ضخمة، من أحسنها وأقربها مأخذًا في اللغات الهندية - الأوربية كتاب الأستاذ ميية Meillet: lntroduction a l etude comparative des Langues lndo-Europeennes ويقع في نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير، وفي اللغات السامية كتاب العلامة رينان Renan Histoire langues Semitiques, ويقع كذلك في نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير. وقد عرضت جمعية علم اللغة بباريس للفصيلتين معًا في كتابها "لغات العالم" في نحو مائة وخمسين صفحة "1-153". 2 الحرف هو ما يرمز إلى الصوت في الكتابة، فاستعمال كلمة أصوات في هذا المقام أدق من استعمال كلمة حروف، ونريد بالساكنة ما يقابل اللينة. 3 انظر تفصيل هذا الموضوع في مقدمة كتابنا "فقه اللغة". هذا، وأما الكلمات التي تبدو رباعية الأصول في العبرية والعربية فهي متفرعة في الحقيقة عن أصول ثلاثية "دحرج مثلًا متفرعة عن درج أو دحر، على الرغم من أن علماء الصرف يعتبرون جميع أصواتها أصيلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 والأصوات التي يتألف منها أصل ما توجد مرتبة، حسب ترتيبها في هذا الأصل، في جميع الكلمات المشتملة على معناه العام؛ فالأصوات الثلاثة ق ت ل، التي يتألف منها الأصل الدال على معنى القتل، توجد مرتبة بالشكل السابق في جميع الكلمات المشتملة على هذا المعنى: قتل قاتل، قتال، قتيل..إلخ. واشتمال الكلمة على أصوات أصل ما لا يدل على أكثر من تضمنها للمعنى العام لهذا الأصل. أما ما عدا المعنى العام فيشار إليه بأصوات مد طويلة "ألف، ياء، واو..إلخ", أو قصيرة "فتحة، كسرة، ضمة" تلحق جميع أصوات الأصل أو بعضها. فنوع الكلمة "كونها اسمًا أو فعلًا أو حرفًا، اسم فاعل أو اسم مفعول. متعدية أو لازمة، مفردة أو مثنى أو جمعًا.. إلخ", وزمنها: "حدث معناها في الماضي, أو يحدث في الحال, أو في الاستقبال" ووظيفتها في الجملة "كونها فاعلًا أو مفعولًا أو مضافًا إليه أو حالًا أو تمييزًا..إلخ"، كل ذلك وما إليه تدل عليه في اللغات السامية أصوات مدة طويلة أو قصيرة تلحق جميع أصوات الأصل أو بعضها. وأصوات المد الطويلة هي التي يرمز إليها في الكتابة العربية بحروف اللين الثلاثة "الألف والياء والواو" والقصيرة هي التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة, فبضم القاف وكسر التاء وفتح اللام في "قتل المجرم" مثلًا تدل الكلمة على فعل قتل حدث في زمنٍ مضى, ومسند للمفعول, وبمد القاف بالألف وكسر التاء وإبقاء اللام ساكنة في "قاتلْ الذي يقاتلك"، تدل الكلمة على أمر المخاطب بإجراء القتل في صورة متبادلة مع غيره. وبفتح القاف ومد التاء بالياء وكسر اللام في "هذا دم القتيل"، تدل الكلمة على شخص وقع عليه القتل ومنسوب إليه "مضاف إليه" شيء آخر, وبفتح القاف وإبقاء التاء ساكنة مد اللام بالألف في "هؤلاء قتلى الحرب" تدل الكلمة على عدة أفراد وقع عليهم القتل.. هلم جرَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقد يصحب هذا أحيانًا أصوات جديدة تسبق أصوات الأصل الثلاثة أو تتخللها أو تلحقها للدلالة على معانٍ خاصة في الكلمة, فبزيادة ميم محركة بالفتح قبل أصوات الأصل, ونون ساكنة في نهاية الكلمة, مع إبقاء القاف ساكنة وفتح التاء واللام في "أصاب مقتلًا "مقتلن" تدل الكلمة على عضو نكرة تؤدي إصابته إلى القتل, وقد وقع عليه القتل المعبر عنه في الجملة, وبزيادة ياء مفتوحة قبل أصوات الأصل, وتاء مفتوحة بعد القاف, ونون مفتوحة في آخر الكلمة، مع إبقاء القاف ساكنة وكسر التاء ومد اللام بالواو في "القوم يقتتلون" تدل الكلمة على فعل يحدث في الحال أو في الاستقبال في صورة متبادلة بين طائفتين من الذكور الآدميين. ومما تقدَّم يتضح أن للأصوات الساكنة -ونعني بها ما عدا أصوات المد- في اللغات السامية أهمية تزيد كثيرًا على أهمية أصوات المد؛ فالمعنى الأساسي للكلمة يشار إليه غالبًا بالأصوات الساكنة, أما أصوات المد فلا تعدو وظيفتها في الغالب تحديد هذا المعنى العام, وتوجيهه وجهات خاصة, هذا إلى أن الأصوات الساكنة تنال في اللغات السامية أكبر قسط من عناية المتكلم، وهي لذلك أوضح في الجرس من أصوات المد وأظهر منها في السمع, وقد سرت أهمية الأصوات الساكنة في الدلالة والنطق إلى الرسم نفسه, فأهم مايعنى الرسم السامي بإظهاره هي الأصوات الساكنة, أما أصوات المد فيغفل بعضها إغفالًا تامًّا، ويشير إلى بعضها بالشكل، ويرسم بعضها رسمًا مضطربًا غير دقيق, وهذا في الرسم الحديث. أما الأشكال القديمة للرسم السامي فكانت تغفل جميع أصوات المد. أما اللغات الهندية - الأوربية فتختلف عن اللغات السامية - الحامية, فيما يتعلق بأصول الكلمات من أربعة وجوه, أحدها أن أصول الكلمات الهندية - الأوروبية ليست متحدة في عدد أصواتها كما هو شأن الأصول السامية، بل تختلف في ذلك اختلافًا كبيرًا، فمنها الثنائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ومنها الثلاثي ومنها الرباعي ... وهلم جرا, وثانيها: أن أصول الكلمات الهندية الأوروبية ليست مؤلفة من أصوات ساكنة فحسب, كما هو شأن الأصول السامية، بل تختلط فيها الأصوات الساكنة باللينة. وثالثها: أن أهمية الأصوات الساكنة لا تزيد في اللغات الهندية - الأوروبية عن أهمية الأصوات اللينة لا في الدلالة ولا في النطق ولا في الرسم, كما هو الشأن في اللغات السامية. ورابعها: أن الأصل الدال على المعنى العام للكلمة هو نفسه بمنزلة كلمة مستقلة يمكن فصلها والنطق بها على حدة1. وقد يتحقق أحيانًا هذا الفصل في الواقع فيبقى الأصل في الكلمة مجردًا من كل عنصر آخر2. على أنه في حكم الثابت أن جميع أصول الكلمات الهندية الأوروبية كانت في عصورها الأولى -حينما كانت اللغة غير متصرفة3- تستخدم وحدها عارية من كل زيادة4. ويشير الأصل في الكلمة الهندية - الأوروبية إلى معناها العام, أما ما عدا ذلك فيشار إليه بالعلامات الآتية5. أ- أصوات تلحق الأصل فتدل على نوع الكلمة "كونها اسمًا أو فعلًا أو حرفًا اسم فاعل أو مفعول ... إلخ" وتسمى هذه الأصوات "باللاحقة" suffixe وأصل الكلمة مع لاحقتها يسميان مادة الكلمة Theme. وقد يتصل بالأصل أكثر من لاحقة واحدة للدلالة على عدة معانٍ في الكلمة من هذا القبيل, وقد تعرو الكلمة من اللواحق، ولكن تجردها منها يشير هو نفسه إلى معنًى خاصٍّ فيها.   1 V. Renan: Langues Semitiques, 455 suiv. Meillet: lntroduc tion etc ll5-122 2 Meillet op cit 120 3 انظر معنى هذه الكلمة في صفحة 117. 4 Meillet ip cit 119-120 5 انظر في هذه المميزات ومايتصل بها Meillet op cit 115-122 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ب- أصوات تأتي عقب اللاحقة, فتختتم بها الكلمة لتعيين وظيفتها في الجملة "كونها فاعلًا أو مفعولًا أو مضافًا إليه.. إلخ" وزمنها "ماضيًا أو مضارعًا ... إلخ" ونوع إسنادها "كونها مسندة إلى المتكلم أو المخاطب أو الغائب ... إلخ" ودلالتها على مذكر أو مؤنث، مفرد أو مثنى أو جمع ... وهلم جرا. وتسمى هذه الأصوات "بالخاتمة"1 Desinence. ولا يلحق الأصل أكثر من خاتمة واحدة, وقد تتجرد الكلمة من "الخواتم"، ولكن تجردها يشير هو نفسه إلى معنى خاص فيها, فتجرد الفعل مثلًا من الخاتمة يدل في بعض اللغات الهندية - الأوروبية "ومنها الإنجليزية والفرنسية" على أمر مسند للمفرد المخاطب. Aime Love. وقد تتجرد الكلمة من اللاحقة والخاتمة, فيبقى الأصل عاريًا من كل زيادة, ولكن تجرده هذا يدل هو نفسه على معنًى خاصٍّ فيه. جـ- أصوات تسبق الأصل فتلصق بالكلمة في مبدئها للدلالة على معانٍ من نوع المعاني التي تدل عليها الأصوات اللاحقة السابق ذكرها: وتسمى هذه الأصوات "بالسابقة" prefixe د- أصوات لين طويلة أو قصيرة oi ei eau au ui.. etc a e e e e io w تلحق جميع أصوات الأصل أو بعضها على نحو ما تقدم شرحه في اللغات السامية. هـ- شكل النطق بمختلف أجزاء الكلمة؛ ففي بعض اللغات الهندية - الأوروبية يتغير معنى الكلمة بتغير طريقة النطق بأجزائها؛ ففي الإنجليزية مثلًا تتردد بعض الكلمات بين الاسمية والفعلية تبعًا لطريقة النطق بها، فإذا ضغط في النطق على جزئها الأول كانت اسمًا, وإذا ضغط على جزئها الأخير كانت فعلًا: The objict of our book is.. l object against this theory   1 ليست كلمة "الخاتمة" بترجمة لكلمة Desinince, بل هي كلمة من اصطلاحنا لتسهيل التسمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 و موقع الكلمة في الجملة؛ ففي بعض اللغات الهندية - الأوروبية لا يتميز الفاعل من المفعول إلّا بتقديمه في الجملة Pierrr bat Paul وتختلف اللغات الهندية - الأوروبية في مبلغ استخدامها لهذه العلامات الست؛ فمن اللغات الهندية - الأوروبية ما يستخدم جميع هذه العلامات، ومنها ما لا يستخدم إلّا بعضًا، ومنها يستخدم بعضها بكثرة ولا يلجأ لبعضها الآخر إلّا نادرًا. وإليك مثلًا العلامات التي سميناها "السابقة" "رقم جـ": فهي لا توجد في كثير من اللغات الهندية - الأوروبية القديمة، على حين أنها تكثر في الحديثة منها؛ كالإنجليزية والفرنسية وما إليهما Understand Comprindre. 2- لا تكاد توجد في اللغات السامية كلمات تشتمل على أكثر من أصل واحد، على حين أن هذا النوع يكثر في اللغات الهندية - الأوروبية، وبخاصة الحديث منها, وكل كلمة من هذا القبيل تدل على معنًى مركب من معاني الأصول التي تشتمل عليها1. 3- ليس للفعل في معظم اللغات السامية إلّا زمنان: فعل انتهى زمنه "ماضٍ"؛ وفعل لم ينته زمنه "مضارع للحال أوالاستقبال وأمر"،2 على حين أن له في اللغات الهندية - الأوروبية أزمنة كثيرة لكل منها صيغة خاصة: الماضي القريب، الماضي البعيد، الماضي الكامل، الماضي المتصل بالحاضر، المستقبل..إلخ. وقد بلغت هذه الأزمنة في اللغة   1 توجد هذه الظاهرة في اللغات السامية في بعض كلمات قليلة معظمها حديث النشأة، ومن ذلك ما يسمونه بالكلمات المنحوتة: تلاشى "أصبح لا شيء"، حمدل "قال الحمد لله"، بسمل "قال بسم الله" طلبق "قال أطال الله بقاءك"..إلخ. انظر تفصيل هذا الموضوع بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة ص186 وتوابعها. 2 يستثنى من ذلك اللغات الأكادية, فإن الفعل فيها ثلاثة أزمنة أصيلة: زمنان يشار إليهما بأصوات تلحق أول الفعل، وهما الزمن الماضي التام والزمن المضارع للاستقبال، وزمن ثالث يشار إليه بملحق في آخر الفعل, وهو الزمن المعبر عن الاستمرار. "انظر الطبعة السابعة من كتابنا "فقه اللغة" ص29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الفرنسية أحد عشر في الجمل الإخبارية وحدها indicatif Je parle, je parlais, je parlai, jُ ai parle, jُ eu parle, jُ avais parle, jُ ai eu parle, jُavais eu parle, je parlerai, jُ aurai parle, jُ aurai eu parle 4- يحدث في الغالب تأنيث الاسم والصفة في اللغات السامية والحامية بإضافة تاء إلى المذكر, أما في اللغات الهندية - الأوروبية فللتأنيث طرق أخرى كثيرة، منها تضعيف الحرف الأخير للمذكر "Chat, te; gras se"، ومنها استبدال حرف آخر به Loup, Ve; neuf, ve ومنها استبدال عدد من الأحرف الأخيرة في المؤنث بعدد من الأحرف الأخيرة في المذكر "instituteur, trice, pecheur, cheresse" ومنها مد الحرف الأخير في المذكر "berger, ere; fermier, iere" ومنها زيادة بعض حروف على المذكر tigre, resse, fermier, iere" ومنها زيادة بعض حروف على المذكر tigre, resse, comte tesse0- وقد يلتزم التذكير أو التأنيث لبعض الحيوانات والطيور في الفصيلتين، ويدل على الجنس الآخر علامات زائدة على الكلمة "مثلًا الضبع والعقاب مؤنثان دائمًا في اللغة العربية، والذئب Wolf مذكر دائمًا في الإنجليزية ويقال للأنثى she wolf00- وأما الفصائل الأخرى الخارجة عن الإنسان والحيوانات فالتذكير والتأنيث فيها مجرد اصطلاح, وكثيرًا ما يختلف اصطلاح الفصيلتين اللغويتين إحداهما عن الأخرى "مثلًا: الشمس في اللغة العربية مؤنثة, وهي في الفرنسية مذكر، وعلى العكس من ذلك القمر". وفي بعض اللغات الهندية الأوروبية تختلف علامة التعريف تبعًا لجنس ما يلحقها "مذكر أو مؤنث" وتبعا لعدده "في الفرنسية مثلًا Le, La, Les " وهذا لا يكاد يوجد له نظير في اللغات السامية. 5- يميل الأسلوب كثيرًا في اللغات السامية -وخاصة الأسلوب الأدبي- إلى استخدام الكلمات والعبارات في غير ما وضعت له عن طريق الاستعارة والمجاز المرسل والكناية, وما إلى ذلك, أما أساليب اللغات الهندية -الأوروبية فيبدو فيها الحرص على استخدام الكلمات في معناها الأصلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 هذا وقد اعتمدنا في التفرقة بين هاتين الفصيلتين على أمور تتصل بالقواعد لا بالمفردات, وذلك لأن ناحية القواعد هي من أهم ما تمتاز به الفصائل بعضها عن بعض؛ فمنها تتكون شخصية اللغات, وإليها ترجع مقوماتها, وهي التي تمثل المظهر الثابت المستقر في اللغات؛ فهي لا تكاد تتغير، وما يحدث فيها أحيانًا من تغير يجري دائمًا ببطءٍ وفي نطاق ضيق, وهي إلى هذا كله، لا تنتقل بطريق الاقتباس من لغة إلى أخرى1. فتشابه لغتين في القواعد يدل إذن على انتمائهما إلى فصيلة واحدة, واختلافهما فيها يدل على اختلاف فصيلتهما. على حين أن المفردات تمثل المظهر المتقلب, والناحية المتنقلة في اللغات؛ فهي محاطة بعوامل كثيرة تحول دون ثباتها, وتجعلها عرضة للتغير المطرد والتطور السريع، وتذلل لها وسائل الانتقال من لغة إلى لغة, فتشابه لغتين في مفرداتهما عن الأخرى, واختلاف لغتين في مفرداتهما لا يدل على اختلاف فصيلتهما, فقد تكونان من فصيلة واحدة, ويكون السبب في هذا الاختلاف راجعًا إلى أن مفردات كل منهما قد سلكت في تطورها طريقًا يختلف عن الطريق الذي سلكته مفردات الأخرى لاختلافهما في المؤثرات المحيطة بهما, أو أن أحداهما قد اقتبست مفرداتها من لغة ثالثة لا ترطبها بها لحمة قرابة, فبعدت في هذه الناحية عن فصيلتها. فاللغة السريانية مثلًا تعد من فصيلة اللغات السامية، مع أن قسمًا كبيرًا من مفرداتها يتحد مع مفردات اللغة الإغريقية التي تعد من أفراد الهندية - الأوروبية, وذلك لأن قواعد الأولى قواعد سامية، وقواعد   1 سنعرض لهذا الموضوع بتفصيل في الفصل الثاني, وسنذكر فيه أن القواعد إذا انتقلت من لغة إلى أخرى كان انتقالها إيذانًا بزوال اللغة التي انتقلت إليها, واندماجها في اللغة التي انتقلت منها، وأن هذا يحدث حينما تشتبك لغتان في صراع, ويكتب لإحداهما النصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الثانية هندية - أوروبية. وتشابههما في المفردات نشأ عن مجرد اقتباس الأولى من الثانية لما كان يعوزها من كلمات, واللغة التركية تتفق في قسم كبير من مفرداتها مع الفارسية والعربية، مع أن كل لغة من هذه اللغات الثلاث تعد من فصيلة خاصة، فالتركية من الفصيلة التترية، والفارسية من الهندية - الأوربية، والعربية من السامية، وذلك لاحتفاظ كل منها بقواعد فصيلتها, أما تشابهها في المفردات فقد نشأ عن مجرد انتقال طائفة من كلمات اللغتين الثانية والثالثة إلى اللغة الأولى عن طريق الاقتباس, وعلى هذا الأساس عدت الفارسية الحديثة من فصيلة اللغات الهندية - الأوربية، على الرغم من اتفاقها في كثير من المفردات مع اللغة العربية التي تعد من الفصيلة السامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 6- وجوه الشبه بين الفصيلتين السامية والهندية -الأوروبية: ترى طائفة من العلماء أن هاتين الفصيلتين، مع اختلافهما في القواعد، تتفقان في كثير من أصول الكلمات, ومن أشهر أفراد هذه الطائفة: الأساتذة: كلايرت, وبوب, وهمبلت, واوالد, وبنفي, ولاسن, وبوت, وكيل, وبونسن, وليبسيوس, وفورست, وديليتزش1. Klaproth, Bopp, Hunbodlt, Ewald, Benfey, Lassen, Pott, Keol Bunseen, Lepsius, Furst, Delitzsch وقد أوغل كثيرًا في هذا السبيل الأستاذان فورست وديليتزش، فلم يغادرا أصلًا من أصول الفصيلة السامية إلّا كشفا عما يشبهه صوتًا ودلالة من أصول الفصيلة الهندية - الأوروبية.   1 من بين هؤلاء من كشف عن وجوه الشبه بين جميع أفراد الفصيلة الأولى وجميع أفراد الفصيلة الثانية، ومنهم من كشف عن وجوه الشبه بين بعض لغات الفصيلة الأولى وبعض لغات الفصيلة الثانية، كالعلامة ليبسيوس, الذي كشف عما تتفق في أصول الكلمات السنسكريتية مع أصول الكلمات العبرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أما تعليل هذه الظاهرة: فقد انقسم هؤلاء العلماء بصدده إلى ثلاث فرق؛ ففريق يعللها بأن إحدى الفصيلتين قد انشعبت عن الأخرى, وظلت محتفظة بأصول مفرداتها, ولكنها سلكت في تكوين قواعدها وجهة تختلف عن وجهة أصلها، فأخذت تبعد عنه في هذه الناحية شيئًا فشيئًا حتى وصل الخلاف بينهما إلى الحد الذي هما عليه الآن. وفريق يذهب إلى أنهما قد تفرعتا عن لغة دثرت ولم يصلنا شيء من آثارها، وأن هذه اللغة كانت متصرفة1 ذات قواعد كاملة التكوين، وأن قواعد كل فصيلة منهما قد سلكت في تطورها طريقًا يختلف عن طريق الأخرى، ولكن كلتيهما ظلت محتفظة بأصول مفردات اللغة التي انشعبتا عنها. وفريق ثالث يرى أن الشعب الذي تفرف عنه الساميون والأريون, كان له في الأصل لغة مشتركة، وأن انقسامه إلى هاتين الشعبتين قد حدث ولغته في الدور الأول من أدوار تكونها إذ لم تكن قد تجاوزت بعد مرحلة اللغات العازلة2 العارية من القواعد، وأن كل شبعة منهما، تحت تأثير عقليتها الخاصة وما كان يكتنفها من شئون طبيعية واجتماعية، قد اتجهت في تكملة لغتها وتكوين واعدها منحى يختلف عن المنحى الذي اتجهت إليه الشعبة الأخرى، ولكن بقي في مفردات كلتيهما كثير من آثار الأصل المشترك3. غير أن أساس النظرية نفسه، وهو اتفاق الفصيلتين في أصول المفردات اتفاقًا يؤذن بانشعاب إحداهما عن الأخرى أو انشعابهما عن أصل واحد قريب، غير مسلم به من جمهرة المحققين من علماء اللغة.   1 انظر معنى هذه الكلمة بصفحة 115. 2 انظر معنى هذه الكلمة في صفحة 117. 3 نشر الشيخ محمد أحمد مظهر في مجلة الديانات The Review of Religions التي تصدرها باللغة الإنجليزية جماعة الأحمدية في باكستان الغربية بحثًا عنوانه: "اللغة العربية هي أم اللغات جميعًا". وقد بسط نظريته وأدلتها في تسع مقالات نشرت في هذه المجلة من فبراير إلى أكتوبر 1960, ثم أخذ يستعرض أصول طائفة من اللغات الحية والميتة مبينًا انشعابها من أصول اللغة العربية، فطبق نظريته على اللغة السنسيكريتية في عدد نوفمبر سنة 1960، وعلى الإنجليزية في عدد ديسمبر 1960, وتقوم نظريته على الأساس نفسه الذي تقوم عليه النظريات التي نحن بصدد مناقشتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وذلك لأن القائلين بهذه النظرية لم يقدموا على صحتها دليلًا يعتد به, فليس من بين وجوه الشبه التي كشفوا عنها بين هاتين الفصيلتين ما ينهض دليلًا قاطعًا على صحة نظريتهم، بل إن كثيرًا منها لينم على ضعفها وبطلانها, فمن ذلك مثلًا ما اعتمد عليه بهذا الصدد الألمانيان فورست وديليتزش؛ فقد ذهبا إلى أن أصول الكلمات السامية كانت قديمًا مؤلفة من حرفين اثنين, ثم زيد فيما بعد على كل أصل منها حرف ثالث1. وعلى أساس هذا المذهب -الذي لا يؤيده أيّ دليل قاطع, بل قامت أدلة قوية على بطلانه- تحايلًا على التقريب بين الأصول السامية والأصول الهندية الأوروبية؛ فاختارا لكل أصل سامي كلمة هندية - أوروبية تقرب منه في أصواتها ودلالتها، وقررا تفرعهما من أصل واحد, ولإثبات ذلك يختاران حرفين تشترك فيهما الكلمتان، ويقرران أن الأصل السامي كان يتألف قديمًا من هذين الحرفين وحدهما, ثم زيد عليهما فيما بعد حرف ثالث، وأن هذا الأصل الثنائي نفسه هو الذي جاءت منه الكلمة الهندية - الأوروبية. ولا يخفى ما في هذه الطريقة الاستدلالية من تحكم وتخمين ومجافاة للروح العلمي ومناهج البحث الصحيح2, ومن ذلك أيضًا ما ذهب إليه ديليتزش بصدد التشابه بين طائفة من مفردات اللغة العبرية من جهة, وطائفة من مفردات اللغتين الإغريقية واللاتينية من جهة أخرى؛ فقد اتخذ من هذا التشابه دليلًا على صحة النظرية التي نحن بصدد مناقشتها، غافلًا عن أن العبرية الحديثة قد اقتبست كثيرًا من مفردات الإغريقية واللاتينية, ومن الغريب أن الكلمات   1 قد قال بهذا من قبلهما الأستاذ جيزينيوس Gesenius, ومن المتعصبين لهذا المذهب من المستشرقين في العصر الحاضر الأب مرمرجي الدومنكي "انظر كتابة: "هل العربية منطقية، أبحاث ثنائية السنية" وخاصة صفحات 145-150". وقد قال بهذا المذهب نفسه كثير من الباحثين في اللغتين العبرية والعربية وفي الساميات منهم: فارس الشدياق في كتابه: "سر الليال في القلب والإبدال". وقد زعم الأب إنستاس الكرملي أنه زعيم هذا المذهب. انظر تفصيل هذا كله في كتاب الأب مرمرجي الدومنكي السابق ذكره صفحات 156-160, وانظر فيما يتعلق بأصول الكلمات السامية وأصول الكلمات الهندي - الأوروبية, صفحات 217-222. 2 انظر في الرد على هذه النظرية. Renan: Langues Semitiques, p. 448 et suiv الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 التي ذكرها للاستدلال على مذهبه, هي ذاتها من أشهر ما اقتبسته العبرية الحديثة من هاتين اللغتين, وآخرون من المؤيدين لهذه النظرية يعتمدون في إثبات التشابه بين مفردات الفصيلتين السامية والهندية - الأوروبية على كلمات تكاد تتفق في جميع اللغات لانحدارها من الأصل الأول الذي نشأت منه اللغة الإنسانية، وهو أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأصوات التي تحدثها الأفعال وأصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات وما إلى ذلك. وغنيٌّ عن البيان أن كلمات هذا شأنها لا تدل على ما يذهب إليه أصحاب هذه النظرية من انشعاب إحدى الفصيلتين على الأخرى, أو انشعابهما عن أصل قريب, وبعض المؤيدين لهذه النظرية يعتمد في إثبات القرابة بين الفصيلتين على وجوه شبه بعيدة بين مفرداتهما, أو على تقارب جاء عن طريق الصدفة والاتفاق. وقصارى القول: لا نكاد نجد من بين الأدلة التي اعتمد عليها أصحاب هذه النظرية ما يستحق المناقشة، فضلًا عن أن ينهض حجة قاطعة على صحتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفصل الثالث: صراع اللغات 1 1- نظرة عامة في عوامله وآثاره في حياة اللغة : يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها من احتكاك وصراع وتنازع على البقاء وسعى وراء الغلب والسيطرة, وتختلف نتائج هذا الصراع باختلاف الأحوال؛ فتارةً ترجح كفة أحد المتنازعين فيسارع إلى القضاء على الآخر، مستخدمًا في ذلك وسائل القسوة والعنف، ويتعقب فلوله فلا يكاد يبقى على أثر من آثاره, وتارةً ترجح كفة أحدهما كذلك، ولكنه يمهل الآخر، وينتقص بالتدريج من قوته ونفوذه، ويعمل على خضد شوكته شيئًا فشيئًا حتى يتم له النصر, وأحيانًا تتكافأ قواهما أو تكاد، فتظل الحرب بينهما سجالًا، ويظل كل منهما في أثنائها محتفظًا بشخصيته ومميزاته. وينشأ هذا الصراع عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله، والآخر أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع, ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. وسنقف على دراسة كل عامل من هذين العاملين ونتائجه فقرة على حدتها.   1 سنقتصر في هذا الفصل على الصراع بين اللغات المستقلة, أما الصراع بين لهجات اللغة الواحدة فقد عرضنا له في أثناء كلامنا على تفرع اللغات في الفصل الأول من هذا الباب. "انظر صفحات 179-184"، وذلك لأن هذا النوع الأخير من الصراع يلازم التفرع ويسايره ويكمل عمله، وذلك على عكس الصراع بين اللغات المنفصلة، فإنه مستقل عن التفرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 2- العامل الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى البلد قد يحدث على أثر فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة ... أن ينزح إلى البلد عنصر أجنبي ينطق بلغة غير لغة أهله؛ فيشتبك اللغتان في صراعٍ ينتهي إلى إحدى نتيجتين؛ فأحيانًا تنتصر لغة منهما على الأخرى؛ فتصبح لغة جميع السكان قديمهم وحديثهم, أصيلهم ودخيلهم، وأحيانًا لا تقوى واحدة منهما على الأخرى؛ فتعيشان معًا جنبًا لجنب. أ- الحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين: وتحدث النتيجة الأولى، وهي أن تتغلب إحدى اللغتين على الأخرى فتصبح لغة جميع السكان أصيلهم ودخيلهم، في حالتين: الحالة الأولى: أن يكون كلا الشعبين همجيًّا, قليل الحضارة, منحط الثقافة، ويزيد عدد أفراد أحدهما عن عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة؛ ففي هذه الحالة تتغلب لغة أكثرهما عددًا سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل, وذلك أنه عند انعدام النوع يتحكم الكم في مصير الأمور, ولكن هذه النتيجة لا تحدث إلّا إذا كانت اللغتان المتصارعتان من شعبة لغوية واحدة أو شعبتين متقاربتين. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ, فمن ذلك أن الإنجليز السكسونيين، حينما نزحوا من أواسط أوربا إلى إنجلترا، لم تلبث لغتهم أن تغلبت على اللغات السلتية التي كان يتكلم بها السكان الأصليون, وذاك لأن عدد من بقي من السلتيين بهذه الأقاليم لم يكن شيئًا مذكورًا بجانب عدد المغيرين، وكلا الشعبين كان همجيًّا منحطًّا في مستوى حضارته ومبلغ ثقافته، وكلتا اللغتين تنتمي إلى فصيلة اللغات الهندية الأوربية. والنورمانديون Normands، حينما أغاروا على إنجلترا في منتصف القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أقاليهما، لم تلبث لغة الشعب المقهور أن تغلبت على لغتهم، فأصبح جميع السكان، أصيلهم ودخيلهم، إنجليزهم ونورمانديهم، يتكلمون الإنجليزية السكسونية, وذلك لأن الإنجليز المغلوبين كانوا أكثر عددًا من النورمانديين الغالبين، ولم يكن لأحد الشعبين إذ ذاك حضارة ولا ثقافة راقية، وكلتا اللغتين من الفصيلة الهندية الأوربية. وقد يحدث أحيانًا في هذه الحالة أن تتغلب لغة على أخرى من غير فصيلتهما, ولكن هذه الظاهرة نادرة الحدوث، ولا يتم التغلب فيها إلّا بصعوبة, وبعد أمد طويل, واللغة التي تنشأ من هذا التغلب ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بيها، لشدة الاختلاف بينها وبين لغته الأصيلة؛ فتبعد بعدًا كبيرًا عن صورتها الأولى؛ فالبلغاريون، وهم من أصل فينواني Finois، حينما نزحوا إلى البلقان وامتزجوا بشعوب الصقالبة "الشعوب السلافية Slaves" أخذت لغتهم تنهز شيئًا فشيئًا أمام لغة هذه الشعوب حتى انقرضت وحلَّ ملحا لسان صقلبي, وذلك لأن عدد البلغاريين لم يكن شيئًا مذكورًا بجانب عدد الصقالبة الممتزجين بهم، وكلتا الفئتين كانت إذ ذاك همجية منحطة في مستوى حضارتها ومبلغ ثقافتها, وقد حدث هذا التغلب مع اختلاف اللغتين في الفصيلة، فلغة البلغاريين الأصلية كانت من الفصيلة الفينية1، على حين أن اللغات الصقلبية من الفصيلة الهندية الأوربية2, ولكن هذا التغلب لم يتم إلّا بصعوبة, وبعد أمد طويل وصراع عنيف, خرجت منه اللغة الغالبة مشوهة محرفة عن مواضعها في ألسنة المحدثين من الناطقين بها، فبعدت بعدًا كبيرًا عن صورتها القديمة؛ فالبلغارية الحديثة هي أكثر اللهجات الصقلبية تحريفًا وبعدًا عن أصولها الأولى. الحالة الثانية: أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب   1 انظر ص209 "رقم 11" و210. 2 انظر صفحة 199 رقم 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأسًا وأوسع نفوذًا؛ ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته فتصبح لغة جميع السكان، وإن قلّ عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب، على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاده الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ؛ فقد نجم عن فتوح الرومان في وسط أوروبا وجنوبها وشرقها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لإيطاليا وأسبانيا وبلاد الجول Lu Gaule "فرنسا وما إليها" والألب الوسطى Alpes Centrales والأليريا lllyrie، مع أن الرومان المغيرين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين, وقد نجم عن غزو الآراميين للبلاد الناطقة بالأكادية والفينيقية والعبرية أن تغلبت لغتهم على هذه اللغات، مع أن الآراميين المغيريين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين1, وقد نجم عن فتوح العرب في آسيا وأفريقيا أن تغلبت لغتهم على كثير من اللغات السامية الأخرى, وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية2، فأصبحت اللغة العربية لغة الحديث والكتابة في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية وفي مصر وشمال أفريقيا, وفي جزء كبير من قسمها الشرقي المتاخم لبلاد الحبشة، مع أن الجالية العربية في هذه البلاد كان عددها أقل كثيرًا من عدد السكان الأصليين. وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبًا لإحدى اللغتين إلّا بعد أمد طويل يصل أحيانًا إلى أربعة قرون، وقد يتمد إلى أكثر من ذلك؛ فالرومان قد أخضعوا بلاد الجول La Gaule "فرنسا وما إليها"   1 انظر تفصيل ذلك في الفصول الأول والثاني والثالث من كتابنا "فقه اللغة". 2 انظر هذه اللغات بصفحات 202-205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 في القرن الأول الميلادي، ولكن لم يتم النصر للغتهم اللاتينية على اللغة السلتية التي كان يتكلم بها أهل هذه البلاد إلّا حوالي القرن الرابع الميلادي, ومع ما كان للعرب من قوة الشوكة، ورقي اللغة، واتساع الحضارة، وحماية الدين، وسطوة الغالب، لم يتم النصر للغتهم على القبطية والبربرية إلّا بعد أمد طويل, على أن اللغة القبطية لا تزال مستخدمة في كثير من الطقوس الدينية الأرثوذكسية1، واللغات البربرية لا تزال إلى الوقت الحاضر لغة محادثة لدى بعض العشائر في المغرب والجزائر وتونس وليبيا2. وغنيٌّ عن البيان أن انتصارًا لا يتم إلّا بعد أمد طويل وجهاد عنيف، لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة نفسها التي كان عليها من قبل؛ فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع, بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في كثير من مظاهرها وبخاصة في مفرداتها. ويختلف مبلغ هذا التأثر باختلاف الأحوال؛ فتكثر مظاهره كلما   1 ظل انتشار اللغة العربية في مصر بطيئًا طوال القرن الهجري الأول, وقبيل نهاية هذا القرن "أي في سنة 87هـ-705م" وفي ولاية عبد الله بن عبد الملك على مصر من قِبَلِ أخيه الوليد بن عبد الملك بن مروان أمر بالدواوين فنسخت بالعربية, وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية "انظر الكندي ص58، 59". وجاء في دائرة المعارف الإسلامية في مادتي "ديوان" و"قبط" "إن الدواوين في مصر كانت تكتب باليونانية لا القبطية" وهذا هو الأصح, وظل التحول من الكتابة باليونانية في الدواوين والتحدث بالقبطية إلى الكتابة والتحدث بالعربية بالتدريج خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، حتى إذا كان القرن الرابع كانت غالبية الشعب المصري يتكلمون العربية ولا يفهمون القبطية، بدليل أن رجال الكنيسة أنفسهم اضطروا في هذا القرن أن يلقوا مواعظهم في الكنائس باللغة العربية, وليس معنى ذلك أن القبطية كانت قد انقرضت كل الانقراض في هذا العصر؛ فالحقيقة أنها ظلت باقية في السنة بعض المناطق مدة طويلة بعد ذلك، بدليل ما يذكره المقريزي من أن المأمون كان ينتقل من ريف مصر ومعه مترجم "دخل المأمون مصر سنة 217هـ" وما يذكره المقدسي في "أحسن التقاسيم"، "ألفه حوالي سنة 375هـ" من أن بعض مسيحي مصر كانوا يتحدثون بالقبطية "انظر في هذا مقالًا للأستاذ جمال الدين الشيال في العدد 334 بتاريخ 22/ 5/ 45 من مجلة الثقافة". 2 انظر التعليق الثاني بصفحة 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 طال أمد احتكاك اللغتين, وكان النزاع بينهما عنيفًا والمقاومة قويةً من جانب اللغة المقهورة، وتقل مظاهره كلما قصرت مدة الصراع، أو خفت وطأة النزاع، أو كانت المقاومة ضعيفة من جانب اللغة المغلوبة, فلطول الأمد الذي استغرقه الكفاح بين لغة الإنجليز السكسون بإنجلترا, ولغة الفاتحين من الفرنسيين النورمانديين "الذين أغاروا على بلاد الإنجليز في القرن التاسع الميلادي, واحتلوا معظم مناطق إنجلترا كما سبقت الإشارة إلى ذلك"، ولشدة المقاومة التي أبدتها اللغة النورماندية المقهورة، خرجت اللغة المنتصرة "الإنجليزية" من هذا الصراع وقد فقدت أكثر من نصف مفرداتها الأصلية, واستبدلت به كلمات من اللغة النورماندية المغلوبة، واقتبست منها فضلًا عن هذا مفردات أخرى جديدة, على حين أن لغة بلاد الجول Le Gaule التي انتصرت عليها اللغة اللاتينية لم تترك في اللغة الغالبة أكثر من عشرين كلمة1، واللغات القبطية والبربرية المغلوبة لم تكد تترك أيّ أثر في اللغة العربية الغالبة2، وذلك لأن الصراع في هذين المثالين، على   1 على أن بعض هذه الكلمات كان قد انتقل إلى اللاتينية قبل غزو الرومان لبلاد الجول. 2 تركت اللغات البربرية آثارًا كثيرة في اللهجات العامية المغربية، وتركت اللغة القبطية في اللهجات العامية المصرية آثارًا كثيرة وخاصة في المفردات؛ فمن ذلك "مم" بمعنى أكل, مأخوذ من الكلمة المصرية القديمة "أونم"، و"أمبو" مأخوذة من الكلمة القبيطة "أمبمو" بمعنى أنا أشرب، و"واوا" مصرية قديمة بمعنى ألم أو وجع، "و"الكخ" بمعنى القذارة، و"تاتا" مصرية قديمة ومعناها "أمش"، و"البعبع" أصلها "بوبو" وهو اسم عفريت مصري قديم، و"البخ" كلمة قبطية بمعنى شيطان، وعندما يلعب أطفال الفلاحين المصريين بالكرة الشراب فإنهم يقولون "سنو" و"كحكو" و"شكا" "والكلمة الأولى معناها اثنان، والتي تليها معناها يتمنى، والأخير معناها يضرب، وكلها من المصرية القديمة"، و"الحمرأة" أي: التردد وعدم الثبات، والسماء "ترخ" أي تنزل المطر بغزارة، "والمدمس" أصلها "المتمس" بمعنى الفول المطبوخ في الفرن، و "البيصارة" وأصلها بيصورة وهي قبطية كذلك، و"ياما" قبيطة ومعناها كثير، وكلمة "عنتيل" قبطية ومعناها قوي، و"باش" الخبز أي تبلل وهي قبطية، وعندما نغني نقول: "ياليل يا عين" أو يا ليلى يا عيني" والكلمة الأولى أصلها"ليليى" ومعناها بالقبطية الفرحة أو البهجة، وكأننا نقول يا فرحة عيني, أو يا بهجة عيني، ويقول المراكبية "يا للاهيليصا" ومعناها في الأصل القبطي لقد سقطنا في الوحل، والليص معناها الوحل، ونقول فلان "لايص" أي وقع في الوحل، وفي الاستغاثة نقول "جاي" كلمة قبطية بمعنى أغيثوني، وكلمة "شبرًا" معناها الحقل، ويقال "شبرامنت" أي: شبرا الغربية، و"شبراخيت" أي شبرا الشماية, "وكلمة "ميت" التي تسبق أسماء البلاد معناها طريق بالقبطية، وكلمة "مينا" التي تسبق أسماء البلاد معناها بالقبطية محطة، ومعظم أسماء الأدوات المنزلية ترجع إلى أصول مصرية قديمة؛ مثل: الفوطة والفاس والمأجور والمنشة والزباطة.. "انظر كتاب "آثار حضارة الفراعنة في حياتنا" للأستاذ محرم كمال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 طول أمده، لم يكن عنيفًا, ولم تلق في أثنائه اللغتان الغالبتان "اللاتينية في المثال الأول, والعربية في المثال الثاني" مقاومة شديدة من جانب اللغات المقهورة "لغة الجول السلتية في المثال الأول, والقبطية والبربرية في المثال الثاني". وتختلف كذلك النواحي التي يبدو فيها تأثر اللغة الغالبة باللغة المغلوبة تبعًا لاختلاف الأحوال التي تكون عليها كلتا اللغتين في أثناء اشتباكهما, ويبدو هذا التأثر بأوضح صورة في النواحي التي تكون فيها اللغة المغلوبة متفوقة على اللغة الغالبة, ولذلك تألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية "الغالبة" عن الفرنسية النورماندية "المغلوبة" من كلمات دالة على معانٍ كليةٍ, وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام, وذلك لأن النورماندية كانت غنية في هاتين الطائفتين من المفردات، على حين أن الإنجليزية كانت فقيرة فيهما كل الفقر؛ فعمدت إلى خصيهما المقهور واستلبته ما كان يعوزها قبل أن تجهز عليه, وإلى اقتباسها منه الألفاظ المتصلة بشئون المائدة والطهي وألوان الطعام يرجع السبب في أسلوبها الغريب في تسمية الحيوانات المأكولة اللحم؛ فكثير من هذه الحيوانات يطلق على كل منها في الإنجليزية اسمان: اسم جرماني الأصل يطلق على الحيوان مادام حيًّا "sheep calf ox pig, واسم آخر فرنسي الأصل يطلق عليه بعد ذبحه وإعداده للغذاء "mutton veal beef pork". والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها "المغلوبين لغويًّا"، فتبعد بذلك في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى, ويبلغ بعدها هذا أقصى درجاته إذا كانت اللغة المقهورة من فصيلة أخرى غير فصيلة اللغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الغالبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك1. والألفاظ الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك كثير من التحريف في أصواتها ودلالاتها وطريقة نطقها؛ فتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة, ويظهر هذا بالموازنة بين الكلمات الإنجليزية الآتية, والكلمات الفرنسية التي اقتبست منها: Motton, veal, beef. - Mouton, veau, boeuf، فإن كل كلمة منها تختلف عن أصلها اختلافًا غير يسير؛ في أصواتها ودلالتها وطريقة النطق بها، حتى أن الفرنسي الذي لا يعرف الإنجليزية لا يكاد يتبينها أو يدرك مدلولها إذا سمعها من إنجليزي. وليست هذ الظاهرة مقصورة على الاقتباس الناشئ من الصراع بين لغتين كتب لأحداهما النصر، بل هو ظاهرة عامة تتحقق في جميع الحالات التي يحدث فيها انتقال مفرد من لغة إلى أخرى. وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها مراحل كثيرة, تمتاز كل مرحلة منها بمظهر خاص من مظاهر الانحلال وضعف المقاومة, ففي المرحلة الأولى تقذفها اللغة الغالبة بطائفة كبيرة من مفرداتها, فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته, ولكن اللغة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة بقواعدها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فيؤلف أهلها عباراتهم ويصرفون مفرداتهم وفقًا لقواعدهم التنظيمية والمورفولوجية "السنتكس والمورفولوجيا"، وينطقون بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقًا لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم، حتى إنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفًا قريبة منها من حروف لغتهم, وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللغة المغلوبة أصوات اللغة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات, فينطق أهل اللغة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ   1 انظر ما ورد بصفحة 231 بصدد البلغارية الحديثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 دخيلة من المخارج نفسها, وبالطريقة نفسها التي يسير عليها النطق في اللغة الغالبة, فيزداد بذلك انحلال اللغة المغلوبة, ويؤذن نجمها بالأفول, ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية "قواعد المورفولوجيا والسنتكس", وفي مقاومة قواعد اللغة الغالبة؛ فيركب أهمها جملهم ويصرفون كلماتهم وفق أساليبهم الأولى, وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئًا فشيئًا, فتأخذ قواعد اللغة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم لها الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللغة المغلوبة, فالقواعد في اللغة المغلوبة أشبه شيء بالقلعة التي تحتمي بها فلول الجيش المنهزم, وتقاتل عنها حتى آخر رمق، والتي يتم بسقوطها استيلاء العدو على البلاد. ب- الحالات التي لا تقوى فيها إحدى اللغتين على التغلب: وأما النتيجة الثانية وهي عدم تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وبقاؤهما معًا جنبًا لجنب, فتحدث فيما عدا الحالتين المشار إليهما في الفقرة السابقة. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر, فاللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على اللغة الإغريقية، مع أن الأولى كانت لغة الشعب الغالب، وذلك لأن الإغريق، مع خضوعهم للرومان، كانوا أعرق حضارة وأوسع ثقافة وأرقى لغة، وقد سبق أن انهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب لا يحدث إذا كان الشعب الثاني أرقى من الشعب الأول في جميع هذ الأمور1. ولهذه الأسباب نفسها لم تقو لغات الشعوب الجرمانية التي قوضت الإمبراطورية الرومانية الغربية في فاتحة العصور الوسطى على التغلب على اللغة اللاتينية في البلاد التي قهرتها بمناطق الجول Le Gaule "فرنسا" وما إليها. واللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على لغات أهل بريطانيا العظمى، على الرغم من فتح الرومان لبلادهم واحتلاهم   1 انظر آخر صفحة 231 وصفحة 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إياها نحو مائة وخمسين سنة، وعلى الرغم من أن الشعب الغالب كان أرقى كثيرًا من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته، وذلك لأن الجالية الرومانية في الجزر البريطانية لم تكن شيئًا مذكورًا ولم تمتزج امتزاجًا كافيًا بأفراد الشعب المغلوب، وقد تقدَّم أن الغلب اللغوي لا يتم في مثل هذه الحالات إلّا إذا أقامت في البلاد المقهورة جالية يعتد بها من أفراد الشعب الغالب, وتم الامتزاج بينها وبين أفراد الشعب الآخر1. واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغة الفارسية، على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس وبقائها تحت سلطانهم أمدًا طويلًا، وذلك لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارة من الشعب الفارسي، ولقلة عدد الجالية العربية بفارس، وضعف امتزاجها بالسكان، ولانتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين "فالعربية من الفصيلة السامية والفارسية من الفصيلة الهندية - الأوروبية"2. واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغات الأسبانية على الرغم من فتح العرب للأندلس وبقائها تحت سلطانهم نحو سبعة قرون، وذلك لانتماء العربية إلى فصيلة غير فصيلة اللغات الأسبانية, ولعدم امتزاج الشعوب القوطية بالشعب العربي. واللغة التركية لم تقو على التغلب على لغة أية أمة من الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بأوربا وآسيا وأفريقيا، على الرغم من بقاء هذه الأمم مدة طويلة تحت سلطان تركيا، وذلك لاختلاف فصائل اللغات؛ فالتركية من الفصيلة الطورانية, على حين أن لغات معظم الأمم التي كانت خاضعة لتركيا من الفصيلة السامية - الحامية أو الهندية - الأوروبية، ولأن الترك كانوا أقل حضارةً وثقافةً من معظم الشعوب التي كانت تابعة لهم، ولقلة عدد جاليتهم في بلاد هذه الشعوب، ولضعف امتزاجها بالسكان, ولم تقو الإنجليزية على التغلب على اللغات الهندية على الرغم من خضوع الهند لإنجلترا   1 انظر آخر صفحة 231 وأول صفحة 232. 2 تقدم أن انتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين يحول غالبًا دون انتصار إحداهما على الأخرى. "انظر آخر صفحة 231 وأول صفحة 232". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أمدًا طويلًا، وذلك لأن شعوب الهند أعرق حضارة من الإنجليز، ولقلة أفراد الجالية الإنجليزية بهذه البلاد، وعدم امتزاجها بالسكان1. ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثر كل منهما بالأخرى؛ فقد تأثرت اللاتينية بالإغريقية في أساليبها وآدابها, واقتبست منها طائفة كبيرة من مفرداتها, وتأثرت الإنجليزية بعض التأثر باللاتينية من قبل أن تتأثر تأثرًا كبيرًا بشعبة من شعبها وهي النورماندية, وقد تركت اللغة العربية آثارًا قوية في الأسبانية والبرتغالية، وبخاصة في المناطق التي كانت تسمى بالأندلس أو أندلوسيا Andalousie؛ حيث دام سلطان العرب عدة قرون2, والصراع بين العربية والفارسية، وإن لم ينته إلى تغلب إحداهما، قد ترك في كلٍّ منهما آثارًا واضحة من الأخرى، وبخاصة من ناحية المفردات, والصراع بين التركية ولغات الأمم التي خاضعة للإمبراطورية العثمانية، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد ترك في التركية آثارًا قوية من هذه اللغات, وبخاصة من اللغة العربية، وترك كذلك في هذه اللغات آثارًا ظاهرة من التركية3. حـ- الخلاصة: وقصارى القول: متى اجتمع لغتان في بلد واحد لا مناص من تأثر كل منهما بالأخرى، سواء تغلبت أحداهما أم كتب لكتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف في مبلغه ومنهجه ونواحي ظهوره ونتائجه   1 ولكن أصبحت الإنجليزية لغة ثقافة ولغة تفاهم مشترك بين سكان القارة الهندية المتعددة لغاتهم. 2 ويظهر أن الآثار التي تركتها العربية في البرتغالية قد بلغت درجة كبيرة من الضخامة حتى أن بعض الباحثين أفرد مؤلفات خاصة للكلمات البرتغالية المأخوذة من العربية, ومن هؤلاء الأستاذ راجي باسيل في ريو دي جانيرو بالبرازيل؛ فقد طبع أربع كراسات عنوانها: "معجم الكلمات البرتغالية المأخوذة من العربية" وقدم هذه الكراسات إلى جريدة الأهرام، ونشرت ذلك جريدة الأهرام بعددها الصادر في 29/ 3/ 1944. 3 قد بلغ هذا التأثر مبلغًا كبيرًا في بعض هذه اللغات؛ فلغة العراق في العصر الحاضر مثلًا قد أخذت عن التركية كثيرًا من المفردات وبعض الأصوات التي لا نظير لها في العربية؛ كالصوت الذي ينطق به بين الشين والجيم المعطشة في مثل عربنجي" وطائفة من القواعد الصرفية كقواعد النسب والنعت والإضافة في مثل: عربنجي "سائق العربة"، خوش ولد "خوش كلمة فارسية الأصل معناها حسن"، كتبخانة ""دار الكتب".. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية, فإذا كان الغلب قد كتب لإحداهما نراها تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كبرت كميته، فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، بدون أن تدع له مجالًا للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي، على حين أن المغلوبة لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الغالبة من مفردات وقواعد وأساليب, ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها وتفنى أنسجتها الأصلية شيئًا فشيئًا حتى تزول؛ كما كان شأن الإنجليزية الغالبة مع النورماندية المغلوبة. وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه وتفيض عليه من حيويتها, وتقاوم آثاره الهدامة، فتبقى كل منهما متميزة الشخصية, موفورة القوى, سليمة البناء؛ كما كان شأن الفارسية مع العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 3- العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي : تجاور شعبين مختلفي اللغة: يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصًا كثيرة لاحتكاك لغتيهما، فتشتبكان في صراع ينتهي إلى واحدة من النتيجتين نفسيهما اللتين ينتهي إليهما الصراع في العامل الأول؛ فأحيانًا تنتصر إحدى اللغتين على الأخرى وتحتل مناطقها، فتصبح لغة مشتركة بين الشعبين، وأحيانًا لا تقوى واحدة منهما على الأخرى فتعيشان معًا جنبًا لجنب. أ- الحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين: وتحدث النتيجة الأولى وهي تغلب إحدى اللغتين على الأخرى في حالتين: الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعًا، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعًا لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين, وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له، على شريطة ألّا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته، ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ, وأكثرها دلالةً بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية, فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى "بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا..إلخ" وقضت على لهجاتها الأولى1. الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور, وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ, على شريطة ألّا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته، ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور. والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف مراحل التاريخ؛ فلغة شعوب الباسك قد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين, وأمام اللغة الأسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الأسبانيين، حتى كادت تنقرض في كلتيهما كما سبقت الإشارة إلى ذلك2. واللهجات السلتية3 التي كان يتكلم بها معظم السكان يإيرلندا وويلز وأسكتلندا, قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد, حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضًا تامًّا من لغة الحديث.   1 ترجع بعض مظاهر هذا التغلب اللغوي إلى الغارات التي شنها الجرمان قديمًا على هذه المناطق, أي: إلى أمور تتصل بالعامل الأول لا بهذا العامل؛ فالتمثيل هنا مقصور على الحالات التي تمَّ فيها تغلب اللغة المانية في صورة سلمية تحت تأثير الجوار وتكاثف السكان. 2 انظر ص211 "رقم 12". 3 انظر 198 "رقم 6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون Bretagne1 "في القسم الغربي من فرنسا على سواحل الأطلانطيق"، فقد أخذت تتهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلّا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ2. واللغة الفرنسية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان "والونيا" Wallonie ببلجيكا, ولنحو 22 في المائة من سكان سويسرا. واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 5،3% من سكان هذه الجمهورية. واللغة العربية قد تغلبت في العصور السابقة للإسلام على اللغة اليمنية بحكم الجوار وتغلغل نفوذ العرب في البلاد اليمنية مع توافر الشروط الأخرى3. وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في الدولة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة, أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ, فلوقوع عاصمة بلجيكا "بروكسل" في مقاطعة "والونيا" ذات اللسان الفرنسي4 ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ   1 انظر ص198 "رقم 6". 2 ظلت هذه المقاطعة تتمتع بشيء من استقلالها الذاتي حتى عام 1491، "في عهد شارل الثامن", ومن ذلك العهد اعتبرت تابعة للتاج الفرنسي, ولكن لم يتم ضمها إلى فرنسا إلّا عام 1532 في عهد فرنسوا الأول. وانقرضت كذلك من لغة الحديث بين أبناء الجيل الحاضر, وكادت تنقرض من لغة الشيوخ أنفسهم, وقد زرت هذه المقاطعة وقضيت عدة أشهر متنقلًا في بلادها, فلم أسمع هذه اللغة إلّا من عدد قليل من الشيوخ الأميين، وحتى هؤلاء أنفسهم لا يتكلمون لغتهم هذه إلّا فيما بينهم, أما مع غيرهم فيتكلمون الفرنسية, ولكن ينال كلماتها وتراكيبها وأساليبها في ألسنتهم كثير من التحريف. 3 انظر تفصيل ذلك في الفصلين الرابع والسادس من كتابنا "فقه اللغة". 4 وهو القسم الجنوبي من بلجيكا، وينحدر سكانه من أصول سلتية ولاتينية, على حين أن القسم الشمالي المسمى بالفلاندر Flandre ينحدر سكانه من أصل جرماني, ويتكلمون اللغة الفلامندية Flam التي يتألف منها ومن اللهجات الهولندية فرع اللغات النثرلاندية Neerlandaises, وهو أحد فروع اللغات الجرمانية الغربية. "انظر آخر ص198 رقم 7 وأول ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والسلطان في هذه المملكة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية "لغة القسم الشمالي من بلجيا المسمى "فلاندر"1، وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا "برن" في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان, وتتألف منهم الأغلبية الساحقة "يتكلم الألمانية في سويسرا نحو 70% من أهلها2, أخذت اللغة الألمانية تطغى على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين. وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي. وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبًا لإحدى اللغتين إلّا بعد أمد طويل يبلغ بضعة قرون3؛ فالصراع بين الألمانية والفرنسية بسويسرا قد بدأ منذ عهد سحيق، ومع ذلك لم يتم بعد للألمانية النصر النهائي. والصراع بين اللغة الفرنسية واللسان السلتي الذي يتكلم به البريتونيون "سكان مقاطعة البريتون Bretagne قد نشب منذ عدة قرون، ومع ذلك لا يزال كثير من شيوخ البريتون في العصر الحاضر يتكلمون بهذا اللسان4. ولا تزال اللهجة   1 انظر التعليق السابق. 2 فلغات سويسرا بين سكانها على النحو الآتي: نحو 72% يتكلم الألمانية, ونحو 23% يتكلم الفرنسية، ونحو 5% يتكلم الإيطالية, وفضلًا عن ذلك توجد في سويسرا منطقة صغيرة يتكلم سكانها لغة خاصة تعرف باسم رومانش. Romanche ou Roumanche ou Rheto Roman ولكن المتكلمين بهذه اللهجة في سويسرا لا يتجاوزون 1% من مجموع السكان, ويقطنون مقاطعتي جريزون Grison, والتيرول Tyrol السويسرية, ويتكلم بهذه اللهجة كذلك في التيرول النمساوية والإيطالية "التيرول مقاطعة من مقاطعة الألب الشرقية مقسمة بين سويسرا والنمسا وإيطاليا", ويتكلم بها كذلك في مقاطعة فيريئول Frioul "وكانت هذه المقاطعة تابعة للنمسا حتى سنة 1919, ثم ألحقت بإيطاليا, وتطالب يوغوسلافيا بقسم منها". ولهجة الرومانش متشعبة من اللاتينية وقوية الشبه بها. 2 تزيد عادةً المدة التي يظهر فيها أثر هذا العامل عن المدة التي يظهر فيها أثر العامل السابق, والتي أشرنا إليها في آخر 232 وأول 233. 4 انظر أول ص242 وتعليقها الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 السلتية لغة محادثة بين عامة الإيرلنديين في العصر الحاضر، مع أن تغلب الإنجليزية قد بدأ في هذه البلاد منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي, وقد أخذت لغة قريش تطغى على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي، ومع ذلك ظلت آثار هذه اللغات واضحة في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي. وغنيٌّ عن البيان أن انتصارًا لا يتم إلّا بعد أمد طويل, لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل؛ فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع، بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها, كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العامل الأول1. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سليمة متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة, ويخفف من تأثرها باللغة المغلوبة. والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها "المغلوبين لغويًّا"، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالالتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى. والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغات المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها، فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم. وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها المراحل نفسها التي أشرنا إليها في العامل الأول؛ فينفذ الانحلال أولًا إلى مفرداتها، ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها, وأساليبها في نطق الكلمات؛ ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها2.   1 انظر صفحة 233 وتوابعها. 2 انظر صفحتي 236، 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ب- الحالات التي لا تقوى فيها إحدى اللغتين على التغلب: أما النتيجة الثانية, وهي عدم تغلب إحدى اللغتين المتجاورتين على الأخرى, وبقاؤهما معًا جنبًا لجنب؛ فتحدث فيما عدا الحالتين المشار إليهما في الفقرة السابقة. ويدخل في هذا الباب معظم العلاقات بين اللغات المتجاورة في العصر الحاضر, فالجوار بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأسبانيا والبرتغال لم يؤد إلى تغلب لغة شعب منها على لغة شعب آخر؛ لأن احتكاك لغاتها لا ينطبق على حالة من الحالتين اللتين يحدث فيهما التغلب بالمجاورة, ولهذا السبب نفسه لم يؤد الجوار بين الفارسية والعراقية والتركية والأفغانية إلى تغلب لغة منها على لغة أخرى, وكذلك شأن الإنجليزية في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية مع الأسبانية المجاورة لها في المكسيك، وشأن البرتغالية التي يتكلم بها في البرازيل مع الأسبانية التي يتكلم بها في الجمهوريات المتاخمة للبرازيل بأمريكا الجنوبية "كولومبيا، بيرو، بوليفيا، باراجواي، أوراجواي، الأرجنتين.. إلخ". وكذلك شأن الحبشية مع الصومالية.. وهلم جرا. غير أن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثر كل منهم بالأخرى؛ فالإنجليزية الحديثة بإنجلترا, والفرنسية الحديثة بفرنسا, تتقارضان المفردات منذ أن أتيح للشعبين المتجاورين فرص للاحتكاك وتبادل المنافع, وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا1، ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وأسبانيا والبرتغال. وتجاور التركية والفارسية، وإن لم يؤد إلى تغلب إحداهما على الأخرى، قد ترك في التركية آثارًا واضحة من الفارسية   1 انتقل إلى الألمانية الحديثة، تحت تأثير جوارها لفرنسا، كثير من المفردات الفرنسية، لدرجة أزعجت أولي الأمر, وحملتهم على التدخل لصد هذا التيار, وإحلال مفردات ألمانية محل المفردات الفرنسية الدخيلة، ولكن قسطًا كبيرًا من جهودهم بهذا الصدد قد ذهب أدراج الرياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وبخاصة في المفردات، وترك في الفارسية بعض آثار من التركية. وتجاور الفارسية والعراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد نقل إلى كلتيهما كثيرًا من آثار الأخرى؛ في المفردات والقواعد والأساليب. ومجاورة الجرمانية واللاتينية في العصور القديمة، وإن لم ينته إلى تغلب إحداهما، قد نقل إلى أولاهما كثيرًا من مفردات الثانية1, وترك في الثانية بعض آثار من الأولى2. حـ- الخلاصة. وقصارى القول: متى أتيح للغتين متجاورتين فرص للاحتكاك لا مناص من تأثر كل منهما بالأخرى، سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكتيهما البقاء, غير أن هذا التأثر يختلف في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية, فإذا كان الفناء قد حقَّ على إحداهما, فإنها لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الثانية؛ من مفردات وقواعد وأساليب, ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها, فتخور قواها, وتفنى أنسجتها الأصلية شيئًا فشيئًا حتى تزول، على حين أن الغالبة تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كبرت كميته وعظم شأنه، فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطًا، وبدون أن تدع له مجالًا للتأثير في بنيتها أوتغيير تكوينها الأصلي؛ كما كان شأن الإنجليزية والفرنسية الغالبتين مع اللهجات السلتية المغلوبة بإيرلندا وويلز ومقاطعة البريتون3, وإذا كان البقاء قد كتب لكليتهما، تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه وتقاوم آثاره الهدامة،   1 كثير من المفردات الألمانية تبدو جرمانية خالصة، ولكن يظهر عند البحث أنها مقتبسة في الأصل من اللاتينية؛ فمن ذلك مثلًا Schrebien =يكتب، Lesene = يقرأ، Katze =قط، Pflanze=نبات، فإنها على الرغم من ظاهرها الجرماني مأخذوة من الكلمات اللاتينية: scribere legere catta planta 2 غير أن تأثر اللاتينية بالجرمانية كان في حكم العدم قبل غارات الجرمان على الإمبراطورية الرومانية الغربية في فاتحة العصور الوسطى. 3 لم تترك المغلوبة في هذه الأمثلة أثرًا يذكر في اللغتين الغالبتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فتبقى كل منهما متميزة الشخصية، موفورة القوى، سليمة البناء, كما كان شأن الفارسية مع التركية، والفرنسية مع الإيطالية, والأسبانية والبرتغالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 4- عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي : هذا، وفيما عدا العاملين السابقين، توجد عوامل أخرى كثيرة تتيح الفرص للاحتكاك بين اللغات، لكنها أقل شأنًا من هذين العاملين، وأضعف منهما أثرًا؛ إذ ليس منها ما ينجم عنه صراع جدي، أو يؤدي إلى نتائج ذات بال. ومن أهم هذه العوامل ما يلي: 1- اشتباك شعبين مختلفي اللغة, أو شعوب مختلفة اللغات في حرب طويلة الأمد, وذلك أن طول الاحتكاك بين الشعوب المتحاربة ينقل إلى لغة كل شعب منها آثارًا من لغات الشعوب الأخرى، سواء في ذلك لغات الحلفاء ولغات الأعداء؛ فاحتكاك الألمانية والفرنسية والإنجليزية في الحربين العالميتين الأخيرتين قد نقل إلى كل لغة منها مفردات من اللغتين الأخريين. "وحرب الثلاثين" التي نشبت بين حماة البروتستاتتية وحماة الكاثوليكية، وامتدت من سنة 1618 إلى سنة 1648، أتاحت فرصًا كثيرة للاحتكاك بين الفرنسية والألمانية1، فنقلت إلى كل منهما بعض مفردات من الأخرى, وحروب فرنسا مع إيطاليا, قد نقلت إلى الفرنسية كثيرًا من الكلمات المتعلقة بشئون الحرب والفنون الجميلة, وما إلى ذلك من الأمور التي كانت اللغة الإيطالية أوسع ثروة فيها من اللغة الفرنسية، ونقلت كذلك إلى الإيطالية   1 وذلك على الرغم من أن فرنسا لم تشترك اشتراكًا صريحًا إلّا في المرحلة الأخيرة من هذه الحرب "من سنة 1635 إلى سنة 1648". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عددًا غير يسير من الكلمات الفرنسية, والحروب الصليبية قد نقلت إلى كثير من اللغات الأوروبية، وبخاصة إلى اللغة الفرنسية، كثيرًا من مفردات اللغة العربية، ونقلت كذلك إلى بعض لهجات الأمم العربية بعض كلمات أوروبية. 2- توثق العلاقات التجارية بين شعبين مختلفي اللغة, وذلك أن منتجات كل شعب تحمل معها أسماءها الأصلية، فلا تلبث أن تنتشر بين أفراد الشعب الآخر وتمتزج بمتن لغته، وكثرة الاحتكاك التجاري بين أفراد الشعبين ينقل إلى لغة كل منهما آثارًا من اللغة الأخرى. 3- توثق العلاقات الثقافية بين شعبين مختلفي اللغة, فإن ذلك ينقل إلى لغة كل منهما، وبخاصة إلى لغة الكتابة، آثارًا كثيرة من الأخرى, وهذه الآثار لا تقف عند حد المفردات، بل تتجاوزها أحيانًا إلى القواعد والأساليب, والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الحاضرة والغابرة؛ فاللغة العربية في العصر العباسي، وبخاصة لغة الكتابة، قد انتقل إليها عن هذا الطريق كثير من آثار اللغتين الفارسية واليونانية, ولغة الكتابة بمصر في العصر الحاضر، سواء في ذلك لغة العلوم والآداب ولغة الصحافة، قد انتقل إليها عن هذا الطريق كثير من آثار اللغات الأوروبية وبخاصة الإنجليزية والفرنسية. غير أن علاقة هذه العوامل, وما إليها بتطور اللغة وارتقائها أشد كثيرًا من علاقتها بالصراع بين اللغات؛ فهي تتيح الفرص لاقتباس بعضها من بعض, وتبادلها المفردات والقواعد والأساليب، بدون أن تحدث بينها صراعًا جديًّا، أو تحمل إحداهما على محاولة التغلب على الأخرى. ولذلك آثرنا إرجاء الكلام على تفصيل هذه العوامل وآثارها إلى الفصل التالي، وخاصة إذ نعالج موضوع اقتباس اللغات بعضها من بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الفصل الرابع: التطور اللغوي العام مدخل ... الفصل الرابع: التطور اللغوي العام: تتأثر اللغة في تطورها وارتقائها بعوامل كثيرة, يرجع أهمها إلى أربع طوائف: إحداها: انتقال اللغة من السلف إلى الخلف. وثانيتها: تأثر اللغة بلغة أو لغات أخرى. وثالثتها: عوامل اجتماعية ونفسية وجغرافية، كحضارة الأمة ونظمها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها، وثقافتها واتجاهاتها الفكرية, ومناحي وجدانها ونزوعها، وبيئتها الجغرافية ... وما إلى ذلك1. ورابعتها: عوامل أدبية مقصودة, تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة، وما تبذله معاهد التعليم والمجامع اللغوية, وما إليها في حمايتها والارتقاء بها ... وهلم جرا. وسنقف هذا الفصل على آثار هذه العوامل في التطور اللغوي العام، مرجئين إلى الفصلين الخامس والسادس الكلام على آثارها في تطور ناحية من ناحيتي اللغة على حدتها، ونعنى بناحيتي اللغة الأصوات والدلالة.   1 تشترك هذه العوامل جميعًا في أنها من مقومات الحياة الاجتماعية، ولذلك جعلناها طائفة واحدة على الرغم من اختلافها في نوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 1- انتقال اللغة من السلف إلى الخلف, وأثره في التطور اللغوي: على الرغم من أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر، وبخاصة مظاهر الصوت. ويرجع جزء يسير من نواحي هذا الاختلاف إلى أمور خاصة مقصورة على بعض الأفراد؛ كالعيوب الصوتية التي يصاب بها بعض الناس، وضعف السمع، واختلاف أعضاء النطق ... وما إلى ذلك, وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها، تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتختفي بموتهم. أما معظم نواحي هذا الاختلاف وأكبرها أثرًا في تطور اللغة؛ فترجع إلى أمور عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة, ويمتازون بها عن أفراد الطبقة السابقة لهم؛ كالتطور الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية؛ لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطّرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها؛ والتطور الطبيعي للظواهر النفسية "فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور طبيعي مطرد, فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق، ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة"، والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما, ولا يفطن لها الكبار لدقتها وخفائها, أو يهملون إصلاحها, ولا يُعْنَوْنَ بالقضاء عليها، وكثرة استخدام الكبار في جيل ما لبعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز, لدواع اجتماعية خاصة, فتنتقل هذه المفردات إلى الجيل اللاحق بمعانيها المجازية وحدها، والنظم والتقاليد الخاصة التي يسير عليها المجتمع في جيلٍ ما في تلقين الأطفال اللغة في الأسرة, وتعليمهم إياها في المدارس؛ فالفروق اللغوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة، وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم. ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية، لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها, أو تغيير ما تؤدي إليه. ومن هذا يظهر كذلك أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاصٍّ, فمهما أجادوا في وضع معجماتها, وتحديد ألفاظها ومدلولاتها, وضبط قواعدها وأصواتها ... ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقًا, وفي وضع طريقة ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوةٍ في محاربة ما يطرأ عليها من لحن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل التي تريدها على السير فيها سنن التطور والارتقاء الطبيعيين. حقًّا أنه يمكن أحيانًا التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمنًا طويلًا على أصولها القديمة, أو ما يقرب منها. ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلًا صحيحًا حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيرًا مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة؛ لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلًا، فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى أو بعيدة عنها، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية, وهذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة فيها هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة، وما عليه الحال الآن تقريبًا في مصر والسودان وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة هذه البلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلّا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو، ولا تبقى إلّا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال؛ فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتمّ تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالات مفرداتها, ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتسلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعًا، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة, وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأسبانيا والبرتغال. فما أشبه لغة الكتابة الجامدة في حالات كهذه بجبل ثلج ثابت على ما سطح البحر، ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج تحته, فمهما طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطيم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستورًا تحت هذا الجبل الجامد من مظاهر النشاط والحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 2- تأثر اللغة باللغات الأخرى تبادل المفردات بين اللغات : تقدَّم أن أيّ احتكاك يحدث بين لغتين أو بين لهجتين -أيًّا كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة- يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى1. ولما كان من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من الاحتكاك بلغة أخرى، لذلك كانت كل لغة من لغات العالم عرضة للتطور المطرد عن هذا الطريق.   1 انظر صفحات 179-185، 229-248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وأهم ناحية يظهر فيها هذا التأثر هي الناحية المتعلقة بالمفردات كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ ففي هذه الناحية على الأخص تنشط حركة التبادل بين اللغات، ويكثر اقتباسها بعضها من بعض, وقد تذهب بعض اللغات بعيدًا في هذا السبيل، فتقتبس معظم مفرداتها أو قسمًا كبيرًا منها عن غيرها؛ كما فعلت التركية مع الفارسية والعربية، والسريانية مع اليونانية، والفارسية مع العربية.. وهلم جرا1. وأما القواعد وأساليب الصوت فلا تنتقل في الغالب من لغة إلى أخرى إلّا بعد صراع طويل بين اللغتين، ويكون انتقالها إيذانًا بقرب زوال اللغة التي انتقلت واندماجها في اللغة التي انتقلت منها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك2. ولهذا تخضع في الغالب الكلمات المقتبسة للأساليب الصوتية في اللغة التي اقتبستها، فينالها كثير من التحريف في أصواتها وطريقة نطقها، وتبعد جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة؛ فالكلمات التي أخذتها العربية مثلًا عن الفارسية أو اليونانية, قد صبغ معظمها بصبغة اللسان العربي حتى بعد كثيرًا عن أصله, ومن ثَمَّ نرى أن الكلمة الواحدة قد تنتقل من لغة إلى عدة لغات, فتتشكل في كل لغة منها بالشكل الذي يتفق مع أساليبها الصوتية ومنهاج نطقها، حتى لتبدو في كل لغة منها غريبة عن نظائرها في اللغات الأخرى؛ فالكلمات العربية مثلًا التي انتقلت إلى اللغات الأوروبية قد تمثّلت في كل لغة منها بصورة تختلف اختلافًا غير يسير عن صورتها في غيرها. وكثيرًا ما ينال معنى الكلمة نفسه تغييرًا أو تحريف عند انتقالها من لغة إلى لغة, أو من لهجة إلى أخرى؛ فقد يخصص معناها العام, ويقصر على بعض ما يدل عليه، وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقة ما بين المعنيين، وقد تختلط إلى درجة وضيعة   1 انظر صفحتي 224، 225. 2 انظر صفحات 183، 184، 236، 237 وآخر 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 في الاستعمال؛ فتصبح من فحش الكلام وهجره، وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه1. ويختلف مبلغ ما تأخذه لغة عن أخرى باختلاف العلاقات التي تربط الشعبين, وما يتاح لهما من فرص للاحتكاك المادي والثقافي؛ فكلما قويت العلاقات التي تربط أحدهما بالآخر، وكثرت فرص احتكاكهما، نشطت بينهما حركة التبادل اللغوي, ولذلك تبلغ هذه الحركة أقصى شدتها حينما يسكن الشعبان منطقة واحدة أو منطقتين متجاورتين, كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثالث2؛ فالإنجليزية قد أخذت عن النورماندية أكثر مما أخذته عن أية لغة أخرى؛ لأن الغزاة من النورمانديين قد استقر بهم المقام في بلاد الإنجليز الملغلوبين نفسها3. واللاتينية قد اقتبست من الإغريقية أكثر مما اقتبسته من أية لغة أخرى، وذلك لتجاور منطقتيهما وشدة الامتزاج بين الشعبين الناطقين بهما4, ولهذا السبب نفسه بلغت حركة التبادل اللغوي أقصى شدتها بين العربية الفارسية والتركية5. وما اقتبسته ألمانية سويسرا من اللغة الفرنسية لا يذكر بجانبه ما اقتبسته منها ألمانية النمسا مثلًَا، وذلك لأن القسم الألماني اللغة في سويسرا متاخم للقسم الفرنسي اللغة ولشدة الاحتكاك بين سكان القسمين، على حين أن النمسا غير متاخمة لمنطقة فرنسية اللسان, وقد تسرب إلى لغة رومانيا عدد كبير من مفردات الشعبتين الصقلبية والمجرية، على حين أن أخواتها اللاتينية الأصل "الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية" لم تكد تتأثر بهذين اللسانين، وذلك لأن رومانيا قد انعزلت عن أخواتها اللاتينية, وأحاط بها من جميع جهاتها أمم صقلبية اللسان أو مجريته.   1 انظر صفحة 236, وقد ضرب العلامة Dauzat في كتابه "فلسفة اللغة" Philosophie du Langage أمثلة طريفة لهذه الظواهر، انظر آخر ص82 وصفحة 83 من كتابه هذا. 2 انظر صفحات 229-247. 3 انظر صفحات 234-240. 4 انظر صفحة 239. 5 انظر صفحات 239، 245، 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والمفردات التي تقتبسها لغة ما عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل هذه اللغات أو برزوا فيها, أو امتازوا بإنتاجها, أو كثرة استخدامها.. وهلم جرا, فمعظم ما انتقل إلى العربية من المفردات الفارسية واليونانية يتصل بنواحٍ مادية أو فكرية امتاز بها الفرس واليونان, وأخذها عنهم العرب1. ويتألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية عن النورماندية من كلمات دالة عن معانٍ كليةٍ وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام، وذلك لأن النورمانديين كانوا يفوقون الإنجليز كثيرا في هاتين الناحيتين، فغزرت مفرداتهما في لغتهم، بينما قلَّ ورودها في لغة الإنجليز القديمة2. وقد انتقل إلى اليونانية، ومنها إلى اللاتينية، كثير من الكلمات الفينيقية المتصلة بشئون الملاحة والبحرية، وذلك لأن الفينيقيين قد سبقوا غيرهم من الشعوب في هذا المضمار, وانتقل إلى اللاتينية كثير من الكلمات الإغريقية المتعلقة بالمصطلحات الفلسفية والدينية، وذلك لبراعة الإغريق في ميدان الفلسفة, ولأن الدين المسيحي قد انتشر بفضلهم في شرق الإمبراطورية الرومانية ووسطها. وقد أخذت اللغات الجرمانية عن اللاتينية كثيرًا من المفردات المتصلة بالقضاء والتشريع ونظم الاجتماع والسياسة, وما إليها، وذلك لأن الرومان كانوا مبرزين في جميع   1 من أشهر المفردات التي انتقلت إلى العربية من الفارسية: الكوز، الأبريق، الطست, الخوان، الطبق، والسكرجة، السمور - الخز، الإبريسم، الديباح، السندس1 الياقوت، الفيروج، البلور- السميذ، الكعك، الفالوذج - الفلفل، الكرويا، القرفة, الزنجبيل، الخولنجان، الدار صيني - النرجس، البنفسج، السوسن، الياسمين، الجلنار، المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل..إلخ. ومن أشهر ما أخذته العربية من اليونانية أسماء بعض الآلات الرصد والجراحة, وبعض مصطلحات الطب والفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية وغيرها، وأخذت عنها كذلك أسماء بعض المعادن والوظائف والمنشآت المعمارية وغيرها وأدوات البناء والموازين والأمتعة.. إلخ: كالقبرس "وهو أجود النحاس"، والبطريق، والقيطون "وهو البيت الشتوي"، والقنطرة، والفردوس "البستان" والقراميد "الآجر"، والقسطاس "الميزان" والقنطار، والبطاقة، والسجنجل "المرأة" ... وهلم جرا. انظر في ذلك فقه اللغة للثعالبي، الباب التاسع والعشرين، وانظر كذلك المزهر للسيوطي الجزء الأول، النوع التاسع عشر. 2 انظر صفحة 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 هذه الشئون1. ولهذا السبب نفسه انتقل إلى الفرنسية كثير من الكلمات الجرمانية المتصلة بشئون الحرب، ومنها كلمة الحرب نفسها La guerre2، وكثير من الكلمات الإيطالية المتصلة بالموسيقى وآلاتها والفنون الجميلة، وانتقل إلى معظم اللغات الأوروبية وغيرها المفردات الإنجليزية المتصلة بالألعاب الرياضية، والمفردات الفرنسية المتعلقة بالأزياء وألوان الطعام. ومن أجل ذلك تنتقل مع المنتجات الزراعية والصناعية أسماؤها في لغة المناطق التي ظهرت فيها لأول مرة أو اشتهرت بإنتاجها, أو تصدر منها في الغالب، فتنتشر عن هذا الطريق في لغات البلاد الأخرى, فكلمة "شاي" مثلًا قد انتقلت إلى معظم لغات العالم من لغة جزر ماليزيا Malaisie التي كانت المصدر الأول لهذه المادة "شاي" في العربية, "the" في الفرنسية, tea في الإنجليزية..إلخ". وكذلك كلمة الطباق، فقد انتقلت إلى معظم اللغات الإنسانية من لغة السكان الأصليين لأمريكا؛ حيث كشفت هذه المادة لأول مرة "طباق" في العربية, tapac في الفرنسية, topacco في الإنجليزية ... إلخ". وعن هذا الطريق انتقل إلى اللغات الأوروبية كثير من الكلمات العربية الدالة على منتجات زراعية أو صناعية: الليمون، والموصلي "وهو نسيج خاص ينسب إلى الموصل"، والزعفران، والشراب، والسكر، والكافور، والقنوة "عسل قصب السكر المجمد"، والقهوة، والقطن والقرمزي، والكمون، والدمشقي "نسيج بنسب إلى دمشق". في الإنجليزية Lemon, muslin, saffron, sherbet, syrup, sugar, camphor, candy, coffee, cotton, crimson, cucin, damask وفي الفرنسية Limon, mousseline, safran, sorbet, sirop, sucre, camphre, candi, cafe, cramoisi, cumin, damas   1 V. Duzat: phiosophie du Langage, 105 2 فهي مأخوذة من الكلمة الجرمانية القديمة Werra. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 3- أثر العوامل الاجتماعية والنفسية والجغرافية في خصائص اللغة وتطورها, ونقد نظرية دو سوسور De Saussure تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها، وعقائدها واتجاهاتها ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وأحوال بيئتها الجغرافية وشئونها الاجتماعية العامة ... وما إلى ذلك, فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير, ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب, فبالوقوف على المراحل التي اجتازتها لغة ما، وفي ضوء خصائصها في كل مرحلة منها، يمكن استخلاص الأدوار التي مر بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم. فكلما اتسعت حضارة الأمة، وكثرت حاجاتها ومرافق حياتها، ورقي تفكيرها, وتهذبت اتجاهاتها النفسية، نهضت لغتها، وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودقت معاني مفرداتها القديمة، ودخلت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة. وهلم جرا. واللغة العربية أصدق شاهد على ما نقول؛ فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن النطاق العربي الضيق الذي امتازت به حضارتهم في عصر بني أمية, إلى الأفق العالمي الواسع الذي تحولوا إليه في عصر بني العباس، كان لهذين الانتقالين أجلَّ أثر في نهضة لغتهم ورقيّ أساليبها واتساعها لمختلف فنون الأدب وشتى مسائل العلوم. وانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة يهذب لغتها، ويسمو بأساليبها، ويوسع نطاقها، ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونة، ويكسبها مرونة في التعبير والدلالة, وأن موازنة بين حالة اللغة العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 في عهد بداوة العرب قبل الإسلام, وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما, وما كانت عليه في الحضر في العصر نفسه، لأصدق برهان على ذلك, وأن البدويّ الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله: أنت كالكلب في حفاظك للعهد ... وكالتيس في قراع الخطوب قد استطاعت قريحته بعد أن هذبتها حضارة بغداد أن تجود بمثل قوله: عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وما يحدث بين حضارة الأمة ولغتها من توافق وانسجام، يحدث مثله بين لغتها ومظاهر بيئتها الجغرافية؛ فجميع خصائص الإقليم الطبيعية تنطبع في لغة سكانها, ومن أجل ذلك نشأت فروق كبيرة في مختلف مظاهر اللغة بين سكان المناطق الجبلية وسكان الصحراء وسكان الأودية, وبين سكان المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية، ومن كذلك نشأت فروق غير يسيرة بين الفصيلة اللغوية الواحدة, بل بين لهجات اللغة الواحدة. ومن أجل ذلك أيضًا غزرت في كل لغة المفردات التي تدور حول مظاهر بيئتها الجغرافية، ودقت دلالاتها، وانبثت في شتى فنون القول, ومن أجل ذلك أيضًا كان قسط كبير من مادة الخيال والتشبيه في كل لغة مستمدًّا من مظاهر البيئة وما اختصت به طبيعة البلاد, ومن أجل ذلك أيضًا تمثل في أسلوب اللغة وفنونها الأدبية ما تختص به بيئتها الطبيعية من تلَبُّدٍ أو صفاء، وقبح أو جمال، وصخب أو هدوء، وتنوع أو اطراد، وتقلب أو ثبات، وما ينبعث عنها من رخاوة أو قوة، وخمول أو نشاط، وخشونة أو نعيم, ولهذا كله يستطيع الباحث معرفة البيئة الأولى التي نشأت فيها لغة ما على ضوء مفردات هذه اللغة وغزارتها في بعض النواحي, وجدبها في نواحٍ أخرى، وما تجنح إليه أساليبها ومادتها في الخيال والتشبيه، وخواص آدابها ... وما إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وإليك مثلًا لغات الفصيلة السامية؛ ففي كل لغة منها تتمثل حالة البيئة التي سكنها الناطقون بها؛ فالآرامية التي نشأت في الشمال جافة الألفاظ، قليلة المفردات، ثقيلة التراكيب، مضطربة القواعد، لا تكاد تواتي الأساليب الشعرية الراقية، والعربية التي نشأت في الجنوب أعذب اللغات السامية ألفاظًا، وأغناها مفردات، وأدقها قواعد، وأكثرها مرونة واتساعًا لمختلف فنون القول. والعبرية التي نشأت في منطقة متوسطة بين هاتين المنطقتين تمثل في رقيها منزلة بين منزلتي الآرامية والعربية، فقد فاقت الأولى ولكنها قصرت عن أن تدرك شأو الثانية؛ فألفاظها وأساليبها تتسع لكثير من مناحي القول، ولكن العربية تفوقها في مرونة التعبير، والترف اللغوي، وسعة الثروة في المفردات, وقواعدها سهلة مضبوطة, ولكنها لا تبلغ في دقتها وتنوعها مبلغ قواعد اللغة العربية, وتظهر هذه الفروق حتى في ناحية الأصوات؛ فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تلتقي في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة, والعربية عذبة الأصوات، سهلة النطق، خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة1، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان, والعبرية وسط بين هذه وتلك؛ فهي لم تصل في سهولة اللفظ إلى درجة العربية ولا في صعوبته إلى درجة الآرامية، يتخلل كلماتها حروف المد في نطاق أوسع من الآرامية، وبدرجة تذلل كثيرًا من ظواهر الصعوبة في النطق, ولكن بدون أن تصل في هذه الناحية إلى الشأو الذي وصلت إليه لغة القرآن2. ولهذا السبب نفسه اختلفت اللهجات الإغريقية القديمة, فعلى الرغم من أن بلاد الإغريق كانت تشغل منطقة ضيقة، فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد   1 تكثر في الكلمات العربية أصوات المد الطويلة "الألف والياء والواو" والقصيرة "الفتحة والكسرة والضمة" حتى إنه ليقل وجود حرف غير متبوع بواحد منها. 2 V. Renan, Lُ Origine du Langage, pp. l88-l89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أحدث بين لهجاتها سكانها فروقًا ذات بالٍ؛ فاللهجة الدورية مثلًا, خشنة الألفاظ، حوشية المخارج، صعبة النطق، ثقيلة الأصوات، على حين أن اللهجة اليونية رخوة الكلمات، سهلة النطق، عذبة الأصوات، يتخلل كلماتها كثير من حروف المد وأصوات اللين1. ومظاهر النشاط الاقتصادي تطبع اللغة كذلك بطابعٍ خاصٍّ في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها, ومن ثَمَّ اختلفت مظاهر اللغة في الأمم والمناطق تبعًا لاختلافها في نوع الإنتاج، ونظم الاقتصاد، وشئون الحياة المادية، والمهنة السائدة "الزراعة، الصناعة، والتجارة الصيد، رعي الأغنام..إلخ", وقد تؤثر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها، فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة تتأثر بها مخارج الحروف ونبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي. واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة, فعقائد الأمة, وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء والأخلاق والتربية وحياة الأسرة، وميلها إلى الحرب, أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة, وسائر أنواع الفنون الجميلة.. كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها؛ في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب.. وهلم جرا2، وإليك مثلًا درجة القرابة التي تربط الفرد بكل من أسرة أبيه وأسرة أمه, فإن الأمم التي تسير نظمها الاجتماعية على إنزال هاتين الأسرتين منزلة واحدة تقريبًا في درجة قرابتهما للفرد تطلق لغتها   1 Renan, op. cit., p. l90 2 من أحسن البحوث في هذا الموضوع وما يتصل به, ما كتبه العلامة "فانييه" في المجلد الثاني من مجلة "التربية" سنة 1907, صفحات 434-463, تحت عنوان: "روح الأمة وطباعها ممثلة في لغتها". - V. Vannier: "Lُ Esprit et les Maurs dُ une nation dُ apres sa langue" Revue Pedagogique l907, T. 2, pp. 434-463 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 كلمة واحدة على كل من العم والخال oncle, uncle والعمة والخالة tante, aunt ابن العم أو العمة وابن الخال أوالخالة cousin, ابنة العم أو العمة, وابنة الخال أو الخالة cousine، على حين أن الأمم التي تفرق نظمها الاجتماعية بين هاتين الأسرتين في درجة قرابتهما للفرد تختلف في لغتها الكلمات الدالة على أفراد أسرة الأب عن الكلمات الدالة على أفراد أسرة الأم: العم، الخال، العمة، الخالة، ابن العم، ابن العمة، ابن الخال، ابن الخالة، بنت العم، بنت العمة، بنت الخال, بنت الخالة1, وإليك مثلًا آخر وهو مبلغ اتجاه الأمة إلى مبادئ المساواة أو انحرافها نحو نظام الطبقات, فإن ما تسير عليه نظمها الاجتماعية بهذا الصدد يؤثر في مختلف نواحي لغتها حتى في ناحية القواعد؛ فمخاطبة المفرد بضمير الجمع تعظيمًا له: "أرجو أن تتفضلوا.." وإجراء الخطاب في صيغة الأخبار عن الغائب "يتفضل سيدي ... "، كل ذلك وما إليه من أساليب التبجيل لا يبدو في اللغة إلّا حيث ينحرف الناس عن مبادئ المساواة, وتكثر الفوارق بين الطبقات, ولذلك يعد تطور هذه الضمائر في أمة ما أصدق سجل لتطور اتجاهاتها في هذه الشئون؛ فالصراع في اللغة الفرنسية بين "tu" "أنت", و"Vous" "أنتم" في مخاطبة المفرد، يمثل أصدق تمثيل مراحل الصراع بين روح المساوة ونظام الطبقات في الشعب الفرنسي؛ فقد كانت الغلبة للضمير الأول في العصور التي سادت فيها مبادئ المساواة, وللضمير الثاني في العصور التي وهنت فيها هذه المبادئ, ومثل هذا يقال في اللغة العربية؛ فقد كان العرب في جاهليتهم أكثر الشعوب ميلًا إلى المساواة بين الأفراد, ولذلك ساد في خطابهم ضمير المفرد، ولم تبد في لغتهم مظاهر المبالغة في التبجيل, ولكنهم لم يلبثوا بعد اتساع ملكهم، احتكاكهم بالأمم الأخرى، وانغماسهم في الترف, ومحاكاتهم لأبهة الفرس وأساليبهم في الحياة، واتجاه خاصتهم وأغنيائهم إلى الترفع عن الدهماء وطبقات المستضعفين، لم يلبثوا بعد هذا أن انحرفوا عن   1 انظر كتابنا "الأسرة والمجتمع" الطبعة السادسة صفحة 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مبادئهم الأولى، فانحرفت معهم أساليب لغتهم، وساد فيها خطاب المفرد بضمير الجمع، وإجراء الخطاب في صيغة الإخبار عن الغائب، ونفذت إليها ألفاظ "الحضرة" و"الجناب" وما إلى ذلك. واختلاف الطبقات في بعض الأمم، وما يفصلها من فوارق في مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية، كل ذلك يؤدي إلى التمييز بينها في المفردات التي تطلق على شئون كل طبقة منها. وإليك مثلًا المفردات التي تطلق على أنواع الدخل والأجور، فإن مبلغ الاختلاف بين هذه المفردات في أمة ما ليسجل مبلغ الاختلاف بين طبقات هذه الأمة في مستوى الحياة، وأن الأصل اللغوي الذي يرجع إليه كل مفرد منها ليشير في صورة ما إلى عمل الطبقة التي يطلق على دخلها، وإلى نشاطها الاقتصادي، ومنزلتها في سلم الطبقات؛ ففي اللغة الفرنسية مثلًا يطلق لفظ خاصٌّ على كل من دخل المسكين، والخادم، وعامل اليومية، والعامل الدائم، والممثل، والصحفي، والقسيس، والجندي، والضابط، والموظف غير الحكومي، والموظف الحكومي، وصاحب المهنة الحرة؛ كالطبيب, والمحامي والمالك الزراعي ومن إليهم، والمساهم في شركة ما، والنائب البرلماني وهلم جرا. وكل مفرد من هذه المفردات يشير أصله اللغوي في صورة ما إلى عمل الطبقة التي يطلق على دخلها، وإلى نشاطها الاقتصادي ومقدرتها بالقياس لما عداها من الطبقات: Les secours d un indigent les gages dun domestique la paye d un Journalier le salaire d un ouvrier les feux dun actirr les mensualites dun Journaliste le cousuel d un cure le pret d un soldat le sold d un officier les appointements d un employe le traitement d un fonctoonnaire les honorae- res d un menecin ou d un avocat les rentes d un rentier les dividendes d un actionnaire l indemnite d un parlementaire etc وتتشكل اللغة كذلك بالشكل الذي يتفق مع اتجاهات الأمة العامة ومطامحها ونظرها إلى الحياة, فاتجاه الإنجليز مثلًا إلى الناحية العلمية قد صبغ لغتهم بصبغة مادية في مفرداتها، وتراكيبها، حتى أنه ليقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فيها: "دفع زيارة أو تحية أو شكرًا أوانتباهًا، و"كيف أستطيع أن أدفع لك مقابل جميلك"، و"أنفق وقته في كيت وكيت"، و"تربح الساعة أو تخسر". To pay visit, compliments, attention.., How con l pay you for all your good? He spent hes time in ... ; The watch gains or loses بدلًا من "أدى زيارة" و"قدم تحية أو شكرًا" و"أبدى اهتمامًا"، و"كيف أستطيع أن أجزيك مقابل جميلك" و"قضى وقته في عمل ما" و"الساعة تقدم أو تؤخر". وما يكون عليه الأفراد من حشمة وأدب في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينبعث كذلك صداه في لغتهم ألفاظها وتراكيبها. فاللغة اللاتينية لا تستحي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة, والأعمال الواجب سترها بعبارات مكشوفة، ولا أن تسميها بأسمائها الصريحة. على حين أن اللغة العربية بعد الإسلام تتلمس أحسن الحيل، وأدناها إلى الحشمة والأدب في التعبير عن هذه الشئون، فتلجأ إلى المجاز في اللفظ, وتستبدل الكناية بصريح القول: القبل، الدبر، قارب النساء، لمس امرأته، قضى حاجته..إلخ. ولقد كان لها بهذا الصدد في ألفاظ القرن الكريم وعباراته أسوة حسنة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع} ، {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض} ، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ، {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .. وما إلى ذلك من كريم العبارات ونبيل الألفاظ, وما يبدو في اللغة العربية بهذا الصدد يبدو مثله في اللغات الأوربية الحديثة, وخاصة الشمالية منها. وأكثرها تحرجًا في هذه الناحية اللغة الإنجليزية؛ فالبطن مثلًا لا يعبر عنه في لغة التخاطب الإنجليزية باسمه الصريح، بل يطلق عليه في الغالب the stomach "أي المعدة"1، وسراويل الرجل   1 تختصر هذه الكلمة عادة في اللغة الدارجة فيقال: tummy. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تطلق عليها أحيانًا كلمة معناها الأصلي "ما لا يمكن التعبير عنه"1 lnexpressible، وسراويل المرأة تطلق عليها كلمة معناها الأصلي "الجمع أو التركيب"2 Combination. وهلم جرا. وخصائص الأمة العقلية، ومميزاتها في الإدراك والوجدان والنزوع، ومدى ثقافتها، ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون، وفهمها لما وراء الطبيعة.. كل ذلك وما إليه ينبعث كذلك صداه في لغتها3؛ ففي الأمم البدائية الضعيفة التفكير, المنحطة المدارك، تغزو الكلمات الدالة على المحسات والأمور الجزئية، وتنعدم أو تقل الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، وتخلو دلالة المفردات من الدقة والضبط، فيكثر فيها الخلط واللبس والإبهام، وتعرو القواعد أو تكاد تعرو من ظواهر التصريف والاشتقاق وربط عناصر الجملة والعبارات بعضها ببعض، ويضيق متن اللغة فلا يتسع لأكثر من ضروريات الحياة4, ومن هذا القبيل الشعوب الصينية: فلغاتها بدائية ساذجة في نواحي الألفاظ والدلالة والقواعد، تكفي للتعبير عن ضروريات الحياة وشئون الصناعة اليدوية، والأدب السهل، والتأمل الضحل، ولكنها لا تتسع لعلم ولا لفلسفة ولا لدين بالمعنى الصحيح لهذه الكلمات، حتى إنه لا يوجد فيها اسم للإله، ويعبر فيها عن مسائل ما وراء الطبيعة بعبارات ملتوية مبهمة مضطربة الدلالة في أذهان أهلها أنفسهم.   1 يطلق عليها غالبًا في اللغة الدارجة كلمة "Pants" وهي اختصار كلمة "بنطالون". 2 تطلق هذه الكلمة على لباس" مؤلف من السراويل والقميص، أما السراويل وحدها فيطلق عليها أحيانًا كلمة Bloomer وهو اسم سيدة أمريكية Bloomer اخترعت طرازًا منه فنسب إليها, وكان يحتوي على "جاكتة" وقميص وسراويل, ثم قصر استعمال الكلمة فيما بعد على "السراويل"، وأحيانًا كلمة Knickers وهي اختصار كلمة Knickerboker "وهذه الكلمة كانت في الأصل اسمًا لشخصية روائية ألبسها المؤلف طرازًا خاصًّا من السراويل, ثم شاع استعمالها فيما بعد في سراويل السيدات". 3 V. Vannier, op. cit 4 انظر صفحات 83، 102، 103، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وفي كثير من الأمم البدائية ينعكس في اللغة من مظاهر الاضطراب والإبهام ما تمتاز به عقليات الناطقين بها من سذاجة وقصور، حتى إنها لا تكاد وحدها تبين عن معنًى واضح دقيق، وحتى أن أهلها أنفسهم ليضطرون في أثناء حديثهم إلى الأستعانة بالحركات اليدوية والجسمية لتكملة ما ينقص تعبيرهم, وما يعوزه من دلالة؛ فقد روي عن قبائل البوشيمان Bochimans "عشائر بدائية تسكن جنوب أفريقيا1 أنهم إذا أرادو المحادثة ليلًا يضطرون إلى إشعال النار ليتمكنوا من رؤية الإشارات اليدوية والجسمية التي تصحب كلامهم, فتكمل ناقصة وتوضح مدلولاته, ويقرر علماء الأتنوجرافيا الذين عنوا بدراسة السكان الأصليين بأمريكا وأستراليا وأفريقيا, أن عقليات هذه الشعوب لا تكاد تدرك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها، وأن هذا القصور العقلي كان له صدى كبير في لغاتهم، فلا نكاد نجد في كثير منها لفظًا يدل على معنًى كليٍّ. ففي لغة الهنود الحمر مثلًا يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء، وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء.. وهكذا, ولا يوجد أي لفظ للدلالة على شجرة البلوط، ومن باب أولى لا يوجد أي لفظ للدلالة على الشجرة على العموم. وفي لغة الهورونيين Hurons "من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية" يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها, ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه, فيوجد لفظ التعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عليه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز ... وهكذا, ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة على الأكل على العموم, أو الأكل في زمنٍ ما. ولغة السكان الأصليين لجزيرة تسمانيا Tasmanie "بقرب أستراليا" لا يوجد في مفرداتها لفظ يدل على الصفة، فإذا أرادوا وصف شيء لجئوا إلى تشبيهه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة، فيقولون مثلًا: "فلان كشجرة كذا" إذا أرادوا وصفه بالطول.   1 انظر ص 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وعلى العكس من ذلك الشعوب الهندية - الأوربية, حيث ينشط التفكير، ويعمق الإدراك، ويدق البحث، وتتجه العقول إلى التأمل الفلسفي، وتميل إلى تفسير ظواهر الكون والمجتمع الإنساني تفسيرًا علميًّا يربطها بأسبابها وقوانينها العامة؛ ففي مثل هذه الشعوب تكثر في اللغات الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، والتراكيب المعبرة عن الحقائق العامة, وتغزر أزمنة الأفعال1، وتطول الجمل، وتتعدد أجزاؤها، وتتنوع الروابط, وتختلف دلالاتها، فتتسع للتعبير عن دقيق الوجدان، وعميق الإدراك، وحقائق الفلسفة والعلوم. هذا وإن ما تقدم ذكره في هذه الفقرة وفي معظم الفقرات السابقة من هذا الكتاب ليدلنا أوضح دلالة على ما للمجتمع ونظمه وحضارته واتجاهاته من آثار بليغة في نشأة اللغات2, وانتقالها من السلف إلى الخلف3, وانشعابها إلى لهجات ولغات4, وصراعها بعضها مع بعض5, وتطورها من جميع الوجوه6. وقد بالغ جماعة من العلماء في تقدير هذه الآثار حتى كادوا ينكرون أن لغير الظواهر الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة, ومن أشهر أفراد هذه الطائفة العلامة السويسري فرديناند دوسور7.Ferdinand De Saussure   1 ليس للفعل في معظم اللغات السامية إلا زمنان: فعل انتهى زمنه "ماض"، وفعل لم ينته زمنه "أمر ومضارع للحال أو للاستقبال"، على حين أن له في اللغات الهندية - الأوربية أزمنة كثيرة, لكل منها صيغة خاصة. وقد بلغت هذ الأزمنة في اللغة الفرنسية أحد عشر زمنًا في الجمل الإخبارية وحدها -انظر آخر ص222 وأول ص223. 2 انظر الفصل الأول من الباب الأول. 3 انظر الفصل الثاني من الباب الأول. 4 انظر الفصلين الأول والثاني من الباب الثاني. 5 انظر الفصل الثالث من الباب الثاني. 6 انظر ص249-266. 7 انظر آخر صفحة 65-68. هذا ويفرق دوسو سور بين اللغة Langage, والكلام Paroleوويعني بالكلام: تطبيق الفرد في تفاهمه مع غيره للنظم اللغوية التي تواضع عليها مجتمعه, فهو عمل في جوهره, ولذلك يخضع أحيانًا لمؤثرات غير= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ومذهبهم هذا يجانب جادة القصد من بعض الوجوه: حقًّا أن اللغة ظاهرة اجتماعية تقتضيها حاجة الإنسان إلى التفاهم مع أبناء جنسه، فلولا الحياة الاجتماعية ما كانت اللغات1. وحقًّا أن أهم المؤثرات في مخلف ظواهر اللغة ترجع إلى أمور تتعلق بالحياة الاجتماعية ونظم العمران، كما تدل على ذلك بحوثنا في هذا الفصل وفي الفصول السابقة من هذا الكتاب. ولكن من الإفراط في تقدير هذه العوامل أن ننسب إليها كل شيء, وننكر ما لغيرها من أثر في هذا السبيل. وإن في دراستنا السابقة نفسها لآيات على خطأ هذا المذهب, فقد رأينا أن قسطًا غير يسير من ظواهر اللغة ترجع أسبابه إلى عوامل جغرافية، وقسمًا كبيرًا منها ترجع أسبابه إلى عوامل جسيمة فيزيولوجية أو نفسية فردية2, وغنيٌّ عن البيان أن هذه العوامل وما إليها ليست من مظاهر الحياة الاجتماعية في شيء.3 وسنرى في الفصل الخامس أن أهم المؤثرات في التطور الصوتي خاصة ترجع إلى عوامل من هذا القبيل4.   1 انظر آخر ص27, وص28, وآخر30, وأول 31, والفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب. 2 انظر مثلًا 133-143, وآخر 175, وأول 176، 250، 251. 3 لم نعد العوامل الأدبية المقصودة من بين هذه العوامل؛ لأنها -وإن كانت فردية من بعض النواحي -ترجع من بعض وجودها إلى ظواهر اجتماعية "انظر الفقرة التالية, وهي الرابعة من هذا الفصل", هذا وقد حاول بعض المتعصبين لنظرية دوسور أن يرجع العوامل الجغرافية والجسمية والنفسية إلى ظواهر اجتماعية، فلم تخل محاولته هذه من تعسف ظاهر. 4 انظر كذلك في الرد على نظرية دوسوسور Delacroix, Langage et pensee 47-62 وانظر تفصيل هذا الموضوع كله في كتابي "اللغة والمجتمع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 4- العوامل الأدبية المقصودة : وأثرها في حياة اللغة وتطورها، وخاصة في لغة الكتابة: الرسم، التجديد في اللغة، البحوث اللغوية، حركة التأليف والترجمة, وسائل تعليم اللغة: تشمل هذه الطائفة جميع ما يبذله الأفراد والهيئات من جهود مقصودة في سبيل حفظ اللغة، وتعليمها، وتوسيع نطاقها، وتكملة نقصها، وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتدوين آثارها، واستخدامها في الترجمة والتأليف الأدبي والعلمي.. وهلم جرا. وتمتاز هذه الطائفة من العوامل عن الطوائف الثلاث السابقة بأنها أمور مقصودة، تسيرها الإرادة الإنسانية، على حين أن الطوائف السابقة تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها, ولا يد له على وقفها, أو تغيير ما تؤدي إليه. وتمتاز عنها كذلك بأن هدفها الأصلي هو لغة الكتابة، بينما تتجه معظم آثار الطوائف السابقة بشكل مباشر إلى لغات المحادثة. ولهذه الطائفة مظاهر كثيرة من أهمها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، ووسائل تعليم اللغة, وسنعقد لكل واحد من هذه الأمور الخمسة فقرة خاصة. أولًا: الرسم: لم يتح الرسم إلّا لعدد قليل من اللغات الإنسانية, أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي. فالشرط الأساسي لحياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 اللغة هو التكلم بها لا رسمها, فكثيرًا ماتعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي, ويصدق هذا حتى على اللغات الصناعية نفسها؛ كالاسبرانتو Esperanto وما إليها. فمن المتعذر أن تتاح الحياة للغة من هذا النوع ما لم تتداولها الألسنة وتصبح أداة للكلام, ولذلك كان أول ما يتجه إليه المفكرون في هذا النوع من اللغات هو وضع أصواته وأسلوب نطقه, والبحث في وسائل انتشار التحدث به. وعلى الرغم من ذلك, فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجلّ عن الحصر؛ فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان, وهو قوام اللغات الفصحى, ولغات الكتابة, ودعامة بقائها, وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة؛ كالسنسكريتية والمصرية القديمة والإغريقية واللاتينية والقوطية, فلولا ما وصل إلينا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا عنها شيئًا, ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي. وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين: أحدهما: أسلوب الرسم المعنوي: ldeographie, Ecriture ideographique وهو الذي يضع لكل معنًى صورة خطية خاصة, وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة؛ منها السومرية والصينية1 والمصرية القديمة2, ولا يعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته، ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.   1 يرتكز الرسم الصيني على 214 رمزًا أصليًّا "تسمى بالمفاتيح Clefs أو الأصول Radicaux, يعبر كل رمز منها عن معنًى عام، ويعين المقصود منه عدد الخطوط التي تضاف إلى هذا الرمز ونوعها. 2 يسمى الرسم المصري القديم الهيروغليفي Hieroglypge, وقد اجتاز هذا= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين؛ فأحيانًا تكون صورًا حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها, أو لأجزاء من هذه الأشياء، كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاث فروع من شجرته, في طرف كلٍّ منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفًا وهلم جرا. وأحيانًا تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبر عن الأشياء والمعاني Symbolisme، كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجم، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة، وكما يشير الرسم الصيني لمعنى "الإنسانية" بخطين يتكون منهما شكل رقم8. ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة؛ فهو أسلوب بطيء يقتضي الكاتب إسرافًا كبيرًا في الوقت والمجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعًا لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهودًا شاقة وزمنًا طويلًا, ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني, وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلّا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه أن ينتظم جميع ما يخطر بالذهن الإنساني من معانٍ وأفكارٍ, وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات, هذا إلى أنه   = الرسم أربع مراحل؛ فقد كان في المبدأ تصويرًا للأشياء, فيعبر عن الشمس مثلًا بدائرة في وسطها نقطة، وعن القمر بقوس في وسطه نتوء ... وهلم جرا، ثم دخل فيه بعد ذلك طريقة الرموز البسيطة والمركبة، فيعبر مثلًا عن اليوم بصورة الشمس "دائرة في وسطها نقطة", وعن الشهر بصورة نجم تعلوها صورة هلال مستعرضة "قوس في وسطه نتوء", وفي المرحلة الثالثة دخلت فيه الطريقة الصوتية المقطعية، فاستخدمت مثلًا الصورة التي كان يعبر بها قديمًا عن الفم, وهي صورة الشفتين، للتعبير عن مقطع "را", وفي المرحلة الأخيرة دخلت فيه الطريقة الهجائية؛ فاستخدمت مثلًا الصورة السابقة لا للتعبير عن مقطع "را" بل للتعبير عن صوت الراء الساكنة غير المتبوعة بحركة, كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية, والمظهران الأولان فقط "الصوري والرمزي" هما اللذان يعدان من النوع الذي نحن بصدد الكلام عنه، أما المظهران الأخيران المقطعي والهجائي" فمن النوع الثاني الذي سنتكلم عنه, وهو الرسم الصوتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية، كثيرًا ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة، فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب. وثانيهما: أسلوب الرسم الصوتي -Ecriture Phonetique on Phonetisme الذي يضع لكل صوت صورة خاصة، وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة. وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذ الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية Syllabique وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة، كما يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع "را", وفي المسماري بصورة اليد إلى مقطع "سو", والأخرى الصور الهجائية Alphabetique, وهي التي ترمز إلى أصوات مفردة، كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف: "ل" إلى صوت اللام مجردة من جميع الحركات. ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه "المقطعي والهجائي" منذ أكثر من ثلاثين قرنًا قبل الميلاد؛ فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية "صورة الشفتين مثلًا التي تعبر عن مقطع "را"، بل من بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات مفردات "صورة الشفتين مثلًا التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء الساكنة غير المتبوعة بآية حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية". غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده, بل مزجوه بالأسلوب الأول؛ فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي، يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية، صورًا حقيقية ورمزية1. ومن الراجح أن الفينقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي   1 انظر التعليق الثاني بصفحة 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وحده. وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب, فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها وأدناها إلى الكمال, وليس من شكٍّ في أنهم قد حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية, على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذًا عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفًا من حروفهم. وقد انتشرت حروف الهجاء الفينقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه، ومنها تفرعت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية. فمن الحروف الفينيقية اشتقت الحروف العبرية القديمة، ومن هذه اشتق الرسم العبري الحديث "الحروف العبرية المربعة Lُ hebreu carre" الذي استخدم بعد رجوع بني إسرائيل من نفي بابل، وظلَّ مستخدمًا إلى الآن, بدون أن يناله تغيير ذو بالٍ. ومن الحروف الفينقية اشتق كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالعبرية الحديثة "الحروف العبرية المربعة": أحدهما الخط التدمري1 "أو البالميريني2 Palmyrenien؛ ولآخر الخط النبطي Nabateen ومن التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية والمنشورية، ومن الخط النبطي والخط السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية. ومن الرسم الفينيقي أخذ كذلك الرسم الآرامي, بل إن الرسم الآرامي في أقدم أشكاله لا يكاد يختلف عن الرسم الفينيقي.   1 نسبة إلى تدمر, وهي مملكة قديمة كانت تشمل جزءًا كبيرًا من سوريا الحالية, ومعنى تدمر في العبرية بلاد النخيل. 2 نسبة إلى بالميرين Palmyrene وهو اسم فرنسي لبلاد تدمر, ومعناه في الفرنسية هو معنى تدمر في العبرية, أي: بلاد النخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وعن الحروف الآرامية أخذت الحروف الهندية الباكتريانية lndo-Bactriens1 التي كانت مستخدمة في شمال الهند، ومن هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند وسيام Siam وكامبدج Cambodge "بالهند الصينية" وماليزيا Malaisie. ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الإغريقي، ومن الرسم الإغريقي أخذت الحروف اللاتينية، ومن الرسمين اللاتيني والإغريقي تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوروبية في العصر الحاضر. والأصل في الرسم الهجائي أن يكون معبرًا تعبيرًا دقيقًا عن أصوات الكلمة بدون زيادة ولا نقص ولا خلل في الترتيب، فيرسم في موضع كل صوت من أصواتها الحرف الذي يرمز إليه، ولا يوضع فيها حرف زائد لا يكون له مقابل صوتي, وقد حوفظ على هذا الأصل إلى حد كبير في بعض اللغات الإنسانية، وخاصة القديم منها؛ فرسم الكلمة في السنسكريتية لا يكاد يختلف في شيء عن صوتها2, ولكن معظم أنواع الرسم، وخاصة الحديث منها، لا تتوافر فيه هذه المطابقة, فكثيرًا ما يرسم في الكلمة حرف زائد أو حروف زائدة ليس لها مقابل صوتي في النطق "مثلًا "مائة" في العربية، "loup" في الفرنسية، "thumb" في الإنجليزية". وكثيرًا ما تشتمل الكلمة على أصوات لا تمثلها حروف في الرسم, مثلًا: "هذا" في العربية، "Picture" في الإنجليزية", وكثيرًا ما يرسم في الكلمة حرف أو أكثر   1 نسبة إلى باكتريان Bactriane, وهي منطقة قديمة كان يسكنها الإيرانيون, وتشمل بعض مناطق تركستان وفارس. 2 وقد ساعد على ذلك أن الرسم السنسكريتي لم يكد يغادر صوتًا من أصوات اللغة إلّا وضع له حرفًا يرمز إليه, ولذلك كثرت حروف الهجاء في هذا الرسم، وقويت على التعبير عن مختلف الأصوات, فقد بلغت 46 حرفًا, منها 33 حرفًا ساكنًا, و13 حرفًا لينًا، هذا إلى ثلاث علامات للشكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 للتعبير عن صوت غير الصوت الذي وضع له, مثلًا: dompter في الفرنسية, "enough" "ocean" of" في الإنجليزية", وكثيرًا ما ينطق بالحروف الواحد أو بالمقطع الواحد بصور صوتية مختلفة تبعًا لاختلاف الكلمات، أو اختلاف أزمنتها، أو اختلاف موقعه فيها, أو اختلاف ما يسقه أو يلحقه من حروف؛ فيرقق في بعض الكلمات, ويفخم في بعضها الآخر، أو يمد في بعضها, ويقصر في بعضها الآخر، أو يضغط عليه في بعضها, ويرسل في بعضها الآخر.. وهلم جرا "مثلًا: اللام في "والله" و"بالله".؟؟ إنجليزي "Law low" l get a piece of lead l lead "Present" some men "l will read thes bood l have Just read thes book" The lines of demarkation that separate sciences this book contains separate sciences" l object against thes way the object of our book is " وكثيرًا ما تختلف الحروف في كلمتين, ويتحد النطق بها A piece of bread ln time of peace ويرجع السبب في هذه الظواهر وما إليها, إلى عوامل كثيرة, من أهمها ثلاثة عوامل: أحدها: أن حروف الهجاء في معظم أنواع الرسم لا تمثل جميع أصوات اللغة التي تكتب بها, فقد جرت العادة مثلًا في معظم أنواع الرسم ألّا يوضع لكل صوت عام أكثر من حرف هجائي واحد، مع أن الصوت العام كثيرًا ما يندرج تحت أصوات مختلفة في مخرجها ونبرتها وقوتها ومدة النطق بها وما إلى ذلك؛ فالصوت العام للام مثلًا, ليس له في معظم أنواع الرسم الحديث إلّا حرف واحد "ل "L", مع أن هذا الصوت يختلف نطقه باختلاف الكلمات والمواقع؛ فأحيانًا ينطق به مرققًا "Hole, Low, بالله" وأحيانًا مفخمًا "والله law"، وتارةً ينطق به مضغوطًا عليه "أقسم بالله" وأخرى ينطق به مرسلًا "نستعين بالله".. وهلم جرا، ورسمه واحد في جميع هذه الحالات, والصوت العام للألف اللينة ليس له في العربية إلّا حرف واحد، مع أنه أحيانًا ينطق به مستقيمًا، وأحيانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ينطق به ممالًا. والصوت العام للجيم ليس له في العربية إلّا حرف واحد, مع أنه في بعض اللهجات ينطق به مجردًا من التعطيش، وفي بعضها ينطق به معطشًا كل التعطيش، وفي بعضها ينطق به بين هذا وذاك1. وثانيها: أن كثيرًا من أنواع الرسم يقتصر على الرمز إلى الأصوات الهامة في الكلمة, ويغفل ما عداها، كأنواع الرسم السامي؛ إذ تغفل الرمز إلى أصوات المد الطويلة والقصيرة معًا, أو إلى القصيرة وحدها2. وثالثها: أن أصوات اللغة -كما سبقت الإشارة إلى ذلك3 وكما سيأتي بيانه مفصلًا4- في تطور مطرد وتغير دائم؛ فالأصوات التي تتألف منها كلمة ما, لا تجمد على حالتها القديمة، بل تتغير بتغير الأزمنة والمناطق، وتتأثر بطائفة كبيرة من العوامل الطبيعية والاجتماعية واللغوية, فأحيانًا يسقط منها بعض أصواتها القديمة، وأحيانًا يضاف إليها أصوات جديدة، وتارةً يستبدل ببعض أصواتها أصوات أخرى، وتارةً تحرف أصواتها عن مواضعها, فيختل ترتيبها القديم ... وقد ينالها أكثر من تغير واحد من هذه التغيرات، على حين أن الرسم لا يساير النطق في هذا التطور، بل يميل غالبًا إلى الجمود على حالته القديمة, أو ما يقرب منها، فلا يدون الكلمة على الصورة التي انتهت إليها أصواتها، بل على الصورة التي كانت عليها من قبل, وهذا هو منشأ الخلاف في معظم اللغات الأوروبية الحديثة بين النطق الحالي لكثير من الكلمات وصورتها في الرسم, فمعظم وجوه هذا الخلاف ترجع إلى جمود الرسم وتمثيله لصور صوتية قديمة نالها مع الزمن كثير من التغير في ألسنة الناطقين باللغة. ومع ما للرسم من الفوائد الجليلة التي أشرنا إليها في صدر هذه   1 انظر صفحتي 41، 42. 2 انظر ص 219. 3 انظر ص250. 4 انظر الفصل الخامس من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الفقرة1, فإن عدم مطابقته للنطق يجعل له بعض آثار ضارة, فهو يعرض الناس للخطأ في رسم الكلمات، ويجعل تعلم القراءة والكتابة لأهل اللغة من الأمور الشاقة المرهقة، ويطيل زمن المدرسة، فيسبب إسرافًا كبيرًا في الوقت والمجهود, وما يلاقيه أهل اللغة من صعوبات بهذا الصدد يلاقي أضعافه الأجانب الراغبون في تعلمها, ومن الواضح أن هذا يعوق انتشارها في الخارج، ويضيق سبل الانتفاع بآدابها وعلومها، فيصعب التفاهم بين الشعوب، وتضعف بينها حركة التبادل العلمي والثقافي, هذا إلى أن تمثيل الرسم لصور صوتية قديمة يعمل على رجع اللغة إلى الوراء, وردها إلى أشكالها العتيقة؛ فكثيرًا ما يتأثر الفرد في نطقه للكلمة بشكلها الكتابي، فلا يلفظها بالصورة التي انتهى إليها تطورها الصوتي، بل ينطق بها وفق رسمها، فتنحرف إلى الوضع الذي كانت عليه في العهود القديمة, وليس الأجانب وحدهم هم المعرضين لهذا الخطر، بل إنه كثيرًا ما يصيب أهل اللغة أنفسهم. وإليك مثلًا الحرف المشدد في اللغة الفرنسية في sAVAMMENT EVIDEMMENT إلخ، فقد كان ينطق به وفق رسمه في العصور الأولى لهذ اللغة، ثم انقرضت هذه الطريقة منهذ عهد بعيد, وأخذ الفرنسيون ينطقون به مخففًا، كما ينطقون بحرف واحد "Savaman evidaman", ولكن منذ عهد قريب أخذت عادة النطق به مشددًا تظهر في ألسنة كثير منهم تحت تأثير صورته الخطية, فمن جراء الرسم نكصت اللغة على عقبيها في هذه الناحية عدة قرون إلى الوراء2. ومن أجل ذلك كان العمل على إصلاح الرسم وتضييق مسافة الخلف بينه وبين النطق موضع عناية كثير من الأمم في مختلف العصور.   1 انظر صفحة 269. 2 ومن ذلك أيضًا الحروف الساكنة "غير اللينة" في آخر الكلمات، فقد حذفت في النطق الفرنسي في معظم المفردات منذ عهد بعيد، ولكن أخذ كثير من الفرنسيين في العصر الحاضر ينطقون بعضها تحت تأثير صورتها الخطية: "but" "نطقها الصحيح "bu" قد تحولت الآن في السنة كثير من الفرنسيين إلى bute. aout "نطقها الصحيح ou" قد تحولت الآن في ألسنة كثير من الفرنسيين إلى oute. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فقد ظهر في هذا السبيل بعض حركات إصلاحية عند اليونان والرومان في العصور السابقة للميلاد, وفي أواخر القرن التاسع عشر عالج الألمان أساليب رسمهم القديم وأصلحوا كثيرًا من نواحيه, ومثل هذا حدث من عهد قريب في مملكة النرويج, ثم في جمهورية البرازيل1. وقد بدت بهذا الصدد محاولات إصلاحية كثيرة في البلاد الواطئة "هولاندا" وإنجلترا والولايات المتحدة، ولكن معظم هذه المحاولات لم يؤد إلى نتائج ذات بال, وأدخلت الأكاديمية الفرنسية، يشد أزرها ويعاونها طائفة من ساسة فرنسا وعلمائها، إصلاحات كثيرة على الرسم الفرنسي, وقد جانبت في إصلاحاتها هذه مناهج الطفرة, واتبعت سبل التدرج البطيء، فكانت تدخل في كل طبعة جديدة لمعجمها، بجانب التنقيحات اللغوية والعلمية، طائفة من الاصطلاحات الإملائية. وقد أقرت مجموعة هامة من القواعد الجديدة في الرسم الفرنسي, هذا إلى اصطلاحات للعلامة جرياد Greard التي تناولت كثيرًا من نواحي الرسم، وأقرتها الأكاديمية الفرنسية. وكانت كل مجموعة من هذه الاصطلاحات تلقى مقاومة عنيفة من جانب غلاة المحافظين, وعلى الرغم من ذلك فقد عمَّ الأخذ بها، وكان لها أكبر فضل في تيسير الرسم الفرنسي, وتضييق مدى الخلاف بينه وبين النطق الحديث. والرسم العربي نفسه قد تناولته يد الإصلاح أكثر من مرة من قبل الإسلام ومن بعده, ومع ذلك لا يزال عدد كبير من لمفكرين في عصرنا الحاضر يأخذون عليه كثيرًا من وجوه النقص والإبهام، وينادون بإصلاحه من عدة نواحٍ, وخاصة رسم الهمزة والألف اللينة, وابتداع طريقة لإحلال علامات ظاهرة ترسم في صلب الكلمة محل الفتحة والكسرة والضمة حتى يتقي اللبس في نطق الكلمات "عَلِمَ, عُلِمَ، عِلْمُ، عَلَمٌ..إلخ". ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطًا في القواعد ومطابقة للنطق2.   1 انظر ص114 وتعليقها الثاني. 2 انظر تفصيل هذا الموضوع بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة صفحات 258-271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 هذا، وعلى الرغم من المساوئ السابق ذكرها، فإن لجمود الرسم على حالته القديمة أو ما يقرب منها بعض فوائد جديرة بالتنويه؛ فهو يوحد شكل الكتابة في مختلف العصور، ويسهل تناقل اللغة، ويمكن الناس في كل عصر من الانتفاع بمؤلفات سلفهم وآثارهم, فلو كان الرسم يتغير تبعًا لتغير أصوات الكلمات لأصبحت كتابة كل جيل غريبة على الأجيال اللاحقة له، ولاحتاج الناس في كل عصر إلى تعلم طرق النطق والإلمام بحالة اللغة في العصور السابقة لهم, حتى يستطيعوا الانتفاع بمخلفات آبائهم, هذا إلى أن جمود الرسم على حالته القديمة يفيد الباحث في اللغات أكبر فائدة؛ فهو يعرض له صورة صحيحة لأصول الكلمات, ويقفه على ما كانت عليه أصواتها في أقدم عصور اللغة؛ فالرسم للألفاظ أشبه شيء من هذه الناحية بالمتحف للآثار. وقد كان للرسم في اللغات الأوروبية فضل كبير في تيسير النطق بكثير من الأسماء المتداولة المركبة من عدة كلمات, فقد جرت العاة أن يكتفي في التعبير عن هذه الأسماء بذكر الحروف الأولى التي تتألف منها كلماتها: T S F = telegraphe sans fil" M A = Master of arts" وشاع هذا الاستعمال في أسماء المخترعات والشركات والأحزاب والفرق الحزبية والنظريات والشهادات العلمية, وما إلى ذلك. وقد أنزلت هذه الرموز منزلة الكلمات, وأخذ الناس يصرفونها وينسبون إليها ويشتقون منها أفعالًا وصفات, وللاقتصار عليها وكثرة استخدامها في الحديث والكتابة تنوسى أصلها عند عامة الناس، وأصبح كثير منهم يعتقد أنها كلمات كاملة "النازي، الأنزاك، النافي، اليونسكو.. إلخ". وللرسم أثر كبير في تحريف النطق بالكلمات التي يقتبسها الكتاب والصحفيون عن اللغات الأجنبية, وذلك أن اختلاف اللغات في الأصوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وحروف الهجاء والنطق بها وأساليب الرسم.. كل ذلك يجعل من المتعذر أن ترسم كلمة أجنبية في صورة تمثل نطقها الصحيح في اللغة التي اقتبست منها؛ فينشأ من جراء ذلك أن ينطق بها معظم الناس بالشكل الذي يتفق مع رسمها في لغتهم، ويشيع هذا الأسلوب من النطق، فتصبح الكلمة غريبة كل الغرابة أو بعض الغرابة عن الأصل الذي أخذت عنه, وليس هذا مقصورًا على اللغات المختلفة في حروف هجائها كالعربية واللغات الأوروبية، بل يصدق كذلك على اللغات المتفقة في حروف الهجاء؛ كالفرنسية والإنجليزية. فجميع الكلمات الإنجليزية التي انتشرت في الفرنسية عن طريق رسمها في الصحف والمؤلفات, ينطق بها الفرنسيون في صورة لا تتفق مع أصلها الإنجليزي Boy-scout; foot ball; rugby; hockey; sterling; standard standard of Living..حتى إن كثيرًا منها لا يكاد يتبينها الإنجليزي إذا سمعها من فرنسي. ثانيًا: حركة التجديد في اللغة تبدو حركة التجديد المقصود في مظاهر كثيرة من أكبرها أثرًا في التطور اللغوي الأمور الآتية: 1- تأثر الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرداتها مصطلحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي, فلا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها, والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر؛ فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع الأدباء والعلماء باللغتين الفارسية والإغريقية, فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليهما بالشرح والتعليق, ويستغلونهما في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عددًا كبيرًا من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارةً, وعن طريق ترجمتها تارةً أخرى، فاتسع بذلك متن اللغة العربية وازدادت مرونة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية بمصر في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوروبية الحديثة، ومحاكاتهم لأساليبها، وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتّى ميادين الحركة الفكرية, ولغة الكتابة بفرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين اللاتينية والإغريقية من جهة, وباللغات الأوروبية الحديثة من جهة أخرى, فمنذ "عصر النهضة" Renaissance لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة, ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين، وترسم قواعدهما ومناهجهما في البحث1, وقد أخذوا منذ عهد بعيد يقتبسون كثيرًا من المفردات والأساليب عن اللغات الأوروبية الحديثة, وخاصة الإنجليزية والألمانية, ولولا آلاف المفردات التي اقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها, ومن اللغات الأوروبية الحديثة, وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا أن تصل إلى الشأو الذي هي عليه الآن. ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر. وكثيرًا ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى مفردات لها نظير في متنها الأصلي، وكثيرًا ما تقتبس مفردات من لغة وتقتبس نظيرها في الدلالة من لغة أخرى, وإلى هذه الظواهر وما إليها, يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة "المشترك المعنوي" في لغات الكتابة, فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات ليس صحيحًا إلّا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى, أما لغات الكتابة التي يستحيل   1 انتشرت بفرنسا حركة المحاكاة للقواعد والأساليب اللاتينية بفضل كتاب القرن السابع عشر، وعلى الأخص بلزاك وديكارت وبوسويه Balzac, Descartes, Boussuet الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح، للسبب الذي ذكرناه. 2- إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة, فكثيرًا ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن معانٍ لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيرًا دقيقًا، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة، أو في الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيرًا, وبكثرة الاستعمال، تبعث هذه المفردات خلقًا جديدًا، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف, ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير, وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءًا كبير من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواحٍ من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات. 3- خلق الأدباء والعلماء لألفاظٍ جديدة, فكثيرا ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور مستحدثة في الحياة الاجتماعية أو الفكرية, لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة ولا في مفرداتها الداثرة ما يعبر عنها تعبيرًا دقيقًا, وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلّا مجرد الرغبة في الابتداع, أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة, وتثبتيه في الأذهان، وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته, وقد عَمَّ استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، وكثر التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معانٍ دقيقة في عالم الأدب والفلسفة، فناءت مؤلفاتهم بهذه الكلمات المصنوعة، وتألف منها معظم المصطلحات في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة وما إلى ذلك، وقد صبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية، فأقرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الأوروبية, وعمَّ استخدامه في لغاتها "تلغراف، تليفون، سوسيولوجيا، جيولوجيا ... إلخ". وقد أجاز المجمع اللغوي بمصر الالتجاء إلى هذه الطريقة، حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بألّا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيرًا دقيقا عن الاصطلاح المراد التعبير عنه. ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها، ودقة مصطلحاتها وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير. وقد ارتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ, ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر, ومزج كلمتين أو أكثر من كلمة واحدة, ويستمدون أصولها من اللغات الحية أو الميتة وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة, وكثيرًا ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة, فمن المفردات ما هو مؤلف من لغتين ""سوسيولوجيا" أي: علم الاجتماع، فصدر الكلمة "سوسيو" من أصل لاتيني, معناه: الجمعية, وعجزها "لوجيا" من أصل يوناني, معناه: المقال أو البحث أو الخطبة" =Sociologie" du latin "societas discourw = logos scoiete et du grec "logo, بل أن منها ما هو مؤلف من ثلاث لغات ""بيسيكلت" أي: الدراجة, فإن "بي" من أصل لاتيني يدل على التثنية، "وسيكل" من أصل يوناني معناه الدائرة، و"ت" Bicyclette du latin "bi" = deux foes et du grec "kiklos= cercle et du suffixe diminutif francais "tte" وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح, ولذلك كثيرًا ما تختلف معانيها اختلافًا يسيرًا أو كبيرًا عن معاني الأصول التي استمدت منها. ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها, بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي للقوانين العامة نفسها التي تخضع لها الألفاظ الأصلية, فبمجرد أن يقذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بها في التداول اللغوي, وتتناقلها الألسنة, تفلت من إرادة مخترعيها, وتخضع لنواميس التطور العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة؛ فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف من جهةٍ معينةٍ بقوةٍ خاصةٍ, فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره على تعطيلها أو وقف آثارها, ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة, ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلًا, غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ به الآن. وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي وضع له في الأصل. ثالثًا: المؤلفات اللغوية: وهي البحوث التي ترمي إلى حفظ اللغة، وضبطها، وسلامتها، وتخليدها، والوقوف على خواصها وتاريخها وآثارها ... وما إلى ذلك؛ فتشمل المعجمات ودوائر المعارف وكتب القواعد بمختلف أنواعها "النحو والصرف، الاشتقاق، الوضع، البيان، المعاني، البديع..إلخ" وأدب اللغة وتاريخه، ودراسة أصوات اللغة ومخارج حروفها, ودلالة كلماتها وحياتها, والأدوار التي سارت فيها من مختلف نواحيها.. وهلم جرا. فلا يخفى ما لهذه الجهود من أثر جليل في حياة لغة الكتابة، وحفظها من التحريف وتهذيبها ونههضتها ونقلها من السلف إلى الخلف. رابعًا: نشاط التأليف والترجمة في الأداب والعلوم والفنون والصحافة وما إلى ذلك فمن الواضح أنه لا حياة للغة الكتابة بدون استخدامها في هذه الشئون, وأنه بمقدار نشاط أهلها في هذه الميادين تتاح لها وسائل الانتشار والرقيّ والنهوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 خامسًا: تعليم لغة الكتابة تقوم معاهد التعليم في مختلف الأمم بأهم ناحية من هذه الوظيفة، وإليها يرجع أكبر قسط من الفضل في حياة اللغة، وتخليدها وسلامتها, وما يتاح لها من نهوض؛ فهي التي تعلم الصغار الكتابة والقراءة، وتقوِّمُ ألسنتهم، وتصلح فاسد نطقهم، وتأخذهم بآداب اللغة وأساليبها، وتوقفهم على قواعدها، وتلقنهم آثارها، وتبعث في نفوسهم حبها وإجلالها، وتدرس لهم بها مختلف المواد فتزيدها تثبيتًا في أذهانهم، وتقدرهم على استخدامها في مختلف مناحي التعبير. وتعتمد معاهد التعليم في أدائها لهذه الوظائف الجليلة على العوامل الأربعة السابق ذكرها، وعلى طرق إعداد المعلمين ومؤلفات التربية وأساليب التعليم ... وما يتصل بذلك، وعلى ما تلقاه من إشراف وتعضيد ومعونة من جانب أولي الأمر والأسرات والهيئات والأفراد. ولا يفوتنا قبل أن نختم هذه الفقرة أن نشير إلى أن كل تطور أو رقي في لغة الكتابة يؤثر بطريق غير مباشر في لغة الحديث؛ فطبقات الخاصة تعمل جاهدة على تقريب لغة حديثها من اللغة الفصحى، وانتشار التعليم الأولي يساعد على تهذيب لغة الكلام في طبقات العامة, ويدنو بها من لغة الكتابة؛ فالعوامل السابق ذكرها في هذه الفقرة -وإن اتجه أثرها أولًا وبالذات إلى لغات الكتابة- تؤثر بطريق غير مباشر في لغات التخاطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الفصل الخامس: أصوات اللغة حياتها وتطورها خواص التطور الصوتي وعوامله ... الفصل الخامس: أصوات اللغة: حياتها وتطورها "الفونتيك 1 Phonetique" ترجع أهم ظواهر اللغة إلى قسمين رئيسيين: الظواهر المتعلقة بالصوت، والظواهر المتعلقة بالدلالة, وكلتا الناحيتين في تطور مطرد وتغير مستمر, وهي في تطورها تتأثر بعوامل شتّى وتخضع لطائفة كبيرة من القوانين. وسندرس في هذا الفصل ما يتعلق بالصوت وتطوره، ونقف في الفصل التالي على الأمور المتصلة بالدلالة. 1- خواص التطور الصوتي وعوامله: للتطور الصوتي خواص كثيرة من أهمها ما يلي2: 1- أنه يسير ببطء وتدرج: فاختلاف الأصوات في جيلٍ عمَّا كانت عليه في الجيل السابق له مباشرة, لا يكاد يتبينه إلّا الراسخون في ملاحظة هذه الشئون، ولكنه يظهر في صورة جليّة إذا وازنا بين حالتيهما في جيلين تفصلهما مئات السنين, فلغتنا لا تكاد تختلف في أصواتها عن لغة آبائنا المباشرين، ولكنها تختلف اختلافًا بينًا في هذه الناحية   1 انظر رقم 3 بصفحة7. 2 أشرنا إلى كثير من هذه الخواص في الفصول السابقة، انظر صفحات 20-23, 60، 61، 250، 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عمَّا كانت عليه في ألسنة أجدادنا في العصور الوسطى, أو في صدر العصور الحديثة. 2- أنه يحدث من تلقاء نفسه بطريق آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية, فتحول صوت الثاء العربية مثلًا إلى تاء "ثلاثة، تلاتة"، والذال إلى دال "ذراع، دراع"، والظاء إلى ضاد "الظل، الضل" والقاف إلى همزة "قلت، ألت"، أو جاف "جيم غير معطشة: قلت، جلت", وانقراض الأصوات التي كانت تلحق أواخر الكلمات للدلالة على أعرابها ووظائفها في الجمل "كنت أحسب أن كتاب محمد أحسن من كتاب علي -كنت أحسب أن كتاب محمد أحسن من كتاب علي".. كل ذلك وما إليه قد حدث من تلقاء نفسه بطريق آلي لا دخل فيه للتواضع أو إرادة المتكلمين. 3- أنه جبري الظواهر؛ لأنه خضع في سيره لقوانين صارمة، لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد لأحد على وققها أو تعويقها, أو تغيير ما تؤدي إليه, وإليك مثلًا حالة اللغة العربية في صدر الإسلام, وما آلت إليه الآن, فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها ومحاربة ما يطرأ عليها من تحريف، ومع أن هذه الجهود كانت تعتمد على دعامة من الدين، فإن ذلك كله لم يحل دون تطور أصواتها إلى الصورة التي تتفق مع نواميس التطور اللغوي، فأصبحت على الحالة التي هي عليها الآن في اللغات العامية. 4- أنه في غالب أحواله مقيد بالزمان والمكان؛ فعظم ظواهر التطور الصوتي يقتصر أثرها على بيئة معينة وعصر خاصٍّ، ولا نكاد نعثر على تطور صوتي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة, فتحول صوت القاف مثلًَا إلى همزة "قلت، ألت" لم يظهر إلّا في بعض المناطق الناطقة بالعربية ومنذ عهد غير بعيد، وتحول صوت a الواقع في نهاية بعض الكلمات اللاتينية إلى صوت e, لم يظهر إلّا عند الفرنسيين, ولم يبد أثره لديهم إلّا في أثناء المدة المحصورة بين نهاية القرن الثامن وأوائل القرن الرابع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 5- أنه إذا لحق صوتًا معينًا في بيئةٍ ما, ظهر أثره غالبًا في جميع الكلمات المشتملة على هذا الصوت, وعند جميع الأفراد الذين تكتنفهم هذه البيئة؛ فتحول القاف العربية مثلًا إلى همزة في بعض المناطق المصرية قد ظهر أثره في جميع الكلمات المشتملة على هذا الصوت عند جميع أفراد هذه المناطق1. ومن هذا يظهر فساد كثير من النظريات القديمة بهذ الصدد: فليس بصحيح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن تطور الأصوات يحدث نتيجة لأعمال فردية اختيارية تنتشر عن طريق التقليد والمحاكاة2. وليس بصحيح كذلك ما كانت تقول به المدرسة الإنجليزية من عهد سايس Sayce إلى عهد سويت Sweet, من أن التطور الصوتي يتجه باللغة نحو التهذيب والكمال، ولا ما ذهب إليه العلامة بول باسي من أنه يتجه نحو إظهار العناصر الأساسية في الكلمة, وتجريدها مما عسى أن يكون بها من أصوات لا تدعو إليها كبير ضرورة، فيخفف بذلك من ثقلها ويزيدها تمييزًا, وذلك أن اتجاهات كهذه لا يمكن أن تتحقق إلّا في تطور اختياري مقصود, تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح. أما وقد ثبت أن التطور الصوتي تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية, فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالسبل التي تقول بها هذه النظريات. وأن موازنة بين حالة الكلمات في اللغة العربية الفصحى, وما آلت إليه في اللغات العامية, لأكبر دليل على ما نقول. فمن الواضح أن هذا التطور لم يتجه نحو التهذيب والكمال، ولم يحقق زيادة في تمييز الكلمات، بل أدى في معظم مظاهره إلى اللبس في وظيفة الكلمات ودلالاتها، وجرد اللغة مما بها من دقة وسموّ، وهوى بها إلى منزلة وضيعة في التعبير, وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث   1 لهذه الخاصة بعض استثناءات لا يتسع المقام لذكرها، ومعظمها يمكن رجعه إلى القوانين العامة لحاية اللغات "انظر بعض أمثلة لهذه الاستثناءات في آخر ص291 وصفحة 292". 2 انظر ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مثله في كثير من اللغات الإنسانية الراقية, فكثير من الكلمات اللاتينية مثلًا, كانت واضحة الشخصية, مميزة الأصوات، ثم فقدت بعد تطورها شخصيتها ومميزاتها، وأصبحت في حالة يكتنفها اللبس والإبهام, ويظهر هذا مثلًا بالموازنة بين كلمة aqua اللاتينية "الماء", وما انتهت إليه في الفرنسية إذ استحالت إلى صوت واحد من أصوات اللين "eau وينطق بها o". وليس بصحيح كذلك ما ذهب إليه مكس مولر Max Muller ووتنى Whitney, من أن التطور الصوتي يتجه نحو تسهيل النطق, ويعمل على تحقيق الاقتصاد في المجهود1, وذلك أن هذا الاتجاه من قبيل الاتجاهات التي تقول بها النظريات السابقة, فهو مثلها لا يمكن أن يتحقق إلّا في تطور اختياري مقصود تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح, أما وقد ثبت أن التطور الصوتي تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية، فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالخطة التي تقول بها هذه النظرية. حقًّا أن الحالة التي تتطور إليها أصوات الكلمة في جيلٍ ما تكون دائمًا أكثر من حالتها الأولى تلاؤمًا مع طبيعة أعضاء النطق واستعدادها عند أهل هذا الجيل، كما سيأتي بيان ذلك2, ولكن لفظها قد يتلطب من الأعمال الصوتية وحركات أعضاء النطق أكثر مما يتطلبه لفظ الكلمة القديمة، فلا يتحقق حينئذ الاقتصاد الذي تقول به هذه النظرية, ويظهر هذا مثلًا بالموازنة بين الكلمة العربية "ماء" وما انتهت إليه في عامية القاهرة إذ أصبحت "مَيَّهْ", وبين الكلمة العربية "ذا الوقت" وما انتهت إليه في عامية بعض المقاطعات المصرية إذ أصبحت "دلوجيتي", وبين الكلمة اللاتينية caballecet3, وما انتهت إليه في فرنسية العصور الوسطى؛ إذ أصبحت chevalcet, "وكان ينطق بها tchevalst"   1 "Loi du moindre effort" "Max Muller" - "Princepe d economie "Witney"- V. Dauzat: Phiosophie du Langage, p. l66; Patois p. ll7 2 انظر آخر صفحة 289 وتوابعها. 3 Troisieme personne du subjonctif present du verbe chevaucher الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أما العوامل التي تؤدي إلى تطور الأصوات فيرجع أهمها إلى الأمور الآتية: 1- التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق في بنيتها واستعداها. 2- اختلاف أعضاء النطق في بنيتها واستعدادها باختلاف الشعوب. 3- الأخطاء السمعية. 4- تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض. 5- موقع الصوت في الكلمة. 6- تناوب الأصوات وحلول بعضها مع بعض. 7- أثر الأمور النفسية والاجتماعية والجغرافية. 8- أثر العوامل الأدبية. وقد تكلمنا بما فيه الكفاية في الفصلين الأول والرابع من هذا الباب عن أثر العاملين الأخيرين في التطور الصوتي1, فحسبنا هنا أن نذكر كلمة عن أثر كل عامل من العوامل الستة الأولى في هذا التطور.   1 انظر صفحات 175-185، 188، 189، 257-284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 2- التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق ونظرية روسلو rousselot: من المقرر أن أعضاء النطق في الإنسان في تطور طبيعي مطرد في بنيتها واستعدادها, ومنهج أدائها لوظائفها. فحناجرنا وحبالنا الصوتية وألسنتا وحلوقنا وسائر أعضاء نطقنا تختلف عما كانت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 آبائنا الأولين، إن لم يكن في بنيتها الطبيعية, فعلى الأقل في استعدادها1، بل إنها لتختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأقربين, غير أن هذا التطور يسير ببطء وتدرج، ولذلك لا يبدو أثره بشكل واضح إلّا بعد زمن طويل. وغنيٌّ عن البيان أن كل تطور يحدث في أعضاء النطق أو في استعدادها, يتبعه تطور في أصوات الكلمات، فتنحرف هذه الأصوات عن الصورة التي كانت عليها إلى صورة أخرى أكثر منها ملاءمةً مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. وقد كان لكشف هذه الحقيقة أكبر فضل في نهضة البحوث اللغوية المتعلقة بالصوت، وفي القضاء على كثير من النظريات الفاسدة التي أشرنا إلى بعضها في الفقرة السابقة2. وقد اهتدى إلى هذا الكشف، من قبل العلامة3 Rousselot عدد كبير من الباحثين، ونخص بالذكر منهم هرمان4 Herman Paul, ولكن جرت العادة بنسبته إلى العلامة روسلو؛ لأنه وقف قسطًا كبيرًا من جهوده على دراسته وتدعيمه بالأدلة القاطعة, وتحري حقائقه بوسائل البحث القديمة، وبوسيلة جديدة لم يكد يسبقه أحد إليها، وهي وسيلة الأجهزة "الفونيتيك التجريبي5"". وليس من الميسور وضع قواعد عامة مضبوطة لاتجاهات هذا   1 يكاد العلماء يجمعون على أن أعضاء النطق تختلف بعض الشيء في بنيتها واستعدادها باختلاف الشعوب وباختلاف الظروف المحيطة بكل شعب، كما سيأتي بيان ذلك في الفقرة التالية, ويكادون يجمعون كذلك على أنها في الشعب الواحد والظروف المتشابهة تتطور استعداداتها وتختلف باختلاف العصور، أما تطور بنيتها الطبيعية, واختلافها باختلاف العصور في الشعب الواحد والظروف المتشابهة, فقد اختلف العلماء بصدده: فمن منكر له، ومن قائل به, والمذهب الأخير هو الأولى إلى الصواب. 2 انظر صفحتي 287، 288. 3 انظر صفحة 61 وتعليقيها الأول والثاني. 4 انظر صفحات 57، 60، 61. 5 انظر صفحات 42-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 التطور؛ لأن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا باختلاف اللغات والبيئات والشعوب، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الفقرة السابقة1. ولذلك سنقتصر بصدد هذا العامل على ضرب أمثلة من الظواهر الصوتية المترتبة عليه. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات الجيم والثاء والذال والظاء والقاف؛ فقد أصبحت هذه الأصوات ثقيلة على أعضاء النطق في كثير من البلاد العربية، وأصبح لفظها على الوجه الصحيح يتطلب تلقينًا خاصًّا ومجهودًا إراديًّا, وقيادة مقصودة لحركات المخارج, ولعدم ملاءمتها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق في هذه البلاد أخذت تتحول منذ أمد بعيد إلى أصوات أخرى قريبة منها؛ فالصوت الأول: "الجيم" الذي كان ينطق به معطشًا بعض التعطيش في العربية الفصحى, قد تحول في معظم المناطق المصرية إلى جاف "جيم غير معطشة"، وفي معظم المناطق السورية والمغربية إلى جيم معطشة كل التعطيش2 J, والثاء قد تحولت إلى تاء في معظم المناطق المصرية, وفي بلاد أخرى "فيقال: توب، تلج، تخين، تعلب، تعبان، تفل، تئيل، تلت، تلاتة، تمن، تمانية، تور، اتنين، نتر، جنتة، عتة، عتر، ... إلخ، بدلًا من: ثوب، ثلج، ثخين، تثعلب، ثعبان، ثفل، ثقيل، ثلث، ثلاثة، ثمن، ثمانية، ثور، اثنان، نثر، حثة، عثة، عثر ... إلخ3". والذال قد تحولت في كثير من المناطق العربية إلى دال, في معظم الكلمات؛ فيقال: داب، دراع، ديب، ده، دبل، دبح، دبان، دأن، أدان، ودن، دهب، ديل..إلخ، بدلًا من: ذاب، ذراع، ذئب، ذا، ذي، ذبل، ذبح، ذباب، ذقن، أذان، ذهب، ذيل ... إلخ"، وإلى زاي في بعض الكلمات؛ فيقال مثلًَا: زنب،   1 انظر رقم 4 بصفحة 286. 2 لا يزال ينطق بصوت الجيم نطقًا صحيحًا في بعض المناطق المصرية, وخاصة في محافظة الشرقية, وفي كثير من البلاد العربية الأخرى. 3 تحول هذا الصوت في كلمات قليلة إلى سين أو صاد "ثواب مثلًا ينطق بها أحيانًا: سواب أو صواب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 زهن, زكي، بزر، رزالة ... إلخ، بدلًا من: ذنب، ذهن، ذكي، بذر، رذالة ... إلخ". والظاء قد تحولت إلى ضاد في معظم الكلمات؛ فيقال: ضلام، ضفر، ضل، ضهر..إلخ" بدلًا من: ظلام، ظفر، ظل، ظهر..إلخ"، وإلى زاي مفخمة في بعض الكلمات, كما ينطق في عامية المصريين بكلمات، ظالم، ظريف، أظن، حظ..إلخ"1 والقاف تحولت إلى همزة في بعض اللهجات العربية؛ فيقال: أط، ألت، أبل، عأد، نطأ ... إلخ، بدلًا من: قط، قلت، قبل، عقد، نطق..إلخ"، وإلى جاف "جيم غير معطشة" في معظم اللهجات العامية بمصر وغيرها من البلاد العربية؛ فيقال: جط, جلت، جبل، عجد، نطج ... إلخ، بدلًا من: قط، قلت، قبل، عقد، نطق ... إلخ"2. ومثل هذا حدث في كثير من اللغات الأوروبية, فمن ذلك ما لوحظ بصدد تطور الراء الفرنسية في منطقة باريس وما إليها, فقد كان ينطق بها قديمًا في صورة مرققة، ثم أخذت تنحرف عن مخرجها تبعًا لتطور أعضاء النطق واستعدادها, حتى قربت من آخر الحلق، فتحولت إلى صوت بين الراء والغين، وأصبح صوتها القديم ثقيلًا على الألسنة, يتطلب لفظه من أهل هذه المناطق مجهودًا إراديًّا وقيادة مقصودة لحركات المخارج.   1 لا يزال ينطق بأصوات الثاء والذال والظاء نطقًا صحيحًا في عامية العراق وليبيا, وخاصة في برقة, وفي تونس والجزائر والمغرب, وفي القبائل العربية النازحة إلى مصر من المغرب "الفوايد, الرماح, البراعصة، أولاد علي، الضعفاء، سمالوس..إلخ". 2 لا يزال صوت القاف محتفظًا بنطقه الصحيح في كثير من الكلمات في عامية العراق والجزائر وتونس وبعض بلاد سوريا وعامية رشيد وبعض مناطق اليمن, وكان مستعملًا منذ عهد غير بعيد في بعض مناطق بني سويف. وقد سمعت أنا نفسي بعض شيوخ أسرتي "ببلدة الحمام محافظة بني سويف" يتكلمون بالقاف، ولا يزال العامة في هذه المناطق يتكلمون بالقاف، حينما يروون عبارة منسوبة إلى أجدادهم في الأقاصيص الشعبية وما إليها، وهذا يدل على أن صوت القاف لم ينقرض لديهم إلّا منذ أمد قريب "انظر تحقيقًا لابن خلدون في موضوع القاف والجاف في صفحتي 1393، 1294 من الطبعة الثانية للجزء الرابع من مقدمة ابن خلدون، تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 3- اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب : تختلف أعضاء النطق في بنيتها واستعدادها ومنهج تطورها تبعًا لاختلاف الشعوب, وتنوع الخواص الطبيعية المزود بها كل شعب, والتي تنتقل عن طريق الوراثة من السلف إلى الخلف. حقًّا أن أعضاء النطق تظل مرنة طوال المرحلة الأولى من مراحل الطفولة, فمن المشاهد أن الطفل في هذه المرحلة لا يستعصي عليه اكتساب أية لغة عن طريق التقليد، مهما كانت هذه اللغة بعيدة عن لغة أبوية، بل في استطاعته أن يكتسب بهذه الوسيلة عدة لغات أجنبية إذا أتيحت له فرصة الاختلاط بالمتكلمين بها، ويصل في إجادتها جميعها إلى درجة لا يستطيع معها أكبر خبير في اللغات أن يميزه من أهلها، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا الكتاب1. ولكن ليس من شكٍّ في أنه كلما تقدمت به السن ظهرت عنده الاستعدادات الصوتية الكامنة الخاصة بأمته، ورسخت لديه عاداتها الكلامية, فتفقد أعضاء نطقه مرونتها شيئًا فشيئًا، وتتشكل بالشكل الذي فطرت عليه في شعبه، وتسلك في تطورها منهجًا خاصًّا يختلف عن المنهج الذي تسكله أعضاء النطق في الشعوب الأخرى. ولا يخفى ما يترتب على اختلاف الشعوب بهذا الصدد من آثار خطيرة في التطور الصوتي في مختلف اللغات. فإلى هذا يرجع بعض السبب في اختلاف اللغة الواحدة في تطورها الصوتي باختلاف الشعوب الناطقة بها, وذلك أنها تسلك في تطورها الصوتي عند كل شعب منها مسلكًا يتفق مع ما فطرت عليه أعضاء نطقه في طبيعتها واستعدادها ومنهج ارتقائها؛ فاللاتينية مثلًا   1 انظر صفحات 138-142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قد سلكت في تطورها الصوتي عند كل شعب من الشعوب الناطقة بها مسلكًا يختلف عن مسلكها في الشعوب الأخرى، فلم تلبث أن انشعبت من جراء ذلك إلى عدة لغات "الفرنسية، الإيطالية، الأسبانية. البرتغالية، لغة رومانيا ... إلخ", واللغة العربية قد اتجهت كذلك في تطورها الصوتي عند كل شعب من الشعوب الناطقة بها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيره، فلم تلبث أن تولد عنها من جراء ذلك عدة لهجات "عامية العراق، عامية الشام، عامية نجد والحجاز، عامية اليمن، عامية مصر، عامية المغرب ... إلخ1" حقًّا أن كثيرًا من مظاهر هذا الاختلاف ترجع إلى عوامل اجتماعية ونفسية أو إلى آثار البيئة الجغرافية2، ولكن ليس من شكٍّ في أن بعض هذه المظاهر يرجع إلى العامل الشعبي الذي نحن بصدد الكلام عنه. وعلى هذا العامل يقع كذلك قسط من التبعة فيما يصيب اللغة من تحريف في أصواتها حينما تنتقل من شعب إلى آخر3, وذلك أنها تتشكل عند الشعب المنتقلة إليه في الصورة التي تتفق مع ما فطرت عليه أعضاء نطقه في بنيتها واستعدادها، فتبعد بذلك عن أصولها الأولى، ويزداد بعدها هذا كلما اتسعت مسافة الخلف بين أصول الشعبين. فما أصاب لغة الصقالبة من تحريف في ألسنة البلغاريين يفوق كثيرًا ما أصابها عند غيرهم، وذلك لأن الشعب الفيني Finois الذي ينحدر منه البلغاريون لا تربطه صلة قريبة بالأصل السلافي الذي ينتمي إليه الصقالبة4, وما أصاب الأصوات اللاتينية من تحريفٍ في اللغة الفرنسية يفوق كثيرًا ما أصابها في اللغة الإيطالية، وذلك لأن الإيطاليين أقرب رحمًا إلى قدماء الرومان من الفرنسيين، ففيهم يغلب   1 انظر آخر ص174. 2 انظر صفحة 175. 3 انظر صفحة 231, وآخر ص235, وأول 236, وآخر ص244, ونقول: "قسط من التبعة" لا كل التبعة؛ لأن لهذه الظاهرة أسبابًا أخرى كثيرة غير هذا العامل "أسبابًا اجتماعية ونفسية وجغرافية ... إلخ". 4 انظر صفحة 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الدم اللاتيني، بينما يغلب في الفرنسيين الدم السلتي والجرماني. ولهجات القسم الجنوبي من فرنسا كالجسكونية والبروفنسية Gascon Provencal etc أقرب إلى أصولها اللاتينية من لهجات القسم الشمالي، وذلك أن الدم اللاتيني في سكان الجنوب أغزر منه في سكان الشمال, ولهجات الجنوب نفسها تختلف في مبلغ قربها إلى اللغة اللاتينية تبعًا لاختلاف الناطقين بها في مبلغ قربهم إلى الأصل اللاتيني, ولذلك كانت البروفنسية Provencal أقرب إلى اللاتينية من الجسكونية Gascon؛ لأن البرفنسيين أدنى إلى اللاتينيين من الجسكونيين، ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر من المغرب "البراعصة، الفوايد، الرماح، الجوزي، أولاد علي، سمالوس ... إلخ" أدنى في ناحيتها الصوتية إلى العربية الفصحى من لهجات المصريين أنفسهم1, وذلك لأنهم أقرب رحمًا إلى العرب من المصريين. وعلى ضوء هذا العامل يمكن كذلك قياس مسافة الخلف بين "اللهجات المحلية" "وهي اللهجات التي يتكلم بها في منطقة لغوية واحدة كلهجات البلاد المصرية"2 والوقوف على بعض الأسباب التي تؤدي إلى بعدها بعضًا عن بعض3, فالمشاهد أن مبلغ اختلاف هذه اللهجات بعضها عن بعض في أصواتها يتبع إلى حد كبير مبلغ اختلاف الناطقين بها بعضهم عن بعض في أصولهم الشعبية, فكلما كان هؤلاء متجانسين في أصولهم ضاقت مسافة الخلف بين لهجاتهم في ناحيتها الصوتية، وكلما تعددت الأصول الشعبية التي ينتمون إليها اتسعت هذه المسافة؛ فلهجات المصريين لا تختلف كثيرًا بعضها عن بعض في هذه الناحية، وذلك لتجانسهم في الأصول التي انحدروا منها, ولهجات المنطقة الشمالية بفرنسا -منطقة باريس وما إليها- تختلف كثيرًا عن لهجات المنطقة الجنوبية منها: "طولون، نيس ... إلخ   1 انظر آخر ص292, والتعليق الأول فيها. 2 انظر ص 179 وتوابعها. 3 نقول: "بعض الأسباب"؛ لأن لهذه الظاهرة أسبابًا أخرى كثيرة غير هذا العامل "أسبابًا اجتماعية ونفسية وجغرافية ... إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 Nice, Toulon"؛ ولكن كلتا المنطقتين تحتوي مجموعة متشابهة من اللهجات1, وذلك لأن سكان المنطقة الشمالية يختلفون في أصولهم الشعبية عن سكان المنطقة الجنوبية، ولكن كلتا المنطقتين تضم من السكان مجموعة متجانسة في هذه الأصول. ولهجات المناطق الوسطى بفرنسا يختلف بعضها عن بعض اختلافًا غير يسير، وذلك لتعدد الأصول الشعبية التي ينتمي إليها سكان هذه المناطق2. غير أنه من الخطأ المبالغة في أثر هذا العامل والعامل السابق له, كما حاول ذلك بعض الباحثين, ولا أدلَّ على أن أثرهما ليس بالدرجة التي تصورها هؤلاء من أن الطفل من أية أمة, وفي أي عصر, يستطيع بسهولة أن يجيد لغة أمة أخرى, أو عصر آخر عن طريق التقليد, إذا أحيط في دور طفولته بأفراد يتكلمون هذه اللغة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أول هذه الفقرة.   1 انقرض الآن معظم هذه اللهجات وحلت محلها الفرنسية الحديثة. 2 V. Dauzat: Vie du Langage 47 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 4- الأخطاء السمعية : وسقوط الأصوات الضعيفة, ونظرية روسلو ومييه Boussdlot-Meillet: يعتمد الطفل في محاكاته للغة أبويه على حاسة السمع، كما سبق شرح ذلك في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا الكتاب1. ولما كانت هذه الحاسة عرضة للزلل في إدراكاتها، كان لزامًا أن يجانب الطفل السداد في بعض ما يحاكيه, وأن تختلف لغته بعض الاختلاف في ناحيتها الصوتية عن لغة أبويه.   1 انظر صفحة 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وتنقسم الأخطاء اللغوية الناجمة عن هذا السبب قسمين: 1- أخطاء خاصة مقصورة على بعض الأفراد؛ كالأخطاء الناجمة عن ضعف السمع أو اختلال أجهزته, وما إلى ذلك, وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها, تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتموت بموتهم. 2- أخطاء عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة, وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم, وذلك كالأخطاء السمعية الناشئة عن ضعف بعض الأصوات, فقد يحيط بالصوت بعض مؤثرات تعمل على ضعفه بالتدريج، فيتضاءل جرسه شيئًا فشيئًا حتى يصل في عصرٍ ما إلى درجة لا يكاد يتبينه فيها السمع, فحينئذ يكون عرضة للسقوط, وذلك أن معظم الصغار في هذا العصر لا يكادون يتبينونه في نطق الكبار، فينطقون بالكلمات مجردة منه, ولا يفطن الآباء لسقوطه في لغة أولادهم للسبب نفسه الذي من أجله لم يفطن الأولاد لوجوده في لغة آبائهم. ولا يخفى ما لهذا القسم من الأخطاء من أثر بليغ في تطور اللغة من ناحيتها الصوتية, فإليه يرجع السبب في سقوط كثير من الأصوات في مختلف اللغات الإنسانية, وخاصة في اللغات الهندية - الأوروبية. وقد ظهر أثر هذا العامل أوضح ما يكون في الأصوات الواقعة في أواخر الكلمات؛ كعلامات الإعراب في اللغة العربية. ويرجع أكبر قسط من الفضل في توضيح هذا العامل وبيان آثاره إلى العلامتين روسلو ومييه Rousselot Meillet, ولذلك تنسب إليهما نظريته1.   1 انظر في ذلك: Dauzat, Des Patois, p. ll8; Meillet, Linguistique generales, p. 79; Delacroix, Le Langage et la Pensee, p. 180 et stiv وانظر في التعريف بروسلو ومييه صفحات 45، 61، 67 والتعليق الثالث بصفحة 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 5- تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض : يحدث بين الأصوات المتجاورة والمتقاربة في الكلمة من ظواهر التفاعل أنواع كثيرة, يؤدي كل نوع منها إلى نتائج ذات بالٍ في التطور الصوتي, ومن أهم ما سجله الباحثون بهذا الصدد الأمور الآتية: 1- التفاعل بين الأصوات الساكنة "ونعني بها ما يقابل أصوات اللين". يحدث أحيانًا بين الصوتين المتجاورين في الكلمة مثل ما يحدث بين المواد المحملة بالكهرباء, فتجاور مادتين من هذه المواد يحدث بينهما تجاذبًا إذا كانتا مختلفتين في نوع كهربائهما، بأن كانت إحداهما موجبة والأخرى سالبة, وتنافرًا إذا كانتا متحدتين فيه, بأن كانت كلتاهما موجبة أو سالبة, وكذلك يفعل أحيانًا التجاور أو التقارب بين الصوتين: أ- فإذا تجاور صوتان مختلفان في مخارجهما أو تقاربا, انجذب أحيانًا كل منهما نحو الآخر، فينتهي بهما الأمر إلى واحدة من النتائج الأربع الآتية: فتارةً يلتصق أحدهما بالآخر، فتنتقل الأصوات التي كانت تفصل بينهما إلى ما بعدهما "ظاهرة النقل المكاني Metethese 1K, كما حدث لحرفي b-r في كلمة berbes إذ تحولت إلى brebis, وفي كلمة abeuvrer, إذ تحولت إلى abreuver. وتارةً يتحول أحدهما إلى صوت من نوع الصوت الآخر "ظاهرة التشاكل assimilation2", فأحيانًا يتحول الأول إلى نوع الصوت الثاني،   1 ليس النقل المكاني Metathese مقصورًا على الحالة التي نحن بصدد الكلام عنها، بل يطلق اصطلاحًا على كل حالة ينتقل فيها صوت أو أكثر من موضعه في الكلمة إلى موضع آخر, كما سيأتي بيان ذلك في آخر الفقرة السادسة من هذا الفصل. 2 استخدمنا كلمة assimilation في معناها الواسع الذي يشمل التفاعل بين صوتين متجاورين؛ لأنها لا تطلق في معناها الاصطلاحي الضيق إلّا على التفاعل بين صوتين يفصل بينهما فاصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 كما حدث في cercher, إذ تحولت إلى cherher، وكما حدث في اللام الشمسية1 في اللغة العربية؛ إذ تحولت إلى صوت الحرف الذي يليها "التقوى، الثوب، الذنب، الرحمة، الزهر، السماء، الشمس، الصواب، الضر، الطول، الظلم، الناب"، وكما حدث في الكلمة العربية "شمس" إذ تحولت في بعض اللهجات العامية إلى "سمس", وأحيانًا يتحول الثاني إلى نوع الصوت الأول كما حدث في gamba. render, إذ تحولت إلى2 gamma renner، وكما حدث الكلمة العربية "شمس"؛ إذ تحولت في بعض لهجات الصعيد إلى "شمش". وأحيانًا يمتزجان معًا، فيتكون من امتزاجهما صوت ثالث به صفات من كليهما، كما حدث في جميع الكلمات التي تجاور فيها صوتا Y L؛ إذ تحول هذان الصوتان في الفرنسية إلى صوت واحد يجمع بين صفتيهما وهو صوت L mouile وأحيانًا يتلاشى أحدهما في الآخر: فيبقى الثاني وحده، كما حدث في الكلمة اللاتينية accapter؛ إذ تحولت في الفرنسية إلى acheter، أو يبقى الأول وحده، كما حدث في الكلمة اللاتينية cliave؛ إذ تحولت في الإيطالية إلى Chiave "ينطق بها3 Kyave". ب- وإذا تجاور صوتان متحدان أو تقاربا, فإنهما يتنافران أحيانًا، فينتهي بهما الأمر إلى واحدة من النتائج الثلاث الآتية: فتارة يتحول صوت أحدهما إلى صوت مغاير للآخر "ظاهرة   1 وهي لام التعريف المنبوعة بأحد الحروف الآتية: ن ث د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ن. 2 تحول الصوت الأول إلى نوع الصوت الثاني هو الغالب في هذه الحالة: La Vie du Langage, pp 57, 79 3 انقراض الأول وبقاء الثاني هو الغالب في هذه الحالة V. Dauzat, op. cit, 57, 68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 التباين1 dissimilation, ويقع هذا على ضربين؛ فأحيانًا يتحول أولهما كما حدث في orphani nus pereg r inum؛ إذ تحولا في الفرنسية إلى orphe in pe l e rin, وأحيانًا يتحول ثانيهما، كما حدث في الكلمة اللاتينية c r ib rum؛ إذ تحولت في الفرنسية إلى crib l e, وكما حدث لصوتي اللام المشددة في اللاتينية؛ إذ تحول صوتها الثاني إلى ياء في معظم الكلمات الأسبانية castella تحولت إلى castilla "وينطق بها2 castilya". وتارةً يسقط أحدهما في النطق، كما حدث في معظم الأصوات المشددة في اللاتينية؛ إذ تحولت في النطق الفرنسي والبرفنسي provencal والأسباني إلى أصوات مخففة3، وكما حدث في معظم الأصوات المشددة في العربية؛ إذ تحولت في لهجات كثير من بلاد محافظة الشرقية إلى أصوات مخففة "فيقال مثلا كلمى، أمْها، عمْها، من كلْ بدْ" بدلًا من: كلمِّى، أمُّها, من كلِّ بدٍّ". وتارةً يتساقطان معًا ويحل محلهما صوت واحد غريب عنهما، كما حدث في صوتي اللام المشددة اللاتينية؛ إذ تحولا في الجسكونية Gascon إلى تاء t في حالة وقوعهما في آخر الكلمة, وإلى راء r في حالة وقوعهما بين حرفي لين, "فالكلمتان اللاتينيتان bellum bella" محولا في الجسكونية إلى4 bet bera". 2- التفاعل بين أصوات اللين: وتجاور صوتي لين أو تقاربهما في الكلمة يجعلهما كذلك عرضة للتغير والانحراف.   1 استخدمنا كلمة dissimlation في معناها الواسع الذي يشمل التفاعل بين صوتين متجاورين؛ لأنها لا تطلق في معناها الاصطلاحي الضيق إلّا على التفاعل بين صوتين يفصل بينهما فاصل. 2 تحول الأول إلى صوت مغاير للثاني هو الغالب في هذه الحالة. V. Dauzat, op. cit., 57, 79 3 وهذا فيما عدا اللام المشددة V. Dauzat, op. cit., 79 ونقول "في النطق" لأن معظمها لا يزال محتفظًا بشكله القديم في الموسم. 4 Dauzat, op. cit., 79 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فتارةً يلتصقان بعد تباعدهما، فتسقط الأصوات التي تفصلهما، ويتكون منهما صوت لين مركب diphtongue، كما حدث في الكلمة الاتينية r e g i na؛ إذ تحولت في الفرنسية القديمة إلى1 reine. وتارةً يتباعدان بعد التصاقهما، فيقحم بينهما صوت ساكن "أي غير لين" لتسهيل النطق بها، كما حدث في الكلمة الفرنسية القديمة pooir؛ إذ تحولت في الفرنسية الحديثة إلى Pouvoir. وتارةً يتحول أحدهما إلى صوت لين آخر إذا كانا متحدين، كما حدث في الكلمة اللاتينية V i c j nus؛ إذ تحولت في لغة التخاطب عند الرومان إلى V e c i nus وتارةً يخرج أحدهما عن فصيلته خروجًا تامًّا؛ فيتحول إلى صوت ساكن2 "ونعني به ما يقابل أصوات اللين" كما حدث في الكلمة اللاتينية p l a tt e a؛ إذ تحولت إلى p l a tt s a3, وكما حدث في بعض اللهجات العامية للمقاطعات الفرنسية "أوفرني وفوريه ودوفينيه Auvergne Forez Dauphine"؛ إذ تحولت فيها الكلمات التي من قبيل fsalo tsals إلى fialo lialo6   1 تحولت هذه في الفرنسية الحديثة إلى reine التي ينطق بها reine خضوعًا لقانون "التناوب بين أصوات اللين" الذي سنتكلم عليه في صفحتي 308، 309. 2 تحولت إلى ذلك في الغالب الصوت الأول منهما، كما يظهر من الأمثلة التي سنذكرها. 3 تحولت هذه في الفرنسية إلى Place. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 6- موقع الصوت في الكلمة وموقع الصوت في الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف. 1- وأكثر ما يكون ذلك في الأصوات الواقعة في أواخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الكلمات، سواء أكانت أصوات لين أم أصواتًا ساكنة "ونعني بالساكنة ما عدا أصوات اللين". أ- أما أصوات اللين فقد لوحظ أن وقوعها في آخر الكلمة يجعلها في الغالب عرضة للسقوط، ويؤدي أحيانًا إلى تحولها إلى أصوات أخرى. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات اللين القصيرة "المسماة بالحركات, وهي الفتحة والكسرة والضمة" التي تلحق أواخر الكلمات؛ ففي جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية "عاميات مصر والسودان، والعراق والشام ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والمغرب ... إلخ" قد انقرضت هذه الأصوات جميعها، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب, وما كان منها حركة بناء, فينطق الآن في هذه اللهجات بجميع الكلمات مسكنة الأواخر؛ فيقال مثلًا: رجعْ عمرْ للمدرسةْ بعدْ ما خفْ من عياه" بدلًا من "رجعَ عمرُ إلى المدرسةِ بعدَ ما خفَّ من إعيائه", ولعل هذا هو أكبر انقلاب حدث في اللغة العربية، فقد أتى جميع الكلمات فانتقصها من أطرافها، وجردها من العلامات الدالة على وظائفها في الجملة، وقلب قواعدها القديمة رأسًا على عقب1. ومن هذا القبيل كذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات اللين الطويلة "الألف والياء والواو" الواقعة في آخر الكلمات؛ فقد تضاءلت هذه الأصوات في عامية المصريين وغيرهم, حتى كادت تنقرض تمام الانقراض، سواء في ذلك ما كان منها داخلًا في بنية الكلمة. "رمى، يرمي ... إلخ" وما كان خارجًا عنها "ضربوا، ناموا ... إلخ", فيقال مثلًا في عامية المصريين. "سامِ وعيسَ ومصطفَ أبُ حسين سافرُ   1 يرجع السبب كذلك في هذه الظاهرة إلى العامل الذي أشرنا إليه في الفقرة الرابعة من هذا الفصل, وهو الأخطاء السمعية التي تنشأ عن ضعف بعض الأصوات "وانظر ص297". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 يوم الخميس لجرجَ" بدلَا من "سامي وعيسى ومصطفى أبو حسين سافروا يوم الخميس إلى جرجا"1. وما حدث في اللغة العربية حدث في مثله في كثير من اللغات الأخرى, فمعظم أصوات اللين المتطرفة في اللغة اللاتينية قد انقرضت في اللغات المنشعبة عنها2؛ ففي الأسبانية سقط من هذه الأصوات صوتان وهما3 l E، وفي البروفنسية provencal والفرنسية القديمة لم يكد يبقى شيء منها4, وبعض هذه الأصوات قد تحول إلى أصوات لين أخرى كما حدث لصوت "a" إذ تحول في الفرنسية القديمة إلى5 "e" canta chante linta lente fava feve ب- ووقوع الصوت الساكن "ونعني به ما يقابل الصوت اللين" في آخر الكلمة يجعله كذلك عرضة للتحول أو السقوط. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء المتطرفين6؛ فقد انقرضت هذه الأصوات في معظم اللهجات العامية المنشعبة عن العربية، كما يظهر ذلك من الموازنة بين العبارات العربية المدونة في السطرين التاليين ونظائرهما في عامية المصريين المدونين في أول الصفحة التالية: محمدٌ ولدٌ مطيعٌ، الأولاد يلعبون، الهواء شديدٌ, انظرته ساعةً كاملةً.   1 يرجع السبب كذلك في هذه الظاهرة إلى العامل المشار إليه في التعليق السابق. 2 يستثنى من ذلك الإيطالية, فقد احتفظت بمعظم هذه الأصوات. 3 يستثنى من ذلك بعض كلمات قليلة بقي فيها أحد هذين الصوتين. 4 انقرضت جميعها في الواقع ما عدا صوت A الذي سيأتي الكلام عنه, وما عدا بعض حالات شاذة. 5 يستثنى من ذلك بعض كلمات قليلة, وقد حدث هذا التطور في المدة المحصورة بين نهاية القرن الثامن وأوائل القرن الرابع عشر, كما سبقت الإشارة إلى ذلك، انظر رقم 4 بصفحة 286. وانظر Dauzat op cit 142 6 التاء المربوطة حكمها في ذلك حكم الهاء المتطرفة، كما يظهر في المثال المذكور فيما بعد, ويرجع السبب كذلك في هذه الظاهرة إلى العامل الذي أشرنا إليه في التعليق الأول في الصفحة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 محمدْ ولدْ مطيعْ، الأولادْ بيلعبُ، الهوَ شديدْ، انتظرتُ ساعَ كامْلَ. ومن هذا القبيل كذلك حذف آخر الكلمة التي يوقف عليها في عامية كثير من المناطق المصرية؛ كبعض مناطق بني سويف والشرقية ورشيد وغيرها، فيقال مثلًا: "أنت ياول" بدلًا من "أنت يا ولد", "فين أخوك محمود" بدلًا من "أين أخوك محمود", "ادِّيلُ خمسأرو" بدلًا من "أد له خمسة قروش"1. وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في كثير من اللغات الأخرى, فمعظم الأصوات الساكنة المختتمة بها الكلمات اللاتينية قد انقرضت في النطق الفرنسي, أو تحولت إلى أصوات ساكنة أخرى أضعف منها, أو إلى أصوات لين. أما الانقراض فلم يكد ينجو منه إلّا القليل من أنواع هذه الأصوات plunbum, تحولت في الفرنسية إلى plomb التي ينطق بها plon بدون صوت الباء الأخير، compus تحولت في الفرنسية إلى champ ينطق بها chan بدون صوت p الأخير ... إلخ2. ومن ذلك أيضًا حذف علامة الجمع S في النطق الفرنسي، وبذلك أصبح المفرد وجمعه المختتم بصوتS سيين في النطق ولا يختلفان إلّا في الرسم. وأما تحولها إلى أصوات ساكنة ضعيفة فقد حدث في كثير من الكلمات المنتهية بأصوات مدوية sonores مثل أصوات v d d؛ إذ تحولت في الفرنسية القديمة هذه الأصوات القوية إلى أصوات ضعيفة صامتة مثل أصوات f t p "na v em gran dem تحولتا في الفرنسية القديمة إلى vef grant" وقد جرت عادة العلماء أن يطلقوا على   1 سار على هذا الأسلوب كذلك بعض اللغات العربية الفصيحة، كلغة طيئ، وقد جرت عادة المؤلفين من العرب بتسميته قطعة طيئ "أي: قطع اللفظ تمامه"، فكان يقال مثلًا في لغتهم: "يا أبا الحك" بدلًا من يا أبا الحكم, ولم يكن هذا مقصورًا لديهم على المنادى, بل كان عامًّا في جميع الكلمات. 2 V. Dauzat, op. cit., 75-67 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 هذه الظاهرة اسم "توهين الأصوات الساكنة الأخيرة. assourdissement des consonnes sonores finales1 وأما تحولها إلى أصوات لين فقد حدث على الأخص في حرف اللام المتطرفة "vocalisation de "1' final"2. هذا، وقد أحدث سقوط الأصوات اللينة والساكنة الواقعة في أواخر الألفاظ انقلابًا كبيرًا في عالم اللغات, فقد كان من آثاره انقراض "طريقة الإعراب" في كثير من اللغات التي كانت تسير عليها كالعربية واللاتينية وما إليهما3. 2- ووقوع الصوت في وسط الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد الهمزة الساكنة الواقعة في وسط الثلاثي, فقد تحولت إلى ألف لينة في عامية المصريين وغيرهم "فيقال: راس، فاس، فال، ضاني ... بدلًا من: رأس، فأس، فأل، ضأن ... إلخ". ومن هذا القبيل كذلك ما حدث بصدد الياء والواو الساكنتين في وسط الكلمة في مثل عين ويوم, فقد تحولتا في بعض المناطق المصرية وغيرها إلى صوتين من أصوات اللين: فأولهما تحول إلى صوت يشبه صوت ai e في اللغة الفرنسية "عين، خيل، بين، زينب ... إلخ" وثانيهما تحول إلى صوت يشبه صوت o الفرنسي "يوم، نوم، فوز، لوم ... إلخ".   1 حدث مثل ذلك أيضًا في الألمانية الحديثة؛ إذ تحول فيها مثلًا grob tod إلى grop tot انظر Dauzat, op. cit., 75 2 حدث ذلك في الفرنسية وفي البروفنسية حوالي القرن الثاني عشر الميلادي V. Dauzat, op Cit 75 3 "طريقة الإعراب" هي الطريقة التي تعتمد في بيان نوع الكلمة ووظيفتها في الجملة على ما يلحق آخرها من أصوات, ولا يزال لهذه الطريقة آثار كثيرة في بعض لغات التخاطب كالألمانية وما إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومن ذلك تحريك الحرف الساكن إذا وقع في وسط كلمة ثلاثية في كثير من لهجات البلاد العربية "عامية الشرقية، وبعض عاميات الصعيد، ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر من المغرب، ولهجة العراق ... إلخ"، فيقال مثلًا: اسِم، رَسِم، مِصر، جُرُن، بِدرِ، فَحلِ، فِجلِ, بدلًا من: اسمْ، رسمْ، مصْر، جرنْ، بَدْر، فَحْل، فجْل ... إلخ1. وقد سجل الباحثون ظواهر كثيرة من هذا القبيل في اللغات الهندية - الأوربية. فمن ذلك ما حدث بصدد صوت اللين القوي tonique الواقع قبيل آخر الكلمة، وخاصة إذا كان حرًّا Voyelle libre, أي: متبوعًا بصوت ساكن واحد, أو بصوتين من إحدى المجموعات الآتية: br cr dr tr, فقد تحول هذا الصوت في معظم حالاته في اللغات الاتينية والجرمانية واليونانية القديمة إلى صوت لين مركب diphtongue. وأشد أصوات اللين اتجاهًا إلى هذا التحول صوتان هما e o، وأقل منهما ميلًا إلى ذلك صوتا e o، وأقلها جميعًا ميلًا إلى هذا التحول صوتا U i, فإنه لم يكد يبدو فيها هذا الميل إلّا في اللغات الجرمانية "scinan تحولت في الألمانية scheinen وينطق بها chainen، وفي الإنجليزية إلى shine وينطق بها2 shaine". ومن ذلك ما حدث للصوت الساكن الواقع بين صوتي لين, فموقعه هذا قد أدى به أحيانًا إلى السقوط, وأحيانًا إلى الانحراف عن مخرجه الأصلي والتحول إلى صوت آخر؛ فصوت الباء b قد تحول في لغة التخاطب اللاتينية إلى صوت v "faba تحولت إلى fava3، وصوت السين قد تحول في اللاتينية إلى راء "arbosis تحول   1 هذه كذلك لهجة قديمة من لهجات بعض القبائل العربية. 2 ظهر هذا الميل كذلك في بعض اللهجات العامية الإيطالية. Dauzat, op. cit., 70. 3 لم يشذ عن ذلك إلّا عدد يسير من الكلمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 إلى arboris" وصوت الدال a في الكلمات اللاتينية قد تحول إلى z في البروقنسية1 وسقط في الفرنسية والأسبانية. latin: videre; provene Wal: vezer; francais: veoer, voir; espagnol: veer ver, وصوتا اللام والنون الواقعتان بين صوتي لين قد سقطا في اللغة البرتغالية في العصور الوسطى "p o pu l u s تحول إلى: rationem povo تحول إلى razoe.. إلخ", والأصوات الصامتة "p t k etc" consonnes الواقعة بين صوتي لين قد تحولت في اللاتينية الحديثة حوالي القرن السادس إلى أصوات مدوية consonnes sonores قريبة منها b d g etc, وإلى هذا الحد وقف تطور هذا النوع في الأسبانية والبروفنسية. أما في الفرنسية الحديثة فقد حدث تحول آخر؛ إذ انقلب صوت الباء b إلى V وسقط صوتا الدال والجيم d g كما يظهر ذلك من الأمثلة الآتية2. latin: ripa; amata; securus esp. et prov: libera "riba" amada, segur "o francais: rive, aimee, sur 3- ووقوع الصوت في أول الكلمة يجعله كذلك عرضة للانحراف, فمن ذلك ما حدث في بعض المفردات العربية المفتتحة بالهمزة؛ إذ تحولت همزتها في بعض اللهجات العامية إلى فاء أو واو "أذن" تحولت في عامية المصريين إلى "ودن"، و"أين" تحولت إلى "فين" أو إلى "وين" في عامية القبائل العربية النازحة إلى مصر من المغرب وفي عامية العراق والحجاز، و"أدّى" تحولت في بعض المواضع في عامية المصريين إلى "وى", فيقال مثلًا: "وداه المدرسة" بمعنى "أدى به إلى المدرسة" أي: أوصله إليها"3.   1 كان ينطق بصوت z في البروفنسية كما ينطق بالذال العربية "th في الإنجليزية". 2 انظر في هذا الموضوع Dauzat, op, cit., 74,75 3 ليس هذا مقصورًا على اللغات العامية, بل يوجد له نظير في بعض اللغات العربية الفصحى، ففي لغة لأهل اليمن تبدل الهمزة واوًا في مثل "آتيته"، فيقال مثلًا "واتيته" على الأمر مواتاة، وهي المشهورة على ألسنة الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 4- وقد تتبادل الأصوات مواقعها في الكلمة ويحل بعضها محل بعض، فيتقدم المتأخر منها ويتأخر السابق, وتسمى هذه الظاهرة "بالنقل المكاني" "Metathese", كما حدث في Abeuvere؛ إذ تحولا إلى abreuver brebis، وكما حدث في الكلمة العربية "أرانب" إذ تحولت في عامية القاهرة وغيرها إلى "أنارب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 7- تناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض : وفيما عدا الحالات السابقة قد لوحظ أن الأصوات المتحدة النوع تتناوب ويحل بعضها محل بعض, وقد سجَّل الباحثون ظواهر كثيرة بهذا الصدد, بعضها خاص بأصوات اللين, وبعضها يتعلق بالأصوات الساكنة. 1- أما تناوب أصوات اللين فلم تكد تخلو منه لغة من اللغات الإنسانية؛ ففي اللغة العربية حدث تناوب واسع النطاق بين أصوات اللين القصيرة "التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة", ويمثل هذا التناوب انقلابًا من أهم الانقلابات التي اعتورت هذه اللغة, فقد كان من آثاره أن انحرفت أوزان الكلمات وانقلبت أشكالها رأسًا على عقب، حتى لا نكاد نجد في اللهجات العامية كلمة واحدة باقية على وزنها العربي القديم؛ فالفتحة قد استبدل به الضمة أحيانًا, والكسرة في كثير من الأحوال, فبدلًا من: يَعوم، يَسجد، يَسمع، عَثر، خَلص، سَكت, كبير، أ َلكتاب.. إلخ" يقال في عامية المصريين: يُعوم: يُسحد، يِسمع، عِتِر أو عُنُّر، خِلِص أو خُلُّص، سِكِت أو سُكُت، كِبير، اِلكتاب ... إلخ"، والكسرة قد استبدل بها الضمة أحيانًا والفتحة في كثير من الأحوال, فبدلًا من: يلِطم، يضرِب، يسرِق، عِند ... إلخ, يقال في عامية المصريين: يلُطم، يضرَب، يسرَأ، عَند ... إلخ"، والضمة قد استبدل بها الفتحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أحيانًا, والكسرة في معظم الحالات؛ فبدلًا من: مُحمد، ثُعبان، أُنثى، عُثَّة، يقتُل، يذُم، ظُفرَ ... إلخ، يقال في عامة المصريين: مَحمد، تِعبان، انتاية، عِنَّة، يئتِل، يزِم، ضِفر ... إلخ". وحدث كذلك تناسخ في أصوات اللين الطويلة نفسها، وخاصة في الألف اللينة؛ إذ أميلت في لغات بعض القبائل العربية القديمة، وتمال الآن في كثير من لهجات المغاربة وفي لهجات القبائل العربية النازخة إلى مصر من المغرب, وفي بعض اللهجات في بلاد الشرقية. وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الأوربية. فمن ذلك تحول أصوات اللين المركبة diphtongue إلى أصوات لين بسيطة في كثير من هذه اللغات؛ فاللغة الفرنسية مثلًا قد تحول في نطقها معظم أصوات اللين المركبة إلى أصوات لين بسيطة، وإن كانت لا تزال ترسم حسب حالتها القديمة "ai ei au eau eu etc", وعلى هذه الظاهرة يقع قسط كبير من التبعة في صعوبة الرسم الفرنسي وعدم مطابقته للنطق1, وما حدث في اللغة الفرنسية بهذ الصدد حدث مثله في سائر اللغات الأوربية, وخاصة الأسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية2. ومن ذلك أيضًا تحول صوتa إلى صوت في عدد كبير من مفردات اللغة اليونانية, وفي بعض مواطن في اللغتين السلتية والفرنسية, وقد لوحظ أن هذا التحول يتم بالتدريج، فينحرف صوت a إلى صوت آخر قريب منه، وهذا حتى يصل إلى i, ولوحظ كذلك أنه يقطع لهذه الغاية أحد طريقين: طريق قصير وهو a e e i وطريق طويل وهو a o o ou ui. ولم يحدث مطلقًا أن قطع في تطوره سبيلًا آخر غير هذين الطريقين أو تخطى مرحلة من المراحل المرسومة في كليهما، أو غير شيئًا في ترتيبها السابق بيانه.   1 V. Dauzat, op. cit., 64, 65 2 V. Dauzat, op. cit., 63, 64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 2- وأما تناسخ الأصوات الساكنة فقد حدث كذلك في جميع اللغات الإنسانية, فكثير من الأصوات الساكنة في اللغة العربية قد تناسخت في اللهجات العامية وحل بعضها محل بعض, فالسين قد تحولت إلى صاد في بعض المواطن ""ساخن" تحولت إلى "صاخن" في عامية الشرقية وغيرها"، والصاد إلى سين في كثير من الألفاظ في عامية القاهرة وغيرها, فبدلًا من يصدق، مصير ... إلخ، يقال: يسدق، مسير", والضاد إلى ظاء في عامية المغرب وخاصة برقة، وفي لهجة العراق، وفي لهجة نجد والقصيم, وفي لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر من الغرب1 "فبدلًا من: وضوء، يضيع، يضرب، يضم ... إلخ، يقال: وظوء، يظيع، يظرب، يظم ... إلخ"، والعين إلى نون في بعض الكلمات في لهجة العراقيين، فيقال مثلًا: "ينطي" بدلًا من "يعطي"2، واللام إلى ميم في بعض الكلمات في عامية القاهرة "امبارح" بدلًا من "البارحة"3، والميم إلى نون أحيانًا في عامية المصريين "فيقال: "فاطنة" بدلًا من "فاطمة"..وهلم جرا. وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حصل مثله في اللغات الهندية - الأوربية؛ فمن ذلك تحول صوت w في اللغة اللاتينية "وكان ينطق به كما ينطق به الآن في الإنجليزية, وكما ينطق بالواو في العربية" إلى صوت v. فقد أخذ الصوت الأول، منذ بدأ العصور الوسطى، يدنو شيئًا فشيئًا من الصوت الأخير, حتى استبدل به في كثير من الكلمات في معظم اللغات المنشعبة عن اللاتينية4.   1 نعني بها القبائل الحاضرة التي تسكن في مختلف محافظات مصر وخاصة الفيوم وبني سويف والمنيا والبحيرة والشرقية والقليوبية "الفوايد، الرماح، الحرابي، أولاد علي، خويلد، الضعفاء، سمالوس، إلخ". 2 تكاد تكون هذه الظاهرة مقصورة لديهم على العين المتبوعة بطاء، وهذه كذلك هي لهجة هذيل. 3 هذه كذلك لغة حمير، وقد جاء بها الحديث "ليس من امبر امصيام في امسفر" 4 V. Dauzat, op. cit., 65, 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ومن هذا القبيل كذلك ما حدث في صوت c المتبوع بصوت a في الكلمات اللاتينية, فقد تحول في اللغة الفرنسية في معظم مواطنه إلى canem caballum تحولًا في الفرنسية إلى chien cheval"1. ومن ذلك أيضًا ما حدث في اللغات الجرمانية من تناوب بين المجموعات الثلاثة الآتية من الأصوات: p, t,b" ‘"b, d, g" f, th, kh" فإن كل صوت من أصوات المجموعة الأولى قد تحول إلى ما يقابله في الترتيب من أصوات المجموعة الثانية، وأصوات المجموعة الثانية تحولت بهذا النظام إلى أصوات الثالثة، وأصوات الثالثة إلى أصوات الأولى, فبالموازنة بين الكلمات الجرمانية وأصولها في اللغات الهندية - الأوربية القديمة, ونظائرها في اللاتينية والإغريقية يظهر أن الأصوات الآتية المدونة في السطر الأول قد تحولت في اللغات الجرمانية إلى الأصوات المدونة تحتها في السطر الثاني: bdg p t k f "ph" th kh p t k f "ph" th kh "gh" b d g كما يظهر ذلك في الأمثلة الآتية: "sanscrit" "Latin" "Anglais" pitar pater father frater brother dentis touth genu knee pedis fout وقد حدث في بعض اللغات الجرمانية في العصور الوسطى تطور ثانٍ في الأصوات الجديدة التي نجمت عن التطور الأول، فتحولت هذه الأصوات نفسها إلى ما يقابلها في الجدول السابق, وحدث في اللغة الألمانية في العصور الحديثة تطور ثالث في الأصوات التي جاء بها   1 V. Delacroix, Langage et pensee, L44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 التطور الثاني وفقًا للخطة نفسها المرسومة آنفًا، وقد أدى ذلك إلى رجوع بعض هذه الأصوات إلى الأصل الذي كانت عليه قبل التطور الأول؛ فالتاء مثلًا t في كلمة frater, قد تحولت إلى ذاك th, فأصبحت bruther, ثم تحولت هذه الذال إلى دال d فأصبحت bruder، وهذه الدال قد تحولت في الألمانية الحديثة إلى تاء فأصبحت bruter، وبذلك عاد هذا الصوت بعد هذه التطورات الثلاثة إلى الأصل القديم الذي كان عليه قبل التطور الأول, وهذا هو ما اصطلح علماء اللغة من الألمان على تسميته "بالدورة الثلاثية"1.   1 V. Dauzat, op. cit., 66-69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الفصل السادس: الدلالة وتطورها أنواع التطور الدلالي ... الفصل السادس: الدلالة وتطورها: La Semantique ذكرنا في فاتحة الفصل السابق أن أهم ظواهر اللغة ترجع إلى ناحيتين رئيسيتين, وهما الظواهر المتعلقة بالصوت, والظواهر المتعلقة بالدلالة، وأن كلتا الناحيتين في تطور مطرد وتغير مستمر، وأنها في تطورها وتغيرها تتأثر بعوامل شتّى, وتخضع لطائفة كبيرة من القوانين, وقد فرغنا في الفصل السابق من دراسة الناحية الأولى، وهي المتعلقة بالصوت وتطوره، وسنقف هذا الفصل على دراسة الناحية الثانية وهي المتعلقة بالدلالة. 1- أنواع التطور الدلالي: ترجع أهم ظواهر التطور الدلالي إلى ثلاثة أنواع: أحدها: تطور يلحق القواعد المتصلة بوظائف الكلمات، وتركيب الجمل, وتكوين العبارة.. وما إلى ذلك؛ كقواعد الاشتقاق والصرف "المورفولوجيا", والتنظيم "السنتكس" ... وهلم جرا. وذلك كما حدث في اللغات العامية المنشعبة من اللغة العربية؛ إذ تجردت من علامات الإعراب1, وتغيرت فيها قواعد الاشتقاق2,واختلفت مناهج تركيب   1 يوقف في جميع هذه اللهجات بالسكون على جميع الكلمات المعربة بالحركات، وتلتزم حالة واحدة في الكلمات المعربة بالحروف "المثنى، جمع المذكر السالم، الأسماء الخمسة.. إلخ, فيقال مثلًا: أخوك مجتهد، ضربت أخوك، سلم على أخوك ... ". فوظيفة الكلمة في العبارة لا تفهم في لهجاتنا العامية إلّا من مجرد السياق أو من ترتيبها بالنسبة لبقية عناصر الجملة. 2 تغيرت وجوه التصريف العربية تغيرًا كبيرًا في اللغات العامية، حتى لا نكاد نعثر فيها على فعل باقٍ على حالته العربية الصحيحة من هذه الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 العبارات1. وثانيها: تطور يلحق الأساليب، كما حدث في لغات المحادثة العامية المنشعبة عن العربية؛ إذ اختلفت أساليبها اختلافًا كبيرًا عن الأساليب العربية الأولى، وكما حدث للغة الكتابة في عصرنا الحاضر؛ إذ تميزت أساليبها عن أساليب الكتابة القديمة تحت تأثير الترجمة والاحتكاك بالآداب الأجنبية ورقيّ التفكير وزيادة الحاجة إلى الدقة في التعبير عن حقائق العلوم والفلسفة والاجتماع ... وهلم جرا. وثالثها: تطور يلحق معنى الكلمة نفسه، كأن يخصص معناها العام، فلا تطلق إلّا على بعض ما كانت تطلق عليه من قبل، أو يعمم مدلولها الخاص؛ فتطلق على معنًى يشمل معناها الأصلي ومعاني أخرى تشترك معه في بعض الصفات، أو تخرج عن معناها القديمة فتطلق على معنًى آخر تربطه به علاقة ما، وتصبح حقيقة في هذا المعنى الجديد بعد أن كانت مجازًا فيه، أو تستعمل في معنى غريب كل الغرابة عن معناها الأول..وهلم جرا.   1 فمن ذلك مثلًا نعت المثنى بصيغة الجمع, وتأخر الإشارة في تركيب الجملة عن المشار إليه. وهلم جرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 2- خواص التطور الدلالي ومناهجه : للتطور الدلالي بمختلف أنواعه خواص كثيرة تشبه في جملتها خواص التطور الصوتي التي أشرنا إليها في الفصل السابق1 ومن أهم هذه الخواص ما يلي: 1- أنه يسير ببطء وتدرج, فتغير مدلول الكلمة مثلًا لا يتم بشكل فجائي سريع، بل يستغرق وقتًا طويلًا، ويحدث عادةً في صورة   1انظر صفحات 285-287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 تدريجية، فينتقل إلى معنًى آخر قريب منه، وهذا إلى ثالث متصل به ... وهكذا دواليك، حتى تصل الكلمة أحيانًا إلى معنًى بعيد كل البعد عن معناها الأول, فكلمة bureau مثلًا كانت تطلق في المبدأ على صنف خاص من الأقمشة "Etoffe de bure"، ثم أطلقت على غطاء مائدة المكتب لاتخاذه غالبًا من هذا الصنف، ثم أطلقت على مائدة المكتب نفسها، ثم أطلقت على مقر العمل والإدارة لملازمة المكتب لهما, فلا علاقة مطلقًا بين أول مدلول لهذه الكلمة وهو القماش الصوفي, وآخر مدلول لها وهو مقر العمل والإدارة، على حين أن العلاقة وثيقة بين كل معنًى من المعاني التي اجتازتها والمعنى السابق له1. 2- أنه يحدث من تلقاء نفسه بطريق آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية؛ فسقوط علامات الإعراب في اللهجات العربية الحاضرة، وتغير أوزان الأفعال2، وتأنيث بعض الكلمات المذكرة، وتذكير بعض الكلمات المؤنثة3، وجمع صفة المثنى4، وتأخر الإشارة عن المشار إليه5، وتزحزج كثير من المفردات عن مدلولاتها الأولى إلى معانٍ جديدة ... كل ذلك وما إليه قد حدث من تلقاء نفسه في صورة آلية لا دخل فيها للتواضع أو إرادة المتكلمين. 3- أنه جبري الظواهر؛ لأنه يخضع في سيرة لقوانين صارمة   1 هذه الخاصة صحيحة في تطور معاني الكلمات وتطور الأساليب, أما تطور القواعد فكثيرًا ما يحدث بدون تدرج. 2 فيقال مثلًا في عامية بعض المناطق المصرية: "كِبِر "بكسر الكاف والباء" يِكبَر "بكسر الباء وفتح الباء", بدلًا من "كبر يكبر" "من باب تعب" أو "كبر يكبر" "من باب شرف". ومثل هذا يقال في معظم الأفعال. 3 فيقال مثلًا في عامية بعض المناطق المصرية: رأس كبير وبطن كبيرة، بدلًا من رأس كبير وبطن كبير. 4 فيقال مثلًا في عامية المصريين: "كتابين كبار" بدلًا من "كتابان كبيران". 5 فيقال مثلًا في عامية المصريين "الكتاب ده" و"الكتابين دول" بدلًا من "هذا الكتاب" و"هذان الكتابان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 لا يد لأحد على وقفها أو تعويقها، أو تغيير ما تؤدي إليه. وإليك مثلًا حالة اللغة العربية؛ فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وتحريف، ومع أن هذه الجهود كانت تعتمد على دعامة من الدين، فإن ذلك كله لم يحل دون تطورها في القواعد والأساليب ودلالة المفردات إلى الصورة التي تتفق مع قوانين التطور اللغوي، فأصبحت على الحالة التي هي عليه الآن في اللهجات العامية. غير أن علماء اللغة لم يصلوا بعد إلى الكشف عن جميع القوانين التي يسير عليها التطور الدلالي، وما كشفوه منها لم يصل بعد في دقته وضبطه وعمومه إلى مستوى القوانين المتعلقة بالتطور الصوتي، كما أشرنا إلى ذلك وإلى أسبابه في مقدمة هذا الكتاب1. 4- إن الحالة التي تنتقل إليها الدلالة ترتبط غالبًا بالحالة التي انتقلت منها بإحدى العلاقتين اللتين يعتمد عليهما تداعي المعاني2، ونعني بهما علاقتي المجاورة والمشابهة3: فتارة يعتمد انتقال الدلالة على علاقة المجاورة المكانية؛ كتحول معنى "ظعينة" "معناها في الأصل المرأة في الهودج" إلى معنى الهودج نفسه, وإلى معنى البعير4، وتحول معنى ذقن في عامية المصريين إلى معنى اللحية5، وتحول bureau من غطاء المكتب إلى المكتب نفسه، وكتأنيث الرأس في عامية بعض المناطق المصرية "انتقل إليه التأنيث من الأعضاء المؤنثة المجاورة له وهي العين والأذن" ... وهلم جرا. وتارةً يعتمد على علاقة المجاورة الزمنية؛ كتحول معنى العقيقة "هي في الأصل الشعر   1 انظر صفحة 23. 2 من المقرر في علم النفس أن حضور معنًى يدعو إلى الذاكرة بعض المعاني المرتبطة معه بعلاقة المجاورة أو المشابهة. 3 هذا هو تفصيل ما يقصده علماء اللغة؛ إذ يقرون أن تطور الدلالة خاضع لقانون التماثل loi de Fanalogie 4 المزهر للسيوطي الجزء الأول 307. 5 الذقن في الأصل هو مجمع عظمى الحنك، ولا يخفى أن هذا الموضع مجاور للشعر الثابت في الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الذي يخرج على الولد من بطن أمه" إلى معنى الذبيحة التي تنحر عند حلق الشعر1 وتكذيب كلمة ete "فصل الصيف" التي كانت مؤنثة في الأصل لمجاورة مدلولها مجاورة زمنية لمدلول كلمة مذكرة وهي printimps فصل الربيع2, وتارة يعتمد على علاقة المشابهة؛ كتحول معنى "الأفن" "وهو في الأصل قلة لبن الناقة" إلى معنى قلة العقل والسفه، وتحول معنى "المجد" "وهو في الأصل امتلاء بطن الدابة من العلف" إلى معنى الامتلاء بالكرم .... وهلم جرا3. 5- أن التطور الدلالي في غالب أحواله مقيد بالزمان والمكان, فمعظم ظواهره يقتصر أثرها على بيئة معينة وعصر خاص, ولا نكاد نعثر على تطور دلالي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة ووقت واحد.. 6- أنه إذا حدث في بيئته ما ظهر أثره عند جميع الأفراد الذين تشملهم هذه البيئة, فسقوط علامات الإعراب في لغة المحادثة المصرية مثلًا لم يفلت من أثره أي فرد من المصريين. ومن هذه الخواص يتبين فساد كثير من النظريات القديمة بصدد هذا التطور.   1 المزهر للسيوطي ج1 ص307. 2 كانت الفصول في الفرنسية القديمة من حيث التذكير والتأنيث على النحو التالي: الربيع "مذكر"، الصيف "مؤنث"، الخريف "مذكر"، الشتاء، مذكر", ثم انتقل تأنيث الصيف إلى الخريف, وانتقل فيما بعد تأنيث الخريف إلى الشتاء، فأصبحت الفصول جميعًا مؤنثة ما عدا الربيع، ولكن تذكير الربيع لم يلبث أن انتقل فيما بعد إلى الصيف، وتذكير الصيف رد إلى الخريف والشتاء نوعهما المذكر القديم، فأصبحت جميع الفصول مذكرة في الفرنسية الحالية V. Dauzat, op. cit., l 56 3 قد يعتمد انتقال الدلالة من حالة إلى حالة على علاقة التضاد بين الحالتين "إطلاق الكلمة مثلًا على ضد مدلولها القديم", والتضاد في الواقع مظهر من مظاهر التشابه؛ إذ لا يوجد تضاد إلّا بين شيئين يشتركان في صفة ما, فلا يوجد بينما تضاد كالأحمر والطويل مثلًا. "انظر كلمة عن التضاد في اللغة العربية بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة صفحات 192-198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فليس بصحيح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذا التطور يحدث نتيجة لأعمال فردية اختيارية يقوم بها بعض الأفراد وتنتشر عن طريق المحاكاة1. وليس بصحيح ما ذهب إليه أعضاء المدرسة الإنجليزية وبعض الباحثين من الفرنسيين؛ كالعلامة بريال Breal؛ إذ يرون أن التطور الدلالي يسير باللغة نحو التهذيب والكمال, ويسد ما بها من نقص, ويخلصها مما لا تدعو إليه الحاجة2, وذلك أن اتجاهات كهذه لا يمكن أن تتحقق إلّا في تطور اختياري مقصود تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح, أما وقد ثبت أن التطور الذي نحن بصدده تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية، فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالسبل التي تقول بها هذه النظرية. وأن موازنة بين الحالة التي كانت عليه اللغة العربية فيما يتعلق بدلالة ألفاظها وقواعدها في الإعراب وغيره وما آلت إليه في اللغة العامية الحاضرة لأكبر دليل على ما نقول, فمن الواضح أن هذا التطور لم يتجه دائمًا نحو التهذيب والكمال، بل أدّى في معظم مظاهره إلى اللبس في دلالة الكلمات والخلط بين وظائفها وأنواعها، وجرَّدَ اللغة مما به من دقة وسمو، وهوى بها إلى منزلة وضيعة في التعبير, وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في كثير من اللغات, وإليك مثلًا قواعد اللغة اللاتينية التي انقرضت في اللغات المنشعبة عنها, فإن معظم هذه القواعد كبير الفائدة في بيان وظيفة الكلمات وتحديد مدلولاتها وتعيين العلاقات التي تربط عناصر العبارة بعضها ببعض، وقد أدى انقراض هذه القواعد في اللهجات المنشعبة عن اللاتينية إلى كثير من اللبس والاضطراب.   1 قال بهذا المذهب الفاسد جماعة من العلماء, على رأسهم سايس وسوبث وجيسبرسن ونارد Sayce Sweet Jespersen Tarde "انظر ص58". 2 انظر آخر ص56 وصفحتي 57، 58 وأول 59، وانظر كذلك Dauzat, op. cit., 99, l00 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حقًّا إن هذه المذاهب تصدق على بعض مظاهر التطور الدلالي الخاص بلغات الكتابة, فتطور لغات الكتابة يعتمد في كثير من نواحيه على عوامل أدبية مقصودة ترمي إلى تنقيح اللغة وتهذيبها والسير بها في سبيل الكمال، كما أشرنا إلى ذلك في الفقرة الرابعة من الفصل الرابع1.   1 انظر على الأخص صفحات 279-284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 3- عوامل التطور الدلالي : عرضنا في الفصول السابقة لطائفة كبيرة من عوامل التطور في القواعد والأساليب, وأشرنا في شيء من التفصيل إلى مختلف آثارها في كثير من اللغات الإنسانية1, ولكن لم يتح لنا فيما سبق أن نوفي البحث في عوامل النوع الثالث من أنواع التطور الدلالي، وهو التطور في معاني الكلمات، ولذلك سنقصر عليها دراستنا في هذ الفقرة. لهذا النوع من التطور عوامل كثيرة, من أهمها الطوائف الآتية: 1- عوامل تتعلق باستخدام الكلمات، فمدلول الكلمة يتغير تبعًا للحالات التي يكثر فيها استخدامها. فكثرة استخدام العام مثلًا في بعض ما يدل عليه يزيل مع تقادم العهد عموم معناه, ويقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله, ولدينا في اللغة العربية وحدها الآف من أمثلة هذا النوع؛ فمن ذلك جميع المفردات التي كانت عامة المدلول, ثم شاع استعمالها في الإسلام في معانٍ خاصةٍ تتعلق بالعقائد أو الشعائر أو النظم الدينية؛ كالصلاة والحج, والصوم, والمؤمن, والكافر, والمنافق, والركوع, والسجود ... وهلم جرا. فالصلاة مثلًا معناها في الأصل الدعاء2, ثم شاع استعمالها   1 انظر على الأخص صفحات 257-267، 279-284, 301-312. 2 وقد جاء على الأصل قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُم} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 في الإسلام في العبادة المعروفة لاشتمالها على مظهر من مظاهر الدعاء، حتى أصبحت لا تنصرف عند إطلاقها إلى غير هذا المعنى، والحج معناه في الأصل: قصد الشيء والاتجاه إليه، ثم شاع استعماله في قصد البيت الحرام، حتى أصبح مدلوله الحقيقي مقصورًا على هذه الشعيرة, وقس على ذلك جميع أفراد هذ الطائفة, ومن ذلك أيضًا كلمة "الرث" فقد كانت تطلق على الخسيس من كل شيء, ثم قصر مدلولها على الخسيس مما يفرش أو يلبس لكثرة استخدامها في هاتين الطائفتين، وكلمة "المدام" فهي في الأصل كل ما سكن ودام، ثم شاع استعمالها في الخمر لدوامها في الدن، أو لأنه يغلى عليها حتى تسكن، فأصبحت لا تنصرف إلى غير هذا المعنى. وكثرة استخدام الخاص في معانٍ عامة عن طريق التوسع, تزيل مع تقادم العهد خصوص معناه وتكسبه العموم, فمن ذلك مثلًا في اللغة العربية: البأس والورد والرائد والنجعة والحوة ... وهلم جرا: فالبأس في الأصل الحرب, ثم كثر استخدامه في كل شدة، فاكتسب من هذا الاستخدام عموم معناه، وأصل الورد إتيان الماء وحده, ثم صار إتيان كل شيء وردًا، لكثرة استخدامه في هذا المعنى العام، والرائد في الأصل طالب الكلأ, ثم صار طالب كل حاجة رائدًا، والنجعة في الأصل طلب الغيث, ثم عممت في الاستخدام فأصبح كل طلب انتجاعًا، والحوة في الأصل شية من شيات الخيل، وهي بين الدهمة والكمتة، ثم توسّع في استعمالها حتى صار كل أسود أحوى، فيقال ليل أحوى، وشعر أحوى. ومن ذلك في اللغة الفرنسية كلمة salaire؛ فقد كان معناها في الأصل -كما تدل على ذلك بنيتها: ما يصرف للجندي من نقود في نظير ما يحتاج إليه من ملح الطعام، ثم شاع استعمالها في كل أجرة حتى نسي معناها الأصلي، وكلمة arriver: فقد كانت تدل في الأصل -كما تشير إلى ذلك بنيتها- على الوصول إلى الشاطي، ثم شاع استعمالها في كل وصول، فاستقر معناها على هذا الوضع العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وكثرة استخدام الكلمة في معنًى مجازيّ تؤدي غالبًا إلى انقراض معناه الحقيقيّ, وحلول هذا المعنى المجازي محله؛ فمن ذلك مثلًا في اللغة العربية كلمات: المجد والأفن والوغى والغفران والعقيقة.. وهلم جرا؛ فالمجد معناها في الأصل: امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازًا في الامتلاء بالكرم, حتى انقرض معناه الأصلي, وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي, ولهذا السبب نفسه انتقل معنى "الأفن" من قلة لبن الناقة إلى نقص العقل، وانتقل معنى "الوغى" من اختلاط الأصوات في الحرب إلى الحرب نفسها، ومعنى "الغفر" والغفران من الستر إلى الصفح عن الذنوب، ومعنى "العقيقة" من الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه إلى ما ذبح عنه عند حلق ذلك الشعر. وكثرة استخدام الكلمة في العبارات المنفية ينزع عنها معناها الأصلي ويكسبها معنى العموم والإطلاق، فتصبح أشبه شيء بأداة من أدوات النفي, فمن ذلك في العربية كلمات: أحد وديار وقط وأبدًا, وما إليها، وفي الفرنسية كلمات. Pas, rien, Personne, etc واستخدام الكلمة في فن بمعنًى خاصٍّ يجردها في هذا الفن من معناها اللغوي, ويقصرها على مدلولها الاصطلاحي. ويدخل في هذا مصطلحات الآداب والفلسفة والقانون والاجتماع والعلوم والفنون ... وما إلى ذلك.. ومن ثَمَّ نرى أن الكلمة الواحدة تستعمل في الشعر بمعنى، وفي الرسائل بمعنى آخر، وفي السياسة بمعنى ثالث، وفي القانون بمعنى رابع، وفي الفنون الحربية بمعنى خامس، وفي الطبيعة بمعنى سادس، وفي الطب بمعنى سابع ... وهلم جرا. وقد عرضنا لهذا الموضوع بشيء من التفصيل في الفصل الأول من الباب الثاني من هذا الكتاب1. 2- عوامل تتعلق بمبلغ وضوح الكلمة في الذهن, فكلما كان مدلول الكلمة واضحًا في الأذهان قلَّ تعرضه للتغير، وكلما كان مبهمًا   1 انظر على الأخص صفحات 186-188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 غامضًا مرنًا كثر تقلبه وضعفت مقاومته لعوامل الانحراف, ويساعد على وضوح مدلول الكلمة عوامل كثيرة؛ من أهمها أن تكون مرتبطة بفصيلة من الكلمات معروفة الأصل, ويعمل على إبهامها عوامل كثيرة من أهمها أن لا تكون لها أسرة معروفة الأصل متداولة الاستعمال. 3- عوامل تتعلق بأصوات الكلمة؛ فثبات أصوات الكلمة يساعد على ثبات معناها، وتغيرها يذلل أحيانًا السبيل إلى تغيره, وذلك أن في الذهن ما دامت محتفظة بصورتها الصوتية، وقوة هذه الصلة تساعد على ثبات مدلولها، على حين أن تغير صورتها الصوتية يضعف صلتها في الأذهان بأصلها وأسرتها ويبعدها عنهما، وهذا يجعل معناها عرضة للتغير والانحراف, فالوصف اللاتيني vivus مثلًا ظل محتفظًا بمعناه, وذلك لقوة ارتباطه عن طريق هذه البنية بأفراد أسرته vivere, veta etc, ولكنه لم يلبث بعد أن تغيرت صورته الصوتية الفرنسية إلى Vif أن أخذ يتعرف شيئًا فشيئًا، عن مدلوله القديم حتى بعد عنه وأصبح يدل الآن على الوصف بالقوة والحدة والنشاط, وذلك لأن تغير صورته الصوتية باعد ما بينه وبين أفراد أسرته "vivre, vivant etc" فعرض مدلوله لهذا الانحراف. ومن هذا القبيل كذلك كلمة Sage, فإن انحراف صورتها الصوتية إلى هذا الوضع قد عزلها عن أفرد فصيلتها "savoir, savant" وعرض مدلولها للتغير، فانحرف من معنى العالم إلى معنى الهادئ المطيع. 4- عوامل تتعلق بالقواعد, فقد تذلل قواعد اللغة نفسها السبيل إلى تغير مدلول الكلمة، وتساعد على توجيهه وجهة خاصة, فتذكير كلمة "ولد" مثلًا في العربية "ولد صغير" قد جعل معناها يرتبط في الذهن بالمذكر، ولذلك أخذ مدلولها يدنو شيئًا فشيئًا من هذا النوع, حتى أصبحت لا تطلق في كثير من اللهجات العامية إلّا على الولد من الذكور, وكذلك كلمة homo في اللاتينية, فقد كانت تطلق في الأصل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الإنسان رجلًا كان أم امرأة، ولكن تذكيرها ربط مدلولها في الذهن بنوع الذكور، فأخذ يدنو شيئًا فشيئًا من هذا النوع حتى أصبحت في كثير من اللغات المنشعبة عن اللاتينية لا تطلق إلّا على الرجال. 5- عوامل تتعلق بانتقال اللغة من السلف إلى الخلف, فكثيرًا ما ينجم عن هذا الانتقال تغير في معاني المفردات, وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام المفردات في غير ما وضعت له على طريق التوسع أو المجاز, فقد يكثر استخدام الكلمة مثلًا في جيلٍ ما في بعض ما تدل عليه، أو في معنًى مجازيٍّ تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار، ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد. وإليك مثلًا كلمة saoul الفرنسية، فقد كان معناها في الأصل "الشبعان" من الطعام، ثم كثر استخدامها في عصر ما في النشوان من الخمر عن طريق المجاز والتهكم, وللتحرج من استخدام الكلمة الصريحة في هذا الجيل، وتحول إليه مدلول هذه الكلمة, فأصبحت صريحة فيه1، وانقرض معناها القديم. وإلى هذا العامل يرجع أهم الأسباب في تحول الكلمات إلى معانٍ كانت مجازية في الأصل، وفيما يعتري المدلولات في نطاقها من سعة أو ضيق, بل إن طائفة من العلماء على رأسها العلامة هرزوج Herzog قد رجعت إلى هذا العامل وحده كل ما يحدث من تطور في الدلالة2. 6- وكثيرًا ما يتغير مدلول الكلمة على أثر انتقالها من لغة إلى   1 لا تقل الآن كلمة Saoul عن كلمة lvre في صراحتها في التعبير عن النشوان، إن لم تزد عنها في ذلك. 2 V. Meillet, dans "Lُ Annee Sociologique" T. 9, pp. 6 7 et Herzog: der Roman schen phlologei الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 لغة؛ فقد يخصص مدلولها العام, وتقصر على بعض ما كانت عليه في لغتها الأصلية، وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقةٍ ما بين المعنيين، وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال؛ فتصبح من فحش الكلام وهجره، وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبي القول ومصطفاه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وإلى أسبابه وأمثلته في الفصول السابقة1. 7- وقد يكون العامل في تغير معنى الكلمة أن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به.. وما إلى ذلك, فكلمة "الريشة" مثلًا "Plume" كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور، ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعًا لتغير المادة المتخذة منها آلة الكتابة, فأصبحت تطلق على قطعة من المعدن مشكلة في صورة خاصة, والقطار كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعًا لتطور وسائل المواصلات، فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها قاطرة بخارية, و"البريد" كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعًا لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر, و"بنى الرجل بامرأته" كانت تستخدم كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديدًا، ولا تزال تستخدم هذه العبارة كناية عن المعنى نفسه, مع أن الزفاف لا علاقة له في نظمنا الحاضرة بالبناء, وقد جرت العادة في بعض العصور بفرنسا أن يقضي المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة مدة عقوبتهم في أعمال التجديف على ظهر السفن الملكية، ومن ثَمَّ جاءت عبارة envoyer aux galeres وجاءت وصف galerien، ولكن تغير الآن مدلولها تبعًا لتغير النظم المتصلة بهذه العقوبة ونوعها.   1 انظر صفحات 235، 236، 253، 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 8- عوامل تتعلق باختلاف الطبقات والجماعات, فكثيرًا ما ينجم عن اختلاف الناس في طبقاتهم وفئاتهم اختلاف مدلول الكلمات وخروجها عن معانيها الأولى, ويؤدي إلى ذلك ما يوجد بين الجماعات الناطقة باللغة الواحدة من فروق في الخواص الشعبية والجسمية والنفسية, وفي شئون السياسة والاجتماع والثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان ومستوى المعيشة وحياة الأسرة والتقاليد والعادات، وفي الظروف الطبيعية والجغرافية المحيطة بكل جماعة منها، وما تزواله كل طبقة من أعمال, وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته, وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم, وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له, أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم.. وهلم جرا. فمن الواضح أن هذه الأمور وما إليها من شأنها أن تخرج بالكلمات عن مدلولاتها الأولى, وتوجه معانيها في كل طبقة وفي كل جماعة وجهةً تختلف عن وجهتها عند غيرها, كما تقدم شرح ذلك بتفصيل في الفصل الأول من الباب الثاني من هذا الكتاب1. ويدخل في موضوع التطور الدلالي نشأة كلمات لم تكن موجودة في اللغة من قبل, وهجر كلمات مستخدمة فيها, أو انقراضها انقراضًا تامًّا. أما نشأة كلمات في اللغة فتدعو إليها في الغالب مقتضيات الحاجة إلى تسمية مستحدث جديد مادي أو معنوي "مخترع جديد، نظام حديث في الشئون الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها، نظرية جديدة علمية أو فلسفية ... وهلم جرا". ويتم ذلك بإحدى الوسائل الآتية: 1- إنشاء الكلمة إنشاءً على الوجه الذي بيناه بتفصيل في آخر   1 انظر على الأخص صفحات 175، 188-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الفصل الرابع من الباب الثاني بصدد موضوع التجديد في اللغة1, وهذه الوسيلة لا تكاد تستخدم إلّا في لغات الكتابة, وخاصةً في إنشاء المصطلحات العلمية وما شاكلها2. 2- انتقال الكلمة من اللغة أو اللهجة إلى لغة أو لهجة أخرى, على الوجه الذي شرحناه في الفصول الأول والثالث والرابع من الباب الثاني3. 3- إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات المهجورة في اللغة, على الوجه الذي شرحناه في أواخر الفصل الرابع من الباب الثاني4. 4- تفرع الكلمة في صورة تلقائية أو مقصودة من الكلمات المستخدمة في اللغة, ويتم ذلك عن طريق الاشتقاق بأوسع معانيه، أو تكوين كلمة من كلمتين أو أكثر، أو تسمية شيء جديد باسم مكانه أو مخترعه، أو نحت أفعال من بعض الأسماء الجامدة أو أسماء الأعلام لعلاقة ما .... وهلم جرا 5. وأما انقراض الكلمة من الاستعمال فترجع أسبابه إلى عوامل كثيرة من أهمها ما يلي: 1- انقراض مدلول الكلمة نفسه أو عدم استخدامه, ويصدق   1 انظر صفحات 281-283. 2 تستخدم أحيانًا هذه الوسيلة كذلك في اللهجات الاجتماعية, كما سبقت الإشارة إلى ذلك في صفحات 192، 193. 3 انظر في الفصل الأول صفحات 180-184، وفي الفصل الثالث 235-239, وفي الفصل الرابع صفحات 252-256. 4 انظر ص281. 5 من أمثلة نحت الأفعال من أسماء الأعلام كلمة: تبغدد فلان, إذا صار مترفًا, فإنها من بغداد, ومن أمثلة ذلك في اللغات الأوربية كلمة to boycott, وأصل ذلك أن مزارعًا أيرلنديًّا يسمى Boycot كان غير مرضي عنه في أثناء حركة من الحركات الشعبية الوطنية، فوضع من جميع جيرانه وزملائه، وأخذ من اسمه فعل to boycott المستخدم الآن في المقاطعة السياسية والاقتصادية وما إليها، وقد انتقل هذا الفعل من الإنجليزية إلى معظم اللغات الأوربية "الفرنسية boycotter والألمانية boycotten.. إلخ" V. Meillet, op cit., p. 29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 هذا على الملابس والأثاث وعدد الحرب ووسائل النقل وآلات الصناعة والمقاييس والنقود ومظاهر النشاط والنظم الاجتماعية التي انقرضت أو بطل استخدامها, فانقرضت معها المفردات الدالة عليها, فمن ذلك في الفرنسية1 Veste, casaquin, cabas, carosse, soupentes, briquet, pacotille corvette, fregate, brulot, boulet, arpent, ecu, liard, toise, etc وقد انقرض كذلك في اللغة العربية كثير من الكلمات الدالة على نظم جاهلية قضى عليها الإسلام, كالمرباع والصرورة والنوافج ... وهلم جرا2؛ ومن اللهجات العامية المصرية بعض أسماء النقود القديمة كالبارة والخردة والفضة.. إلخ. 2- انعزال الكلمة وعدم ارتباطها بفصيلة من الكلمات معروفة الأصل متداولة الاستعمال, فانعزال الكلمة، أي: عدم اتصالها بأسرة معروفة، لا يقف أثره عند تعريض مدلولها للانحراف عن وضعه الأصلي على الوجه الذي سبق شرحه3، بل كثيرًا ما يعرضها هي نفسها للفناء, فما أشبه الكلمات بأفراد الحيوانات الاجتماعية: يظل الواحد منه قويًّا منيع الجانب ما اندمج في أفراد قطيعه, وقوي تضمنه معه، ويتعرض للأذى، والهلاك كلما انعزل عنه, أو وهنت العلاقات التي تربطه به, ولهذا السبب كادت تنقرض من لغة التخاطب الفرنسية: besicles, binocle, missive, visage, miroir, Lunettes, lorgnon, lettre figure, glace 3- ثقل الكلمة على اللسان أو عدم تلاؤم أصواتها مع الحالة التي انتهى إليها تطور أعضاء النطق, فإن هذا العامل لا يقف أثره عند تعريض أصواتها للانحراف عن مخارجها الأولى على الوجه الذي سبق   1 Y. Dauzat, op. cit., 2l8 et suiv 2 المرباع ربع الغنيمة, كان رئيس القوم يأخذه لنفسه في الجاهلية, والصرورة هو الذي يدع النكاح نبتلا أو الذي يحدث حدثًا ويلجأ إلى الحرم, والنوافج الإبل تساق في الصداق. 3 انظر آخر ص 321 وصفحة 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 شرحه1، بل قد يعرضها هي نفسها للانقراض, وإلى هذا يرجع السبب في انقراض كثير من الكلمات العربية من لغات التخاطب العامية في العصر الحاضر. هذا، وكثير من الكلمات التي تنقرض من لغات المحادثة تأوى إلى ركن شديد في ميادين الشعر أو الأمثال أو الآداب أو الفنون، فتتوطد لها فيه أسباب المنعة والبقاء.   1 انظر صفحة 289 وتوابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أهم المراجع أولا: المراجع العربية ... أهم المراجع: أولًا: أهم المراجع العربية: 1- ابن السكيت "يعقوب الجمحي" كتاب الألفاظ. 2- ابن جني "أبو الفتح عثمان" الخصائص. 3- ابن خلدون "عبد الرحمن بن محمد" المقدمة, تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي. 4- ابن خلكان "أحمد بن محمد بن إبراهيم" وفيات الأعيان. 5- ابن دريد "محمد بن الحسن" جمهرة الكلام. 6- ابن رشيق "أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني" العمدة في صناعة الشعر ونقده. 7- ابن سلام "أبو عبد الله محمد بن سلام" طبقات الشعراء. 8- ابن سيدة "علي بن إسماعيل" المخصص. 9- ابن سينا "الرئيس أبو علي الحسين" أسباب حدوث الحروف, مطبوع بمصر. 10- ابن عبد ربه "أحمد بن محمد" العقد الفريد. 11- ابن فارس "أبو الحسن أحمد" الصاحبي في فقه اللغة, وسنن العرب في كلامها. 12- ابن قيبة أدب الكاتب. 13- ابن منظور "جمال الدين بن مكرم" لسان العرب. 14- أبو البقاء "الحسيني الكفوي" الكليات. 15- أحمد تيمور باشا معجم العامية "مخطوط بالخزانة التيمورية", وقد نشر بعض نماذج منه بمجلة المجمع العلمي بدمشق، في المجلد السادس. 16- أحمد تيمور باشا "الأمثال العامية", طبع سنة 1949. 17- أحمد تيمور باشا "الكنايات العامية", طبع سنة 1949 18- أحمد عيسى "الدكتور" التهذيب في أصول التعريب" 19- الأزهري "محمد بن أحمد بن الأزهري" تهذيب اللغة, منه نسخة بدار الكتب المصرية. 20- الإسكافي "محمد بن عبد الله" مبادئ اللغة. 21- الأصفهاني "أبو الفرج علي بن الحسين" كتاب الأغاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 22- الأصمعي "عبد الملك بن قريب" غريب الحديث "انظر كذلك رسائله في طوائف خاصة من الألفاظ والمعاني بصفحة 280 من الطبعة السابعة من كتابنا "فقه اللغة". 23- الأنباري "أبو بكر محمد بن القاسم" كتاب الأضداد. 24- البستاني "بطرس" محيط المحيط. 25- البستاني "بطرس" قطر المحيط. 26- البستاني "بطرس" دائرة المعارف. 27- البستاني "عبد الله" البستان. 28- البغدادي "عبد القادر" خزانة الأدب. 29- التبريزي "يحيى بي علي" تهذيب كتاب الألفاظ لابن السكيت "المذكور برقم1". 30- التهانوي "محمد علي بن علي" كشاف اصطلاحات الفنون. 31- الثعالبي "أبو منصور عبد الله بن محمد" فقه اللغة. 32- الجاحظ "أبو عثمان عمر بن بحر" البيان والتبيين. 33- الجرجاني "علي بن محمد" التعريفات. 34- الجزائري "الشيخ طاهر" التقريب إلى أصول التعريب. 35 الجوالقي "أبو منصور موهوب بن أحمد" المعرب من الكلام الأعجمي طبعته، أخيرًا "دار الكتب المصرية" في مجلد يقع في 456 صفحة من القطع الكبير مع بعض شروح وتعليقات للأستاذ أحمد محمد شاكر. 36- الجوهري "إسماعيل بن حماد" الصحاح "تاج اللغة وصحاح العربية". 37- الخفاجي "شهاب الدين أحمد بن محمد شفاء العليل فيما ورد في كلام العرب من الدخيل. 38- الخليل بن أحمد, العين. 39- الدسوقي, تهذيب الألفاظ العامية. 40- الرازي "محمد بن أبي بكن بن عبد القادر", مختار الصحاح. 41- الزمخشري "أبو القاسم محمود", أساس البلاغة. 42- السيوطي "جلال الدين عبد الرحمن", المزهر في علوم اللغة وأنواعها. 43- الشدياق "أحمد فارس", سر الليال في القلب والإبدال. 44 الشرتوني "سعيد", أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد. 45 العسكري "أبو هلال", المعجم في بقية الأشياء. 46 العسكري كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 47- الفيروزابادي "محمد بن يعقوب", الروض المألوف فيما له اسمان إلى ألوف. 48- الفيروزابادي, القاموس المحيط. 49- الفيومي "أحمد بن محمد بن علي المقري", المصباح المنير. 50- القالي "أبو علي", الآمالي وذيل الأمالي والنوادر. 51- الكرملي "أنستاس", مجلة لغة العرب. 52- المبرد "أبو العباس محمد بن يزيد", كتاب الكامل في اللغة والأدب. 53- الهمذاني "عبد الرحمن بن عيسى", الألفاظ الكتابية. 54- اليازجي "إبراهيم", نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد. 55- جرجي زيدان, الفلسفة اللغوية. 56- جرجي زيدان, تاريخ اللغة العربية. 57- جرجي زيدان, تاريخ آداب اللغة العربية. 58- جرجي زيدان, اللغة العربية كائن حي. 59- طه حسين الأدب الجاهلي 60- على العناني, ومحمد عطية الإبراشي, وليون محرز, كتاب الأساس في الأمم السامية ولغاتها وقواعد اللغة العبرية وآدابها. 61- على العناني, ومحمد عطية الإبراشي, وليون محرز, كتاب المفصل في قواعد اللغة السريانية وآدابها والموازنة بين اللغات السامية. 62- علي عبد الواحد وافي, اللغة والمجتمع. 63- علي عبد الواحد وافي, فقه اللغة. 64- علي عبد الواحد وافي, نشأة اللغة عند الإنسان والطفل. 65- علي عبد الواحد وافي, عوامل التربية. 66- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. 67- مجلة مجمع اللغة العربية. 68- محب الدين الخطيب, اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب. 69- مرمرجي الدومنكي "الأب" هل العرب منطقية أبحاث ثنائية السنية. 70- معلوف "الأب لويس", المنجد "معجم لغوي". 71- ولفنس "الدكتور إسرائيل", تاريخ اللغات السامية. 72- ياقوت معجم الآدباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ثانيا: أهم المراجع الأفرنجية 1 — Baldwin: Le Developpement mental chez l'enfant et dans la race (trad, fr.) . 2 — Bally: Le Langage et la Vie. 3 — Bally: Precis de Stylistique, 4 — Berry: An Experimental study of Imitation. 5 — Bloch: Les Premiers stades du Langage de l'enfant «J. de Psych. 1921» . 6 — Boas: Handbook of American Indian Languages, 2 vols, Washington. 7 — Brandenburg: Language development, 8 — Breal: Essai de Semantique. 9 — Breal: Melange de Mythologie et de Linguistique. 10 — Brockelmann: Precis de Linguistique (trad. fr.) . 11 — Claparede: Psychologie de 1'Enfan* ... etc. 12 — Clodd: Story of the Alphabet (New York) . 13 — Crammont: Melanges Meillet. 14 — Darmesteter: La Vie des Mots. 15 — Darmesteter: L'Expression des Emotions (trad. fr.) . 16 — Darwin: L'Origine des Especes (trad. fr.) . 17 — Dauzat: La Philosophic du Langage. 18 — Dauzat: Les Patois. 19 — Dauzat: La vie du Langage. 20 — Dauzat: Etudes Linguistiques sur la Basse-Auvergne. 21 — Delacroix: Le Langage et la Pensee. 22 — Dumas et collaborateurs: Traite de Psychologie. 23 — Durkheim: Les Regies de la Methode Sociologique. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 24 — Durkheim: Les Formes elementaires de la Vie Reli- gieuse. 25 — Durkheim: La Prohibition de l'lnceste, dans «L'Annee Sociologique* T. 1. 26 — Gennep (Van) : Essai d'une theorie des Langues Spe- ciales (dans «Revue des Etudes Ethnographiques et So-ciologiques» ) . 27 — Gillieron et Roques: Etude de Geographic Linguistique. 28 — Ginneken: Principes de Linguistique psychologyque. 29 — Gramont: La Dissimilation. 30 — Gregoire: Petit Traite de Linguistique. 31 — Guillaum: Limitation chez I'Enfant. 32 — Hermann (Paul) : Etudes sur les Changements Phone- tiques. 33 — Hovelacque: La Linguistique. 34 — Jespersen: Language: its nature, development and ori- gin. 35 — Jesperen: The Progress of Language. 36 — Kohler: L'Intelligence des Singes Superieurs (trad. fr.) . 37 — Larousse du XXe Siecie. 38 — Leroy: Le Langage. 39 — Levy Bruhl: Les Fonctions mentales dans les Societ&s; Primitives. 40 — Malinowski: Primitive Language. 41 — Mallery: Sign Language among the North American Indians. 42 — Marichelle ; L'Enseignement de la Parole aux sourd- muets. 43 — Meillet: Comment les Mots changent de Sens (dans «L'Annee Sociologique* T. IX, pp. 3-33) . 44 — Meillet: Les Dialectes Indo-Europeennes. 45 — Meillet: Introduction a I'Etude Comparative des Lan- gues Indo-Europecnnes, 46 — Meillet: Les Langues dans l'Europe Nouvelle. 47 — Meillet: Linguistique Historique et Linguistique ge'ne rale. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 48 — Meillei tt Cohen (groupe de linguistes sous la direction de Meillet et Cohen) : Les Langues du Monde. 49 — Muller (M jc) : The Science of Language, 50 — Muller (Max) . New Lectures on the Science of Lan-guage. 51 — Paulhan: La Double Fonction du Langage. 52 — Pawlowitch: Lie Langage enfantin. 53 — Piaget: Le Langage et la Pensee chez 1'Enfant. 54 — Renan: Histoire generale des Langues Semitiques. 55 — Renan: L'Origine du Langage. 56 — Roudet: Elements de Phonetique generale. 58 — Rousselot: Introduction a l'Etude des Patois. 59 — Rousselot: Les Modifications Phonetiques du Langage. 60 — Rousselot: Principe de Phonetique experimentale. dl — Roustan: Psychologic 62 — Sapir (E) : Langage (New York) . 63 — Saussure (De) : Cours de Linguistique Generale. 64 — Sayce: Introduction to the Science of Language (2 vols) . 65 — Sayce: Principles of Comparative Philology. 66 — Sechehaye: Programme et Methode de la Linguistique theorique. 67 — Sweet: History of English Sounds. 68 — Sweet: The Practical Study of Language. 69 — Taine: Observation sur l'Acquisition du Langage par les Enfante (Revue Phil. 1876) . 70 — Tarde: Lois de l'lmitation. 71 — Tomas (Antoine) : Essai de philologie Franchise. 72 — Tomas (Antoine) : Melange d'Etyxnologie Franchise. 73 — Tylor: Early History of Mankind. 74 — Tylor: Origin of Civilisation. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 75 — Vannier: I/Esprit et les Moeura d.htm'une nation d'aprds sa Langue. 76 — Vendryes: Le Langage. 77 — Vendryes: Reflexion sur les lois phonetiques. 78 — Whitney: Language and the Study of Language. 79 — Wright: Lectures on the comparative grammar of the Semitic Languages. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الفهرس : الموضوع الصفحة مقدمة الطبعة الأولى 4 تمهيد في التعريف بعلم اللغة 6 1- البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة 6 2- أغراض علم اللغة 16 3- قوانين العلوم 17 4- قوانين علم اللغة 20 5- قوانين "الفونيتيك" وقوانين "السيمنتيك" 23 6- الشعبة التي ينتمي إليها علم اللغة 24 7- الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العملية 29 8- علاقات علم اللغة بما عداه من البحوث 30 9- مناهج البحث في علم اللغة 33 10- تاريخ البحوث اللغوية 52 11- موضوعات هذا الكتاب 79 الباب الأول: نشأة اللغة 80 الفصل الأول: نشأة اللغة عند الإنسان 81 1- أنواع التعبير الإنساني 81 2- اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها 87 3- نشأة الكلام 96 4- نشأة مراكز اللغة 106 5 المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الموضوع الصفحة الفصل الثاني: نشأة اللغة عند الطفل 119 1- أنواع الأصوات في الطفولة, وأساس كل منها 119 2- أنواع التعبير في الطفولة 127 3- المراحل التي يجتازها الطفل في أصواته وتعبيراته 128 4- عوامل كسب الطفل للغة 151 5- أثر النظر في التقليد اللغوي 154 6- أساس التقليد عند الطفل 160 7- مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة اللغة الإنسانية وتطورها 164 الباب الثاني: حياة اللغة 168 الفصل الأول: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات 169 1- انتشار اللغة وأسبابه 169 2- تفرع اللغة نتيجة لازمة لانتشارها 172 3- اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض 179 4- نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة 184 5- اختلاف مناحي الفصحى باختلاف فنون القول 186 6- اللهجات الاجتماعية 188 7- اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء 193 الفصل الثاني: فصائل اللغات 195 1- أشهر الآراء في فصائل اللغات 195 2- الفصيلة الهندية - الأوروبية 197 3- الفصيلة الحامية - السامية 201 4- الفصائل الأخرى 206 5- بعض ما تختلف فيه السامية عن الهندية - الأوروبية 217 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الموضوع الصفحة الفصل الثالث: صراع اللغات 229 1- نظرة عامة في عوامله وآثاره في حياة اللغة 229 2- العامل الأول من عوامل الصراع اللغوي: نزوح عناصر أجنبية إلى البلد 230 3- العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي: تجاور شعبين مختلفي اللغة 240 4- عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي 247 الفصل الرابع: التطور اللغوي العام 249 1- انتقال اللغة من السلف إلى الخلف 250 2- تأثر اللغة باللغات الأخرى 252 3- أثر العوامل الاجتماعية والنفسية والجغرافية 257 4- العوامل الأدبية المقصودة: الرسم، التجديد في اللغة، البحوث اللغوية، حركة التأليف والترجمة، وسائل تعليم اللغة 268 الفصل الخامس: أصوات اللغة، حياتها وتطورها 285 1- خواص التطور الصوتي وعوامله 285 2- التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق 289 3- اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب 293 4- الأخطاء السمعية 296 5- تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض 298 6- موقع الصوت في الكلمة 301 7- تناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض 308 الفصل السادس: الدلالة وتطورها 313 1- أنواع التطور الدلالي 313 2- خواص التطور الدلالي ومناهجه 314 3- عوامل التطور الدلالي 319 أهم المراجع 329 أولًا: أهم المراجع العربية 329 ثانيًا: أهم المراجع الإفرنجية 332 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 تعقيب : تعقيب على المدون في هامش رقم 2 ص205 بصدد سكان العالم: نشر في عدد 1/ 9/ 83 من جريدة الأهرام ما يلي: "أعلن مكتب الإحصاء الأمريكي أن عدد سكان العالم زاد نحو 82 مليون شخص خلال العام الماضي -يقصد عام 1982- وبذلك يصيبر عدد سكان العلم 4,7 مليار نسمة, بزيادة قدرها مليار نسمة خلال السنوات العشر الماضية.. وأوضح الإحصاء الأمريكي أن 52% من سكان العالم يتمركزون في خمس دول، هي: الصين والهند والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وأندونسيا على التوالي, وأن أكبر خمس دول ساهمت في الزيادة السكانية في العام الماضي هي الهند 15,5 مليون نسمة, والصين 15 مليون نسمة, وأندونيسيا 3,3 مليون نسمة, والبرازيل 3 ملايين نسمة, وبنجلاديش 2،9 مليون نسمة. وانخفض العدد الحقيقي للسكان في خمس دول أوروبية هي: ألمانيا الشرقية والمجر، والدنمارك, ومالطة, وألمانيا الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340